شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصيام - باب
الاعتكاف وقيام رمضان [1]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، ففضل بعض الأنبياء على بعض، وفضل
بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمان على بعض، ومن تفضيل الأزمان تفضيل
بعض الشهور على غيرها، وتفضيل بعض الأيام على غيرها وكذلك بعض الليالي، ومن
الأزمان التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان، فجعل صيامه واجباً على
المسلمين، وأنزل فيه القرآن، وفيه العشر الأواخر وهي من الأيام والليالي
المفضلة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فمن وفقه الله لقيامها
إيماناً واحتساباً نال بذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.
فضل قيام رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد
بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم
من ذنبه) متفق عليه] .
قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) هذا جزء من حديث
طويل وفيه: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن
قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فأما ما يتعلق
بالصيام فقد تقدم، وبقي ما يتعلق بالقيام، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة:
(ولم يعزم علينا) .
قوله: (من قام) ، (من) هنا شرطية تفيد العموم، والمراد بهذا القيام: القيام
في الصلاة، والصلاة في رمضان مختصة بالليل كما أن الصوم في رمضان مختص
بالنهار، وقيام رمضان ليس بفريضة ولا بواجب ولكنه سنة مؤكدة وهو آكد من سنة
الاعتكاف؛ لأن قيام رمضان أو ما يسمى التراويح في الآونة الأخيرة أصبح شعار
الأمة في صيامها، ولهذا لا ينبغي تعطيل المساجد من قيام الليل في رمضان،
سواء سمينا ذلك قياماً كما هو الاسم الشرعي الأساسي أو سميناه تراويحاً؛
واسم التراويح طارئ عليه، وسببه: أنهم كانوا يصلون ويطيلون القيام إلى الحد
الذي يتعبون منه، فيجلسون بين كل تسليمتين من أجل أن يستريحوا، فسمي هذا
الجلوس ترويحاً بدل استراحات؛ أي: أنه تراويح بين كل صلاة وصلاة، أو بين كل
ركعتين وركعتين.
حكم قيام رمضان
وقيام رمضان من حيث هو جاء في عموم قيام الليل طيلة السنة كما في قوله صلى
الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل الأول، ومن
صلى الفجر في جماعة فكأنما قام النصف الثاني) ، فأقل درجات قيام الليل
القيام المطلق أن يصلي الإنسان العشاء في جماعة، والفجر في جماعة، ثم ما
زاد بعد ذلك فهو نافلة وزيادة، ثم أصبح القيام معروفاً باختصاصه برمضان،
وأول من بدأ قيام رمضان هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء: (أنه صلى
ليلة ثلاثٍ وعشرين، فشعر بعض الناس الذين في المسجد بصلاته فصلوا معه، وفي
الليلة التي بعدها علم بعض الناس فاجتمعوا، فصلى رسول الله فصلوا بصلاته
أيضاً، وفي الليلة الثالثة عم الخبر المدينة، ولما صلوا العشاء جلسوا
ينتظرون ولم يرجع أحد إلى بيته، فنظر صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج
ليصلي كالعادة فإذا بالمسجد مليء بالناس، فقال: يا عائشة! ما بال الناس
جلوس؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكنهم تسامعوا بمن صلى خلفك فهم
ينتظرون أن تخرج لتصلي فيصلون بصلاتك، فقال: اطوي عنا حصيرك، ولم يخرج تلك
الليلة، فانتظروا وحصبوا الباب بحصباء المسجد فلم يخرج إليهم حتى الصباح،
ولما خرج لصلاة الصبح، قال: والله! ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما بت بحمد
الله غافلاً؛ ولكني كرهت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فتعجزون) ، وهذا من
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة، كما جاء عنه في عدة مواضع: (لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بكذا) .
عمر رضي الله عنه
أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد
بعد أن انتهى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان الناس كل واحد يصلي لنفسه
على ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من قام رمضان ... ) فكان كل واحد
يقوم بقدر استطاعته، وليس هناك تحديد عدد ولا نوعية ولا توحيد إمام، ومضى
على ذلك عهد أبي بكر رضي تعالى الله عنه، وكان مشغولاً بقتال أهل الردة،
وبتثبيت الدعوة، إلى غير ذلك، وكانت خلافته سنتين فقط، ولم يحدث جديداً،
لكن ثبت في عهده أنهم كانوا يصلون الليل في رمضان ويطيلون القيام لأنفسهم
حتى يتكئون على العصي، ويرجعون من المسجد إلى البيوت يحثون الخدم على
التعجيل بالسحور خشية الفلاح، يعني: الفجر.
ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه فرأى الناس يصلون أوزاعاً -جماعات- يصلي
كل مجموعة خلف من عنده قرآن، وكانوا يتتبعون حسن الصوت ويصلون خلفه، فلما
رآهم أوزاعاً متفرقين -وهذه ليست صفة المسلمين، فالإسلام جاء ليجمّع الناس
ويوحدهم، وهؤلاء تفرقوا فرقاً وأوزاعاً- قال: أرى أني لو جمعتهم على إمام
واحد لكان خيراً، فجمعهم على أبي بن كعب، وصاروا جماعةً واحدة، وجعل معه
شخصاً آخر حتى يتناوبا، وجعل إماماً خاصاً للنساء أعجل منهما؛ كي ترجع
النسوة إلى بيوتهن بسرعة.
عدد الركعات في صلاة
التراويح
جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن يقرأ في الركعة
بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين آيةً، ومن كان متوسطاً
أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة
فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً، واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة
الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي
أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر، عثمان، علي رضي
الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة الموجودين
بالمدينة.
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن عبد العزيز، فزيد فيها ستة عشر
ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين
الركعتين فكان النشيط منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة
الطواف ركعتين، فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا
المنافسة فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات،
وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون مجموع
الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين الخمس ترويحات أربع
استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف وركعتي الطواف، فنعادل
الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت أربعاً في أربع ترويحات
والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة،
واستمرت على ذلك إلى القرن الخامس الهجري.
ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى
الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل
السياسة فألغى الست عشرة ركعة، وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن
يجعلها عشرين ولكن لوجود المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل
العشرين في أول الليل مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم
القيام، وأصبحت التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست
عشرة ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً،
وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً للعمل،
واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر ركعات في آخره.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة
أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي
تنامون عنها خير منها، أي: أن صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور
تلك الجماعة؛ لأنه إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون
هناك رحمات تتنزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة.
ثم أجمع العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو
بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن يكون عمله
في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه لنفسه؛ لأننا
أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل ويعيبونه ويقولون: هي ثمان
ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، ولكنها
رضي الله تعالى عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) فقد كان
يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، أما الذين
يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة حتى سورة تبارك
التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق
بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول،
وإذا صليتم على تلك الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على
ذلك في رمضان وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى
رمضان وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا
كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في
بعض الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي إلى
ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى ثلثي الليل، حتى
قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: ما دام أننا صلينا إلى
الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .
الرد على من يقول:
إن التراويح بدعة عمرية
فهذه الصورة الموجودة الآن على ما هي عليه لا ينكر عليها، فإذا قصرت بإنسان
همته أو نشاطه أو طرأ عليه عذر ما فهذا أمر شخصي ولا ينبغي أن يجعل مقياساً
للآخرين ولا أن يعترض على الآخرين، ويقول: هذه بدعة عمر -أعوذ بالله- هي
بدعة لغوية وليست بدعةً شرعيةً؛ لأن البدعة في اللغة: هي الابتداع
والابتكار على غير مثال سابق على حد قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، يعني: ابتدع خلقتها وهيئتها، فهذا الجرم العظيم
الذي لا يحده النظر والذي يحيط بالعالم كالقبة لم يكن له مثال قبل هذا.
إذاً: لما قال: نعمت، عرفنا بأنها ممدوحة، ولما قال: البدعة، عرفنا أنها
اللغوية، وكيف يقره علي وعثمان وجميع الصحابة على شيء مبتدع؟! أنا أقول: إن
الذي يقول: هذا بدعة عمر يؤدب؛ لأنه ينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما هو
منه براء، فـ عمر الذي كان الشيطان يفر من طريقه، ووافق القرآن في عدة
مواطن هو أبعد الناس عن الابتداع في دين الله.
إذاً: هذا العمل الذي أقره عليه سلف الأمة من شاء أخذ به بحذافيره ومن شاء
أخذ به بقدر طاقته، ولكن كما أشرنا لا يدعو إلى قوله ولا يعيب على غيره،
ولكن بقدر طاقته وما تيسر له.
أيهما أفضل صلاة
التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟
إذاً: من قام رمضان، بما تيسر له، سواءً مع الإمام في المسجد، أو مع نفسه
في بيته، أو مع أهله كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول: الذي يكون حافظاً
ماهراً في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته فهو أفضل ما لم تعطل المساجد
من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعة
هي التراويح.
شرط الإيمان
والاحتساب في قيام رمضان
قوله: (من قام رمضان) ، بهذا القيد: (إيماناً واحتساباً) ، إيماناً بالله،
وإيماناً بثوابها، وإيماناً بسنيتها.
قوله: (واحتساباً) ، الاحتساب والحساب هو: العد، أي: تحتسبها عند الله،
وتعدها من أعمال الخير التي استودعتها أمانة عند الله، لا أن تكون لنشاط
ورياضة ولا أن يكون الشخص شبعان ويريد أن يهضم، ولا عنده مصلحة وجاء إلى
المسجد من أجلها، ولا أن يكون قد اتفق مع جماعة للحضور ولا يريد أن يتخلف
عنهم، فمن عمل لذلك فليس محتسباً، ولكن عليه أن يقوم رمضان إيماناً بوعد
الله، وإيماناً بسنة رسول الله، واحتساب عملها وأجرها عند الله.
الذنوب التي تغفر
بقيام رمضان
وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) نجد العلماء رحمهم الله يقفون عند قوله:
(غفر له ما) ، و (ما) هنا هي للعموم سواءً كانت صيغة إجمال أو كانت موصولة،
غفر له الذي تقدم من ذنبه، وهذا الذي تقدم قد تكون فيه كبيرة وقد تكون فيه
صغيرة، وبعض العلماء يقول: غفر له ما تقدم من ذنبه من الصغائر، وأكثرهم
يقولون: غفر له ما تقدم من صغائر وكبائر؛ لأن الصغائر قد قال الله عنها:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبدون أعمال
أخرى، إذاً: الحديث مطلق، وكما قال بعض العلماء: أحاديث الوعد والوعيد
ينبغي ألا تفسر بل تؤخذ على منطوقها، والله تعالى أعلم.
فضل العشر الأواخر
من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا دخل العشر -إي العشر الأخيرة من رمضان- شد مئزره، وأحيا
ليله، وأيقظ أهله) ، متفق عليه] .
هذه الصورة التي تصفها لنا عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان: (كان إذا دخل العشر شد مئزره
وأحيا ليله، وأيقظ أهله) ما معنى هذا في العشر دون العشرين الأول؟ قال
العلماء: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ولكن اجتهاده في العشر
الأواخر من رمضان أكثر من اجتهاده في بقية رمضان.
ويعزون السبب في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوائل، ثم
اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأخيرة، وبين صلى الله عليه وسلم:
(أنه أول ما اعتكف إنما كان يترقب ليلة القدر أن توافيه وهو منقطع فيها إلى
الله، فلما اعتكف العشر الأوائل في سنة أتي فأخبر بأن الذي ترجوه أمامك
-يعني: ليس في العشر الأوائل- وفي السنة الثانية اعتكف العشر الوسطى، ثم
أتي فقيل له: إن الذي ترجوه أمامك، فنظر إلى الناس من خبائه وقال: من كان
اعتكف معي فليظل في معتكفه فإني معتكف العشر الأواخر) ، واعتكف العشر
الأواخر وظل يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله.
فكان حينما تأتي العشر يجدد النشاط ويشتد فيه وأول شيء: (شد مئزره) ،
والمئزر معروف وهو: ما يكون في وسط الرجل من السرة إلى أسفل.
وقوله: (شد مئزره) هل معناه: أنه اعتزل النساء؟ أو أن معناه أنه شد حزامه
كناية عن النشاط كما تقول: يا فلان! شد حيلك وشد حزامك؟ وكما قيل أيضاً:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد! تورد الإبل أي: أنه أورد الإبل
والشملة على كتفه وهو غير مبال بها، وإيراد الإبل يحتاج إلى شد الحزام وإلى
النشاط وإلى التشمير، والمراد شمر عن ساعديك يا سعد! فما هو المراد بشد
المئزر؟ قال بعضهم قولها: (شد مئزره) ، هو كناية عن العزم وتجديد القوة في
العشر الأواخر، وهناك من يقول: (شد مئزره) ، أي: أنه تجنب النساء، ويؤيد
هذا المعنى قولها: (وطوى فراشه) ، يعني: ليس هناك نوم في الفراش.
قولها: (وأيقظ أهله) ، إيقاظ الأهل رغبة في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم
في بادئ الأمر يوقظ أهله ليلة سبع وعشرين ويأمرهن بالاغتسال تهيئاً وتأهباً
لليلة القدر على أنها في ليلة سبع وعشرين.
إذاً: تبين لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهده فيما قبلها.
ونحن نقول: هي عشر ليالٍ وتنتهي فهل يعجز الواحد منا أن يجتهد في هذه
العشر؟ السنة كلها (360) يوماً أيعجز فيها الإنسان عن عشرة أيام؟ لو قيل
له: في كل ليلة من الليالي العشر لك عشرة آلاف ريال، فهل سينام؟ لن ينام،
بل سيقف على ثلاث أصابع ويمد يديه إلى الله.
المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في غير رمضان حتى تتفطر قدماه،
فلما يأتي إلى العشر الأواخر في رمضان يجتهد أكثر مما كان يجتهد في غيرها،
فمن منا قد قام حتى تفطرت قدماه؟ من ومن منا يحيي الليل كما كان يحييه صلى
الله عليه وسلم؟ منا عمل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}
[الإسراء:79] ؟ فهو صلى الله عليه وسلم مع ما وُعد به من المولى عز وجل؛
وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل، ولما سئل قال: (أفلا أكون
عبداً شكوراً) ، ثم يأتي إلى العشر الأواخر: (ويشد مئزره، ويطوي فراشه،
ويوقظ أهله) ، ونحن طيلة السنة نحل الإزار ونمد الفراش وننام نوماً عميقاً
وبعض الناس في رمضان ليلهم نهار ونهارهم ليل، فإذا جاءت هذه الفرصة في حياة
الإنسان ولم ينتهزها، فإن هذا من التفريط، ولكن أقول: التوفيق بيد الله،
نحن لا نملك إلا أن نتوجه إلى المولى العلي القدير أن يوفقنا وأن يعيننا
وأن يسددنا وأن يرزقنا خير هذه الأيام المباركة، وإلا فالعاجز والكسلان
يضيع نفسه، وكما جاء في الحديث: (من حرمها فقد حرم الخير كله) .
نسأل الله سبحانه أن يجنبنا الكسل وأن يعطينا القوة والعافية، وأن يوفقنا
ويسدد خطانا، فمهما كان عند الإنسان من عمل فهو يقدر أن يؤجله، ويقدر على
أن يرجع إليه مرة أخرى، ويقدر على أن يسنده إلى غيره، فلا يفوت على نفسه
هذه الفضيلة.
إذاً: هذا من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بيان لحال النبي صلى
الله عليه وسلم، فينبغي علينا وأخص طلبة العلم أن ننقطع للعبادة في هذه
العشر، فنحن بخلاف طلبة الدنيا فقد يكون الواحد منهم مضطراً لأن يدير
تجارته، ومضطراً لأن يوالي بضاعته، أو أن هذا عنده موسم دنيا، ولكن نقول
له: أيضاً لا ينبغي أن يحرم نفسه، ولا أن يجعل كل همه في تجارته وصناعته
وزراعته، بل يعطي نفسه ولو عشرة أيام في السنة كلها.
الاعتكاف في العشر
الأواخر من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه
من بعده) ، متفق عليه] .
تخبر رضي الله تعالى عنها في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (كان
يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله) وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم العشر
الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ولكن لم يكررها، ثم اعتكف العشر الأخيرة
وداوم عليها حتى توفاه الله، ثم تقول رضي الله تعالى عنها: (ثم اعتكف
أزواجه من بعده) وسيأتي أن بعض زوجاته أردن أن يعتكفن معه ولكنه منعهن من
ذلك، ثم كن يعتكفن من بعده.
إذاً: ليس الاعتكاف خاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً به
صلى الله عليه وسلم، بل له وللأمة كلها، ونقل عن مالك أنه قال: تأملت في
هذا الأمر فما وجدت كثيراً من الصحابة يعتكفون فنظرت فإذا هو عندي كالوصال.
ولكن الذي يهمنا هنا أن الاعتكاف مسنون، وسنيته باقية ودائمة لم يعترها نسخ
ولا تعطيل، واعتكاف أزاوجه رضي الله تعالى عنهن من بعده هذا عمل خير لهن؛
ولأن المسجد ليس بعيداً عنهن، وسيأتي بيان صحة اعتكاف المرأة في أي مسجد
ولو في مسجد بيتها على ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
متى يبدأ وقت
الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) ، متفق عليه] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف إذا صلى الغداة
دخل معتكفه) ، وهذا عند العلماء فيه بيان لأول وقت يدخل فيه المعتكف محل
اعتكافه.
وهنا تقول: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: إنه صلى الله عليه وسلم كان
يدخل معتكفه إذا صلى الغداة، والغداة: الصبح، وفي هذا الحديث نص على أن
الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الاعتكاف يوماً فأكثر يبدأ زمن
اعتكافه من بعد صلاة الصبح، وهذا قول سفيان الثوري وغيره.
وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله فإنهم يقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف يوماً
فأكثر فينبغي أن يدخل معتكفه قبل أن تغرب شمس ليلة اليوم الأول، فمثلاً:
إذا أراد الإنسان أن يعتكف وأول اعتكافه يوم السبت، فإنه يدخل معتكفه آخر
النهار من يوم الجمعة قبل أن تغرب الشمس وتدخل ليلة السبت، هذا ما عليه
الأئمة الأربعة، ويذكره علماء الحديث والفقهاء وغيرهم.
وكيف يجيبون على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح) ، وهناك فرق بين
الدخول بعد صلاة الصبح وبين الدخول قبل غروب الشمس؟ يجيب الأئمة رحمهم
الله: بأن الليلة تابعة لليوم، فإذا نوى أو أراد أو نذر الاعتكاف في يوم
السبت فعليه أن يضم الليل مع النهار، ولا يتأتى ضم الليل مع النهار إلا إذا
دخل المعتكف قبل أن تغرب الشمس بقليل، ويقولون: إن حديث عائشة رضي الله
تعالى عنها يفسر على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وليس في
بيته، ودخوله معتكفه بعد أن يصلي الغداة تريد المكان الذي حدده للاعتكاف
فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير خلف اسطوانة التوبة ليعتكف
ويستريح عليه، وربما ضربت له خيمة على سريره ليستتر به عن الناس، فيكون
مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بدخوله معتكفه المكان المحدد
المخصوص له صلى الله عليه وسلم لا عموم المسجد.
ونحن نعلم جميعاً أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقوله: (ولا اعتكاف
إلا في مسجد جامع) على خلاف سيأتي المؤلف ويشير إليه فيما بعد.
إذاً: متى يدخل المعتكف معتكفه؟ الحديث الذي عندنا فيه أنه بعد صلاة
الغداة، ورأي الأئمة الأربعة باتفاقهم على: أنه قبل غروب الشمس، ولكون
الأئمة رحمهم الله قد اتفقوا على ذلك فلا يمكن أن نلغي اتفاقهم، ولكن ننظر
ما هو تخريجهم وتوجيههم للحديث؟ وجهوا الحديث وقالوا: إن المراد بقولها:
(معتكفه) أي: المكان المعد المخصص له دون عموم المسجد، والله تعالى أعلم.
أقل حد للاعتكاف
وأكثره
وأما قول من يقول: إن الاعتكاف لا حد لأقله، ففي هذه المسألة خلاف: فهناك
من يقول: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، وهذا القول مروي عن مالك رحمه الله.
وهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة، وهذا القول منقول عن الإمام
أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن أحمد.
وهناك من يقول: لا حد لأقله فيصح ولو نصف ساعة ولو ربع ساعة وهذا قول
الشافعي رحمه الله، وإن كان الأفضل عنده: ألا يقل عن يوم وليلة.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: كنت أدخل المسجد لا لصلاة ولا لشيء ولا
لأجلس وإنما للاعتكاف، يعني: أنه كالمار، وقالوا: إن ذلك يشبه الوقوف
بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة مكث في مكان معين، ويجزئ الحاج أن يقف بعرفة ولو
ساعة، حتى بالغ البعض وقال: ولو مروراً بها من شرقها إلى غربها، وهو يعلم
أنها عرفة، والبعض قال: ولو لم يعلم.
فقالوا: إن الوقوف بعرفة هو عبارة عن مكث في مكان معين في زمن محدود،
فقالوا: وكذلك الاعتكاف هو عبارة عن مكث في مكان معين لعبادة فلا يتقيد
بزمن كما أن الوقوف بعرفة لا يتقيد بزمن، مع أنهم يقولون في عرفة: من أمكنه
الجمع بين ليل ونهار فترك ذلك فعليه دم مع صحة حجه؛ لأنه ترك واجباً، ولو
أن مريضاً بالمستشفى كان محرماً بالحج فأخذوه في سيارة ووصلوا به إلى عرفات
ثم ردوه إلى المستشفى في وقته فإنه يكون قد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة.
إذاً: مدة الاعتكاف يختلفون في أقلها ولا يختلفون في أكثرها، فله أن يعتكف
شهراً أو شهرين أو أكثر، وسيأتي عند بحث الصوم أن الذين قالوا: لا حد
لأقله، يستدلون بقصة عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنت نذرت اعتكاف
ليلة عند الكعبة في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:
أوفِ بنذرك) ، قيل: كان هذا السؤال في الجعرانة عند رجوعهم من الطائف.
فكونه يعتكف ليلة والليلة ليست يوماً كاملاً، وذكر ابن حجر في فتح الباري
أن هناك من يروي (يوماً) فيقول: عمر كان نذر يوماً، ومن روى (ليلة) فأراد
مع نهارها، ومن روى (يوماً) أراد النهار مع الليل، ولكن رواية: (نذرت أن
أعتكف يوماً) يقول: إنها شاذة، والمحفوظ: (نذرت اعتكاف ليلة) ، فقال
الشافعي رحمه الله: الليلة ليست يوماً كاملاً، والليل ليس موضع صيام فليس
الصوم شرطاً في الاعتكاف.
إذاً: نحن في مبحث متى يدخل المعتكف معتكفه؟ فإن كان زمن اعتكافه يوماً
فأكثر فعلى ما تقدم، فرأي الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنه يدخل معتكفه قبل
غروب شمس اليوم الذي قبله، والحديث محمول على أن المراد بمعتكفه المكان
الذي كان صلى الله عليه وسلم يخصصه لجلوسه ونومه واعتكافه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
والحمد لله رب العالمين.
كتاب الصيام - باب
الاعتكاف وقيام رمضان [2]
جعل الله عز وجل مواسم للخير في كل السنة، من أجل مضاعفة الحسنات وتكفير
السيئات، وتجديد النشاط والهمة عند الإنسان، ومن تلك المواسم العشر الأواخر
من رمضان، فقد حث الشرع ورغب في الاعتكاف فيها والتفرغ لعبادة الله سبحانه
وتعالى، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التفرغ المطلق
للعبادة والقيام فيها تحرياً لليلة القدر التي تأتي في إحدى ليالي هذه
العشر.
ما يجوز للمعتكف وما
يحرم عليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا
يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
في هذا الحديث الثاني تقول لنا رضي الله تعالى عنها: (إن كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ليدني -أو ليدخل- عليَّ رأسه فأرجله) ،
زاد البخاري في رواية هذا الحديث: (وأنا حائض) ، وللعلماء هنا مباحث عديدة
تحت هذا الحديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ) ، فأين
كانت رضي الله عنها؟ الجواب: أنها كانت في حجرتها، وبين الحجرة وبين المسجد
فتحة الباب التي في الجدار، إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يستلقي بجسده
الشريف في المسجد موضع الاعتكاف ويخرج رأسه عن المسجد إلى الحجرة وتتولى أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ترجيل شعره، والترجيل هو المسمى الآن
بالتسريح وهو: تطييب الشعر وتنظيفه.
وبوب البخاري مرة أخرى على هذا الحديث (باب غسل المعتكف رأسه) ، ومن مباحث
هذا الحديث: أن للمعتكف أن يرجل شعره، وقاسوا على الترجيل الطيب والزينة،
وقاسوا على ذلك حاجته في غير الضرورة ما دام في المسجد.
حكم مباشرة المعتكف
لزوجته
وأخذوا من هذا الحديث أيضاً: جواز مباشرة المعتكف لزوجه حال اعتكافه،
وأجابوا عن الآية الكريمة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فقالوا: المباشرة الواردة في الآية
والمنهي عنها هي الجماع، أما المباشرة الجائزة فكما في فعل عائشة،
والمباشرة مأخوذة من البشرة وهي الجلد لمباشرته الهواء والفضاء، والمباشرة
هي: ملامسة البشرة للبشرة، ولذا سمي بنو آدم بشراً؛ لأن بشرتهم وهي الجلدة
مكشوفة بخلاف الطيور والحيوانات فإنها مكسوة، إما بالريش في الطيور، وأما
بالشعر والصوف في الحيوانات.
فهنا قالوا: المباشرة المنهي عنها في الآية الكريمة إنما هي الجماع، كما
جاء في أول الآية: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: من الولد.
فالمباشرة تطلق بالمعنى الأعم وهو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، وبالمعنى
الأخص وهو الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن ربكم حيي
كريم يكني ولا يصرح، ففي قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]
كناية، وهي كناية لطيفة، وكذلك في آخر الآية: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] يعني: إذا كان أحدكم
معتكفاً وخرج إلى بيته لحاجة فلقي أهله فلا يباشرها وإن كان في البيت
وليلاً؛ لأنه معتكف ومنقطع إلى الله سبحانه وتعالى.
فقال العلماء: المباشرة التي هي دون الجماع جائزة للمعتكف؛ لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم أمكن عائشة من أن تباشر ترجيل شعره، ومعلوم أن مجرد ترجيل
الشعر ليس خاصاً بهذه الأسلاك الناعمة التي لا تسري فيها حرارة، بل لابد أن
تمس جلدة الرأس، ولابد أن تمس جانباً من الوجه، ولابد أن تمس جزءاً من
الرقبة، فهذه مباشرة لا مانع للمعتكف من فعلها، وأيضاً كون المرأة حائضاً
لا يمنع من أن تخدم زوجها، ولو كان متلبساً بالعبادة.
حكم خروج المعتكف
إلى بيته لحاجة
قوله: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) .
في قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) جاء عند البخاري ومسلم زيادة
وهي: (لحاجة الإنسان) ، وهذه كناية أيضاً؛ لأن حاجة الإنسان من الأمر الذي
لا يستغني عنه قط، وهي حاجة الحيوان أيضاً، وقد فسرها سفيان الثوري: بالبول
والغائط، فكان صلى الله عليه وسلم إذا كان في معتكفه لا يدخل البيت إلا
للضرورة.
وهنا قال العلماء: إذا دعت الظروف لحاجة أخرى سوى الضرورية التي هي البول
والغائط فيجوز أن يدخل المعتكف البيت، كما لو احتاج إلى التداوي، أو احتاج
إلى حجامة، أو احتاج إلى فصد، والحجامة لا تتأتى في المسجد مخافة من تلويثه
بالدم، وكذلك الفصد وكذلك التداوي، فإذا كانت هناك ضرورة تقتضي دخوله البيت
دخل للضرورة، وإذا دخل للضرورة امتنع عليه الذي يمتنع على المعتكف من
المباشرة التي هي الجماع.
قوله: (وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان) الرسول صلى الله عليه وسلم
كان بيته في المسجد، ففرع الأئمة رحمهم الله على ذلك وقالوا: لو كان
للإنسان بيتان: بيت قريب من المسجد، وبيت بعيد عنه، وكلاهما له فيه زوجة
وأهل، فهل يحق له أن يعمد إلى البيت البعيد ويطيل المسافة والزمن بعداً عن
معتكفه، أو يتعين عليه أن يقضي حاجته في البيت القريب؟ ومثله إذا كان له
صديق وبيته بجوار المسجد وأذن له صديقه أن يقضي حاجته عنده، فهل يلزمه أن
يقضي حاجته في بيت صديقه القريب لقربه أو لا؟ أما بيت صديقه فيتفقون على
أنه لا يلزمه؛ لأن الإنسان قد يستحي في هذه الحالة، ولا يأخذ راحته كاملةً
إلا في بيته.
أما البيت البعيد والقريب فإن الجمهور على أنهما سواء، ولكن الأولى والأفضل
أن يختار الأقرب اختصاراً للوقت وتقليلاً لبعده وانقطاعه عن محل معتكفه.
وهكذا الآن في الوقت الحاضر توجد محلات المياضي حول المسجد، فإذا كانت هذه
المياضي عامة، ويمكنه أن يقضي حاجته فيها بالقدر الذي يقضيه في بيته
فالأولى أن يقضي حاجته فيها، فإن كان يستحي أن يقف لينتظر محلاً يخلو، أو
إذا دخل يتحفظ من صوت أو ريح، فليس بلازم عليه أن يقتصر على هذه القريبة،
وله الحق في أن يذهب إلى بيته ليقضي حاجته على راحته.
حكم خروج المعتكف
للأكل والشرب وغسل الجنابة
ومما تدعوا إليه الحاجة وهو من الضروريات الأكل والشرب، فهل للمعتكف أن
يخرج إلى بيته وقت الطعام فيأكل ويرجع؟ يقول بعضهم: لا يخرج، ويؤتى إليه
بطعامه، إلا إذا لم يكن عنده من يأتي له به فيذهب ليأكل ويرجع، وهل له أن
يجلس حتى ينتهي من توابع الأكل والشرب؟ قالوا: لا، هو ممنوع عليه، كما قال
بعضهم، بل يقضي حاجته في بيته ويأتي يتوضأ في المسجد؛ حتى لا يمكث في البيت
كثيراً، وذلك حينما كان المسجد تراباً وماء الوضوء لا يعفن المسجد، أي: إذا
أمكن ذلك ولم يضر المصلين ولم يضر المسجد.
وفترة قضاء الحاجة وفترة الوضوء أمور نسبية بسيطة فيقضي المعتكف حاجته
ويتوضأ ولا شيء عليه.
ولو أنه احتلم في معتكفه -وهذا أمر يجري على الإنسان- فلا يضر اعتكافه كما
لا يضر صومه، وعليه أن يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأن الاغتسال ضرورةً من أجل
رفع الحدث لصومه ولصلاته.
مسائل تتعلق
بالمعتكف
قال المصنف رحمه الله: [وعنها قالت: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً،
ولا يشهد جنازة، ولا يمس إمرأةً، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد
له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) ، رواه أبو
داود، ولا بأس برجاله، إلا أن الراجح وقف آخره] .
هذا الأثر ساقت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها العديد من
المسائل التي تتعلق بالاعتكاف، ولكن علماء الحديث والنقد يقولون: ليس كل ما
جاء عنها في هذا الأثر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في
هذا الأثر قالت: من السنة.
والسنة لا تكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعض العلماء
يقول: لم يأتِ في هذا الحديث في بعض الروايات كلمة من السنة، وإنما فيه:
(المعتكف لا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازةً وو إلى آخره) ، وقالوا: إن
الحديث في آخره إدراج، وسنأتي عليه جملة جملة؛ لأن كل جملة لها أحكامها،
وفيها مباحث إما اتفاقية وإما خلافية.
فقولها رضي الله تعالى عنها: (من السنة) ، إذا أطلق الصحابي أو التابعي
كلمة من السنة فهو أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي يملك
أن يسن للناس.
حكم عيادة المعتكف
للمريض
قولها: (أن لا يعود مريضاً) .
لا يعود المعتكف مريضاً، فإذا كان جالساً في معتكفه وجاءه إنسان وقال:
صديقك فلان مريض فلا يخرج من معتكفه، ولا يقطع اعتكافه لزيارة المريض، حتى
بالغ بعضهم وقال: ولو كان المريض أباه.
وأما الشافعي رحمه الله فيقول: إن كان قد اشترط عند دخوله المعتكف أن يعود
مريضاً، وأن يشهد جنازة فله ذلك، واعترض عليه الآخرون بأن المعتكف منقطع من
هذا كله، وقد جاء عنها رضي الله عنها أنها كانت تخرج إلى بيتها وتمر
بالمريض في بيته فتسأل: كيف هو؟ وهي مارة لا تقف، وكذلك تنقل لنا عن النبي
صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يمر بالمريض في بيته فيسأل عنه ولا يدخل
لعيادته) .
إذاً: زيارة المعتكف للمريض الجمهور على منعها وقالوا: يبقى في معتكفه فإن
خرج لزيارته انقطع اعتكافه، فإن كان اعتكافه نافلة وتطوعاً فلا شيء عليه،
ويستأنف من جديد، وإن كان نذراً فإنه يستأنف ويعتبر هذا اليوم غير صحيح،
وعليه أن يبدأ اعتكافاً آخر بدل هذا اليوم.
حكم حضور المعتكف
للجنازة
قولها: (ولا يشهد جنازة) .
وشهود الجنائز في السابق كان له وضع آخر، يقول أبو سعيد الخدري: لما قدم
صلى الله عليه وسلم المدينة وكان المهاجرون محصورين فكان الرجل إذا مرض في
المدينة وهو من المهاجرين أو من الأنصار فإذا كان في حالة النزع، آذنوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب معهم إلى بيته ليحضره، فإذا مات
جهزوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيعوه، فلما كثر الحال كذلك
والشخص قد يحتضر في الليل، في أوله أو في آخره، فاجتمعوا وقالوا: لقد
أشفقنا على رسول الله في أن نؤاذنه في كل موتانا، فالأولى أننا ننتظر
المريض حتى يموت فنجهزه ونحمله إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي
عليه، واتفقوا على ذلك وأعدوا المكان لذلك وهو الموجود الآن ما بين باب
جبريل وباب البقيع، هذا السور الصغير ويسمى مصلى الجنائز، والشارع الذي كان
في قبلي المسجد يسمى درب الجنائز، فكانوا يأتون بالجنازة ويضعونها في هذا
المكان المستطيل، ويؤذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم به فيخرج فيصلي
عليه، وربما صلى عليه أحياناً في المسجد.
فكان المعتكف لا يشهد جنازة؛ لأنه كان يصلى عليها خارج المسجد بجواره،
والمعتكف معتكف في المسجد فكان لا يشهدها بمعنى: لا يحضرها ولا يشيعها ولا
يصلي عليها؛ لأنه مشغول في معتكفه.
حكم مس المعتكف
للمرأة
قولها: (ولا يمس امرأة) .
كيف لا يمس المعتكف امرأة وعائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ المراد لا يمسها لحاجة المس، أي: لا يقصد مسها.
قولها: (ولا يباشرها) .
وكذلك لا يباشرها لا بقبلة ولا بمقدمات الوطء.
حكم تصريف المعتكف
لعمله وهو في المسجد
قولها: (ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه) .
ولا يخرج من معتكفه لحاجة إلا لما لابد له منه، وهو كما يعبر عنه بقضاء
حاجة الإنسان، وهنا يبحث بعض العلماء والفقهاء في مسألة وهي: إذا كان هناك
إنسان له ضيعة بساتين، أو له تجارة وعنده غلمان يعملون له، وهو الذي
يديرها، فهل يجوز له أن يديرها ويشير بما يراه، ويأمرهم أن افعلوا كذا وكذا
وهو في معتكفه أم لا؟ الجمهور يجيزون ذلك؛ لأن فيه حفظ ماله وليس فيه طول
اشتغال.
ويبحثون في مسألة أخرى وهي: إذا كان هناك إنسان معتكف وليس عنده مصدر للأكل
والشرب إلا من صنعة يديه، كأن يكون خياطاً يخيط الثياب، أو وراقاً ينسخ
الكتب والأوراق، أو يعمل أي شيء من العمل اليدوي، فهل يجوز له أن يعتكف
ويزاول ما يمكن أن يعيش به وهو في معتكفه أو أنه لا يصح له اعتكاف مع هذا
العمل.
نجد كثيراً من العلماء يقولون: إن توقفت معيشته على صنعة يده وكانت الصنعة
لا تتنافى مع حرمة المسجد، كالحدادة التي فيها دق بالمطارق وأصوات ونفخ
كير، ولا كالدباغة؛ لأن فيها روائح غير مقبولة، قالوا: فإن كان عمله لا
يؤثر على حرمة المسجد ولا يؤذي المصلين ولا يضيق عليهم فلا مانع؛ لأنه لا
يمنع من فعل الخير، فهذا لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان.
حكم الاعتكاف من غير
صوم، وصفة المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف
قولها: (ولا اعتكاف إلا بصوم) .
ولا اعتكاف إلا بصوم، يقول علماء الحديث: (ولا يخرج إلى البيت إلا لما لا
بد له منه) هذا نهاية ما قالت في أول الأمر: من السنة، وما بعدها إنما هو
ممن أضافه بعد ذلك إلى الحديث، وهو: (ولا اعتكاف إلا بصوم) وما بعده، فكثير
من علماء الحديث يقولون: هذا ليس مما جاءت به السنة؛ لأن الصوم مع الاعتكاف
موضع خلاف، ولكن على هذا النص: (لا اعتكاف إلا بصوم) اختلف العلماء هل
الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟ فـ مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد المشهور
عنهم أنهم يقولون: لابد للمعتكف من الصوم، وأما غيرهم فيقولون: لا يشترط
لما جاء من قول النبي لـ عمر عند أن قال له الرسول: (أوف بنذرك) ونذره كان
بالليل، وإذا أراد أن يوفيه فسيوفيه بالليل، والليل ليس موضع صيام، فهذا
يدل على أن الصوم ليس بشرط.
والشافعي رحمه الله لا يشترط الصوم مع أنه يستحبه، قال: يستحب له أن يكون
صائماً ولكن ليس بشرط في صحته، والجمهور يقولون: الرسول لم يعتكف إلا
صائماً في رمضان، قالوا: اعتكف في شوال -كما في قصة الأخبية على ما سيأتي-
العشر الأول، ومن العشر الأول يوم العيد ويوم العيد ليس بيوم صوم.
فقالوا: إنه لم يعتكف إلا بصوم وفي المسجد النبوي، فقال النووي رحمه الله:
نعم هو اعتكف في رمضان صائماً، فهل صومه في رمضان وهو معتكف كان لرمضان أو
للاعتكاف؟ فإن قلتم: كان صومه لرمضان فلا دخل للاعتكاف في صومه، وإن قلتم:
كان صومه للاعتكاف ضيعتم عليه صوم رمضان.
إذاً: يتعين في هذه الحالة أن يكون الصوم لرمضان وصادف أن جمع معه
الاعتكاف، ولهذا فإن الصحيح الراجح أن الاعتكاف يصح بدون صوم، ولكن كما قال
الشافعي: الأفضل أن يكون المعتكف صائماً؛ لأنه أدعى إلى خلو نفسه وإلى صفاء
روحه، والصوم يساعده على العبادة أكثر.
قولها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) .
ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع هذه الجملة يتفق عليها الجمهور، بمعنى: أن لا
يكون الاعتكاف في بستان، ولا يكون الاعتكاف في خيمة في مكان ما، بل لابد
للمعتكف أن يكون اعتكافه في مسجد، والمسجد يقول هنا: مسجد جامع يعني: أنه
تصلى فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة، فأما بالنسبة للجمعة فيقولون: إذا كانت
مدة الاعتكاف تشتمل على يوم الجمعة؛ فهو إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه
الجمعة سيكون بين أحد أمرين: إما أن يبقى في معتكفه ويترك الجمعة والجمعة
أولى من الاعتكاف.
وإما أن يخرج من معتكفه إلى مسجد تقام فيه الجمعة، فيكون قد قطع اعتكافه
بخروجه إلى الجمعة.
إذاً: إذا كانت مدة اعتكافه تشتمل على يوم جمعة فيشترط أن يكون اعتكافه في
مسجد تقام فيه الجمعة، وأما بالنسبة لغير الجمعة وهي الصلوات الخمس في
جماعة، فإذا كان هناك مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس جماعةً فلا يصح
اعتكافه فيه؛ لأنه سيضيع الجماعة، والجماعة للصلوات الخمس أولى من اعتكافه.
إذاً: لابد أن يكون المسجد جامعاً، يشتمل على صلاة الجمعة، وعلى إقام
الصلوات الخمس في جماعة.
بقي هل يشترط على المرأة إذا اعتكفت أن يكون اعتكافها في مسجد عام أو أن
مسجد بيتها يجزئها؟ يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: للمرأة أن تعتكف في
مسجد بيتها، ومسجد بيتها هو المكان الذي خصصته لصلاتها وتصلي دائماً فيه،
وهذه هي السنة، كما جاء عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (صنعت للنبي
صلى الله عليه وسلم طعاماً، فلما أتى قلت: أريد أن تصلي لنا يا رسول الله!
في بيتنا لنتخذ مكانه مصلى لنا، فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس،
فنضحته بالماء وقام فصلى … الحديث) .
وهنا يستحب العلماء أنه إذا كان في البيت متسع أن يُخصص فيه مكان للصلوات؛
الفريضة للنساء، والنافلة للرجال، وهذا لما جاء في الحديث: (صلوا في بيوتكم
ولا تجعلوها مقابر) ؛ لأن المقابر لا صلاة فيها، والصلاة في البيوت فيها
الرحمة والخير والبركة وتعليم الجاهل وتعليم الصغير، فإذا كان للمرأة مسجد
في بيتها بمعنى: مكان مخصص لصلاتها فيصح اعتكافها فيه.
ويقول بعض السلف: لولا أنه جاء اعتكاف النساء في المسجد على عهد رسول الله
لقلت: ليس لها أن تعتكف في المسجد؛ لكثرة ما يراها الناس، ولكثرة تعرضها
للناس.
وكلمة (مسجد) اسم جنس، ولكن هناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام،
ويستدل بقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، وبأثر عمر: نذرت
في الجاهلية أن اعتكف ليلة عند البيت.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي؛ نظراً لأنه صلى الله عليه
وسلم لم يعتكف في أي مسجد قط إلا في مسجده، فلم يعتكف في مكة، ولا في بيت
المقدس ولا في أي مسجد آخر، فقالوا: السنة أن يعتكف الإنسان حيث اعتكف صلى
الله عليه وسلم.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وسيأتي المؤلف في آخر
باب الاعتكاف بحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، يشير إلى هذا
القول، ولكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: على صحة الاعتكاف في
أي مسجد كان مادام مسجداً جامعاً.
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، رواه
الدارقطني والحاكم، والراجح وقفه أيضاً] .
بعدما ساق لنا المصنف المدرج في حديث أم المؤمنين عائشة: (ولا اعتكاف إلا
بصيام) ، جاءنا بأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ليس على المعتكف صيام
إلا أن يجعله على نفسه) ، بأن نذر أو اختار أن يصوم مع اعتكافه، أما من أجل
الاعتكاف فـ ابن عباس يقول: ليس عليه صيام.
وهنا يقول بعض العلماء: هذا موقوف على ابن عباس، أي: أن ابن عباس لم يرفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛
لأنه يتعلق بأمر تشريعي، وبصحة عبادة مشروعة؛ لأنه قال: (لا صوم على
المعتكف) .
إذاًَ: ابن عباس يقول: لا صوم على المعتكف، وأم المؤمنين عائشة تقول: لا
اعتكاف إلا بصوم، ووجدنا مع المناقشة أن الراجح أنه يصح الاعتكاف بدون صوم.
ولعل في هذا القدر -فيما يتعلق ببداية دخول المعتكف، وما يجوز له أن يفعله
وما لا يجوز له، وصحة الاعتكاف بصوم أو بغير صوم- كفاية إن شاء الله،
وبالله تعالى التوفيق.
سبب تسمية بعض
الأسطوانات التي في المسجد النبوي
في حديث عائشة: (إن كان صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه فأرجله وأنا
حائض) ، هذه الصورة لا تتأتى إلا إذا كان السرير مقابلاً لباب الحجرة، وباب
الحجرة موجود إلى الآن مشرع على الروضة، ولا يمكن أن يكون السرير عند
المنبر ويدخل رأسه إلى الحجرة؛ لأن بينهما مسافة بعيدة، ولا يمكن أيضاً أن
يكون مستطيلاً شمالاً وجنوباً؛ لأنه إذا كان شمالاً وجنوباً فلا يتأتى أن
يدخل رأسه، إذاًَ: السرير كان ممتداً شرقاً وغرباً ومقابلاً لباب الحجرة.
وجاء في بعض الروايات عند مالك في الموطأ أن نافعاً قال: لقد أخبرني ابن
عمر وقال: إن شئت أريتك موضع اعتكافه، يعني: إذا أحببت أن أريك أين كان محل
السرير أريتك.
وجاءت رواية أخرى صريحة: أن سريره كان خلف أسطوانة التوبة، وأسطوانة التوبة
موجودة إلى الآن في الروضة بعد الحجرة بأسطوانة واحدة، وسميت بأسطوانة
التوبة لقصة أبي لبابة حينما ربط نفسه فيها حتى نزلت توبته، وفي القصة أن
بني قريظة جاءوا إليه ونادوه من بعيد: ماذا ترى أننزل على حكم محمد؟ فقال
بأعلى صوته: نعم، وأشار بيده إلى رقبته، أي: نعم، وإن نزلتم فسيذبحكم، ففي
هذا ما فيه من الأمر وكان أبو لبابة يقول: والله! ما زالت قدماي من موضعهما
حتى أيقنت أني خنت الله ورسوله، بمعنى: أني قلت: نعم، ولكن أخفيت شيئاً
خلاف ذلك، فانطلق من هناك ولم يرجع إلى رسول الله ليخبره حتى جاء إلى
المسجد وربط نفسه في السارية، وأقسم ألا يفك وثاقه إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما أبطأ على رسول الله سأل عنه، فأخبروه، فقال: أما وقد فعل
فليبق في مكانه، ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث ما شاء الله
أن يمكث نزلت توبته ليلاً وكان صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، فقالت: ألا
أبشره يا رسول الله؟! قال: إن شئتِ، فنادت: إن الله قد تاب على أبي لبابة،
فبادر الناس ليحلوه من السارية فقال: لا والله! حتى يخرج رسول الله ويفكني
بيده الشريفة، فسميت هذه الأسطوانة بأسطوانة التوبة.
وتجدون في أسطوانات الروضة لوحات وعناويين: أسطوانة عائشة، أسطوانة السرير،
أسطوانة الحرس، الأسطوانة المخلقة، أسطوانة التوبة أو أسطوانة أبي لبابة،
كل ذلك مكتوب بلوحات في الأسطوانات الموجودة في الروضة، ولهذا يقول عنها
علماء تاريخ المسجد النبوي: الأسطوانات ذات التاريخ في المسجد النبوي.
وكان بعض السلف يتحرى الصلاة عندها، وبعض الناس ينتقد على ذلك ويقول: في
هذا تتبع بقاع لا حاجة لها، وجاء عن ابن الزبير وعن غيره: أنهم كانوا
يسألون عن الأسطوانات، ودخل على عائشة وهي خالته فسألها، فقال أصحابه:
انتظروا حتى يخرج وانظروا أين يصلي؟ فلابد أن تكون قد أخبرته بها، فلما خرج
صلى عندها فعرفوها.
وهذه الأسطوانات ليس معنى إبقائها على تاريخها وأحداثها أن فيه تقديساً
لجماد السارية ولا لجماد الأسطوانة، ولكنه عنوان وتذكير للعالم الإسلامي
لما شهدت من تلك الأحداث، فمثلاً أسطوانة السرير إذا دخل الإنسان المسجد
وهو على طوله في التوسعة الأخيرة الثانية وقد أصبح المسجد مائة ذراع في
مائة ذراع فلن يعرفها إلا إذا كان مكتوباً عليها.
وقول عائشة: (وكان يدني إليَّ رأسه وأنا في حجرتي) ، أين كان السرير؟
الجواب: كان في الروضة في الصفوف الأول، ولكنه كان لا يمنع المصلين من
الصلاة، وإذا كان لا يمنع المصلين من الصلاة فلا شيء في ذلك.
وأبو لبابة لما ربط نفسه ويُعرف أين مكانه الذي ربط فيه نفسه؟ وتأتي السيرة
ويأتي التاريخ يذكر ذلك، عندها يتذكر الإنسان ويحذر أن يخون الله ورسوله،
تأتي كذلك أسطوانة ثمامة بن أثال الذي جاء من بني حنيفة: (لما أخذ أسيراً
وكان سيد قومه وربط بالمسجد وهو مشرك، وكان يؤتى كل ليلة بحلب سبع نياق أو
سبع شياه فيشربها، ومكث ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه
ويقول له: (كيف بك يا ثمامة؟! فيقول وهو مشدود في السارية: يا محمد! إن ترد
مالاً أعطيتك فأرضيتك، وإن تمنن -بالعتق- تمنن على كريم وإن تقتل تقتل ذا
دم -أي: أن قومي سيطالبون بدمي- فتركه ثلاثة أيام ثم مر عليه فقال: أطلقوا
ثمامة، فلما أطلق سأل: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل
ويجلس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينطق بشهادة الحق، فسأل عن أقرب ماء
وكان بيرحاء، فذهب واغتسل ثم جاء ودخل المسجد، وبعد أن فرغ صلى الله عليه
وسلم من صلاة الظهر جلس إليه ونطق بالشهادتين، فقيل له: لماذا لم تسلم قبل
وأنت في الوثاق ثلاثة أيام؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم قال:
يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا في طريقي إلى مكة معتمراً، قال: اذهب
فاعتمر) ، وذهب وكانت له قصة مع أهل مكة.
والأسطوانة المخلقة وتسمى أسطوانة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان
يجلس إليها ويستقبل عندها الوفود، وليس في معرفة هذه الأسطوانات ما يعاب،
وليس في تتبع ذلك ابتداع، كما يظنه البعض، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم
جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتاب الصيام - باب
الاعتكاف وقيام رمضان [3]
ليلة القدر هي أفضل ليالي السنة؛ لأنها هي الليلة التي أنزل الله عز وجل
فيها القرآن إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مجزأ على حسب الحوادث،
ولهذا جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر، وجعل العبادة فيها تعدل عبادة
ألف شهر، وهو ما يساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
تعيين ليلة القدر
والخلاف في ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن
رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في
السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت
في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) ، متفق
عليه.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
ليلة القدر: (ليلة سبع وعشرين) ، رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف في
تعيينها على أربعين قولاً أوردتها في فتح الباري.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي
ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف
عني) ، رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم] .
إن هذا المبحث وهو مبحث ليلة القدر متعدد الجوانب، من ذلك تعريفها، ولماذا
سميت ليلة القدر؟ ومن ذلك أيضاً تعيين وقتها ومتى تكون، هل هي في عموم
السنة أو في خصوص رمضان أو في العشر الأواخر أو في الوتر منها؟ وهل هي
ثابتة أو متنقلة؟ وهل هي باقية أو رفعت وماذا يقول من صادفها؟ وهل لها
علامات؟ وما هو فضلها؟ كل ذلك يتناوله العلماء بتوسع.
ومما توسعوا فيه موضوع تعيينها، وهذا الموضوع يهم الجميع، وقد ذكر لنا
المؤلف أنه أورد أربعين قولاً في تعيينها في فتح الباري، ونقلها عنه
الشوكاني وزاد عليها أربعة أقوال، فتحصل بذلك أربعة وأربعون قولاً في
تعيينها.
وفي الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله: (بأن رجالاً أروا في منامهم أن
ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان -أي: السبع الأخيرة من العشر الأواخر
من رمضان- وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: أرى -أي: أظن- أن
رؤياكم قد تواطأت) ، التواطؤ هو كما يقول العلماء: التطابق، كالوطي على
الوطي تواطأت، تضع القدم على القدم تتابعه، فتواطأت رؤياكم أي: اتفقت
رؤياكم، على أنها في السبع الأواخر من رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم:
(فالتمسوها في السبع الأواخر من رمضان) .
ففي رؤياهم إياها تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم لهم عليها، ثم أصدر
التشريع من قوله لا من رؤياهم فقال: (التمسوها) ورؤيا المؤمن قد جاء في
الحديث عنها: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها
الرجل الصالح أو ترى له) وقال العلماء: هذا العدد الذي هو جزء من ستة
وأربعين، ليس من خمسة وليس من أربعة ولا من سبعة قالوا: لأن رسالة محمد
صلوات الله وسلامه عليه كانت مدتها ثلاثاً وعشرين سنة: منها ثلاث عشرة سنة
بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكانت مدة تحنثه في الغار قبل أن يأتيه الوحي
بالرسالة ستة أشهر، فقالوا: إذا قسمنا الثلاث والعشرين سنة على نصف فسيكون
فيها ستة وأربعون نصفاً؛ لأن الستة الأشهر نصف السنة، إذاً: نسبة مدة تحنثه
صلوات الله وسلامه عليه من مدة الرسالة كاملة نسبة واحد من ستة وأربعين،
وكان صلوات الله وسلامه عليه في مدة تحنثه -أي: تعبده وانقطاعه- في غار
حراء يرى الرؤيا، فإذا رأى الرؤيا جاءت من الغد كفلق الصبح واقعية، فكانت
الرؤيا تصدق في تلك المدة، فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (إن الرؤيا
الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) .
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا صلى الصبح سأل أصحابه: (أيكم رأى رؤيا
البارحة؟) فيقصون عليه ما رأوا ويعبرها لهم.
أقسام الرؤيا
يقول العلماء: الرؤيا على ثلاث أقسام: القسم الأول: أن يرى الإنسان ما
يسره، فيحكيه لأحب الناس إليه؛ ليفسرها بأحب الوجوه فيها، والقسم الثاني:
أن يرى خلاف ذلك فليتفل عن يساره، ولينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره
شيئاً، والقسم الثالث من الرؤى: إنما هو تصور وتخيل أحداث عمل النهار، كما
يقولون: المخيلة تختزن بعض الصور، فيبيت يحلم بما كان فيه في النهار من بيع
وشراء أو خصومة أو فرح.
إلخ، وهذه هي التي يقال فيها: إنها أضغاث أحلام.
وهنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أُروا في المنام ليلة القدر؛ وكلنا يعلم
مدى صحة الرؤيا في قضية مشروعية الأذان، لما تشاور النبي صلى الله عليه
وسلم مع الصحابة في أمر إعلامهم بالوقت من أجل أن يجتمعوا للصلاة، فقد كان
الواحد منهم يخرج من بيته ويمر على أخيه في بيته فينبهه: الصلاة يا فلان!
الصلاة يا فلان! وكل يُعْلِم الآخر حتى يجتمعوا لصلاة الفريضة جماعةً،
فتشاور صلى الله عليه وسلم معهم ليتخذوا وسيلة للإعلام، فمنهم من اقترح
الناقوس -وهو الجرس- فقال: لا، هذا للنصارى، ومنهم من اقترح الطبل، فقال:
لا، هذا لكذا، ومنهم من اقترح البوق، فقال: هذا لليهود، ومنهم من اقترح
إشعال النار، فقال: لا، هذا للمجوس وهكذا، وانصرفوا دون أن يتفقوا على شيء،
فلما كان الغد جاء عبد الله بن زيد وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى
النائم أنه طاف بي رجل، عليه حلة خضراء، يحمل ناقوساً على كتفه -وفي رواية:
خشبة على كتفه- فقلت: أتبيع الناقوس؟ فقال: وماذا تفعلون به؟ قلت: ننقس به
للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى.
فوقف وأذن، وذكر ألفاظ الأذان الخمسة عشر، ثم تنحى قليلاً وذكر الإقامة،
وقال: هكذا تفعلون.
فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه
على بلال، فإنه أندى منك صوتاً -يعني: أليق وأبعد وألطف.
إلخ- فلما قام بلال وأذن، سمع ذلك عمر بن الخطاب، فجاء من بيته يجري ويجر
الرداء، وقال: يا رسول الله! والله! لقد رأيت مثلما سمعتُ.
فقال: تواطأت رؤياكم) وجعلها ألفاظ الأذان المشروعة.
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رؤيا الصحابة، ووجدها
واضحة، أقرهم عليها.
وأذكر هنا بالمناسبة أن علماء التعبير يقولون: كل من حسن طعامه ولطف، وحسن
لباسه ونظف، وتعود النظافة في جسمه دائماً وغالباً تكون رؤياه صالحة صادقة،
وهذا في الأول والآخر يرجع إلى صلاح العمل، وإلى شفافية الروح وطهارة
القلب؛ لأن الرؤيا رؤية البصيرة وليست رؤية البصر، والذي يهمنا في هذا
الحديث أنهم ذكروا ليلة القدر في السبع الأواخر.
والذي أورد على خاطرهم ترائي ليلة القدر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان قد أراد أن يخبرهم بليلة القدر.
التلاحي والتخاصم
سبب في حرمان الخير والنعمة
وفي الحديث الصحيح: (خرجت لأخبركم عن ليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت)
أي: رفع تعيينها، ولذا قال العلماء: شؤم التلاحي والخصومة حرمهم نعمة
تعيينها.
ولذا يقول ابن دقيق العيد وابن عبد البر: من اشتغل من طلبة العلم باللجاج
في العلم، وتتبع الخلافات والخصومات في الشواذ حرم العلم؛ لأنه يشتغل
بأشياء مختلف فيها، فيفوت على نفسه الأهم.
إذاً: في هذا الحديث النص على أن ليلة القدر في السبع الأواخر، والسبع
الأواخر هي العشر الأواخر ما عدا الأولى، والثانية والثالثة من العشر، وبقي
الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، إذاً:
الثالثة من أول العشر هي أول السبع، فيقولون: إن النصوص وردت في العشر
الأواخر آكد منها في غيرها، وكما قال المؤلف في آخر الحديث الثاني: لقد
أوردت أربعين قولاً في تعيينها، منها ما جاء عن ابن مسعود أنه قال: من قام
العام كله صادف ليلة القدر.
ولما ذكر ذلك لـ أبي بن كعب قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، والله! لقد علم
أنها في العشر الأواخر -أو في الوتر من العشر الأواخر-.
الحكمة من عدم تعيين
ليلة القدر
ويقول العلماء: أخفاها الله على الأمة كما أخفى الساعة التي في يوم الجمعة،
ليجتهد الناس في عمل الخير في رمضان كله، وفي العشر كلها، وفي يوم الجمعة
بكامله؛ لأنه لو عين ليلة بذاتها لتقاصرت الهمم، وتكاسل الناس، ونشطوا في
تلك الليلة فقط وتركوا ما عداها.
أرجى الليالي التي
يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر
ونأتي إلى بعض النصوص الأخرى المتفق عليها، ونترك الأربعين قولاً التي
ذكرها المؤلف.
وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء
عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على
الناس برأسه من خبائه وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف) لأن راوي الحديث
يقول: فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال: (من
كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه أمامي -يعني في
العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم، أو رأيتني فيما يوحى
إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي.
كل ذلك يصدق عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) يقول راوي الحديث: وما
كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد من
العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي صلى الله
عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف السقف ونزل الماء من
المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت الطين والماء على أرنبة أنف
رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة
أنه قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) وجاء الماء والطين صبيحة
يوم واحد وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين.
وفي عموم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) روى مالك رحمه الله في
الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة كبيراً في السن
كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول
الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي،
ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا
المسجد رجاء ليلة القدر) فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي
بقومه، سأل رسول الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء
ليلة القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) .
ونحن نقف عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله-
بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب أن ينزل
ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة وعين لي ليلة أنزل
فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل كبير،
وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في
النزول إلى هذا المسجد النبوي الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها.
إذاً: لا نعيب على الناس حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي
الشريف يتحرون ليلة القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن
الصلاة فيه بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً:
فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى فضل
الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر
ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا صحيح ولا مانع أن يصلي
الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا
الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته، وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى
أن يصادف فيها ليلة القدر.
تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها نصوص
بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة والعشرين، ثم نأتي
إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها هذا الحديث الذي اختاره
المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على
ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين)
وهنا نجد أن الجمهور يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة
رأوها في منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم
على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين.
فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في قوله
تعالى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] إلى كلمة (هي)
فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من كلمات السورة، و (هي) ضمير
مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع وعشرين.
وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق ابن كثير والقرطبي
وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس
في مجلسه وهو غلام، ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار
الصحابة، فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن كان
غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى
بالنصر، وبشرى بانتصار الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر: ماذا تقول يا
ابن عباس؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا؛ لأنه
إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فمهمة الرسالة قد
تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء، فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه.
فقال عمر: وأنا أقول ذلك.
ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث وفي رؤى بعض
الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟! قال: إني لأعلم أي ليلة هي.
قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث
وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛
لأنه قد خلت ومضت قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق
السماوات سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً،
والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق من سبع،
وغذي بسبع.
وذكر أشياء من هذا كثيرة.
قال: فهذا الطواف والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف
غذي؟ قال: يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا
صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا *
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا
وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:24-31]
والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة: نطفة، ثم
علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى خلقاً آخر، قال:
والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه
بالفضل وبدقة الاستنتاج.
يهمنا هنا قول ابن عباس: لسبع بقين، أو لسبع مضين.
وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق
بالتعيين.
الجمع بين الروايات
المتباينة في تعيين ليلة القدر
وهنا يقف العلماء أمام هذه النصوص الصحيحة: ليلة واحد وعشرين وفيها المطر،
وليلة ثلاث وعشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المسن بالنزول فيها،
وليلة سبع وعشرين رؤياهم تواطأت فيها، فكيف يكون هذا مع أن إحدى وعشرين
تغاير ثلاثاً وعشرين وتغاير سبعاً وعشرين، فهل هذا تناقض أو تعارض؟ قالوا:
ليس فيه تناقض ولا تعارض وإنما في السنة التي سألوا فيها أولاً كانت في
ليلة واحد وعشرين، وفي السنة التي رأوا فيها الرؤى كانت في ليلة سبع
وعشرين، وفي السنة التي سأل فيها الجهني وقد صارت معروفة عند أهل المدينة
بليلة الجهني؛ لأنه كان ينزل في العصر وينيخ دابته، فيصلي العصر، ويبقى إلى
أن يصلي الفجر، ودابته عند الباب فيركب ويرجع إلى مكانه، فعرفت بليلة
الجهني كانت في ليلة ثلاث وعشرين فقالوا: كل حادثة كانت ليلة القدر في
سنتها في ذلك التاريخ، فإذاً: هي ليست بثابتة، ومن هنا قال الشافعي وغيره:
إن ليلة القدر ليست مربوطة ومعينة بليلة واحدة من الوتر من العشر الأواخر،
بل هي تتنقل وتدور في الوتر من العشر الأواخر، فمرةً تكون في ليلة واحد،
ومرةً تكون في ليلة ثلاث، ومرةً تكون في ليلة تسع وعشرين، ومرةً تكون في
ليلة خمس، ومرةً تكون في ليلة سبع، فهي ليست مرتبطة وثابتة في ليلة من
الليالي، ولكنها تتنقل في الوتر من العشر الأواخر.
وهذا أحسن ما يجمع به بين النصوص، وهو يساعد على المعنى الذي قالوه في
الحكمة من إخفائها: ليجتهد الناس في كل العشر الأواخر.
بيان أن ليلة القدر
باقية لم ترفع
ثم إن هناك من يقول: إن ليلة القدر قد رفعت كما جاء في الحديث: (فتلاحى
رجلان فرفعت) وهذا يقوله بعض طوائف الشيعة، ولكن الجمهور يقولون: إن معنى
(رفعت) أي: رفع العلم بتعيينها؛ لأنه في نفس الحديث قال: (فالتمسوها في
العشر الأواخر أو في الوتر من العشر الأواخر) فكيف تكون قد رفعت وهو يقول:
(التمسوها) إذاً: هي موجودة، ولكن الذي رفع هو العلم بتعيينها بالذات في أي
الليالي.
هل ليلة القدر خاصة
بهذه الأمة أم أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟
ثم يأتي البحث أيضاً: هل هذه الليلة خاصة بهذه الأمة أو أنها كانت موجودة
في الأمم الماضية؟ فبعضهم يقول: هي خاصة بهذه الأمة، ويذكرون في ذلك ما
رواه مالك رحمه الله بلاغاً، وهو من البلاغات الأربعة التي يقولون: لم يوجد
لها سند، ولكن تتبعها أبو زرعة رحمه الله فوجدها مسندة بأسانيد تدور بين
الحسن والضعف والصحة، هذا البلاغ الذي رواه مالك هو: أن النبي صلى الله
عليه وسلم أري أعمار أمته مع أعمار الأمم الماضية، فتقالها؛ لأنها ما بين
الستين والسبعين، والذين قبلهم كانوا يعمرون المائة والمائتين، فلما تقالها
عظم عليه أنهم لا يعملون زمناً بقدر زمن الأمم الماضية، فلا يحصلون من
الجنة بقدر ما يحصل غيرهم؛ لأن الشخص الذي يعيش مائة سنةً في طاعة الله ليس
كالذي يعيش ثلاثين سنةً أو أربعين سنةً كما في الحديث: (خيركم من طال عمره
وحسن عمله) فأتي بليلة القدر، وجعلت لأمته تلك الليلة التي قال فيها: (من
قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فكانت ليلة
القدر تعويضاً للأمة عما نقص من أعمارها، وفي الرواية الأخرى: أنه ذكر لهذه
الأمة أنه كان في من قبلنا رجل كان يقوم الليل ويجاهد في النهار صائماً
ثمانين سنةً أو مائة سنة، فتقال الصحابة أعمالهم وقالوا: من يستطيع أن يظل
ثمانين سنة يقوم الليل، وثمانين سنة يجاهد العدو وهو صائم؟! فلما قارنوا
أنفسهم بالنسبة لهذا النوع من البشر المتقدم عظم عليهم ذلك، فأنزل الله
سورة القدر، وفيها: أن تلك الليلة خير من الألف الشهر؛ لأن الرجل لبس
السلاح ألف شهر، والألف شهر في الحساب تساوي ثلاثة وثمانين سنة وكذا شهراً،
يعني فوق الثمانين سنة، فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما فاتها من
القدرة والاستطاعة على عمل الخير كذاك الرجل الذي عَبَدَ الله ألف شهر
قياماً لليل وجهاداً في النهار.
ومن هنا قالوا: إنها خاصة بهذه الأمة، والآخرون يقولون: بل هي موجودة في
الأمم قبلنا؛ لما جاء في حديث أبي هريرة: (أنه سأل النبي صلى الله عليه
وسلم: هل ليلة القدر كانت تكون في الأمم مع الأنبياء، فإذا مات النبي رفعت،
أو هي باقية وخاصة بهذه الأمة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل كانت مع
الأنبياء في الأمم الماضية) وسواء كانت في الأمم الأوائل، أم كانت جديدة في
هذه الأمة فنحن يهمنا الاجتهاد فيها.
العلامات التي تعرف
بها ليلة القدر
بقي هل هناك علامات لها في ليلتها؟ العلامات التي وردت إنما تظهر في
صبيحتها، وبعضهم يقول: من أكرمه الله فقد يرى بعض العلامات، وليست علاماتها
عامة كالشمس والقمر، ولكن ربما يجد إنسانٌ شيئاً ما دون أن يراه الآخرون،
ولكن العلامة العامة هي معنوية روحانية، يذكرونها عند قوله سبحانه:
{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ
أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ} [القدر:4-5] فقالوا: (سَلامٌ هِيَ) أي أن الملائكة
تسلم على كل من في الأرض، فيقولون: من صافحته الملائكة -وقد تصافح البعض-
يشعر أن في قلبه رقة، وكأنه يميل إلى البكاء فرحاً أو خوفاً من الله، وهذه
الحالة المعنوية قد تعتري بعض الناس إذا قرأ شيئاً من القرآن، فإن المولى
يتجلى عليه بروحانية كتابه، فيحس طمأنينة وارتياحاً نفسياً لم يكن يحس به
من قبل، وهي السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن كما ذكر ذاك الصحابي لرسول
الله أنه كان يقرأ القرآن بالليل والفرس في مربطها فإذا بها تجول، وعندها
طفل فخاف عليه، وترك القراءة وذهب ليرى الطفل فوجد الفرس قد سكنت وهدأت
فإذا عاد إلى صلاته وقرأ تحركت الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال
له: (تلك السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن، فتراها الفرس فتتحرك) .
وهكذا قد يرى أنواع وأشخاص وأفراد من الناس في تلك الليلة بعض تلك العلامات
التي من يحسها يحس بانشراح صدره، وبخفة روحه، وبرفعة معنوياته، وبمحبته
لذكر الله وما والاه.
أما العلامات التي يشهدها الجميع ففي صبيحتها تشرق الشمس وليس لها شعاع
كشعاع الأمس، بل تكون الشمس هادئة رائقة فيها شبه من ضوء القمر، يقولون في
سبب ذلك: إن الملائكة حينما تنزلوا ليلة القدر لم يبق شبر في الأرض إلا
وفيه ملك، فإذا صلى الناس الفجر بدأ الملائكة يصعدون إلى السماوات السبع،
وإلى سدرة المنتهى، فيصعدون من بعد الفجر إلى طلوع الشمس وإلى الضحى فكثرة
عددهم مع نورانيتهم -لأن الملائكة من نور- يختلط نور الملائكة مع شعاع
الشمس، فيختلط النور والشعاع، فيتغير لون أشعة الشمس بسبب ذلك.
ويقولون في علاماتها: إن ليلتها سلام، فلا يقع فيها من الأحداث العظام التي
تفزع الأمم، لا يقع فيها خسف، ولا يقع فيها غرق، ولا يقع فيها إحراق، وكذلك
نهارها يكون تابعاً لليلتها بسلام: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] والواجب على
العالم في هذا الوقت الحاضر -لو كانوا عقلاء- أن يجعلوا لهم فترة سلام
يستريحون فيها ولو كانوا في حالة قتال وشحناء، ويعطون أنفسهم فرصة
للمفاهمة، وللتوصل إلى السلام الحقيقي، وسابقاً جعلوا سويسرا بلداً بعيداً
عن الحروب، يلتقي فيها المتحاربان، يتقاتلان في الميدان، ويجلسان على طاولة
واحدة وعلى مائدة واحدة في سويسرا، وإذا خرجوا منها شهر كل منهما السلاح
على الآخر، فجعلوها بلداً بعيداً عن الحروب، حتى إنه كان في الأول ليس لها
جيش؛ لأنها لا تحارِب ولا تحارَب؛ لتكون موطناً لالتقاء الأعداء وفرصة
للتفاهم، وقد سبق الإسلام ذلك قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ
اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] يحرم على
الإنسان أن يعتدي على الآخر ولو كان له دم عنده، فيتواصل الناس، وتسافر
القبائل وتنتقل في مأمن أثناء هذه الأشهر الحرم.
وكذلك قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْنًا} [البقرة:125] فالمتقاتلان في غير مكة إذا التقيا في حرم مكة
فهما أخوان، لا يهيج أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر؛ لأنهما في
مظلة أمن البيت الحرام كما قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل
عمران:97] حتى الطير يأمن فيه، والوحش يأمن فيه فضلاً عن الإنسان، فالإسلام
جعل مكاناً وزماناً للسلم والأمن وجعل فرصة للمتخاصمين أن يتصالحوا، وفرصة
للمتخالفين أن يتفاهموا في ظل حرمة من حرمات الله قال تعالى: {وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
[الحج:32] .
إذاً: نحن مقصرون في حق الإسلام، وكان علينا لزاماً أن نعلِّم العالم بأن
السلام عندنا، ومن عندنا انطلق، سواء كان في المكان بمكة، أو في الزمان في
الأشهر الحرم، والتشريع العام: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] يا سبحان الله! يقول: لا تحلوهم، ولا
تستحلوهم، وابقوا لهم الحرمة، من أمَّ البيت الحرام فهو آمن، وقد كانوا في
الجاهلية من خرج من أمن الحرم وخاف على نفسه في غير الأشهر الحرم يأخذ لحاء
شجرة ويجعله كالقلادة في عنقه، فإذا مر بأي قبيلة قالوا: تحرم بالحرم، فهذه
القلادة، والقشرة من لحا الشجرة تحميه من أعدائه؛ لأنها من جوار البيت.
والآن صار المسلمون لا يرقبون في بعضهم إلاً ولا ذمة، ولا حول ولا قوة إلا
بالله، فالقوة للقاهر، والسلطة للقادر، ورجعت جاهلية من عز بز ومن غلب
استلب، فلنرجع إلى الإسلام، إن لم نصدره للآخرين فليكن لنا فيما بيننا، لا
أن نأتي في رمضان ونحشد الجيوش للقتال، الواجب على الجميع أن يكون رمضان
أقل ما فيه هو السلم والسلام، نعم لأخذ الاحتياط! ونعم لأخذ الأهبة! ونعم
لإعداد القوة! ولكن أن نقاتل! وأن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً في رمضان،
وفيه ليلة السلم والسلام التي قال الله فيها: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ} [القدر:5] ! فنسأل الله السلامة والعافية! أين المسلمون من
هذا؟! أين أجهزة الإعلام من هذا التشريع الإلهي؟! إن الكلام على ليلة القدر
لا يمكن أن يستوفيه إنسان في جلسة.
سبب تسمية ليلة
القدر بهذا الاسم
وإذا جئنا إلى تسميتها قالوا: القدر: هو الشرف والرفعة، فهي ليلة رفيعة
القدر، جليلة المكانة؛ لأنها شهدت عظيم القدر على عظيم الخلق في عظيم
الأمم، شهدت أعظم ما شهدت ألا وهو إنزال القرآن الكريم على خير خلق الله في
أمة هي خير الأمم، ومن هنا كانت ليلة القدر رفيعة الشأن.
وقيل القدر: هو التقدير؛ لأن الله سبحانه يقدر فيها أحوال العالم الأرضي،
وينزل ذلك التقدير إلى الملائكة ليطبقوا ذلك كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}
[القدر:4] من كل أمر من أمور الخلائق: من رزق ومن شقاء ومن سعادة ومن مولد
ومن ممات ومن.
إلخ، ولذا يؤكد العلماء على أن ليلة القدر هي في رمضان، وأن ما جاء في سورة
الدخان في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا
مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4-5] إنما هو في ليلة القدر؛ لأنه قال: {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وكان إنزال القرآن قطعاً
في رمضان.
إذاً: الليلة التي تقدر فيها الأمور، وتقدر فيها شئون الحياة إنما هي ليلة
القدر، يقدر الله أو ينسخ من اللوح المحفوظ ما قدره طيلة العام، وينزّله
إلى الملائكة الكرام، ثم بعد ذلك ينزل ويطبق وينفذ في العام كله.
الأدعية الواردة في
ليلة القدر
أما ماذا يقول من صادفها؟ فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال:
قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا تأملنا في هذه الألفاظ
وجوها: السائل عائشة، وسألت رسول الله، ومن تكون عائشة من رسول الله؟ هي
أحب الناس إليه بعد أبي بكر، فأتاها بأحب النصح، يعني: أن جوابه لها هو
نهاية النصح والمحبة، ولو أن هناك خيراً من ذلك لقاله لها.
ويقول علماء اللغة: الميم في (اللهم) بدل (يا) النداء في (يا ألله) فتحذف
ياء النداء في الأول، ويعوض عنها بميم في الأخير.
قوله: (اللهم! إنك عفو) هذا وصف للمولى سبحانه أنه عفو، وكم من عفو لله على
الخلق! وكم من ذنب يرتكبه الإنسان في خفاء أو علن والله يعفو عنه! إذاً:
يمتدح الله بصفته أولاً؛ لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}
[المائدة:35] أي: عند الدعاء قدم وسيلة لاستجابة دعائك، وهذا مبدئياً، فإذا
قلت: (اللهم! إنك عفو) فقد أثنيت على الله، ومدحت الله بالصفة التي تتناسب
مع حاجتك وسؤالك، ولو كنت تريد الرزق: فقل: اللهم! يا رزاق! يا رازق الطير!
يا رازق النمل! يا رازق كذا في جحره ارزقني؛ لأنك تطلب رزقاً فتسأله بصفة
الرزاق، وهنا تريد أن تسأله العفو، فتمتدحه سبحانه بصفة العفو.
وقوله: (إنك عفو تحب العفو) قال تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] في قضية مسطح وغيره، وقوله: (إنك عفو تحب) أي:
وأنا أسألك لأن من صفتك العفو وأنت تحبه أن تعفو عني.
وإذا تأمل الإنسان في قوله: (فاعف عني) العفو -كما يقولون-: هو الإزالة،
نحو: عفت الريح الأثر، إذا مرت قافلة في الصحراء ورسمت أخفافها وأقدامها في
الطريق، فإذا جاءت ريح شديدة وحركت الرمل عفت أثر المسير في الصحراء ولم
يبق للمسير أثر، فكذلك العفو عن الزلة يمحو أثرها من الصحيفة، فلا يبقى لها
أثر مكتوب على الإنسان.
قوله: (إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه
وسلم: (من عوفي في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
، وقوله: (من عافاه الله في بدنه فهو سعيد) ، وقوله: (من عافاه الله في
دينه وسلم من الشرك، وسلم من الرياء، وسلم من كبائر الذنوب فهو سعيد) ،
وقوله: (من عافاه الله يوم القيامة من تلك المضايق فهو السعيد الناجي) ،
وقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ} [آل عمران:185] علمنا أن أجمع دعاء يكون هو هذا الدعاء الموجز (فاعف
عني) مع المقدمة التي يقدمها الإنسان إليه.
ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير بأنه عفو يحب العفو أن يعفو عنا، اللهم!
إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة، اللهم! إنا نسألك أن تعافينا في
أبداننا، وفي ديننا، وفي جميع أعمالنا، اللهم! إنا نسألك يا سلام! يا منزل
السلام! أن تنزل السلام على الأمة الإسلامية، اللهم! خذ بنواصي ولاة أمور
المسلمين إلى الحق وإلى العدل، اللهم! أنزل رحمتك علينا واجعلنا من عتقائك
من النار، ومن المقبولين، اللهم! أوردنا حوض نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم، اللهم! وأسقنا منه وبيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً،
اللهم! أكرمنا بفضلك شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
كتاب الصيام - باب
الاعتكاف وقيام رمضان [4]
جعل الله عز وجل البيت الحرام مهوى أفئدة الناس من جميع أقطار الأرض، فكلما
زادت زيارته ورؤيته زاد الشوق والحنين إليه، ولفضله وشرفه نسبه الله إليه،
وجعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وجعله المكان الذي يؤدى فيه الركن الخامس
من أركان الإسلام ألا وهو الحج، وجعل الله عز وجل المسجد النبوي مقارباً له
في الفضل، وجعل المسجد الأقصى مقارباً للمسجد النبوي في الفضل؛ لأن هذه
المساجد الثلاثة بناها أنبياء بوحي من الله سبحانه وتعالى.
حكم شد الرحال إلى
الثلاثة المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد
المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله والتابعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه] .
يسوق المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث الخاص بشد الرحال إلى المساجد
الثلاثة في باب الاعتكاف بمناسبة تحديد المكان الذي يصح الاعتكاف فيه.
الخلاف في المسجد
الذي يصح فيه الاعتكاف
قد تقدمت الإشارة إلى قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأن الجمهور يرون صحة الاعتكاف في كل مسجد،
ويشترطون المسجد الجامع للرجل حتى يصلي الصلوات الخمس في جماعة، وحتى يحضر
صلاة الجمعة، ولا يضطر إلى أن يخرج ويقطع اعتكافه للجمعة والجماعة، ولكن
يوجد من العلماء من غير الأئمة الأربعة من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد
الحرام، أخذاً من قوله سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
وهناك من يقول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد النبوي، عملاً بفعل النبي
صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يعتكف قط إلا في المسجد النبوي.
وهناك من يقول: الاعتكاف جائز في تلك المساجد الثلاثة، وألحقوا المسجد
الأقصى بالمسجدين السابقين لاشتراطه معهما في خصوصية شد الرحال، ويستدل
بهذا الحديث بأنه لا يجوز لأحد أن يشد الرحل إلى أي مسجد في الأرض ليعتكف
فيه إلا إلى أحد هذه الثلاثة؛ لأن جميع المساجد على وجه الأرض ما عدا تلك
المساجد الثلاثة فيما يتعلق بالعبادات سواء، فمثلاً: لا يجوز لإنسان في مصر
يشد الرحل إلى الجامع الأموي في دمشق ليعتكف فيه؛ لأن المساجد في مصر تعادل
المساجد في دمشق، ولا يحق لأحد في دمشق أن يشد الرحل إلى مصر ليعتكف مثلاً
في الجامع الأزهر؛ لأن مساجد دمشق بالنسبة للعبادات سواء مع مصر وغيرها،
وهكذا الجوامع القديمة كجامع قرطبة أو الزيتونة أو غير ذلك من المساجد؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ومعلوم أن
شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة إنما هو لموضوعية المساجد، وهي: الصلاة
والاعتكاف.
إذاً: بهذا الحديث ينبه المؤلف رحمه الله على أن أي إنسان في أي بقعة من
العالم إذا أراد أن يعتكف فيعتكف في مسجد من مساجد بلده أياً كان موقعه
وأياً كان نوعية مسجده، مادام يجمع فيه، إلا إذا أراد الفضيلة فله أن يشد
الرحال إلى واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإذا جاء أي إنسان من شرق أو غرب
أو شمال أو جنوب في محيط الأرض إلى أحد هذه المساجد الثلاثة ليعتكف فيه فلا
مانع.
سبب تخصيص المساجد
الثلاثة بجواز شد الرحال إليها
ولماذا خصت تلك المساجد الثلاث بجواز شد الرحال إليها ليعتكف فيها؟ قد سبق
أن نبهنا أن طالب العلم إذا وجد متعددات في حديث واحد فعليه أن يطلب الرابط
والجامع والمناسبة بين جمع هذه المتعددات في سياق واحد، ومثلنا بحديث
المنبر والتأمين عليه ثلاث مرات، حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر
فقال: (آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الدرجة الثالثة
فقال: آمين) ، وكان منبره صلى الله عليه وسلم في زمنه من ثلاث درجات، قيل:
كان يصعد على الأولى وتستقر قدماه الشريفتان على الوسطى، ويجلس على
الثالثة، وربما وقف على الثالثة وأدى بعض الأعمال ليري الناس كيف يفعلون،
كما جاء أنه صعد عليه وصلى ركعتين فاستقبل القبلة وكبر وقرأ وركع ثم رفع،
ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد إلى الركعة الثانية ثم قال:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وموضوع التأمين ثلاث مرات: (قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن ولا نعلم على
ما أمنت، قال: نعم، أتاني جبريل آنفاً وقال: يا محمد! من أدرك أبويه أو
أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ولما صعدت الثانية قال: يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في
النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ثم قال: من أدرك رمضان وخرج عنه ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل:
آمين.
فقلت: آمين) فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد في
حديث واحد في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث: ففي بر
الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما ولم
يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضل
النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في
الحديث: (لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي
يبكيان على خروجي.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى
منه، ومع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدم بر الوالدين عليه.
وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما لأنهما السبب في وجود الإنسان من
العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات
تلقح وتنتج، وابن آدم أيضاً يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا
التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في
إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية كما في قوله سبحانه: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
[الإسراء:23] فحق الله أولاً ثم حق الوالدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد
الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي
يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم
يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد
المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله.
إذاً: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم فللرسول على
المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه
بالله ويسعده في الآخرة.
ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا
كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من
الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض،
وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله
في رمضان ولم يغفر له فيه ولم ينل حظاً منه فمتى ينال حظاً؟! إذاً: هذه
الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد.
ونأتي إلى ذكر هذه المساجد الثلاثة: فواحد في مكة، وواحد في المدينة، وواحد
في بيت المقدس، والذي في مكة هو أول بيت وضع للناس، والذي في بيت المقدس
وضع بعده بأربعين سنة، والذي بالمدينة وضع بعدهما بآلاف السنين، فما الذي
ربط بينها رغم التباعد فيما بينها؟! وإذا تأملنا أيضاً نجد أن الرسول صلى
الله عليه وسلم قد ربط بينها في جانب آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة
في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فصارت صلاة في
المسجد الحرام بمائة ألف، وصلاة في مسجد المدينة بألف، وصلاة في المسجد
الأقصى بخمسمائة، ووجدنا أن المسجد الأقصى قد ارتبط بالمسجد الحرام قبل
المسجد النبوي في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] إذاً: هذه
المساجد الثلاثة اجتمعت لها تلك الفضيلة، وهي مضاعفة الصلاة فيها، فتكون
أيضاً مشتركة في مضاعفة الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف عبادة، فما دامت
تتفاضل الصلوات فيها على سائر مساجد الدنيا فكذلك الاعتكاف.
سبب مضاعفة الصلاة
في المساجد الثلاثة
ثم يأتي السؤال الآخر: وما السبب في أن الصلاة تضاعفت فيها بمائة ألف،
وألف، وخمسمائة، والأرض كلها مسجد وطهور؟ نجد أيضاً أن في تاريخ كل منها
ارتباطاً وثيقاً وصفات معينة لم يشاركها -أي: الثلاثة- غيرها من مساجد
العالم كله، أولاً: إن اختيار المكان لها ما جاء عفواً، بل كان اختيارها في
هذه الأماكن من الله، ثانياً: إن إقامتها وبناءها جاء عن طريق رسل الله
وليس عامة الناس.
إذاً: ما دامت قد اشتركت في كيانها ووجودها في تلك المبادئ فبينها اشتراك
أساسي، أما تعيين المكان فقد جاء في حق المسجد الحرام قوله سبحانه: {وَإِذْ
بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] والبيت كان قد
انطمس، وزمزم كانت قد ردمت، ولم يبق في مكة أثر للبيت، فأوحى الله سبحانه
وتعالى إلى خليله إبراهيم أن ينقل ولده إسماعيل إلى مكة، فجاء امتثالاً
لأمر الله كما قال الله عنه أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}
[إبراهيم:37] وهذا باعتبار ما كان؛ لأنه لا يوجد بيت في وقت مناداة
إبراهيم؛ لأن إبراهيم عليه السلام بناه بعد أن كبر إسماعيل وبوأ الله
لإبراهيم مكان البيت - (بوأ) بمعنى: أطلعه على المباءة، والمباءة: المكان
الذي يبوء إليه الإنسان ويئول- تقول كتب تاريخ المسجد الحرام: إن الله أرسل
إليه سحابة في وقت الظهيرة -وقت الزوال- فسارت ثم وقفت وثبتت، وقال له
المولى: خط على حدود ظلها.
فخط على حدود ظل تلك السحابة، ثم بدأ بالحفر فنزل حتى وصل إلى القواعد
الأساسية كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فلم يضعها ابتداءً ولم يحط حجر
الأساس، بل كانت القواعد موجودة من قبله، ومن الذي كان قد وضعها؟ نجد في
ذلك آثاراً كثيرة، منها أن الملائكة بنته لآدم، ومنها أن آدم هو الذي وضعها
بعد أن جاء شيث، وغيرها من الآثار، وكلها آثار لا ترتفع إلى درجة الصحة
التي يقطع بها.
والذي عندنا من علم اليقين ما جاء في كتاب الله من العمارة الثانية وهي
عمارة الخليل عليه السلام، فلما وصل إلى القواعد بنى عليها ورفعها، وكان
إسماعيل عليه السلام يساعد أباه، وكما يقولون في تاريخه: كان يأتيه بالحجر
ويرفعه إليه، إلى أن استوى البناء إلى قامة الإنسان، وبعد أن وصل إلى قامة
الإنسان لم يكن لديهم (سقالة) ، وليس لديهم (مصعد) ، فجاء مقام إبراهيم،
وهو: حجر كان يقف عليه إبراهيم، فإذا بالحجر يصعد بإبراهيم وهو حامل الحجر
للبناء حتى يضعه في الجدار في مستوى ارتفاعه، وينزل الحجر بإبراهيم حتى
يأخذ الحجر من إسماعيل ويصعد به، وهكذا.
ولذا فإن مقام إبراهيم فيه آيات بينات، يقول الفخر الرازي: الآيات جمع آية
وهي موجودة في الحجر في مقام إبراهيم، وكيف هي؟ قال: وجود حجر أصم، ثم يلين
هذا الحجر تحت قدميه كأنه من الطين، وتبقى صلابة الحجر في حوافها لم تلن،
فحجر واحد البعض منه يلين والبعض منه يظل قاسياً هذا فيه آية، فالجزء الذي
لان فيه آية، والجزء الباقي على قساوته فيه آية، وإلى الآن يوجد مقام
إبراهيم في الفانوس الموجود في صحن المطاف، وفيه أثر قدمي إبراهيم في
الحجر.
إذاً: المسجد الحرام اختص أولاً بقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] وهل هذه أولية مطلقة،
بأن كان هو أول حركة عمران على وجه الأرض، أم هي أولية بالنسبة للمساجد؟
هناك من يرجح الأول، ويقول: إن أول عمران على وجه الأرض عند أن نزل آدم إلى
الأرض هو البيت -الكعبة- ثم جاء إبراهيم عليه السلام وبوأ الله له المكان،
وهذه خصيصة ثانية، فقام ببنائه إبراهيم يساعده إسماعيل والحجر معهم مساعد،
وهذه خصيصة ثالثة، فاختص المسجد الحرام بهذه الأمور.
ثم هو في حرم آمن، ويتفق الجميع بأن الصلاة تتضاعف في جميع حرم مكة وليس في
المسجد فقط، فبيوت مكة كلها داخلة في الحرم، فحدود الحرم إلى مسجد التنعيم،
وجميع المساحة التي حول الحرم والتي لا يصح الإحرام منها للعمرة داخلة في
الحرم وتتضاعف فيها الصلاة.
نأتي إلى مسجد المدينة: لما تمت بيعة العقبة الثانية، وجاءت الهجرة، وهاجر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -كما نعلم- نزل أول ما وصل بقباء،
فبنى مسجدها، وكيف بناه وأين؟ تذكر كتب تاريخ المدينة حديثاً ضعيفاً وهو أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (اركب الناقة، فركب، قال: ارخ
زمامها، فأرخاه، فقامت واستدارت في مربع، فقال: خطوا على أثرها، فخطوا على
أثرها، وبدأ ببناء مسجد قباء على ما خطته الناقة) ، فقالوا: أيضاً كان
اختيار المكان لمسجد قباء من الله، وقد شارك في بعض الاختصاصات، فالذي بناه
هو رسول الله، وجعل من تطهر في بيته وأتى إليه وصلى فيه صلاة كان له كأجر
عمرة، وقال سعد بن أبي وقاص: (لأن أصلي ركعتين في مسجد قباء أحب إلي من أن
أذهب إلى بيت المقدس، ولو تعلمون ما لهذا المسجد لضربتم إليه أكباد الإبل
ولو شهراً) يعني: لو لم يكن عندنا لكان لفضله يستحق أن تضرب إليه أكباد
الإبل شهراً، يعني: تشد الرحال إليه.
والكلام على مسجد قباء كثير، ويكفي فيه من الفضل أن من قصده للصلاة فيه كان
له كأجر عمرة، وقول هذا الصحابي الجليل: (لأن أصلي ركعتين فيه أحب إلي من
أن أذهب إلى المسجد الأقصى) .
وبعد أن بنى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء نزل دافعاً إلى المدينة، وكانت
-كما نعلم- قبائل الأوس والخزرج الذين بايعوه عند العقبة في استقباله
بالعَدد والعُدد، وكل قبيلة تقول: هلم إلينا يا رسول الله! هلم إلى العَدد
والعُدد.
أي: لنوفي لك بالعهد، فكان جوابه: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) يا سبحان
الله! هذا نبي يوحى إليه بوحي السماء وفي أخطر رحلة يترك أمره إلى المأمورة
وهي عجماء؟ ولماذا لا؟! ألم يوحِ ربك إلى النحل، والحيوانات لا تتحمل
الوحي، لكنها تعقل، كما ذكر مالك في الموطأ: (أن يوم القيامة يكون يوم
الجمعة، وأنه ما من دابة إلا وتصيخ بسمعها فجر يوم الجمعة شفقاً من الساعة)
، فإذاً: جميع الحيوانات تعلم يوم الجمعة من الخميس من السبت، وتدرك أن يوم
الجمعة تقوم فيه الساعة، وتتسمع هل جاءت النفخة أو لا، فهي تعقل وتدرك،
والناقة هنا مأمورة، فمضت إلى أن وصلت إلى هذا المكان المبارك فبركت، ولم
ينزل عنها صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، ثم نهضت وهو عليها وراحت ودارت
واستدارت ورجعت إلى المكان الأول وبركت ومدت عنقها وتحركت، يا سبحان الله!
هل عندها خارطة تطبقها لتتثبت مما أمرت به؟! ليس عندها شيء من ذلك وإنما
هذا لكي يكون عندهم علم بأنها ما جاءت عفواً وإنما بركت مأمورة بركت على
العلم الأول، ثم قامت تتثبت وتتأكد بأنها مأمورة، فقال صلى الله عليه وسلم:
(إنه المنزل إن شاء الله) فرجع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه
المنزل، وبتقريره المأمورة على ما أمرت به.
ويأتي السؤال هنا: لماذا ترك أمره للمأمورة؟ يجيب العلماء على ذلك: بأنه
صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان عليه المجتمع في المدينة قبل مجيئه، فقد
كانت الحرب سجالاً بين الأوس والخزرج مائة سنة، ولم تقف إلا قبل مجيئه صلى
الله عليه وسلم بخمس سنوات كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها، إذاً: هم بالأمس كانوا في سباق في القتال، وكانوا طائفتين متقاتلتين
متنافستين، ولا يوجد واحدة تسلِّم للثانية، فلما وضعت الحرب أوزارها وهدأت،
جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من جاءهم، فلو قال: سأنزل
عند الأوس، فستقول الخزرج: الجرح لم يبرأ بعد، ولو قال: سأنزل عند الخزرج
فستقول الأوس: ولماذا لسنا نحن؟ ولماذا تركتنا؟ فتثار بينهم الحزازات مرة
أخرى.
لكن لما قال لهم: (إنها مأمورة) أي: عندكم الناقة وهي مأمورة فتفاهموا
معها، واتركوني من تحمل مسئولية تفضيل قبيلة على قبيلة، فجاءت إلى حيث
أمرها الله وبركت، فلم يتكلم أحد بشيء؛ لأنهم يعلمون أن المأمورة إنما
يأمرها الله، فإذا اعترضوا كان اعتراضهم على الله، وهم جاءوا ليستقبلوا
رسول الله لا ليعترضوا على الله! إذاً: انتهت مشكلة تنافس الأوس والخزرج.
بقي لنا المحل الذي نزل فيه وقال عنه: (إنه المنزل) والمنزل هذا ليس بخال
وليس بقفر، بل هناك بيوت وفيها أناس، فلو قال: أنا سأنزل عند فلان لقال
الأخرون: لماذا فلان؟ وستأتي المسألة ثانية، فوقف الجميع وكل واحدٍ يقول:
عندي عندي، بيتي قريب، بيتي هنا، وهو ساكت، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله
تعالى عنه كتب الله له الخير فما زاحم ولا شارك ولا دافع وإنما قام ساكتاً
وأخذ الرحل من على الناقة وجعله في بيته، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى
الناقة فوجدها خالية، فسأل أين الرحل؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته،
فقال: (المرء مع رحله) فلم يتخير أحداً ولم يبق على أحد غضاضة في ذلك.
إذاً: سلمت الرحلة من كل شوائب قد تثير في النفس شيئاً، فلما استقر في بيت
أبي أيوب نظر فإذا أمام البيت -كما يقال- بستان صغير أو مربد، والمربد عند
أهل النخيل: هو المتسع بين البساتين الذي يجمعون فيه الرطب حتى يتمر،
وينشرونه فيه للشمس حتى تذهب الرطوبة عنه ويشتد، فسأل لمن هو؟ فقالوا:
لأيتام - سهل وسهيل - عند أسعد بن زرارة، قال: عليَّ به.
فجاء، فقال له: ثامني على هذا المربد -ثامني يعني: اذكر لي ثمنه وبعه علي
بالثمن-.
قال: لا يا رسول الله! هو لك بدون ثمن، هو لأيتام عندي سأرضيهم عنه بأرض
بدله أو بتعويض عنه، قال: لا، ثامنّي.
فثامنه وانتهى الثمن على عشرين ديناراً ذهباً، فدفعها أبو بكر رضي الله
تعالى عنه، فكل ركعة يركعها الإنسان في المسجد النبوي يكون لـ أبي بكر فيها
أجر.
فقطع الجريد، وسوى الأرض، وبدأ ببناء المسجد من جذوع النخ
مباحث متعلقة
بالمسجد النبوي الشريف
بقي عندنا مباحث متعددة، وكلها عملية وضرورية بالنسبة للمسجد النبوي
الشريف.
ونجمل هذا في الآتي: أولاً: المسجد النبوي طرأت عليه توسعات بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ويأتي السؤال عن تلك التوسعات مع الحديث: (صلاة في
مسجدي هذا بألف صلاة) فهل يا ترى! قوله: (مسجدي هذا) ينسحب إلى التوسعات
التي جاءت بعده أو لا ينسحب؟ ثم (ألف صلاة) هل هي في عهده أو من بعدِه؟ وهل
هي للفريضة والنافلة أو للفريضة فقط؟ فنأخذ أولاً: التوسعة، لما وسع عمر
رضي الله تعالى عنه المسجد رأى بعض الصحابة يتحرج من الصلاة في توسعة عمر،
فلاحظ ذلك، فقال: والله! إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد
إلى ذي الحليفة -أبيار علي-.
إذاً: عمر يقسم بأن الزيادة التي زادها إنها من مسجد رسول الله، ولو جاءت
الزيادة بعده، وقد جاءت من عثمان، ومن الوليد، ومن الخلفاء بعدهم، ومن
العثمانيين، ومن الدولة السعودية.
فهي من مسجد رسول الله.
والواقع يصدق ذلك.
فلو امتد إلى ذي الحليفة، وجلس إنسان على الحائط الغربي من ذي الحليفة،
وقيل له: أين أنت جالس؟ لقال: في مسجد رسول الله، إذاً: التوسعة مهما كانت
فإنه ينسحب إليها فضل المسجد النبوي.
وسبب هذا الخلاف هو مدلول اللغة في كون اسم الإشارة اسم يعين مسماه كما
يقول ابن مالك في الألفية: اسم الإشارة وضع بالوضع العام لموضوع له خاص.
فكلمة (هذا) تصدق على كل مفرد مذكر، فيقال: هذا إنسان، هذا جهاز، هذا عمود،
هذا مصباح، هذا قلم، فكلمة (هذا) كلمة عامة تطلق على كل مفرد مذكر، ولكن مع
كونها عامة هل تطلق على العموم في وقت واحد أو على فرد من أفراد العموم؟
الجواب: على فرد من أفراده، ولهذا قال بعض العلماء: اسم الإشارة هو: اسم
يعين مسماه كالعلم، فقالوا في قوله: (مسجدي هذا) يكون خاصاً بما أشارت إليه
الإشارة الحسية فيما يصلح لها؟ وقد ذكرنا في تتمة أضواء البيان عند قوله
سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا} [الجن:18] وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي) و
(مسجدي) في اللغة: مضاف ومضاف إليه، مسجد: مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه،
إذاً: مهما اتسع المسجد فهو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تكون
للتخصيص كما تقول: باب الدار، وتكون للتمليك، كما تقول: كتاب زيد، إذاً:
(مسجدي) مدلول الإضافة فيه يعادل مدلول اسم الإشارة.
ونأتي إلى قضية أخرى جاء فيها الحديث الصحيح: لما نزل قوله سبحانه:
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] تلاحى بعض الناس: هل هو مسجد قباء أو مسجد
رسول الله؟ فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأخذ
كفاً من حصباء وضرب به الأرض وقال: (هو مسجدكم هذا) وأما مسجد قباء فما
مصيره؟ مسجد قباء فيه النص: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] ولما نزلت ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف
وهم أهل قباء فقال: (إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فماذا تفعلون؟
قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) أي: نستنتجي بالحجارة، ثم نغسل بالماء.
إذاً: الآية قطعاً نزلت في مسجد قباء، وعلى هذا فقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هل الأولية
هذه أولية زمانية أو أولية تفضيل؟ إن جئنا إلى الأولية الزمنية فمسجد قباء
هو أول، وإن جئنا إلى أولية الأولولية فلا شك أن المسجد النبوي أولى، ثم
جمع العلماء وقالوا: كلاهما أسس على التقوى من أول يوم، ولذا فإن الآية
الكريمة تشمل كل مسجد في كل زمان وفي كل مكان إذا بني من أول يوم على
التقوى، لا على الرياء ولا على السمعة ولا على مزاحمة لمسجد آخر، إنما بني
لوجه الله سبحانه.
إذاً: الصلاة في الزيادة تتعادل مع الصلاة في البناء الأول، ولكن لا شك ولا
ريب أن المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه هو أولى من المكان
الذي جاء من بعده، وأفضلية الألف موجودة فيهما، ولكن الأولوية لا شك أنها
في البناء الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت الخصيصة
الخاصة بهذا وأنه روضة من رياض الجنة قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي
ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، وقد أشرنا إلى
اختصاصه بالعبادة في الصلاة والاعتكاف، وذكرنا قصة الرجل الجهني الذي أتى
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني رجل كبير، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة
إلى هذا المسجد، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، فمرني بليلة أنزل فيها إلى
هذا المسجد ابتغاء ليلة القدر) فلم يقل له: صل حيثما كنت، ولم يقل له: ابق
وصل مع قومك، ولكنه قال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) ففي هذا إجازة بأن
يأتي الإنسان إلى هذا المسجد من أي مكان كان للاعتكاف كما يأتي للصلاة.
وقد جاء اختصاصه أيضاً بالمجيء إليه لطلب العلم في حديث: (من راح إلى مسجدي
لعلم يعلمه، أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) ولا توجد هذه الخصوصية
في أي مكان في العالم، ولذا سمعنا من كثير من مشايخنا ومن زملائنا، وجربناه
في أنفسنا: أن الله سبحانه يفتح على طالب العلم في هذا المسجد بما لا يفتح
عليه في غيره، وهذا من خصائص المسجد النبوي الشريف.
وبقي في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قضية كبرى، ونزاع طويل
كما يقول ابن كثير، لا ينبغي الدخول فيها إلا إذا كان هناك وقت يتسع
لبيانها، ثم التعليق عليها وإيضاح الراجح فيها، ومن أراد أن يقف عليها
فعليه أن يرجع إلى الجزء الثامن من تتمة أضواء البيان، فهناك بحث مطول
قريباً من خمسين صفحة في حكم شد الرحال إلى المدينة أو إلى المسجد النبوي
للصلاة وللسلام على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين.
|