شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الصلاة - باب الأذان [1]
الأذان من شعائر الإسلام العظام، فقد تضمن إعلان أصول الإسلام، ففيه تكبير الله وتعظيمه، والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وفيه الدعوة إلى عمود الإسلام وهو الصلاة، والترغيب فيها، وهذه الشعيرة العظيمة لها أحكام وآداب ينبغي العلم بها.


مشروعية الأذان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (طاف بي وأنا نائم رجل فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، فذكر الأذان -بتربيع التكبير من غير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة- قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق ... ) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة] .
لاحظوا ترتيب المصنف في التبويب، فإنه بعدما أنهى أحاديث توقيت الصلوات الخمس، جاء بباب الأذان، فكأنه يقول: إذا دخل الوقت جاء الأذان، وإذا أذن جاءت الإقامة، وإذا أقام جاءت الصلاة، وهذه صفتها وكيفيتها.
والأذان لغة: الإعلام، وكل كلمة وجدت فيها: الهمزة والذال والنون فاعلم أنها من مادة الأُذن، وفقه اللغة يقول: إن أصل وضع اللغة للمحسوس ثم يتفرع عنه إلى المعنوي، فالأُذن هي مادة أذن، وكلما سمعت بكلمة مركبة من هذه الحروف فاعلم بأن فيها إعلام.
تقول: الآذن والمأذون، الآذن هو الذي يُلقي في أذن المستأذن الإذن بالدخول، وتقول: هذا مأذون وهذا آذن، أذنت لك في كذا، آذني في كذا، وقال الشاعر: (آذنتنا ببينها أسماء) .
يعني: أعلمتنا وأنذرتنا، وهكذا أصل مادة الأذان من الأُذن؛ لأن المتكلم يلقي في أذن السامع ما يريد أن يلقيه، فكان الأذان إعلاماً، وهو في الشرع: إعلامٌ مخصوص بلفظ معين في وقت معين.
وشرع الأذان بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانوا في بادئ ذي بدء يعلم بعضهم بعضاً بالوقت، فإذا مر إنسان على بيت آخر قال له: جاء الوقت، وهكذا يمر بعضهم على بعض، فيُعلم بعضهم بعضاً بدخول الوقت حتى يجتمعوا إلى المسجد، فإذا دخل الوقت يصلون.
ثم اجتمعوا وتشاوروا ليروا وسيلة مناسبة ليعلموا بها دخول الوقت، فقال بعضهم: (نتخذ ناقوساً، فقال صلى الله عليه وسلم: الناقوس للنصارى، وقال بعضهم: ننفخ بوقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: البوق لليهود، وقال بعضهم: نوقد ناراً، فقال صلى الله عليه وسلم: النار للمجوس) ، وإيقاد النار إعلام سريع، فهو مثل البريد أو المواصلات، وكان يمكن أن يصل الخبر من الحجاز إلى العراق عن طريق النار في ربع ساعة، وقد كان الناس في الحالات الخطيرة الهامة، إذا كانوا ينتظرون جيشاً مغيراً أو ينتظرون قدوم أمر خطير؛ يجعلون المنارات على رءوس الجبال، وفيها موضع يوقد فيه النار، وتعلمون مدى سرعة الضوء، فسرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت، فإذا وصل الخبر المدينة أشعل صاحب المدينة النار في منارته، وهكذا الذي يليه، وليكن بينهما -مثلاً- مائتا كيلو، فإذا رأى النار فإنه حالاً حينما يرى ضوء النار من المدينة يشعل النار عنده، وحينما يشعل النار عنده يرى الآخر ضوءها ولو من بعد مائتا كيلو أو أكثر من ذلك فيشعلها، وهكذا حتى يصل الخبر بإشعال النار إلى بغداد مثلاً، وذلك قد يكون في نصف ساعة، وهذا أسرع من الطائرة، وأسرع من الصاروخ.
المهم أنهم عرضوا وسائل الإعلام، وكلها أعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مشهورة عند كافرين، ونحن قد أُمرنا أن نخالفهم، لا أن نسير في ركابهم، بل لا نشابههم في شيء، فانصرفوا ولم يتفقوا على شيء، فجاء عبد الله بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم، ولم أكن بنائم) أي: هو في حالة بين كونه نائماً وغير نائم، وهذه حالة قد تعرض لبعض الأشخاص، فيرى بعض الأشياء وهو في أوائل النوم، ولم يتمكن النوم منه، ولم يكن مستقيظاً تمام الاستيقاظ، بل يكون في حالة بين بين، قال: (رأيت فيما يرى النائم، ولست بنائم، رجلاً عليه بردين أخضرين يحمل ناقوساً، فقلت: هل تبيع لنا هذا الناقوس؟ قال: وماذا تفعلون به؟ قلت: نعلم به للصلاة قال: ألا أدلك على غير ذلك؟ قال: بلى، فألقى عليه الأذان -كما هو معروف الآن- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون -وألقى عليه ألفاظ الإقامة-، فجاء عبد الله بن زيد إلى الرسول فأخبره بذلك، فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك) ، فالذي رأى الرؤيا، وشرع الأذان على يده لم يباشره، ولكن باشره من هو أولى منه.
ومن هنا نأخذ أن تعيين المسئوليات يكون بحسب من يصلح لها، لا بحسب مراعاة شخص أو مناسبة أخرى، فهذا الذي رأى الرؤيا بالأذان ألقاه على بلال، وقام بلال ورفع الصوت به، فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه تلك الألفاظ جاء يجر رداءه وقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد رأيت مثل ما أسمع الآن فيما يرى النائم) ، وهكذا شرع الأذان برؤيا منام، وجاء على يدي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا نجعل الفقه في جانب، وننظر إلى هذا الواقع، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأذان -وهو أعظم شعار في العالم الإسلامي- يشرع بهذه الطريقة، فلم يوح به على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأته جبريل عليه السلام ويعلمه الأذان مباشرة أمام الناس كما جاءه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ وكل ذلك يجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا أمر الساعة، ثم ولى، فقال: (أعيدوه، فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) ، ونظير ذلك عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من الهجرة، عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله يأتيه الوحي، لكن عندما تلقاه الناس وشيعوه من قباء إلى المدينة، كل منهم يقول: هلم عندنا يا رسول الله! كان يقول: (دعوها فإنها مأمورة) -أي: الناقة التي يركبها- فكان يوحى إليه في الصغيرة والكبيرة ولكن هنا يقول عن ناقة عجماء: (إنها مأمورة) ولماذا هذا؟ لاشك أنه لحكمة عظيمة، أما موضوع الأذان فنقول -والله تعالى أعلم-: لقد جاء الأذان بإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعلت الشهادة برسالته قرينة بشهادة لا إله إلا الله، حيث يقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، فلما كان في الأذان تعظيم وتكريم للرسول صلى الله عليه وسلم باقتران اسمه مع اسم رب العالمين، وكان ذلك حظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شرع بواسطة أحد الناس وأفرادهم، فإنه يكون قاطعاً لألسنة أولئك المتربصين الذين يرمون سهام التشكيك في ضعاف الناس، فلو شرع على لسان النبي لقالوا: إن محمداً هو الذي جاء باسمه مع اسم الله، ولكن لما جاء بواسطة شخصين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يستطيع إنسان -مهما بلغ به التشكيك، ومهما بلغ به الحقد على الإسلام- أن يطعن في رسول الله بذلك، بل أتى به من أتى، ثم هو قرر أنها رؤيا حق، فتشريع الأذان ليس برؤيا من حيث هي، ولكن بتقريره صلى الله عليه وسلم أن تلك الرؤيا حق، أي: أن ألفاظ الأذان حق.
فيكون مشروعاً، والسبب تلك الرؤيا، ثم التثبيت والتقرير منه صلى الله عليه وسلم.


حكم الأذان قبل دخول الوقت
قال المصنف رحمه الله [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن بلالاً أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام) رواه أبو داود وضعفه] .
هذا الحديث مما احتج به الإمام أبو حنيفة على أنه لا يجوز أذانٌ قبل الوقت، وبلال رضي الله تعالى عنه أذن، وكان هو المؤذن للصلاة، فإذا بأذانه وقع قبل تحقق طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى حيث أذن وينادي بصوت مرتفع: (ألا إن العبد قد نام) ، وهذه صفة العبودية لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأن بلالاً قد أعتق؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه وهو في مكة وأعتقه، فهو عتيق لـ أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يهاجر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
(ألا إن العبد قد نام) ، وإذا كان قد نام فيكون قد غفل عن تعيين الوقت، والأذان في الوقت بدقة، فرجع ليعلم الناس بهذا؛ لأن أذانه سيغر من يصلي في البيوت، ومن يريد الصيام عن الطعام، فلما يعلموا بأنه قد نام، وأن الأذان الأول جاء في غير وقته؛ يستطيع الصائم أن يأكل، ويعيد الذي صلى صلاته؛ لأنها وقعت قبل الوقت.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: هذا بلال أذن قبل الوقت، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلم عن نفسه بأنه قد نام.
إذاً: بلال ما كان يؤذن إلا في الوقت، ولكن السنة أثبتت أن بلالاً كان يؤذن قبل الوقت، والذي يؤذن في الوقت إنما هو ابن أم مكتوم.


اختلاف العلماء في الأذان للجمعة قبل الزوال
أخذ الجمهور من هذا الحديث: أنه لا يجوز الأذان للصلاة إعلاماً بدخول الوقت قبل أن يدخل الوقت، وهذا في جميع الأوقات الخمسة ما عدا الجمعة، فإنهم اختلفوا في جواز الأذان لها قبل دخول الوقت، فالأئمة الثلاثة يقولون: لا يؤذن للجمعة إلا بعد دخول وقت صلاة الظهر، وهو: زوال الشمس عن كبد السماء، ومالك رحمه الله يذكر في الموطأ: أن جعفراً كان له طنفسة عند جدار المسجد الغربي، فإذا غطاه الظل أذّن المؤذن وبدأ في صلاة الجمعة، ومعلوم أن الظل أو الفيء لا يكون إلى جهة المشرق إلا بعد زوال الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب؛ لأن الظل عكس الشمس، إذا كانت الشمس في المشرق فالظل يكون إلى المغرب، وإذا كانت في المغرب فالظل يكون إلى المشرق، فنص مالك رحمه الله: أنه لا يجوز النداء للجمعة إلا كما يجوز للظهر، وهذا ما عليه المذاهب الثلاثة.
أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يجوّز صلاة الجمعة قبل الزوال، ولهذا يجيز الأذان لها قبل ذلك، ويقول: الجمعة عيد، وتصح صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس وقت الضحى إلى قبل الزوال، فالأمر عند أحمد متسع، ولكن المنصوص عن أحمد: أن المستحب ألا تكون الجمعة إلا بعد الزوال.
إذاً: مذهب أحمد جواز إيقاع صلاة الجمعة قبل الزوال، ولكن المستحب عنده ألا تكون إلا بعد الزوال، وبهذا يتفق مع الجمهور، والله تعالى أعلم.


مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) متفق عليه] .
هذا الحديث -يا إخوان- يستوجب وقفة طويلاً؛ وذلك لهذه السنة النبوية الشريفة: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، والمثلية هنا ليست في الهيئة والكيف، ولكن في اللفظ فقط؛ لأن المؤذن يقول بصوت مرتفع ليسمع الآخرين، ولكن نحن إذا كنا في المسجد أو في الطريق أو في البيت أو في أي مكان إنما نحكي قول المؤذن لأنفسنا لا للغير؛ لأننا لا ننادي أحداً يأتي إلينا، وهذا ملفت للنظر! أنا أسمع المؤذن وأعي ما قال، فإذا قال: الله أكبر، أدركت معنى ذلك، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أدركت كذلك، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، كل هذه معانٍ أنا أدركها، فلماذا أقول بلساني وأسمع نفسي أو من بجواري هذا القول؟ نتأمل ذلك من جانبين: الجانب الأول: معاني الأذان، نجد الأذان قد جمع قواعد التوحيد وأصوله، ونظير ذلك التلبية في الحج، فالتلبية إعلان برفع الصوت، وهي شعار الحج، والأذان نداء برفع الصوت وهو شعار الإسلام، وإذا أخذت اللفظ الأول: (الله أكبر الله أكبر) فإنك تستشعر عظمة الله، وأنه أكبر من كل كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك.
وتأتي بالشهادتين تجدد العهد مع الله أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وتجدد العهد بأنك تشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان يجزئ التلفظ بهما في العمر مرة واحدة، فيدخل الإنسان بهما الإسلام، ولكن تجديدهما أفضل الذكر وأقرب القربات إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا سمعت (حي على الصلاة) فهو نداء يناديك باسم الله الأكبر، و (حي) بمعنى: أقبل على الصلاة التي هي عماد دينك، وهي حصن لك، تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الحياة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
و (حي على الفلاح) تشعرك بفلاحك في الدنيا والآخرة، و (الله أكبر) حتى لا يشغلك عنها شيء، (لا إله إلا الله) .
فإذا تأملنا معاني هذه الألفاظ تحتم على السامع أن يقولها بلسانه ويسمع نفسه، لتكون عملياً تطرق القلب، وتملأ السمع، فيكون في حالة الأذان متوجهاً إلى الله سبحانه.
الجانب الثاني: المؤذن يؤذن وأنت في شغل، ففي الفجر وأنت في نوم، وفي الظهر وأنت في القيلولة، وفي العصر وأنت في العمل، وفي المغرب وأنت في عملٍ أو على طعام، وكذا في العشاء، فكل أوقات النداء أوقات شغلٍ، فإذا سمعت (الله أكبر) وكنت في نومك أو في عملك عرفت أن الله أكبر، ويجب أن تقوم وتنهض وتجيب حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإذا كنت في عملك في النهار مشتغل في متجرك، أو مشتغل في مصنعك، أو مشتغل في عمل بيتك، مهما عظم هذا العمل، وتسمع (الله أكبر) ؛ علمت بأن الله أكبر مما في يدك، ومما يشغلك عن أداء الصلاة، فمن أجاب هذا النداء تهيأ له.
وتوقيت الصلوات مرتبط مع تلك الحركة الكونية للشمس، وهذا الضوء الذي ينفجر من ظلام الليل آية من آيات الله، ثم إذا بالشمس تدور حتى تصل إلى كبد السماء، ثم تتحول إلى الغروب، ثم تتضيف إلى الغروب، ثم هي تغرب من هذا الكون عن هذا الجهة وتمضي في سبيلها، حركات يتغير من أجلها الكون بأسره! وإذا تأمل الإنسان هذا، وكان خالي الذهن، وجلس في عراء من الأرض، وعند نهاية الليل وعند إقبال النهار، يتأمل في هذا الكون ليل يمضي، وفجر يأتي، وحركة لا يقدر عليها إلا القوي المتعال، فيستدل بتفكره في هذه الحركة الكونية على عظمة الله وقدرة الله، فإذا سمع المؤذن يقول: الله أكبر، فكأنه يقول له: إن الذي يأتي بهذه الحركة، ويغير مجرى الزمن، ويغير أوضاع الكون هو الله، فيمتلأ قلبه إيماناً بالله.
وهكذا تتعلق أوقات الصلوات الخمس بتغير أحوال الزمن وبمسيرة الشمس، وكل حركة في ذلك تنادي بأن الله أكبر.
إذاً: الأذان ليس مجرد كلمات تطرق السمع، ولكنها معانٍ جليلة، تعلقت بأحداث كونية عجيبة، ولهذا جاءت السنة النبوية بأن تصغي إليه، وتردده، فإذا كنت تعمل بيدك وأذنك مع المؤذن ولسانك يحكي قوله فما يفرغ المؤذن من أذانه حتى تكون قد استخلصت نفسك مما أنت فيه، وجمعت شعورك وإحساسك إلى معاني هذا النداء، فتنفض يدك مما أنت فيه، وتذهب وتتوضأ وتأتي إلى بيت الله لأداء الصلاة.
فقوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول) ، ليست المسألة بالعبارات، وليست المسألة ذكر كلمات، ولكن لتعيش بوجدانك وروحانيتك وإحساسك وشعورك مع هذا النشيد الأعلى: الله أكبر، لا إله إلا الله.


ترديد الأذان لمن سمع مؤذنين في وقت واحد
وهنا مباحث فقهية: إذا كنت تسمع أذاناً واحداً فإنك تقول مثل ما يقول وتخرج من العهدة، وإذا كان هناك أذانان، سواءً في مسجد واحد يأذنان معاً أو متواليين أو في عدة مساجد وتسمع أذان كل مسجد عقب الأخر هل تكتفي بإجابة المؤذن الأول فقط أو تردد مع كل مؤذن الأذان كل ما سمعت ذلك؟ يوجد قاعدة أصولية: إذا تعدد السبب هل يأتي المسبب أم لا؟ هناك حالتان: - حالة يتعين فيها الإتيان بالمسبب في كل مرة.
- وحالة يجزئ فيها مرةً واحده.
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (آمين، آمين، آمين) حينما صعد المنبر، فقالها ثلاث مرات في ثلاث درجات، وسئل عن ذلك فكان مما قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك، قل: آمين) ، فقالوا: إن تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره متعين، فهذا متعدد السبب، ويتعين إيجاد المسبب عند وجوده، فكلما سمعت ذكره صلوات الله وسلامه عليه تعين عليك أن تصلي وتسلم عليه.
وهناك من الأمور ما يتعدد ويتكرر ويجزئ عنها شيء واحد مرة واحدة، كما في نواقض الوضوء، لو أن إنساناً كان على وضوء ثم أحدث ما ينقض الوضوء ثم أحدث حدثاً آخر ثم أحدث حدثاً آخر، فإنه يجزئ عن ذلك كله وضوء واحد؛ لأن الأحداث لا تجدد الحدث عند الإنسان، الحدث هو واحد وإن تعددت أسبابه، فيكفي لرفعه وضوء واحد، وكذلك الغسل إذا لم يغتسل للحدث الأول ولا للثاني فإنه يجزئ عنه غسل واحد.
فهل الأمر يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟ فهنا قال: (إذا سمعتم فقولوا) ، قد سمعنا الأول وقلنا مثله، فهل نقول مثل المؤذن الثاني بالأمر الأول؟ أكثر العلماء أنه كلما سمعت مؤذناً يؤذن فعليك أن تقول كما يقول، وهناك من يقول: تكفي المرة الأولى، ولكن الأول أصح.


حكم ترديد الأذان أثناء الصلاة
وهل تقول كما يقول المؤذن وأنت في صلاة؟ بعض العلماء يقول: نعم؛ لأن الأذان كله ذكر لله، وأنت في الصلاة تذكر الله سبحانه وتعالى، وعند (حي على الصلاة) تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وهناك من يعارض إذا كنت في صلاة وسمعت المؤذن.
والبعض يقول: إن في الصلاة لشغل، فلا تجبه وأنت في الصلاة، وبعضهم يقول: يجوز ذلك في النافلة ولا يجوز في الفريضة؛ لأنه يتسامح في النوافل مالا يتسامح في الفرائض، والله تعالى أعلم.
واختلف الفقهاء في مسألة: هل تقول كما يقول مقيم الصلاة حين يشرع في إقامتها أو أن ذلك خاص في الأذان فقط؟


ما يقول السامع للأذان عند الحيعلتين؟
[ولـ مسلم عن عمر رضي الله عنه في فضل القول كما يقول المؤذن كلمةً كلمةً سوى الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله] .
هذا استثناء في ترديد الأذان، فحينما يقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) تحكي ما يقول، وإذا جاء إلى الحيعلة وقال: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهل تحكي هذه العبارة بلفظها؟ هناك من يقول: لا تحكيها، ولكن تقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ولماذا؟ قالوا: لأن قولك: حي على الصلاة نداء لغيرك ليحضر إلى الصلاة وأنت ما ناديت أحداً، و (حي على الفلاح) معنى خارج عن معنى الأذان المتعلق بالصلاة، فيقولون: في هذه الحالة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتشعر نفسك بأنه لا حول ولا قوة لك على إجابة نداء المؤذن إلا بالله، هو يناديك وأنت تقول: نعم أستعين بالله على إجابتك، لا حول لي ولا قدرة لي ولا قول لي على أن أجيبك إلا بالله سبحانه وتعالى.
وهذا إشعار بالضعف والعجز، واستكانة بين يدي الله حتى يعينك على إجابة المنادي: (حي على الصلاة) .
وبعض العلماء يقول: تقول الحيعلتين، وتعقبهما بقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله.
يعني: تجمع بين اللفظين فتقول: (حي على الصلاة حي على الصلاة) لا حول ولا قوة إلا بالله.
والعلماء يقولون في معنى الحوقلة: لا حول عن معصية، ولا قدرة على طاعة إلا بالله، وهذا عين التوحيد؛ لأن الإنسان ضعيف بالنسبة للمعصية، فالنفس والهوى والشيطان وميول الرغبات كل ذلك عوامل تدعوه إلى المعصية، فكيف يصد هذه العوامل المجتمعة إلا بالله سبحانه وتعالى، وكذلك فعل الطاعة لا تقدر عليها إلا بالله.
قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] أي: ليست بهينة، وهذه الكبيرة كيف تؤديها؟ بقوة من الله سبحانه {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] هم خاشعون لله، ومن كان خاشعاً لله كان له عون من الله سبحانه وتعالى.
إذاً: عند الأذان تحكي ألفاظه، وعند الحيعلتين هناك من يقول: لا حاجة أن تذكرهما؛ لأن معناهما لا يتحقق عندك، وتقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الكلمة أعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش ليلة الإسراء، كما أعطي فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.


مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً
هذا الحديث من أعظم الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، إلى هنا أكتفى المؤلف وتتمة الحديث: (ثم صلوا عليّ وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبدٍ واحد، أرجو الله أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) .
السنة بعد أن ينتهي سامع الأذان من حكاية المؤذن أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم سراً كما حكى ألفاظ المؤذن، وكذلك المؤذن حينما يفرغ من الأذان بصوته العالي الذي ينادي به الناس، يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سراً ليكون ممتثلاً، وكما يقول السامع للأذان ذلك، كذلك أيضاً المؤذن، ويقول -ما علمنا صلى الله عليه وسلم- مثل السامع: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة) .
وفي هذا الحديث ما ينبغي التنبيه على أن بعض الجهات أخذ من هذا الحديث الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان بصوت مرتفع كألفاظ الأذان! وأدخلوا الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان بناءً على ذلك! قالوا: فالمؤذن يصلي عليه كما كان يؤذن لقوله: (فصلوا علي) ، فنقول: التشريع صحيح، ولكن الكيف خطأ، ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان الخلفاء الراشدون، ولا المؤذنون لهم يصلون على النبي عقب الأذان بارتفاع الصوت، وهذا جعل بعض الجهال يظنون إلى اليوم أنها ضمن الأذان وضمن ألفاظه.
وهذا لا ينبغي.
قال ابن الحاج في المدخل: لا شك أن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشر مرات) ، واحدة منك يا عبد يا مسكين تقابل بعشر مرات من رب العالمين! أي فضل أعظم من هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تأتي بها إلا في المواضع التي شرعت فيه، وما شرعت الصلاة والسلام على رسول الله عقب الأذان بصوت مرتفع كالأذان، فقال رحمه الله -وهو الحق-: نعلم أن هناك مواطن لا يجوز الدعاء فيها، حتى أعظم القربات، فالقرآن هو أعظم القربات فبكل حرف منه عشر حسنات، ومع ذلك نهينا عن قراءة القرآن في الركوع وفي السجود، مع أن الإنسان أقرب ما يكون من الله وهو ساجد، ومنعت هذه في تلك، فكل شيء مكانه، ولا ينبغي الابتداع، ولا ينبغي إيجاد ما لم يوجد من قبل، وكما قال مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) .
والله تعالى أعلم.


مشروعية الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالوسيلة
وقوله: (ثم سلوا لي الوسيلة) ، بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها منزلة في الجنة رفيعة لا تنبغي إلا لعبد واحد بلا مشاركة، ويقول صلى الله عليه وسلم (أرجو أن أكون أنا هو) .
يا سبحان الله! ومن يتقدم عليه إليها؟ ومن هو أحق بها منه؟ لا أحد، ولكن هذا تواضع منه مع رب العزة، ولم يأتل على الله بأنه صاحبها، ولكنه حسن الظن بالله، والتواضع بين يدي الله، وإن كان يعلم أنه أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأنها لا تنبغي لغيره، ولكن تأدباً مع الله واحتراماً لقدرة الله وعطائه وحكم إرادته المطلقة، قال: (أرجو) ، وهذا الرجاء حقيقة، ولن تكون إلا له.
والمقام الرفيع الذي وعده هو الشفاعة العظمى حينما يحشر الناس جميعاً في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، ويلجم الناس العرق، ولم يكن بين الشمس وبين رءوسهم إلا قدر ميل.
قيل: ميل المرود الذي للمكحلة، وقيل: ميل المسافة، ومهما يكن من شيء فالشمس الآن في الصيف بيننا وبينها بلايين الأميال ومع ذلك يتضرر الإنسان من حرارتها، فإذا كانت يوم القيامة بقدر ميل واحد.
أي: كيلو ونصف فكيف يكون الحال؟ (فيضج الناس، ويقولون: ألا ترون ما نحن فيه، ألا تطلبون من يشفع لنا عند ربنا، ليأتي لفصل القضاء، فيقولون: ومن يشفع لنا؟ قالوا: اذهبوا إلى نوح أبي البشر فيذهبون إلى نوح فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، وإني قد دعوتي على قومي دعوةً أغرقتهم، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمان، فيأتون إلى إبراهيم ويعتذر لهم أيضاً، ويقول: أذهبوا إلى موسى كليم الله، فيذهبون إلى موسى ويعتذر، ويقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيأتون إليه ويعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهبون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها، أنا لها، ويذهب حتى يسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد وتسابيح لم يكن يعلمها من قبل) ، وهذا مثل الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فما استأثر سبحانه به في علم الغيب عنده يلهمه رسوله في ذلك الوقت، (فيسبح الله ساجداً إلى ما شاء الله حتى يقول له المولى سبحانه: يا محمد! ارفع رأسك، وشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) ، وهذه الشفاعة العظمى التي شملت الأمم جميعها بما فيهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
ثم تتوالى الشفاعات بعد ذلك، وهي سبعة أنواع، يشفع في قوم استحقوا النار ولم يدخولها، ويشفع في قوم لترتفع درجاتهم في الجنة، ويشفع في أناس دخلوا النار فعلاً فيخرجون منها، إلى غير ذلك من أنواع الشفاعات.
في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أن مستمع المؤذن يقول كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله له الوسيلة والمقام المحمود، فمن فعل ذلك كان له وعد عند رسول الله بالشفاعة ووعده صادق، والله سبحانه وتعالى أعلم.


مشروعية اتخاذ المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
] هذا الصحابي كان في وفد، وكان أصغرهم سناً، وكان بالغاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، ويقولون: إنه كان يمر عليه الوفود فيتلقاهم في الطريق فيسمع منهم القرآن، ويحفظ منهم ما سمعوا من رسول الله، فكان قد جمع بعض السور الصغار من القرآن الكريم، وهذا لا يتنافى مع حديث: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ، فهذا إذا تعدد القراء نظرنا من هو أقرأ وأحسن تلاوة، في تجويده وإخراج الحروف من مخارجها، وإعطاء الحروف حقها، والمد والإدغام ونحو ذلك، ويكون أحفظ من الآخرين، فإذا تساووا في ذلك نظرنا من هو أقرؤهم، وقدمناه للإمامة، مع توافر الشروط الأخرى، وهي: أن يكون تقياً ورعاً يعرف حق هذا المقام العظيم بين يدي الله، كما جاء في الحديث -وهو مكتوب عندكم في المحراب هناك-: (تخيروا أئمتكم فإنهم وافدوكم إلى الله) ، فالإمام يتقدم القوم ويسأل الله: اهدنا الصراط المستقيم، يسأل لنفسه ولمن معه، فينبغي تخير الإمام، قال ابن الحاجب: كان في المغرب لا يقدم للإمامة إلا من شهد له أهل القرية بصلاحه وأفضليته على الجميع، أما في بعض البلدان الأخرى -وقد سماها ولا أريد أن أسميها- فإن الإمامة عندهم مرهونة بالنقود، وقد يتولاها من هو كذا وكذا! وهنا قوله: (اجعلني إمام قومي) ، كيف يطلب الإمامة وهي ولاية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب ولايةً أو إمارةً لا نعطيه إياها) ؟ قالوا: إذا علم الإنسان من نفسه الاستطاعة بالقيام بحق الولاية، وإنها ستضيع إذا أسندت إلى غيره لعدم وجود الأكفاء، فيتعين عليه أن يتقدم لحفظها لا لحظ نفسه، واستدلوا بقصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما عبر الرؤيا للملك، وذكر له الأمر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، وهذه ولاية على الأرزاق {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] أي: عندي الأهلية، ولو تركت لغيره لضاعت، فكان من حقه أن يتقدم لطلب الولاية لحفظها، وهكذا القضاء والإفتاء والأذان والإمامة وكل عمل ديني محض.
وقوله هنا: (واقتد بأضعفهم) ، كيف يقتدي بأضعفهم والمأمومون يقتدون به هو؟ المعنى: أنك ستكون إماماً، فلا تجعل السلطة والاختيار لك في أن تفعل ما شئت، وتطيل عليهم، بل اقتد بأضعف من يصلي وراءك، فليكن أضعف المأمومين هو القدوة لك، فلا تثقل عليه ولا تؤذيه بالإطالة، إنما عليك أن تراعي حال المأمومين.
وقد عرفنا قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد جاء في حقه أنه: (أعرفكم بالحلال والحرام) ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في المسجد الشريف، ثم يذهب ليصلي بأهل قباء العشاء، فدخل ذات ليلة في صلاة العشاء، وكان رجل يعمل طيلة نهاره في بستانه فدخل في الصلاة معه فإذا بـ معاذ بعد أن قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آمين يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، وشرع في أول البقرة، فقال الرجل في نفسه: والله! لن يقف حتى يختمها، فانعزل عنه، وصلى منفرداً، ورجع إلى بيته، وفي بعض الروايات أنه حينما أتى إلى المسجد أرسل نواضحه وتركها تمضي إلى البيت، ودخل في الصلاة وهو لا يدري: هل ستذهب إلى البيت أو لا؟ وهو طول النهار يعمل، فهو متعب، فإذا قام وراء الإمام الذي يشرع في الأولى بالبقرة، فربما الركعة الثانية يقرأ فيها بآل عمران! ومتى ينتهي؟! فاختصر الطريق من قريب، وصلى وذهب إلى بيته، وعلم معاذ بذلك، فقال: إنه رجل منافق، ما صبر على الصلاة! والمنافقون يأتون الصلاة وهم كسالى، فبلغ الرجل مقالة معاذ في حقه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى من معاذ؛ لأنه رماه بالنفاق، وقد فعل كذا وكذا، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أفتان أنت يا معاذ؟!) ، سبحان الله! رجل يقرأ بالبقرة في ركعة ويقول له: أنت فتان! إنه اجتهد، وغلب جهة العاطفة، وهو كان حديث عهد بالصلاة خلف رسول الله، وحديث عهد بسماع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عهد بصلاة أمهم فيها رسول الله، وتلك حالة روحية تجعل عندهم انفتاح وانفساح وقدرة على إطالة القيام ولو الليل كله، ولكن غيره ليس مثله، فقال له: (أفتان أنت؟) ، ولماذا؟ وأين الفتنة؟ تطويلك هذا يؤدي إلى ترك الجماعة وتفرق الناس، وستكره الناس للصلاة، وهذه أعظم فتنة، أين أنت من {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وذكر له سوراً قصاراً من المفصل.
فقوله: (واقتد بأضعفهم) ، سواءً كان لكبر سن أو كان لمرض أو لاشتغال، فيجب أن تراعي المصلين الذين خلفك، وتقتدي بأضعفهم، وتراعي ما يستطيعه من الإطالة والقيام والقراءة.
وقوله: (واتخذ مؤذناً) ، فيه أدب التعيين، ما كل إنسان يأتي يؤذن، إنما يكون المؤذن مرتب من المسئول؛ لأن الأذان إعلام لأداء الصلاة لله، وهذا عمل رسمي، فلا ينبغي لكل من هب ودب أن يأتي ويؤذن، هل ندري من يحسن الأذان أم لا؟ هل ندري أمانته واستقامته أم لا؟ لا ينبغي لأي إنسان أن يقدم على الأذان إلا بإذن مأذون من الإمام أو من ولي الأمر، اللهم إلا المساجد العامة التي على الطرقات، وليس لها مؤذن خاص، ولا إمام خاص، وبينت على الطريق لمن تحضره الصلاة فيصلي؛ فلا مانع لمن حضر الوقت وهو حاضر أن يؤذن، وكذلك من حضر الصلاة أم بالناس، ولو تعددت الجماعات في هذه المساجد فلا مانع.
أما المساجد المقيمة عند أحياء عامة، وثابت أهلها وسكانها؛ فلا ينبغي أن يؤذن مؤذن إلا مأذون له، ولا يؤم الناس إلا معين فيها، ولا يجوز إعادة الجماعات في تلك المساجد مرتين أبداً.


جواز إعطاء المؤذن أجراً على سبيل الهبة والعطاء لتفرغه
وقوله: (لا يأخذ على أذانه أجراً) ، هذا هو الأكمل والأفضل فمن يعمل القربة، ويجب عليه أن يحسن النية، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا اتخذ بمعنى: كلف، والاتخاذ تكليف، والتكليف فيه التزام، والالتزام فيه شغل عن واجبه وواجب أهله، فماذا يفعل؟ قالوا: لا يعطى أجراً بعقد إجارة، ولكن يعطى بنية الهبة، ومن باب العطاء، ولا مانع من ذلك، وعلى هذا أجاز العلماء إعطاء المؤذن والإمام وكل من كان عمله قربة في الإسلام، فيأخذ لا على عقد المؤاجرة، ولكن على سبيل الهبة والعطاء، وعلى سبيل الرزق من بيت مال المسلمين، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.


كتاب الصلاة - باب الأذان [2]
يشرع اتخاذ إمام ومؤذن لكل مسجد تقام فيه جماعة، ويختص كل منهما باختصاصات، وهذا يدل على مشروعية توزيع الاختصاصات في الإسلام، فالإسلام دين ينظم الأمور ويرتبها على أحسن وجه، وقد جاءت السنة ببيان كثير من آداب المؤذن حتى يقوم باختصاصه على أكمل وجه.


حكمة الأذان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) الحديث أخرجه السبعة] .
هذا الحديث تكملته: (وليؤمكم أقرؤكم) ولنبين رأي من يقول: إن هذه صيغة أمر: (وليؤذن لكم أحدكم) ، واعتبر الأذان واجباً من الواجبات، وتقدمت معنا هذه المسألة: هل الأذان حق للإعلام بدخول الوقت أو حق للصلاة؟ على القول بأنه إعلامٌ لدخول الوقت، فإذا كان القوم مجتمعين أو كانوا قد سمعوا أذاناً من مسجد آخر، فإنه يكفيهم؛ لأنهم قد علموا بدخول الوقت، وإذا كان الإعلام للصلاة، فإنهم يؤذنون للصلاة، ولو سمعوا أذان مسجد آخر.
وأعتقد أن الراجح كون الأذان للصلاة، وليس للوقت، أو هو لهما معاً، وكونه للصلاة أرجح، لقضية تعريس النبي صلى الله عليه وسلم وانتباههم بعد ارتفاع الشمس، وفي الرواية الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأذن، وكونه أذن بعد خروج الوقت يرجح أن ذلك للصلاة، وإن كانوا يقولون: الإقامة للصلاة آكد من الأذان، فهنا قال: (وليؤذن لكم أحدكم) ، صيغة أمر تقتضي وجوب الأذان، وهذا الأمر لهم كان حين عودتهم إلى ديارهم وهم في السفر، وكذلك الحال في الحضر، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا غزوة ومر بقوم ولم يعلم عن حالهم: أهم مسلمون أو من المشركين؛ فإنه ينتظر إلى وقت الصلاة، فإذا سمع أذاناً علم أنهم مسلمون، ولم يغر عليهم، وكان غالباً ما ينشئ الإغارة بعد طلوع الفجر أول النهار، فكان ينتظر أن يسمع منهم أذان الفجر، فإن هم أذنوا علم أنهم مسلمون، فجنب عنهم، وإن لم يؤذنوا علم أنهم غير مسلمين؛ لأنهم لم يقيموا شعار الإسلام.
قال مالك رحمه الله: إذا ترك أهل قرية الأذان قوتلوا عليه، حتى ولو كنا نعلم أنهم مسلمون، ويصلون، ويصومون، لكنهم تكاسلوا عن الأذان للصلوات واكتفوا بالإقامة، فإنهم يقاتلون حتى يؤذنوا؛ لأن الأذان أصبح شعار من شعارات الإسلام، كما يقال عن التراويح: إنها سنة رمضان، وشعار المسلمين في رمضان، فمن عطلها في المساجد فهو مخطئ وعلى أهل القرية إحياء قيام التراويح في المساجد، وإن كانت في البيت هي أفضل منها في المسجد، لكن إقامتها في المساجد شعار من شعارات الإسلام؛ فينبغي أن يحافظ عليه، ولا يجوز تعطيلها، والله تعالى أعظم.


الترسل في الأذان والحدر في الإقامة
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله) الحديث رواه الترمذي وضعفه] .
هذه التعليمات في هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية الأداء للأذان والإقامة، قد تعلم المؤذن ألفاظ الأذان والإقامة، ولكن كيف تكون صيغة الأداء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (إذا أذنت فترسل) ، كما يقال لشخص يمشي: على رسلك، كما في قصة البعير الذي هاج على صاحبه، ولما ذهبوا عنده رأى أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن البعير هائج داخل البستان، فقال لرسول صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا رسول الله! فإن البعير هائج، وتقدم صلى الله عليه وسلم إلى البعير الهائج في البستان، وكانت المفاهمة كما تقدم بيان ذلك مراراً.
فترسل.
أي: تمهل واجعل بين كل جملة وجملة فراغاً.
بينما قال في الإقامة: فاحدر، والحدر هو كما تقول: انحدر السيل.
أي: أسرع، والانحدار: الانصباب من علو إلى أسفل، ويكون في ذلك إسراع.
وما الفرق بين الأذان والإقامة؟ كما يقال: لكل مقام مقال، وهذا هو سر البلاغة، الأذان هو إعلام للغائب بدخول الوقت، والغائب مختلف البعد فيحتاج إلى تطويل في الأذان حتى يعلم أكثر عدد ممكن من الناس؛ لأنه لو أتى بألفاظ الأذان في دقيقتين يكون قد انتهى ومن لم ينتبه لم يسمع شيئاً، بخلاف ما إذا لو أتى بالأذان في ربع ساعة مثلاً، ومن العجب ما حكاه بعض العلماء من البدع أن بعض القرى كانت تحتم على المؤذن أن يستغرق نصف ساعة في أذانه! وهذا تطويل أكثر من اللازم، وقد يؤخر الصلاة عن أول وقتها.
فترسل.
أي: أنك لا تسرع في أداء ألفاظ الأذان فتفوت على الكثيرين السماع، فتمهل في الأذان وترسل بحيث أن الأذان يأخذ وقتاً أوسع، لإبلاغ البعيدين، فيكون فيه فرصة أوسع لتعميم البلاغ والنداء للمصلين.
أما الإقامة فهم موجودون، ولا ينادي بعيداً، إنما هو يعلم الحاضرين بأن الإمام قد حضر، وأنه قد تهيأ وقام في محرابه، ولم يبق إلا أن تقوموا للصلاة اقتداء بالإمام، فالإقامة إشعار بأن الإمام قد حضر، وأن الصلاة ستقام الآن.
إذاً: لا في حاجة إلى الترسل فيها، ولا حاجة إلى الإطالة فيها، إنما هي مجرد إشعار بقرب شروع الإمام في أداء الصلاة ليتهيئوا إلى القيام، وإلى تعديل الصفوف، كما هي السنة، وكان بعضهم يقوم إذا رأى الإمام، ومنهم من يقوم حتى يقول المقيم: قد قامت الصلاة، وبعضهم يقول: إن السنة في القيام للصلاة حينما يشرع المؤذن في الإقامة.
أي: يقوم حينما يسمع قول المؤذن: قد قامت الصلاة، فلا يبادر بالقيام حينما يسمع المؤذن يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، إنما ينتظر حتى يصل إلى قوله: (قد قامت الصلاة) فينهض ويقوم، والبعض يقول: هذا بحسب حالات الأشخاص، فهناك إنسان خفيف البنية سريع الحركة بمجرد أن يسمع الإقامة يكون قد نهض، ولا ينهض بعجلة وبخفة؛ لأن المقام مقام طمأنينة وسكينة، ولهذا السنة لمن سمع الإقامة وهو خارج المسجد ما جاء في الحديث: (فائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم، فاقضوا أو فائتموا) ، ولا ينبغي الإسراع للصلاة لمن سمع الإقامة؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، وهو مذهب للخشوع والخضوع.
فإذا سمع الإنسان وهو في المسجد المقيم نهض إذا كان ثقيل الحركة كبير السن، ضعيف البنية، لو أنه انتظر حتى يقول: قد قامت الصلاة، ولربما كبر الإمام تكبيرة الإحرام وهو لم ينهض بعد، فهو أعلم بحالته، وتقدير ظروفه، وبالوقت الذي يبدأ بالقيام فيه حتى يكون قائماً مستوياً حينما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام.
فقوله: (يا بلال! إذا أذنت فترسل) ، أي: تمهل، لا تسرع وتتعجل، (وإذا أقمت فاحدر) أي: فأسرع، وليكن هناك فرق بين أداء الأذان وبين أداء الإقامة؛ لأن لكل واحد منهما مهمة تتناسب مع كيفية الأداء، فالأذان نداء إلى البعيدين، فيحتاج إلى ترسل وإعطاء فرصة أكثر، والإقامة إعلام للحاضرين فلا حاجة إلى زيادة الوقت.
وقوله: (واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله) ، هذا تحديد بواقع الحال، بحيث أن الإنسان لو كان على طعام وأذن المؤذن فلو أنه عجل بالإقامة لكان هذا الآكل بين أحد أمرين: إما أن يقضي حاجته ونهمه من طعامه فتفوته تكبيرة الإحرام وقد تفوته الركعة الأولى، وإما أن يترك الطعام ونفسه متعلقة به، وهذا يشوش عليه صلاته، كما جاء في الأثر: (إذا قدم العَشاء، وقامت العِشاء، فقدموا العَشاء على العِشاء) ، قالوا: هذا لمن كان جائعاً ونفسه متعلقة بالطعام، وأما إذا كان شبعان ولا يهمه أن يقدم العشاء أو يؤخر، فيقدم صلاة العشاء من باب أولى.
فهنا جعل صلى الله عليه وسلم بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، وقد يقول إنسان: الناس يتفاوتون في طبيعة الأكل، فهناك من يأكل على تمهل فيتم المضغ للأكل ويشرب الماء، وهناك من يعجل، والعامة تقول: إذا أكلت فكل أكل الجمال، وإذا كذا فافعل فعل الرجال، يعني: لا تكن مثل بعض الناس أو صنف من الناس يستغرق الساعة والساعة والنصف في تناول الطعام، حديث وكلام وسمر وإلى آخره، لا، بل طبيعة وسط الناس.
وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقيم المقيم فيذهب أحدهم إلى الخلاء، ويقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي ويدرك النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى، وقد يؤذن المؤذن فيذهب الذاهب إلى قضاء حاجته ويتوضأ وما قد قامت الصلاة.
وتقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم، في صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم تأخروا أخر، مراعاة لظروف الناس، فإذا تعود جماعة مسجد معين أو قرية معينة شيئاً؛ روعي ظروف هؤلاء الجماعة، أما التشريع العام فأقل ما يكون بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الإنسان العادي من طعامه، والله تعالى أعلم.


استحباب الأذان على وضوء
قال المصنف رحمه الله: [وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم قال: (لا يؤذن إلا متوضئ) وضعفه أيضاً] .
هذا الحديث من أحكام الأذان، وهذه الصيغة صيغة الحصر، (لا وإلا) من أقوى صيغ الحصر، كأنه ينفي أذان غير المتوضئ، ولا يأذن لغير متوضئ، فمفهوم ذلك أن غير المتوضئ لا يؤذن، ولكنهم مجمعون -لضعف هذا الحديث- على أنه لو أذن غير المتوضئ فإن الأذان صحيح ولا يعاد، بخلاف الجنب، فإنهم يختلفون فيه: فمنهم من يقول: يصح أيضاً ولا يعاد، ومنهم من يقول: لا يصح الأذان مع الجنابة، ويقولون: الأمر هنا تعليم وإرشاد؛ لأن المؤذن بعد الأذان إنما ينتظر في المسجد، وينتظر مجيء الإمام ليقيم الصلاة، ويصلي مع الناس، ولا ينادي الناس للصلاة ويخرج ليتوضأ، فنحن لا نعرف متى يرجع، ولا ننتظر حتى يأتي، ومن أذن فهو يقيم، فهذا تعليم وإرشاد بحيث يكون متهيئاً للصلاة، لا يضطر إلى أن يخرج بعد أن يؤذن من المسجد ليتوضأ.
وقالوا: ونظير هذا أن من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، قالوا: حمل الميت ليس حدثاً يوجب الوضوء، ولكنه من باب الإرشاد، بحيث أنه إذا حمل الميت وجاء ووضعه سواءً كان في المسجد أو كان عند المقبرة على خلاف في ذلك، وقاموا للصلاة عليه؛ فلا يحتاج إلى الوضوء فيحمله ثم يتخلى عنه عند الصلاة عليه! ولذا ينبغي أن يكون متوضئاً متهيئاً للصلاة عليه، أما إذا حملها وهو غير متوضئ فإن الناس يصلون عليه وهو لا يستطيع أن يصلي عليه، فيكون ذلك قصوراً منه، فوت على نفسه ثواب الصلاة على الجنازة، ويكون في صورة غير لائقة.
قالوا: وكذلك هنا: (لا يؤذن إلا متوضئ) ، فأجمعوا واتفقوا على أن المؤذن إذا أذن وهو على غير وضوء على حدث أصغر؛ فإن الأذان لا يعاد، واختلفوا لو كان جنباً، وفيما إذا أذن صبي دون البلوغ، وفيما لو أذنت امرأة، وفيما لو أذن غير مسلم، قيل: يعاد الأذان، ولا يعتد بأذان هؤلاء الأشخاص.
وبهذه المناسبة يتفقون أنه يجوز لو كان هناك خطيب للجمعة وإمام للصلاة، فلا مانع، وتصح الجمعة بخطيب على حده وإمام على حده، فيمكن أن يكون الخطيب غير إمام، وأن يكون الإمام غير الخطيب، فلو خطب وهو غير متوضئ لا تعاد الخطبة؛ لأنها مجرد ذكر وموعظة بخلاف الإمام، فلابد أن يكون على طهارة كاملة من الحدثين، فالمؤذن والخطيب يصح عملهما ولو كانا غير متوضئين، أما الجنابة فلا.


المؤذن أحق بالإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وروى زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أذن فهو يقيم) وضعفه أيضاً] .
هذا أيضاً من باب التعاليم والآداب في الأذان، من أذن فهو يقيم، وهذه الحكمة واضحة عندما نكون جالسين في المسجد ونسمع المؤذن، وعلمنا بدخول الوقت، ومن أراد أن يتنفل نافلة قبلية تنفل، ثم بعد ذلك سمعنا إنساناً آخر يقيم الصلاة فإنه يلتبس علينا: هل هذه إقامة الصلاة بعد الأذان الذي سمعناه أم هو أذان في مسجد آخر؟ أما إذا كان نفس المؤذن هو الذي يقيم فإننا قد علمنا من هو بأذانه الأول عندما دخل الوقت.
ويمكن أن يكون للإقامة شخص آخر فيكون أدعى لمعرفة الإقامة أن الأول أذان والثاني إقامة، وسيأتي عن عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان تطلع أن يكون مؤذناً؛ لأنه هو صاحب القضية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قم فأمله على بلال فإنه أندى منك صوتاً قال: اجعلني أقيم.
قال: أقم) ، ويقولون: هذه الرواية وإن كان فيها ما فيها، فهي أول مرة استجابة لطلبه وتطييب لخاطره، ولكن بعد ذلك الذي يؤذن هو الذي يقيم، واتفقوا أنه إذا أذن إنسان وأقام آخر وصلوا الصلاة بتلك الإقامة أن الإقامة صحيحة، ولا تحتاج إلى إعادة.
مثلاً: المؤذن كان له عذر ولم يستطع أن يقيم الصلاة، فأناب غيره ليقيمها، حتى الإمام يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن أو أي أحد من الحاضرين يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن، ثم إذا حضر المؤذن فلا حاجة إلى إعادة الإقامة من المؤذن؛ لأنه سقط حقه في غيبته أو في عدم تقدمه ابتداءً.
إذاً: الأولى والسنة أن من أذن فهو يقيم، ولو قدر أنهم قدموا شخصاً آخر ليقيم الصلاة؛ لأن المؤذن كان على غير وضوء أو انتقض وضوءه فذهب ليتوضأ، وغاب علينا وأراد الإمام وهو أملك بالإقامة أن يقيم الصلاة؛ فإنه يقدم شخصاً من الحاضرين ليقيم الصلاة في غيبة المؤذن الذي كان له حق الإقامة، ثم لا تقام الإقامة بعد حضوره.


حكم إقامة الصلاة لغير المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [ولـ أبي داود من حديث عبد الله بن زيد أنه قال: (أنا رأيته) ، يعني: الأذان (وأنا كنت أريده) ، قال: (أقم أنت) وفيه ضعف أيضاً] .
هكذا رواية عبد الله بن زيد أنه لما رأى ألفاظ الأذان في المنام أو كما يقول الأحناف: تلقاه عن ملك، على الخلاف في الرواية؛ لأن رواية عبد الله بن زيد فيها: (رأيت كأني وأنا في النوم أقول: نائم ولست بنائم) .
يعني: بين المنام واليقظة، في حالة بين وبين، فالأحناف حملوا هذه الحالة على أن الرجل الذي رآه عبد الله بن زيد لابساً حلة خضراء ويحمل كذا وكذا أنه ملك نزل ليعلم عبد الله ألفاظ الأذان، وسواءً كان ملكاً أو كانت رؤيا منام، فالرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة، فلما أجرى الله سبحانه وتعالى هذه السنة على يده، وأراه إياها، رأى أن لنفسه حقاً فيها، وقال: (كنت أريده) ، أي: كنت أريد الأذان؛ لأنه شرف عظيم وفضل كبير، وقد قال عمر: لولا الإمامة لكنت مؤذناً، أو لو كنت أستطيع الأذان لأذنت، فالمؤذن يشهد له كل من سمع صوته من شجر وحجر ومدر، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً، ويوجد آثار كثيرة في فضل المؤذنين.
فكان يريده لنفسه لأنه الذي رآه، ولكن كونه الذي رآه شيء، وموضوع الأذان شيء آخر، فموضوع الأذان إعلام، والأحق بالإعلام من كان أندى صوتاً، أما كونك رأيته وصوتك دون صوت بلال في ارتفاع الصوت أو النداوة أو القبول أو الصيغة وحسن إصغاء الناس إليها فهذا أدعى لأن يتولى هو الأذان؛ لأنها صفات ذاتية في الأذان، وكونك أنت رأيته يكفيك شرفاً وفضلاً، أما أداء الأذان بذاته فنحن نريد الإعلام، والإعلام أحق به من كان أندى صوتاً، وهذا من وضع الشيء في موضعه، لكن من حقه أن يتطلع، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أقم أنت) ، يعني: نحن جعلنا الأذان لـ بلال لأنه أندى منك صوتاً، وهذا هو الوصف المناسب للحكم، وأما أنت لكونك رأيته وتتطلع إليه فأقم، والإقامة شريكة الأذان، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها أذاناً في قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، وهما الأذان والإقامة، والإقامة تكون بألفاظ الأذان.
إذاً: من أذن فهو يقيم، وعبد الله بن زيد تطلع للأذان فجعله عليه الصلاة والسلام أن يقيم وبلال يأذن، ومن هنا قالوا: لو أقام غير المؤذن صحت الإقامة ولا تعاد.


المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة) ، رواه ابن عدي وضعفه، وللبيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله] .
هذا يمكن أن نسميه توزيع المسئولية وتوزيع الاختصاصات، نحن نعلم بأن الإمام من حيث هو أعلى منزلة من المؤذن، الأجر لا نتكلم عليه هنا، لكن المنزلة في الدين أو المنزلة في الناس فإن الإمام أعلى منزلة من المؤذن، ولهذا يقولون: النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يؤمون الناس في الصلاة ولم يكونوا مؤذنين.
فالمؤذن أدنى مرتبة من الإمام، ولكن كما في الحديث: (المؤذن مؤتمن، والإمام ضامن) ، فهم أمناء على الوقت؛ لأنهم مع التكرار والتعود أصبحوا يعرفون الوقت بسرعة ولو لم تكن هناك آلة، ولو لم تكن هناك وسيلة لقياس الزمن، مع أن مقاييس الزمن معروفة من قبل بالظل، فإذا كان المؤذن كل يوم خمس مرات يتتبع الأوقات، يتتبع طلوع الفجر، ويتتبع زوال الشمس، ويتتبع ظل كل شيء مثله، ويتتبع الغروب، ويتتبع غياب الشفق، في كل الأوقات الخمسة؛ فهذا أنه بعد شهر يصير هذا شيء جبلي عنده، حتى لو نظر إلى الأفق ونظر إلى الساعة فاختلفا فإنه يقدم الأفق على الساعة.
وكان الأفق أضبط عنده من الساعة.
إذاً: المؤذن أمين على الوقت.
ومن هنا: إذا سمعنا المؤذن يؤذن لا نحتاج إلى بينة على دخول الوقت، وعلى صحة الصلاة، وعلى الإمساك في الصيام، وعلى الإفطار في رمضان؛ لأننا نكون جالسين في المسجد، وما رأينا هل الشمس غربت أو لم تغرب ما ندري، حتى الساعة في أيدي الناس هذه تقدم دقيقتين وهذه خمس وهذه تؤخر، وهذه كذا، لكن حينما نسمع المؤذن نلغي هذه الساعات التي تقدم والتي تؤخر، وما نسأل فيها، وعندنا المؤذن أمين على صيامنا بوقت دخول الفطر، وكل الذين في المسجد من آلاف مؤلفة، ومن في البيوت من حريم ورجال وصغير وكبير يأتمنون المؤذن على دخول الوقت، ويأتمنونه على الإفطار.
وبعض العلماء يذكر هنا مسألة أصولية وهي: أن قبول خبر المؤذن وائتمان المؤذن على الوقت، وترتيب الأحكام الشرعية من صلاة وإمساك وإفطار على أذانه؛ يعتبر أقوى دليل على قبول خبر الواحد؛ لأن المؤذن شخص واحد، والأمة كلها تقبل خبره، وتعمل به، فتؤدي الصلاة والصلاة لا تؤدى إلا في وقتها، ويمسك عن الطعام من أجل الصيام فيحرم ما أحل الله، ويفطر ويأكل ويستحل ما كان حراماً، وكل ذلك بخبر الواحد، فقالوا: إن قبول المؤذن في إخباره عن الوقت وائتمانه عليه أقوى دليل في قبول خبر الواحد عند الأصوليين، والله تعالى أعلم.


مشروعية توزيع الاختصاصات وترتيب الأمور
هنا المؤذن أملك بالأذان، وأمين على الوقت، والإمام أملك بالإقامة، فالإمام هو الذي يرى أن نقيم الصلاة الآن أم ننتظر بعض الناس المتأخرين قد يرى أن نقدم الإقامة إذا كان في المسجد جماعة من النسوة معهن الأطفال، وسمع الصراخ، والصياح أو هناك شيء حدث ويحتاجون إلى أن يعجلوا الصلاة.
إذاً: الإمام الذي يملك أن نقيم الآن أو نتأخر، نتعجل بالإقامة في أول وقتها أو نؤخرها.
ويقولون: إذا اختلف الإمام والمؤذن في الوقت، فقال الإمام للمؤذن: قم فأذن، قال: لا، الوقت ما جاء، هل نأخذ بكلام المؤذن أم بكلام الإمام؟ المؤذن؛ لأن هذا اختصاصه، والإمام ما هو ضابط للوقت كضبط المؤذن، ولو أنهم اتفقوا وأذن المؤذن ثم بعد فترة قال الإمام: يا مؤذن! أقم الصلاة، قال: لا، انتظر، نأخذ بكلام الإمام؛ لأن الإمام أملك بالإقامة، كما أن المؤذن أملك بالوقت، وهذا نسميه توزيع الاختصاص، حتى لو كنا في عمل دنيوي فهناك ذوي اختصاص في جانب من الجوانب، فينبغي أن نقدم من كان اختصاصه في هذا الموضوع ولا نحابي في ذلك.
وفي السنة النبوية: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضكم زيد، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وقال لـ ابن العباس: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فإذا اختلفوا في فريضة من الميراث فالمقدم رأي زيد، بالرغم أن فيهم أبو بكر وعمر، وهم أفضل منه، لكن هو مختص بذلك، وكذلك لو اختلفوا وتنازعوا في حلال أو حرام فرأي معاذ مرجح.
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي البناية الثانية، وكان ذلك بعد عودته من خيبر، وكان المسجد الأول (60×70) ذراعاً، وكان من جذوع النخل كما تعلمون، وكثر الناس، فأراد أن يوسع المسجد إلى أن صار (100×100) ، وكان هناك رجل من بني حنيفة وفد إلى المدينة، فرأى رجلاً من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله فقال: أرني وأخذ منه المسحاة، وأخذ يخلط الطين، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر فقال: دعه لهذا العمل فإنه أعرف به منك، وهذا إسناد العمل للمختص فيه.
فلو جاءنا مهندس معماري وعنده مشروع زراعي، وعنده رجل خبير في الزراعة بدون دراسة، فهل يقدم المهندس المعماري أو الفلاح الخبير المجرب عشرين أو ثلاثين سنة؟ الفلاح الذي اكتسب الخبرة والتجارب، وكذلك العكس لو عنده مشروع معماري، وجاءنا مهندس زراعي، وجاء معلم من المعلمين العاديين واختلفوا، وكل له وجهة نظر فمن نقدم؟ نقدم المعلم الذي له تجارب عشرين ثلاثين أربعين سنة في البنيان، وهذا مهندس زراعي تخصصه في الزراعة.
إذاً: توزيع الاختصاصات من صميم الإسلام، كذلك التخصص في مادة دنيوياً أو أخروياً إلا أن تخصص المادة العلمية اليوم فيه جوانب سلبية، فالطالب درس الابتدائي والمتوسطة والثانوي على قدر في العلوم، وجاء إلى الكلية ودرس منهج الكلية، والكلية قد تكون نظرية كالجامعة الإسلامية، لأن دروسها كلها نظرية، وليست عملية، وقد تكون عملية، مثل: كلية هندسة، كلية طب، مكنيكا، كهرباء، فهذه أشياء عملية، فهو يدرس ويطبق بالعمل، فإذا كانت هذه الحالة، ودرس المنهج العام ثم أراد أن يتخصص في فن من الفنون أو علم من العلوم ففي الجامعة الإسلامية -مثلاً- كلية الشريعة، فيها أصول وفقه وتفسير وحديث ومصطلح، فأراد أن يتخصص في مادة من تلك المواد الرئيسية بخلاف المواد الفرعية.
مثل: النحو والصرف والبلاغة، فهي في كلية الشريعة فرعية وليست أصلية، ولا يقبل من خريج الشريعة أن يتخصص في اللغة؛ لأن اللغة أساسية في كلية اللغة، وأما الحديث والتوحيد والتفسير فهي علوم فرعية في كلية اللغة، وهكذا.
إذاً: لكل كلية منهجها ودروسها الأساسية والتكميلية، فإذا كان الطالب في كلية الشريعة وأراد الماجستير في أصول الفقه فهذا من حقه، والناحية السلبية هي أن يكرس جهده كله في أصول الفقه ويكون ذلك على حساب المواد الأخرى من فقه وحديث وتفسير، فلا يكون مبرزاً في بقية المواد كما هو مبرز في مادة الأصول، وهذه ناحية سلبية بالنسبة للمواد الأخرى، وحينما كان عدد الطلاب محدوداً كان يتعين على كل متخرج أن يكون مبرزاً في جميع المواد التي في الكلية، ولما كثر المتخرجون وازداد العدد فلا مانع أن نخصص هذا في الأصول، ونخصص هذا في الفقه، ونخصص هذا في الحديث، ومن مجموع المتخصصين يكون عندنا منهج تخصصي في مواد الكلية كلها.
وينبغي على الطالب في ذاته إن اختار مادة يتخصص فيها ألا يغفل، بقية المواد؛ لأنه كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلوم أقران.
فالأصولي لا يستغني عن الفقه للتشبيه والتمثيل والبيان، والفقيه لا يستغني عن أصول الفقه ليبني ويستنبط على أصول الأحكام، وكل منهما لا يستغني عن الحديث؛ لأنه مرجع لاستنباط الأحكام، وكذلك التفسير.
إذاً: المؤذن أملك بالوقت، والإمام أملك بالإقامة، وهذا من توزيع الاختصاصات، فكل في حده، وكل في مجاله، والله تعالى أعلم.


الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) رواه النسائي وصححه ابن خزيمة] .
هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، وهل هذا أسلوب حصر كالأساليب المتقدمة أو خبر عار عن الحصر؟ لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، هل تعرض لأوقات أخرى؟ ما تعرض لها.
إذاً: هذا إخبار بالنسبة لموضوع الباب، وهو الأذان والإقامة، وهناك مواطن كثيرة جداً يستجاب فيها الدعاء، كالساعة التي في يوم الجمعة عند صعود الإمام إلى المنبر إلى الفراغ من الخطبة والصلاة، وفي الثلث الأخير من الليل، ودعاء المظلوم، وفي حالة عمل الخير وعمل البر، وعقب ختم القرآن، فلكل ختمة دعوة مستجابة، ويوم عرفة، وليلة الجمعة، وليلة العيدين، وكل هذه مواطن يستجاب فيها الدعاء، ولكن المؤلف هنا أتى بما يتعلق بالأذان والإقامة.


الدعاء بعد الأذان
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) أخرجه الأربعة] .
هذا تتمة الحديث المتقدم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلو الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) ، فهنا يعطينا الصيغة التي بها نسأل الله الوسيلة له صلى الله عليه وسلم، (من قال حين يسمع الأذان) ، أي: وقال مثلما يقول المؤذن وصلى علي ثم قال: (اللهم! رب هذه الدعوة) ، الدعوة إلى الصلاة، أنت تدعو: حي على الصلاة والفلاح فهذه دعوة تامة.
(والصلاة القائمة) ، هذه الصلاة عماد الدين، ومكانتها عند الله عظيمة.
(آت محمداً) ، في هذا الحديث لفظ محمد مجرد عن السيادة، وبعض العلماء ينظر بعمق ويقول: نحن نسأل له، والمسئول له يجب أن يكون في مقام التواضع مع المسئول، فهل عندما نسأل له الوسيلة نسيده ونعظمه وهو سيد وعظيم أم أن المناسب للمقام -مع تكريم النبي صلى الله عليه وسلم- أن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (آت محمداً الوسيلة) ؟ المناسب الثاني، وحينما يكون المقام مقام تكريم وتعظيم فلا بأس بذكر السيادة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وسيد العالمين وسيد الثقلين أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.
لا مانع من ذلك لكن هنا: (آت محمداً الوسيلة) ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنها منزلة رفيعة في الجنة لا تنبغي إلا لشخص واحد، قال: (وأرجو أن أكون أنا هو) .
إذاً: هذه الصيغة التي نسأل الله له بها الوسيلة.
الدعوة التامة بكل أركانها، وتامة بكل تشريعاتها، لا نقص فيها أبداً، في هيئتها في أدائها في مهمتها، وما يعود على الإنسان منها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الدهر.
(الوسيلة) ، أي: تلك المنزلة الرفيعة.
(والمقام المحمود الذي وعدته) ، المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى حينما يعتذر عنها جميع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ويتقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشفع لهم عند رب العزة سبحانه، حتى يأتي لفصل القضاء، فتكون شفاعة شاملة للأمم مع أنبيائهم، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (حلت له شفاعتي) ، هذا وعد منه صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك استحق شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله حسن الختام بحسن ختام هذا الحديث الذي فيه إرهاص بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم جميعاً بشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.