شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [1]
خلق الله الناس وقسم أرزاقهم، ومعاشاتهم، وجعلها في أصول المكاسب الثلاثة: التجارة، والزراعة، والصناعة، وللبيوع أحكام كثيرة، بينها أهل العلم على ضوء الكتاب والسنة.


شرح حديث: (أيُّ الكسب أطيب)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه البزار وصححه الحاكم] .
بدأ المؤلف رحمه الله كتاب البيوع بهذا الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب الكسب، ما هو؟ وبعض العلماء يقول: إن جميع المكاسب راجعة إلى الزراعة والتجارة والصناعة، يعني: هذه الثلاثة، التي فيها التنمية، وفيها نمو المال، أو نمو المادة الخام وتطورها، فالزارع: حبة بذر يجعلها المزارع في الأرض، فتنمو إلى سبع سنابل {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، الحبة نمت إلى سبعمائة، فهذا نمو، كذلك التجارة: يأخذ السلعة بعشرة ويبيعها باثني عشرة، هذا أيضاً نمو، ويجتمع له هذا النماء، كذلك الصنعة يأخذ القطن فيغزله، ويأخذ الغزل فينسجه، ويأخذ النسيج فيفصله وهكذا تتطور المادة الخام على أيدي الصناع كل بحسبه، وفي كل مرحلة من هذا التصنيع تنتفع الأمة.
إذاً: أصول المكاسب هذه الثلاثة، ثم يختلفون أيها أفضل، أهي الزراعة، أم التجارة؟ فبعضهم يقول: الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، أنزل منها جزءاً إلى الأرض، وادخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة، والجزء الذي نزل إلى الأرض منه تسعة وتسعون في التجارة، والباقي في الصناعة، وفي الزراعة، وفي الأمور الأخرى.
والذي يرجحه العلماء: أن أفضل الكسب الزراعة؛ لأن الزراعة يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والطير، فكل هؤلاء يستفيدون من عمل الفلاح.
وبعضهم يقول: هناك كسب آخر، لكنه راجع إلى عمل اليد، وهو الكسب من الغنائم في الجهاد في سبيل الله، ويقول آخرون: الجهاد من عمل اليد، فلم يخرج عن هذه الثلاث.


الحرص على أطيب الكسب وفائدته
قوله: (أطيب الكسب) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة -ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام، أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك) ، وفي الحديث الآخر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام) إذاً: حرمة المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب إلا ليتحروه ويعملوا به فماذا كان الجواب؟ قال: (عمل الرجل بيده) .
يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها.
وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني.
من هنا فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع وإنما يتابع الدراهم أين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] ، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده.
فالموظف في آخر الشهر، يذهب ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية، هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل: لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة: نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس.
لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس! إذاً: أطيب الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة وكذا وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس.
وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛ لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن، وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع الصناعة أو.
إلخ فهو كسب باليد.
إذاً: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده) .


البيع المبرور
قوله: (وكل عمل مبرور) .
وهذا ما أشرنا إليه: أي نوع من أنواع الكسب، البيع هل هو في عمل الرجل بيده أم لا؟ فالبائع يأتي بالسلعة ويذهب إلى الدكان ويوزن ويعطي هذا وهذا.
إلخ، إذا انتهت البضاعة ذهب إلى تاجر الجملة وأتى بها، فهو يعمل بيده ورجله، ولكن لكون البيع المبرور من أميزها، والمبرور هنا: المفعول بالبر فهو: سالم من الغش، سالم من التدليس، سالم من غبن الجهال، سالم من انتهاز الفرص مع الحمقى، ومع الذين لا يعرفون الأسواق، فبعضهم إذا رأى إنساناً جاهلاً لا يدري عن شيء انتهز الفرصة ورفع الأسعار، وإذا رأى إنساناً حاذقاً ويعرف كل شيء تأدب معه فهذا ليس بيعاً مبروراً، بل يجب عليه أن يبر بيعه، وينصح إذا سئل عن سلعة معينة والآن في الوقت الحاضر مثلاً: هناك ماركة معينة راجت عند الناس، فيطلبها إنسان بالسماع، وهو لا يدري عنها، فجاء هذا البائع مستغلاً الفرصة وقال: هذا جاهل لا يدري كوعه من بوعه، فأعطاه سلعة غير الماركة المطلوبة، وقال له: هذه هي.
وذاك لا يدري، فهذا البيع ليس مبروراً، بل هو غش.
فالبيع المبرور: أولاً يتحرى فيه نوع السلعة وأنها حلال، ونوع السعر، فلا يستغل الضعاف في الزيادة والنقص، وإنما يعامل الناس معاملة واحدة، وقد يتفاوت البيع بعض الشيء فيتساهل مع هذا بواحد في المائة، ويزيد على هذا واحداً في المائة، فهذا يعوض هذا، المهم إلاّ يكون الغبن فاحشاً.
وأحياناً تكون السلعة موجودة عند البائع، ولكنه يقول: ما عندي، ولكن أنا أقدر أن آتي لك بها ولكن بزيادة قليلة!، وجد المشتري في حاجة إلى السلعة، ومضطراً إليها، فلو قال له: هي عندي، خذ، فإن المشتري سيساومه على الثمن، ولكنه يقول له: هذه السلعة معدومة، ولكن يمكن أن أوفرها لك من عند بعض التجار، ولكن بسعر فيه زيادة قليلة، ولماذا هذه اللفة الطويلة؟! من أجل الاحتيال على المشتري والزيادة في السعر! وكذلك من عدم البر في البيع: ترويج السلع بالأيمان فيحلف أيماناً بأنها الممتازة، والجيدة، والجديدة.
إلخ، وأن سعرها كذا وأنا تساهلت معك لماذا هذا كله؟! وأنت ترى إذا عرف تاجر في بلد بصدق الكلمة، وتوحيد السعر، كان موضع ثقة عند الجميع، وإذا عرف إنسان بعكس ذلك تجد الناس يتواصون بالحذر منه: فلان احذر منه! إذا جئته فانتبه منه! لماذا هذا؟! والتاجر الأمين مع النبيين والصديقين.
الأجير في عمله إذا عمل بيده فعليه أن يعمل عملاً مبروراً، فإن كان أجيراً باليوم فلا يضيع اليوم والزمن في الذهاب والإياب والمراوغة، فإذا أراد أن يصلي العصر تراه يذهب يتمشى، وبدلاً من أن يتوضأ يذهب يستحم، لماذا هذا كله؟ والبر في البيع بجميع أنواعه: هو الإخلاص، وعدم الغش، والنصح لله، ولعامة المسلمين، في تلك السلعة وفي غيرها، كذلك المشتري يجب عليه أن ينصح في الثمن، فلا يأتي بنقد مغشوش، ويقول: هذا البائع بدوي لا يدري المغشوش من الصحيح، ويقدمه له على أنه نقد صحيح فلو كانت معه ورقة خمسمائة ريال مزورة، وأعطاها لواحد بدوي لا يعرف الورق، ولا يعرف النقد، فهذا سينظر إلى الأصفار وسيرى الخمسة فيأخذها، ولكنه لا يعرف المزيف من غير المزيف.
إذاً: البر مطلوب من الجانبين: جانب البائع، وجانب المشتري.


شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر)
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه} متفق عليه] .
لاحظوا هذا الترتيب! بدأ المؤلف بالترغيب في أطيب الكسب: عمل اليد، البيع المبرور، عمل اليد دخلت فيه الزراعة، ودخلت فيه الصناعة، ودخلت فيه التجارة، لكن لاختصاصها جاء بهذا الوصف: البيع المبرور، ورغب الناس في الكسب الحلال، ثم بدأ بما يتمشى مع العنوان: قال: كتاب البيوع، ثم قال: شروطه -أي: شروط البيع- وما نهي عنه، وأين: ما أمر به؟ لا يوجد لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما أنبتت الأرض، وأخرجت البحار، وأمطرت السماء، وجاءت به الأشجار.
كل ذلك الأصل فيه الإباحة ما لم يرد الحظر، كما أن الأصل في العبادة الحظر ما لم يأت إذن، فهل تصلي العشاء الآن؟ ممنوع، متى نصلي؟ حينما يأتي الإذن، العشاء نصليها خمس ركعات؟ لا، ممنوع.
كم نصليها؟ على ما جاء به الإذن: أربع، جاء الإذن في الصبح باثنتين، وفي المغرب بثلاث، إذاً: الزيادة محظورة وهكذا فالأصل في الأعيان الإباحة، والأصل في العبادات الحظر.
فلما كان الأصل في الأعيان الإباحة؛ فكل شيء يجوز بيعه، إلا ما جاء النص في تحريمه، إذاً: نحن الآن نحتاج إلى بيان ما يباح بيعه، أو نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه؟ نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه، ولهذا قال المؤلف: شروطه، وما نهي عنه.
فبدأ بأشد الممنوعات، وذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه تاريخ الرواية: في فتح مكة: حرّم الله بيع الخمر.


تحريم الخمر شرباً وبيعاً واستعمالاً
الخمر من حيث هي اسم جنس يصدق على كل ما خامر العقل، والتخمير: من الخمار وهو الغطاء على الوجه، (خمروا الإناء فإن البلاء ينزل في ليلة من السنة) ، (خمر -أي: ضع عليه الغطاء- فإن لم تجد فضع عليه عوداً وقل: باسم الله) فالخمر: اسم جنس لكل ما خامر العقل، سواء كان سائلاً، أوجافاً، بأي نوع من الأنواع، فهو خمر في مسماه اللغوي، والشرع جعل كل ما أسكر خمراً، ولو كان لا يسكر منه إلا الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر منه ملء الفرق فملء الكف منه حرام) ، وليس المراد من هذا التحديد بملء الكف، وأن خمسة كفوف، وعشرة كفوف، ليس بمسكر وليست حراماً، لا، ولكن المراد: المقابلة بين الكثير والقليل، وأن الجميع محرم، فالقطرة الواحدة حرام شرباً وبيعاً.
كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم، ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم يختمر- تركه لغيره ولم يشربه.
فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه) .
وتحريم البيع يدل على المنع، وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال.
يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم) لو قال: إن الله حرم، فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله أيضاً.
(إن الله حرّم بيع الخمر) ، يعني: إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرما بيع الخمر.
وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً، شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر، يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: يا خالد! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا وكذا، وقد علمت أن الله حرمها.
فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-.
فكتب إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا تموتوا على ذلك.
فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لمن أراد أن يرجع إليه.
فهنا قول عمر: قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء مطهر.
(إن الله حرم بيع الخمر) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.


حكم بيع الميتة والانتفاع بها
قوله: (والميتة) .
حرم بيع الميتة، الميتة جاء النص في تحريمها، ويرى بعض العلماء أن النص مجمل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، فقال: حرمت في ماذا؟ هل أكلها، بيعها، شراؤها؟ قالوا: هذا مجمل.
والآخرون قالوا: لا، ليس مجملاً؛ لأن الفائدة من الميتة كانت قبل الموت إذا ذكيت بالأكل، وليس هناك أي جانب انتفاع إلا الأكل، فلما حرم بيع الميتة حرم أكلها، كما حرمت الخمر وحرم شربها.
والنقاش في نجاسة الميتة، ونجاسة الخمر، وبالتالي نجاسة الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم النجاسة في الميتة من حكم تحريمها، وذلك حينما مر صلى الله عليه وسلم بشاة -لـ ميمونة - ميتة يجرونها، فقال: (هلا انتفعتم بإهابها) -الإهاب لغة: الجلد قبل الدبغ- (فقالوا: إنها ميتة يا رسول الله!) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنها ميتة، فهو يراهم يجرونها، وهل خفي عليه أنها ميتة، أم أنه يراها؟! هو يراهم يسحبونها، ويرى أنها ميتة، لكن قولهم: إنها ميتة، لا لإخباره بموتها؛ لأنه مشاهد، ولكن للازم موتها وهو النجاسة، (إنها ميتة) ، بمعنى: إنها نجسة بالموت، وكان جوابه إياهم بمقتضى هذا، فقال: (يطهره -أي: الإهاب- الماء والقرظ) إذاً (إنها ميتة) لا يعنون بذلك الإخبار، وإنما يعنون النجاسة، وهو يكلمهم عن الإهاب، وخاطبهم في الطهارة والنجاسة، لا في الأكل والشرب، قال: يطهره.
إذاً: يطهره، رداً على استشكالهم النجاسة اللازمة للميتة، فقوله: (يطهره) أي: نعم هي ميتة، ونعم هي نجسة كما قلتم وفهمتم، ولكن ليست النجاسة لازمة لها، فإن جلدها يمكن تطهيره بالماء والقرظ.
إذاً: نهى عن بيع الخمر، ونهى عن بيع الميتة، والنهي يقتضي التحريم، وهناك قاعدة: كل محرم لذاته فهو نجس العين.


العلة في النهي عن بيع وأكل لحم الخنزير
قوله: (والخنزير) .
وكذلك نهى عن بيع الخنزير ولو كان حياً، ولماذا لا يباع ولحمه يؤكل، وشهي عند أصحابه وأربابه؟ فلماذا نهى عنه؟ لابد من علة، ما هي هذه العلة؟ هل لأنه ميتة؟ لا، لأنه نهى عن بيع الخنزير وهو حي يمشي على أربع، والعلة في النهي عن بيع الخمر هي النجاسة، والعلة في النهي عن بيع الميتة النجاسة، إذاً: الخنزير يشترك مع الخمر والميتة في النجاسة، ولذا ورد في النص الكريم: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرجس: النجس.
إذاً: هذه الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعها لنجاستها.
الشيء الثاني: هناك جوانب تدل على حكمة التشريع، فالخمر ولو لم تكن نجسة فهي ضارة، والمضر لا يجوز استعماله؛ لأنه يضر بالجسم، ويكفي في ضررها أنها تزيل العقل، وتسلب الإنسان أعز ما به كان إنساناً، والميتة ضارة بعينها على جسم الإنسان، والإنسان ممنوع من تعاطي ما فيه ضرر عليه، والخنزير كذلك، ويذكر أبو حيان رحمه الله في تفسيره عند الكلام على لحم الخنزير، قال: إن الخنزير مفقود الغيرة، لا يغار الذكر على أنثاه -يقول-: وقد شاهدنا من أكثر من أكل لحم الخنزير أنه سلب الغيرة، فيرى زوجه تلاعب غيره على مرأى منه ولا يتأثر، وأي مضرة ومصيبة في افتقاد الرجل الغيرة؟! وسبق أن قلت: الغيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: غيرة جنونية، ويسميها علماء الاجتماع: الغيرة السوداء وهي: التي تحجب عن صاحبها الرؤية؛ فيبطش، ويفعل كل ما بدا له غيرة، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وغيرة حمراء، وهي: الغيرة التي تدفع صاحبها للذب عن محارمه، ويغار على محارم الله، وهذه هي الغيرة المشكورة فإن زادت أفسدت، وإن ضعفت أفسدت؛ لأنه لا يغار على محارمه، ولا يغار على محارم الله، وأصبح لا غيرة له كما قال أبو حيان رحمه الله.
ومن المضار الصحية في لحم الخنزير: ما قرره الأطباء من أنه ينتج عنه دود العضل، والدود معروف وغالباً يكون في المعدة، ويُعالج بالدواء وينتهى، حتى الدودة الشريطية التي طولها اثنا عشر متراً، وتعيش في المعدة، ولكنها تُعالج وتخرج بدواء خاص، أما الدود الذي في العضل، في الفخذ أو في اليد أو في الزند فلابد من شق العضلة، ولقطه بالملقاط: واحدة واحدة، وهذه أكبر مصيبة.
إذاً: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الخنزير؛ للعلة التي اشترك فيها مع الميتة والخمر، والمنصوص عليها في كتاب الله بأنه رجس.


حكم بيع الأصنام والانتفاع بها
قوله: (والأصنام) .
الأصنام: كل ما كان مجسماً على صورة معبود -أياً كان- نجم، قمر، حيوان، شجرة، فكل ما يعبد، وله جسم مجسم، له ظل، فهو صنم، وهنا يقولون: هل تحريم بيع الأصنام لذاتها -لنجاستها- أو للازمها؟ فاتفقوا على أن النهي عن بيع الأصنام إنما هو للازمها، وهو: كونها تعبد من دون الله، أما إذا كسرتها وجعلتها وقوداً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، أو كسرتها وصنعت منها كرسياً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، وعلي رضي الله تعالى عنه لما وصل مهاجراً ونزل في قباء، كان يرى رجلاً يطرق الباب ليلاً على امرأة مغيبة، ويعطيها شيئاً، فجاءها علي في النهار وقال: يا أمة الله! من هذا الرجل الذي أرى منه كذا وكذا! لقد رابني أمرك! قالت: إنه سهل بن حنيف، علم أني امرأة، وليس عندي أحد، فيغدو على أصنام القوم فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذا.
إذاً: الأصنام تسمى بهذا الاسم إذا كانت على هيئتها الصنمية، فإذا ما كسرت لم تعد أصناماً، وأصبحت خشباً مكسراً، أو حديداً أو نحاساً، أو أي مادة صنعت منها.
إذاً النهي عن بيع الأصنام لا لعينها ولكن للازمها.
والأصنام: كل ما عبد من دون الله وكان ذا جسم -أي: شاخص- له ظل، مصنوع من خشب، أو حجر، أو معدن، ذهب أو فضة، أو نحاس، أو من الأحجار الكريمة، ويوجد في بعض البلاد -في معابد غير اليهود والنصارى والمسلمين- صور لأصنام من أحجار كريمة، ربما تعادل الملايين من الدولارات، وبيع الأصنام محرم، لا لنجاستها كما هو الحال في الخمر والميتة والخنزير، ولكن لعدم منفعتها، ولما يترتب عليها من الضلال فإنها تعبد من دون الله.
ويتفق العلماء على أن الصنم إذا كسر وتغيرت حالته عن كونه صنماً مجسماً ذا صورة وهيئة، وأصبح فُتاتاً وكسراً، ويمكن الانتفاع بتلك الأجزاء؛ فلا مانع من بيعها، فإذا كان الصنم من أحجار كريمة: كالفيروز، والياقوت، والعقيق، أو نحو ذلك، وفتت وأخذ فتاته، وانتفع به حلية: كفصوص للخواتم، وزينة لبعض المقتنيات فلا مانع، أو كان حجراً يمكن الاستفادة منه في بناء شيء أو ارتكاز شيء، أو كان خشباً يمكن الاستفادة منه باتخاذه حطباً، أو اتخاذه إناء، أو شيئاً مما ينتفع به في غير العبادات أو الضلال، فلا مانع.
وأشرنا إلى ما كان من علي رضي الله تعالى عنه حينما قدم مهاجراً، ونزل بقباء، وكانت هناك امرأة مغيبة -أي: ليس لها زوج حاضر- فكان يأتي شخص بالليل ويطرق عليها الباب، فتخرج فيناولها شيئاً ويذهب، فارتاب علي رضي الله تعالى عنه في ذلك فسألها: من هذا الذي يطرق عليكِ الباب ليلاً ويناولك شيئاً؟! وأنت امرأة وحيدة مغيبة! قالت: هذا فلان -وسمته: سهل بن حنيف - علم أني وحيدة، فيعدو على أصنام القوم، فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذه.
أي: تتخذها حطباً توقدها وتستفيد من وقودها، سواء كان في خبز عجينها، أو في طهي طعامها، أو تسخين مائها، أو تدفئتها، أو أي منفعة من المنافع التي يحتاجها الناس في البيوت.


يحرم بيع ما لا فائدة منه
ويلحق بهذا كل ما لا فائدة فيها شرعاً، ولا عرفاً، فإنه يحرم بيعه، ومن ذلك آلات الملاهي، وتلك الأوراق التي يلعب بها كثير من الناس، فإنها ليس فيها فائدة، وقد يذكر أهل هذه اللعب فوائد لبعضها كتعليم الحساب، أو تعليم السياسة العسكرية، كما جعلوا ذلك في بعض أنواع النرد، ويسمونها (لعبة الملوك) وفيها تسيير الجيوش وتدبيرها، فالشطرنج مثلاً: بعضهم أجازها؛ لأن فيها التدريب على حسن قيادة الجيوش، وبعضهم قال: هي من الملاهي، فإذا كانت اللعبة، أو الآلة والأداة لا فائدة من ورائها -كأدوات الطرب جميعها بدون استثناء- ديناً ولا دنيا، فلا يجوز بيعها؛ لعدم صحة الانتفاع بها، وعدم إذن الشرع فيها، فكل ما نهى الشرع عنه من تلك النواحي أو كان لا فائدة فيه فهو داخل في عموم النهي عن بيع الأصنام، لا لأنه صنم، ولكن لأنه لا نفع فيه.
وأجمع العلماء على أن من شروط صحة المبيع أن يكون مما ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، فلو أن إنساناً يتاجر بالحيات والثعابين! فهذه لا ينتفع بها، اللهم إلا في المزارع الخاصة بها، فينتفع منها باستخراج سمها؛ لإدخاله في بعض الأدوية، وبعض المصالح، لأن سم الثعبان قد يعالج به، كما قال القائل: وداوني بالتي كانت هي الداء، فإذا اقتني لاستخلاص السم منه وتصنيعه، فلا بأس في ذلك، أما إذا كان للإيذاء، إذا كان للعب، أو كان لترويع الناس، فهذا حرام ولا يجوز بيعه.
وهكذا الحشرات التي لا تنفع، فكل ما لا نفع فيه شرعاً، ولا نفع فيه عرفاً، لا يجوز بيعه، وهو داخل تحت عنوان: النهي عن بيع الأصنام.


حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه المسميات، ثم إن السامع لما سمع النهي عن بيع الميتة، والميتة فيها ما ينتفع به عرفاً، وهو شحوم الميتة، يؤخذ فيجمل فيذاب -كما ذكر- وتطلى به السفن، أي: من الجانب الذي يلي الماء؛ لئلا يتخلل الماء في مسام الخشب؛ فيعدمه ويفسده، أو فيما بين تركيب اللوح على اللوح، فقد تكون هناك فجوات، أو مسام، فيحشونها بخيوط الصوف، أو الكتان، ويملئون فراغها، ثم يأتون بالشحم، أو يأتون بالقار، أو يأتون بأي أنواع الشحوم التي لا تذوب في الماء؛ لتسد المسام التي بين الألواح حتى لا يتسرب الماء إلى داخلها، أو إلى داخل الخشب فيفسده.
فاستثنوا (قالوا: يا رسول الله! أرأيت - (أرأيت) تستعمل بمعنى: أخبرني، أي: أخبرنا يا رسول الله! - شحوم الميتة، فإنه يستصبح بها، وتطلى بها السفن) .
قوله: (يستصبح بها) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] ، كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل، كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ، ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها، سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد.
فهذه مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة، ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال: (لا، هو حرام) .
كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو) يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود: إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله: (لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة.
فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو حرام) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع.
وإن كان الضمير راجعاً إلى الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء، واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل، وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته) ، وسن الفيل عاج يؤخذ منه وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار والأصواف؟ يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي.
وقد جاء تحريم الميتة عاماً، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] (ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك الشعر، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية، والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن.
وجاء أبعد من هذا: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء) وهو عام في كل شيء، لكن جاء الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ولو كان إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد.
-أنا لا أدري حقيقة الأمر، ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] ، فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده، لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر.
فهنا استثني من الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب، بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات.
إلخ.
فهنا لما طلبوا استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو ... ) هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها فأكلوا ثمنها) ، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم، وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه.
فقوله: (هو حرام) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.


الانتفاع بالزيت المتنجس
والذين قالوا: إن الضمير راجع إلى البيع، الذي هو أصل الحديث: (نهى عن بيع) قالوا: بما أن الضمير عائد على البيع، فإن المحرم: بيعها، ويجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيوت المتنجسة انتفاعاً شخصياً، لا أن تباع ويؤخذ ثمنها ويؤكل، ولكن يستنفع بعينه، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، ونحن نعلم أن كل ذي نفس سائلة -يعني: دم- إذا سقط في سائل ولا نقول: قلة ولا قلتين- في إناء فمات فيه؛ فقد تنجس هذا السائل الذي فاضت نفسه فيه، وأما ما ليس له نفس سائلة إذا مات في السائل فإنه لا ينجسه، واستدلوا بحديث الذباب: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) قال العلماء: غمس الذباب في الماء يضمن موتها فيه، وموتها فيه لا ينجسه؛ لأنها ليس لها نفس سائلة، وقاسوا على الذباب البعوضة وغيرها مما ليس له دم.
ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، قال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها) ألقوا الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً فجاء في الحديث: (فاتركوه) ، وجاء: (فانتفعوا به) بم ننتفع؟ بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه، ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات: (فاستصبحوا به) إذاً: أباح لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد لماذا؟ وما الفرق بين المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد، أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت.
فمن هنا قال بعض العلماء: يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه، وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال: (هو حرام) .
يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال: (انتفعوا به) إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها فلا مانع.
وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا.
فهل يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع.
وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر.
إذاً: فماذا يصنع؟ قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه شيء.
إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز الانتفاع بها دون البيع، لحديث: (الفأرة تقع في السمن المائع فينتفع به) .
والله تعالى أعلم.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [2]
هناك عدة أنواع من المكاسب محرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وإنما نهي عن هذه المكاسب لما تتضمنه من شر وفساد.
وبعض أنواع البيوع مختلف فيها، مثل الشرط في البيع، والراجح: أن الشرط إذا كان يتمشى مع العقد، ولا يعود عليه بالبطلان، وليست فيه مخالفة شرعية فجائز، وإن كانت فيه مخالفة شرعية، أو يعود على العقد بالبطلان، أو لا يتمشى معه فهو باطل، ولو كان مائة شرط.


شرح حديث: (إذا اختلف المتبايعان)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان) رواه الخمسة وصححه الحاكم] .
قوله: (إذا اختلف المتبايعان) يختلفان في ماذا؟ قد يختلفان في الثمن، وقد يختلفان في نوعية السلعة، وقد يختلفان في حجم السلعة، وفي تعجيل الثمن وتأجيله.
إلخ.
فمثلاً: اشترى رجل سلعة، وعند الدفع أراد أن يدفع عشرة ريالات، فلم يقبل البائع ذلك، وطلب اثني عشر ريالاً فاختلفا، أو اختلفا في نوعية السلعة إلخ.
فأي خلاف بين المتبايعين قبل أن يفترقا، والسلعة لا زالت موجودة، فنأخذ كلام البائع، لكن ما الفرق بينهما، وهما طرفان متعادلان، هذا يدفع وهذا يدفع؟ ما الذي قدم البائع على المشتري في موقف الخلاف؟ فالمشتري يقول: أنا اشتريت كما أردتَ، وقبلت بما قلتَ، ولكنك تأسفت وندمت، وقلت: العشرة قليل، وطلبت الزيادة، فطلبك للاثني عشر زائد عما تعاقدنا عليه، إنما دفعك إليه الطمع! وإذا كلفنا البائع بالبيع بعشرة فسيكون متضرراً، وأيضاً المشتري لو كلفناه الشراء باثني عشر فسيكون متضرراً، فما القول؟! ما زالت السلعة في ملك البائع، ولا يتم البيع إلا عن تراضٍ، والبائع لم يرض بهذا الذي قاله المشتري، إذاً: كلام المشتري غير مقبول؛ لأنه لم يملك السلعة بعد، وكلام البائع هو المقدم؛ لأنه المالك للسلعة، والسلعة ما زالت في يده، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع، فسيكون البائع راضياً بالبيع، وأنت راض بالشراء، وإذا لم ترض فلا تقدم رأيك على رأي البائع وهو صاحب السلعة.
إذاً: (إذا اختلف المتبايعان) سواء في: عين السلعة في القيمة في شرط في أجل في أي نوع من أنواع الخلاف الذي يقع بين المتبايعين، فالقاعدة عندنا: القول قول البائع؛ لأنه صاحب السلعة وصاحب الحق، ولا نأخذها منه إلا عن تراضٍ.


شرح حديث: (نهى عن ثمن الكلب)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) متفق عليه] .
ذكر المؤلف في الحديث السابق بعض الأعيان المنهي عن بيعها كالخمر، والميتة.
إلخ، ثم ذكر اختلاف المتبايعين، ثم ذكر بعض أنواع الكسب المحرمة، ولو قدم هذا على اختلاف المتبايعين لكان أنسب.


النهي عن ثمن الكلب
قال: (نهى عن ثمن الكلب) هنا لا يوجد بيع ولا شراء، ولكن في بعض صوره، فلم يقل: نهى عن بيع الكلب، نهى عن ثمنه، ولماذا نهى عن ثمن الكلب؟ وهل هو عام في الجنس أو يستثنى منه بعض الأوصاف؟ بعض الناس يقول: استثني من ذلك كلب الصيد؛ لأنه معلم ينتفع به، وما عداه لا منفعة فيه، وهو تابع للقاعدة العامة: ما لا فائدة فيه فليس محلاً للبيع.
وقالوا: العلة في النهي عن ثمن الكلب هو منع بيعه، ولماذا لا يباع؟ لأنه لا فائدة فيه.
فإذا كانت فيه فائدة؟ قالوا: لا اعتبار لهذه الفائدة مع وجود النجاسة؛ لأنه نجس؛ ولكن النجاسة لم يتفقوا عليها؛ فقد قال مالك بطهارة الكلب! فقالوا: الفائدة منه غير مضمونة، لكن أرباب الخبرات سيضمنون الفائدة: ككلب الصيد، وكلب الحراسة، وكلب الماشية، وبعضهم يقول: النهي منصب على ما عدا الثلاثة، فقد ورد في الحديث: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط، إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع) استُثني هذا: بأن صاحبه لا ينقص من أجره شيء؛ للحاجة إليه.
فالنهي عن ثمن الكلب قيل: عام في الجنس، وقيل: ما عدا ما فيه منفعة، والنهي، لعدم الانتفاع بالكلب في غير الأصناف الثلاثة التي رخص في اقتنائها.


حكم مهر البغي
قوله: (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي) البغاء محرم، والبغاء ممنوع، حتى في الجاهلية، وإنما كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، وقد عذر الله سبحانه هؤلاء الفتيات المكرهات فقال: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]-وهو -كما يقولون- أخبث أنواع الكسب؛ لأنه يأتي عن أسوأ وأخس طريق؛ فنهى عن مهر البغي، سواء كانت مع شريكها أو كانت لسيدها، وقد كانوا في السابق يكرهون الفتيات على البغاء؛ لتأتيهم بالمال الذي تأخذه أجرة ممن زنى بها، أو كان في حال المقابلة هي وشريكها في العمل، وأخذت مهراً على فعله معها، فهذا منهي عنه، ولا يحق لها أن تأخذ هذا المهر، ولا يحق لسيدها أن يرسلها في طريق البغاء لتأتيه بمهر، وسمي الأجر الذي يدفع مهراً؛ لأنه في مقابل مهور الحرائر، أو الزواج المشروع.


حكم الكهانة وأجرتها
قوله: (وحلوان الكاهن) .
حلوان: على وزن فعلان، من الحلاوة، وهو الأجر الذي يأخذه الكاهن على كهانته، والكاهن -كما يقولون- هو: كل من ادعى علم غيب ماض أو حاضر أو مستقبل، وقيل: العراف: هو الذي يدعي معرفة الغيب المستقبل، والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب الماضي، فإذا خفي على الناس شيء مسروق، يأتي الكاهن ويقول: سرقه فلان، وهو مدفون في المكان الفلاني.
ينبئ عنه وقد وقع فيما مضى، أما العراف: فإنما يقول: سيأتي كذا، سيحدث كذا، ويخبر بما يمكن أن يكون في المستقبل، وكلهم سواء، وأجرتهم حرام.
والصديق رضي الله تعالى عنه أرسل خادماً له يأتي بطعام، فجاء فقدمه لـ أبي بكر، فلما طعمه سأله: من أين هذا؟ قال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية، فلقيني فأعطاني حلواني، فهذا هو.
فوضع الصديق إصبعه في حلقه واستقاء ما أكل من حلوان الكاهن.
والذي يهمنا هنا تحريم دفع الأجرة لهؤلاء؛ لأن فعلهم باطل، ومحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، وإن صادف أن واحداً من هؤلاء صدق فيما أخبر، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك: وهو أن الشياطين يسترقون السمع، حتى إذا دنوا من السماء، سمعوا صريف الأقلام، ولربما سمع الأخير منهم -قبل أن يأتيهم الشهاب- كلمة من الملائكة في القضاء والقدر، فينزل بها أو يلقيها إلى من تحته، قبل أن يدركه الشهاب، ومن تحته يلقيها إلى من تحته حتى تصل إلى الأخير، فيذهب بها إلى صاحبه، ويخبره: سيقع كذا وكذا.
وهو صحيح، فيتكلم الكاهن بذلك، فيقع ما يقول، ويزيد معها مائة كذبة، ويصدق؛ لأنه في الوقت الفلاني أخبر بكذا، ووقع ما أخبر به! إذاً: فالكاهن يسترق السمع، وتكون حقاً، ويُصدق بها عند الناس، فيروج معها مائة كذبة.
فحلوان الكاهن هذا نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، سواء كان الكاهن الذي يأخذه، أو الذي يذهب إليه ويدفعه له.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الإتيان إلى هؤلاء، وقالوا: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، وإذا ردت عليه صلاة أربعين يوماً فما الذي بقي له؟! إذاً: هذا مما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً مهر المرأة الباغية، وهكذا كل ما لم تكن فيه فائدة أو كان محرماً شرعاً، كالرهان، أو الميسر، وما لا فائدة فيه، أو فيه مضرة، أو فيه أكل أموال الناس بالباطل.


الإخبار بحالة الطقس المتوقع ليس من الكهانة
هناك شيء أكثر الناس يعرفه، لكن ربما خفي على بعض الناس، وهو ما نسمعه في نشرة الأخبار الجوية: يكون الطقس في يوم غد -بإذن الله- غائماً جزئياً، ويطرأ كذا، ورياح كذا، وسحب كذا، ويمكن -بإذن الله- أن ينزل المطر.
إلخ، فبعض العوام يظن أن ذلك من الكاهنة، والواقع أنه ليس غيباً وليس كهانة، ولكنه إخبار بالواقع، فكل دولة لها مراصد جوية، فإذا كانت في الهند مراصد، ورصدت توجه الرياح بسرعة كذا كيلو في الساعة، فستخبر دول الخليج: بأنه هبت ريح بسرعة كذا، يعني: ستصلكم في وقت كذا، فحينما تصل إلى دول الخليج، فدول الخليج ستخبر السعودية، والسعودية بعد أن تصلها ستخبر مصر، ومصر ستخبر ليبيا، وليبيا ستخبر المغرب، وهكذا يتناقل الخبر، ويكون صحيحاً، والريح ماشية في طريقها، وربما تكون ممطرة؛ لتحملها الماء، أو سحب ثقيلة، أو نحو ذلك.
إذاً: ليس هذا من باب الغيب، وإنما هو تلقي الخبر الواقعي من بلد قبل البلد المخبرة، وهي تخبر بناءً على الأخبار التي جاءتها (لا سلكياً) ، وهذا ليس من باب الكهانة ولا من باب علم الغيب.


شرح حديث: (كان على جمل له قد أعيى)
قال رحمه الله: [ (وعن جابر بن عبد الله أنه كان على جمل له قد أعيى فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه؛ فسار سيراً لم يسر مثله، فقال: بعنيه بأوقية.
قلت: لا.
ثم قال: بعنيه.
فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك) متفق عليه، وهذا السياق لـ مسلم] .
قوله: (كان على جمل له قد أعيى) أي: أعيى من المسير، وكان هذا في عودتهم من غزوة تبوك، وكانت المسافة طويلة، والجمل أعيى من السير وتعب، حتى كاد جابر أن يزهد فيه ويسيبه، ويمشي على قدمه، ماذا يفعل به وهو لا يقدر على المشي؟ قوله: (فأراد أن يسيبه قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم) .
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان في مؤخرة الجيش، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كانوا في الذهاب إلى الغزوة يكون في المقدمة، وإذا كانوا قافلين -في العودة- يكون في المؤخرة.
لماذا؟ يكون في المؤخرة؛ ليتفقد مثل هذا الذي أعيى جمله، وفي المقدمة لماذا؟ ليشجع ويتأسى به الآخرون؛ لأن المقدمة تدل على الشجاعة، وعلى قوة العزيمة، لكن العودة لا يحتاج فيها إلى ما كان في الذهاب، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في المؤخرة؛ ليتفقد حال من يعتريه ما يوجب مساعدته.
وقوله: (فدعا لي، وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله) .
كأنه قال: ما بالك يا جابر؟! ما بالك متأخراً؟! قال: أعيى جملي، قال: ناولني عصاً، أو قضيباً، فأعطاه القضيب فضربه، فإذا بالجمل الذي أعيى يسبق الركب، وصار يتسابق ويتزاحم مع ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق.


مداعبته صلى الله عليه وسلم لجابر
تأتي المداعبة اللطيفة: يا جابر! أنت كنت زهدت في جملك وتريد أن تسيبه، فهل تبيعه الآن؟! انظروا اللطافة إلى أي حد! معناه: أنك كنت زاهداً فيه، ولا تريد من ورائه شيئاً، فهل تبيع؟! كأنه يقول: هاه! هل ناسبك الآن؟ أيصلح لك؟! أتبيعني جملك؟! قال: لا.
أنت بالأمس كنت تريد أن تسيبه، والآن نريد أن نشتريه منك نقداً، فتقول: لا! كنت أريد أن أسيبه لما كان أعيى، ولكنه الآن صار ممتازاً، لماذا أبيعه؟ قال: بعني.
إذاً: ما دام أتت الثانية، أو أتت المساومة، فلابد من الطاعة، فهل استحى جابر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعاد إليه: بعني، أو استجاب له؛ لأنه فعل أمر: (بعني) ؟ قال: بعتك.
قوله: (فقال: بعنيه بأوقية.
قلت: لا) .
الأوقية: أربعون درهماً.
(بعنيه بأوقية) هل أوقية ذهب أو فضة؟ كان أكثر تعامل أهل الحجاز بالفضة، (بعنيه بأوقية.
قال: لا) ثم أعاد عليه الأمر، فقال: (بعتك) ولكن نحن في منتصف الطريق، فكيف أبيعك الجمل! وأنا أين أذهب؟! وقوله: (ثم قال: بعنيه.
فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي) .
بعد أن انتهوا، وتم البيع بإيجاب وقبول، ولم يدفع الثمن بعد، قال: (واشترطت حملانه إلى أهلي) أنا صحيح بعتك، ولكننا في الخلاء فأشترط عليك -وقد اشتريته، وأصبح في ملكك- أن يحملني إلى المدينة، إذاً: حملانه من محل العقد إلى المدينة خارج عن العقد، العقد تم بالإيجاب والقبول، ولكن جابراً اشترط منفعة له في المبيع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافقه بدليل: أن جابراً لما وصل المدينة جاء بالجمل، وقال: خذ حقك، وأعطني حقي.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا فلان! أعطني الثمن.
وانظر إلى المضي في المداعبة إلى أي حد! قال: (فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري) .
أخذت الثمن ورجعت، وكل واحد ذهب في سبيله، أرسل في أثري، قال: تعال.
قوله: (قال: أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟) .
تعال يا جابر! أنت بعتني هناك، وأخذت الثمن الآن وانتهينا، لم تعد بيننا مساومة، أتراني -بمعنى: أتظنني- ماكستك هناك عند العقد؟ (حينما قلت: بعني بأوقية.
فقلت: لا.
قال: بعني) هذه هي المماكسة، والبيع إما أن يكون على المماكسة -وهي المساومة- أو على الوضيعة، أو على المرابحة، أو على المساواة.
أتراني ماكستك هناك -ونحن في الخلاء- لكي آخذ جملك منك؟ لا، أنا ما فعلت هذا يا جابر! خذ جملك، هو لك والثمن.
ولماذا لم يقل له من البداية: يا جابر! خذ هذه الأوقية؟ لكن كيف يأخذها جابر بدون بيع وشراء، فلو جاء وقال: خذ يا جابر! سيقول: لماذا هذه يا رسول الله؟! ما موجبها؟! فإذا أراد الصديق أن يصانع صديقه، وكان ذا حياء، فيجب أن يحتال في صورة ترفع الحياء والخجل عن صاحبه: أنا أريد أن أشتري منك هذا.
قال: والله أنا في حاجته، ولكن ما دمت تريد أن تشتريه فأنا لا أقول لك: لا، فإذا كانت قيمته عشرة تعطيه عشرين، أما لو جئت وقلت له: يا فلان! هذه العشرة هدية لك! سيتساءل: ما موجبها؟ لعله رآني محتاجاً، وماله كثير، أنا.
أنا.
وسيحصل في نفسه مثل هذا الحرج، ولكن لو قال: بعني هذا، هذا أعجبني، ما له نظير في السوق، فسيقبل ذلك بسرور، أنت وهو والناس كلهم يعرفون أنه يساوي عشرة، لكن دفعت له عشرين، وظاهر الأمر أنك دفعت العشرة الزائدة لكونك رغبت في هذه السلعة، وليس هناك غضاضة على البائع بالمكارمة في الثمن، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتراني ماكستك لآخذ جملك بالأوقية؟ خذ الجمل والأوقية فهما لك.


حكم الشرط في البيع
وهنا مبحث طويل، وهو: الشرط في البيع.
وخلاصة مبحث الشرط في البيع: أن يشترط البائع فيما باع، أو يشترط المشتري فيما اشترى، أو اشترط في عين السلعة، مثال اشتراط البائع على المشتري: حديث جابر، ومثال اشتراط المشتري على البائع لا في عين السلعة: أن يقول له: أشتري منك هذا الحمل -ونحن هنا- بشرط أن توصله لي إلى البيت، إذاً: اشترط المشتري على البائع شيئاً لمصلحته، وجابر اشترط شيئاً لمصلحته، وهو البائع، ومثال الشرط في عين السلعة: أشتري منك هذه السيارة بشرط أن تكون ماركة كذا، فنحن لا نعرف الماركات ولكن سنسأل، أشتري منك كذا، على أن يكون موديل سنة كذا، أشتري منك كذا، على أنه من نوع كذا، فالشرط هنا في السلعة، أو قال: تزوجني كذا على أنها بكر، فهذا شرط في عين المرأة.
إذاً: الشرط إما أن يكون لمنفعة البائع، ويشترطه في المبيع، أو لمصلحة المشتري، ويشترطه في المبيع، أو بينهما في عين السلعة، وكل هذه الشروط في مضمونها: إما أنها تتمشى مع مقتضى العقد، والعقد يتطلبها أو يجيزها، فهذه لا شك في جوازها، وإما أنها تتعارض مع مقتضى العقد، فهي ممنوعة، مثلاً: بعت السلعة، قال والثمن قال له: حتى نصل إلى المدينة، قال: أريد رهناً، فهذا شرط لمصلحة توثيق العقد، أو أن البائع قال: بعتك ولكن بشرط ألا تبيعه لغيرك، وألا تهبه لأحد، وإنما تبقيه في ملكك! ومقتضى العقد أنك إذا اشتريت شيئاً فإنك تملكته، وإذا ملكته فأنت حر في التصرف فيه، فاشتراطه عليك ألا تبيعه، نقص في التمليك، وهذا يتنافى مع العقد؛ ولذلك فهذا الشرط باطل.


نموذج في اختلاف وجهات النظر
وهنا مسألة من لطائف العلم في شروط البيع، يقول عبد الوارث: جئت إلى مكة فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فقلت: هؤلاء -والله- هم علماء العراق، لأنتهزن فرصة وجودهم، فجئت إلى أبي حنيفة وقلت له: ما تقول في شرط وبيع؟ قال: الشرط والعقد كلاهما باطل.
وذهبت إلى ابن أبي ليلى فقال: البيع صحيح، والشرط باطل، فذهبت إلى ابن شبرمة، فقال: العقد صحيح، والشرط صحيح.
قلت: ويا عجب! ثلاثة أئمة من بلد واحد يختلفون في مسألة واحدة! فرجعت إلى أبي حنيفة وقلت: إن ابن أبي ليلى يقول كذا، وابن شبرمة يقول كذا.
فقال: ما علي مما قيل لك، (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط) ، إذاً: أتى بالحكم بأن العقد والشرط باطل من هذا الحديث.
فذهبت إلى ابن أبي ليلى، فقلت: إن صاحبك يقول كذا، وابن شبرمة يقول: كذا، ولما رجعت إلى أبي حنيفة أخبرته بما قلت أنت، وبما قال ابن شبرمة.
فقال: كذا، فقال ابن أبي ليلى: ما علي مما قيل لك، (جاءت بريرة إلى أم المؤمنين عائشة تستعديها -أو تستسعيها- في مساعدتها في المكاتبة، قالت: إني كاتبت أهلي على كذا أوقية، إلى زمن كذا.
فقالت: اذهبي إليهم وأخبريهم: إن شاءوا نقدتها لهم كلها -أي: الثمن- ولي الولاء، فذهبت وأخبرت أهلها.
فقالوا: لا، تشتريها والولاء لنا.
فرجعت بريرة إلى أم المؤمنين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، قال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته.
قال: ما عليك، اشتريها واشترطي لهم.
فلما اشترتها واشترطت لهم خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، ودعا الناس، وقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو مائة شرط) فأجاز البيع وأبطل الشرط.
قال: ثم ذهبت إلى ابن شبرمة، وأخبرته بما حصل، وبما قال صاحباه، فقال: ما علي مما قيل لك، لقد باع جابر جمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشترط عليه حملانه إلى المدينة، فصح العقد وصح الشرط.
ما تقولون في هذا؟ هل نعيب في مسألة وقع الخلاف فيها بين الأئمة؟! يتعين ويجب على كل طالب علم أو طويلب علم إذا بلغه خبر اختلاف الأئمة في مسألة واحدة؛ أن يتأدب وأن يتريث وأن يستطلع، انظر إلى هذا السائل، وهو عبد الوارث سأل، وأخذ الجواب من الثلاثة، وكانت أجوبة مختلفة، ورجع إليهم واحداً واحداً، وسمع الدليل من كل واحد، مع أن كل واحد لما سمع مقالة الثاني ودليله، لم يرجع عما عنده من دليل أيضاً؛ لأنه عنده أرجح مما سمعه من الغير.
إذاً: من انقدح عنده ترجيح نص على نص آخر، فله الحق أن يقول بما انقدح عنده رجحانه، ولا يعاب عليه.
وهذه -كما أشرنا- مسألة واحدة: بيع وشرط، يختلف فيها هؤلاء الأئمة الأعلام، ولم يعب واحد على الآخر، ولم يترك واحد ما عنده من النص تقليداً للآخر، ومن أراد الزيادة في هذا فليرجع إلى كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فقد ساق نماذج عديدة في أسباب الخلاف: في اختلاف وجهات النظر في النص، في تعدد الأدلة، في تعارضها، في عدم ثبوتها.
إلى آخره، فقد ذكر عشرة أسباب توجب الخلاف بين العلماء.


قاعدة في الاشتراط في البيع
حديث جابر ركن في هذا الباب، والقاعدة بعد ذلك: كل شرط يتمشى مع مقتضى العقد فهو صحيح؛ لأنه لا يتعارض مع قوة العقد، وكل شرط يتنافى مع مقتضى العقد فهو فاسد؛ لأن الشرط فرع عن العقد، والفرع لا يبطل الأصل، إذاً: نبطل الفرع ويبقى الأصل سليماً، كما في قضية بريرة.
وللعلماء بحث في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) ، بعض الناس ينتظر أن يجد في كتاب الله نص الشرط، ويبحث عن نص شرط بريرة، وشرط عائشة على بريرة أن يكون الولاء لها، ومتى يكون هذا التفصيل في كتاب الله؟! وهل كتاب الله جاء لتفصيل الجزئيات؟! إنما جاء كتاب الله بقواعد عامة تشريعية تصلح لكل زمان ومكان، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) أي: كل شرط لا يتمشى مع مقتضى كتاب الله -فيما يجوز وما لا يجوز- فهو باطل، ولو مائة شرط، ما هو الشرط الذي لا يوجد في كتاب الله؟ هو الشرط الذي يتنافى مع مقتضى العقد.
ولذا فالفقهاء قعدوا هذه القاعدة: لكل من البائع والمشتري أن يشترط، ولكلٍ الحق في ما اشترطه، وعلى الثاني أن يوفي بشرطه (المؤمنون عند شروطهم) لأن الشرط جزء من المعقود عليه، فقد يكون تنازل في الثمن من أجل الشرط، وقد يكون زاد في الثمن من أجل الشرط الذي اشترطه لنفسه، إذاً: ما كان من شرط يتناسب مع مقتضى العقد فالشرط صحيح، وما كان من شرط يتناقض، ويتعارض مع مقتضى العقد فالشرط باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم.


المعجزة النبوية
نرجع مرة أخرى: هذا جمل أعيى عن المسير، قال: أعطني عصا.
فضربه فإذا بالجمل يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ماذا كان في هذه العصا؟ لا شيء، فلم تكن عصا سحرية! ولم تكن عصا موسى! ولم يسقه شراباً، ولا لبناً، ولا سمناً، ولا أعطاه علفاً، مع أن هذه الأصناف هي موجبات القوة، إنما ضربه -والضرب منهك- فإذا به يأتي بنتيجة عكسية.
إذاً: هذه معجزة، ويقول السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم نظيرها: عصا موسى تفلق البحر، وعصا موسى تنقلب حية، وعصا موسى تفعل الأعاجيب، وهذه عصا تعطي البعير قوة، من أين جاءته هذه القوة؟ العصا ما فيها قوة، ولكن اليد التي ضربت جعل الله فيها البركة.
الزبير في غزوة الخندق ضرب شخصاً على رأسه فشقت غطاء الرأس، وشقت الرجل نصفين، ونزلت إلى الفرس فقسمته نصفين، فقال قائل: والله ما أجود سيفك يا زبير! قال: لا، الكلام ليس للسيف، الكلام على اليد التي ضربت بالسيف.
وكذلك هنا، ليست العبرة في عصا يقود بها جابر بعيره، ولكن العبرة باليد التي ضربت البعير، ونظير هذا: حينما دخل صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وأتى إلى الكعبة وكانت الأصنام التي حولها (360%) صنماً، حوالي ثلاثمائة صنم، ومثبتة بالرصاص، وماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: ائتوا بسلم، ائتوا بمعول، ائتوا (بكمبريشن) ؟! لا، القضيب الذي في يده كان يشير به إلى الصنم، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا خر لوجه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر لقفاه، وهكذا قوضت تلك الأصنام بكاملها بإشارة من العصا! هل كان فيها أشعة (ليزر) تذيب الرصاص وتسقطه؟ وأليس هذا القضيب كان في يده صلى الله عليه وسلم حينما كان يصلي عند الكعبة وجاءوا بسلى الجزور ووضعوه على ظهره؟ بلى كان موجوداً، فهل فعل شيئاً من هذا؟! ألم يكن في يده حينما منعوه من دخول مكة عند عودته من الطائف، ولم يدخل إلا في جوار رجل مشرك؟ لماذا لم يكسر الأصنام أو بعضها بالعصا، ويبين لهم القوة؟! لماذا لم يفعل ذلك؟ لكل شيء أوانه، لو فعل في ذاك الوقت لقامت حرب أهلية، ولكن ماذا لو بقيت الأصنام على الكعبة سنة أو سنتين أو ثلاث أو عشر، وقد كانت معلقة على جدران الكعبة من عشرات السنين؟ وحينما يأتي الحق ويزهق الباطل ينتهي الأمر.
إذاً: هذه من المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وكما قال السيوطي: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها، فالحجر التي ضربها موسى فانفجر منها الماء {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} [البقرة:60] قد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة من جنسها، بل أبلغ منها، وذلك لما أتوا ليتوضئوا ولم يكن هناك ماء، فجاءوا بركوة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها، فنبع الماء من بين الأصابع، الماء يخرج من خلال الحجر أمر طبيعي {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74] هذه طبيعة الحجارة، لكن أن يخرج من بين اللحم والدم فيتوضئون عن آخرهم! هذا أبلغ.
إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يضرب الجمل الذي قد أعيى، فإذا به يعطى قوة! حتى يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم؛ تصديقاً لما جاء به من عند الله سبحانه وتعالى.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [3]
من الفواسق الفأرة، ولها أحكام في الفقه، مثل حكمها لو وقعت في سمن جامد أو مائع، ويذكر هذا في باب البيوع للاختلاف في جواز بيع هذا السمن الذي سقطت فيه.
وكذا يذكرون في باب البيوع حكم بيع السنور والكلب، ومثل هذه المسائل إنما يدل على سعة هذا الدين وشموله، وتميزه في حل المشكلات من المسائل العارضة.


شرح حديث: (أعتق رجل منا عبداً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فقال المصنف رحمه الله: [وعنه (أي: عن جابر) قال: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه) .
متفق عليه] .
شخص أعتق عبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أحضره وباعه، وانتهى الأمر، ما علاقة هذا بهذا الباب؟! المؤلف عنوَن لهذا الباب بقوله: باب شروطه وما نهي عنه، وهنا يسوق لنا حديث: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر) ، (أعتق عبداً) هذه مفهومة، لكن (عن دبر) يعني: بعد موته، قال للعبد: أنت حر بعد موتي، فمات، فإنه يُعتَق، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بالعبد وباعه، ولماذا باعه وأبطل إعتاقه؟ أممنوع أن الإنسان يعتق عن دبر؟! ليس بممنوع، إذاً: فما العلة والموجب لإبطال إعتاقه؟! المؤلف هنا اختصر الحديث، وهذا رجل أوصى بعتق عبده، جاء في هذه الرواية: (ولم يكن له مال غيره) ، وهناك رواية أخرى: (وهو مدين) ، فكيف تكون مديناً للناس، وتتبرع للعبد بالحرية! أولاً: اعتق نفسك أنت؛ لأن الإنسان الذي يموت مديناً يكون مرتهناً بدينه في قبره، فالأولى: أن تعتق نفسك بسداد الدين قبل أن تعتق العبد.


ثلاث جدهن جد وهزلهن جد
يقولون: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق، وهذا أعتق، ولو أعتق وهو يمزح؛ قلنا: هذا جد، وكذا لو طلق وهو يضحك أو يلعب، قلنا: انتهى الأمر، ليس فيها لعب، ولو قال: زوجتك وهو يلعب؛ انتهى الأمر زوّج.
يذكر أن اثنين تواعدا للخروج للغزو، فتأخر أحدهما عن الآخر، قال: ما أخرك يا أخي؟! قال: جئت أخرج فإذا المرأة تنفس فانتظرت حتى وضعت، قال: فماذا رزقت؟ قال: رزقت بنتاً، قال: زوجنيها، فقال: زوجتك.
الآن لم تُربط سرة البنت بعد! وهذا يقول: زوجنيها! والأب يقول له: زوجتك، لكنه يقولها مزاحاً.
فالثاني تربص حتى عرف أنه قد حان قطافها، قال: يا أخي! زف لي عروستي، قال: ما بيني وبينك شيء.
قال: في يوم كذا، في ظرف كذا، في غزوة كذا، أما زوجتني البنت ليلة ولادتها؟! قال: اذهب يا رجل! إنما كان مزحاً ولعباً، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا امتنع أن يعطيني زوجتي، وأخبره القصة، فقال له: (دعها لا خير لك فيها) ، أقر الحق في نصابه، ثم وجّه النصح، هذا الذي يجاهد ويذهب ليغزو في سبيل الله، يتزوج بنتاً لم تربط سرتها! كم يكون الفرق بينهم من السنين؟ وأيضاً فهو سيأخذها غصباً عن أهلها؛ لأنهم قبلوا بتزويجها له في حالة مزح، والآن أصبح الأمر لا مزح فيه، فكيف ستكون العلاقة بينهما؟ يعني: هذا الوضع ليس وضع زواج وفرح، (لا خير لك فيها) .
فهنا أعتق العبد، أو أوصى بعتقه، ومات فاستحق العتق، فعُتِق العبد، ثم استدعاه صلى الله عليه وسلم وباعه.
لماذا باعه؟ وأين ذهب بثمنه؟! هل أعطاه للورثة؟ لا، بل دفع لأصحاب الديون ديونهم.
وإنما استرجعه من العتق وباعه من أجل تسديد الدين الذي على سيد ذلك العبد.
فهل يجوز للإنسان أن يعتق أو أن يتصدق وهو مدين؟ هو مدين بمائة ألف، وعنده عشرة آلاف، وذهب يتصدق بها، ويقول: هذا لوجه الله، وماذا عن حق الناس! العشرة آلاف التي وزعتها على عشرة أشخاص، كل واحد أعطيته ألفاً، ستعيشه يوماً أو يومين، لكن كيف تتصدق وأنت مدين؟! ما يجوز هذا.
ومن هنا قال العلماء: لا يجوز لإنسان أن يعتق -سواءً كان العتق في حال حياته أو عن دبر منه- وهو مدين بقيمة العبد، أو بعضه، وعلى ولي الأمر أن يرد العتق، ويبيع العبد، ويسدد الديون، والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن)
قال رحمه الله: [وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: القوها وما حولها وكلوه) .
رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي (في سمن جامد) .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى حكم المتنجسات، وحكم بيعها، أي: الأشياء التي أصلها طاهر ولكن طرأت عليها نجاسة.
وذلك بعد أن قدّم حكم نجس العين، في عين الخمر، والميتة، والخنزير، فهذه الثلاث نجسة بذاتها، أما السمن فمن حيث هو فطاهر، وإدام، ونعمة، لكن قد يطرأ عليه ما ينجسه، فما حكم ذلك؟


الحكم فيما إذا ماتت الفأرة في السمن الجامد
أخبرتنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأرة وقعت في سمن، وسئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: (ألقوها -أي: الفأرة- وما حولها) ، ومفهوم كلمة (ما حولها) يشعر بأن السمن جامد؛ لأن السائل لا يتحدد حولها بحد، أما الجامد فما قرب منها فهو حولها، ثم جاء التصريح (في سمن جامد) .
وما عدا منطقة سقوط الفأرة وموتها، فكلوه على الأصل، وسيأتي البيان في الحديث الذي بعده حديث أبي هريرة، وقد جمعهما المؤلف ليبين حكم السمن الجامد والسمن المائع، وما يُلحق بذلك.


تاريخ الفأرة، وفسقها
الفأرة لها تاريخ! يقول بعض العلماء إنها من الأمم التي مسخت من قبل، ويذكر الشوكاني دلالة على مسخها، وليس معنى مسخها: أن كل فأرة في العالم من ذاك الممسوخ، فهناك مخلوق أصلي، وهناك مخلوق ممسوخ.
يقول بعض العلماء: لو قرّبت إليها حليب الإبل، أو لحم الإبل، ما أكلته وما شربته؛ لأن بني إسرائيل لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها؛ لأن خفها ذو ظفر، وإن كانت من الفئران الأصلية -قبل المسخ- فإنها تشرب وتأكل! وبعض العلماء يرد ذلك ويقول: إن كل ما مُسخ من الأمم التي نص القرآن أن الله جعل منهم قردة وخنازير لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، أي: بعد أن ثبتت الآية في حقهم، والآخرون يقولون: إنهم لا زالوا يتناسلون، وموجودون حتى الآن.
والفأرة إن من طبيعتها الإفساد، فلا تعرف إصلاحاً أبداً، وسميت الفويسقة، وهي: تصغير فاسقة، لأن الفسق في اللغة: الخروج، تقول العرب: فسقت النواة عن الرطب، يعني: خرجت منها، وفسقت الحبة عن الرحى: أي طارت من تحتها ولم تُطحن، ومنه الفاسق من البشر: الذي يخرج إلى طريق الإفساد.
قالوا: إنها لا تخرج إلا للإفساد، ويقولون: إن الفأر خبير بمواطن دفن الذهب، وينقب عنه ويخرجه، ولهم في ذلك قصص.
وجاء في الحديث: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفؤا السراج) ، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) ، كما نبهنا بأنهم في السابق كانوا يستصبحون بالزيت، ويضعون الفتيل داخل السراج، وهو: عبارة عن كأس فيه زيت، ويضعون طرف الفتيل على حافة السراج، ويشعلون فيه النار، فيضيء مثل الشمعة، فإذا جاءت الفأرة، وأرادت أن تلعق الزيت، تخاف من النار، فتنثني بذنبها، وتسحب الخيط الذي في السراج، وتخرجه وتلقيه خارج السراج، وقد يكون مشتعلاً، فإذا سقط على فراش أو على ثياب أو شيء قابل للاحتراق أشعله، (فإن الفويسقة تضرم) أي: تحرق (على أهل البيت بيتهم) .
وأما تخمير الإناء فهو: تغطيته، فإذا كان الإناء فيه ولو ماء، فعليك أن تغطيه، وجاء في الأثر: (فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً، ويذكر اسم الله فليفعل) ، ضع عليه عوداً معترضاً، وسم الله فإنه يكفيه، وذكر صلى الله عليه وسلم أن البلاء ينزل ليلة في السنة، فما وجد إناءً مكشوفاً إلا نزل فيه، حتى قال بعض العلماء: لو كان الإناء فارغاً فإما أن تكفيه، وإما أن تغطيه.
وإيكاء السقاء، السقاء: القربة، ومعلوم أنها كانت آلة الشرب، وتبريد الماء، وحمله، فإذا تركت فم القربة مفتوحاً -وخاصة في المناطق الحارة- فإن الهوام تبحث عن الأشياء الباردة، وتأتي وتلبد فيها طلباً للبرودة، فلربما هوام الأرض جاءت إلى فم القربة فوجدته مفتوحاً فدخلت، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم السقاء، ولو كان مربوطاً، فلا تذهب وتفكه وتضعه على فمك وتشرب، ولكن يجب أن تصب الماء في إناء لترى ماذا فيه؟ أهو صاف أم فيه شيء، فلو كان في السقاء شيء؟ وشربت بفيك فلن تستطع تداركه، لكن إذا صببت الماء في الإناء رأيت الإناء بما فيه.
وقد سمعنا في هذا حكايات كثيرة: فهذا يرى العقرب الصغيرة على فم القربة، وهذا رأى كذا وكذا، أشياء كثيرة، وهذا أمر طبيعي وخاصة في المناطق الحارة.
وهنا تذكر لنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأراً وقع في السمن، وأظن أنه لا يوجد بيت من البيوت يسلم من الفئران، إلا ما كان في الآونة الأخيرة من البيوت المسلحة التي ما فيها بيوت للفئران، ولا تستطيع أن تتخذ لها فيها بيوتاً، ولكن يمكن أن تدخل بين الأثاث، وخاصة في المخازن والمستودعات، فهناك تتكاثر وتتوالد وهي -سبحان الله- أعطاها الله كثرة الإنتاج.


غمس الذباب في الإناء إن وقع فيه
الفأرة مخالطة للناس، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معها، كما بين لنا كيف نتعامل مع الذباب، (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم) ، ولا أظن أحداً في الدنيا لم يسقط الذباب في كأس في يده؛ لأنه مخالط للناس، وسبحان الله جربها في حياتك، خذ طعاماً وشراباً واذهب إلى الربع الخالي -يمكن خالي حتى من الجن- وضع الطعام واجلس خمس دقائق، تجد الذباب عندك، من أين جاء؟ أمسافر معك أم خرج من الأرض أم نزل من السماء؟! لا ندري! قل أن تضع الطعام في مكان إلا وجدت الذباب، ويقولون -والله أعلم-: إلا منى أيام التشريق فقط، وبعد أيام التشريق لا تستطيع أن تجلس فيها من كثرة الذباب، والبعوض، والحيوانات الأخرى.
إذاً: علمنا صلى الله عليه وسلم إذا سقط الذباب في الإناء ماذا نفعل؛ لأن هذا أمر وارد وبكثرة: (فليغمسه ثم لينزعه) ، وبعد هذا تشرب، ومن الخطأ عند بعض الناس إذا وقع الذباب في الكأس رماه حالاً، وأفرغ ما فيه، وهذا غلط؛ لأن الحديث فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخر شفاء) ، وهذا قامت عليه أبحاث في أوروبا عجيبة جداً، كيف يكون في حشرة صغيرة: أحد الجناحين داء، والثاني دواء؟! وما الذي ميّز بين هذا وذاك؟ وكتبت كتابات طويلة ما نحب أن نضيع الوقت في إيرادها، لكن يتفقون طبياً: أنهم وجدوا مبيد البكتريا في الأنبوب في مؤخرها، وهو أقوى من أي مبيد على وجه الأرض، أي: واحد على مائة ألف، وقالوا: أنها إذا غمست في الماء؛ ضغط الماء على الأنبوب فينفجر عما فيه فيطهر السائل.
فالذي رأى الذباب سقطت بالكأس فإنه يراه يدلي بالجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الثاني الذي فيه الدواء، فحينما تغمسها بكاملها تكون قد جمعت الجناحين، وكان الجناح الذي فيه الدواء يقابل الجناح الذي فيه الداء، ويطهُر السائل من دائه، أما إذا صببته فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، وقد فعل، وأصبح السائل ملوثاً؛ لأن الجناح الثاني مرفوع فوق، فإذا أرقت هذا الماء فإن جدران الكأس تحمل من داء جناحه ما يكفي للتلويث، ولو غسّلته بالصابون وبالتراب فلا ينقي كما لو غمست الجناح الثاني، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأعلم بمداها وكيف أوجدها.
كنت مع طبيب مَعامِل تحليل، وذهبنا العمرة معاً، ونزلنا في رابغ أيام ما كان الذباب فيها منتشراً بكثرة، فجلسنا في القهوة، وتغدينا، وأتينا بالشاي، فانتظرت قليلاً فإذا بذبابتين بقدر النحل يتضاربان، فسقطتا في الكأس أمامي.
فقلت هذه فرصة، ولاحظت نظرات الدكتور، وتغافلت عن الذباب، فقال: عطية! عطية! إلحق! إلحق! فغمزتهما إلى الداخل، ورميتهما، وأخذت أشرب، أنا أريد أن أثير الدكتور؛ لأني أعرف أن هذا عند الدكاترة شيئاً كبيراً، قال: هاه! ما هذا؟! ما هذا؟! قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أيضاً فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكان كثيراً ما تأتي مناسبات وأقول له: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مستغرباً: أهذه أيضاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم، قال: ماذا قال؟ قلت له: كذا وكذا، قال: عجباً! إن هذا الحديث صحيح، قلت: ما أدراك بالصحيح والضعيف، وأنت في الطب وما إليه؟ ما أدراك بهذا؟ قال: كنت في ألمانيا أدرس، فانقطعت علينا المصاريف بسبب الحرب العالمية الأخيرة، وذهبت للعمل في مطعم أنا وثلاثة زملاء، فكنا ندرس الطب في الصباح، وفي الليل نغسل الأواني؛ حتى نعيش ونواصل دراستنا، وهذه والله الرجولة الصحيحة.
يقول: وفي وقت من الأوقات إذا بلوحة في الكلية في الفانوس الخاص بالإعلانات، فيها إعلان: اكتشاف بكتريوج -أي: مبيد البكتريا- من الذباب، وتعجبت وتتبعنا هذا.
أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتعامل مع ما يخالطنا في بيوتنا وحياتنا، أما الذباب فعلمنا كيف نتعامل معه، ويقول الأطباء القدامى: أعظم كحل للعين هو الذباب، إذا جمعته في (ماصورة) صلب، وأحرقته على النار، ثم سحقته واكتحلت به، لكن لا تذهبوا وتفعلوا ذلك وتقولوا: فلان قال لنا.


شرب الفأرة من السائل
هذه الفأرة كيف نتعامل معها خاصة في السائل، لو رأيناها تأكل من الدقيق، أو من الحب، وذهبت فلا شيء في هذا، وإذا شربت من السمن وذهبت فلا شيء في هذا، إنما يهمنا إذا ماتت؛ لأنها بموتها تتنجس، وتنجس ما حولها، فبيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألقوها وما حولها) ، الحولية هذه كم مسافتها وكم قدرها؟ قد يختلف بعض الناس من مسافة سانتيمتر أو نصف سانتيمتر أو عشرة سنتيمتر، وبعضهم يبالغ ويقول عرض الكف، وهذا أظنه كثيراً.
وبعضهم يقول: يرجع الأمر في الحولية إلى نوع جمود السمن، فقد يكون جامداً جداً، وأصبعك لا تدخل فيه، فهذا لا تتعدى النجاسة سانتيمتراً واحداً، وقد يكون جامداً جموداً لم يتم، ولو حرّكته بقوة ربما تحرّك، فهذا يحتاج إلى توسيع ما حولها نوعاً ما.
وفي الحديث الأول: حديث ميمونة: (ألقوها وما حولها وكلوه) ، فهذا حكم وقوع الفأرة في السمن الجامد.
وهل الموضوع يقتصر على السمن؟ وإذا وقعت في العسل؟ وإذا وقعت في الدبس؟ إذا وقعت في شيءٍ آخر، يعادل ذلك كالمربى وسقطت فيه وماتت؛ يكون الحكم واحداً، إن كان العسل جامداً -وأحياناً العسل يجمد- فكما هنا، وإن كان سائلاً مائعاً فالحكم كذلك، وعلى هذا يكون الأصل في هذا الحكم هو: السمن.


شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) ، رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم] .
الحديث الأول ليس فيه إشكال، لا في السند ولا في المعنى، والحديث الثاني جاء به المؤلف رحمه الله لما فيه من الخلاف، والإشكال.
والتفصيل: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد فإنه يُلقى وما حولها، ويؤكل الباقي، ولكن هنا تفصيل لواقع الحال، فإن وقعت في جامد فالحكم قد تقدم، وإن وقعت في مائع فإنه يقول هنا: (فلا تقربوه) ، فلا تقربوه بماذا؟ أبأكل أم بادِّهان أم باستصباح أم بانتفاع؟! تقدم في النهي عن بيع الميتة أنهم أرادوا استثناء شحومها، فقال: (لا، هو حرام) ، وهل الضمير عائد إلى البيع أو الانتفاع؟ تقدمت الإشارة إلى الجمع، فقوله صلى الله عليه وسلم (فلا تقربوه) ، الجمهور على أن: (فلا تقربوه) ، أي: بالأكل إجماعاً؛ لأنه تنجس بموتها فيه وهو مائع، ولا نجد حداً محدوداً لوصول النجاسة إلى جزءٍ منه، بل لكونه سائلاً فإنها تسري في الجميع.
فقوله: (فلا تقربوه) ، الجمهور قالوا: لا تقربوه بالأكل، وبعض أهل الحديث، وأهل الظاهر قالوا: لا تقربوه أبداً، لا بالأكل ولا بالبيع ولا بالانتفاع، (مطلق أريقوه) .
والجمهور يقولون: هذا مال، وقبل أن يتنجس كانت له قيمة، ونهينا عن إضاعة المال، وهناك منفعة يمكن تحصيلها من هذا الدهن، وهذا السمن، فيمكن أن نجعله طلاءً للسفن، أو نستفيد منه بالاستصباح، أو نحو ذلك، فلا مانع، وذكر الجمهور حديث: (وإن كان مائعاً فاستصبحوا به) ، إذاً: أباح الانتفاع به، وحملوا على هذا كل متنجس بغيره لا بذاته، فقالوا: يجوز الانتفاع به دون البيع، والبعض زاد: النجس الأصلي (بذاته) ، وقال: شحوم الميتة لا نبيعها، وإذا انصب التحريم على البيع انصرف عن بقية الانتفاع كالاستصباح، ودهن السفن وغير ذلك.
الذي يهمنا في فقه الحديث الرواية التي ساقها الطحاوي: (استصبحوا به) ، والذي عليه الجمهور: أنه مال يجوز الانتفاع به، ويبقى النهي والتحريم خاصاً بالأكل؛ لأنه تنجّس، والإنسان لا يأكل النجس.
إذاً: المؤلف رحمه الله جمع الحديثين معاً؛ ليبين حكم ما إذا وقعت الفأرة في جامد أو مائع، ثم هل الأمر يقتصر على الفأرة والسمن أو يقاس على الفأرة كل ما شاكلها، وعلى السمن كل ما شاكله؟ هناك حيوانات تقارب الفأرة مثل ابن آوى وابن عرس واليربوع أو الجربوع، هذه كلها حيوانات يعرفها أهل البر، منها ما يأكلونه ومنه ما لا يأكلونه، فهذه كلها من فصيلة الجرذان -الفئران-، فهل يقتصر الحكم على الفأرة أو يعم الجميع؟ قالوا: يعم كل ذي نفس سائلة، لو أن قطة صغيرة سقطت في السمن، وبعض الفئران الكبيرة التي في البساتين أكبر من القطة الصغيرة! فنقول: حكمها حكم الفأرة تماماً، وكذلك أنواع الجرذان مثل: اليربوع أو الجربوع، وبنت عرس، وابن آوى، كلها حيوانات صغيرة تعيش في البيوت وتعيش في البساتين، فإذا سقطت في مائع فهذا حكمها.
وتلك الحيوانات بما فيها الفأرة والهرة الصغيرة إذا وقعت في ماء مستبحر - (بركة كبيرة) أو كما يقول الفقهاء: فوق القلتين، على اختلاف في تقدير القلتين- وماتت فيه واحدة من تلك الحيوانات، وكان الماء فوق القلتين، يأتي الحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: لا يتنجس، وقيل: لا يحمل، يعني: يضعف وينجس، والجمهور على أنه (لا يحمل الخبث) يعني: الخبث لا يؤثر فيه، بل يتلاشى.
إذاً: القضية أعم من مجرد فأرة وسمن.


شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب)
قال رحمه الله: [وعن أبي الزبير قال: (سألت جابراً رضي الله عنه عن ثمن السنور والكلب فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) .
رواه مسلم والنسائي، وزاد (إلا كلب صيد) ] .
انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر حكم النجس والمتنجس -من المطعومات- إلى هذين الصنفين، فـ جابر رضي الله تعالى عنه يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر، والزجر: النهي بشدة.
قوله: (عن ثمن الكلب والسنور) السنور: هو الهرة أو البسة، أو القطة، ويطلق على الذكر والأنثى، والكلب والسنور مخالطان للبيوت.


طهارة السنور
سُئل صلى الله عليه وسلم عن الهرة فقال: (إنها ليست بنجس) ، أي: في حياتها؛ لأن الموت ينجس كل حي طاهر، وكل ميت نجس، إلا الإنسان، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] .
كانت بنت أبي كبش تصب الماء لزوجها وهو يتوضأ، فجاءت هرة، فأصغى إليها الإناء حتى شربت، فنظرت تتعجب! قال: أتعجبين! -يا ابنة عمي- من ذلك؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ليست بنجس -يعني: ليست نجسة في حياتها- إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) .
وقالوا: إذا رأيتها تشرب من إناء فإن شربها لا ينجسه، وهناك قول شاذ عن بعض التابعين أنه ألحقها بالكلب، يسبّع سؤرها بالغسل ويترّب، ولكن هذا شاذ مردود.
فكونها من الطوافين ومن الطوافات فقد تشرب من هذا الإناء، وتلعق من هذا، وتذهب وتدخل، وتمشي على الفراش، فهي ليست بنجس.
قوله: (من الطوافين) : مَنْ الذي يطوف علينا؟! هل هناك من يطوف علينا في الليل؟! أليس للبيوت عماراً؟! أليس يطوفون بالبيوت، فمنهم من يظهر ونراه، ومنهم من يختفي، وخاصة في المدينة؟ وقد بيّن صلى الله عليه وسلم: أن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم.
والحكايات والوقائع الفعلية أكثر من أن تحصى.
إذاً: هناك طوافون: من ملائكة، أو جن، أو مما يكون، وهي من ضمن أولئك الطوافين، وبتطوافها عرفنا أنها طاهرة، ويقول العلماء: إذا رأيتها تشرب، أو تلعق إناء فسؤرها طاهر، إلا إذا رأيت على فمها أثر نجاسة، فيمكن أن تكون لتوها أكلت فأراً، -لأن العداوة بين الفأر والقطة عجيبة جداً! - فإذا رأيت على فمها أثر النجاسة، فهذا شيء طارئ، ولكن سبحان الله! القطة عندها خصلتان، تعتبر في القمة في النظافة، حتى أكثر من بعض الناس! فإذا أكلت فريسة، حالاً بلسانها تنظف فمها، ولا يبقى على فمها أثر النجاسة أبداً، وبعض الناس تبقى الدسومة على فمه ولا يغسلها! وإذا أرادت أن تقضي حاجتها حفرت ودفنت، فهي مكافحة الأوبئة.
لقد شاهدت هرة تذهب إلى الكرسي في الحمام وتقضي حاجتها، وبعضها تقضي حاجتها على الفراش.
إذاً: الهرة من حيث هي في ذاتها ليست نجسة والحمار اختلفوا في ذلك؛ قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يركبه عرياً -أي بدون رحل- ومعلوم أن الحمار يعرق، ولو كان نجساً لتنجس بعرقه، ولكن الحياة أصل الطهارة كما قال مالك رحمه الله تعالى؛ ولذا الحمار يشرب من السطل، ويشرب من القدر، وسؤره ليس نجساً.


الكلاب وبعض أحكامها
موضوع الكلاب جاءت فيه أمور عجيبة.
منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ومنها: نهى عن قتل الكلاب، كانت في مرة من المرات كثيرة ومؤذية، والمرة الأخرى نهى عن قتلها؛ لأنها أمة من الأمم، اتركها تأكل من الخشاش.
ومن الغريب! أنها في مرة من المرات كثرت جداً في الرياض، فقاموا وجمعوها في مركبات، وأخذوها على الدهناء، وتركوها هناك، والكثير منها مات من الجوع، فبعض المشايخ قال: ما لكم حق في قتلها، اتركوها في البلد، ولو عندكم شيء أعطوها إياه، فقالوا: تتكاثر إذاً! قال: اعزلوا الذكور عن الإناث.
نهى عن قتل الكلاب، وأمر بقتل الكلاب! أي: الكلاب حينما تؤذي، لا مانع من ذلك، أما إذا لم تكن تؤذي فلا حاجة إلى قتلها.
ثم صنف النبي صلى الله عليه وسلم الكلاب إلى صنفين: كلب يجوز اقتناؤه، وكلب لا يجوز اقتناؤه، كما سيأتي وأشار هنا: (إلا كلب صيد) ، وأيضاً كلب الحراسة، والماشية، فكلب الماشية، وكلب الحراسة، وكلب الصيد ينتفع به؛ فأبيح اقتناؤه، وسلم صاحبه من الزجر، وقد جاء: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية، أو ضارياً، نقص من عمله كل يوم قيراطان) ، ثم استثني هذه الثلاث، إذاً: من اقتنى كلباً للّعب، أو كلباً للمضاربة بين الكلاب، والمسابقة بينها والمصارعة إلى غير ذلك فهذا منهي عنه وينقص بسببه كل يوم قيراطان.
وتقدير القيراطين مشكل، والأصل: أن القيراط جزءٌ من واحد صحيح متعدد الأجزاء، فما هو العرف عند الناس؟ الفرضيون يعتبرون المسألة: أربعة وعشرين قيراطاً، والصاغة يعتبرون الذهب الخالص أربعة وعشرين قيراطاً، فما مقدار القراريط التي جاءت: (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان) ، بعضهم يقول: القيراط كجبل أحد، وبعضهم ككذا.
ولكن هنا في موضوع الكلب ممكن للإنسان أن يجتهد ويقول: نقص من أجره كل يوم قيراط، لو قلنا كمثل جبل أحد هل كل إنسان عنده في كل يوم مثل جبل أحد حسنات؟ ليس بشرط.
فإذا لم يكن عنده قدر القيراط! فأقول -والله تعالى أعلم-: النقص الذي يطرأ على مقتني الكلب الممنوع اقتناؤه: يقسَّم عمله في يومه إلى أربعة وعشرين جزءاً، فمن الناس من يكون الجزء الواحد في قراريطه يعادل أربعة وعشرين قيراطاً من قراريط؛ لأنه إنسان مجتهد في العبادة، ويفعل الخير بكثرة، فقيراطه من أربعة وعشرين ليس كقيراط إنسان نائم طول الليل، وفي النهار تجده في الملاهي.
إذاً: نقص القيراط هو: نقص جزء من أربعة وعشرين جزءاً من عمله اليومي، وقال بعض العلماء: قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل الليل، حتى تكون هناك مساواة، لأن بعض الناس قد يكتسب في الليل من الأجر أكثر مما يكتسب في النهار، والبعض بالعكس، فالذي يكون نهاره صيام وليله قيام، ليس كالشخص الذي لا يصوم ولا يقوم.
إذاً: جاء أولاً الأمر بقتلها، وجاء ثانياً النهي عن قتلها، ثم أيضاً جاء الزجر عن اقتنائها، وجعل في اقتنائها نقص القراريط، واستثنى منها ما ينتفع به: من صيد، ومن حراثة، ومن ماشية.
جاء الآن الكلام في بيعه، فإذا جمع إنسان عدة كلاب، وعلمها الصيد، أو توالدت عنده، وعلمها الحراسة، وعلمها حراسة الماشية، ونعرف أن كثيراً من الرعاة يكون معه كلبان أو ثلاثة رعاة، فلو شذت شاة يلحقها الكلب ويردها، هذا كلب ماشية، وشاهدنا بأعيننا الكلب يلحق البقرة الشاردة ويمسك حبلها ويردها.
إذاً: هذا فيه فائدة، وكذلك كلب الحراسة في الليل، فصاحب المزرعة، أو البيت لا يحرس طوال الليل، وإنما يكفيه وجود الكلب، وكذلك كلب الصيد، يغنم من ورائه من الصيد ما يصطاده عن طريقه.
إذاً: وجود المنفعة في هذا النوع أباح اقتناءه.


حكم بيع الكلب وأكل لحمه
جئنا إلى البيع، فالبعض يقول: زجر عن ثمن الكلب مطلقاً، سواءً كان مأذوناً في اقتنائه -للصيد، والحراسة، والماشية- أو كان غير مأذون، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا كان من النوع المستفاد منه جاز بيعه وأخذ ثمنه؛ لأنك تبيع المنفعة التي يحصلها المشتري من ورائه، ونجد مالكاً رحمه الله يقول: يجوز شراؤه ولا يجوز بيعه.
كيف وإذا أردت أن أشتريه فلا أشتريه إلا من بائع، والبائع لن يبيعه إلا على مشتر؟! قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن لينتفع، ولا يجوز للبائع أن يقبض الثمن! فأين يذهب به؟ لن يكون هناك بيع بل هبة، قال: ومن أتلفه فعليه القيمة، فمن أباح بيعه أوجب قيمته على متلفه.
أما موضوع السنور فإن الشوكاني يحكي عن ابن عبد البر أنه قال: لم يثبت في ثمن السنور حديث، وتكلموا في رواية مسلم، التي جاء فيها، وقالوا: إن فيها راوٍ متكلّم فيه، ويتفق الجمهور على أن النهي عن بيع السنور للكراهية والنزاهة، أما النهي عن ثمن الكلب فهذا للتحريم إلا ما استثني، وهي الأصناف الثلاثة، وهذا الذي يقتضيه المقام، ويتعادل مع الوصف المناسب؛ لأن فيه منفعة، فإذا اشتراه الإنسان فلمنفعته.
وهناك من يمنع بيع الكلب مطلقاً، وهناك أثر: (إذا أتاكم من يطلب ثمن الكلب فضعوا في كفه التراب) ، والتراب ليس ثمناً، وقد جاء في حق المداحين (فاحثوا في وجوههم التراب) ، وهذا تصوير وتقبيح، فكأنه يقول: ليس لك إلا التراب ثمنا على كلبك، وهل التراب ثمن؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] ، وهل بيت العنكبوت يستر شيئاً أو يقي من شيء؟ لا.
والعلماء على ما تقدم من تفصيل فيما يتعلق بثمن الكلب والسنور، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: أيجوز أكل لحم الكلب أم لا؟ الجواب: الشوكاني له أبيات جميلة في ذم التعصب المذهبي، يحسن مراجعتها، وقد اشتهر عند الناس: أن مالكاً رحمه الله يقول بحلية أكل لحم الكلب، وهذا غير صحيح، الصحيح عند مالك أن الكلب طاهر، وأن التتريب والتسبيع في الغسل لا للنجاسة ولكن لأمر طبي، والآن ظهر مغزى الأمر الطبي في الكلب، خشية داء الكلَب الموجود في الكلب حينما يصاب، ويتفق الأطباء على أن داء الكلب لا يزيله إلا التراب، والتراب ليس لذاته؛ بل لأن فيه مادة تسمى (فيلورين) أخت (الكلورين) ، والكلورين مادة تطهر الماء الذي في الغدران، فحينما تذهب بعثة وليس عندها ماء، وتجد غدير ماء له زمن، وتخشى من مضرته لطول مكثه، تأخذ الماء وتضع فيه مادة الكلورين، وكنا قديماً نشم هذه الريحة في المياه في البيوت، كانوا يضعونها في خزانات المياه تطهيراً للماء.
فمن فصيلتها (فيلورين) ، وهذه المادة هي التي تقضي على جرثومة الكلَب، وهي بكثرة في التراب، وأكثر ما تكون في أرض عرفات، تربة أرض عرفات غنية بالفلورين أكثر من جميع الأراضي.
ومالك له في هذا بحث طويل، والمتأمل والمتحرر من التعصب يرى: أن مذهب مالك صحيح.
فلما قالوا بطهارة الكلب، قالوا: إذاً: هو يجوز أكله، وألزموهم بمقتضى قوله، ولكن الأصوليين يقولون: لازم القول ليس بقول.
أتلزمني بما لم أقله؟ فإذا كان هذا لازماً، لكن أنا لا أقول به.
إذاً: مالك -صحيح- يقول بطهارة الكلب ولا يقول بجواز أكله.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [4]
حرص الإسلام كل الحرص على حرية الإنسان، وحارب الاسترقاق، وحث على تحرير وعتق الرقاب، وأوجبه في مواطن كثيرة، ومنع طرق الاسترقاق إلا طريقاً واحداً، وهو طريق الجهاد، بينما فتح أبواب العتق، وعددها، ونوعها، وجعل لها أحكاماً، ومن أسباب العتق التي شرعها الإسلام المكاتبة.


حديث: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة، فقالت: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة رضي الله عنها، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) ] .
هذا الحديث يعتبر من أمهات الأحاديث: صيغة، وأحكاماً، وتشريعاً، وكما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان في بريرة ثلاث سنن، وبريرة كانت مزوجة برجل اسمه مغيث وكان يحبها، وكان مملوكاً، وهي مملوكة فعتقت بعد أن اشترتها عائشة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مملوكة تحت مملوك: متعادلان، والآن أصبحت حرة، وهو مملوك، فهنا اختل التوازن واختل التعادل، والكفء يجب أن يكون مكافئاً لزميله، والعبد لا يكافئ الحرة، لكن نظراً للعقد المتقدم، قال لها: (أنت لك خيار، إن شئت بقيت على عقدك مع المملوك، وإن شئت فسخت نكاحك بالحرية) فاختارت نفسها، فكان مغيث يتبعها في الطرقات ويبكي، يدريها أن ترد نفسها إليه، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا بريرة! انظري لحال مغيث -فعلمتنا الأدب- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) انظر الأدب: تشفع لـ مغيث عندي، وتكون شفيعاً، والشفيع قد تقبل شفاعته وقد ترد، أو آمر لي بالعودة إليه، والأمر يقتضي الوجوب، (أشافع أنت أم آمر؟ -ماذا قال لها؟ - قال: لا، أنا شافع) ، فقالت: (لا حاجة لي فيه) وقولها هذا يساوي: أرد شفاعتك، لكن بأدب.


أهمية حديث بريرة
هذا الحديث النبوي الشريف، من الأحاديث العظيمة، وقد اشتمل على العديد من الأحكام، وخاصة: الشروط في البيع، وما يتعلق بالمكاتبة، وبيع المكاتب، وحكم الولاء، والاشتراط فيما لا يوافق كتاب الله إلى آخره، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله -مؤلف كتاب فتح الباري-: أن بعض العلماء عني بهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه، فذكر عن ابن خزيمة أنه ذكر فيه مائة مسألة، وابن خزيمة: ذكر عن غيره أنه قال: اشتمل على أربعمائة مسألة فقهية، وهل بعضها يتداخل مع بعض أو لا يتداخل؟! الذي يهمنا شدة عناية العلماء بهذا الحديث.
والواقع أنه جدير بذلك، ونمضي مع هذا السياق كلمة كلمة، فهنا يقول المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءتني بريرة) مجيء بريرة من بيت أهلها إلى بيت عائشة فيه كلام؛ فـ بريرة أمة وجارية وكانت تخرج لخدمة عائشة قبل مكاتبتها لأهلها، فهي تعرف عائشة من قبل، وهي التي قالت -حينما خاض الناس في حديث الإفك وسأل النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: سل الجارية تخبرك- قالت: والله! إنها لجارية، ولا أعيب عليها إلا أنها تعجن العجين وتنام عليه، حتى تأكله الدواجن، يعني صغيرة لا تدري عن شيء، فلما كاتبت أهلها قامت تسعى.


حكم المكاتبة ومعناها
قال الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] ويقول العلماء: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} خيراً هنا عام: خيراً في السلوك، وخيراً من نظير قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] ، يعني: إن علمتم أنهم يستطيعون أن يدفعوا المكاتبة.
وأصل المكاتبة: أن يريد السيد مالاً، ويريد أن يبيع العبد، أو المملوك، والمملوك لا يريد أن يخرج من رق إلى رق، ويريد أن يشتري نفسه، أي: يعوض سيده عما يقبضه من ثمن من سيد آخر، وينتقل من سيد إلى سيد، فيكاتبه ويتفق معه على مقدار معين، ويشترط في الكتابة أن يكون الثمن منجماً، وأصل النجم لغة: الكوكب في السماء، وهي النجوم المنتشرة في السماء، والعرب تسمي الأجل نجماً، حتى حمل بعض العلماء قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] قالوا: نزول القرآن منجماً، يعني: على فترات، وكانت العرب إذا استدانت كتبت الوفاء عند ظهور النجم الفلاني، وهم يعرفون مسيرة النجوم ومواقعها، وهذا من بعض علومهم العامة.
ويستحب أن يسامح سيد العبد المكاتب في القسط الأخير أو بعضه، فـ بريرة كاتبت أهلها على ما ذكرت لنا تسع أواق، كل سنة أوقية، يعني منجمة على تسعة أنجم، والمكاتب من حقه أن يسعى ويطلب، ويحق له الطلب والسؤال، وله من الزكاة حصة قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ، فيأخذ من الزكاة جزءاً ليكمل به ما نقص عليه من الدين في مكاتبته.
وهنا جاءت بريرة إلى عائشة فقالت: أعينيني في النجم الذي سيأتي، وليس في التسعة الأنجم، وبعضهم يقول: إن بريرة جاءت عند العقد، ولم تكن قد دفعت لا قسطاً ولا نجماً، وبعضهم يقول: لقد دفعت أربعة أنجم، وبقي عليها خمسة أنجم، فجاءت تستعين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل ذلك يؤخذ من حديث بريرة في شأن المكاتبة.


لا يشترط استئذان الزوج في المكاتبة
بريرة لها زوج، والمكاتبة إذا أوفت ما عليها من دين الكتابة تحررت، وإذا تحررت خُيرت في نكاحها، فهل يُستأذن زوجها صاحب العصمة في مكاتبتها -لأن المكتابة ستخرجها من عصمته- أو لا يُستأذن؟ بريرة ما ذكرت أنها استأذنت من مغيث، إذاً: المكاتبة حق لها، وبه تستكمل حريتها، والشرع يحث على تحرير الرقاب، فلم يدع الأمر لرأي الزوج، فإن وجدت المكاتبة بنفسها فلا تستشير زوجها، ولا يؤخذ رأيه.


المكاتبة في عصمة الزوج ما بقي عليها درهم
وكذلك مجرد الكتابة لا يُخرجها من ذمة وعصمة الزوج، ولكن تبقى على عصمة زوجها حتى توفي جميع المكاتبة، والمكاتب: عبد ما بقي عليه درهم، وللسيد أن يعجز مكاتبه، فمثلاً تكاتبا على تسعة أقساط، فدفع ثمانية أقساط، فليس له الحق أن يقول: أنا تراجعت، أنا لا أريد مكاتبة، ويرجع المكاتب في رقه من جديد، وقد أخذ الثمانية الأقساط، ويقول: العبد وما ملكت يمينه لسيده! وقد كنت قبل المكاتبة تسعى وتعمل وتعطيه للسيد! وقد جاء النهي عن كسب الأمة وهو عام، حتى في الخدمة مخافة إذا فرض عليها شيء يومي: من غزل من غسل من من، ولم تجد المقرر عليها يومياً، فربما لجأت إلى طريق غير سليم، وبعضهم يقول: إذا كان عندها صنعة، أو استطاعت أن تعمل، وقد فرض عليها السيد مقداراً معيناً في كل يوم، واستطاعت أن تأتي به يومياً أو أكثر فالأكثر لها، والذي شارطها عليه له، فهذه كاتبت ولم يؤخذ رأي الزوج في ذلك، وعقد المكاتبة لم يخرجها من عصمة الزوج، فجاءت في طريقها لتكمل عملية المكاتبة.


جواز المسألة للمكاتب
جاءت إلى عائشة -لأنها تعرفها من قبل- فطلبت منها المساعدة، وهكذا كل مكاتب له الحق بأن يسأل ويسعى، ويأخذ من الصدقات والزكاة، فـ عائشة قالت: إن كان أهلك كاتبوك على تسع أواق في تسع سنوات، فأنا مستعدة أن أعدها، يقف العلماء عند كلمة (أعدها) قالوا: لأن عُرف الحجاز حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان عد الدراهم، وبعد مجيئه كان الوزن، والآخرون يقولون: بل العكس؛ لأنه جاء في الحديث: (المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة) ، ووحدوا المكيال والميزان حتى إذا اختلفوا في الوزن رجعوا إلى عرف مكة، وإذا اختلفوا في الكيل رجعوا إلى عرف المدينة؛ لأن أهل المدينة أهل تمور وحبوب، تحتاج إلى الكيل، وأهل مكة أهل تجارات فالوزن إليهم أقرب، فهنا قالت: أعدها، وفي بعض الروايات: أصبها لهم صباً، يعني: إذا كانوا كاتبوك مكاتبة منجمة على تسع سنوات فأنا الآن أعطيك، وفرق كبير عند البائع أن يبيع شيئاً مقسطاً إلى تسع سنوات وأن يأخذ الثمن حالاً، فالمال لا نقص فيه، بل إن البائع بالتقسيط، لو وجد المبلغ كاملاً (حالاً) ولو بناقص كان أربح له، فهي تقول لهم: المنجم بعيد، وأنا أعطيكم إياها الآن كاملة، ويكون الولاء لي.


الولاء
الولاء مبحث مستقل، وأوسع ما يكون في الفرائض، وهو كما يقولون: وصف اعتباري سببه نعمة العتق، والولاء بين المعتق والمعتق لحمة كلحمة النسب، ينسب إليه ولا يُباع ولا يوهب ولا يورث، إنما ينتقل بالعصوبة، فلو أن إنساناً أعتق عبداً صار له الولاء، ثم مات عن زوجة وولد، فالزوجة ليس لها شيء في هذا الولاء؛ لأنها إذا دخلت الزوجة دخلت بالميراث، ولكن ينتقل الولاء للولد؛ لأن الولد حل محل أبيه، فالولاء لا يوهب ولا يباع ولا يورث، مع أن الميراث كسب إجباري على الوارث، والولاء كما يقولون: الدرجة الثالثة في مراتب الميراث؛ لأنه يُقدم أولاً: صاحب الفرض، وثانياً: العاصب، وثالثاً: الولاء؛ (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى ذكر) أي: عاصب، فإذا مات الميت، وعنده من يرث بالفرض، وأخذوا فروضهم، فالباقي للعاصب، فإذا لم يوجد عاصب ووجد صاحب الولاء، فأصحاب الفروض أخذوا نصيبهم بفروضهم، ولما لم يوجد عاصب بالنسب جاء العاصب بالولاء، ولهذه القوة قالت عائشة: (ويكون ولاؤك لي) ، وهو وصف اعتباري يلزم المعتَق طيلة حياته، وحتى موالي مواليه، يكونون موالي للمعتِق الأول، فقالت: أذهب وأخبرهم، فذهبت بريرة لتخبرهم أن عائشة مستعدة أن تدفع لكم كل الباقي، وأن يكون الولاء لها، قالوا: لا، وحقيقة المكاتب لو استمر في المكاتبة، وأوفى الكتابة لسيده؛ صار حراً، وولاؤه للمكاتب؛ لأنه هو الذي تسبب في عتقه، فهم كاتبوها ليكون الولاء لهم، وهنا قالت عائشة: (أدفع لهم، لا أن تدفع لـ بريرة، فلو دفعت لـ بريرة لكانت مساعدة لـ بريرة على المكاتبة، ولا دخل لها في الولاء، ولكن تدفع لأسيادها الذين كاتبوها، إذاً: دخول عائشة سينسخ المكاتبة، ويُغير العقد إلى بيع، كما جاء في الرواية (اشتريها وأعتقيها) ؛ لأنه لا يتم لها عتقها إلا بعد أن تمتلكها، فلو دفعت لـ بريرة لم تمتلكها بهذا الدفع، أما إذا دفعت لأسيادها فقد اشترتها منهم، وإذا اشترتها وأعتقتها فالولاء لمن أعتق، فأبوا، وقالوا: لا، إن كانت تريد أن تدفع محسنة فالمحسن لوجه الله، أي: تحسن إليك، ويكون الولاء لنا، فلما أبوا رجعت ثانية إلى عائشة تخبرها، وصاحب الحاجة ملحاح فهي تريد أن تنجز أمرها، في مجيئها الأول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، ولما ذهبت وسألت أهلها ورجعت كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً، وفي بعض الروايات: (فسارتها في أذنها،) بريرة لا تحب أن تُسمع الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى هذه الحركة والوشوشة قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وعائشة رضي الله تعالى عنها -كما في بعض الروايات- لما أخبرتها برفضهم، وقولهم: فلتحسن، قالت: لا، ورفعت صوتها؛ لتسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وسواءً الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابتداءً، أو نتيجة لرفع عائشة صوتها.
وهنا أيضاً: وقفة رب البيت، يرى امرأة تدخل بيته وتُسار زوجه! فمن حقه أن يسأل: ما شأنها؟ ولاسيما في هذه الآونة، فحينما تدخل امرأة أجنبية أو غريبة وتُسار الزوجة أمام زوجها أو علم بعد ذلك، فله أن يسأل: ماذا تكون هذه المرأة؟ هل هي صالحة أم طالحة؟ فمن حق رب البيت أن يسأل عن مجيء تلك المرأة، وعن غرضها، حفاظاً على بيته، فقال: (ما بال هذه المرأة؟) فأجابته عائشة: جاءتني وطلبت مني كذا، وأرسلتها ورجعت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الخبر، ثم أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عليك: (اشتريها) لم يقل: أعينيها في المكاتبة، ولكن قال: (اشتريها) وفي بعض الروايات: (خذيها) ، تأخذها بماذا؟ تأخذها بالشراء: (اشتريها وأعتقيها) .


الشروط الباطلة غير معتبرة ولو كانت مائة شرط
بالشراء يصح أن تعتق؛ لأن العتق فرع عن الملك، وهنا وقفة خطيرة في قوله: (اشترطي لهم الولاء) ، كيف تشترط لهم الولاء عندما تشتريها وحقيقة الأمر أنه: ليس لهم ولاء؟! هل نعبر عن هذا بمغايرة الواقع؟! في غير بيت النبوة نقول: هل هذا خداع للبائع؟ لأنه تساهل معك، وباعك على أن الولاء لهم، والولاء جزء من الثمن، فحينئذ تقول: نعم لك الولاء، ثم ترجع وتقول: ليس لك ولاء! فضيعت عليه الولاء! قالوا: هذا بعيد عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف يقول هذا الكلام؟! قالوا: لأنه سبق أن أعتقت رقاب عديدة، وأخبرهم سابقاً: بأن الولاء لمن أعتق، فكيف -مع علمهم المسبق- يريدون من عائشة أن تشتريها، وتعتقها، ولهم الولاء، على خلاف ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل؟ إذاً: بما أنهم اشترطوا شرطاً باطلاً، ويعلمون بطلانه، فهو تجاوز منهم للحد، والشرط الباطل لا اعتبار له، ولو كان مشروطاً في مجلس العقد، فاشترتها وأعتقتها، وهنا يجري التشريع العام، ولا تأثير لما أحدثوه من شرط باطل.
إذاً: القضية بين أربعة أشخاص: سيد بريرة وبريرة وعائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طرفا البيع والشراء، والسلعة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي سمع الخبر، وهذا لا يكفي لإعلان الموضوع، وتأكيده؛ ولذا لما تم شراؤها وعتقها، وثبت الولاء لـ عائشة -بمقتضى هذا الشراء- العتق صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر.
وهنا تأتي رسالة منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت حاولت أن أجمع رسالة في القضايا الخطيرة التي عولجت على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عظيمة وعديدة وكثيرة، هذا المنبر الذي أدى رسالة أعظم من أي منصة في أكبر جامعة، صعد النبي المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُبلغ أمراً، أو يشرح أمراً، أو يعلم الناس شيئاً، قال: احضروا المنبر؛ فيعلم الناس بعضهم بعضاً، فيحضرون حول المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وهذا من شروط الخطبة وآدابها، ثم هل قال: -لماذا يا أهل بريرة! فعلتم؟! لا، - ولكن قال: (ما بال أقوام) ، هم قوم فقط، وهم أهل بريرة، ولكن عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي التشهير؛ لأن تسمية أشخاص بأعيانهم في صلب التشريع ليس مهماً، فأصحاب الكهف: ثلاثة ورابعهم، خمسة وسادسهم، سبعة وثامنهم، من هم؟ وما أسماؤهم؟! وما الذي يفيدنا من معرفة أسمائهم؟! بل الذي يفيدنا صلب القضية، وماذا كان منهم وعليهم، وهذا موسى يخاطب فتاه كما قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:62] ، وهو الذي سافر معه، وحمل الغداء؛ ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: الشخصيات، والعينيات التي لا تعلق لها بالتشريع، لم تسم؛ لأن أسماءها لا تزيد في التشريع شيئاً {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17-18] من أي شجرة؟ لا نتدخل، وما طولها وما عرضها؟ لا نتدخل، عصا يتوكأ عليها.
وهكذا (ما بال أقوام) الغرض بيان الحكم، وشرح القضية للناس، أما ما يتعلق بنوعية الأقوام والأشخاص والأفراد فهذا لا يغير في الموضوع شيئاً (ما بال أقوام) ، وأقوام جمع قوم، والقوم في اللغة يطلق على الرجال، ولا يدخل فيه النساء، كما قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء وكما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، فلفظ قوم يختص بالرجال، (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) يعني: ليست في كتاب الله بنصها وفرعها وكل موضوعها! يعني: ما بال أقوام يشترطون ولاءهم في عتق بريرة، وليس هذا النص في كتاب الله؟! كتاب الله لم يأت من أجل بريرة، ولا من أجل سعدة! إنما هو تشريع عام، ولكن كما يقول ابن حجر: يشترطون شروطاً ليست على نهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويزيد البعض: وإجماع المسلمين، أبيعك هذا العبد بشرط ألا تعتقه أبداً، دعه عندك حتى يموت! لماذا؟ هذا يتنافى مع مقتضى العقد؛ لأنني بشرائي العبد امتلكته كامل الملك، وكمال الملك يعطيني الحق بأن أتصرف فيه تصرفاً كاملاً، ومن التصرف الكامل: أن أبيع، أن أهب، أن أعتق إلخ، لكن أبيعك عبداً بشرط أن تعتقه، هل عتق العبد في كتاب الله أم لا؟ في كتاب الله؛ لأن الشرع حث على تحرير العبيد.
إذاً: القرآن جاء بعتق العبيد، لا بمنع العتق، فإذا اشترط عليك: أن تعتقه، كان شرطاً في كتاب الله، وإن اشترط ألا تعتقه كان شرطاً ليس في كتاب الله، وهكذا، يعني: ما بال أقوام يخترعون من عند أنفسهم شروطاً لم يأت بها دين الإسلام، كل شرط ليس في دين الله -ضعها محل كتاب الله، يتبين لك المعنى- كما جاء في الحديث الآخر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود، كل شرط ليس في كتاب الله، أي: على مقتضى تشريع الله في كتابه، ولا على تشريع الله في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا على تشريع الله في إجماع علماء الأمة؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
ويقولون: ذكر المائة هنا للمبالغة، فإذا كانت مائة شرط وهي مغايرة لكتاب الله فهي باطلة، أما لو كان شرطاً وشرطين فهل يقبل؟ لا، لا يقبل الباطل، كثيراً كان أو قليلاً، وقال: (قضاء الله أحق) أي: حكمه، وقضى ربك كذا، (قضاء الله أحق) أحق أفعل تفضيل من الحق ضد الباطل.
وقوله: (وشرط الله أوثق) ، شرط الله: ما أباحه الله وأجازه، فهو أوثق من الشروط الأخرى؛ لأن الشرط الصحيح ملزم وموثق {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فالمؤمنون على شروطهم.


الولاء لمن أعتق
وقوله: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، كل ما تقدم مقدمة، ثم قال: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، وهذه جملة مبنية على يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، وهو اشتراطهم الولاء لهم، وإن لم يكونوا هم الذين أعتقوا، أي: اشتراطكم ذلك باطل، والصحيح أن الولاء لمن أعتق، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، أو كان عبداً مملوكاً، فلو كان عبداً مملوكاً وسمح سيده له بالاتجار، وامتلك العبيد، وأعتق، صار ولاء عبيده -الذين أعتقهم- له، فإن ماتوا، ولم يتركوا عاصباً، ورثهم بالولاء، مع أنه إذا مات أبوه، أو مات أخوه لا يرثه؛ لأنه مملوك، لكنه ورثهم بالولاء.
وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) .
(اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها) ، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـ عائشة رضي الله تعالى عنها.
تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما.
إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها.
وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياها، وبعضهم يقول: هو أعطاها واحدة، وهي طلقت ثلاثاً، والثلاث مشتملة على الواحدة ضمناً، فتكون الواحدة قد وقعت.
وهكذا التخيير والتمليك حكم موجود بين الزوجين الأحرار حينما يكون هناك حسن العشرة، ويقولون: إن الزبير بن العوام كان مع زوجته في عشرة وفي مؤانسة طيبة، فاستحت أن تطلب منه الطلاق، وهو لم تطب نفسه أن يطلقها، وسكتت إلى قبل الوضع، وفي يوم جمعة، قالت: يا فلان! لم أطلب منك شيئاً إلا وأعطيتني، أريد أن تقر عيني بطلب واحد، قال: ما هو؟ قالت: تملكني نفسي إلى أن ترجع من الصلاة، فأحس أني طليقة، وأني حرة، وأني أملك أمر نفسي، قال: مرحباً، ملكتك أمرك إلى بعد الصلاة، فذهب وجاء فوجدها متغطية، فقال: ما بك؟! قالت: ملكتني نفسي، واخترت نفسي، وقد وضعت وخرجت من عدتك -امتلكت نفسها فاختارت نفسها فعليها العدة، ووضعت حملها، فخرجت من العدة- قال: خدعتيني.
إذاً: التخيير والتمليك حكم موجود في باب الطلاق، فهنا أخبرها بأن أمرها في يدها، ماذا كان الأمر؟ اخترت نفسي، فعلم زوجها بهذا التخيير، وامتنعت عليه، قالوا: وكان يحبها أشد ما يُحب الرجل زوجه، فكان إذا رآها في الشارع، تبعها ويبكي ويستعطفها؛ لترجع إليه، وهي لا تلتفت إليه، ولا ترد عليه جواباً؛ وعلم بذلك الناس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم- فأشفق على زوجها، واسمه: مغيث، وفي يوم أصبحت عند عائشة؛ لأن عائشة مولاتها، وأصبحت واحدة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بريرة! انظري زوجك، انظري في أمره، فإن أمره صار شديداً، فقالت -كما ذكرنا سابقاً-: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) أقول: إن هذه الكلمة لا تفي بها قواميس الأدب، ومهما تطاول أديب بأن يُبين مدى أدبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يبلغ هذه الكلمة.
أشافع -والشفاعة ليست لازمة- أم آمر؟ والأمر لازم، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، فقبل أن تجيب تأكدت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو شفاعة وشفقة بـ مغيث أو هو أمر وإلزام لها؟ فلما قال لها: (شافع) ، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج عائشة، وهي عتيقة زوجه، وأدبياً واجتماعياً له الحق أن يأمرها، ولن ترد عائشة أمره فيها، ولكنه يعطيها الحق المشروع لها.


حرية الكلمة في الإسلام
لنعلم مدى حرية القول والكلمة في الإسلام -ولكن في محلها- فهذه امرأة مملوكة معتوقة لزوجه صلى الله عليه وسلم يعرض عليها أمراً رفيقاً، فتستفسر فيجيبها بالرفق أيضاً، ولا يفرض سلطته عليها، مع أنه له الحق في ذلك ولو لم تكن معتوقة لزوجه؛ قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] سبحان الله! إذاً: من حقه أن يأمرها وينهاها، فالمرأة التي جاءت تعرض نفسها وتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له حاجة فيها، فقال رجل: زوجنيها يا رسول الله! فزوجه، بأي حق زوجه امرأة أجنبية؟! لأنه أولى بها من أبيها وأخيها، وكل عصبتها، فبولائه عليها امتلك حق التزويج، وهنا لم يفرض هذا الحق على هذه الجارية، وإنما قال: (أنا شافع) ، ما أعظمها من كلمات! وما أشرفه من موقف! فإذا بالجارية التي عُتقت بالأمس تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة الحق الناصع: (لا حاجة لي فيه) .
فكأنها تقول: نعم، شفاعة طيبة وحسنة، ولكن أنا لا أستطيع أن أنفذ هذه الشفاعة، أي إنسان مهما عظمت منزلته، في أي دولة هل يمكن أن يرفض شفاعة رئيس الدولة في أمر أكبر من هذا، والله لا يقدر، لو قال: يا فلان أطلب منك كذا، فسيقول: سمعاً وطاعة على الرأس والعين، ولو رغماً عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يجابه رئيسه الأعلى، رئيس الدولة بطلب يطلبه، ويرفض ذلك! وهذه جارية تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (لا حاجة لي فيه) .
علموا الناس الحرية الحقيقة في الإسلام، احترام الكلمة، واحترام الشخصية، وإعطاء الحقوق لأهلها، فهذه جارية وأعطاها حقها إلى هذا الحد، ولم يعنفها، فإذا لم يكن لك فيه حاجة فأنت وشأنك، وأنا أديت الذي عليّ، وشفعت فيه، وبعد هذا فالأمر إليك.
من يستطيع أن يصور المعنى، ويبين هذا للعالم؟! وأصبحت بريرة حرة، ومغيث ذهب في سبيله.


سنة ثالثة وردت بسبب بريرة
وجاءت في بريرة سنة ثالثة: حينما دخل صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فأتوه بخل وزيت وملح، فقال: (ألم أرى البرمة على النار؟) ومن حق الرجل أن يستطلع ما في بيته، لماذا خصصتم أنفسكم بهذا!؟ ولا يجوز للمرأة أن تختص نفسها بطعام دون زوجها أو عيالها، لماذا احتفظتم بالبرمة لكم وناولتموني الخل والملح؟! اعتذروا، وقالوا: لا، يا رسول الله! إن البرمة لا تحل لك! لماذا؟ ما هو السبب؟ لأنها صدقة، (لحم تصدق به على بريرة، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) انظروا التحوير، التحوير المعنوي غيرّ الحكم، إننا بالأمس نقول: التحوير المادي، وهنا تحوير معنوي: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) ، ما رأيك -يا بريرة - أتهدينا أو لا؟! فهل ستقول: لا؟! حكم عليها بأنه هدية، فستفرح بذلك بريرة لتهدي الرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً.
هنا قضية صغيرة كنت قد سمعتها من الشيخ الأمين، والشيء بالشيء يذكر، كان هو وبعض القضاة في سفر، ونزلوا على قوم، وقام الناس وذبحوا لهم، والوقت وقت الظهر، وكانوا جائعين، فالشيخ الأمين انتظر الطعام والشراب وما حضر، وكانت هناك جارية ومعها عصيدة، وضعت عليها السمن، وبجوارها اللبن، وتأكل، فقال لها: يا جارية! أليس عيب عليك أن تأكلي والضيوف ينظرون جائعين؟! قالت: ما بك يا شيخ؟! أما علمت أن الناس قد ذبحوا لك ذبيحة؟! فتركت الذبيحة، وتتطلع إلى ما في يد الجارية! قال: نعم، هذا حاضر ناجز، وذاك غائب، قالت: أتحب أن تأكل منه؟ قال: نعم، قال: فقامت -فرحانة تجري- وحمّت العصيدة، وزادت السمن، وأتت باللبن من أجل أني قلت لها: أريد أن آكل من طعامك، وفرحت جداً وأتت به، يقول: فأكلت حتى شبعت، فقالت: تريد شاي (أتاي) ، قلت لها: نعم، فذهبت وفعلت الأتاي، وشربت ونمت مبسوطاً، صاحبه يقول له: يا شيخ! أنت لم تسمع ما قالت لك الجارية؟! الناس ذبحوا لنا الذبيحة، وتركت الذبيحة! قال: انتظر إلى أن تأتي الذبيحة! وبعد العصر جاءت الذبيحة، فالشيخ أخذ يأكل من الذبيحة بهدوء.
يهمنا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وهو لنا هدية من بريرة) ، ثقة برضاها وفرحها بأنها ستهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هناك فرقاً بين القصتين، ولكن ذكرناها إيضاحاً للمعنى، وبالله تعالى التوفيق.
أقول: الواجب على طالب العلم المتفرغ -ولا يوجد شبه المتفرغ- أن يأخذ مثل هذا الحديث الذي يعتبر كنزاً وموسوعة ومجالاً فسيحاً جداً لإعمال الملكة الفقهية، وإعمال الذهن، في استخراج الأحكام، كما سمعنا عن ابن خزيمة أن هناك من استنبط منه أربعمائة مسألة، وكما سمعنا عن الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، جملتان صغيرتان يستخرج منهما أربعين مسألة فقهية.
إذاً: طالب العلم لا يمر على الحديث مرور الكرام، فيقرأه كقراءة الصحف أو المجلات أو المواضيع العادية، ولكن يقف عند كل لفظة، وعند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل تركيب؛ ليرى فيها أصول التشريع، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [5]
هناك بيوع حرمتها الشريعة الحكيمة لمفاسدها الكثيرة، ومن ذلك تحريم بيع أمهات الأولاد وبيع فضل الماء وبيع ماء الفحل وبيع حبل الحبلة، وقد بين أهل العلم أحكام هذه البيوع، وحكمة الشريعة من تحريمها.


شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد فقال: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة) رواه مالك والبيهقي، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم] .
يذكر المؤلف رحمه الله عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، أمهات الأولاد الأصل أنهن إماء وجواري مملوكات، وللسيد أن يستمتع بمملوكاته بملك اليمين، والاستمتاع بملك اليمين جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] .
وعبر عن الإماء بـ ((ما ملكت أيمانهم)) ؛ لأن الغلبة في مواطن القوة تسند إلى اليد اليمنى؛ لأنها الأقوى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] وقال بعضهم: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاه عراضة باليمين ولما كان الجهاد بذلاً للقوة، وبذلاً الطاقة؛ عبر عن الأسارى الذين يؤخذون في الجهاد بملك اليمين التي هي شعار القوة، وتقدمت الإشارة إلى أن الإسلام لم يبح استرقاق البشر إلا في ميدان القتال، وفي غير ميدان القتال لا رق، وموجبه أن الكفار عارضوا مسيرة الإسلام، وأرادوا أن يوقفوها، وأن يستبدلوا بالإسلام غيره، فلما قدر عليهم بالأسر استرقوا وسلبوا الحرية.


سرُّ جواز الاستمتاع بملك اليمين من غير حد بعدد
وهنا يقول عمر: لا تباع ولا توهب، ولكن يستمتع منها ما شاء، فإذا مات عتقت.
ومن هنا نعلم السر في أن الله سبحانه أباح للحر أن يستمتع من الحرائر بعقد النكاح بأربع، ولكن الاستمتاع بملك اليمين بلا عدد ولا حد، فلو امتلك أربعين أمة، أو مائة أمة فله أن يستمتع بجميعهن.
وهذا موضع تكلم المستشرقون من خلاله على الإسلام، وقالوا: إنه أعطى الرجل المجال لإشباع غريزته ورغباته فيمن شاء من النساء، وغاب عنهم قول عمر: فإذا مات عتقت، وهو أن السيد إذا ما استولد الأمة، أو مجرد أن حملت منه، ولو سقط الجنين وتبينت فيه خلقة الإنسان، فإنها تصبح في عرف الشرع أم ولد، يعني: أم ولد للسيد، فإذا مات عتقت من رأس ماله، لا من الثلث، فإذا لم يترك إلا أم ولد فقط فإنها تعتق، وليس هذا كالذي تقدم: أن رجلاً أعتق عبداً له عن دبر، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل كان مديناً، فاسترجع العتق وباعه، وسدد الدين، أما أم الولد فلا تباع في الدين؛ لأنها بمجرد موت سيدها اكتسبت الحرية، فنقطة الصفر التي فاضت فيها روح سيدها هي نقطة الصفر التي تحررت فيها؛ ولهذا لا ترث؛ لأنها لم تكتسب الحرية في حياته، ولكن بعد أن انتهت حياته بدأت حريتها، فلم يلتقيا.
وعلى هذا فمن حكمة الشرع أن أباح للرجل الحر أن يستمتع من الإماء بقدر ما شاء؛ لأن استمتاعه من الإماء بمثابة الطعم له في السنارة؛ لأنه بمجرد أن تحمل منه الأمة تصير أم ولد، وبذلك تكون قد اقتربت من التحرر، والشرع يحث على تحرير الرقيق.
والمرأة التي تملك العبيد لا يحق لها أن تمكن نفسها من واحد منهم؛ لماذا؟ لأن ولدها سواءً كان من حر، أو من عبد، أو من ملك يمين؛ يكون حراً، إذاً: تمكينها العبد لا يأتي بجديد، بخلاف الأمة فإنها بذلك تكتسب الحرية، وولدها يصير حراً، ونسلها كذلك يكونون أحراراً، فاستمتاع السيد بالأمة لمصلحتها هي، وليس لمصلحته هو؛ لأنها تخرج من ملكه إجبارياً دون اختياره.


النهي عن بيع أمهات الأولاد
الذي حصل في قصة عمر أنه كان جالساً فسمع صياحاً، فقال: يا يرفأ! -غلام له- انظر ما هذا الصياح! فذهب فوجد امرأة بيعت دون ولدها، باعها سيدها ولم يبع ولدها؛ لأن ولدها حر، إذ أنه من رجل حر، ولو حملت من غير سيدها فإن الولد يكون مملوكاً، أما إذا حملت منه فولده يصير حراً، وأمه تتحرر بموت السيد، فقال: إن أم ولد تباع، والصياح بين ولدها وبينها! فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ادع لي من كان هنا من قريش.
فجمعهم وقال: هل ترون الإسلام جاء بقطعية الرحم أم أنه جاء بوصلها؟! قالوا: جاء بوصلها، قال: أرأيتم لو أن أحدكم من أم ولد وبيعت أمه وفُرّق بينهما أيقبل ذلك؟! قالوا: لا، قال: إذاً: لا تباع أم ولد بعد اليوم، ونهى عن بيع أمهات الأولاد.
وإذا نظرنا إلى أمهات الأولاد فإننا نجد أن النهي عن بيعهن؛ لأنهن اقتربن من الحرية، فمتى مات سيدها تحررت وصارت حرة، لكن هناك شيء آخر: إذا اشترى الإنسان الأمة ومعها أولادها -من غيره- أو أنه زوجها لعبد، أو لحر، وأنجبت، فأولادها في الرق يتبعونها في ذلك، فأراد أن يبيعها، فقد جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المرأة وولدها -أي: الأمة وولدها- أو بين الأخ وأخيه، قال: إما أن يباعا معاً -الأمة والولد- وإما أن يبقيا معاً؛ تجنباً لقطيعة الرحم، وقاس العلماء زيادة على ذلك: كل ذي رحم لا يجوز أن يفرق بينهما.
وقال الآخرون: النص موجود في الأمة وولدها، والأخ مع أخيه فقط.
وهل هذا النهي عام يتناول جميع مراحل العمر أم أنه خاص بما دون البلوغ؟ قال البعض: إذا ما بلغ الولد وأصبح مستقلاً، فلو بيعت أمه وحدها فلا مانع؛ أما دون البلوغ فلا يجوز؛ لأنه ما زال صبياً، وهو في حاجة إلى أمه، وعطفها عليه.


من هي أم الولد؟
عمر رضي الله تعالى عنه أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وسواء كان لها ولد حاضر، أو مات ولدها، المهم أنها جاءت بولد من السيد، فثبت أنها أم ولد بهذا الولد، فإذا عاش الولد سنة، أو سنتين فمات، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها أم ولد، وتصير حرة بموت سيدها، وهل تباع؟ لا؛ لماذا؟ لأنها أمسكت بأول خيط للحرية؛ فلا تباع، ولا توهب، ولا ترهن، فكل عقد يئول إلى نقل ملكيتها، لا يجوز، فلا تورث، ولا توهب، ولا تباع، ولا ترهن؛ لأن كل ذلك ينقل الملكية، والسبب في ذلك ما هو؟ أنها في طريق الحرية.
هذا ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه.
وبعضهم -كما قال المؤلف- يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً فسمع، فسأل، فمنعه، فإذا كان الأمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أصل في التشريع، وإذا كان موقوفاً على عمر، فـ عمر حينما قال ذلك قاله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقوه، وإن كان قد حدث أن علياً رضي الله تعالى عنه كان موافقاً على هذا، وبعد عمر رأى علي أن تباع، فقيل له: كنت مع عمر موافقاً! قال: والآن بدا لي ألا أوافق.
قالوا: رأيك مع غيرك أحب إلينا من رأيك وحدك.
فقال علي وأنا لا أحب المخالفة، امضوا على ما كنتم عليه.
إذاً: المخالفة للجمهور ليست جيدة، وكما قال ابن مسعود للذي اشتكى عثمان بأنه أتم في منى، وقد قصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصرنا مع أبي بكر، وقصرنا مع عمر، انظر ما فعل الرجل! قال: يا ابن أخي! الخلاف شر، فإن صليت في رحالك فاقصر، وإن صليت معه فوافقه.
ومحل الشاهد عندنا قوله: (الخلاف كله شر) ، وهنا علي رضي الله تعالى عنه يقول: لا أحب الخلاف، امضوا على ما كنتم عليه، ولو كان على غير رأيه الذي استجد له.


شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم حي، لا يرى بذلك بأساً) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني، وصححه ابن حبان] .
المؤلف يأتي بالحديث هذا -حديث جابر - (كنا نبيع سرارينا -جمع سرية-: أمهات الأولاد) يعني: الذي نهى عمر عن بيعهن كنا نبيعهن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولا يرى بذلك بأساً) فكيف عمر رأى به بأساً؟! إذاً: المسألة متعارضة! قالوا: ليس عندنا من اليقين الذي يجعلنا نجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ببيعهم سراريهم، ولم يثبت أن رجلاً جاء وقال: يا رسول الله! بعت سريتي -أم ولد-، وكونه موجوداً وفي عهده؛ مظنة لعلمه به، والمظنة غير اليقين، وكما قالوا: (كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهينا عنه) .
مع أن النهي قد جاء في صحيح مسلم والترمذي وغيره، وأنها الموءودة الصغرى: (أو تفعلون؟! ما من نفس منفوسة إلا وهي آتية، شاء أحدكم أم أبى) ، (ولو أن أحدكم ألقى الماء على حجر، وأراد الله أن يأتي بالولد لجاء) والرجل الذي جاء واستفسر الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لي جارية، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة، وأخشى أن تحمل، أفأعزل؟ قال: اعزل أو لا تعزل ما قدر لها سيأتيها، وبعد سنة جاءه وقال: يا رسول الله! الجارية حملت، قال: الله أكبر! أنا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لو أن أحدكم ألقى الماء على حجر وأراد الله منه الولد لجاء) ، والآن الطب يثبت هذا، فلو أراق الرجل الماء على حجر، وتجمرت به امرأة لنفذ الماء إلى الداخل وحملت، وهو شبيه بالتلقيح الصناعي، -الذي ملئوا به الدنيا صياحاً- فيؤخذ الماء من الرجل، ويوضع في رحم المرأة، وتتلقح بدون علاج، وبدون جماع، قالوا: كنا نعزل والوحي ينزل، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا: فهذه أمور فرضية، وقد جاء النهي عن ذلك، وهنا كذلك، يقول: والرسول حي.
فالذين وافقوا عمر رضي الله تعالى عنه يقولون: ليس عندنا دليل قاطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم، وأقر، وسكت، وإنما لوجوده بين أظهرهم فمظنة ذلك أن يعلم بمثل هذه الصور.
وبعضهم يقول: الحديث الأول مرفوع، فيكون ناسخاً لهذا؛ لأن المنع مقدم، والمنع إنما يكون بعد الإباحة؛ لأن الإباحة على الأصل والبراءة الأصلية، فجاء المنع فنسخ البراءة الأصلية، فيكون المنع هو المقدم.


شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء)
قال رحمه الله تعالى: [وعن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء) رواه مسلم] .
من المنهي عن بيعه: بيع أم الولد، وكذلك التفريق بين ذوي الرحم، وجاء في الحديث: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ولا يدخل في هذا ما إذا كان يملك أمة، وزوجها وأنجبت، فأصبح يملكها ويملك ما أنجبته، فإذا باع باع الجميع، وإذا أبقى أبقى الجميع.


المراد بفضل الماء
وبعد ذلك جاء بالنهي عن بيع فضل الماء، والفضل هو: الزائد عن الحاجة سواء كان الماء للشرب واستعمال الآدمي، أو كان للزرع وسقي الحيوان؛ لأن هذه هي أنواع استعمال الماء، فهناك ماء لاستهلاك الشخص، وماء للزرع، وماء لسقي الحيوان، فهنا نهى عن بيع فضل الماء، و (ال) هنا للجنس، وقد حملها كثير من العلماء على جنس الماء، وفضل الماء: ما زاد عن حاجة صاحبه، فإذا حفر بئراً، وجاء الماء، فله أن يستعملها استعماله الشخصي، وما زاد عن حاجته فهو فضل، وإذا سقى زرعه، فما زاد عن حاجة زرعه فهو فضل، وإذا كانت عنده ماشية، فسقى الماشية، وبقي فضل من الماء عن ماشيته، فكل ذلك داخل في فضل الماء.


حكم بيع فضل الماء
اختلف العلماء: هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة والتنزيه؟ ونفرق بين الماء وموقع الماء، فسواء كان الماء في بئر أو في عين، أو في غدير، أو حفرة امتلأت ماءً وزادت عن حاجة صاحبها، كذلك إذا كان في الخلاء، ومعه ماء فائض عن حاجته، ووجد من يضطر إليه، فهذه مسألة أخرى: ويتعين عليه أن يبذل الفائض من مائه للمضطر إليه، ولو منعه الماء حتى مات فإن كان تعمد المنع لإماتته؛ اقتص منه، وإن لم يكن تعمد فعليه ديته؛ لأنه تسبب في وفاته بشيء هو في غنى عنه.
ويقول بعض العلماء: إن النهي عن بيع فضل الماء قد نسخ، وبعضهم يقول: هذا للكراهية والتنزيه؛ للإرفاق بين المسلمين، ويجوز بيعه، هذا كله إذا كان الماء في موطنه: في بئره، في عينه، في مجرى السيل، في حفرته في الخلاء، أما إذا حازه لنفسه: في وايت، في قربة، في إبريق، فلا يحق لأحد أن يزاحمه عليه.
ولا يدخل في فضل الماء ما إذا كان الشخص لديه ماء في خزان البيت، ويكفيه لعدة أيام أو أسابيع، فهذا ليس فائضاً عن حاجته، فإن كان فائضاً الآن فهو في حاجته غداً.


بيع الماء في زمن النبوة
بعضهم يقول: كان بيع الماء موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة بئر رومان -بئر عثمان - كان رومان -وهو رجل يهودي- يبيع الماء على أهل المدينة، فيأتون ويستسقون منه القربة بكذا أو الإناء بكذا، فضيق على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومان، يوسع به على المسلمين، وله الجنة) فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى رومان وساومه على البئر، فامتنع؛ لأنها مورد كسبه، فقال: لا أبيعها أبداً.
فأعطاه وساومه إلى أقصى حد، قال: هلاّ بعتني نصفه، وساومه على النصف بقريب من ثمن الجميع، فرضي وفرح رومان، وباعه نصف البئر، فلما امتلك عثمان نصف البئر، اتفقا على تناصف البئر، على أن يكون يوم لـ عثمان، ويوم لـ رومان، ولما اتفقا على ذلك، أعلن عثمان لأهل المدينة: اليوم الفلاني لـ عثمان، واليوم الفلاني لـ رومان ففي يوم عثمان من أراد الماء مجاناً فليأخذه، فكان الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، وكان رومان ينتظر في يومه فلا يأتي إليه أحد؛ لأنهم اكتفوا بماء الأمس -ماء عثمان - فأتى رومان وقال لـ عثمان: اشتر الباقي.
قال: لست في حاجة إليه، وهذه بصيرة المسلم! (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) .
فكان رومان يبيع الماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يجوز ما دام في حوزته، وفي بئره، أو في ملكه، أو في عينه التي تجري في أرضه، أما الأماكن والمواطن العامة، فلا يجوز بيعه فيها، كالسيل الذي يجري تأتي وتبيعه! أنت لا تملكه، فكيف تبيعه.
فأجاب المانعون وقالوا: هذا ليس بدليل، رومان يهودي، واليهود كانت لهم سلطة في المدينة، وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم نفوذ في المدينة، إلى أن كتبت الصحيفة بينهم، فما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعارض أعمالهم وتصرفاتهم.
ولكن هذه الحجة ليست قائمة؛ لأن الصحيفة جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعاً لكل ما اختلفوا فيه، فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم في المدينة على كل الطبقات: اليهود، والمسلمين، والمشركين، والمنافقين، الكل تحت إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه.


حديث: (الناس شركاء في ثلاثة) وعلاقته بهذا الباب
هذا الموضوع فتح على الناس أبواباً أخرى، فقالوا: لا يجوز أن يبيع الحطب الزائد، ولا الكلأ الموجود في أرضه، فلا يمنع غيره من أن يرعاه، إذا كان زائداً عن حاجته، واستدلوا بحديث: (الناس شركاء في ثلاث) ، وقامت فتنة الاقتصاد على هذا الحديث ممن جهله.
والتحقيق: أن الناس شركاء -صحيح- في الماء، والنار، والكلأ، والنار يتبعها الحطب، لكن شركاء في ما هو عام، الآن في الوقت الحاضر، في الشعاب، والوديان، لكل واحد منا أن يقول: الناس شركاء، من شاء فليذهب فليحتطب، وما احتطبه فهو له، ولا يمنع أحد أحداً؛ لأنهم شركاء فيه، ومن سبق إلى شيء أخذه، ولكن بعد أن يحتطب ويحوزه هل تأتي وتقول: أحضر نصف الذي عندك، أنا شريكك؟! أنا قائم من الليل، أجمع الحطب، وأكسر، وأحزم، وأحمل، وأمشي، وأنت قاعد في بيتك، فتأتي وتقول: أنا شريك معك! لا يمكن هذا أبداً.
والشاب الذي جاء يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، فوجده جلداً قوياً، فقال: يا هذا! الصدقة لا تحل لك، قال: ما عندي شيء، أنا وعجوز في البيت لا نمتلك إلا حلساً نفترش نصفه، ونلتحف بالنصف الثاني، وقعباً نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين -في المسجد- وقال: خذ هذا الدرهم واشتر طعاماً واجعله عند أمك، وهذا الدرهم اشتربه فأساً وحبلاً وائت، ثم جعل عوداً في الفأس وقال: اذهب فاحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، احتطب وبع، هذا الذي يحتطب ويأتي ويبيع، يبيع ما يملكه أو ما لا يملكه؟ هل لأحد أن يقول: أنا لي نصف ما احتطبتَ؟ لا، أنت وهو شركاء في الحطب ما دام في موقعه، لكن إذا حازه وجمعه وحزمه، فليس لك فيه حق، وهؤلاء الذين كانوا ينادون بالإشتراكية، هل أحد منهم يسمح لإنسان أن يدخل بيته ويأخذ كأساً من الماء؟! فقد كانوا يبيعون الماء والنار، فمصلحة المياه، تضع العداد باللتر، والكهرباء -وهي نار- العداد يعد عليه بالفولت، والفحم كانوا يبيعونه، ولم يشركوا الناس ولا في واحد من ذلك؛ لماذا؟ لأنه في حيازتهم.
إذاً: قوله: (شركاء) إنما هو في ما كان في موطنه وموقعه، أما بعد أن حازه، وأصبح في يده وملكه، فليس لأحد فيه شراكة.
فهنا النهي عن بيع فضل الماء، وأدخلوا معه: (الناس شركاء في ثلاثة) ولكن هذا ليس بصحيح، فإنما يراد بذلك الإرفاق، مع اتفاق الجميع: بأن من باع البئر فإن البيع صحيح، والماء تبع للبئر، فـ رومان لما باع نصف البئر كان له نصف الماء تبعاً، إذاً: بيع مكان الماء، ومجرى الماء، ومحتوى الماء، جائز.
إذاً: جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب، فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك، فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى من وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض: حفرة بها ماء، وليست ملكاً لك، فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك.
ولـ ابن القيم رحمه الله زيادة بحث في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل)
قال رحمه الله تعالى: [وزاد في رواية: (وعن بيع ضراب الجمل) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) رواه البخاري] .


علة النهي عن بيع ضراب الجمل
ضراب الجمل: هو ماؤه الملقِح، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الماء -مني الجمل- ولماذا؟ قالوا: يرد عليه عدة محظورات، فهل تملك أن تستخرج ماء الفحل منه؟ لا، وإذا بعت فكم الكمية؟! ومن يقدرها؟ وإذا تجاوزنا الكمية، فهل تضمن بأن هذا الضراب من هذه المرة سيلقح وينتج أو أنه يمكن أن ينتج ويمكن ألا ينتج؟! إذاً: شروط استيفاء البيع بالملك: القدرة على التسليم، معرفة السلعة، كل ذلك مجهول في ضراب الفحل.


جواز المكارمة في ضراب الفحل دون المشارطة
وجاء أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نكارم -أو نكرِم أو نُكرَم- على ضراب الفحل.
قال: لا بأس) إنسان عنده فحل، فيأتيه صاحب الناقة فيطلق فحله عليها، ثم يكارمه بكيس شعير، بشيء من العلف للجمل دون مشارطة بيع، فلا بأس بذلك، وهذا عام في جميع الحيوانات ذات الذكور والإناث، فعسب الفحل هو ضراب الفحل، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه مشارطة، أو مساومة، أو مكاسرة، لكن أن يكارم عليه فلا مانع من باب المجاملة، ومقابلة المعروف بالمعروف.


حكم استئجار الفحل للضراب
مالك رحمه الله يرى جواز استئجار الفحل ليوم أو يومين أو ثلاثة، ليكون في إبله للضراب، يستأجر الجمل، لا أن يشتري الضراب، وأيضاً نقول: المدة التي استأجره فيها، هل ندري كم سيكون منه ضراب؟ وما هو الذي سينتج وما الذي لا ينتج؟ قالوا: يتساهل في ذلك؛ لأن الأجرة وقعت على وجود الجمل عند صاحب النوق مدة معينة، أما كونه يحصل على ضراب كثير أو قليل، فهذا متروك، وغير منظور فيه، ومسامح فيه، وكما يقولون: الآن خمسة أشخاص دخلوا الحمام، والحمام يستعمل فيه الماء الحار، والمكث في الحمام له أجرة، واستهلاك الماء له أجرة، والأجرة متساوية، على كل واحد خمسة ريالات، فهل كلهم يدخلون في دقيقة واحدة، ويخرجون في دقيقة واحدة، أم يتفاوتون؟! فهناك شخص يمكث أكثر من الثاني، فاستفاد من الحمام أكثر من غيره فتساهلنا، وهل الخمسة يتفقون في مقدار الماء الذي يستنفدونه في الحمام؟! لا، مع أن كل واحد دفع خمسة ريالات، وبعضهم قد يستهلك عشرين لتراً، وبعضهم ثلاثة لترات.
والآن إذا ذهبت إلى مكتب الطيران، فستجد التذكرة من المدينة إلى جدة بمائة ريال، ثم راقب الناس في المطار، تجد واحداً وزنه خمسين كيلو جرام، والآخر وزنه مائة وخمسين، وكل منهما له نفس التذكرة، هل الخطوط تحاسب على الوزن وعلى الثقل؟ لا، ومثل هذه الفوارق متسامح فيها.
فـ مالك أباح استئجار الفحل، فيبقى عند المستأجر وقتاً معيناً ومدة معلومة، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة)
قال رحمه الله: [وعنه (أي: ابن عمر) (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحبلة، وكان بيعاً يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
مما نهي عن بيعه ما فيه غرر؛ لأنه غير معروف، وغير مضمون، مثل ما جاء في هذا الحديث، وهو مثال عام لكل ما فيه غرر، أبيعك ما في جيبي! أبيعك ما في الصندوق! وما الذي في الصندوق؟! لا أدري، إذاً: هذا غرر، أبيعك هذا الثوب على طيه ولا تفكه؟! وهل أنا أدري ما بداخله؟! أبيعك ما يأتيني به فلان! وهل أنا أدري ما الذي سيأتيك به؟! فكل ما فيه غرر داخل في هذا الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) حَبَلها: الذي في جوفها، وهل النهي عن بيع الطبقة الأولى وهي: الحمل الموجود أم أن النهي عن بيع الطبقة الثالثة، وهي: أن تنتج الناقة أنثى، فيكبر هذا النتاج، ثم ينتج، فيكون جيلاً ثالثاً أو أن النهي ليس منصباً على عين الحمل، وحمل الحمل، بل جعل الحمل موعداً لوفاء الدين؟! (نهى عن بيع حبل الحبلة) ، قالوا: يحمل على أمرين: أن ينتظر وضع الحمل ثم يكبر هذا الحمل إلى أن يبلغ وينتج، فحينئذ حل الدين، هذا واحد: أن يجعل حبل الحبلة موعداً لوفاء الدين، وإذا وقفنا عند هذه: فلو اشتريت عبداً وقال: حلول ثمنه عند حبل الحبلى التي عندك، أو حبل الحبلى التي عندي والتي تعرفها، ما المانع في هذا؟ قالوا: لا ندري متى يأتي حبلها هذا الموجود، والمعروف عند الناس: تسعة أشهر، أو سنة، طيب هذه التي جاءت، متى تكبر؟ ومتى تحمل؟ ومتى تنتج؟ لا تجد شيئاً مضموناً يمنع النزاع، فنهي أن يجعل هذا الوصف موعداً لوفاء الدين، وهذا أحد المعاني التي فُسر بها الحديث، مع أنه بعيد.
والمعنى الثاني -القريب-: أن يقول قائل لآخر: بعني الناقة.
فيقول: لا؛ هذه عزيزة عندي.
طيب: بعني الذي في بطنها -نتاجها-، وبعض الناس يحرص على النوعية خاصة في الخيل، فيحجز الحمل الموجود في هذه الفرس، ويشتريه -تكون معروفة بأصالتها، فيحرص الناس على سلالتها، فيتسابقون في شراء نتاجها- وكذلك الإبل، ففي زمن عمر باع رجل ناقة بثمانين جملاً -أنا ما كنت أظن أن يصل السعر إلى هذا الحد- فالنوعية والسلالة تجعل الناس يرغبون في نتاجها، فصاحب هذه الناقة الأصيلة لن يبيعها، ولكن سيبيع نتاجها، فيأتي إنسان ويشتري حبلها، وهو لم يأت بعد، فنهي عن ذلك، لماذا؟ لا ندري هل ستأتي بناقة أو جمل؟ وهل ستأتي بكبيرة أو صغيرة؟ وكما يقولون: سمحة الخلقة أو لا! بيضاء أو حمراء! وهناك صفات يرغب فيها المشتري قد تختلف، وهل ستأتي بمولود حي، أو أنها تموت ولا تنتج؟! أما بيع حبل الحبلة: فالمراد أن تنتظر الحبلى حتى تضع، ثم ينتظر المولود حتى يكبر وينتج، ونتاجه هو المبيع، فالجهالة تكون في هذا أكثر وأكثر، فإذا منع في الحمل الموجود بالفعل؛ فيمنع في نتاجه فيما بعد من باب أولى، والسبب في ذلك وجود الغرر، وكل بيع فيه غرر في السلعة، أو في الثمن؛ فهو منهي عنه، فمثلاً: لو قال قائل: اشتريت منك الناقة بما في يدي! بما أحمل من النقد، بما في هذا الصندوق! بما في هذه الخرقة! ولا تعرف هل هو نحاس، أو ذهب، أو فضة، أو حصاة؟! ولا تعرف كم عدده، ولا مقداره، ولا وزنه! فهذا غرر.
إذاً: النهي عن بيع حبل الحبلة يحمل على أحد الأمرين: أن يجعل موعداً لسداد الديون، وهذا ضعيف، أو أن يقع البيع على نفس الحمل حينما يأتي، أو على نتاج الحمل بعد أن يوضع، وهذا فيه غرر كبير؛ ولهذا نهي عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث: (النهي عن بيع الولاء وهبته)
قال رحمه الله تعالى: [وعنه (أي: ابن عمر) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته) متفق عليه] .
تقدم لنا أن الولاء نعمة بموجب الحرية، أو وصف اعتباري يلحق المعتق، ويتبع المعتِق، وهي صلة بين المعتِق وعتيقه، صفة معنوية يربط المعتَق بمن أعتقه، ونبه فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ، ولحمة النسب لا تباع، ولا توهب، فهل تبيع أخاك أو تبيع ولدك؟ لا، النسب لا يباع، فكذلك الولاء حل محل النسب، فلا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، فكيف لا يورث، وصاحب الولاء قد مات، وترك ورثة؟! قالوا: نعم، لا ينتقل بالفرض، ولكن ينتقل بالعصبة، للأولى الذي يحل محل المعتِق، وأشرنا في قصة بريرة بأنه لو مات إنسان وله ولاء على عبد، وخلّف ورثة: ولد، وبنت، وزوجة، وأم، فالولاء خاص بالولد، وليس للبنت، ولا للزوجة، ولا للأم نصيب ميراث فيه؛ ولهذا لا يبيعه، ولا يهبه -أي: الولاء- إنما يبقى ارتباط وثيق بين المعتِق والمعتَق، والله تعالى أعلم.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [6]
حرمت الشريعة كل ما يدعو إلى العداوة والبغضاء، ومن ذلك بيع الغرر، وله صور كثيرة مثل: بيع الحصاة، وبيعتين في بيعة، وسلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن، وغير ذلك.


شرح حديث: (نهى عن بيع الحصاة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) رواه مسلم] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) .
الحصاة قطعة من الحجر معروفة عند الجميع، وهي: نوع متميز من الأحجام الحجرية الملساء، وكان يستعمل في العدد، وربما في عصر من العصور كان يستعمل نقداً، وكان بيع الحصاة في زمن الجاهلية أمراً جارياً، وعرفاً جارياً، ولكن كيف كانت الصورة؟ يقول بعضهم: -وهو أقرب للمعنى- هو: أن يأتي المشتري فيجد أمامه عدة سلع متنوعة، مختلفة الأجناس، والأنواع، فمثلاً: علبة كبريت، علبة حلاوة، خيط، مقص.
إلخ، أو ملابس: فنايل، سراويل، قمصان، غتر، وتكون مرصوصة بجوار بعضها، فيقول البائع للمشتري: خذ حصاة، وارم بها، فما وقعت عليه فهو لك بكذا، وهذه الصورة واضحة، وهي داخلة في عموم الغرر؛ لأن الغرر أن تغر الإنسان، ويدخل على أمر مجهول، لا يدري نتيجته، ولا يؤمن فيه الغبن، فهنا: على أي شيء ستقع الحصاة؟ فقد يكون المشتري صاحب حذق وخبرة في الرماية، فيحدد ما يريد، والبائع لا يدري على أي شيء ستقع الحصاة! فقد تقع على منديل يد يساوي ريالاً، وقد تقع على فنيلة تساوي عشرة ريال، وقد تقع على قميص يساوي ثلاثين ريالاً.
إذاً: الغرر من جانب البائع أكثر منه من جانب المشتري، وقد يكون المشتري شخصاً لا يحسن الرمي بالحصاة، فإذا كان كذلك فسيأخذ حصاة ويرمي، ولكنه لا يدري أين تقع؟! فإذا كانت الصفقة على خمسة ريالات، وسقطت الحصاة على ما يساوي ريالاً، كان في ذلك غرر على المشتري، وإذا كانت الصفقة بخمسة ريالات، وسقطت الحصاة على سلعة بعشرة، أو بعشرين ريال، كان الغبن على البائع.
إذاً: هذه الصورة من البيع نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيها من الغرر، وهي أحسن ما فُسر به بيع الحصاة.
وهناك من يقول: بيع الحصاة هو: أن تأخذ حصاة في يدك، أو يأخذها البائع، فتساوم -مثلاً- على قميص معين -معروف لك وله- بعشرة ريال، قال: طيب، أتركني أفكر، فمتى أسقطت الحصاة من يدي؛ مضى البيع، طيب، وإذا ما أسقطتها إلى متى ننتظر؟ هكذا يقول بعض شراح الحديث: إن بيع الحصاة هو: أن تربط انعقاد البيع على سقوط الحصاة، أو أن تربط عقد البيع على السلعة التي تقع عليها الحصاة، وفي خارج هذه البلاد يوجد هذا البيع بكثرة لاسيما في الأعياد والمناسبات، خاصة عند الشباب والأطفال، يؤتى بدائرة فيها سهم، وعلى حافة المقعد التي هي عليه، ترص السلع: علبة حلوى، منديل، علبة بسكوت، أشياء متعددة متجاورة، ولها سهم مثل عقارب الساعة، يدار بطريقة معينة، وحيث ما وقف السهم فالسلعة التي أمامه لمن أدار السهم، علماً بأنه لا أحد يدري على أي شيء سيقع السهم -لا اللاعب ولا صاحب اللعبة- وربما وقف على سلعة تساوي هللة، وربما وقف على سلعة تساوي ريالاً، وأنت وصاحب اللعبة، لا تدرون أين سيقع! فهو داخل في هذه العملية، وداخل في هذا النهي، لماذا؟ لأن فيه جهالة، وفيه غرراً، ومقامرة، فلا يجوز هذا اللعب، ولا يجوز هذا البيع، هذا ما يقال في بيع الحصاة.


بيع الغرر: صوره وحكمه
أما بيع الغرر، فتقدم التنبيه عليه في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، مثلاً تكون الناقة حاملاً، فيقول: أبيعك الذي في بطنها، هذا نوع.
أو تكون حاملاً، فيقول: أسلفني ألف ريال أسددك بعدما تنتج الناقة ما في بطنها، ويكبر هذا النتاج، وينتج، يعني: في البطن الثالث، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، سواء وقع البيع على الحمل الموجود، أو الذي سيوجد فيما بعد، أو جعل ذلك موعداً لسداد الديون المؤجلة؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يُدرى ما الذي في بطنها؟! أذكر هو أم أنثى؟! مكتمل أم خلوج؟ .
إلخ فكل ذلك مجهول، إذاً: هناك غرر.
وأشرنا بأن كل بيع فيه غرر مندرج تحت هذا الحديث، وجاء التصريح هنا بالنهي عن بيع الغرر: (وعن بيع الغرر) .
ومن أمثلة بيوع الغرر: أن تأتي إلى الدكان، فتجد فيه علباً مغلقة، سواء كانت للملابس الجاهزة، أو للأحذية، أو لأدوات منزلية، أو كذا، فتقول: ماذا في هذه العلبة؟ قال: فيها حذاء، طيب أريد أن أفك، قال: لا، لا تفك! هو على ما هو عليه! أنا اشتريته مقفولاً وأبيعه مقفولاً، طيب أريد أن أعرف اللون، والمقاس، قال: لا، فأنت ما تدري ماذا تجد، هل هو خاص بالرجال، أو بالنساء، أو هو كبير، أو صغير، نوع جيد، أو نوع رديء؟ فهذا غرر في المبيع، فلابد أن تفك، وأن تنظر، وأن تتأمل؛ فإن طاب لك أخذت، وإن لم يطب لك تركته في محله.
وكذلك ما يوجد في بعض الجهات، تأتي بنوع من اللباس، مطبق ومشبك بدبابيس، ومغلف في كيس من النيلون، أو نحوه، فإذا أردت أن تفك، يقول: لا تفك، إذا فكيته وطبقناه، وإذا أتى زبون آخر فلن يأخذه؛ لأنه مفكوك، لكن ما ندري فربما يكون فيه شق! أو عيب، فكيف نفعل؟ لكن يقولون: يغتفر في مثل هذا؛ لما علم من تكرار المبيعات في مثل هذه الصورة على السلامة.
فمثلاً: الفنايل تكون في كيس نايلون أو في بعض الأشياء، أو بعض المعلبات، وجرت العادة عند الناس أن تقرأ الرقم فيبين المقاس، ويبين نوعية القماش، فتأخذه على النعت الموجود فيه، وهنا: يصح البيع؛ لما عرف من نظائره السابقة، فإذا حدث وظهر فيه عيب -لم يتعود الناس أن يروه- فله حق رد المبيع بالعيب، أو يأخذ أرش العيب، فهذا العيب كم أنقصها من قيمتها؟ مثلاً: (2%) ، (5 %) فأنت بالخيار ترد وتأخذ القيمة، أو تسترجع من البائع أرش النقص (2%) أو (5 %) ، وهكذا كل ما فيه غرر.
ومن صور بيع الغرر: بيع ما لا تقدر على تسليمه، ويمثل الفقهاء لهذا: ببيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والفرس الشارد، وكل هذا من بيع الغرر، فإذا قال لك: أبيعك الطير (وهو في الهواء) ، طيب: ومن يحضر لي الطير؟! قال لك: أبيعك السمك في هذا الماء، طيب ومن يضمن لي السمك؟! ولكن: الفقهاء لهم مخارج، فإذا كان الطير في الهواء كما يفعل بعض الشباب الذي يضيع دراسته في هذا، هواية الحمام! حمام جلابي، حمام هزازي، حمام كذا.
إلخ، تعال انظر إليه في الجو، وهو يتقلب بحركات جميلة، يرغبه فيه، قال المشتري: طيب اشتريت، أعطني المبيع، قال البائع: لا، ليس الآن، لما يرجع في الليل، ويبيت فسأذهب وأمسكه.
أو قال: أبيعك هذا السمك، الذي في هذا الحوض، لكن الحوض كبير! مائة في مائة متر! من يعين ويحدده بالذات ويحضره، هذا سمك في ماء، طيب أنا أملكه، الحوض حقي وأنا مربيه، فإذا كان باستطاعته بآلة، أو بأخرى، أن يصطاد هذا السمك، الذي وقع عليه البيع، ولا يختلط بغيره، فهذا مقدور على تسليمه.
وكذلك الطير في الهواء إذا كان قادراً على تسليمه ويستمهل إلى مجيء الليل، والمبيت؛ فلا مانع، وتكون رؤيته في الهواء من باب رؤية حركاته التي يرغب فيها، وهو قادر على التسليم فيما بعد، فقالوا: مثل هذا لا بأس.
أما إذا جاءت يمامة، أو جاء طاووس، ووقع على الشجرة، فقال شخص: أبيعك هذا! -هو ليس عنده، وليس في بستانه- فيقال له: وإذا بعته فمن يسلمه؟! إذاً: هذا غرر؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
كذلك إذا كان لك عبد، فأبق عليك: هرب، فقال: أبيعك العبد الهارب، قلت: أين هو؟ قال البائع: والله ما أدري أين محله! لكن إذا علم مكانه، والمشتري يرى أنه قادر على الذهاب إليه، والقبض عليه، وأخذه، يقول الحنابلة يجوز هذا ما دام المشتري قادراً على أخذه، طيب، كان يظن القدرة فعجز، ماذا يفعل؟! يرجع على البائع! ولو اغتصب شخص سلعة: طيراً، عبداً.
إلخ، والمالك لا يستطيع أن يخلص السلعة من يد الغاصب، فلا يجوز له أن يبيعه؛ لأن المشتري يريد السلعة، والسلعة في يد غاصبها، والبائع لا يستطيع أن يخلصها منه، إلا إذا جاء إنسان وقال: أنا قادر على تخليص المغصوب من يد غاصبه، بعنيه، فقال البائع: والله ما دام أنك قادر، نعم أبيعك، وباعه على من يقدر على تخليصه من يد غاصبه، حينئذ يصح البيع، طيب، وإذا عجز المشتري عن تخليص السلعة من يد الغاصب! يذهب يشتكي، فإن استطاع بشكواه لولي الأمر الحصول على السلعة، فالبيع ماض على ما كان عليه، وإن عجز، وولي الأمر لم يستطع أن يلزمه بإحضاره؛ حينئذ يرجع المشتري على البائع، وكل ما أوجب، أو أدى إلى عدم القدرة على التسليم فهو غرر، فلا يجوز البيع.
من الدواهي الموجودة الآن، وأطبق عليه الجميع، واستحلوا بذلك الحرام، ما تجده في معارض السيارات التي سببت ملء السجون بالمدينين ببيع التقسيط، فيأتي عند البيع ويقول: (بعتك سكراً في ماء) ، (ملحاً في ماء) ، (كومة حديد) ، وهو يعلم بأن فيها بعض العيوب، ولكن يخفيها، ويأتي بتلك العبارات، والمشتري يقول: قبلت، قبلت، قبلت، ويظن أن هذه عبارات وهمية، لكن الحقيقة قد يكون فيها عيب؛ ولذا قال مالك: من باع على البراءة الأصلية لا يصح بيعه، لو قال: أبيعك على أنها بريئة من كل عيب، فإن كان يعلم فيها عيباً، وكتمه فهو آثم، فإن اطلع عليه المشتري، فله ردها عليه؛ لأنه دلس عليه وغره بكتمان العيب.
إذاً: هذه المبيعات يعلم أن فيها عيوباً ما، وأهل السيارات يعرفون العيوب الخفية والدقيقة: من تسرب الزيت.
إلخ، والمسكين الذي يشتري لا يعرف هذه الأشياء، وما يدري عنها، تقول له: اذهب وانظر، فيذهب إلى مهندس واحد، وقد يخفى عليه شيء، ويعلم أشياء، فكل من دس وأخفى عيباً، -وسواء كان يعلم وجوده أو لا يعلم- فتبين المشتري ذاك العيب، فإن له أن يرد السلعة؛ لأنه قد غره، وغشه، ودلس عليه، فالبيع باطل، وتحت هذا صور عديدة.
وكذلك قد يقع الغش والتدليس في أعمال المقاولات والبناء، فمثلاً: يتفق صاحب العمل مع أحد المقاولين على مواصفات معينة، ويحدد له النسب والمعايير المطلوب تنفيذها، والسير عليها، وهنا قد يستغل المقاول جهل صاحب العمل بكيفية تطبيق تلك المواصفات؛ فيغش ولا ينفذ المتفق عليه، ومن هنا قد يلجأ أرباب الأعمال إلى الاستعانة بمشرف فني يعرف أعمال البناء ليشرف على المقاول في تطبيق الاتفاقية، والمشكل إذا اتفق المشرف مع المقاول على صاحب العمل! فهذه مصيبة أخرى!


قاعدة عامة في المعاملات
هنا قاعدة أساسية وعامة تدخل في جميع المعاملات: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، وكذلك: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) ، وهكذا كل ما تقرأه عن أنواع الغرر يرجع إلى التحايل على أخذ أموال الناس وأكلها بالباطل، والتحايل على أخذ الزيادة في الثمن، ويغره، في وصف السلعة، أو بأي حالة من الحالات، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (من اشترى طعاماً ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي أبي هريرة - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله) رواه مسلم] .
هذه قضية مهمة لاسيما في حق التجار، وخاصة تجار (القطاعي) أو (التصريف) ؛ لأن التاجر على قسمين: تاجر جملة، وتاجر قطاعي (تجزئةً) .
فتاجر الجملة يأتي ويشتري كمية كبيرة، كما نشاهد في أيام جذاذ التمر، فيكيل عشرة قناطير! وعشرين قنطاراً! ويتركها في المستودعات عنده، فإذا قدر أنه اشترى مائة كيس، وكالها، وكل كيس فيه عشرون صاعاً، وعدها مائة كيس، فجاء إنسان يريد أن يشتري كيساً، فقال: أنا حينما اشتريتها كلتها، وفي كل كيس عشرون صاعاً، فاختر أي كيس منها، فهذا لا يجوز، فلابد أن نأتي بالصاع، ونكيل الكيس مرة أخرى، حتى قال بعض العلماء: لو كنت حاضراً في السوق، والتاجر اشترى صبرة قمح، أو تمر، وكالها الكيال وأنت موجود، كالها بين البائع والمشتري وأنت واقف، فكانت عشرين صاعاً، فوضعها في الكيس، وتركها على جنب، ثم جئت بنفسك، ووجدت الكيس بعينه، وأردت أن تشتريه على ما شاهدت من كيل سابق، فلا يجوز للبائع أن يبيعها عليك، حتى يعيد الكيل -من أجلك- مرة أخرى، فيجري فيها الصاع مرتين.
فإن قلت: لما نكيل الكيل الثانية تحصيل حاصل؛ لأني رأيته بنفسي كاله أمامي فلماذا؟ قيل: دفعاً للتهمة، ومنعاً للشك، وما يدرينا، فلعل الكيال حينما كال أمامك غلط في العدد، فربما أنقص صاعاً، أو زاد صاعاً، سهواً، فأنت أخذت الكيس على الكيل الأول، وذهبت إلى البيت، وقسمته بين عائلتيك، فإحدى العائلتين أخذت عشرة صيعان مستوفاة، والعائلة الأخرى صار لها تسعة صيعان، فالناقص هذا على من يكون؟! سترجع إلى من باعك، والبائع يقول: البائع أنا كلت أمامك، فتكون العهدة على الذي باعك، أو على المالك الأول؟ الذي باعك، لكن الذي باعك تم الكيل أمامه، فهل يستطيع أن يرجع على الأول، ويقول: أنت الذي أحضرت الكيال وأنت الذي كلت، وأنت الذي عديت؟ لا، سيقول البائع: بل أنت الذي أنقصت، أنت الذي أخذت! ثم يرجع المشتري الأول على المشتري الثاني! ويقول: يا عم! أنا أعطيتك كيساً فيه عشرون صاعاً، فذهبت به إلى البيت، ثم أنقصت صاعاً! وستقع المشاجرة، وسيقع النزاع، فحسماً للنزاع؛ كل يكيل لنفسه.
وهذا أيضاً قد يقع حالياً في بعض المؤسسات مع الموظفين، فحينما يصرفون الرواتب وتستلم من البنك، وهي معدودة بعد البنك، فيستلمها الموظف على عدّ البنك ولا يعدها، ثم يذهب إلى بيته ويوزعها فإذا هي ناقصة، فهل يستطيع أن يرجع بهذا النقص على الصراف، أو أمين الصندوق، ويقول: أنت أعطيتني مرتبي ناقصاً؟! ولذا توجد لوحة عند كل أمين صندوق، (لا تقبل النقود بعد الخروج من الغرفة) ؛ لأنه ممكن يسحب منها ويضعها في جيبه، ويرجع ويقول: هذه ناقصة، ولكن عدّها أمامه.
إذاً: هذه الأمور التي يحتمل فيها الخطأ، ويحتمل فيها الغلط والنسيان، ينبغي أن يعاد المكيال، ويعاد المعيار، والميزان، والعدد، لكل إنسان على حده، حتى نسلم من الاتهام، ومن الشك، فممن كان هذا النقص؟! لا ندري، إذاً: سيقع هناك النزاع، فمن اشترى طعاماً واكتاله، لا يجوز له أن يبيعه حتى يكيله مرة أخرى للمشتري، ولابد من أن يحوزه وينقله، ولا بد من إعادة الكيل، أو الوزن، أو العد، منعاً للغرر، وحسماً للنزاع.


شرح حديث: (النهي عن بيعتين في بيعة)
قال المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعه) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولـ أبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا) ] .
أقول: ما تعب طلبة العلم في صورة نهي كهذه الصورة، (نهى عن بيعتين في بيعة) ، (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) كثر ما قيل في هذه الصور، وقد اختلف العلماء في تحديد الصورة التي يتحقق بها المراد من هذين الحديثين، ولكن الشافعي رحمه الله فسر البيعتين في بيعة بتفسير سهل جداً، ومريح، ولو أخذ به الناس لاستراحوا، واستراح طلبة العلم من عناء التفكير والتعب، واستراح الناس في معاملاتهم.
ولكن يرد عليه ما يرد من حيث السند ومن حيث المعنى، فـ الشافعي رحمه الله يقول: هو أن تبيع السلعة بثمن مؤجل، أكثر من سعرها في الحاضر بسبب التأخير، مثل بيع التقسيط: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، فهذه بيعتان، يعني: عقدان في بيعة، أي: سلعة واحدة، مثل ما يوجد في بيع السيارات الآن -وهي التي أساءت إلى الناس- نقداً بعشرين ألفاً، ومؤجلاً: بخمسة وعشرين ألفاً.
فـ الشافعي فسرها بهذا، (بيعتين) أي: عقدين: عقد حال، وعقد مؤجل، في بيعة، وهي السيارة، وقال: فمن باع بيعتين في بيعة -كما تقدم- طبق عليه الحديث الآخر: (فله أوكسهما) يعني: أقلهما، (أو الربا) ، وهذا ينطبق تماماً على هذه الصورة، بعت السيارة بيعتين: بيعة بمائة، وبيعة بمائة وثلاثين، (فلك أوكسهما) يعني: أنقصهما، إذاً: نحسبها بمائة، وإن أصر على مائة وثلاثين، كانت الثلاثون ربا.
لكن العلماء يقولون -وجعلوا لها تخريجاً أيضاً-: هذا ينطبق عليه فعلاً إن انصرف الطرفان دون تحديد نوع المبيع، فلم يقل المشتري: اشتريت حالاً بمائة، ولم يقل البائع: بعت مؤجلاً بمائة وثلاثين، البائع قال: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، وقال المشتري: نعم، وأخذ السيارة (شغل ومشى) ، على أي السعرين تم البيع؟! لم يحدد! ويقولون: لم يتعين نوع العقد من العقدين، فالمشتري لم يحدد: قبلت بالنقد، أو قبلت بالنسيئة، والبائع كذلك، لم يحدد: باع بالنقد، أو باع بالتأجيل، وافترقا على ذلك، فهل يطالب البائع المشتري بالمائة؟ أم ينتظر حتى يأخذ المائة والثلاثين بعد سنة؟ ما عندنا تحديد، فقالوا: من هنا وقع الغرر؛ لأن البائع لا يدري ما الذي استقر له في ذمة المشتري، أهي المائة حالاً الآن أم هي المائة والثلاثون بعد سنة؟! ومالك يزيد في هذه الصورة شكلا ًآخر، ويقول: إن هذا العقد الذي لم يحدد فيه نوع الثمن، فيه ربا، كيف هذا؟! على تحقيق: (أوكسها أو الربا) يقول: لعل المشتري أرادها نقداً، وانصرف على أنها نقد، ثم بدا له أن يجعلها نسيئة، فيكون استقدم المائة نقداً بمائة وثلاثين بعد سنة، وهذا هو عين الربا، أو أن يكون البائع قد انصرف عن المشتري على أنها نسيئة بمائة وثلاثين، ثم جاء المشتري ودفع المائة، فيكون البائع قد باع بمائة وثلاثين، ثم وضع وتعجل، وقولهم: زد وتأجل، أو ضع وتعجل، هما صورتان للربا، فـ مالك يحقق معنى الربا في هذين العقدين، إذا لم يعينا أحد العقدين ويتفقا عليه.


صور أخرى للبيعتين في بيعة
وهناك صور أخرى للبيعتين في بيعة، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة (التكسي) على أن تبيعني هذه (الأنيسة) ، أو تبيعني هذه الحمالة (دينة) ، فهذا باع، وهذا باع، بيعتان في عقد واحد، على الشرط: أبيعك التكسي شرط أن تبيعني الدينة، يقولون: هذا أيضاً يصدق عليه أنه بيعتان في بيعة؛ لأنه بيع وشرط، وتوقفت صحة العقد الثاني على صحة العقد الأول، قالوا: هذا أيضاً داخل في معنى: بيعتين في بيعة.
لكن لا ينطبق عليها أوكسهما؛ لأن كل واحدة منهما إما بسعر الأخرى، وهذه في قيمة هذه، فتكون متساوية، وإما كل واحدة بثمن محدد، فهما عقدان متفاوتان، وليس هناك أوكس ولا أكثر؛ لأن كل سلعة لها سعرها.
وهناك من يقول: أسلم في قفيز من الحب، وبيع السلم هو أن تأخذ الثمن، ويكون المبيع في ذمتك، تقدمه للمشتري عند الأجل، كالذي يبيع خمسة أوسق من التمر، والناس ما زالوا يؤبرون، وهذا جائز، فيأخذ الثمن، وحينما يأتي وقت الجذاذ، عليه أن يقدم الخمسة الأوسق للمشتري، فلما جاء الأجل، وقال: أعطني الأوسق التي لي، والتي اشتريتها من قبل -أنت ما عندك- فيقول: أنا ما عندي، ولكن بعني تلك الأقفزة الخمسة التي لك عليّ بألف مؤجلة إلى شهرين، فالخمسة الأوسق وقع عليها بيعان: بيع في عقد السلم، وبيع عند الوفاء؛ لانعدامها عند الأجل، إذاً: أنت بعتها، ثم اشتريتها، بعتها وهي معدومة، واشتريتها حينما حل الأجل عليك لتدفعها، فهذا أيضاً من صور البيعتين في بيعة.
ولكن: إذا أردنا أن نطبق الحديثين فإن أقرب الصور في تطبيقها هو ما قاله الشافعي رحمه الله: أن تبيع السلعة بأكثر من ثمنها في يومها بزيادة مقابل التأجيل، الآن في السوق بمائة، تقول: بمائة وثلاثين بعد ستة أشهر، الثلاثون هذه مقابل ماذا؟ التأخير إلى ستة أشهر.
فينطبق عليها أوكسها، وهي المائة، وهو سعرها اليوم، (أو الربا) أي: في هذه الثلاثين الزائدة.
ولكننا نجد الشوكاني يرحمه الله بحث هذه المسألة, وقال: لقد كتبت رسالة في ذلك أسميتها: إرواء الغليل في زيادة الثمن من أجل التأجيل، ولكن لم نطلع عليها، ولم نجدها.
فكل صورة من تلك الصور الثلاث التي أوردناها وردت عليها اعتراضات، إلا الصورة التي ذكرها الشافعي، فلا يوردون عليها، إلا أن العمل جار عليها، وكون العمل جار على شيء، وهو يتعارض مع النص الصريح، لا يكون ذلك حجة مسقطة للنص، وقالوا: الحديث متكلم فيه، وإذا أردنا أن نأخذ كل كلام في كل حديث، ما يبقي لنا شيء، هذا الذي نستطيع أن نورده في هذه المسألة على كثرة ما قيل فيها، سواء كان في الموسوعات أو كان في المجاميع، أو كان عند الفقهاء، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث: (لا يحل سلف وبيع)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: (نهى عن بيع وشرط) ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو غريب] .
(لا يحل سلف وبيع) مثلاً: تقول: سلفني وأبيعك! بعني السيارة وسلفني ألف ريال، هذا الشرط هو: ارتباط السلف بالبيع، فحينما تأتي وتقول لصاحب السيارة: سلفني عشرة آلاف ريال، قال صاحب السيارة: عشرة آلاف كثير، ومتى تردها لي؟ قلت: بعد سنة، قال صاحب السيارة: أنا أريد أن أبيع وأشتري، وأريد أن أربح، قلت: طيب بعني هذه السيارة باثني عشر ألفاً، وحينما علمت أنه سيعطيك عشرة آلاف ديناً، أردت أن تنفعه، ويريد أن ينتفع منك بسبب هذا الدين، فباعك السيارة التي تساوي ثمانية آلاف باثني عشر، وهذه الأربعة زيادة لأجل ماذا؟ من أجل أنه سلفك، فأنت تحملت زيادة في سعر السيارة، ولم تماكس، بل قلت: مرحباً على العين الرأس، من أجل أن يمضي عقد السلفة، فيكون المبيع مع السلفة وسيلة للزيادة في سعر المبيع هروباً من أن تقول: سلفني عشرة وأعطيك بها اثنى عشر، فلو قلت: سلفني عشرة، وأعطيك بها اثنى عشر، فسيقول: هذا ربا، وهذا حرام، طيب، بعني هذه السيارة، كم تساوي؟ تساوي عشرة، سأشتريها منك باثني عشر، إذاً: أبيعك إياها باثنى عشر، فتقبل أنت باثنى عشر، مع أن قيمتها عشرة، فزدت ألفين، وهما اللذان كنا سنضعها مع السلف، وهربنا منها وقلنا: ربا! ربا! ثم أتينا ووضعناها في قيمة السيارة! وكذلك العكس، سلفني عشرة آلاف، وأبيعك سيارتي، قلت: هي تساوي عشرة، قال: والله أشتريها بثمانية، فأنت من أجل أن تمضي عقد السلف وتأخذ العشرة؛ تساهلت في ثمن السيارة بألفين، وأخذها بثمانية، فلأجل السلفة نزلت من قيمة السيارة، إذاً: المسألة رجعت إلى الربا مرة أخرى، فاجتماع البيع والسلف، سواء كان البيع من المسلِّف أو كان البيع من المتسلف، والمراعاة والتنازل في ثمن المبيع -باسم المبيع-؛ ليغطي مصلحة القرض.
إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع.
هذا الحديث جمع فيه الراوي من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم مسائل متعددة من مسائل البيع.
فالأولى منها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وتقدم الكلام على هذا النوع، وبيان العلة في النهي عن جمع البيع مع السلف، وأنه يدور حول مظنة الربا، سواء كان البيع من المسلف أو كان البيع من المتسلف.


الشرطان في بيع: صوره وحكمه
النوع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في البيع.
تمهيداً لهذه المسألة -كما يذكر الحنابلة- في الصورة: حمل الحطب وتكسيره، فمثلاً: اشتريت حطباً من حطاب، واشترطت عليه أن يحمله إلى بيتك، ثم اشترطت مع حمله أن يكسره إذا وصل، ونحن نقول في المقدمة: إذا اشتريت الحطب من الحطاب، وانتهيت بالثمن، ثم سألت الحطاب: أريد من يحمله لي إلى البيت، هذا الحامل الذي سيحمله لك، ماذا يسمى بالنسبة إليك، بائع أم أجير؟ أجير، فقال لك الحطاب: أنا أحمله إلى بيتك، كم تدفع؟ اتفقت معه على أجرة الحمل، وأوصل الحطب إلى البيت، وأعطيته أجرة حمله، فأنت عندما كنت في السوق كنت مشترياً، وهو بائع، وهو هنا أجير وأنت مستأجر، ثم قلت: أريد إنساناً يكسره لي، قال: أنا أكسره لك، كم تدفع؟ فاتفقت معه على تكسيره بأجرة جديدة، ودفعت له الأجرة وكسر الحطب، الآن حصل مع شخص واحد، في سلعة واحدة، ثلاثة عقود: عقد على البيع والشراء، وعقد على حملانه، وعقد على تكسيره، هل في هذا شيء ممنوع أم كله سليم؟ كله سليم، لو قدر أنه قال لك: أنا أحمله لك، وحمله في السيارة، ثم جاء ليشغل السيارة فما اشتغلت! قال: والله أنا عجزت، هل يستحق عليك شيء؟ ستأتي بحامل آخر ويحمله، إذاً: الحمل عقد مستقل بذاته، وليس مربوطاً بالبيع والشراء.
حمله ووصّله، ثم قال: أنا أكسر لك الحطب، أعطني الفأس، ذهبت وأتيت بالفأس، قال: هذه لا تصلح للتكسير، هذه تتعب، وما فيها فائدة، وفسخ عقد الإجارة على التكسير، فلا يتعلق فسخ عقد التكسير بعقد الحمل، فالحمل انتهى في طريقه، والبيع انتهى في طريقه، وإنما ارتبط الفسخ بالتكسير فقط! إذاً: لو جئنا وقلنا: يا صاحب الحطب! حطبك هذا بكم، وبشرط: أن تنقله إلى بيتي، وأن تكسره هناك، كم الثمن؟ قال: مائة، وهذا العقد على الحطب بمائة دخل فيه مقابل الحمل والتكسير، وليس الحمل والتكسير من أجلك.
إذاً: الحطاب سيحسب قيمة الحطب مثلاً: واحداً وثمانين، وعشرة للحمل، وتسعة للتكسير، هذا بحسابه هو، لكن في العقد المائة مجملة، فحينما يتم حمل الحطب، ووصله، وكسره يستحق المائة، وانتهى الأمر، لكن الفقه يقدر لما لم يقع لو وقع ماذا يكون، فمثلاً: اتفقت معه على كوم من الحطب بمائة، لكن بشرطين: الحمل، والتكسير، جاء عند الحمل، قال: أنا ملزوم بالشرط، فتركه في السيارة، فشغل السيارة فما اشتغلت، قال: إنا لله، يا عم! لست قادراً على توصيله، فعجز عن تنفيذ الحمل، أو جئنا عند التكسير، قال: لا والله، الخشب هذا يابس، وناشف وكذا، أنا لا أقدر على تكسيره؛ فهنا يحصل اختلال في الشرط، فقلت له: يا عم! والله أنا اشترطت عليك النقل فالحطب مع نقله بمائة، وأنت الآن عجزت عن نقله، فستطالبه بقيمة الحمل المشروط عليه؟ ستطالب بكم؟! غير معلوم.
إذاً: المبيع فيه قيمة الحمل غير معلومة.
ولو قدر أن السلعة غير الحطب، كأن تكون مأكولاً أو مشروباً أو كذا، ونقله، فنظرت في المبيع، فإذا هو معيب، والعيب هذا ينقص القيمة، وأصبح لك الخيار في أن ترد البيع وتأخذ الثمن، أو أن تمضي البيع وتسترد قيمة العيب، طيب، أمضينا البيع، قلت له: هات حق النقص الذي حدث بسبب العيب الذي ظهر في المبيع، قال: قدروه، وانظروا كم يستحق؟ فقلت: تعالوا يا جماعة! قدروا، نظرنا السلعة -ونحن تشارطنا وتبايعنا على مائة قيمة السلعة، وحملها- قالوا: والله المبيع هذا معيب بعيب يقدر له (10%) ، هنا (10 %) ستقدر من قيمة المبيع مع عزل تقدير أجرة الحمل، فإذا قدرنا الحمل عشرة، (10%) ، فسيكون نقص العيب في التسعين أم في المائة؟! وهل سيتفق معك على أن قيمة الحمل عشرة أم تختلف معه؟! إذاً: دخل عنصر الجهالة في الصفقة، ويقابله عنصر الجهالة في الثمن، إذاً: سيقع نزاع أم لا؟ فإذا كان هذا في شرط واحد، فكيف إذا كان في شرطين؟! اشترطت: حمل الحطب، وتكسيره، أو كما يقولون: خياطة الثوب وتفصيله، قلت: يا عم! سأشتري منك ثوباً من هذه الطاقة، بشرط: أن تفصله، وتخيطه، وآخذه جاهزاً، قال: طيب، قلت: بكم؟ قال: بمائة، أتاك بالثوب مفصلاً، مخيطاً، مكوياً جاهزاً، ففتحت الثوب، فإذا في جانب من الثوب عيب: شط، تمزق.
إلخ، عيب يقتضي أرشاً أو رداً، ماذا ستفعل في اشتراط التفصيل والخياطة؟ تخصم مقابل العيب من مجموع المائة أم مما يخص القماش فقط ولا يدخل في ذلك أجرة التفصيل، وأجرة الخياطة؟! ومن الذي سيحدد، ويرضي الطرفين على قيمة الخياطة والتفصيل؟! إذاً: يوجد عنصر يؤدي إلى الخلاف والنزاع لجهالة ما يقدر به العيب في المبيع الأساسي، أو في الصنعة، مثلاً: إذا كان التفصيل غير مناسب، من تحت الإبط ضيق، والكم واسع أكثر من اللزوم، ومن أسفل من ناحية مرتفع، وناحية مرتخي، والخيط غير سليم، ففي هذه الحالة وجد عيب في التفصيل، فكيف نسترد قيمة العيب في أحد الشرطين؟ نحن لم نقدر لها شيئاً عند العقد الأول، وكانت مجملة، إذاً: وجد عنصر الجهالة، وهو موجب للنزاع؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، أو بيع وشرطين.


اشتراط جابر في بيعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
تقدم في حديث جابر: أن جمله أعيى وكاد أن يسيبه، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده، فنشط ونهض وصار يسبق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أتبيعني جملك؟ قال جابر: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: بعنيه بكذا، قال جابر: ما في مانع، لكن نحن في وسط الطريق، فأشترط حملانه إلى المدينة، جابر اشترط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وقع شرط مع البيع أم لا؟ البيع صحيح أم لا؟ الشرط صحيح أم لا؟ نعم، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عملية أجراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أحد يسأل أصحيح أم باطل؟ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع، لكن كيف صح بيع وشرط، وهنا نهى عن بيع وشرط؟ يقولون في الجمع بين الصورتين: حملان البعير من مكان العقد إلى المدينة في عين السلعة، ليس على جابر، الاشتراط هنا في عين السلعة، أن يستبقي حمل البعير وركوبه إلى المدينة، ومثله: لو أردت أن تشتري بيتاً، فقال لك البائع: والله يا فلان! نحن في نصف السنة، وما عندي بيت ثاني أسكن فيه، وأحتاج أن أستأجر -والعادة في المدينة أن الاستئجار يكون من أول السنة- ولكن أبيعك البيت وأستثني وأشترط لنفسي سكنى البيت إلى نهاية السنة، فهنا وقع شرط وبيع، فهل صح البيع أم لم يصح؟ صح؛ لأن الشرط في عين المبيع، والشرط في عين المبيع، لا يلحقه ضرر ولا غرر.
لكن هنا الشرط ليس في السلعة ولكن على صاحبها، والأولى أن يكون بعقد آخر، لما قال: استثني حملانه إلى المدينة، هل فيه عقد استئجار؟ لا، وإنما يراعى فيه التسامح، فما دام أني سأعطيك لتركبه إياه إلى المدينة فخفض من السعر، ويكون هناك رضى، فإذا كان الشرط معلوماً، ولا يؤدي إلى نزاع فلا مانع.
أما إذا كان الشرط غير معلوم القيمة، وفي النهاية إذا أرادا أن يتفاصلا، أدى ذلك الشرط إلى نزاع بسبب الجهالة؛ فهذا ممنوع.


اختلاف الأفهام فيه توسعة على الأمة
لعلكم تذكرون قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، حينما قال عبد الوارث: والله لأنتهزها فرصة، ثلاثة علماء من قطر واحد، وسأل أبا حنيفة عن بيع وشرط، فقال: البيع والشرط فاسدان، ثم سأل ابن أبي ليلى قال: البيع صحيح والشرط صحيح، ثم سأل ابن شبرمة قال: البيع صحيح والشرط باطل، فتعجب! فرجع إلى أبي حنيفة، وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا، قال: ما عليَّ مما قالا لك، ولكن الشرط والبيع فاسدان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وحملها على عمومها، فذهب إلى ابن أبي ليلى فقال: ذكرت كذا، وذكر أبو حنيفة كذا، وابن شبرمة كذا، فقال: ما علي مما قالا لك، البيع صحيح والشرط باطل، وذكر له قضية بريرة؛ لأن أهلها اشترطوا عليها الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط، فذهب إلى ابن أبي ليلى وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا وكذا، قال: ما علي، العقد صحيح والشرط صحيح، وذكر حديث جابر، وهذا هو أدب العلماء، واحترام الرأي، وكل يستدل بما وصل إليه، ولم يأت أحد منهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- بشيء من عنده، ولكن تعددت النصوص، واختلفت الأفهام.
ويقول عمر بن عبد العزيز: والله ما أحب أن لي حمر النعم ولم يختلفوا؛ لأنهم لو كانوا كلهم على رأي واحد، لشق على الناس، ولكن رحمة من الله سبحانه، فإذا كان الخلاف له أصل، والرأي له دليل؛ فلا يحق لإنسان أن يعترض على ذلك، ولا أن يتناول صاحب الرأي بالكلام، ويجب أن نفرق بين القول والقائل، فإذا وجهنا نقداً أو اعتراضاً فإنما يكون للقول، لا للقائل، والقائل مصون في مكانه.
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ووجدناه يعقد بيعاً وشرطاً مع جابر، ووجدناه يعقد عقداً ويبطل شرطاً مع عائشة في بريرة.
وهكذا يجب ويتعين على طالب العلم أن يتأنى، ويتريث، في ما يصله عن سلف الأمة، ولا يحق له أن يتكلم في مسألة حتى يجمع أطرافها، ولا يحل له أن يفتي في بيع وشرط، حتى يلم بهذه الأحاديث كلها، وإذا وجد غيرها يضمها إليها؛ ليقف على مجموع الروايات، ومجموع الأحاديث، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: لا يحق للإنسان أن يتكلم في مسألة إلا إذا جمع نصوصها، وجمع أطرافها، وعلم العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والمتقدم من المتأخر، إذا علم ذلك كله في المسألة كان لفتواه ولقوله أصل.
وقد ذكرنا مراراً أن أحمد رحمه الله سئل: من حفظ ألف حديث له أن يفتي؟ قال: لا، فقيل: ألفين؟ قال: لا، فقيل: ثلاثة آلاف إلى خمسة؟ قال: لعله! نقول هذا لأنفسنا، ولبعض الإخوة الذين يبادرون في الفتوى، ولو سألت واحداً منهم: أن يذكر عشرة أحاديث بأسانيدها -أنا شخصياً لا أستطيع أن أذكرها بأسانيدها- لا يستطيع، أما المتن فلعله يعلق في الذهن، ولو قلنا: من يحفظ متن ألف حديث، أظن أنه رصيد كبير جداً، لكنه عند أحمد يُعد مفلساً، الذي يحفظ ألف حديث بالنسبة لميزانية أحمد في الأحاديث: يعتبر مفلساً، ونحن نعتبر من حفظ خمسمائة حديث الآن حافظاً كبيراً.
إذاً: هذا الموضوع يجدد لنا: النظر، والتأني، والتأمل، وحفظ كرامة سلف الأمة وأقوالها، والله تعالى أعلم.


ربح ما لم يضمن: صورته وحكمه
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ربح ما لم يضمن) .
نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، وهذه من أخطر قضايا الربا، وهي من أخطر المعاملات في الأسواق، وسيأتي عن جابر أو غيره توضيحها أكثر.
ربح ما لم تضمن، ما هو الذي لم تضمن، ملكك أم ملك جارك؟ ملك الجار، أما ملكك فإنك تضمنه، يعني: إن خسر سيخسر إليك، وإن ربح سيربح لك، أما بضاعة جارك فإن خسرت فهل تضمن منها شيئاً؟! الأجنبي لو خسر في سلعته، فهل تضمن -أنت- منها شيئاً؟! فإذا كنت لا تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها! مثلاً: هناك تاجران متجاوران، فجاء رجل إلى أحد التاجرين يريد أن يشتري منه سلعة، ولتكن -على سبيل المثال- الشاي الأخضر، فقال التاجر، معذرة، نفدت البضاعة من عندي، ولكن سأحضرها لك بعد قليل، فاتفقا على السعر، ثم اتصل التاجر بجاره وطلب منه البضاعة المطلوبة، وكان قد تعاقد التاجر الأول مع المشتري على أن سعر البضاعة ثلاثمائة، ولما ذهب لإحضارها، اشتراها من جاره بمائتين وثمانين، فيكون قد ربح عشرين، ولكن هذا الربح من أين جاء؟ جاء هذا الربح عن طريق بيع سلعة ليست في ملكه، وليست في ضمانه، فإذا كنت لم تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها؟! دعها لصاحبها يربح منها، كما تركتها له يتحمل خسارتها، وهذا هو حق الأسواق، فلا تبع ما لم تضمن، لماذا؟ لأن الضمان بالخراج، أو الخراج بالضمان، الربح مقابل تحمل الخسارة، الغرم بالغنم، أو الغنم بالغرم، السلعة التي تريد أن تأخذ غنيمتها وهو ربحها هي التي أنت تتحمل ضمانها.
ويوجد هنا ما يسمى بالمخاطرة، فصاحب السلعة الموجودة عنده مخاطر بها؛ لأنها معرضة للتلف، ومعرضة لانخفاض السوق فجأة، فهو دائر بين: الربح، والمساواة، والخسارة، وأنت بعيد! فكيف يصح لك أن تقطع عليه رزقه، وتكسب ما لم تضمنه؟ إذاً: فإنما الكسب لصاحب الضمان.


بيع ما لم تملك: صورته وحكمه
قوله صلى الله عليه وسلم: ولا بيع ما ليس عندك، بيع ما ليس عندك أعم، سواء كان فيه ربح، أو فيه خسارة، فالشيء الذي ليس عندك، لا تبيعه، وكما تقدم في مثال الشاي، جاء الزبون وطلب منك الشاي، وأنت ما عندك، فتبايعت معه، بناء على أن جارك عنده شاي، فاتفقت مع الزبون على السعر والكمية، وتم العقد، فقلت: هات ستمائة ريال -وهي قيمة الشاي- فذهبت إلى جارك، وأعطيته خمسمائة وستين، وقلت له: خذ يا عم! أعطني الشاي، قال: ما عندي، معذرة، فقبل أن تأتي بخمس دقائق أخذها الزبون، فأنت ارتبطت بشخص في عقد في سلعة ليست عندك، بناء على أنها عند الجار، فذهبت إلى الجار فلم تجدها عنده، ماذا ستفعل مع الذي أخذت فلوسه ووضعتها في جيبك؟! قلت له: يا عم! والله أنا آسف! ما عندي! قال لك: كيف ما عندك، وأنت بعت وأخذت الفلوس؟! أريد منك السلعة، العقد في البيع عقد ملزم، وأنا لا أقيلك من البيع، لابد أن تعطيني الشاي! ماذا تفعل؟! ستسافر لإحضارها؟! ولو جئت إلى القضاء فأنت ملزم بتسلم السلعة.
ولهذا الإحراج منع صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يبيع ما ليس عنده؛ لكون الغرر فيه: ربح ما لم تضمن؛ لأنه ليس في ملكك، والتغرير بالمشتري وبنفسك، على مظنة أنها عند الجار.
إذاً: أوقعت نفسك في حرج، وأُحرجت مع المشتري، وأُحرجت أيضاً مع جارك، ومع نفسك، ومن هنا: نهى صلى الله عليه وسلم أن تبيع ما ليس عندك، بصرف النظر عن الربح؛ لأن الربح تابع للبيع.
ويذكر أن جابراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! الرجل يأتيني يريد السلعة، وليست عندي، فأذهب فأشتريها، ثم أبيعها عليه) ، وهذه الصورة موجودة الآن بالفعل، قال: (لا تبع ما ليس عندك) .
ومثال ذلك -كما تقدم- أن يأتي الزبون فيقول: أريد شاي، وليس عند التاجر شاي، فيقول: انتظر، فيذهب ويشتري البضاعة، فيضمن وجودها، ويشتريها على حسابه، وبعد أن امتلكها ووضعها في دكانه تبايع مع المشتري، لكن لماذا اشتراها من جاره؟ وما هو الدافع لذلك؟ أهي الرغبة في السلعة أم استجابة للطالب؟! استجابة للطالب؛ لأنه قال للزبون: انتظر ثم ذهب واشتراها، وكان يظن أنها بثلاثمائة، فوجدها بثلاثمائة وخمسين، فأخذها إلى دكانه، وقال للمشتري: والله! يا عم السعر ارتفع، وهي عليَّ بثلاثمائة وخمسين، فقال الزبون: هذا سعر مرتفع ولن اشتريها بهذا السعر، فهل المشتري ملزم بأن يأخذها بما اشتريت أنت؟! ليست بملزم، وهل تستطيع أن تقول له: أنا اشتريتها من أجلك! فما دمت لا تملكها فلماذا تبيعها؟! وكما أشرت: إن بعض الأشخاص، أو بعض الجهات، أو بعض المؤسسات، يفعل ذلك، يأتيهم الشخص يريد السلعة، وليست عندهم، فيذهبون إلى جهات تمتلك السلعة، ثم يحول الزبون عليها ليستلمها من هناك، وتكون المعاملة مع المؤسسة في استلام القيمة، وهي قد اتفقت مع المشتري على ما يرضيها.
إذاً: (لا تبع ما ليس عندك) ، صورتها: أن يأتي زبون يريد السلعة، فتذهب وتشتريها، حتى ولو اشتريتها على حسابك من أجل أن توفرها لتبيعها على الزبون، لا تفعل ذلك؛ لأنه ما دفعك لشرائها إلا طلب هذا الزبون.
إذاً: دخل فيها شيء، ولو تركها ولم يأخذها منك لوقع بينكما ما لا تحمد عقباه، ولو في النفوس.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [7]
هناك بيوع محرمة نهى عنها الشارع الحكيم؛ لما فيها من ضرر وغرر، ومن تلك البيوع التي نهى عنها الشارع: بيع العربون، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، ونهى الشارع أيضاً عن بيع السلعة قبل حيازتها ونقلها إلى الملك؛ وذلك لأن السلعة قبل حيازتها لم تمتلك ملكاً كاملاً.
ويجوز بيع السلعة بنقد ثم استيفاء الثمن بنقد آخر، ولكن بشرط: أن يكون الثمن الآخر بسعر يومه، وأن يدفع كاملاً، فينصرف البائع والشاري دون أن يبقى بينهما شيء.
ونهى الشارع عن النجش بجميع صوره؛ لما في ذلك من التحايل على أموال الناس وأخذها بغير حق؛ ولما فيه من إفساد للناس وللأسواق.


شرح حديث: (نهى عن بيع العُربان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان) رواه مالك، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به] .


بيع العربون: صورته وحكمه
يقال: بيع العُربان أو بيع العربون، والعربون عند الناس في العرف: أن تأتي إلى صاحب سلعة، وتريد السلعة، وليس عندك من المال ما يكفي لشرائها، فتقول لصاحب السلعة: ليس عندي الثمن كاملاً، ولكن أمهلني إلى الغد -مثلاً- حتى آتيك بالثمن كاملاً، فالبائع يقول: أنا أخشى أن تذهب ولا ترجع، وربما يأتي زبون يريد السلعة ولا أستطيع أن أبيعها؛ لأني ارتبطت معك، ولكن أعطني عربوناً أضمن به رجوعك، فيقول: هذا العربون، السلعة بمائة، وهذه عشرة، فإن جئتك بكامل الثمن أخذت السلعة ودفعت لك الباقي، والباقي هو تسعون؛ لأننا احتسبنا العربون من الثمن، وإن لم تتحصل القيمة عند المشتري، وجاء إلى صاحب الدكان، أو صاحب السلعة، وقال: إن الثمن لم يتحصل عندي، فسامحني، وأعطني العشرة، فيقول: لا، أنت دفعت العشرة على أنها ربط للبيع، وتعويض لي عن تفويت فرص بيع السلعة في مدة انتظارك، فقد جاءني عدة زبائن يريدون شراءها، فبحجزك للسلعة فوَّت عليّ بيعها، فالعربون غير مرجوع.
هذا هو بيع العربون الذي كانوا يتبايعون به، يشتري السلعة، ويدفع جزءاً من الثمن، عربوناً على توثيق البيع، على شرط: إن جاء بالثمن أخذ السلعة، ومضى العقد، وإن لم يأت بالثمن فيكون العربون ملكاً لصاحب السلعة، تعويضاً له على ما فوت عليه من عقود مع أشخاص آخرين.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع؛ لأنه إذا تعاقد معه ودفع العربون توثيقاً للبيع، ولم يحصل البيع، فبماذا يستحل هذا العربون من مال أخيه والسلعة عنده؟! قد يقول: إنه فوت عليّ الزبائن، فيقال: الزبائن موجودون، والسوق مفتوح، فإن ذهب هذا يأتي ذاك، وأين الإرفاق بالناس؟ وأين الوفاء بالوعود؟! إذاً: هذا البيع حرام إن كان الشرط فيه امتلاك العربون إذا لم تتم الصفقة، أما إذا كان سيرد له العربون، فأكثر العلماء على النهي عن هذه الصورة، كما ذكرها مالك رحمه الله تعالى.
ونحن نقول -من باب الإنسانية، ومن باب الإرفاق، ومن باب التورع-: ليس هناك موجب لأخذك من مال أخيك شيئاً بدون مقابل، وكونك تزعم بأنه فوت عليك فرص البيع، وإذا ما جاءك زبون! ولا سأل عنها أحد! فالأصل أنه ما فات عليك شيء، فلماذا تأخذ العربون؟ إذاً: الغرر موجود، وأكل أموال الناس بالباطل موجود، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبعض المتأخرين يقول: إنه جائز؛ لأنه دفعه عن رضا، خاصة إذا قال: إذا ما أحضرت لك الثمن فهو لك، فكأنه متبرع به سبحان الله! هل جاء وقال: السلام عليكم، أنا والله عندي عشرة زائدة خذها لك، أم أنه دفعها مضطراً حتى تبقى السلعة؟! إنما دفعها لحاجة، فكيف نقدر بأنه متبرع؟ هذا بعيد، ولماذا لم يتبرع صاحب السلعة ويرد العشرة؟! فالواقع أن هذا النوع من المعاملات فيه تعريض لأكل الأموال بالباطل.


شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ابتعت زيتاً في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم] .


بيع السلعة قبل حيازتها: صورته وحكمه
هذه صورة من صور البيع المنهي عنها أيضاً؛ لتوثيق البيع، وفض النزاع، وهي مبنية على قاعدة، يقول ابن عمر: اشتريت زيتاً، وبينما أنا أمشي في الطريق -الزيت عند البائع، وهو قد دفع الثمن- علم شخص بما اشتريت، فأعطاني ربحاً حسناً، ولكن الزيت انتقل من عند التاجر إلى الطريق فقط، (فأردت أن أضرب بيدي على يده) وضرب اليد على اليد في البيع يسمى الصفقة، والتصفيق: هو الصوت الناتج عن التقاء الكفين، وسمي به عقد البيع، وهو إما صفقة رابحة، أو صفقة خاسرة.
قال: فأردت أن أعقد البيع، فإذا برجل من روائي يمسك يدي التي أردت أن أصفق بها على يده، وقال: لا تبعه حتى تنقله من محل البائع، وتحوزه إلى محلك، لماذا يا زيد؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع) يعني: في مكانها الذي بيعت فيه: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) أي: محلاتهم.
حتى ولو كان بين السوق وبين محلك شارع واحد، واشتريتها وتركتها عند تاجر الجملة، ورجعت إلى دكانك، وستنقلها غداً، فجاءك إنسان، وطلب سلعة مثل التي اشتريتها، وتركتها عند التاجر، فلا تبعه من تلك السلعة التي عند التاجر حتى تحوزها إلى محلك، ثم بعها من محلك.
يقولون: هذا في المنقول مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، أما الأمور الثابتة، كما لو اشتريت بيتاً، وتريد بيعه، فهل تحوزه وتنقله؟! البيت ليس منقولاً، فيقولون: إن المبيع المنقول لا تتم الصفقة فيه إلا بالاستلام، فحتى تستلمها وتستوفيها، وما دامت عند البائع فهي على ضمانه، فلو تلفت عنده فهو ضامن.
إذاً: لا تتم الصفقة في المنقولات حتى تستوفى، إذاً: ملكك لها غير تام، والملك غير التام لا تستطيع أن تبيعه، فالمرأة إذا كان صداقها ألفاً، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فلها من الألف خمسمائة، مع أنها كانت تملك ألفاً، لكنها لم تملك الألف ملكاً كاملاً، وإنما كان الملك ناقصاً؛ لأنه متوقف على الدخول، فكذلك هنا: الملك ناقص؛ لأنه متوقف على الحيازة، وذلك في كل مكيل، أو موزون، أو معدود يمكن زحزحته، وقد كنا نشاهد هذا في سوق الحراج، فمثلاً: كوم الحبحب، فإذا اشتراه وزحزحه بيده عن مكان البيع، وبعضهم يأتي بغطاء ويضعه على الحبحب، وبعضهم يأتي بشيء من البرسيم ويضعه على العنب، إشارة إلى أنه قد حازه، ووضع يده عليه؛ لأن السوق للجميع، وقد يشتري بالجملة، فإذا اشترى عشرة صناديق، فعليه أن ينقلها من مكان صناديق التاجر ولو لمسافة متر، فتصبح في حيازته وملكه؛ لأن أرض السوق ملك للجميع.
فلا يبيع الإنسان السلعة إذا اشتراها إلا بعد أن يحوزها؛ لأنه بحيازتها تم الملك، وانقطعت علاقتها بالبائع، أما الأعيان التي لا تحاز ولا تنقل، فتكون حيازتها بالتخلية، فمثلاً: اشتريت بيتاً، وفيه أغراض للبائع، فعليه أن يأخذها، ويخلي لك البيت، فإن أخلى البيت وسلم لك المفتاح، فقد حزت البيت، وامتلكته ملكاً تاماً، وكذلك البساتين، يخليها من حاجاته، ويرفع يده عنها، فتكون في حيازتك.
فإذاً: رفع يده، ووضعت أنت يدك؛ فقد صارت حيازة، وكذلك السيارة، حتى تحوزها وتنقلها، وتأخذ مفاتيحها، وحينئذ يحق لك أن تبيعها، أما أن تشتريها من المعرض، وتبيعها في المعرض، وفي محلها، فهذا لا يجوز، ويقع في مثل هذا كثير من الناس، والله تعالى أعلم.


أهمية فقه المعاملات
وبالمناسبة: أوصيكم بالعناية بالفقه، والعناية بالمعاملات؛ لأن مدار الإسلام عليها، فأنت تصلي، وتلبس الثياب، وتأكل الطعام، وتصوم، وتفطر، وتسكن في ملك، أو في أجرة، وتسافر إلى الحج، وكل ذلك من الربح، سواء كان من نتاج عندك، أو من بيع وشراء، فإذا كان البيع والشراء سليماً، فكل أعمالك ستكون سليمة، وإذا كان فيه خلل عياذاً بالله، فكل أعمالك فيها خلل؛ لأننا سمعنا سعداً رضي الله تعالى عنه يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال (أطب مطعمك تجب دعوتك) ، وعمر يمر بالأسواق، ويسأل الباعة، ويختبرهم في أحكام الربا، والبيع، والكيل، والوزن، فإذا وجد جاهلاً أقامه، وقال: قم، لا تفسد علينا أسواقنا، قم، لا تمنع المطر عنا؛ لأنه إذا وجد الغش والتدليس والربا منع القطر، والعياذ بالله.
فنصيحتي لكل المسلمين أن يعنوا بالفقه؛ لأننا وجدنا دراسة الفقه قليلة، ونجد التركيز والاهتمام والعناية بالحديث دون الفقه، والحديث هو الأصل، ولكن كما يقولون: له نقاد وصيارفه، يحسنون تصريفه واستنتاجه، وهم الفقهاء، فنأخذ ما صنعوا، ونمشي معهم أيضاً في الحديث، ونتبع كل قاعدة بأدلتها، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأُعطي هذه من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) رواه الخمسة وصححه الحاكم] .
يذكر لنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما صورة مبيع واستيفاء الثمن مقاصة، فيقول: إني أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، والدنانير عملة ذهبية، وهو في العدد يسمى ديناراً، وفي الوزن يسمى مثقالاً، والدراهم عملة فضية، وهو في العدد وفي الوزن سواء، إلا أن الفقهاء ربما فرقوا وقالوا: وعشرة دراهم وزناً، عشرة دراهم عداً، وهذا حينما يختلف الضرب، وتحصل هناك زيادة ونقص.
وأصل الدنانير: عملة رومية، أو فارسية، وقد تعامل بها العرب على ما هي عليه، ولم يتغير وزن المثقال، لا في جاهلية ولا في إسلام، أما الدارهم فقد تغيرت، فكان هناك الدرهم الكبير، والدرهم الصغير، وفي زمن بني أمية جُمع الدرهم الكبير والدرهم الصغير وسبكا معاً فصارا درهمين، واتحدت الدراهم، وهذا من واجب ولي الأمر، فعليه أن يوحد العملة التي يتعامل بها الناس، حتى لا يقع خطأ أو غرر في المسمى.
وموضوعنا الآن في كونه يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير، والعكس.
ومنطوق الحديث يبين أن عبد الله بن عمر كان يتعاطى البيع والشراء، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تاجر ومزارع، وهذه كما يقولون: وسائل الإنتاج والكسب، فالزراعة فيها كل البركة، وكان أكثر عمل الأنصار الزراعة، والتجارة كذلك، وهي تسع وتسعون بركة، والتاجر الصدوق مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة.
ولا بأس أن الرجل الصالح، أو العالم، أو غيره يعمل في التجارة، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتاجر في البز، أي: القماش، فقد كانوا يتكسبون لأنفسهم، وهذا نبي الله داود كان يصنع بيده الدروع، ويأكل من كسب يده، فـ ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعمل، ويكتسب، ولا مانع من أن يشتغل طالب العلم بذلك، وحبذا طالب العلم التاجر؛ لأنه يستغني بذلك عن أن يتطلع إلى الناس، أو ينظر الناس إليه بعين الرحمة لفقره، ولأن تستغني عن الناس تكن أميراً في نفسك.


بيع السلعة بثمن واستيفاؤه بثمن آخر: صورته وحكمه
فيقول: كنت أبيع الإبل، يقولون: إن سوق الإبل كان عند بقيع الغرقد، والبقيع الآن معروف مكانه، وفي أي موضع من مواضع البقيع؟! لا يهمنا هذا، فكان يتاجر، ويبيع ويشتري في الإبل، إذاً: هناك من يتاجر في الإبل، وهناك من يتاجر في الغنم، وهناك من يتاجر في الأطعمة، وفي الألبسة، وكل على حسب اتجاهه ومعرفته، وسؤاله رضي الله تعالى عنه: إني أبيع هذا البعير بألف درهم، ويقول في بعض الروايات: (فأذهب مع المشتري لينقدني الثمن، فلم يجد دراهم، ويجد دنانير، فآخذ الدنانير عوضاً عن الدراهم) إذاً: أنا بعت بشيء، وقبضت شيئاً آخر، فهل يجوز هذا؟ فأفتاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، فإذا بعت البعير بألف درهم، والمشتري يريد أن يقدم لك دنانير، فكم سعر الدينار بالدرهم؟ الدينار أخذ أسعاراً متفاوته، أقل ما وصل إليه في الصرف ثمانية دراهم، وأعلى ما وصل إليه في الصرف اثنا عشر درهماً، واستقر الأمر بعد ذلك في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على عشرة دراهم، ونحن نجد المقارنة في باب الزكاة، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وقد قلنا: المثقال والدينار شيء واحد، ونصاب الفضة مائتان درهم، إذاً: الدينار عادل عشرة دراهم، إذاً: صرف الدينار يساوي عشرة دراهم.
فإذا بعت البعير بألف درهم، وجئت معه إلى البيت ليعطيك دنانير بدل الدراهم، فهل تأخذها بسعر يومها، أم بسعر أمس، أم بسعر جديد غير موجود الآن وإنما هو متوقع فيما بعد؟ خذها بسعر يومها؛ لأنك تصارف الدراهم إلى دنانير، والصرف يجب أن يكون بسعر يومه.
قال: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، فإذا بعته بألف، والألف الدرهم إذا قسمناها على عشرة -والعشرة الدراهم تساوي ديناراً واحداً- فإن فيها مائة دينار، فقال: أنا عندي تسعة وتسعون ديناراً، وسيبقى لك دينار واحد إلى الغد إن شاء الله، أو إلى بعد ساعة، فإن هذا لا يجوز، ولكن يجب أن تأخذها كاملة، سواء كنت ستأخذ الدنانير عن الدراهم، أو تأخذ الدراهم عن الدنانير، فمثلاً: بعته بعشرة دنانير وجئت إلى البيت، وقال: ما عندي دنانير، عندي دراهم، فليس هناك مانع، ولكن بسعر يومها، الدينار بعشرة دراهم، وهذه عشرة في عشرة يساوي مائة، فإن أعطاه إياها كاملة فبها ونعمت، أما أن يعطيه الدراهم ناقصة، ولو بدرهم واحد، فهذا ممنوع؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض والتسليم في مجلس العقد، ولا يجوز فيه التأجيل؛ لأن أصل الصرف بيع، وإن غلب عليه اسم الصرف، فأنت تبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ولكن غلب عليه اسم الصرف لأن تعامل الصراف إنما يكون بالعملة، ولكثرة تحريكه لها يكون لها صريف، أي: صوت -كأنه دعاية وإعلان- فلما غلبت هذه الحركة سمي صرفاً؛ لصريف الدراهم في حركة الصراف، فإذا أعطيته ديناراً ليصرفه لك دراهم، والدينار بعشرة، وقال لك: خذ هذه التسعة، وبعد ساعة ارجع وأعطيك العاشر، فلا يجوز ذلك؛ لأنه قد يتغير السعر، وهذا خاص بالذهب والفضة وجميع أنواع العملة، وأما بقية السلع فلا تدخل في هذا، فلو اشترى طعاماً أو نحوه، ودفع جزءاً من المال وبقي على جزء إلى أجل، فلا بأس في هذا.
ومعلوم موضوع البورصة، فتجد الشخص يعلم عن ارتفاع العملة وعن نزولها في الدقيقة، وبعض الأشخاص تراه جالساً على التلفون مع البنك، كم سعر الآنصة اليوم، الآن بكذا، فيقول: لي احجز بكذا، بع لي، وهو عمل فيه مقامرة، وربا، ولا يجوز؛ لأنه بيع وشراء بدون استلام وبدون قبض، فهو بيع في الهواء، وهذا هو عمل البورصات وبهذه الطريقة فهو ربا محض.
فهنا: إذا تصارفتما، أو تبادلتما، وأخذت الدراهم بدلاً عن الدنانير، والدنانير بدلاً عن الدراهم، فجائز بشرطين: الأول: أن تكون بسعر يومها.
الثاني: أن لا يبقى لك عنده شيء.
إذاً: هذا هو شرط الصرف، وهو خاص بالربويات، والذي يمهمنا في الثمن، فلو أنه استبدل نقداً بنقد، فيشترط أن يكون بسعر يومه، وأن يكون التقابض حالاً، والله تعالى أعلم.


شرح حديث النهي عن النجش
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجْش) متفق عليه] .


النجش: صوره وحكمه
النجْش أو النَجَش صورته الاصطلاحية: أن يزيد الإنسان في السلعة دون رغبة في شرائها.
وبعض الناس يعمل هذا فضولاً منه، وبعض الناس يعملها قصداً؛ إما يؤجَّر على ذلك، وإما كيداً في أحد المتبايعين، وصورتها تكون دائماً في بيع المزاد، أو المزايدة، فحينما يعرض الدَّلال السلعة، أو يعرضها صاحبها، فيقول: هذه السيارة بعشرة آلاف، فيأتي واحد ويقول: بعشرة وخمسمائة، فيأتي آخر ويقول: بإحدى عشر، وهي تساوي عشرين، لكنهم فتحوا باب المزاد بعشرة، فيتزايدون فيها، فيأتي إنسان لا ناقة له فيها ولا جمل، ودخّل نفسه مع الناس، واعتبر نفسه تاجراً من التجار، وراغباً من الراغبين، فحينما قيل: هذه بعشرة، قال هو: عشرة ونصف، وآخر قال: إحدى عشر، وقال ثالث: إحدى عشر ونصف، ثم قال هو: باثني عشر، وهكذا، وضع رأسه ضمن رءوسهم، وأخذ يزايد، فهذا الشخص الذي يزيد في السلعة دون رغبة فيها يُعدَّ ناجشاً.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن ذلك، والعلة في ذلك: أنه الراغب الحقيقي يزيد بمقدار رغبته وتقديره للسلعة، أما الناجش فإنه سيزيد من غير تقدير، ثم سيسحب نفسه ويذهب، فليس متحملاً مسئولية الزيادة، ولكن ماذا يفعل إن وقف السعر عليه؟ سيضطر إلى التراجع، فترجع السلعة للذي قبله، فإذا كان الناجش قد أوصلها إلى عشرين، والذي قبله أوقفها على تسعة عشر، فسترجع للذي قبله بالتسعة عشر، وتسقط زيادة الناجش الأخيرة، وفي هذا العمل مضرة، وإفساد للسوق، فإن كان فضولياً فهذا تعدٍ، وإذا كان غير فضولي، ولكنه بقصد، فإما أن يكون القصد هذا من قبل نفسه، وإما أن يكون بدافع من البائع، وبعض البائعين قد يتفق مع بعض الأشخاص ليزيدوا في السعر، فيفتح باب الزيادة بعشرة، فيأتي هذا العميل المساعد فيقول: بإحدى عشر، والراغب في الشراء يظن أن هذا صادق، وأنها تساوي إحدى عشر، فيزيد خمسمائة من أجل أن يأخذها، والعميل يقول: إحدى عشر وخمسمائة، وكل واحد ينجش ويزيد، والراغب في السلعة يزيد حقيقة، ويكون قد لبس عليه بسبب زيادة العميل، وتزيد السلعة عن قيمتها الحقيقة بسبب الناجش، وما مصلحة الناجش في هذا؟ خدمة صاحب السلعة والزيادة في سعرها، فلو لم يدخل العميل ليناجش، ويزيد في السعر؛ لما نفقت السلعة، ولما ارتفع سعرها أكثر مما تستحقه.
إذاً: فالناجش غاش، ومدلس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن فيه تعاوناً على الإثم والعدوان، والواجب على المسلم أن يساعد على البر والتقوى، لا أن يساعد على الإثم والعدوان.
وهنا شيء آخر، وهو: إذا غرر بالمشتري، وزيد عليه في السعر بسبب المناجشة التي تواطأ عليها البائع والمناجش، فإن ثبت ذلك فالمشتري بالخيار، فإن شاء أمضى البيع برغبته، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.
إذاً: النجش عيب، ويعطي المشتري الحق في فسخ العقد؛ لأنه تدليس وغش، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مضت السلعة فيكون البائع قد أكل من مال أخيه المسلم بالباطل، فليتق الله أصحاب الأسواق.
وهنا صورة أخرى، وهي عكس الصورة السابقة، وكما يقول ابن تيمية في كتاب الحسبة: يجب على طالب العلم أن يعرف أوضاع الأسواق، حتى يستطيع أن يحكم على أعمال الناس.
فمثلاً: يأتي إنسان بسيارة ويريد بيعها، فيأتي شخص يريد شراءها، فيجد أشخاصاً آخرين يريدون شراءها أيضاً، فيتواطئون جميعاً على ألا يزيدوا في السعر، أو ألا يدخلوا في المزايدة حتى يقف السعر عند حد فيه بخس للسلعة، على أن يتشاركوا فيما بخسوا به صاحب السلعة، فهؤلاء تواطئوا على بخس السلعة، ثم أكلوا فارق البخس فيما بينهم، وهذا حرام، وإنما أكلوا سحتاً.
وهناك صورة أخرى: أن يأتي شخص إلى البائع، فيعطي للسلعة سعراً أكثر من قيمتها، ثم لا يشتريها، فمثلاً: قيمة السلعة الحقيقية ثلاثون، فيأتي هذا الرجل ويقول: هذه السلعة تساوي خمسين، وذلك حتى ينطبع في ذهن البائع هذا السعر، فلا يبيعها إلا به، وهذا السعر لن يجده حقيقة، ولن يدفعه له أحد، ويسمى هذا بربط الرأس، وإنما فعل ذلك الرجل هذه الحيلة ليصرف الناس عن هذه السلعة، فيتفرد بالبائع حتى يبخسه، ولا يعطيه قيمتها الحقيقية، فضلاً عن أن يعطيه ما وعده به من قبل، فإذا كان صاحب السلعة مضطراً، فسيبيعه السلعة بأقل من قيمتها الحقيقية، فتؤكل أموال الناس بالباطل عن طريق هذه الحيل.
يقول ابن تيمية: حيل الأسواق وعقود البيع كثيرة جداً، خاصة في أنواع المكاييل والموازين، وهذه العقود والبيعات تكون في المزاد، فليتق الله ربه كل إنسان، ويتحرى الصدق والحلال.
إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع النجْش أو النجَش، ويلحق به كل ما فيه تحايل على إسقاط شيء من سعر السلعة، أو زيادة في سعرها على من لا يعرف السعر الحقيقي.


جواز رد السلعة إذا غبن فيها المشتري
وقد كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري، لكنه أحمق، لا يحسن تقدير السلعة، فإن وجد سلعة في يد إنسان وأعجبته سأل: بكم هذه السلعة؟ ثم يأخذها على كلام صاحبها، وإن كانت في يده سلعة ويريد بيعها، فأتى من يريد شراءها، باعها له على ما أراد، فيكون -أي: المشتري- قد زاد في سعر السلعة بحسب كلام البائع (30%) ، وقد يكون أنقص من قيمة ما في يده بحسب كلام المشتري (30%) ، أو (40%) ، فتضرر أهله بذلك، فقالوا: يا رسول الله! امنع حبان بن منقد من البيع والشراء؛ لأنه أتلف علينا أموالنا، يشتري بسعر زائد، ويبيع السلعة بثمن ناقص، ويخسرنا فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم (دع البيع والشراء) ، فقال: يا رسول الله! لا أستطيع أن أدع البيع والشراء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إذا بعت أو اشتريت فقل: لا خلابة) ، والخلابة: النقص، فكان حبان بن منقد -بعد هذا- إذا تبايع مع إنسان أو اشترى منه قال: لا خلابة، فإذا علم أهله بالمبيع أو المشترى ووجدوا الغبن فاحشاً، رجعوا إلى صاحبه وأبطلوا البيع؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر حالته العقلية وجعل حق نقض البيع وإمضائه لأهله؛ لأنهم هم الذين يتحملون الغرم.
وهل يجوز لإنسان أن يقول عندما يشتري: لا خلابة؟ إن كانت حالته كحالة ابن منقذ فيجوز ذلك، أما إذا لم يكن كذلك، كأن كان حاذقاً، وإنما زادوا عليه في ذلك، فإن هذا يرجع إلى باب آخر، وهو: هل كان الغبن فاحشاً أم لا؟ إذاً: كل ما يكون من التحايل، على زيادة أو نقص السعر في السلعة في السوق في المزاد العلني فهو باطل، والمشتري أو البائع إذا ظهر له التحايل عليه فله الحق في فسخ البيع، أما سلع المحلات والدكاكين، فإذا جاء الزبون وقال لصاحب الدكان: بكم هذه السلعة؟ فقال: بخمسة، فاشتراها، ثم جاء الثاني وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بأربعة ونصف، فقال: لا بأس خذها، ثم جاء الثالث وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بخمسة إلا ربع، فلا بأس بهذا.
وهذا التفاوت لا بد منه؛ لأن طبيعة الناس المساومة، وإن كان السعر محدداً فلا مانع، ويستريح الذكي والبليد، ولكن إذا كانت هناك مساومة، وحدث هناك شيء من الغبن اليسير، فإن عادة الناس التسامح في المماكسة، والزيادة، أو الغبن الخفيف، الذي لا يؤثر على النفس، أو على المال، أما في حالة الغبن الفاحش، كأن تكون السلعة بخمسة، فيبيعها بخمسين، فهذا غبن فاحش، ولمن وقع عليه الغبن الحق في رد السلعة؛ للغبن الفاحش الذي وقع عليه.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [8]
لقد دلت النصوص الشرعية على تحريم بعض أنواع البيوع، ومن تلك البيوع المحرمة: بيع المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والثنيا إذا لم تحدد بعينها، وبيع المخاضرة والمنابذة والملامسة؛ لما في هذه البيوع من الغبن والتحايل لأكل أموال الناس بالباطل، وجاء النهي أيضاً عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد؛ لما في ذلك من الإضرار بالبائع والمستهلك.


شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثُّنْيَا إلا أن تُعلم) رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي] .
انتقلنا من ذكر أحكام البيوع التي تعقد في الأسواق، إلى البيوع التي تعقد في المزارع، فإنها محل بيع وشراء أيضاً.


بيع المحاقلة: صوره وحكمه
قوله: (نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة) المحاقلة والمزابنة: اصطلاح فقهي، مأخوذ من نحت الكلام، محاقلة: مفاعلة، أصل مادتها: حَقَل، والمحاقلة مأخوذة من الحقل، والحقل بمعنى الغيض، بلغة مصر، وسوريا، وغيرها، والحقل موضع الزراعة، والمحاقلة: هي بيع الزرع في حقله بعد خرصه وتقديره بحب مكيل من نوعه، وهذا لا يجوز؛ حتى يشتد الحب في سنبله، وتجب فيه الزكاة، وعلى أي أساس؟ سيأتينا إن شاء الله.
فإذا كانت لديك مزرعة قمح، فبعت القمح في سنبله بقمح مكيل من نوعه، فمثلاً: بعت المزرعة بثلاثة أرادب، أو بعشرة أرادب من القمح، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنك قدرت ما هو موجود في الحقل -وهو مجهول الكمية- وبعته بما هو معلوم، وكان الثمن من جنسه، وهما صنفان ربويان، ووجد التفاوت بينهما، فأنت أخذت القمح الآن أرادب، وهو أخذه سنابل في عيدانها، وهذا لا يجوز.
ومن المحاقلة أيضاً: الإجارة، وصورتها: أن يأتي صاحب الحقل الكبير ويعطيه لمزارع، ويقول له: هذه الأرض تزرعها قمحاً، على أن لي ما ينبت على القناطر، وفي رءوس الجداول، ولك ما كان في وسط الأحياض، أو أجرتك هذا الحقل، أو الأجرة من هذا الجانب الغربي الشمالي.
إلخ، فيعين له محلاً من المزرعة، ويجعله أجرة له مقابل عمله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وجاء عن جابر: (يا أهل قباء! لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى، نهى أن تؤاجر الأرض أو يباع الزرع على ما ينبت على الماذيانات، ورءوس الجداول) ، والماذيانات: القناطر، والقنطرة هي التي يجري فيها الماء ويوزع على الأحواض، فالماء فيها مستمر، وربما يستمر فيها الماء في السقية الواحدة حوالي ثلاث إلى أربع ساعات، فالنبات النابت في القنطرة يشرب ست ساعات، بينما النبات الذي داخل الحوض لا يشرب إلا خمس دقائق أو عشر دقائق، فلا يستوفي من الماء كالذي يستوفيه زرع القناطر، وكذلك ما كان في رءوس الجداول -أي: الأحواض- وهي الفتحة التي عند القنطرة، ويدخل منها الماء إلى الحوض، فإذا كانت مساحة الحوض أربعة في أربعة أمتار، ومدخل الماء إلى الحوض من القنطرة، فالماء يمر على رأس الجدول إلى أن يستوفي الحوض الماء، وآخر الحوض يأتيه الماء متأخراً، ثم ينقطع عنه، فتكون رءوس الجداول التي عند القنطرة قد استوفت ماءً أكثر، بينما آخر الجداول استوفت ماءً أقل، وكلما استوفى الزرع ماءً أكثر كان أكثر إنتاجاً، فجاء جابر وذكر النهي، ثم قال: (فلربما صح هذا وفسد ذاك) ، فلو اتفقت مع الأجير، وحددت له مكاناً معيناً من المزرعة، على أنه أجرة له مقابل عمله، فقد يصاب ذلك الجزء بآفة وتلف.
إذاً: الأجرة مجهولة، ولابد أن تكون الأجرة بشيء معلوم، كالدراهم، كأن يقول: أستأجرك لتزرع هذا الحقل براً أو شعيراً -على ما تريد- بمائة درهم، أو بعشرة دنانير، أو بأي شيء معلوم، أو بعشر ما يخرج منها، فهنا صار القدر معلوماً، وكم سيخرج منها؟ لا ندري، فإن كان المحصول كثيراً فسيستفيد منه الطرفان، وإن كان قليلاً فالنقص داخل على الجميع، وكان بعض السلف يكره أن تؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها، ولكن قل: أجرتك إياها بإردبين، ولا تشترط أن يكون من منتوج الأرض التي أجرتها؛ لأن الإردبين تحل محل الدنانير والدراهم، أما بجزء مما يخرج منها فلا.
والآخرون يقولون: إن هذا مثل الشراكة، فلو تشارك اثنان على جزء من الربح، وهما لا يعلمان كم الربح، لكن هذا التعامل أقره الإسلام، وهو ما يسمى بالمضاربة، فتدفع المال لشخص يعمل، وله نصف الربح -مثلاً- وهو لا يعلم كم سيربح، ولا يعلم كم سيكون نصفه، وأنت لا تعلم كم ستربح، وكم سيكون نصفك، ولكنها مخاطرة، إلا أنها معاملة جائزة، والعمل جارٍ عليها.
فكذلك المحاقلة على جزء مشاع، بنسبة مئوية فيما يخرج من هذه الأرض.


بيع المزابنة
والمزابنة: من الناس من يقول: المزابنة: هي عين المحاقلة، والمزابنة: من الزبن، والزبن: الدفع، ومنه الزبانية -عياذاً بالله- فقالوا: سميت المحاقلة مزابنة؛ لأن كلاً من الطرفين: البائع، والمشتري، والمؤجر، والمستأجر، يدفع عن نفسه الغبن.


المخابرة: صورتها وحكمها
قوله: (والمخابرة) .
المخابرة: مأخوذة من خيبر، وبعض الناس يقول: هذا كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن المخابرة على ما كان عليه أهل خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه خيبر، أتاه اليهود وقالوا: يا محمد! نحن أعلم بالزراعة، ومتفرغون لها، دعنا نخدمك فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: نقركم ما أقركم الله، وأعطاهم إياها على النصف مما تُخرج، وكان هذا العقد على كل أرض خيبر: نخيلها، وما يأتي به من التمر والرطب، وكرومها، وما يأتي به من العنب، وأرضها البيضاء، وما تأتي به من الحب، فيجمع الجميع ويعطى نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يقول: كانت المخابرة على النخل فقط.
وقد جاء أن عبد الله بن رواحة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليخرص عليهم، والخرص: التقدير، وهذه طريقة تقريبية، وتكون في الزكاة، فيأتي العامل، ويقف عند نخلة، وينظر كم فيها من عرجون، وما فيه من الرطب والبسر والزهو لو أثمر وصار تمراً كم يأتي؟! ويقدر كل نخلة بما يترجح عنده، فإن كان للزكاة قدر على صاحب البستان وقيل له: زكاتك كذا؛ لأننا قدرنا أن هذا النخيل سيأتي بكذا وسق، وعليك كذا، وهو نصف العشر، أو العشر.
فلما جاء ابن رواحة ولقيه اليهود -عملوا على طريقتهم- جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا: خذ هذا لك، وخفف عنا.
أي: أنه إذا كان فيها ألف وسق، سنكون ملزمين بخمسمائة، فأنت قدر الألف بستمائة، فيكون علينا ثلاثمائة بدلاً من خمسمائة، وعوض ذلك أن تأخذ هذا لك.
فقال لهم: يا إخوة الخنازير! والله لقد جئت من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي إياكم حاملي على أن أحيف بكم، إني مقدر، فإن شئتم فخذوا والتزموا، وأعطونا نصف ما قدرت، وإن شئتم فارفعوا أيديكم، وألتزم لكم بنصف ما قدرت.
فقالوا: بهذا قامت السماوات.
أي: بعدم قبول الرشوة، وبالعدالة، فحينما يقدر فيها ألف وسق، فإما أن تلتزموا بخمسمائة، أو أنا ألتزم لكم بخمسمائة، وليس في هذا إجحاف! يلتزم لهم بنصف ما قدر، أو يرضى منهم بنصف ما قدر.
فبعضهم يقول: المخابرة كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الآخرين يقولون: بل هذا تشريع عام، وقد بقيت إلى زمن عمر، وبقيت معاملتهم بذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه حديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) .
إذاً: المخابرة نوع من المعاملة في الزراعة بجزء مما يخرج من الأرض، فإن كان هذا الجزء معيناً: النصف، أو الربع، أو الثلث؛ فلا بأس بذلك.


بيع الثُنيا: صورته وحكمه
قال: (وعن الثنيا إلا أن تعلم) .
الثنيا: من الاستثناء، والاستثناء مأخوذ من الخيط الممتد إذا أثنيته، أي: تعيد آخره على أوله، وهنا البستان فيه مائة نخلة، فقلتُ: بعتك المائة نخلة، وأستثني لنفسي خمساً، فالاستثناء عاد على المبيع، فأخرج بعضاً منه، فهذه هي الثنيا.
والخمس هذا إن كان معلوماً، كأن يكون النخيل مرقماً، ثم عين الخمس من الواحد إلى الخمسة، أو عين رقم عشرين أو واحد وعشرين.
إلخ، أي: أنه عينها، أو عين الخمس الموجود حول البركة، أو الخمس الموجود في الطرف الفلاني، وتكون معلومة للطرفين، فحينئذٍ يصح البيع، لكن إذا لم تكن معلومة، كأن يقول: بعتك المائة، واستثنيت لنفسي عشراً، فأين هذه العشر؟ فحينما يبدأ الرطب فتذهب وتتخير العشر، وهذا فيه إجحاف على المشتري، أو هو يفرض عليك عشراً، فهذا فيه ضرر وغبن، ولكن إذا علمت الثنيا عند العقد، فسواء كانت أجود الموجود، أو كانت أقل الموجود جودة، فإنها معينة، وكذلك قطيع الغنم، كأن يقول: بعتك ألف شاة إلا مائة، فيجب أن تعلِمْها، ويجب أن تعزلها، وهكذا مائة ثوب إلا خمسة فإذا كانت الأجناس متساوية، وفيها بعض التفاوت، أي: من جنس واحد، ولكن فيه بعض التفاوت، فلابد من تحديده، ولابد من تعيينه بعينه؛ لئلا يقع النزاع عند الاستلام.
والله تعالى أعلم.


شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمخاضرة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة) رواه البخاري] .
هذه المسميات -المحاقلة والمزابنة والمخابرة- صور من صور البيع التي كانوا يتعاطونها، وفيها ضرر على البائع، وعلى المشتري.


النهي عن بيع المحاقلة وعلة ذلك
المحاقلة: من الحقل، وهو محل الزرع، أو الأرض الخصبة المنبتة، فإذا إنسان زرع قمحاً، أو شعيراً، أو ذرة، أو نحوه، فيبيع ما فيه من الحبوب بخرصه كيلاً، فكم يمكن أن يكون في هذا الحقل إذا حصد وصُفي؟ يمكن أن يأتي مثلاً بعشرة أرادب، فيقول المشتري: أنا أشتريه منك الآن بتسعة، أو أشتريه منك الآن بعشرة، أو بأي تقدير كان، أي: يبيع المجهول من الحب في الحقل بمعلوم بالكيل من جنسه، وهذا منهي عنه؛ لأن فيه غرراً؛ ولأنه إذا كان المبيعان من جنس واحد وبيعا ببعضهما؛ وجب الحلول، والتقابض، والتماثل، وحتى لو بيع بغير جنسه -بطريقة المحاقلة- كان فيه الغرر، فلو اشترى حقل الحب -وقد رما فيه بعشرة آرادب- بخمسة آرادب من تمر، فإن الحب مع التمر ربويان، ولكن لاختلاف الأجناس يجوز التفاضل، ولكنه هنا -أي: في بيع المحاقلة- لا يجوز؛ لوجود الغرر، فإن التمر معلوم الكيل، والحب في الحقل مجهول الكيل، ولا نعلم كم سيحصد منه.


بيع المخاضرة: صورته وحكمه
وقوله: (والمخاضرة) .
المخاضرة: هي بيع الزرع أخضر ولم ينعقد الحب فيه بعد، فيقدر كم سيكون إذا طلع السنبل، وإذا طلع الحب، وانعقد في سنبله، وصُفي، كم سيكون؟ وكذلك أنواع الخضروات بجنسها موزوناً أو مكيلاً، فكل ذلك يلحقه الغرر، فنهي عن بيعه.


بيع الملامسة: صوره وحكمه
وقوله: (والملامسة) .
الملامسة تقدم الكلام عنها، وهي: أن يقول البائع: أيَّ ثوب لمسته من مجموع هذه الثياب فهو لك.
أو تكون مبادلة ثوب بثوب، وكل منهما قد لف ثوبه ولم ينشره، فلا يراه الآخر، فيقول له: هذا الثوب بيدي، أبيعه عليك بالثوب الذي في يدك، وبمجرد ما ألمس ثوبك وتلمس ثوبي ينعقد البيع، وهما لا يعلمان ما بداخل الثوبين، فقد يناسبه في تفصيله، وفي حجمه، وقد لا يناسبه، وقد يكون فيه عيب مستتر لا يراه، وكل ذلك منهي عنه، وقد تقدم التنبيه على ما كان من اللعب المشابه لهذا، وصورته أن يجعل سهماً كعقرب الساعة، ويدار على سلع موزعة، فما وقف السهم عليه فهو له، فهذا أيضاً من الملامسة المنهي عنها؛ لأنه لا يعلم على أي سلعة سيقف السهم، والسلع عادة تكون متفاوتة، فمنها ما يساوي درهماً، ومنها ما يساوي عشرة، وفي هذا إغراء للمتلاعبين، أو المتعاقدين على أن يظفر بشيء قيمته كبيرة بثمن قليل.


بيع المنابذة: صورته وحكمه
قوله: (والمنابذة) .
المنابذة: قريبة من الملامسة، ولكن المنابذة من النبذ، -والنبذ: الطرح، والرمي، فمثلاً: يقول: أيَّ ثوب نبذته إلي فأنا آخذه بكذا، سواء كانت السلع متساوية، أو كانت السلع غير متساوية، فمثلاً: نجد الآن في الوقت الحاضر لوحات على بعض الدكاكين: كل شيء بخمسة ريال، كل شيء بعشرة ريال، أي أن الثمن متعادل، فيأتي صاحب الدكان ويقول: أي شيء بخمسة ريال، والأثمان متعادلة، وأيَّ شيء نبذته إليك فهو بخمسة، لكن المشتري لا يعلم ماذا سينبذ إليه، فربما نبذ إليه شرّاباً وهو يريد غترة، وربما نبذ إليه ثوباً وهو يريد قميصاً، إذاً هذا معلق على اختيار أحد الطرفين، فلا يجوز ذلك.
وكذلك إذا كان العكس، كأن يقول: ما دامت كل السلع عندك بخمسة ريال، فأي سلعة سقطت عليها الخمسة الريال فهي لي، وإن كان الغبن هنا مرتفعاً، إلا أن المانع هو عدم تعيين المبيع عند العقد، وكل هذا منهي عنه؛ سداً للباب فيما لو كانت السلع متفاوتة الأثمان.


حكم بيع المزابنة
وقوله: (والمزابنة) .
المزابنة: من الزبن، وهو الدفع، قالوا: المزابنة، والمحاقلة، والمخاضرة، كلها تدخل في المزابنة؛ لأن كلا المتعاقدين يدفع عن نفسه الغبن، ويكون ذلك بالمخاطرة، فهي أيضاً ممنوعة لهذا السبب.


شرح حديث النهي عن تلقي الركبان
قال المصنف رحمه الله: [وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد) قلت لـ ابن عباس: ما قوله: ولا بيع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً.
متفق عليه واللفظ للبخاري] .


القاعدة العامة في معرفة البيوع المحرمة
لو تأملنا في كل ما جاء النهي عن بيعه فإننا نجد عنصر التحفظ عن أكل أموال الناس بالباطل هو السبب البارز في النهي عن جميع البيوع المحرمة؛ لأن من أخذ شيئاً مخاطرة، وكان فيه غبن، كان فيه أكل لأموال الناس بالباطل، فإذا وقع الغبن على البائع فقد خسر شيئاً، وأكله المشتري بالباطل، أو وقع الغبن على المشتري في الثمن، فقد نقص عليه شيء، وأكله البائع بالباطل، وهكذا كل هذه الصور يقع فيها أكل أموال الناس بالباطل، وتدخل تحت قوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، والمال لا يحل إلا بطيب نفس من صاحبه، فمهما كانت صفة العقد وصورته وشروطه -وقد وجدنا في الآونة الأخيرة صور عقود لم تكن في السابق- فإنها لم تفلت من نطاق القواعد العامة التي فيها احترام مال المسلم، وتحريم أكله بالباطل.


النهي عن تلقي الركبان: صوره وما يتعلق به من أحكام
وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، والتلقي: هو الاستقبال، قال الله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ، والركبان: جمع راكب، والمراد: الجالب، سواء جاء على قدميه، أو جاء راكباً بعيراً أو فرساً، وقد صار هذا الاسم علماً على كل من يجلب إلى السوق؛ لأن الغالب أن الجالب يأتي من بعيد، وغالباً يأتي راكباً، أي: يركب ما يحمل عليه السلع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان.
والركبان إما أن يكونوا قادمين من البادية، أو قادمين من بلد أخرى حاضرة للبيع في هذه البلدة؛ لاختلاف الأسعار، ولكثرة الحاجة، ولقلة السلعة، وهذه أمور تحكمها حالة الأسواق.
ولنفترض المسألة في البادية: فإذا جاء الجالب من البادية، فإنه سيأتي بإنتاج البادية، وإنتاج البادية إما أن يكون بهيمة الأنعام، وإما أن يكون نتاجها من ألبان، أو أصواف، أو جلود، ونحو ذلك، وإما حطباً يحتطب من الجبال، ونتاج بهيمة الأنعام يكون سمناً، ويكون أقطاً، كل هذا من إنتاج البادية، فإذا جاء البدوي بسلعة، ويريد أن يبيعها في المدينة، ويشتري بثمنها سلعاً أخرى من السوق، فهو أتى بسمن أو حطب أو جبن، فباع واشترى سكراً، أو قماشاً، أو قهوة، أو هيلاً.
إلخ، وهذه هي العادة، فإذا قدم ركبٌ بسلع بدوية، فلا ينبغي لأحد من أهل السوق أن يخرج من السوق، أو يخرج من البلدة ويتلقاهم قبل أن يصلوا إلى السوق، وقبل أن يعرفوا الأسعار، فيساومهم على ما معهم؛ لأنه بتلقيه للركبان يقطع السلع عن أهل السوق.
ومن أين يكون التلقي؟ بعض العلماء يقول: يكون التلقي بمجرد خروجه من السوق، وبعضهم يقول: ميلاً، وبعضهم يقول: ميلين، وبعضهم يقول: أكثر، أو أقل، ولكن الأصل العام في ذلك: أن يتلقاه قبل أن يأتي ويلتقي بالناس، ويعرف الأسعار، وبعضهم يقول: التلقي من السوق إلى الطريق ليس فيه شيء؛ لأنه موجود، ولكن التلقي المنهى عنه فيما إذا كان خارج المدينة، فإذا خرج من المدينة، ولقي الركبان خارج المدينة، وساوم واشترى، فهذا هو المنهي عنه، ولكن إذا نظرنا إلى العلة، وهي قطع الاستفادة من السلعة عن أهل السوق، فيتفرد بالبادي، ويشتري منه وهو يجهل السعر، إذاً: سواء تلقاه خارج السوق، أو تلقاه خارج المدينة، فالعلة موجودة.
وهنا تتشعب المباحث: فلو أنه خرج وتلقى الراكب، واشترى منه، ثم جاء صاحب السلعة إلى السوق، ووجد أن الذي تلقاه قد غبنه، وأخفى عليه سعر السوق، فله الفسخ، وهو بالخيار، وإذا كان له الخيار فهنا مبحث للفقهاء، وهو: هل العقد الذي انعقد هناك أثناء التلقي سارٍ أو غير سارٍ؟ الجمهور يقولون: هو عقد سارٍ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه -أي: صاحب السلعة- الخيار، والخيار لا يكون إلا عن عقد ثابت، ولو لم يكن ثابتاً لقال: العقد فاسد.
وهل النهي عن تلقي الركبان شامل لكل صغير وكبير، ولكل زمان؟ بعض العلماء -وخاصة علماء الحديث- قالوا: في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل زمن: خصب، أو جدب، وسواء كان الجالب عالماً بأحوال السوق، أو ليس بعالم، وأخذوا الحديث على عمومه، والآخرون نظروا إلى العلة في النهي، والعلة في النهي هي: غبن البدوي فيما جلب من سلعة، فقالوا: إن كان قد جاء بسلعته، يريد أن بيعها في يومه، وهو لا يعلم الأسعار، ففي مثل هذا يكون النهي، وهذا بخلاف المتردد على السوق الذي يعرف الأسعار، والأسعار من يوم إلى يوم لا تختلف كثيراً، فإذا كان خبيراً بأمر السوق، فلا محظور في ذلك، إن كان قد نوى بيعها في يومه.
إذاً: الشرط الأول في تحقق النهي: أن يكون الجالب لا يعرف أسعار السوق، الثاني: أن يكون الجالب جلبها ليبيعها في يومها.
ويقول بعض العلماء أيضاً: أن تكون بالناس حاجة إلى تلك السلعة.
والبعض الآخر يقول: سواء كانت هناك حاجة للسلعة، أو لم تكن، والذي يهمنا هو الجالب، فإذا كان الجالب جلبها ليبيعها في يومه، وكان لا يعلم الأسعار، فتلقاه إنسان واشتراها منه، ثم جاء إلى السوق فوجد أنه قد غبن، فله الحق في فسخ البيع؛ لأن المشتري قد غبنه وخدعه.
وكون الناس في حاجة إليها، أو ليسوا في حاجة إليها، هذا يشترطه البعض، وينفيه البعض الآخر، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: أو إذا تلقاه وباع له وهو لا يعلم فلا مانع؛ لأنه نصح، لكن إذا كان سيشتري منه فأين النصح؟ النصح يأتي عند (لا يبع حاضر لباد) ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
وهناك من يقول: يجب أن نراعي أصحاب السوق؛ لأنه إذا تلقى الركبان، وأخذ السلعة من هناك، والناس في السوق ينتظرون مجيء الجلب، وهذا قد سبقهم إلى الجلب وحاز السلعة، ففيه مضرة على المستهلك، وعلى أهل السوق، وقد جاء في الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) .
إذاً: مبدئياً نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان.
ونظير هذا أيضاً: لو أن شخصاً ذهب وحمل سيارة كبيرة -كهذه التي يسمونها (سكس) - بالأسمنت والشعير، وبالسلع التي يحتاجها أهل البلد، وهو لا يعلم أسعار المدينة، فذهب إنسان إلى (الفريش) وتلقاه، وتبايع معه على حمولة السيارة وغبنه، فباعه، ثم جاء إلى السوق فوجد نفسه قد غبن، لا سيما -كما يذكر الفقهاء- إذا قام المتلقي بالخداع، كأن يقول له: المدينة مليئة بهذه السلع، والناس غير محتاجين إلى هذا، لكن سآخذ منك هذه السلع وأجعلها عندي، ومن ثم أصرفها على مهل، أما أنت فإن جئت إلى السوق فستجد عشرات السيارات كسيارتك، وستجد المستودعات مليئة، ولكن أنا أستطيع تدبيرها، مع أن المدينة ليس فيها ولا سيارة واحدة، ولا شيء من هذه السلع، فيكون قد غره وغشه، وحمسه إلى البيع مخافة ألا يجد من يشتري؛ لأن السوق يقوم على العرض والطلب، فإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً نزلت السلعة، وإذا كان العكس ارتفعت السلعة.
فقالوا: إذا كان قد خدع المتلقي الجالب، وهوّن عليه أمر سلعته، وهوّن عليه أسعار السوق، سواء كان بادياً أو حاضراً، فكل ذلك داخل في هذا النهي؛ لأن الغرض وراء ذلك كله هو أكل أموال الناس بالباطل.


النهي عن بيع الحاضر للباد: صورته وحكمه
قال: (لا يبع حاضر لباد) .
ومن النهي هنا أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم ألا يبيع حاضر لباد، وانظر إلى هذا التناسق بين هذه النواهي! ولنفرض أن الركبان لم يتلقها أحد، ووصلت إلى السوق، فإذا وصلت إلى السوق دون أن تصطدم بمتلق يخدعها، وبدأ البيع، فلا يجوز أن يأتي حاضر ويتولى عملية البيع للبادي.
وقد سأل السائل ابن عباس: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ فقال: لا يكون له سمساراً.
والسمسرة: معروفة من قديم، فهنا الجالب إذا وصل السوق فليترك بسلعته مع الناس، فإن الجالب سيبيع بما يراه يحفظ حقه، والغالب أن البدوي يجلب سلعاً لم يدفع فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فرأس مالها عليه جهده في الحلب، والتصنيع وما إلى ذلك، أما الذي يشتريها ويأتي بها إلى السوق، أو يشتريها بالجملة ويبيعها بالتجزئة، فإنه يعمل حساب رأس المال الذي دفعه، والغالب أن الجالب من البادية يتساهل في سلعته، فإنه لم يخسر فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فيكون في هذا رخاء وتوسيع على الناس.
أما إذا جاء أحد أهل السوق ليبيع السلعة لهذا البدوي، فإنه سيستخدم خبرته ومعرفته بالسوق ليخدم بها الجالب، فهو يعلم أسعار السوق، ويعلم هل السلعة متوفرة أم غير متوفرة، فيغالي في الثمن ويزيد في السعر، فيتضرر أهل البلد، لا سيما المساكين والأرامل والأيتام والفقراء والضعفاء، فتقطع عليهم الطريق، ولا ينتفعون من جلب البادية، ولذا جاء في بعض الروايات: (دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ، فهذا اشترى قربة سمن، فإن كان لبيته -وجاءت رخيصة- فهو رزق من الله، وإن كان سيبيعها ويكسب فهذا رزق من الله.
فقوله: (لا يبع حاضر لباد) قالوا: هي على المبدأ الأول في تلقي الركبان، بشرط أن يكون البادي لا يعرف أسعار السوق.
وهل النهي عام، أم أنه خاص فيما إذا كان الناس بحاجة إليها؟ الظاهر أن النهي على العموم.
وعلى هذا: نجد في الصورتين الإضرار بالمستهلك، فتلقي الركبان يكون فيه قطع الطريق على المستهلك، وبيع الحاضر للباد فيه رفع السلعة على المستهلك، وهذا فيه مضرة.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا باع الحاضر للبادي من باب النصح فلا مانع، فلو أن الحاضر رأى حاضراً آخر يشتري من بدوي لا يعرف شيئاً عن قيمة سلعته، كأن يكون لديه قربة سمن تساوي ألف ريال، فقال له الحضري: أشتريها بمائتي، وكاد أن يبيع، فتدخل حضري آخر فقال للبدوي: اصبر، لا يخدعك، واذهب وانظر السوق، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: للحاضر أن ينصح إذا رأى غبناً فاحشاً.
لكن إذا كانت السلعة بألف، وجاء حاضر وساوم البادي إلى ثمانمائة، أو ثمانمائة وخمسين، والثمانمائة والخمسون ليست غبناً فاحشاً، فإنه يتركه لعموم النهي (ولا يبع حاضر لباد) .
ولكن إذا كان البادي يعرف السوق ويتردد عليه، وجاء بسلعته إلى المدينة، ولا يريد أن يبيعها؛ لأنه وجد السلع كثيرة، وقد أتى بالسمن وكان يظن أنه لم يجلب إلا هو، فأتى إلى السوق وإذا به مليء بالسمن، فجاء إلى أحد أهل الحاضرة، وقال: يا فلان! اترك هذه السلعة عندك، وأنت وكيل عني، فبعها إذا تحسن السوق.
ماذا يكون في هذا؟ هو عرف السعر، ثم إنه أودعها عند حضري، ثم وكل الحضري ليبيعها عند تحسن السوق، إذاً: الجالب لن يبيع اليوم؛ لأنه رأى السعر منخفضاً، والسلع كثيرة، فوكل الحضري، وعلى هذا فلا شيء في ذلك.
وقوله: قلت لـ ابن عباس: ما قوله: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ قال: لا يكون له سمساراً.
متفق عليه.
السمسار: هو الذي يسعى كالدلال، ولكن السمسار يسعى بين البائع والمشتري في شيء موجود حاضر، ويحاول أن يوفق بين الطرفين إلى أن يصلا إلى عقد البيع، والدلال إنما يدل على السلعة لمن لا يعرفها.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [9]
لقد حرص الإسلام على إرساء المحبة والألفة بين المسلمين، وسد كل باب يفضي إلى النزاع والفرقة، ولذلك نهى عن بيوع ومعاملات تفضي إلى الفرقة والنزاع، وتفسد المحبة والألفة بين المسلمين، ومن تلك المعاملات: بيع الرجل على بيع أخيه، أو أن يخطب على خطبة أخيه، أو أن تسأل المرأة طلاق أختها لتتزوج زوجها، ونهى عن سوم الرجل على سوم أخيه، ونهى عن أن يُفرق بين المرأة وولدها، أو بين الأخوين ببيع أو نحوه، ونهى عن الاحتكار، فلا يحتكر إلا خاطئ.
وإذا غلت الأسعار، فيجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله، فإن الله هو المسعر، وما نزل الغلاء إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وبالعودة إلى الله يرتفع الغلاء، ويجوز لولي الأمر أن يُسعر إذا دعت الحاجة، لاسيما في الأشياء التي لا تعرف تكلفتها عادة، وكذلك إذا ظهر المحتكرون.


شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أبي هريرة - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضرٌ لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) متفق عليه، ولـ مسلم: (لا يَسمُ المسلم على سوم أخيه) ] .
بيع الحاضر للباد تقدم، وبيع النجش تقدم، والنجش: هو الزيادة في السلعة بدون قصد الشراء، ويترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المشتري سيزيد على زيادة السائم الأول، ثقة منه بأنه راغب، وأن السلعة تستحق ذلك.
ويضيف العلماء إلى صور النجش: ما يفعله بعض الناس حينما يأتي بالسلعة إلى السوق فيقال له: بكم هذه؟ فيقول: قد أعطوني فيها خمسين، مع أنه لم يعطه أحد شيئاً، ولكنه هو الذي كذب ووضع هذا السعر، فكأنه زاد لنفسه من نفسه تعريراً بالمشتري، فإن صدّقه المشتري واشترى على قوله، ثم تبين له الغبن، فهو بالخيار.


بيع الرجل على بيع أخيه: صوره وحكمه
قوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) .
بيع الرجل على بيع أخيه والسوم على سومه كلاهما من هذا القبيل، وصورة بيع الرجل على بيع أخيه: أن يأتي إنسان ويشتري سلعة من شخص، ويشترط لنفسه الخيار لمدة يومين ليستشير، فيأخذ السلعة في يده على ذمة الخيار لمدة يومين، والمشتري والبائع كلاهما له الخيار في الإمضاء والفسخ -إلا إذا اشتُرط الخيار لواحد منهما فقط، فإذا اشترى المشتري واشترط الخيار لنفسه فقط، فليس للبائع حق الفسخ- وفي مدة الخيار علم جار البائع بما حدث، فذهب إلى المشتري وقال له: ما دام أنك في مدة الخيار، فارددها إلى صاحبها وسأبيعك نفس السلعة بسعر أقل، فيكون هنا قد باع على بيع أخيه.
وصورة الشراء على شراء أخيه كما لو اشترى المشتري السلعة بألف، وعلم بذلك شخص وهو في حاجة إلى السلعة، فذهب إلى البائع وقال له: بكم بعت يا فلان؟ فقال: بعتها بألف، فقال: يا أخي! لماذا لم تخبرني، لو كان عندي علم لأخذتها بألف ومائتين، فما دام أن لك الخيار، ولك حق الفسخ في يومين، فافسخ البيع، وسأشتريها بألف ومائتين، فيكون قد اشترى على شراء أخيه، وفي كلتا الصورتين إفساد بين الناس، وإفساد للسوق، وفي الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) .
إذاً: هاتان الصورتان منهي عنهما؛ لما فيهما من إفساد بين الناس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خاطب الناس في هذا بقوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) ، ولم يقل على بيع الغير، ولكن قال: (على بيع أخيه) ، إذاً: من حق الأخوة ألا تتعدى على أخيك، وهذا من البلاغة النبوية، فقد كان يمكن أن يقول: لا يبيع أحدكم على بيع غيره، ولا يشتري على شراء غيره، ولكنه قال: (أخيه) ، فكأنه يذكره بحق الأخوة بينهما، فما دمت اعتبرته أخاً لك فأحب له ما تحب لنفسك.
وهكذا فالتشريع في المعاملات قد يلمس العاطفة، وقد ينبه الضمير، ويوجه الإنسان بإنسانيته، فيشعره بأن هذا أخوه، ولا ينبغي أن يفسد عليه بيعه، وأن هذا أخوه، فلا ينبغي أن يفسد عليه شراءه، فيكون أنانياً يحب لنفسه ما لا يحب لغيره.


النهي عن الخطبة على خطبة الغير
قال: (ولا يخطب على خطبة أخيه) .
الخُطبة: هي الخطبة على المنابر، وفي النوادي، وفي الحفلات، والخِطبة: هي خطبة الرجل للمرأة، فإذا خطب إنسان امرأة أو فتاة، فلا يخلو الحال من أحد أمرين: إما أنه مجرد استفهام، وقد يكونون قبلوا خطبته أو لم يقبلوا، وإما أن يكونوا قد قبلوا ولم يبق إلا المفاهمة في الحواشي والتنفيذ، فإن كانت الخطبة مجرد حديث، ولم يستجب أهل المرأة إليهم، وفهم من حالهم أنهم رفضوا، وقد يكون الرفض بلطف، فيعتذروا بقولهم: هي تريد أن تتعلم إلى أن تكمل تعليمها، مع أنها في الحقيقة راسبة، ومهيأة للزواج، ولكنهم ردوه بلطف، وهذا من الآداب الاجتماعية، فعلم أنهم غير راغبين، فهنا لا مانع من أن يتقدم شخص آخر بالخطبة، أما إذا كانوا في مرحلة المفاهمة، ولم يظهر من أهل المرأة رفض ولا قبول، فليبق وليكف، فإذا ظهر من أهل المرأة القبول حرم التقدم، وإذا ظهر منهم النفي فلا مانع من التقدم.
وإذا علم بأن أهل المرأة قد قبللوا الخاطب، ولكنهم ما زالوا في بحث موضوع الجهاز، كالفراش وصفته، والتعنتات التي أرهقت الناس، وهذا كثير، وهذا قليل.
إلخ، فالمبدأ الأساسي هو القبول بهذا الخاطب، ولكن ما زالوا في بحث الحواشي، والتعليقات، والهوامش، فإذا تقدم إنسان آخر ورأى أهل العروس فرقاً بعيداً بينه وبين الأول، فالأول إنسان مسكين يعمل بأجر يومي، ويسكن في بيت شعبي، وجاء هذا وعنده عمارة، وسيارة، ومال كثير، فقالوا: والله لا نضيع بنتنا عند هذا، ولا نفوّت هذا، فهذا أحسن لنا، وسيرفضون الأول الذي رضوا به ابتداءً لعدم ظهور هذا، فيأتي هذا دون مبال بشعور أخيه، ودون مبال بحاجته، ودون مبال بكرامته، وعلاقته وأخوته، فكأنه أهدر حق أخيه بالكلية، فقبلوه وزوجوه.
والجمهور: على أنه إذا رفع ذلك إلى الحاكم فإنه يبطل العقد الثاني، ويمنع زواج الثاني منها؛ لأنه بُني على باطل، وهو خطبته على خطبة أخيه.
والجمهور -ما عدا مالك - يقولون: يفسخ العقد ولو دخل بها، ومالك يقول: إذا فات الأمر ودخل بها فلا يُفسخ؛ لأنه بالدخول بها دخلت حقوق أخرى جانبية، فقد تكون حاملاً، وإذا قلنا بالفسخ فستشتت الولد، ويفرق بينه وبين أمه، وبينه وبين أبيه، وتكون هناك أشياء مترتبة على ذلك، كالعدة، والنفقة، وأشياء كثيرة، فلذلك لا يفسخ العقد، بل يستمر، ويلحق ذلك المتعدي الإثم.
أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فيقولون: حتى لو دخل بها فإنه يفسخ العقد، وإن حملت فالولد لأبيه، ويلحق به؛ لأن الزواج كان بعقد -وإن كان الواجب عدم إيقاع هذا العقد- استوفى شروط صحة العقد، وبه استباح المرأة.
إذاً: لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، وجاء في بعض الروايات: (حتى يدعوا أو يقبلوا) أي: حتى يتركوا، أو يتموا فيما بينهم.
يقول بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23-24]-من باب تلطيف الموضوع على أن عنصر المرأة موجود- قالوا: نبي الله داود خطب على خطبة رجل آخر فزوجوه، وقال الآخرون: إن الخطبة على خطبة أخيه لم تكن ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا، والله أعلم بذلك.


سؤال المرأة طلاق أختها: صورته وحكمه
قال: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) .
المقصود بأختها أي: أختها المسلمة، وليس أختها من النسب؛ لأن أهلها لو علموا بأنها طلبت طلاق أختها من النسب لتتزوج بزوج أختها؛ لرفضوا أن يزوجوه بها، ولقالوا: كيف نعطيه هذه وقد طلق أختها! إذاً: المراد بأختها أي: المسلمة.
وصورة هذه المسألة: أن يأتي رجل متزوج ويخطب امرأة، فتقول: مرحباً، على العين والرأس، وأنعم، لكن طلق التي عندك وأنا أتزوجك، وقوله: (تكفأ) كأنه كناية عما يتحمله الرحم، وتتلقاه المرأة في المعيشة مع الزوج، وكل ذلك في إناء الحياة والعشرة الزوجية، (لتكفأ ما في إنائها) لتأتي هي بإنائها من جديد، فهذه أنانية فوق اللازم، وكذلك عنصر الأخوة، فلا تطلب المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها، من خير المعيشة: من النفقة، ومن حسن العشرة، ومن الإيواء، فتحرم الزوجة الأولى من هذا من أجل أن تأتي هي وتحل محلها، وهذا ينافي الأخوة، ولذلك خاطبها نهاها في هذا الحديث عن هذا الأمر.
وهنا وقفة جانبية واستراحة خفيفة: بعض النسوة الآن يتقدم إليها المتزوج فتقول: أنا لا أريد أن تكون معي ضرة، لا تتزوج عليّ ولا تكن متزوجاً قبلي، وهذا الشرط من حيث هو لا بأس به؛ لأنها تريد المصلحة لنفسها، لكن أن تقول: طلق الزوجة الموجودة من قبل، فهذه هي المصيبة، ثم نقول للأخوات والبنات: ما هو الأُولى لك؟ أن تكوني تحت نصف رجل، أو أن تكوني خالية بالكلية؟ نصف رجل أولى؛ لأنه سيقسم بينك وبينها بالعدل، ومئونتك مكفية، وكرامتك حاصلة، ونفقتك مؤداة، وأصبحت في خيمة رجل، تستظلين بها بجانب وأختك في الجانب الآخر، أو خيمتك بجانب خيمتها، وإناؤك بجانب إنائها، وما يأتيها في إنائها يأتيك مثله في إنائك، وبذلك تكونان أخوات.
إذاً: الغلط كل الغلط فيما يحصل الآن من بعض النساء، من أن المرأة -وخاصة الفتيات- لا تقبل أن تتزوج من متزوج إلا العاطلات النوادر، وقد سمعت من شخص ثقة حينما خطب فتاة -وهو متزوج وله أولاد بالغين- فبادرت الفتاة بقبوله، فقيل لها: ماذا تريدين من هذا الرجل وله أولاد بالغون، مع أن الشباب يتمنون ويتقدمون لخطبتك وترديهم من قبل؟! فقالت: نعم؛ لأن الشاب طائش، وهو طوال الليل في الخارج، ولا يأتي إلى وهو متعب، فينام، ثم يصبح نائماً وكذا وكذا، وليس فيه خير، أما هذا فرجل عاقل، وله بيت، وهو مجرب، ويعرف حق الزوجة، ويقوم بواجبه، وطيلة ليله يكون عندي، ولا أشتغل عنه، ولا أغير عليه فمثل هذا أولى من ألف واحد من الشباب الذين تتطلعون إليهم، فنحن ننصح الفتيات قبل النسوة العوانس بأن الزواج من متزوج خير، أما إذا كانت تزوجت من شاب لم يتزوج، ولكن على شرط أن يكون لها وحدها، فإن التي لم ترض بضرة، فقد يكون لزوجها عشرات الضرائر صداقة، من خلال السهرات -عياذاً بالله- والذهاب والعودة، وينشغل بهن عن زوجته، فماذا تنال منه؟! إذاً: سؤال المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها هذا خطأ كبير، ولا ينبغي لأي امرأة أن تفكر في هذا، وبالله تعالى التوفيق.


السوم: معناه وحكمه
قال: (ولا يسم على سوم أخيه) .
البيع إما مساومة أو مزايدة، فبيع المساومة: أن تكون السلعة في يد صاحبها، فيقول المشتري: بكم هذه؟ فيقول: بعشرة، بخمسة، بثلاثة، باثنين، فالذي تتبايع معه وحدك هذا سوم، فإذا تشاغلتما في السوم، وقال لك: أفكر، ولم يبع، فجاء الثاني وسام بأكثر -في غياب الآخر- فهذا لا يجوز؛ لأن البائع يبتّ في الرفض.
والبيع الثاني: المزايدة، كأن يقال: هذه بخمسة، من يزيد؟ بخمسة ونصف، من يزيد؟ وهكذا، فحيثما رسا المزاد بيعت، فالبيع بالمزايدة ليس فيه النهي عن السوم على سوم الغير؛ لأن الباب مفتوح، وكذلك إذا كان المبيع وقفاً، أو غنيمة، أو تركة لميت له ورثة، فيجوز فيه السوم؛ لأن السلعة مملوكة لأشخاص، فينبغي على البائع فيها أن يتحرى السعر الأفضل إلى آخر لحظة، فالتركة فيها قُصّار وفيها نساء، والوقف وقف لحق الله تعالى، والغنيمة لم تقسم، أو إذا سيم على السهم، وبائع الغنائم يريد أن يُقسم القيمة على الغانمين، فلهم حقوق، فينبغي أن يتحرى، ولا يتم التحري إلا بالسماح بالسوم على سوم أخيه، أما إذا كانت في الحراج، فوقعت المزايدة، فلا حرج في ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه باع بالمزايدة في هذا المسجد الشريف، كما في قصة الشاب الذي جاء وطلب الصدقة، فقال له: (أراك قوياً جلداً، قال: ليس عندنا شيء، قال: ما عندك؟ قال: حلس وقعب، قال: عليّ بهما، فلما جاء بهما، قال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم، قال: من يزيد؟ فقال رجل: بدرهمين) فهذا سام على سوم أخيه؛ لأنها مزايدة.
وهكذا النهى عن السوم على سوم أخيه مثل النهي عن البيع على بيع أخيه، إلا إذا كان البيع مزايدة فلا مانع أن يسوم وأن يزيد، إلى أن تصل السلعة إلى نهايتها، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم، ولكن في إسناده مقال، وله شاهد] .


عظمة هذا الدين ورحمته بالخلق
يذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي أيوب هذا في كتاب البيوع، باب شروطه وما نهي عنه، فيقول لنا أبو أيوب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، والحديث فيه النهي عن أن يُفرِّق السيد بين الأمة وبين ولدها في البيع، فما علاقة الأحبة، وعلاقة يوم القيامة؟! وكان يمكن أن يقال: لا تُفرِّقوا بين الأم وولدها، أو لا ينبغي التفريق، ولكن مصداقاً لقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، ولأن دين الإسلام هو دين الرحمة، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فهذه أم معها ولدها، وكم يصعب على الأم أن تفارق ولدها؟! ونعلم ما حصل في قصة أصحاب الأخدود، وفي قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة وهي تحمل طفلتين فأعطتها عائشة تمرة، فشقتها نصفين، وأعطت كل طفلة نصفاً واجتزأت هي بالنواة تمصها، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) ، وتلك المرأة في قصة أصحاب الأخدود، فحينما ظنت المرأة بولدها فأنطقه الله وقال لها: (يا أماه! قعي في النار ولا تتقاعسي) ، وعندما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عطف تلك الأم على ابنتيها قال: (أترون أن هذه الأم تلقي بولديها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) .
ثم نأتي إلى عوامل جانبية أخرى، فإن الرحمة في الإسلام لم تقف عند الإنسان، فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته، فالإسلام دين الرحمة، ودين العاطفة، ودين إيقاظ الضمير.
ثم ننتقل خطوة بعيدة، وطويلة جداً، ونقرع الطبل في آذان أولئك الآباء والأمهات الذين يقع بينهم النزاع والشقاق لأمور شخصية بينهما، وتقع المصيبة على الأولاد، وينتزع الأولاد من الأم قهراً، لا لشيء إلا لمضارتها، فنقول: (من فرّق بين الأم وولدها) ، وإن كان ذلك في المبيع فكذلك في الحضانة، وللقاضي أن ينظر في مصلحة الطفل أهي عند أمه، أم هي عند أبيه، أم عند شخص ثالث؟ لأن مصلحة الطفل مقدمة، أما الأبوان فقد تفرقا وسار كل في طريقه، وهذا لا يزال ناشئاً، فأي مكان يكون أصلح له فيضعه القاضي فيه.
والمجال في هذا الموضوع واسع، ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -مع كثرة مسائل التشريع، ومسئوليات الأمة، والتبليغ في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب- لم يُهمل هذا الجانب الإنساني، بل قال: (من فرّق بين الأم وولدها) مع أن كليهما مملوك، وقد يكون باقياً على شركه وعلى كفره، فالناحية الإنسانية والرحمة ليست قاصرة على كافر ومسلم، بل شملت -كما أشرنا- الحيوان، وهكذا يرطب النبي صلى الله عليه وسلم القلوب ويبللها بالشفقة والرحمة.
وهنا يأتي الفقهاء ويفرعون ويقعدون، ويأتون بمسائل، منها: متى يكون ذلك؟ قالوا: إذا كان الطفل دون البلوغ، أما إذا بلغ فأصبح رجلاً فيذهب حيث شاء، فقد يتركها ويذهب عنها، أما دون البلوغ فعاطفة الأمومة أشد إليه منها حينما يكبر، فغداً يكبر ويتزوج امرأة ولا يدري عن أمه شيئاً، أما دون البلوغ فالعاطفة مرتبطة به أكثر، وهنا سواءً كانت الأم مسلمة أو مشركة وهي أمة مملوكة، وكذلك الولد، علماً بأن الولد يُلحق بأفضل دين الأبوين، فلو أن نصرانياً تزوج مشركة، حكم للولد بدين النصارى؛ لأنه خير من الوثنية، ولو أن مسلماً تزوج كتابية، حكم للولد بدين الإسلام؛ لأنه أفضل من دين النصرانية.


ما يلحق بالنهي عن التفريق بين الأم وولدها
إذاً: مما نهي عنه في المبيع أن تفرق بين الأم وولدها، وهنا يأتي السؤال: وما حكم التفريق بين الولد وأبيه، والأخ وأخيه، والقرابة ذوي الرحم؟ لما كان حديث أبي أيوب بين الأصل والفرع، ويلحق الأب بالأم، أعقبه بحديث علي (أمرني أن أبيع غلامين أخوين ... ) .
إذاً: حديث أبي أيوب مع حديث علي رضي الله تعالى عنهم جميعاً يكملان لنا حلقة كل قرابة في الدرجة الأولى، الولد مع الأبوين، والأخ مع أخيه، والأخت مع أخيها، فهذه الدائرة لا يجوز أن يفرق بينها، إلى متى؟ قالوا: إلى حد البلوغ، وإذا ترك فيما بعد ذلك فهو أولى.
يقول أبو أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرّق بين الأم وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ففي الدنيا لو فُرّق بين الإنسان ومن يحب أسبوعاً لقلق عليه، وانزعج وتألم وتضجر، فكيف إذا فارقه سنة أو سنتين؟! لربما طار قلبه عليه، فكيف بما لا نهاية له يوم القيامة؟! ونعلم بأن الله سبحانه يجعل قرة أعين الصالحين من عباده أن يلحق بهم من تقر أعينهم بهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، فقد تكون الذرية ما وصلت إلى درجة الأبوين، ولكن الله -فضلاً منه ورحمة- يرفع درجة الأولاد ليلحقوا بدرجة الآباء إكراماً للأبوين (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وليس على حساب الوالدين، بل فضلاً من الله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] لم نأخذ من حساب الأبوين، ورفعنا به الأولاد حتى يتساووا، بل الأبوان على ما هما عليه من الدرجة، والأولاد والذرية كانوا بعيدين عنهم، فتفضل الله على الذرية البعيدة فألحقها بالأبوين، فضلاً من عنده؛ لتقر أعينهم بهم، فكيف إذا كان يوم القيامة ويُفرق بينه وبين أولاده؟! الله يجمع بينهم لتقر أعينهم، وهذا يعمل على أن يُفرّق بينهم.
وإذا قدر أن البيع انعقد فهل يتم البيع أو يفسخ؟ يفسخ، على ما جاء في حديث علي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) ، وسنأتي إليه إن شاء الله.


شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما، ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعاً) رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، وابن القطان] .


النهي عن التفريق بين ذوي الأرحام في البيع
قوله: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) يقولون: إن تدرج السن: من رضيع، إلى فطيم، إلى غلام، إلى شاب، فالرضيع معروف، والفطيم: هو من كان على وشك الفطامة، أو قد فُطِم، والشاب: ما بين أوائل التمييز إلى البلوغ، وبعضهم يقول: الغلام لغة: يطلق على الرجل الوافي، كما قيل في الحجاج بن يوسف: إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فهو رجل مقاتل، والعادة أن الغلام والجارية يطلقان على من كان دون البلوغ، وقد يطلق على ما بعده، أما في عُرف اللغة فيطلق على من بلغ إلى سن الثلاثين، وهو الشاب فقوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: صغيرين، لا يوجد لهما أم ولا أب، ولكن الأخوة.
وقوله: (فبعتهما وفرقت بينهما) فواحد ذهب إلى الشرق، وواحد ذهب إلى الغرب، وكل واحد مع الزبون الذي اشتراه.
وقوله:: (فجئت فأخبرت رسول الله على ما وقع مني) لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع، والبيع مطلق، وليس فيه تفصيل للاجتماع أو الافتراق، فلما وقع ما وقع من علي بالتفريق بينهما، وهو زائد عن ماهية البيع، بل الذي يفهم من قوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: بيعة واحدة، فالمتبادر إلى الذهن أن هذه الصيغة تدل على أن يبيعهما بيعة واحدة، أي: دون تفريق، ولكن اللفظ عام، فـ علي رضي الله تعالى عنه نظر إلى ماهية البيع دون قيد، فباع هذا هنا، وباع هذا هناك، فجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، وكأنه أوجس في نفسه أن الأمر ببيعهما لم يتناول التفريق.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أدركهما) وكلمة (أدركهما) ، وكأنه خاف الفوت، تقول: فلان أدرك الصلاة، أي: على آخر لحظة فلان أدرك الفائت، فلان أدرك من سبقه، وفلان أدرك السارق، وذلك إذا سرق شيئاً ثم فرَّ به فجريت وراءه، وأمسكت به، فلا تقل: لحقته، وقل: أدركته، لأن الدرك الظفر، و (أدركهما) صيغة تدل على التشديد، والحرص في اللحاق بهما.


إبطال البيع إذا فُرَّق به بين أخوين
ثم بيّن له صلى الله عليه وسلم فقال: (ولا تبعهما إلا جميعاً) لماذا؟ لأنهما أخوان، والتفريق بين الأخ وأخيه قطيعة للرحم، والله قد أمر بأن توصل، وكلمة الأخوين تشمل الأصناف الثلاثة: الشقيق، ولأب، ولأم، فمطلق الأخوة موجود، وإذا كان الرابط بينهما أبعد من الأخوة، كالرجل وابن أخيه، والرجل وعمه، أو الغلام وعمه، فهل يدخل في هذا أم لا؟ بعض العلماء وسع وقال: كل ذي رحم لا يفرق بينهما ما دام أنه دون البلوغ، وبعضهم قال: جاء النص في دائرة الدرجة الأولى: ولد مع أبيه، أخ مع أخيه، فهذه الدائرة تُسمى: بالقرابة من الدرجة الأولى، فهذا لا يُفرق بينهما، وإن وقع التفريق بينهما ببيع أو نحوه فإنه يُفسخ البيع ويُرد، ولا يباعان إلا جميعاً.


شرح حديث: (غلا السعر في المدينة)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: يا رسول الله! غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه، ابن حبان] .


سبب الغلاء وكيفية رفعه
غلاء السعر يكون بقلة السلعة، أو كما يُقال: الطلب من العرض، فتكون هناك المزاحمة على السلع، فترتفع الأسعار، وارتفاع الأسعار إما أن يكون بقلة السلعة، أو بحرص بعض المواطنين على الجمع، وسيأتي التنويه إلى هذا المعنى، فيأتي أصحاب الأموال إلى الأسواق، ويجمعون السلع، أعطاهم الله المال، فأخذوه وخزنوه، وقلَّت السلع في السوق، فغلا السعر، سواءً أخذه لنفسه، أو أخذه محتكراً، لبيعه فيما بعد، بصرف النظر عن الحكم، فهذا هو موجب غلاء السعر.
فقالوا: (يا رسول الله! غلا سعر فسعر لنا) ضع سعراً لا يتجاوزه التجار، وهذا ما يُقال له: التسعيرة، أو التسعير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو المسعر) وهل المراد أن الله سينزل أسعار السلع؟ ليس هذا هو المراد، ولكن الله تعالى هو الذي يرخص إذا أنزل البركة، وكثر الصنف، وكثرت الأسواق؛ رخصت السلع، وإذا منع المطر، ومنعت السلع وقلَّت؛ غلا السعر، فيكون المسعر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى وقوله: (القابض الباسط) القابض: يقبض الرزق عن عباده، فتقل السلع، فيغلو السعر، والباسط: يبسط الرزق لمن يشاء، فتتوفر السلعة، ولهذا يكون دائماً وأبداً الرجوع إلى الله (القابض، الباسط) .
وقوله: (الرازق) .
وهذا صريح بأن الله الرازق إذا أوسع الرزق للعباد رخصت الأسعار، وإذا ضيق عليهم غلت الأسعار، ولذلك فعلينا أن نفتش عن أسباب تضييق الرزق وأسباب منع القطر، وأسباب محق البركة؛ ليتجنبها الناس.
إذاً: السعر بيد الله؛ لأنه القابض، الباسط، الرازق، فبالقبض يكون الغلاء، وبالبسط والرزق يكون الرخاء.
ثم رجع إلى نفسه صلى الله عليه وسلم ليعلمنا بعض الآداب فقال: (إني لأرجو أن ألقى الله) .
وكلنا سيلقى الله، ولكن ليس الرجاء على أن يلقى الله، فإن لقاء الله حتمي وبدون رجاء، ولكن على القيد الذي بعده: (أرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني ... ) أي: أرجو أن لا أكون متحملاً لأحد منكم في ذمتي حقاً، في دم، أو مال، وقوله: (أحدٌ) عام شامل، بخلاف الواحد للعدد، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيه مطلق الوحدانية لله سبحانه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد) يشمل كل فرد على وجه الأرض من بني آدم، (منكم) أي: وليس لأحد منكم يا أصحاب الطلب له في ذمتي مظلمة، وكأنه يشير إلى أن التسعير إذا لم يوفق المسعر إلى الصواب، فهو ظلم لصاحب السلعة إن كان التسعير أقل من قيمتها، وظلم للمستهلك إن كان التسعير أكثر مما تستحق، وبهذا لا يسلم المسعر من مظلمة، (وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة) في ذمتي أو عندي، في أي شيء؟ (في دم ولا مال) سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلم في الدم؟! بعوضة لا يظلم فيها، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة! وإذا كان سيد الخلق -وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يخشى أن يلقى الله بمظلمة في دم أو في مال فغيره من باب أولى.
والكلام هنا هو في التسعير، والتسعير مال، ولكن لما كان الموقف موقف تحذير من الظلم في المال، جاء بالدم معه؛ لأنه أهم: (وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) أين محل المظلمة في المال؟ في التسعير؛ لأنه إما أن يكون زائداً عن القيمة فيكون ظلماً للمستهلك، أو ناقصاً عن القيمة فيكون ظلماً للمالك.


حكم التسعير للحاجة
ومع وجود هذا الحديث النبوي الكريم، الذي أعلن فيه صلى الله عليه وسلم براءته من الظلم في موضوع التسعير، فهل يجوز التسعير إن دعت الحاجة أم لا؟ ومتى يكون ذلك؟ ومن الذي يملك ذلك؟ هذا من جانب الفقه، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز التسعير، فالمسعر هو الله، وإذا وقع الغلاء فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه، وأصلحوا شأنكم؛ يبسط لكم الرزق، وجاء الناس إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم!) نحن نشتكي غلا السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟! قالوا: وكيف نرخصه وليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم، فكل واحد منهم ذبح عشر أو اثنتي عشرة شاة، وذاك ذبح بعيراً.
إلخ، وكلهم ينتظر إتيان الناس ليبيع، فلم يأتهم أحد، فبالأمس كانوا يقولون: الأوقية -مثلاً- بريالين، واليوم يقولون: بريال ونصف، فإذا ذهب نصف النهار قالوا: بريال وربع، فإذا أذن العصر قالوا: بريال، وسيبيعون ولو بنصف ريال، وهو أحسن لهم من أن يعفن اللحم ويرمى، فقال: أرخصوه أنتم، وكيف نرخصه ولا نملكه؟ قال: اتركوه، وماذا لو تركتم اللحم يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً، وكلوا غيره، فإذا علِم الجزارون أنهم إذا رفعوا السعر تركه الناس، فلن يرفعوا السعر، وهكذا بقية السلع، لكن إذا كان هذا في اللحم، وقد يكون من الكماليات في الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل الخل والزيت والملح ويكتفي الإنسان بالذي يكون.
لكن إذا كان الغلاء في أمر ضروري، كالدقيق، والملح، والدهن، وهذه الأشياء التي لا غنى عنها، فماذا يكون الحل؟ ينص الفقهاء على أنه إن حصل الغلاء بسبب جلب النوع من السوق إلى المستودع من قبل تاجر الجملة، ويسمى المحتكِر، فجمع السلعة من السوق وقال: الآن السلعة موجودة إبانها التمر وقت الجُذاذ الكل مليء إلى أن تمضي مدة، وكل واحد استهلك الذي عنده، ثم ذهب يبحث في السوق فلم يجد السلعة، وذلك التاجر ما زال يخزن السلعة، ولا يريد بيعها الآن، وينتظر حتى يرتفع السعر قليلاً، فهذا هو المحتكِر على ما سيأتي، ولا يحتكِر إلا مخطئ.


أقسام المحتكر
قالوا: المحتكِر على قسمين: محتكر لا ينتظر ارتفاع السعر، ولكن ينتظر خفة الصنف من السوق، فيمُد الناس، يقول مالك في هذا: قد يكون محسناً؛ لأنه وفر السلعة، وأخرجها عند الحاجة بسعر يومها.
ومحتكِر ينتظر ارتفاع السعر ليتحكم، فحينما اشتدت بالناس الحاجة أخذ يتحكم في السعر، فما كان سعره عشرة جعله بخمسين، وليس كل الناس يستطيع أن يضاعف الثمن خمس مرات، قالوا: في هذه الحالة لولي الأمر أن يتدخل بما يحقق (لا ضرر ولا ضرار) ، إذا أبعدنا نظرية التحكم، ومع عدم وجود هذا الصنف في السوق فكم يساوي؟! يساوي كذا، فيُلزم التاجر أن يبيع بذلك السعر، وكما يقول الفقهاء: يُقدر له ربح محتمل، ويأمره أن يبيع بالسعر الفلاني، قالوا: هذا لا بأس به؛ لأن فيه مصلحة المستهلك، وفيه رفع مظلمة المحتكِر.
ويقول ابن تيمية -في هذه المسألة- وابن القيم في الطرق الحكمية: ونظير ذلك أرباب المهن الضرورية، التي يحتاج إليها الناس، ومثل بالسقائين، والخبازين، وفي الماضي كان السقَّائون يحملون الماء في آنية بين طرفي عود، ويأتون بالماء من العيون ونحوها إلى البيوت، فإذا أضرب هؤلاء فماذا تعمل العجوز في بيتها؟ وماذا يعمل الشيبة في بيته؟ وماذا تعمل المرأة المخبأة المخدرة في بيتها؟ سيضطرون إلى الخروج لجلب الماء، وهذا مناف لوضعهم الحقيقي، وليس كل إنسان يستطيع أن يحمل قربته، فيذهب ويأتي بالماء، وكذلك الخبازون إذا أضربوا فالبيوت ليست مهيأة للطحن والعجن والخبز، بناءً على أن الأفران تشتغل، والخبز ينزل إلى السوق، ويشتري الناس حاجتهم.
يقول ابن تيمية رحمه الله وابن القيم: حينئذٍ يُلزِم ولي الأمر هؤلاء بالعودة إلى العمل إجباراً، ولا يسمح لهم بالإضراب، وتعطيل مصالح الناس؛ لأن الناس ارتبطت حياتهم بذلك، وكذلك نحن الآن نقول: لو أن عمال مصلحة المياه (السقاءون) أضربوا عن العمل وتوقف تسيير المياه إلى البيوت، أو الصيانة، فعلى ولي الأمر إجبارهم على العمل؛ لأنه بتوقفهم تتوقف مصالح الناس، وكذلك الكهرباء لو أن عمال الكهرباء أضربوا، لأن الأجرة قليلة، يُقال لهم: زاولوا عملكم واطلبوا الزيادة، ولا تضربوا فتعطلوا مصالح الناس.


لولي الأمر أن يسعر إذا دعت الحاجة
وهكذا بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يرجو أن يلقى الله وليس في ذمته مظلمة لأحد، فإذا وقعت الحاجة واضطر الناس، فهل يقول ولي الأمر: أرجو ألا ألقى الله وفي ذمتي مظلمة لأحد، أو يتدخل بما يرفع الضرر عن الطرفين (لا ضرر ولا ضرار) فيأتي بأرباب الخبرة لتقدير سعر شراء تلك السلعة، وكم يعطى للتاجر من أرباح عليها، فيقدر أرباب الخبرة الأسعار، ويلزم ولي الأمر التاجر بذلك السعر، فيكون حداً فاصلاً بين المالك والمستهلك.
وكان في السابق إذا أردت أن تأخذ شيئاً من الدكان، فتجده -مثلاً- في هذا الدكان بخمسة، وفي الدكان المقابل بعشرة، فلا يوجد ضابط للسعر في السلعة، وهذا أكثر ما يكون في الصيدليات، فتتفاوت الأثمان بكثرة، والناس لا يعرفون قيمة الدواء، ولا بكم تكلفته، والمريض مضطر إلى أن يشتري، أما الأشياء المتداولة يومياً، من سكر، وشاي وصابون، ولوازم، فهذه أسعارها متداولة عند الناس، أما الأدوية فمجهولة، فلما وقع مثل هذا قام المسئولون ووضعوا على كل دواء سعره؛ لئلا يُخدع الجاهل بالأسعار، ولا يغتنم البائع جهل المشتري فيتحكم كيفما شاء.
إذاً: هناك أشياء اتفق على تسعيرها للجهالة بحقيقتها عند عامة الناس، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)
قال المصنف رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم] .


الاحتكار: معناه، وحكمه
الاحتكار: هو جمع السلعة أياً كانت، سواء كانت من المطعومات، أو الملبوسات، أو أدوات منزلية، أو أي نوع من الأنواع، جمعه واحتكره لنفسه وسكت عليه، والخاطئ: اللغة فيها خاطئ ومخطئ، والمخطئ ضد العامد، وهو الذي يرتكب الشيء خطأً دون ما قصد إليه ولا عمد (رفع لأمتي الخطأ والنسيان) ، أما الخاطئ فهو الذي يتعمد الذنب (لا يحتكر إلا خاطئ) أي: مذنب آثم، بخلاف المخطئ الذي يقع في الفعل دون ما قصد منه.
وقد أشرنا إلى أن الاحتكار قسمان: احتكار لنفسه، وهذا لا يسمى محتكراً، بل يسمى خازن خزن لنفسه، ويجوز للإنسان أن يخزن لنفسه ما يكفي بيته سنة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك من سهمه من خيبر ومن غيرها، فإذا جمع الإنسان لنفسه في بيته فلا شيء في ذلك؛ لأنه لا يريد غنيمة على حساب الآخرين، إذا لم يكن لنفسه وكان للسوق، فإما أن يقصد بهذا الاحتكار تواجد الصنف، وارتفاع السعر أمر طبيعي يتحكم فيه السوق، وحينما يقل الصنف قدمه دونما تحكم، فهذا أيضاً ليس بخاطئ، ولكن المحتكر الخاطئ الذي يتعمد جمع الصنف ويرى بالناس حاجة فلا يبرزه، إمعاناً في حاجتهم، وطلباً في زيادة السعر، فهذا هو الخاطئ، وهذا هو الذي من حق الحاكم أن يتدخل في أمره.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [10]
لقد أقام الإسلام العدل بكل صوره، ونهى عن الظلم بكل صوره، ولذلك فقد نهى الشارع الحكيم عن بعض المعاملات والبيوع التي فيها ظلم وغش للمشتري، ومن ذلك: النهي عن تصرية الماشية وبيعها، ومن اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، وذلك حتى تعود الماشية إلى إنتاجها الطبيعي، فإن ردها رد معها صاعاً من طعام، وكذلك نهى الإسلام عن الغش بكل صوره، وأوجب النصح في البيع مع كل الناس مسلمهم وكافرهم، ونهى عن بيع العنب وغيره لمن يتخذه خمراً، فإن في ذلك مشاركة له في الإثم والعدوان المنهي عنه.


شرح حديث: (لا تصروا الإبل والغنم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر) متفق عليه.
ولـ مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) .
وفي رواية له علقها البخاري: (ورد معها صاعاً من طعام، لا سمراء) .
قال البخاري: (والتمر أكثر) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعاً) رواه البخاري، وزاد الإسماعيلي: (من تمر) ] .
هذا موضوع جديد، يدخل في النهي عن الغش والتدليس، وكل ما كان فيه غش أو تدليس ونحوه فإن هذا الحديث أصل في النهي عنه، مع ما سيأتي في قصة صاحب الصبرة: (من غش فليس مني) .
والتدليس: هو أن تُري السلعة في ظاهرها أحسن منها في باطنها، وسبحان الله! فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم زاول كل عمل من أعمال الناس، فعرف ما فيه من حق وباطل.
فقوله: (لا تُصَروا) أو (لا تُصِروا الإبل والغنم) لماذا لم يذكر البقر؟ لأن البقر كانت قليلة في الحجاز، وبما أنه جاء بأعلى شيء وبأدنى شيء فما بينهما يأخذ حكمهما.


معنى التصرية وحكمها
والتصرية: هي أن تضع شيئاً في خرقة كبيرة وتلفها وتربطها عليه، فهذه الخرقة تسمى صرة، وكذلك الكيس الذي تضع فيه شيئاً يسمى صرة، والماشية تصرى بأن يجمع حليبها في صرتها، والصرة عند الناقة والشاة هي الضرع، وجمع حليب الماشية في صرتها هو: التحفيل، ومنه المحفل والحافل، والحافلة، وهي السيارة الكبيرة التي يجتمع فيها العدد الكثير.
والتصرية: هي جمع الحليب في الضرع عند إرادة بيع الماشية، والعادة أن الناقة -مثلاً- والشاة تحلبان مساءً وصباحاً، فإذا أراد صاحبها أن يبيعها من الغد تركها في الليل ولم يحلبها، وكذلك في الصباح أيضاً، فيذهب بها إلى السوق وهي صارة؛ لأنه حبس وجبتين في ضرعها، ولأي شيء يفعل ذلك؟ يفعل ذلك إيهاماً للمشتري بأنها تنتج اللبن بكثرة.
والضرع إذا صُري يصير مشحطاً، وهذا فيه مضرة على الدابة، والدابة إذا صُريت احمرت عيناها، وانتفخت الأوردة التي تحت البطن المرتبطة بالضرع، وربما ماتت لذلك، فإذا كانت التصرية لوقت قليل فإنها تسلم، وإذا كانت لوقت طويل فإنها تضرها، وقد يتفلت الحليب ويتقاطر ولا تقوى الحلمات على حبسه.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تصرى الإبل والغنم لئلا يحدث الغش، فقد يأتي إنسان ويرى الحليب كثيراً، فيظن أنها قوية الإنتاج، وليست كذلك، ولكن التصرية هي التي جعلتها كذلك، فيكون قد غر المشتري، ودلس عليه، وأوهمه أن هذه طبيعتها، ولكن الناس قد تعلموا، وعرفوا المصراة من غير المصراة، وأصبحت -كما يقال- لعبة معروفة، وما بقي إلا تعذيب الحيوان، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية بصفة عامة؛ لئلا يعذب الحيوان بذلك، فإذا بيعت بالتصرية فيكون تدليساً.


الخيار في المصراة إلى ثلاثة أيام والعلة من ذلك
وماذا يفعل الإنسان إذا خدع واشترى ماشية مصراة؟ هو بالخيار لمدة ثلاثة أيام، ولماذا ثلاثة أيام؟ لأن الماشية مصراة، فإذا حبلها أول مرة فسيحلب الحليب المتجمع منذ يومين، ولأن العادة أن التي صريت وحلبت وأخذ كل ما فيها، لا تأتي بكمية الحليب المعتاد يومياً من اليوم الثاني مباشرة؛ لأن خزن الحليب في الضرع أثّر على غدد الحليب، فيكون هناك رد فعل، فإذا كانت في الأيام العادية تنتج ثلاثة كيلو من الحليب، ولما صريت أنتجت ثمانية كيلو، فمن الغد لا تنتج إلا اثنين كيلو، ولا ترجع إلى طبيعتها -لأنها واقعة تحت تأثير التصرية- إلا في اليوم الثالث.
ومن هنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام، فاليوم الأول: لوجود التصرية، والتدليس، واليوم الثاني: لا نعوّل عليه؛ لأنها متأثرة برد الفعل، واليوم الثالث ترجع فيه إلى طبيعتها وعادتها، وتأتي بالحليب المعتاد إنتاجه يومياً.
فإن رضيها في اليوم الثالث فالحمد لله، ويمضي البيع الأول؛ لأنه قد علم أنها مصراة، وعلم إنتاجها الطبيعي وكميته، فقبل ذلك، فلا شيء في ذلك.
ولكن إذا حلبها وجربها في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث فلم يعجبه إنتاجها، فهو بالخيار إن شاء أمسكها على ما وجدها عليه، وإن شاء ردها إلى صاحبها، ورد معها صاعاً من تمر، أو صاعاً من طعام.


خلاف الفقهاء في موجب الصاع المردود مع المصراة
واختلف الفقهاء في هذا الصاع، لماذا يُعطى، ومقابل ماذا؟ فقيل: مقابل الحليب الذي أخذه، ولكن كم أخذ من الحليب؟ فإن الصاع معلوم، وكمية الحليب مجهولة، فدخل القياس ودخل التقدير، وخاض الناس في أشياء كثيرة، وقيل: إذا كان الصاع قيمة للحليب، فهذا طعام بطعام، فكيف نبيع معجلاً بمؤجل؟ وكيف نقدره؟ فالصاع معلوم، والحليب غير معلوم.
وإذا قيل: هذا من باب المجاملة، وكيف تكون مجاملة وقد أخذ الحليب، ورد الماشية على صاحبها؟ ومن هنا قال بعض العلماء: إما أن يقبلها، وإما أن يردها من غير صاع؛ لأن ردها مع الصاع مخالف لقواعد البيع.
ولكن نقول: هذه صورة مستقلة من صور البيوع، ولها حكم مستقل، فإذا رددنا النصوص من أجل مغايرة صورة من الصور -هي بذاتها مستقلة- فسنبطل أشياء كثيرة، ولهذا فإن الذين منعوا الصاع في هذه منعوا القسامة في الدم، وقالوا: أساس القضاء أن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهؤلاء ادّعوا الدم، وحلفوا قبل المدعى عليهم، فكيف يدّعي ويحلف؟! فعليهم البينة، لا أنهم يدّعون ويحلفون.
وقد قيل لهم: هذا تشريع مستقل، وقيل أيضاً: إنه يتمشى مع قوانين القضاء السليمة؛ لأن اليمين جعلت في الجانب الأقوى، والبينة فيمن كان موقفه ضعيفاً، فإذا جئنا إلى المدعي والمدّعى عليه -في ألف ريال مثلاً- فادعيت عليه بألف ريال، فما هو الأصل بينكما؟ الأصل هو عدم وجود الألف، إذاً: المدّعى عليه معه البراءة الأصلية، وأنت ادعيت عليه بخلاف ذلك، فموقفه أقوى؛ لأن معه البراءة الأصلية، وموقفك أضعف؛ لأنك تريد أن تنقله من براءته إلى اتهامه، فعليك بالبينة.
وإذا جئنا إلى القسامة، فإن مدعي الدم جانبه أقوى؛ لأن القسامة لا تكون إلا مع اللوث والتهم القوية، فوجود التهمة في القتل؛ لوجود القتيل في محلة المدعى عليهم، ووجود العداوة السابقة، ووجود الوعيد، ونحو ذلك، فهناك قرائن اجتمعت بجانب المدعين، فيكون جانبهم أقوى، فيكون اليمين مع الأقوى، والذين ينفون عن أنفسهم القتل جانبهم ضعيف؛ لأن في بطنهم شيئاً، وكذلك هنا، يقال: هذه صورة بيع مستقلة، لا تقاس على غيرها، فإذا قستم كان قياساً فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنص الصحيح.
وخلاصة موضوع المصراة: أنه إذا اشتراها الإنسان ومكثت عنده ثلاثة أيام، فإن رضيها على ما استقرت عليه فذاك، وإن ردها، وسخط حليبها، فيرد معها صاعاً من تمر ومن طعام، إلا السمراء، وهي البر الشامي، فالتمر يكون مما تيسر ومما وجد، وسواء كانت المردودة شاة، أو ناقة، أو بقرة، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (من غش فليس مني)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحبَ الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غشَّ فليس مني) رواه مسلم] .
هذه جولة في الأسواق منه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه إن كان في القتال كان في مقدمة الصفوف، وإن كان في الصدقة كان كالريح المرسلة، وإن كان في العبادات قام حتى تفطرت قدماه، وإن كان في الاجتماعيات فكذلك، فما ترك صغيرة ولا كبيرة صلوات الله وسلامه عليه إلا ودلنا على خيرها، وحذرنا من شرها، وكان أول من يعمل بذلك.
فخرج إلى السوق ليرى أحوال الناس؛ لأنه مسئول عن ذلك، وقد اتخذها الخلفاء سنة، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يأتي إلى السوق ويختبر الباعة، فمن وجده جاهلاً بأحكام البيع، والربويات، والمكاييل، والموازين، أقامه من السوق وقال: (لا تفسد علينا سوقنا، ولا تحرمنا نزول القطر من السماء) .


بيع الطعام أكواماً
وها هو صلوات الله وسلامه عليه يمر في السوق بصبرة، والصبرة: الكومة من الطعام، والحب تارة يوضع في الأكياس، وتارة يوضع في الجفف، وتارة يُصبّر أكواماً، وخاصة عند أيام الجرين، يكثر في السوق، ويكون أكواماً، فيأتي المشتري ويشتري بالصبرة، أو بالكيل، وأحكام هذا موجودة في البيوع، فيجوز شراء الصبرة على ما يراها بعينه، ما لم تكن الصبرة قد وضعت على أرض ناتئة، أو كانت تحتها صخرة كبيرة، أو كانت الأرض منخفضة.
ويجوز بيع الصبرة وشراؤها إذا كانت على أرض مسطحة، وكانت القاعدة مستوية، لا مرتفعة فتأخذ حيزاً من الحب، ولا منخفضة فتأخذ حباً أكثر.


الوعيد الشديد لمن غش في بيعه وشرائه
فأدخل صلى الله عليه وسلم يده في الصبرة، فهي مفتوحة لكن يسوى لها قفة، فلما أدخل يده أصابت بللاً، وكان البلل من نفس الصبرة، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام) بعض الناس قد يرش الحنطة، أو الشعير، أو الذرة، فإذا تشربت الماء ثقلت وكبرت، وزهت، ولمعت، وفي هذا غش، فالرجل اعتذر، وقال: (أصابته السماء يا رسول الله!) أي: ماء السماء، وحذف ما يعلم جائز، فكأنه قال: أنا لم أغش، ولم أعمل شيئاً، ولكن الله أرسل الماء من السماء فنزل عليها، وهل هذا ينفعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانت أصابتها السماء، فكيف أصابت السماء الأدنى دون الأعلى؟! وقد يقال: جاءت الشمس والرياح على الأعلى وجففته، فالناظر يرى حباً يابساً جافاً ليس فيه رطوبة ولا ماء، فما دام أن السماء أصابته، وأنت لا ذنب لك في هذا الماء، فلماذا لم تجعل بلل الداخل ظاهراً حتى يراه الناس؟ ولماذا تركت الجانب الخارجي اليابس ظاهراً، فيراه الناس فيظنونه جيداً من الداخل؟! ولذلك قال له: (من غش فليس مني) (من غشنا فليس منا) .
إذاً: التدليس والغش في السلعة فيه هذا الوعيد.
والناس يكثرون الكلام في قوله: (ليس منا) ، وهل المراد: أنه خرج عن الإسلام وصار كافراً؟ أو ما معنى: (فليس منا) ؟ منا: تكون لجماعة الأتقياء، الأبرار، المتقين، المحسنين، الأمناء، وليس معنى ذلك: أنه يخرج عن مجموع جماعة المسلمين، ولكنه وعيد شديد، وبعض العلماء فيقول: مثل هذا النص لا يفسر، ولا يشرح، ويترك على إجماله؛ لأنه كالسوط المعلق، فمن رآه أرهبه، وهذا من أشد الوعيد فيما يتعلق بالغش.


وجوب النصح وحرمة الكتمان
وهذا يعطينا أيضاً أن الشخص إذا وقع على سلعة فيها شيء وسكت عليه، فحكمه كفاعله.
وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل ولماذا تسكت عليه وقد عرفت أن فيه غشاً؟! إذاً: الغش منك هنا أنك أخفيته، وسكت عنه، فلا ينبغي لإنسان أن يخفي عيباً، سواء كان العيب منه أو من غيره، فإذا ما أخفاه واطلع عليه المشتري -وكان له حظ من الثمن- فله الخيار إن شاء رد السلعة وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ أرش النقص بسبب العيب.


الغش في الأِشِياء الخفية أشد إثماً
إن بلل الطعام مع الطعام واضح كالشمس، لكن هناك أشياء قد لا يدركها الإنسان، وكما يقولون: إن هناك سلعاً كاللؤلؤ الصناعي، فقد أصبح الآن يخفى على صانعه أنه صناعي أم أصلي؛ لدقة ما توصلوا إليه من المحاكاة، فإذا كانت هناك أنواع من الخرز، أو أنواع من الأقمشة، أن أنواع من الزيوت، أو أنواع من الدهون، أو أنواع من الحبوب، ونحوها ويخفى على الشخص العادي أن يفرق بينها، كالدهون فإنه يشاكل بعضها بعضاً، والعسل قد يدخل فيه بعض العناصر الأخرى، وما كل الناس يفرق بينها، والزيوت كذلك.
إذاً: هذا الحديث في أمر لا يحتاج إلى دراسة ولا إلى فراسة، ولا إلى معرفة كبيرة حب يابس، وحب مبلل، لا يخفى على أحد، أما الأشياء الخفية فإن الجرم فيها أكثر؛ لأن الشخص لو أخذ هذا على أنه مبلل، وأن السماء أصابته، فإنه يرى ذلك، أما إذا أخذ شيئاً وقد خُلط بغيره على سبيل الغش والتدليس وخفي عليه ذلك، فإن هذا جرم عظيم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مضى في الأسواق، ورأى، ونصح، وعمر كذلك كان يأتي إلى الأسواق كما أشرنا، بل كان يعس ليلاً في أزقة المدينة يستطلع أحوال الناس، وكما يذكرون: أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء، فقالت لها ابنتها: أما سمعت نداء عمر بمنع مزج الحليب بالماء؟ قالت: وأين عمر منك الساعة؟! قالت: ما كنت لأطيعه حاضراً وأعصيه غائباً.
فقال عمر لمن معه: اعرف هذا البيت، ثم من الغد سأل عمن فيه، وأعجب بديانة وأمانة الفتاة، وخطبها لولده، فكانت جدة عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان السلف في أمانتهم، وفي انضباطهم وطاعتهم لله ولمن ولاه الله عليهم.
ونظير ذلك تلك المرأة التي كانت تطوف بالبيت وهي مريضة بالجذام -عافانا الله وإياكم- والجذام ينفر منه الناس ويتقززون منه، ويتباعدون عنه، فجاء عمر بجانبها وهمس إليها: يا أمة الله! لو خرجت من المطاف ولزمت بيتك كان خيراً لك، فلم تكمل الشوط وخرجت مباشرة، ومكثت في بيتها إلى أن توفي عمر، فأتاها آتٍ فقال لها: يا أمة الله! اخرجي، فقالت: لماذا؟ قال: إن الذي كان قد نهاك قد مات، فقالت كلمتها العظيمة: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، فرب العزة حي لا يموت.
والذي يهمنا هنا ما يتعلق بالغش الذي لا يظهر لكل الناس، ومن النوادر التي سمعتها من والدنا الشيخ الأمين: أن بعض شيوخه كان في القاهرة، وكان يأتيهم اللبان في كل يوم بلتر من الحليب، وكان الشيخ ينبهه إلى خطورة الغش في اللبن بوضع الماء فيه، وكان اللبان يقول: نعم، الغش حرام، وأنا لا أغش، وكان الشيخ يأخذ الحليب، فيجيء الخادم ويجهزه له، وفي يوم من الأيام جاء اللبان والخادم غير موجود، فقال الشيخ للبان: اترك الحليب هنا وهات الماء من تلك الثلاجة، فذهب وأتى بالماء من الثلاجة، فقال له الشيخ: ضع الماء على الحليب، فقال: كيف أفعل ذلك وأنت كل يوم تقول لي: لا تضع الماء على الحليب وأن هذا غش؟! وكيف تريد مني أن أفعل ذلك عندك؟! فقال الشيخ: هذا حقي أنا، فقال اللبان: وذلك الحليب حقي أيضاً، فكما أنك تضع الماء إلى حليبك، فسأضع الماء في حليبي أيضاً! فقال الشيخ: أنا أشربه ولا أبيعه، أما أنت فإنك تبيع الحليب، فإن وضعت فيه الماء فإن هذا غش؛ لأنك بهذا تكون قد بعت لبناً وماءً، أما أنا فأريد أن أشرب لنفسي ولا أبيع، فقال له: أبداً يا شيخ! من الآن سأضع الماء في الحليب.
يهمنا أن هناك بعض السلع لا يكاد الإنسان يدرك أن فيها غشاً، فيكون الذنب على صاحبها أشد؛ لأنه غرر وغش وتدليس، بخلاف ما إذا كان الشيء معروفاً للناس، وقبله المشتري، أو رغب فيه، أو رضي بحاله.


النهي عن الغش عام في كل شيء
ثم إن هذه القاعدة العامة: (من غش) على عمومها تشمل كل غش، ولو كان في التراب، أو غش في الإسمنت، بأن كانت المادة الحديدية فيه ناقصة، أو كانت نسبة الأسمنت على الرمل ناقصة، وكذلك تمديد الحديد، فلو كان ناقصاً عن المتفق عليه لكان غشاً.
فالنهي عن الغش مطلق في أي سلعة، قليلاً كان أو كثيراً، وهي من القواعد العامة، ويدخل فيها الغش في الدراسة؛ فالأستاذ يعتبر غاشاً للطلاب إذا لم يبين لهم كل شيء، ولم يجتهد في إيضاح المشكل عليهم، وكذلك مدير الدائرة ورئيسها إذا لم يؤد الواجب عليه للمواطن فإن هذا من الغش، فإذا أنقص إنساناً حقاً يستحقه -ولو كان بمقدار رسم- فإن هذا غش.
إذاً: (من غش) ما تركت مجالاً من مجالات الحياة إلا وامتدت إليه، وهذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم.


النهي عن الغش عام للمسلمين وغيرهم
وجاء الحديث بلفظ: (من غشنا) وهذا اللفظ قاصر على المسلمين، لكن رواية: (من غش) عامة تشمل المسلم وغير المسلم؛ لأن في قصر هذا الحكم على المسلمين اتهاماً للإسلام، وتقبيحاً للإسلام في أعين غير المسلمين، فإذا وجد اليهودي أو النصراني أن المسلم يغشه فماذا سيقول عن الإسلام؟! ولكن حينما يرى العدل والحق يطبق على المسلم وعلى غير المسلم، يعرف أن الإسلام هو الدين الحقيقي.
وقد ذكرنا قصة علي مع اليهودي، في الدرع الذي سقط من علي وأخذه اليهودي، فقال له علي: هذا درعي.
فقال: بل هو حقي وهو في يدي، فقال: نحتكم إلى القاضي.
فذهب علي باليهودي إلى القاضي شريح،.
فقال: ما قضيتكما؟ قال علي: هذا درعي في يد اليهودي، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟ قال: بل هو درعي وفي يدي، فقال القاضي: ألك بينة يا علي؟ قال: نعم، قنبر والحسن بن علي، فقال: أما قنبر فغلامك وعتيق فنعم، وأما الحسن فابنك، فلا نقبل شهادته لك، قال: أما تخشى الله؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وأنت ترد شهادته! قال: والله ما رددت شهادته، وإني لأعلم أنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، ولكن ولدك لا يشهد لك؛ لأن الشرع جعل ذلك موضع اتهام، فهل عندك شاهد آخر؟ فقال: لا، فقال القاضي: اذهب يا يهودي! بالدرع، فخرجا، حتى إذا كانا عند الباب وقف اليهودي مبهوتاً، وقال: يا علي! أهكذا القضاء عندكم؟! قاضيك الذي نصبته أنت يطالبك بالبينة على يهودي! ويرفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؛ لأنها شهادة رجل لأبيه؟! قال: نعم، هذه عدالة الإسلام، فقال: أشهد أنه الدين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدرع لك، فإنه سقط عن راحلتك فأخذته، وقد أنكرتك لأنظر ماذا ستفعل بي وأنت الخليفة، وماذا سيحكم القاضي وهو من وليت، أما والأمر كذلك فإن هذا درعك، فما كان من علي رضي الله تعالى عنه إلا أن قال: هو لك، ومعه مائتا درهم.
لأنه أظهر صدق علي، وإلا لكان علي قد ادّعى دعوى غير ثابتة.
والذي يهمنا أن قوله: (من غش) على عمومه، فتشمل حتى الكافر، أما إذا كان حربياً، فإن دم الحربي مباح، أما الذمي المعاهد المقيم فله حق الإقامة، فهو معصوم الدم والمال، ولا يجوز الاعتداء عليه؛ لأن ولي الأمر أعطاه أمان الإقامة، فلا ينبغي لإنسان أن يغشه، ولا يجوز أن يتعامل معه تعاملاً ربوياً.


شرح حديث النهي عن تلقي الجلب
قال المصنف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقي فاشتري منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) رواه مسلم] .
هذا تابع لما قبله، وفيه زيادة: بأن من تلقي الجالب واشترى منه، ثم جاء الجالب إلى السوق، ورأى أنه غبن فهو بالخيار، فله الخيار في إمضاء البيع، وله الخيار في فسخه ورد الثمن.


النهي عن حبس العنب وبيعه لمن يتخذه خمراً
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن] .
النظر في الأسباب والمسببات، والغاية والوسيلة أمر مهم في إيقاع الحكم، والقاعدة تقول: الوسيلة تأخذ حكم الغاية، فإذا كانت الغاية واجبة فوسيلتها واجبة، على القاعدة الأصولية: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
فمن أخر بيع العنب -العنب نضج والناس تبيعه في السوق- فأمسكه حتى يزيد في النضج، ثم يبيعه لزبائن مخصوصين، يطلبون زيادة النضج ليتخذوا منه خمراً، والخمر من هذا النوع يكون أسرع وأقوى منه في العنب الفج الجديد.
وبعض الطيور تخمر العنب على الشجرة، خاصة النّعر، وأهل البساتين يعرفون هذا، فيأتي إلى الحبة الكبيرة التي ليست في مواجهة الشمس فينقرها من أعلاها -من جهة العنقود- نقراً صغيراً، قد يكون سمكه ملي ونص أو اثنين ملي، ويأخذ منها قطرة أو قطرتين، ثم يذهب إلى الطين ويأخذ طيناً ويسد هذه الفتحة، ولما دخل الهواء إلى العنبة أغلقها عن الهواء مرة أخرى، والهواء الذي دخل فيها يتفاعل مع مائها حتى تتخمر، وينتظرها أياماً معروفة عنده، ثم يأتي -يقول بعض الإخوان: إن ذلك يكون غالباً في العصر- فيسحب الطين عنها، ثم يشرب ما فيها وقد تخمرت، ثم ترى هذا الطير يغرد ويغني في محله هناك! فتأخير العنب إلى آخر وقته يساعد على قوة الخمرية.
والحديث عام، فمن باع العنب في أول ظهوره، أو البسر في أول ظهوره، أو المشمش، أو الخوخ، أو البصل، أو أي نوع من الأنواع التي تتخذ منها الخمور -وهو يعلم أن المشتري يشتريها لذلك- فهو متقحم باباً من النار على بينة؛ لأنه تعاون معه على الإثم والعدوان.


ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
ويبني الفقهاء على هذا الحديث: أن كل من تعاون مع صاحب إثم على إثمه فهو مشارك له في الإثم، وهذا واضح فيمن أخّر العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، ومنثله من أجّر بيتاً لمن يتخذه مصنعاً للخمر، أو لمن يجعله محلاً لبيع الخمر، أو لمن يبيع الأقداح والكؤوس التي يصب فيها الخمر، أو يبيع اللوز والجوز لهذا الذي يبيع الخمر؛ لأن الزبائن يستعملونه وقت شرب الخمر، فكل هؤلاء متقحمون باباً من النار.


النهي عن محاكاة أهل المنكر في منكرهم ولو بالحلال
وينص الحنابلة: على أنه لو أتينا بالحليب أو الشاي -علماً بأن الشاي لم يكن معروفاً في زمانهم- أو بأي شراب حلال، وشربناه في أوانٍ وكؤوس العادة أنه يشرب فيها أرباب الخمر خمراً -على هيئة شراب الخمر ولو كنا قد صفينا هذه الأواني- فإن في ذلك إثماً؛ لما في ذلك من مشابهة ومشاكلة لأصحاب الخمر، ومثل ذلك ما يقع في بعض المناسبات: فتجد الناس يتبادلون كؤوس الشاي ويقولون: (نخب فلان) ، وهذه عبارة لأصحاب الشراب المحرم، فأي هيئة تحكي هيئة شراب محرم أو استعمال محرم فهي حرام.
إذاً: كل من تعاون على إثم فهو آثم، وخاصة حينما يعظم الإثم، كهذا الذي يؤخر بيع العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، وقد جاء في الحديث: (لعن الله في الخمر عشرة: شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها إلى شاربها، وبائعها ... ) ، فكل هؤلاء مشاركون في هذا الإثم العظيم، وكذلك لُعن جماعة بسبب التعاون على أكل الربا.
إذاً: العنب عبارة عن مثال، وكونه يؤخر فهذه صورة الواقع، وكذلك لو باعه في بادئ الأمر لمن يتخذه خمراً فإنه داخل في هذا الحكم، ويشمله هذا الوعيد الشديد.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [11]
إن من عظمة هذا الدين اشتماله على القواعد العامة التي تدخل فيها جزئيات لا حصر لها، وإن تغير الزمان والمكان ومن ذلك قاعدة: الخراج بالضمان، وهي قاعدة كفيلة بحل كثير من مشاكل البيوع.
كما أجاز الشارع للوكيل أن يتصرف في ملك موكله بما أذن له فيه الموكل، فإن تصرف فيما لم يؤذن له فيه -في مصلحة موكله- فإن ذلك متوقف على إجازة المالك ومنعه.
ومن حكمة الشارع أنه لم يجعل حداً معيناً للربح، ولكن لا يجوز استغلال الجهلة بالأسعار وغبنهم، ومن غبن غبناً فاحشاً فله حق فسخ العقد أو استعادة الغبن.
وكل بيع فيه جهالة وغرر فإنه لا يجوز، ولذلك لا يجوز شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، ولا ما في ضروعها، ولا يجوز شراء العبد الآبق، ولا المغانم حتى تقسم وتستلم، ولا الصدقات حتى تقبض، ولا ضربة الغائص، وكذلك كل ما كانت فيه جهالة أو لا يستطاع تسليمه.


شرح حديث: (الخراج بالضمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان] .
هذا الحديث قاعدة من القواعد الفقهية، ومن الصعب على طلبة العلم التفريق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية.
فمن القواعد الفقهية: (المشقة تجلب التيسير) ، (لا ضرر ولا ضرار) ، (الخراج بالضمان) ، فهذه قواعد فقهية.
أما الأصولية فمثل: (الأمر للوجوب) ، (النهي للتحريم) ، (العام يحمل على الخاص) ، (المطلق يحمل على المقيد) ، فهذه أصولية في طريقها، وتلك فقهية في طريقها.


الخراج بالضمان قاعدة عامة في البيع والشراء
فقوله: (الخراج بالضمان) قاعدة تحل عامة مشاكل البيع والشراء، والخراج: هو الكسب والربح؛ كأن يكون عند إنسان: عبيد وخيول وأرض، فيحصّل من وراء ذلك فوائد، فالعبيد تشتغل وتأتي له بالخراج، والخيل تعمل وتأتي له بخراج، والأرض تزرع وتنبت وتأتي له هذا بخراج.
فالخراج: هو الفائدة التي تعود على المالك من ملكه.
والضمان: هو ضمان المتلف.
فإذا أخذت عارية -والعارية مضمونة- وتلفت عندك فإنك تضمنها، وإذا اعتدى ولدك أو بهيمتك أو أنت على شيء لغيرك فإنك تضمنه.
فالضمان: هو تعويض عما أتلفه الإنسان، إذاً: الخراج ضد الضمان، فإنك في الضمان تدفع، وفي الخراج تأخذ.
فـ عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) ، وتطبيق ذلك في أكثر صور المبيع عند النزاع.
فمثلاً: إنسان اشترى سيارة على أنها خالية من العيوب، وهو لا يدري عن السيارات ودقائقها، ومكثت عنده أسبوعاً أو أسبوعين، ويذهب بها من عمله إلى البيت، فركب معه مهندس، فقال: السيارة فيها خلل، فعرف العيب بعد عشرة أيام، وهذا العيب الذي اطلع عليه مؤخراً لو علم به وقت الشراء لما اشتراها، أو قد يشتريها ولكن ينقص من الثمن بقدر النقص بهذا العيب، فله أن يردها، ويسمى: الرد بالعيب، أو خيار العيب، وإذا اختلف مع البائع بأن قال البائع: هذا العيب حصل عندك أنت وليس عندي أنا، فيقدر ذلك أرباب الخبرة، فينظرون هل هذا العيب جديد أم قديم، فإن حكموا بأن العيب قديم، فعند ذلك يكون البائع قد دلس وغش المشتري، فيحكم برد السيارة، فإن قال البائع: السيارة بعشرة آلاف وهي عنده منذ عشرة أيام، ويذهب بها كل يوم إلى العمل، فأجرة السيارة في اليوم مائة ريال، فأخصم لي أجرة السيارة من قيمتها التي هي عندي، ثم أرد له الباقي، فيقال له: لا، الخراج بالضمان، ما معنى الخراج بالضمان هنا؟ استعماله السيارة المدة التي كانت عنده فائدة عادت عليه، فهي خراج، وقد يكون استعملها للأجرة فحصل على خراج من وارئها مدة وجودها عنده، من يوم العقد إلى اكتشاف العيب، ولو تلفت أو حدث فيها عيب جديد، فإنه على حساب المشتري التي هي في يده.
إذاً: ما دام أنه يضمن نقصها فيستحق خراجها، وهكذا الخراج بالضمان، فما استفاده لا يحق للبائع أن يطالب فيه؛ لأنها كانت في ضمانه، فلو تلفت لتحمل ضمانها، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري شاة فاشترى شاتين
قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه) رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أخرجه البخاري في ضمن حديث، ولم يسق لفظه، وأورد الترمذي له شاهداً من حديث حكيم بن حزام] .


أصل عملة الدينار ومقداره
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى عن البارقي رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، والدينار: عملة ذهبية، والدينار والمثقال شيء واحد، وهو من حيث الوزن يزن مثقالاً، ومن حيث العملة يعتبر ديناراً، والدينار كان في الزمن السابق يتراوح صرفه ما بين ثمانية دراهم إلى اثني عشر درهماً، واستقر أمره زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعشرة دراهم، وهو السعر الذي جاء به تشريع الزكاة، في كل عشرين ديناراً ربع العشر، وفي كل مائتي درهم ربع العشر، وعشرين في عشرة بمائتين.
إذاً: أعطاه ديناراً، وهذا يدل على أن المسلمين كانوا يتعاملون بالدنانير، والدنانير عملة غير عربية وإنما هي فارسية أو رومية، والدراهم ساسانية، ثم ضربت إسلامية في زمن بني أمية.
فهذه الدنانير في أيدي المسلمين ويتعاملون بها وهي عملة أجنبية عنهم، كما هو الحال الآن، يتعامل المسلمون بالدولار وبالمارك وبالين، وكلها عملات أجنبية، ولكن النقد لا يعرف الجنس، وكما قيل: النقد ملك لمن هو في يده، فمن حل في يده درهم فهو له وينسب إليه.


إقراره صلى الله عليه وسلم لعمل عروة البارقي
فذهب عروة ليشتري شاة أو أضحية، كلاهما سواء؛ لأن الأضحية بالشاة، والشاة للأضحية، وهذا اختلاف في اللفظ، وقد يكون من الراوي الأول أو الثاني، فذهب فاشترى بالدينار شاتين، ثم في عودته بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه شخص وساومه على إحدى الشاتين، فباعها عليه بدينار، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ديناركم وهذه شاة لكم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلت؟ إذا كنت أتيت بالدينار وأتيت بشاة، فمن أين لك هذه الشاة؟ والدينار على حاله لم يصرف، فقال له رضي الله تعالى عنه: اشتريت بالدينار شاتين، وبعت إحدى الشاتين بدينار.
وهنا -مع هذا العمل- يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) أي: أقره على هذا العمل واستحسنه ودعا له، فكان ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ما باع صفقة أو اشترى صفقة ولو تراباً إلا وربح فيها، وكان الناس يأتون إليه بأموالهم ليشاركهم فيها، التماساً لبركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


تصرف الوكيل في مال موكله
وللعلماء في هذا مباحث، فحينما أعطي الدينار ليشتري الشاة، فهل أعطيه وكالة أو أمانة؟ إن قلنا: وكالة، فقد ذهب الوكيل وتصرف، فاشترى شاتين بدلاً من شاة، وهل للوكيل أن يتصرف في غير ما وكل فيه؟ هو وكل في شراء شاة، لكنه اشترى شاتين، فهل شراؤه الشاتين داخل ضمن الوكالة في شراء الشاة، أو أن الوكالة كانت عامة؟ الوكالة العامة كأنه يقول له: اشتر لنا ما في نظرك من شاة أو نحوها، فبالوكالة العامة يكون له الحق أن ينظر أي الشياه أصلح، ولو وجد شاة كبيرة بدينار، ووجد شاتين متوسطتين بالدينار، فاشترى إحدى الصفقتين، كان ذلك بمقتضى الوكالة صحيحاً، ونحن الآن إذا أتينا إلى سوق الأغنام ربما وجدنا خروفاً بألف ريال، بينما بجواره الخرفان الأخرى من أربعمائة إلى ستمائة، فثمن الخروف الأول ألف ريال، فلو أضفت إليه مائتين فستشتري ثلاثة، إذاً: الأسعار تختلف، والسلع تتفاوت فيها القيمة، هذا في الصورة الأولى، ولنقل: إنه وجد شاة بدينار، ووجد شاتين بدينار، فاستحب أن يأخذ الشاتين بدلاً من الشاة، وهذا التصرف من الوكيل لمصلحة موكله.
مضى العقد الأول، ومضى بالشاتين، وفي الطريق يأتي إنسان يساومه، فباعه إحدى الشاتين، فهل له الحق في بيع ملك موكله الذي وكله في شراء شاة فتجاوز، أو تخير، أو عمل المصلحة فاشترى شاتين بدلاً من شاة؟ وهنا بعد أن اشترى ودخل المبيع في ملك موكله، فهل يملك أن يخرجه من ملك موكله بالبيع دون أن يوكله الموكل في البيع؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوكله في بيع، وإنما وكله في الشراء فقط، فبأي صفة يبيع ما اشتراه لموكله؟ قالوا: إن السبب في شرائه الشاتين هو مراعاة مصلحة موكله، فوجد أن من مصلحة موكله الاجتزاء بشاة، والشاة الأخرى زائدة، ومن مصلحة موكله أن يغنمه قيمة الزائدة، فباعها باسم موكله.
وهنا يقول الفقهاء: إذا تصرف الوكيل بما يظنه مصلحة لموكله دون أن يأذن له فيه، فإن هذا العقد يسمى: العقد المعلق، فهو معلق على إقرار الموكل، فإن رضي وأقر فلا مانع، وإن رفض فالبيع مرفوض ومردود، فهو باع الشاة تفويضاً من نفسه، طلباً لمصلحة موكله، وبثمن ليس فيه نقص، بل فيه ربح مائة بالمائة، فباع الشاة على هذا الاعتبار، ولما جاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره في نظام العقود موكلاً له- سأله: ماذا فعلت؟ فأخبره بما فعل في الشراء وفي البيع؛ فاستحسن ذلك، وأجاز تصرف الوكيل في هذا البيع، ولو لم يكن مأذوناً له مشافهة فهو مأذون له اعتباراً، ولو لم يكن مأذوناً له اعتباراً فقد أقر العقد، ويقول الفقهاء: إن اعتبار العقد المعلق ابتداء من إجازة الموكل لا من وقوع العقد.


تحديد الربح
وهنا جاءت مسألة لا زال الناس يخوضون فيها إلى الآن، فهذا اشترى شاتين بدينار، وباع شاة منهما بدينار، فلما كان في الطريق، وهو في نفس اليوم، ولم تتغير الأسعار في الأسواق، ولا قل الوارد وكثر الطلب، فالسوق على ما هو عليه، لم يطرأ عليه ما يقتضي زيادة الثمن، فكم ربح في هذه الصفقة؟ ربح مائة في المائة، ويأتي هنا السؤال المهم: كم يجوز أن يربح؟ وكم يكون الغبن؟ وكم تكون الزيادة؟ ومتى يفسخ البيع؟ ومتى يحق للمشتري ادعاء الغبن؟ وهذه القضية إلى الآن لم يستقر فيها رأي، لا على تحديد السعر، ولا على تحديد صورة الغبن، وأهم ما يكون في ذلك، والمرجع ما لم يكن المشتري جاهلاً فغره البائع، وما لم يكن البائع مستغلاً لظروف المشتري ويتحكم فيه، فإذا كانا على هذه الحال وعلى قارعة الطريق، وليس هناك إلزام ولا إكراه، ولا استغلال لظروف المحتاج، فالبيع سليم ولو كان الربح مائتين في المائة.
وبعض السلع ربما كان الربح فيها خمسمائة في المائة، لكن مع اختلاف الزمن ومع اختلاف الأسعار، وعندنا بيع السلم لا بد أن يكون هناك أجل في تسليم السلعة، ويكون بسبب هذا الأجل تغيير في السعر بزيادة أو بنقص، فنقرر وجود الزيادة ووجود النقص وإلا لما كان سلماً.
فعلى هذا لا يمكن لإنسان أن يتحكم في سوق، ولا في سلعة، ولا في تاجر، ولا في متجر، ولا في مصنع، بتحديد سعر البيع والربح، إلا إذا كان هناك استغلال للمشتري، وما يوجد الآن من بعض التسعير لبعض السلع، فإنما ذلك مما استجلبه الناس باستغفال الجاهل، وبعدم معرفته قيمة السلعة، وباستغلال البائع جهالة المشترَي، فجعلوا في بعض السلع بياناً للأسعار، كما هو حاصل في الأدوية، فإننا نعرف الفرق بين حبة الأسبرين وحبة الفيتامين، فبعض أنواع الفيتامين قد تساوي الحبة الواحدة ثلاثة ريال، وعلبة الأسبرين كلها تساوي ثلاثة ريال، ولكننا لا نعرف الفرق من الناحية الكيماوية أو الطبية، فلما لم نكن نعلم ذلك ويمكن للصيدلي أن يستغل ظروف كل مريض؛ جعلوا المسألة واضحة، وقربوا الموضوع، وقدروا الربح المناسب لهذه السلعة، ووضعوا الأسعار على كل علبة، وكذلك المحلات الكبيرة التي تسمى: (سوبر ماركت) وفيها من أنواع السلع والبضائع، ولا يريد صاحبها النزاع في المساومة، فوضع أسعار السلع أمامك، فإن أعجبك سعرها أخذتها، وإن لم يعجبك تركتها، والذين يضعون هذه الأسعار يراعون مصلحة المالك ومصلحة المستهلك، على مبدأ فقهي إسلامي: (لا ضرر ولا ضرار) ، لا ضرر على المالك في بخس سلعته، ولا ضرار على المشتري في استنزاف ماله في هذه السلعة.


حد الغبن الذي يحق به فسخ العقد
إذاً: ليس هناك حد -كما يقولون- في ادعاء الغبن في السلعة، فهذا في نهاره وقبل غروب الشمس يربح مائة في المائة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقره ويدعو له بالبركة، ولكن الفقهاء أيضاً تدخلوا وقالوا: إذا لم يكن هناك تحديد للأسعار، ووجدت سلعة في عشرين دكاناً في السوق، فخمسة عشر دكاناً يبيعها بعشرة، وجاء صاحب دكان وباعها على إنسان بعشرين، فهل يقر على ذلك؟ يقول العلماء: هذا غبن، فقد غبن المشتري بعشرة، ونسبة العشرة من العشرة مائة في المائة، فيكون من الغبن الفاحش، فيحق للمشتري فسخ العقد وإرجاعها.
إذاً: ما هو حد الغبن الذي يجعل المشتري يدعي الغبن ويطلب رد السلعة؟ قال بعضهم: إذا كان ثلاثين في المائة، أو أربعين في المائة، أو خمسين في المائة، أي: من ثلاثين فما فوق، وأقل من ثلاثين في المائة لا يعتبر غبناً، ولا ترد به السلعة، قالوا: إن مثل هذه النسب لابد أن تتفاوت؛ لأنه لا بد من الربح، ولكن المسألة ترجع إلى جشع البائع، وإلى قناعته، وحسن تعامله، ورفقه بالناس.
إذاً: هذا الحديث أصل في حلية الربح ما لم يكن هناك تدليس أو غش أو انتهاز لفرصة، أو استجهال مشترٍ.
والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الإنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) رواه ابن ماجة والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا وإن كان بإسناد ضعيف إلا أن معناه صحيح، فإن جميع هذه البيوع راجعة إلى الغرر، وكما أسلفنا في أول كتاب البيوع: أنه يجب الحذر والتحفظ من أكل أموال الناس بالباطل، وتلك الأشياء التي ساقها هنا واضحة الغرر.


النهي عن بيع ما في بطون الأنعام
فنبدأ أولاً بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطون الأنعام.
وبهيمة الأنعام: هي من ذوات الأربع مأكولة اللحم: الإبل، والبقر ومعها الجاموس، والغنم ومعها الماعز، فهذه تحمل، أو كما يقولون: الثدية، أي: ذات ثدي فتلد وترضع.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطونها، فلو رأيت ناقة لقحاء وحملها ظاهر جداً، وبقى لها شهر أو أكثر أو أقل لتضع حملها، وكان نوع هذه الناقة من حمر النعم من خيار الإبل، وتريد من نسلها، وتحرص أن تسبق إلى شراء ما في بطنها، حتى لا يسبقك الناس بعد ولادتها، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري هل ستأتي بفصيل أو ببكرة كما يقولون؟ بذكر أم أنثى؟ سوي الخلقة أم ناقص؟ إذاً: لا زال في صندوقه مقفلاً عليه لا نعلم عن كيفيته، فهذا فيه جهالة، كما لو جئت إلى إنسان بصندوق وقلت: هذه الصناديق فيها ملابس وأحذية -بدون رقم أو برقم- لكن نوع الصناعة ومقاساتها وألوانها كل ذلك مجهول داخل الصندوق، فلا يجوز بيع ما في داخله حتى تفكه وترى ما فيه وترتضيه، فكذلك ما في بطون الأنعام، سواء كانت في أوائل حملها، أو في أواخره، احتياطاً من كونه قد يأتي حياً وقد يأتي ميتاً، وقد يأتي على الجهة التي أنت تصورتها وتمنيتها وقد يأتي على جهة أخرى، فلو وقع البيع في هذه الحالة فالبيع باطل؛ لأن النهي يقتضي الفساد.


النهي عن بيع ما في ضروع الأنعام
قال: (وعن بيع ما في ضروعها) .
هنا مشكلة: ترى الناقة محفلة، أو ترى الناقة وضرعها ممتلئ، أو البقرة أو الشاة، فتقول: أشتري ما في هذا الضرع من الحليب بكذا، وقد قدرته مثلاً لتراً، فحلبت فكان نصف لتر، أو البائع قدره لتراً، فحلبت فإذا به لتر ونصف، فيكون فيه غرر، فإن نقص عن تقديرك أنت فغرر عليك، وإن زاد عن تقدير البائع فهو غرر على البائع، إذاً: ماذا نفعل؟ احلب حتى يجتمع عندك، ثم بع.
وفي بعض المدن شاهدنا الذين يبيعون الحليب، ولم نرهم يبيعون الحليب في الأواني، ولكن ترى البهيمة معه في السوق، فإذا قلت له: أعطني نصف كيلو، فإنه يحلب أمامك في إناء ويزن لك ويعطيك! لا غشه بالماء، ولا باعه في ضرع مجهول، فيعطيك حليباً طازجاً من الضرع، فإذا كان الأمر كذلك فنعم الحال، وإذا لم يمكن كذلك فلا يجوز أن تبيع الحليب في الضرع كثيراً كان أو قليلاً، ومعروف أن بهيمة الأنعام تختلف في جرم الضرع، فبعض الحيوانات تجدها نحيلة الضرع، ولكنه يأتي بحليب أكثر من الضرع الذي تراه ضخماً، فربما تكون تلك الضخامة في لحم وجرم الضرع، فالضرع المتين إذا كان فيه نصف لتر فسيجعل الضرع كبيراً، والثانية جرم ضرعها رقيق وخفيف، فلو كان فيه لتر فما يظهر فيه.
إذاً: التقدير بالرؤية مع اختلاف أحجام الضروع فيه غرر على ما بداخلها.


كل ما كان فيه جهالة لا يجوز بيعه
إذاً: النهي عن بيع ما في بطون الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع من الحليب قاعدة أساسية عند الفقهاء، يندرج تحتها كل ما تجدد من أنواع السلع، فتعرض على الجهالة، فهذه صناديق -كما قلنا- لكن لا ندري عن نوع الصناعة، قد يقول: هو جلد أمريكي ممتاز، ولكن لا ندري عن نوع الخياطة والصناعة، وعن الحجم عريض المقدمة أو خفيف المقدمة وهكذا، أو هذه صناديق فنايل، صفتها كذا، صناعة المحلة الكبرى -كما يقولون- أو صناعة إنجليزية، ولكن هل نوع الغزل رفيع أو متين؟ ونحو ذلك، وكذلك في المطعومات، ما لم يكن هناك ما يسمى: الأنموذج.
فمثلاً: جاءك إنسان بمائة علبة حلاوة طحينية، وقال: العلبة هذه فيها كيلو، أبيعك المائة علبة بكذا، لكن الحلاوة الطحينية منها الناعم جداً الممتاز، ومنها الخشن، ولا أدري هذا من أي الأنواع، فقال: فك هذه وانظرها وتذوق منها، فنظرت وعرفت واقتنعت بالنوعية الموجودة أمامك، فاشتريت المائة علبة، فهل من المعقول أن تكلفه أن يفتح المائة علبة لتنظر فيها؟! قد تكون ملحومة وملصقة حتى لا يأتيها الهواء فتفسد، فيضحي بواحدة ليريك، فاشتريت المائة وذهبت وأخذت النموذج وذهبت بها إلى متجرك وبعتها على هذا النموذج، فلو تبين أن أحداً أخذ منك عشر علب وفتحها فوجد منها خمساً على غير النموذج، فهذه الخمس مغايرة للمتفق عليه في العقد، والمشتري سيرجع عليك؛ لأنك بعته على هذا النموذج، وأنت ترجع على البائع الذي باعك على هذا النموذج، إذاً: انتفى الغرر، ولكن إذا لم تر لها نموذجاً، ولم تعلم لها نوعية ولا كيفية بالوصف، فإنههم يقولون: ولو بالوصف، فإذا لم يأت بنموذج، ووصفها بصفات شاملة كاملة، كما لو أراد أن يبيع أكواب الشاي، فقال: هي صناعة كذا، طولها كذا، وقطر الدائرة كذا، والزجاج صفته كذا، وذكر الأوصاف التي تشتمل عليها الأكواب بحيث أننا لو فتحنا ونظرنا لا يختلف المنظر عن المخبر، فإذا تم ذلك صح البيع، وإن رأيت خلاف الوصف فأنت بالخيار: فإما أن تأخذ وتسترجع قيمة النقص -وهو الأرش- أو ترد السلعة وتأخذ حقك.
إذاً: النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع قاعدة فقهية عامة، ومن هنا نقول: ليس في الفقه طريق مسدود، وليس هناك جديد على الفقه في الإسلام؛ لأنه مهما تجددت أنواع وصور السلع ومبيعاتها ستجد لها أصلاً فيما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قعده علماء المسلمين، وإن واجهت الإنسان مسألة فسيجد لها أصلاً وحلاً في كتب الفقه، وإن لم يجد لها حلاً في كتب الفقه، فإن مردها إلى اجتهاد الفقهاء، ولذلك فإن باب الاجتهاد مفتوح، فيجتهد أهل الخبرة والفقهاء والعلماء في مواصفات هذا الشيء الجديد، وأي الأصناف أقرب إليه في القديم فنلحقه به، فإن سعة الفقه الإسلامي بالقواعد العامة لا بالجزئيات.


النهي عن بيع العبد الآبق
قال: (وعن شراء العبد وهو آبق) .
ننتقل إلى نوع آخر من أنواع البيوع، ليس من قبيل الغرر بالجهالة، ولكن من قبيل الغرر بالعجز عن التسليم، وهو النهي عن بيع العبد الآبق.
يقال: آبق وشارد، آبق للعبد، وشارد للبعير، تقول: شرد البعير، وأبق العبد، والآبق: هو الهارب، قال تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] ، فالآبق والشارد بمعنى واحد، إلا أنه اصطلح على إطلاق الآبق في الإنسان، والشارد في البعير وغيره.
والعبد الآبق عن سيده لا يخلو من أمرين: إما أن يعلم مكانه الذي هو فيه، وإما أن لا يعلم مكانه، فإذا كان لا يعلم مكانه فهو في الجهالة أعمق وأبعد، فإنه لا يعلم أهو حي أو ميت؟ أما إذا اعلم أين هو، كأن يأبق من المدينة إلى جدة، ويعرف عنوانه ومكانه، فجاء إنسان وقال: يا أخي! عبدك هذا الذي أبق عليك وعجزت عنه بعنيه، فباعه له فاشتراه، فعند أن يذهب إليه ليأخذه فقد لا يجد أصلاً، وقد يجده هالكاً، وقد يجده ولا يستطيع أخذه؛ لشدة تمرده وقوته، فإن وجده هالكاً، فإن ذلك يكون على حساب صاحبه، لا على حساب المشتري؛ لأنه ما زال في ملكه، وإن لم يجده، أو وجده ولم يستطع أخذه؛ فإن ذلك ينقض البيع، ولذلك نهي عن بيع العبد الآبق.
إذاً: المشتري إما أن يكون جاهلاً بمكان العبد الآبق؛ فشراؤه غرر من أول لحظة، وإما أن يكون عالماً بمكانه، وطمع أن يحصل عليه، فذهب إليه ولقيه وعجز عن أخذه فسيرجع على البائع.
ومثله البعير الشارد، فإذا شرد عليك بعير، ولا تعلم أين هو، فهذا لا سبيل إلى بيعه، فجاء إنسان وقال: يا فلان! وجدت بعيراً عليه وسمك -وكانت العرب تسم الإبل، فكل قبيلة تسم إبلها على صفحة العنق، أو على لوح الكتف، أو على المؤخرة، فهذه عادة كانت عند العرب، حتى لو ذهبت في أي مكان ورآها أي إنسان عرف أنها من إبل القبيلة الفلانية فلا يمد يده إليها فقال: وجدت بعيراً من سمة إبلك في المحل الفلاني، فقال: هذا شارد عني من زمان، ثم قال: بعنيه، فباعه له، واشتراه، فذهب ليأخذ البعير فإذا بالبعير هايج، وعجز المشتري أن يخضع البعير وأن يقوده إليه، فماذا سيفعل؟ سيرجع على البائع، وكذلك إذا ذهب ليأخذه فلم يجده، فحينئذ أيضاً يكون معجوزاً عن تسليمه.
فالعبد الآبق والبعير الشارد يعجز صاحبه عن تسليمه للمشتري، وهكذا كل سلعة يعجز مالكها عن تسليمها للمشتري لا يجوز بيعها.


حكم بيع المغصوب في حالة وجوده عند الغاصب
وهنا صورة أخرى: فإذا جاءت يد عاتية طاغية واغتصبت عبداً وصاحبه يراه صباحاً ومساء؛ لكونه موجوداً في نفس القرية ولكنه لم يستطع أن يأخذه، فلو جاء إنسان وقال: أبيع عليك هذا العبد فإن فلاناً اغتصبه مني وعجزت عنه، فإن كان المشتري يظن من نفسه أنه قادر على استخلاصه من غاصبه واشتراه فلا مانع، فإن تم له استخلاصه فذاك، وإن عجز عن استلام العبد من الغاصب رجع إلى البائع، وفي هذه الحالة يكون بيعه إياه على مظنة القدرة، فإذا لم تتحقق فلا.


حكم بيع المغصوب على الغاصب
ولو أن الغاصب بنفسه قال: يا أخي! أنت تعبتني من توسيط الناس، ومن الذهاب والإياب، وأنا لن أعطيك العبد، فإني محتاج له في عمل مهم، وأنت بالخيار: إما أن تسكت، وإما أن تبيعه عليَّ، فإذا كان ثمنه مائة قال: أعطيك خمسين ديناراً، فإن بعته بخمسين فخمسون في اليد خير من مائة عند الغاصب، فبعته على غاصبه، فهل يجوز بيعه على غاصبه أم لا يجوز بيعه عليه؟ يجوز بيعه على الغاصب؛ لأن الغرض أن يسلمه للمشتري، وهو الآن في يد المشتري، ولا يحتاج إلى تسليم جديد، ولا يوجد مانع من صحة البيع.
إذاً: لا يجوز بيع المغصوب إلا على غاصبه، أو قادر على أخذه من غاصبه، وهذا غاصبه وفي يده، وقد دفع الثمن، ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأنه عنده، إذاً: يجوز أن يبيعه على غاصبه؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد يعجز عنه.
أما إذا كان المشتري شخصاً ثالثاً، والثالث هذا عجز عن استلامه، فيحتاج إلى تسليم، ولما عجز عن استلامه واستخلاصه، والبائع -أيضاً- عاجز عن تخليصه وتسليمه؛ فالبيع باطل، أما إذا باعه على الغاصب نفسه فالبيع صحيح، وكون الغاصب معتدياً، أو استغل السعر، هذا شيء آخر، وهو داخل في استحقاق العقاب، فإنه مستحق للإثم والوعيد، ولكن الفقهاء يبحثون المسألة من حيث صحة العقد وبطلانه، فالعقد صحيح، وعليه إثم الاغتصاب، وعليه إثم النقص في الثمن، فإنه يجب عليه -شرعاً- أن يسلمه لصاحبه وصاحبه يكون حراً فيه.


النهي عن بيع المغانم قبل قسمتها واستلامها
قال: (وعن شراء المغانم حتى تقسم) .
مما يدخل تحت بيع ما لا يملك تسليمه: إذا غزا الغزاة وغنموا وأصبحت الغنيمة في جملتها للغزاة، وكانوا مائة شخص، فأصبح لكل شخص واحد في المائة من الغنيمة، ولو قدر أن الغنيمة مائة بعير، فسيكون لكل غاز بعير، فقد عرف سهم الغازي في الجملة، فهل يصح لشخص من الغزاة أن يقول لأحد الناس: أنا لي في الغنيمة بعير، وأبيعك إياه بمبلغ كذا، فهو حق ثابت في الغنيمة ولكن على سبيل الإجمال، وهل يدري أي الإبل سيكون له؟ وكم سيساوي هذا البعير الذي سيكون من نصيبه؟ وهل ندري ماذا سيقع في هذه الغنيمة؟ إذاً: لا يجوز بيع حصته من الغنيمة حتى تقسم ويستلمها، وقد كان في زمن بني أمية وكان ميناء المدينة في الجارود في جمع، وكان يؤتى بالغنائم -من الحبوب- من مصر وما وراءها، وكانوا يعطون للغزاة سندات فيها نصيب كل شخص: فلان له إردب، فلان له إردبان، فلان له نصف إردب، فلان له كذا، فيأتون بها إلى المدينة فيأخذها أصحابها ليذهبوا إلى الميناء ويستلموا حصصهم، فكان البعض منهم يأخذ السند ويبيع ما فيه على الآخرين، فقام بعض السلف وقال: يا مروان! إنك تبيح الربا، فهؤلاء يبيعون ما لا يملكون، أي: إنهم لم يستلموها ولم تصل إلى أيديهم، فمنعوا من ذلك، فهو وإن كانت حصته في الغنيمة مضمونة شرعاً، وكانت معلومة العين، فالغنيمة مائة ألف، وهم ألف نفر، فلكل واحد مائة؛ فلا يحق له أن يبيع حصته ولو كانت معلومة المقدار؛ لأنها ملك عام في الجملة، حتى تقسم ويقبض نصيبه، وحينئذ يبيع كيف شاء.


النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض
قال: (وعن شراء الصدقات حتى تقبض) .
وذلك مثل الصدقات التي توزع على المحتاجين بسندات، فكانوا يبيعون ما في السندات من تلك الصدقات، وأيضاً لو كان من عادة التاجر الفلاني أن يقسم صدقاته على البيوت، وصفتها كذا وكذا، وجاء بصدقة كبيرة -مثلاً- وجعل لكل بيت إردباً أو كيساً أو نحوه، وقد كان يؤتى بالصدقات وتجعل في سرسون في محطة القطار، فمعروف أن لكل إنسان مقداراً معيناً، وعنده سند في ذلك، وينتظر وقت التسليم فيذهب يستلم، فلا يجوز لإنسان أن يبيع حصته من الصدقة المعينة بسند في يده وهي لا زالت في مكانها حتى يستلمها، فإن أراد أن يبيعها فله ذلك، أما قبل أن تقسم وقبل أن يستلمها فلا يجوز بيعها، فهي مثل المغانم.


النهي عن ضربة الغائص وما شابهها
قال: (وعن ضربة الغائص) .
يقولون: ضربة الغائص، وعمل الغوص أمر قديم، وكذلك رمية الصياد، وضربة الغائص: أن يأتي الغائص الذي يغوص في البحر ويبحث عن الصدف فقد يجد فيها لؤلؤاً وقد لا يجد فيها شيئاً، فيأتي الغواص على حافة البحر ويغوص وما يرزقه الله يجمعه ويبيعه، فيأتي إنسان ويقول: يا فلان! أشتري منك ما يحصل لك في ضربتك هذه، أي: في غوصتك إلى البحر، فسيذهب ويغوص، ولكن لا ندري ما الذي سيأتي به، فقد يجد صدفة أو صدفتين فيها لؤلؤ، وقد يجد الصدف فارغاً! فضربة الغواص أي: بيع ما يحصل عليه الغواص في ضربته، وهذا لا يجوز؛ للجهالة.
وكذلك رمية الشبكة، كأن يقول: ارم الشبكة وعلى حسابي وبعشرة ريال، فيرمي الشبكة وربما طلع فيها ما لا تحب أن تراه، وربما لم يطلع فيها شيء، وربما طلع فيها ما يغني الصياد طوال السنة، فكيف تأخذه منه بعشرة ريال! إذاً: ما ستأتي به الشبكة نظير ما ستأتي به ضربة الغواص، وكل ذلك مجهول.
وكذلك نصب الفخ، فلو قلت لصاحب الفخ: الذي يأتي به الفخ لحسابي وأنا أشتريه منك بكذا، فأنت تنتظر غزالاً، أو تنتظر نعامة، أو تنتظر بقر الوحش، فإذا به يمسك لك ذئباً؛ وكذلك إذا اشترك في شراء حمولة الباخرة، وهو لا يعلم عن كمية البضاعة، ولا عن نوعيتها، ولا كم تساوي، وهل هي مناسبة أم لا.
إلخ.
فكل ما كان مجهول النتيجة، فمنها تجددت صوره وأنواعه، فإن القاسم المشترك بين ذلك كله هو وجود الجهالة، وبه يحكم على هذه المعاملات بالتحريم.
وبالله تعالى التوفيق.


كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [12]
إن من القواعد العامة في البيوع: النهي عن بيع كل ما فيه غرر، ويندرج تحت هذه القاعدة كل ما كان فيه جهالة، وهذه القاعدة كافية وافية، إلا أن من رحمة الله أن زاد البيان بتأكيد النهي في بعض البيوع بأعيانها ومن ذلك: النهي عن بيع السمك في الماء، ويلحق به الطير في الهواء، وما لا يقدر على تسليمه، وجاء النهي عن: بيع الثمرة حتى تطعم ويطلع النجم وتؤمن الآفة، كما جاء النهي عن بيع الصوف على الظهر، وبيع اللبن في الضرع، وألحق به بعضهم: المغيب في الأرض، ونهى عن بيع المضامين والملاقيح؛ لما تتضمنه هذه البيوع من غرر وجهالة.


شرح حديث: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: [وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر) رواه أحمد وأشار إلى أن الصواب وقفه] .
في نهاية هذا الباب الطويل باب البيوع، وهو الباب الذي تقوم عليه المعاملات، وتنبني عليه -فيما يقال- صحة العبادات، وذلك حينما يتحرى الإنسان في بيعه وشرائه الحلال، ويتغذى بالحلال، فإن الله طيب، ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإذا كان مطعمه بالعكس فكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) ، فالمطعم الحلال من أسباب استجابة الدعوة وقبول العمل، بل جاء في الحديث: (كل لقمة ينبت منها دم ولحم وعظم، فما نبت من الحرام فالنار أولى به) ، ولهذا عظم شأن هذا الباب وهو باب البيوع لمعرفة الحلال والحرام؛ لأنه قل من يستغني عن بيع طعام أو شرائه، وبيع كساء أو شرائه، وبيع شراب أو شرائه، وكل ذلك يتوقف على معرفة أحكام البيوع.


النهي عن بيع السمك في الماء
في نهاية أنواع الغرر يذكر لنا المؤلف رحمه الله: النهي عن بيع السمك في الماء، والفقهاء يتفقون على أن السمك في الماء والطير في الهواء لا يجوز بيعهما وإن كان مشاهداً؛ لأنه في الغالب معجوز عن تسليمه، وقد يكون للجهالة، ولكن الفقهاء يفصلون تفصيلات يمكن تطبيقها، فالسمك في الماء له حالتان: حالة يكون فيها الماء كثيراً غزيراً مستبحراً لا يستطيع صاحبه أن يسلمه، هذا إذا كان مملوكاً له في حوض، أما إذا كان في النهر، أو في البحر، فهو لا يملكه حتى يبيعه، وإنما يملكه إذا اصطاده وكان في يده، ولو قال له وهم يشاهدون الأسماك في الماء: اختر السمكة التي تريد وأنا أبيعها عليك، وأصطادها، وأعطيك إياها، فهذا لا يصح.
وجانب آخر وهو ما يقوله الشرّاح: أن الماء يغيّر الحجم؛ فإما أن يزيد في حجم العين إذا كانت في الماء، وإما أن يقلل من حجمها، وهذا مشاهد، وسبب ذلك: زاوية الضوء المسلطة على الماء، فقالوا: بيع السمك في الماء يعتريه الغرر من جهتين: جهة عدم القدرة على تقدير حجمه في رؤية العين، وجهة عدم القدرة على تسليمه.
لكن تنص كتب الحنابلة: أن الماء إذا كان قليلاً والحوض صغيراً، ويمكن أن يلتقط السمكة التي تختارها أنت، وهذا قد يكون في الإمكان، كما لو كان الحوض مثلاً مترين في مترين في عمق متر، والأسماك تتحرك فيه، إن سلم من الكبر والصغر، أو كان له الخيار وعيّن سمكة بعينها لا تختلط مع غيرها، فقد توجد أسماك -مثلاً- تأخذ اللون الأحمر، وأسماك تأخذ اللون الأصفر، وأسماك تأخذ اللون الأسود أو الأبيض وهكذا، فعيّن سمكة تختلف مع السمك الآخر، وقال: أريد هذه السمكة الحمراء، فاصطادها، وأخذها بشبكة صغيرة، أو بقفص وأحضرها إليه، فإذا أحضرها إليه وكانت على المقدار الذي قدره لها وهي في الماء فالحمد لله، وإن وجد في الأمر اختلافاً حيث أنه كان يراها في الماء كبيرة، ولما طلعت من الماء فإذا بها صغيرة، فله خيار النقض: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء ردها إلى الماء.
إذاً: بيع السمك في الماء ممنوع لسببين: لاختلاف الحجم وفيه الغرر، وللعجز عن تسليمه ففيه أيضاً الغرر، فلا يجوز، وإذا أمكن انتفاء الغرر؛ بأن كان يمكن أخذها بسهولة، ولا تختلط مع غيرها، ويكون له الخيار إذا وجدها على خلاف ما كان يُقدِّر، وبهذا يكون البيع لا غرر فيه ولا ضرر على أحدهما، فلا بأس به.


النهي عن بيع الطير في الهواء
وكذلك يقولون في الطير في الهواء، فهواة تربية الحمام يطلقون الحمام وفي الليل يأوي إلى مكانه، فإذا جاء إنسان ورأى حماماً لشخص ورأى فيه أنواعاً فأعجبه منها نوع، فقال: يا فلان! بكم تبيعني هذا النوع؟ -وهو في الهواء- فهل يجوز له أن يبيعه وهو في الهواء؟ قالوا: إن عرف أوصافه، وتأكد من حالاته، وباعه على أنه إذا جاء المساء يأخذه من مبيته ويسلمه للمشتري؛ فلا مانع في ذلك، أما الطير في الهواء الذي لا يملكه، كما لو كانوا جالسين ومر سرب من الطيور، فقال: أبيعك عشرة من هذه الطيور، فلا يصح هذا البيع؛ لأنه لا يملكه، ولا يستطيع أن يأخذه ويعطيه للمشتري، فهذا البيع منهي عنه قولاً واحداً، أما طير يملكه هو ويأوي إلى مبيته، ويعلم أنه يرجع في الوقت الفلاني، ويتعين بلونه وشكله في الهواء، ولا يختلط بغيره فيقع النزاع، فإذا عرفت تميز الحمامة التي يريد شراءها أو الزوج الذي يريد شراءه وتأجل التسليم إلى الليل حتى يأوي الحمام إلى المبيت، فلا مانع في ذلك.


حكم بيع ما لا يقدر على تسليمه
وهكذا كل شيء مجهول أو معجوز عن تسليمه، وقد سبق أن أشرنا إلى المال المغصوب: كإنسان غصب من إنسان سيارة أو فرساً، ولا يقدر المغصوب منه أن ينتزع ماله من غاصبه ويسلمه للمشتري، فلا يصح بيعه، فلو جاء إنسان وقال: أنا قادر على أن آخذ المغصوب من غاصبه، فبعه عليّ، فباعه عليه، فذهب المشتري لأخذه، فإن قدر على إخراجه من يد الغاصب تم البيع، وإن عجز فإنه يرجع على المالك، ويسترجع الثمن، ولكن إذا باعه على نفس الغاصب فإنه يصح؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد، فهو في يده ومتمكن منه.
وهكذا لو كان لإنسان -مثلاً- بضاعة في سفينة، والسفينة في البحر، ولا يدري ما هي النتيجة، فلا يحق له أن يبيع ما على ظهر هذه السفينة ولو كان ملكه؛ لأنه إلى الآن لا يستطيع أن يسلمه، ولا يتمكن من ذلك، وقد اشتراه ولم يقبضه، إلا إذا كان له هناك وكيل يستلم عنه من الشركة التي اشترى منها، ولو كان الوكيل من شركات التأمين كالتأمين البحري؛ لأن شركات التأمين التجاري البحري تقوم مقام الوكيل عن الأصيل في الشراء، فهو اشترى وبقي الاستلام والشحن والمجيء إلى ميناء بلده، فشركه التأمين التجارية تقوم عنه بالوكالة، فتستلم السلعة من الشركة التي تبيع، أو من المصنع الذي ينتج، وتتولى شحنها في أوعية تناسبها، ثم تتعاقد مع الباخرة التي توصلها إلى ميناء بلد المشتري، أي: المؤمِّن، وعليها أن تنظر الباخرة التي ستنقلها أهي صالحة للإبحار في تلك المحيطات أم لا؟ وكذلك اليوم الذي ستبحر فيه أهو يوم صالح للإبحار أم فيه عواصف وزوابع؟ فهي مسئولة عن هذا كله، ولهذا لو تلفت البضاعة بسبب تفريطها في نوعية السفينة التي تبحر بها، أو في اليوم الذي يسمح لها بالإبحار؛ كانت ضامنة لما تلف بسبب تفريطها.
فإذا كان له وكيل يستلم؛ فاستلام الوكيل كاستلام الأصيل، فإذا جاءت إلى الميناء ووضعت في مستودعات الجمارك باسمه، فله أن يبيع منها؛ لأنها في ملكه، وعلى اسمه، وفي مستودعات عامة، وليس مستودع تاجر يشتري منه، ولكن مستودعات مؤمنة لجميع التجار، وكل بضاعة وصلت هناك فهي باسم صاحبها.
فإذا عجز عن تسليم السلعة في أية حالة من الحالات فلا يجوز بيعها، وكذلك لو لم يستقر ملكه عليها، كما تقدم في قسمة المغانم، وقسمة الصدقات، فهو له حظ في الغنيمة، ولكن كم؟ لا ندري، وما نوعيته؟ لا ندري، فله حق ثابت، ولكن لا يستقر له هذا الحق إلا بامتلاكه وقبضه، وكذلك الصدقات، له سهم في الصدقة وجاءت الصدقات، وعرف له سهم كذا، ولكن لا يستقر ملكه للصدقة حتى يقبضها، وكذلك الهبة، كإنسان وهب إنساناً شيئاً ولم يستلمه؛ فلا يحق له أن يبيعه؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض.
والخلاصة: أنه إذا استوفى الشروط: بأن كان مملوكاً للبائع ملكاً تاماً، وكان يقدر على تسليمه، وكان معلوماً لا غرر فيه؛ صح البيع، وما عدا ذلك فلا.


شرح حديث النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع) رواه الطبراني في الأوسط، والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لـ عكرمة، وأخرجه أيضاً موقوفاً على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي] .
هذه عدة أشياء -سواء صح السند هنا أو لم يصح- جاءت فيها أحاديث مفردة في كل نوع منها، وكلها تدور في حلقة الغرر.


النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
الأول: النهي عن بيع الثمرة حتى تُطعم، ومعنى تطعم: يمكن أكلها لمتوسط الحال من الناس، فمثلاً: ثمر النخل، متى تطعم عند متوسط الناس؟ يمكن أن بعض الناس يأكل الثمر وهو أخضر، ولكن بعض الناس لا يطيق أكله ولا يقبل ذلك، فلا ينظر إلا لمتوسط الناس في حالة القبول والرفض، وكذلك ثمرة الرمان إذا كان لا يزال صغيراً وحامضاً فيمكن أن بعض الناس إذا كان جائعاً أو محتاجاً فإنه يأكله وهو فج لم ينضج بعد، وبعض الناس لا يأكله إلا في غاية منتهى النضج، إذاً لا ننظر إلى هذا ولا إلى ذاك، ولكن إلى أوسط الناس.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم تفصيل في نوعية الثمرة يرفع هذا الخلاف، فقد جاء في الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ثمرة النخل حتى تصفر أو تحمر،) وجاء: (تصفار أو تحمار) ، على وزن: تفعال، وهذا يعني أنه بدأ اللون وهو في طريق الزيادة، (ونهى عن بيع العنب حتى يتموه حلواً) ، (يتموه) أي: يجري الماء في الحبة، وقبل أن يجري الماء في حبة العنب يقال له: حصرم، فالحصرم عبارة عن جرم لا ماء فيه، مثل الليمون في أول ظهور الثمرة فإنه يكون كتلة من الخضرة ليس فيها ماء، فكذلك العنب في أول طلوعه يكون كتلة من الخضرة لا ماء فيها، فإذا بدأ الماء يجري في حبة العنب وتموه ووجد فيها الماء، وصار حلواً، وأيضاً الحلاوة على حسب متوسط الناس.


العلة في النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
فهذه مسائل زراعية أجرى الله سبحانه وتعالى -في العادة- أن يكون للأنواء وللنجوم تأثير على النبات في ثمرته وإنتاجه، فإذا صادف زرع النبات نجمه ووقته كان طيباً وأثمر ثمراً حسناً، وإذا فات نوءه فإنه قد لا يثمر بالكلية، وقد يهيج ويكون خضار وتكون أعشابه أو أغصانه ممتدة وطويلة ولكن لا توجد فيه الثمرة، وقد سمعت من خبير زراعي في المدينة هنا: أن رجلاً مر على أشخاص يزرعون الدباء، فقال لهم: لو انتظرتم إلى ما بعد الزوال، فإن الشمس تنزل في البرج الفلاني بعد زوال شمس هذا اليوم، فقالوا: ما الفرق؟ الآن ضحى، وبعد قليل زوال، واليوم واحد! فقال: علِّموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما تزرعونه بعد الزوال، وفعلاً علِّموا فكانت النتيجة أن ما زرع بعد الزوال كان إنتاجه أضعاف إنتاج ما كان قبل الزوال.
والكثيرون يعرفون أن بعض النباتات إذا زرعت في وقتها أنتجت وأخصبت وكانت ثمرتها جيدة طيبة، وإذا لم تكن في وقتها صارت شكلاً أخضر لا شيء فيها.
ويراد بالنجم هنا: الثريا، فإذا طلعت الثريا -بإذن الله- أمنت الثمار الآفة، والثمار تعتريها الآفات، والآن معروف عند وزارة الصحة العديد من الآفات التي تعتري الخضروات، وتعتري الزروع، ولها عندهم دوائر خاصة تسمى: دوائر الرش، فإذا طلع نجم الثريا فإن الآفات -بإذن الله- لا تصيب الزروع، وقبل ذلك يمكن أن تصيبها، فجاءت الأحاديث: (حتى يطلع النجم وتؤمن الآفة) .
فلا يجوز بيع الثمار حتى يمكن أن يطعم ويصلح للأكل؛ لأنك إذا اشتريته قبل أن يصلح للأكل ماذا ستصنع به؟ فإن كنت تشتريه وتجزه علفاً للدواب فلا مانع، فقد أصبح علفاً وليس بثمرة، وإن كنت تشتريه وتبقيه في أصله حتى يصلح للأكل فهذا غرر على البائع؛ لأنك عطلت شجره، وعطلت أرضه حتى تطيب الثمرة، وأنت اشتريتها فجاً بثمن ناقص، وحينما تكون ثمرة ناضجة فلها ثمن آخر، فأنت استغليت حالة البائع واستفدت منه ما لم يسمح به، فهنا لا تباع الثمرة حتى تطعم، وهذا معروف الآن في بيع الصيف، فقالوا: حتى يَتَمَوّه العنب، وحتى تصفار أو تحمار الثمرة في النخيل، وهنا هل شرط الاحمرار والاصفرار وأمن العاهة في جميع أفراد نخيل البستان، أم أنه إذا ظهر في البستان صلاح مائتين أو ثلاثمائة نخلة، باحمرار وباصفرار، وبقيت عشر أو خمس عشرة أو عشرون نخلة يجوز البيع، أم ننتظر حتى يظهر ذلك في جميع النخل؟ يتفق العلماء على أننا نكتفي بظهور ذلك في بعض النخيل، وقد تظهر في بعض النخلات عشر أو عشرون حبة في كل عشر حبات، وقد يكون بدأ ظهور الصلاح في احمرارها أو في اصفرارها، والبعض يقول: إذا وجد الصلاح في المنطقة بستان جاز بيع جميع البساتين، وهذا غير صحيح؛ لأن البساتين تختلف في سرعة نضج ثمرتها باختلاف التربة والماء، فقد تظهر باكورة الثمرة في بستان، وبعد أيام عديدة تظهر في بستان آخر مجاور له، والفرق بينهما خصوبة التربة وحلاوة الماء.
وقد كانوا إذا ظهرت الثمرة في المدينة -أياً كان نوعها- يبادرون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، علماً منهم بأنه يفرح لما يأتيهم من الخير، وأنت الآن إذا وجدت باكورة ثمرة عندك فأين تذهب بها؟ أتأكلها؟ لا ترضى أن تأكلها؛ لأنك تحب أن تريها أحبابك وأصدقاءك كبشرى، فلذة ذلك عندك أحسن مما لو أكلتها، أو تقدمها لمن تحب، أو أعز الناس عندك، فكانوا يقدمونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يفعل بها؟ كان ينظر إلى أصغر موجود في الجمع من الأطفال والأولاد أو من الغلمان ويعطيه إياها، فهم أتوا بها ليفرحوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يعطيها الصبي ليفرح بها، فكان أمراً متداولاً ومعروفاً في المدينة.
إذاً: أي ثمرة وصلت في النضج إلى حد أنها تطعم، فلا بأس ببيعها، والتعبير هنا بقوله: (تطعم) فيه إعجاز، فلم يقل: حتى تؤكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا بعد كمال النضج، لكن المراد حتى تصلح لأن تطعم، أي: للطعم والتذوق، فمثلاً: المانجو حينما تكون خضراء فجاً لا تصلح حتى للطعم فضلاً عن الأكل، لكن إذا بدأت في النضج فيمكن للإنسان أن يطعمها وأن يأكلها، وكذلك البرتقال في أول أمره لا يمكن أن تأكل منه ولا أن تطعمه.
فقوله: (حتى تطعم) أي: حتى يبدأ فيها الصلاح ويمكن ذوق طعمها، فحينئذ يجوز البيع، ولا يختص ذلك بالنخيل والعنب، وإنما جاء ذكر النخيل والعنب في الحديث لوجوده في المدينة، وإنما ذكر اللون الأحمر والأصفر بقوله: (تحمر أو تصفر) ؛ لأن ثمرة النخلة قبل الاحمرار والاصفرار لون واحد وكله أخضر، ثم يتميز بعد ذلك بالقدرة الإلهية، وهكذا جميع الثمار في العالم دونما تحديد، وما يستجد من ثمار ملقحة أو مهجنة أو أي صفة من الصفات، فلا يجوز بيعها على الشجر كثمر إلا بعد أن تطعم، وذلك في البيع جملة، أما إذا كانت كثيرة فكما يقول الفلاحون: يخصيها أو يخففها من أجل أن تزيد الثمرة نضجاً.
ففي النخيل: إذا كانت النخلة جيدة، والتربة خصبة، والماء عذباً؛ فإنها تحمل الشيء الكثير، ولو تركت وكثرتها لأفسد بعضه بعضاً، وربما يستقيم العرق أو العرجون على البلحة الصغيرة فيفسد بعضه بعضاً، فيأتون ويخففون، إما بعض العروش، من الجنى، وإما بعض الحبات من العروش وهذا أحسن، فتكون الحبات متفرقة فتأخذ الثمرة مجالها وتكبر وتنضج وتصير ضعف ما لو تركت مع غيرها، فكانوا ينزلون هذا النوع المخفف إلى السوق ويباع كيلاً بالصاع علفاً للدواب، فلا مانع في مثل هذا أن يباع؛ لأنه ليس مقصوداً منه أن يطعم، وإنما المقصود منه أن يكون علفاً للدواب، فهو يباع على أنه علف.
إذاً: القاعدة العامة في بيع الثمار في البساتين على أصولها: لا تباع إلا إذا وصلت إلى حد النضج الذي يمكن فيه أن تطعم.


حكم بيع الثمر قبل نضجة إذا كان تابعاً لبيع البستان
وإذا جاء إنسان إلى بستان ووجد النخل قد أُبر والثمرة قد طلعت في صربان أخضر لا احمرار ولا اصفرار، وأراد شراء البستان بكامله، أي: الأرض بالنخل بما عليها، فهل يصح هذا البيع أم لا؟ نقول: يصح؛ لأن بيع هذه الثمرة ليس بيعاً مستقلاً، ولكنه تابع للنخلة، وهو مثل بيع اللبن في الضرع، فإذا اشترى الناقة وفي ضرعها حليب، فهل نقول: لا يجوز حتى نحلبها، أم أنه يجوز بيعها بحليبها في ضرعها؟! يجوز؛ لأن الحليب في الضرع تابع للناقة، وهكذا ما نهي عن بيعه منفرداً جاز مع أصله تابعاً.
إذاً: نهى عن بيع الثمر حتى يطعم، وهذه -كما أشرنا- عامة في جميع أنواع الثمار.


النهي عن بيع الصوف على الظهر
قال: (ولا يباع صوف على ظهر) .
والوبر والشعر على الظهر داخل في هذا؛ لأن الغرض المثال في الجنس، والغاية من النهي: الغرر، فما يوجد من غرر في صوف على ظهر الغنم موجود في وبر على ظهر الإبل؛ وشعر على ظهر الماعز، ولكن بعض العلماء نظر في موضوع الصوف وأمثاله، فإذا جئنا إلى قطيع من الغنم وعليه الصوف، فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، فصاحب الغنم وجد الصوف قد زاد عن حده على ظهور الغنم، وبقاء الصوف الزائد عن حده على ظهر الغنم يضعف الغنم؛ لأنه يمتص غذاءها ويثقلها، فيريد أن يتخلص من هذا الصوف، فالطريقة المثلى: أن يأتي بمن يجز هذا الصوف ويجمعه في كوم أو يضعه في أكياس، ويعرضه على التجار ليشتروا هذا الصوف ويذهبوا به إلى الغزل أو إلى النسيج، فهذا طريق لا غبار عليه.
ولكن إذا قال: أنا إذا جززت الصوف وبقي عندي في أكياسه، فماذا أفعل به؟ وإذا لم يأت التاجر فماذا أفعل به؟ إذاً: سأذهب وآتي بتاجر ونقدر الصوف على ظهور الغنم ونتفق على البيع، فهل يجوز هذا؟ هناك من يقول: إذا وجد من أرباب الخبرة من يقدر الصوف على الظهر قبل جزه، ووقع البيع على هذا المرئي المشاهد فلا مانع، ويتناول الحديث من جهة السند، ويقولون: ليس هناك ما يمنع، وقاعدة البيع هي: المنع من الغرر، فإذا كان المشتري خبيراً وكذلك البائع حتى لا يخدع، وعرف الطرفان كم يجز من عشرة رءوس من الغنم، كأن يجز منها خمسون أو مائة كيلو وتبايعا على الصوف الموجود، وخلى بينه وبين الأغنام، فيجز صوفها ويأخذه.
والمانعون يقولون -لكنه تصوير عجيب-: إذا اشترى الصوف على الظهر وجاء يجزه، فمن أين سيجز الصوف؟ فهل يترك (3سم) من أسفل ويقص، أم يترك (5سم) ، أم يترك (1مم) ؟ فقالوا: في هذا غرر، ولا ندري كم سيأخذ وكم سيترك؟! وهذا ما له محل؛ لأن جز الصوف معروف عند الناس، ولهم مقص معين، وطريقة معروفة، والآن تطوروا وصاروا يجزونه بالمكينة، وهي مثل المكينة التي تقص شعر رأس الإنسان لكنها كبيرة، وعلى بطارية، وتجز شعر الغنم والماعز وغيرها.
فإذا كان سائداً ومعروفاً في العرف أن الذي يجز الصوف يجزه من الموطن الفلاني، ويترك (1سم) ، أو يترك (½سم) ، أو نحو ذلك، وهذا الأمر صار متعارفاً عليه، وبهذا ينتفي الغرر، وإن كانت هناك طرائق متفاوتة في تحديد القص، فيجب تعيين الطريقة ومقدارها، وبهذا ينتفي الغرر في مقدار الصوف الذي سيتركه.
إذاً: إذا علم المقدار، وانتفى الغرر، فهناك من يقول بجوازه، والله تعالى أعلم.


النهي عن بيع اللبن في الضرع
قال: (ولا لبن في ضرع) .
هذا تقدم الكلام عليه، وأنه لا يجوز؛ لأننا لا نعلم كم مقدار اللبن في هذا الضرع، والضروع تختلف أحجامها، فهناك الضرع متين اللحم يظهر فيه القليل كثيراً، وهناك الضرع رقيق اللحم يظهر الكثير فيه قليلاً، إذاً: هناك غرر محقق.


حكم بيع المغيب في الأرض
وفي هذا الحديث يتوسع الفقهاء فيما يتعلق بحالة الفلاح، والفلاح قد يحتاج في ظروف ما إلى بيع نتاجه، فإما أن نقول فيها بالتسامح، وأنه من الغرر المعروف الذي يقبله الطرفان، ويأتي ذلك في بيع ما كان مقصوده في باطن الأرض، كالجزر والبصل والثوم والقلقاس والبطاط، فإن المقصود منها يكون فيما هو في بطن الأرض.
فإذا كان عند إنسان حقل من الجزر، فلو أخذ في كل يوم حوضاً من الحقل بقدر ما يستطيع، وقلعه وغسله وذهب به إلى السوق وباعه عياناً للناس، فالحمد لله، وهذا من أحسن ما يكون، ولكنه أراد أن يبيعه مرة واحدة ويرتاح من عناء السوق والذهاب والإياب، فأتى بتاجر ونظر في الحقل -مع أنه لا يرى المقصود شراؤه؛ لأنه في بطن الأرض- فاتفقا على البيع والشراء، فهل يجوز هذا؟ الذين يمنعون بيع الصوف على الظهر واللبن في الضرع يمنعون هذا؛ لأن هذا مجهول، والذين أباحوا البيع قالوا: يباع على الأنموذج، ومعنى الأنموذج: أن يأتي التاجر إلى الحوض الذي فيه الجزر، والثمرة في الحوض الواحد قد تختلف لاختلاف قربها من الماء، فما كان قريباً من الماء وتطول مدة سقيه فإن ثمره سيكون أجود وأكثر، فالتاجر يأتي إلى مدخل الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -وهذا هو النموذج- ويذهب إلى طرف الحوض الآخر ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثانياً- ويأتي إلى وسط الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثالثاً- فإذا أخذ العينة من الأماكن الثلاثة استطاع أن يعمل نسبة متوسطة بين النماذج الثلاثة، وكم سيخرج من هذا الحوض عند قلعه؟ قنطار أو قنطاران أو نصف قنطار، ويخرجه في يوم واحد أو في يومين أو في ثلاثة، بشرط ألا يخرج من الأرض ما يداخل الموجود عند العقد، وأكثر تفصيل هذا المسألة عند المالكية والحنابلة.
فإذا تم معرفة مقدار المغيب في بطن الأرض برؤية النماذج، وقد صلح أكله -أما إذا لم ينضج فلا؛ لوجود الغرر- ويكون البيع على ذلك، وقد نص بعض الفقهاء -وخاصة الحنابلة- على جواز بيع مثل هذه الصورة، وكذلك بقية ما كان غائبه مطلوباً، فمن أجازه قال: انتفى الغرر نسبياً، ومن منعه قال: لا يخلو من الغرر، ولا يمكن لأي بيع في العالم أن يسلم من الغرر.
وما هو السبب في فرق الربح والخسارة؟ التاجر يشتريها بمائة ويبيعها بمائة وعشرة، فهذه العشرة يدفعها المستهلك وهي غرر عليه، لكنه لا بد من هذا الغرر البسيط، والتسامح فيه من أجل رواج السلع، وقد أشرنا إلى مسألة الثلاثة الذين يدخلون الحمام، فواحد يستهلك خمسة لتر، وواحد يستهلك عشرة لتر، والأجرة واحدة.
وكذلك: ثلاثة يركبون الطائرة، فواحد وزنه مائة وخمسون كيلو، وواحد وزنه ستون كيلو، وسعر تذكرة كل واحد مساوٍ للآخر، وهذا فيه غرر على شركة الطيران، ولكن يتسامح في هذا.
إذاً: هناك أمور من الغرر لا بد من التسامح فيها، والله تعالى أعلم.


شرح حديث النهي عن بيع المضامين والملاقيح
[وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح) رواه البزار وفي إسناده ضعف] .


معنى بيع المضامين والنهي عنه
في نهاية هذا الباب الطويل يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح، وقد فسرها العلماء بأن المضامين هي: الحمل ضمن بطن الأم، وقد تقدم النهي عن مثل هذا في النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام حتى تضع، وكذلك هنا كل ما كان مغيباً مضمناً في غيره مجهولاً فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه، أصالة في الأجنة في البطون، وتبعاً لكل ما هو على هذا المنوال، وقد ذكرنا سابقاً: لو أن إنساناً أتى بصناديق وبعلب وقال: فيها كذا، وسأبيع ما فيها دون أن نفتح العلبة، أو نرى مضمونها، أو نفتش ما فيها، فلا يجوز هذا البيع؛ لأن فيه غرراً.


معنى بيع الملاقيح والنهي عنه
والملاقيح، يقولون: إنها من التلقيح، والتلقيح -وهو في النخل التأبير- هو: إضافة طلع الفحل إلى النخلة، وكذلك في جميع الحيوانات: إضافة ماء الذكور إلى ماء الإناث، فتتلقح الأنثى من ماء الذكر، فالتلقيح والملاقيح من اللقاح، واللقاح يكون من جانب الذكر، فإذا كان هناك فحل نجيب يرغب الناس في نسله وسلالته، فجاء إنسان لصاحبه وقال: أشتري منك لقاح هذا الفحل، فهذا لا يجوز؛ لأنه ليس كل لقاح يكون منه إنتاج، ثم لا يدرى متى يأتي هذا اللقاح، وإذا لقح الأنثى كيف يكون هذا النتاج؟ وكل ذلك يجري في مجرى الغرر كما تقدم في أول الباب.
وهناك ناحية تدخل في هذا الباب، وهي ما إذا كان لدى إنسان أنثى من بهيمة الأنعام، وهناك فحل من فحول هذا الجنس عريق السلالة، ورغب في لقاح هذا الفحل، فذهب بالأنثى التي عنده ليلقحها من ذلك الفحل، فهل يشتري لقاح الفحل؟! نقول: نهى صلى الله عليه وسلم عن ضراب الفحل) ، ولكن إذا كان صاحب الأنثى راغباً في تحسين نسل أنثاه فإن له أن يكارم، كما قال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن ضراب الفحل: (يا رسول الله! إنا نكارم على ذلك) ، أي: يأتي صاحب الأنثى وعندنا الذكر فنطلقه عليها يلقحها، فيكارموننا على ذلك، أي: يعطوننا شيئاً مكرمة وليس مشارطة، وليس بيعاً ولا شراءً، حتى قال بعض العلماء: ربما يأتون بالعلف لهذا الفحل مقابل هذا الجهد الذي بذله وتلقحت به الأنثى، فمثل هذا العمل لا بأس به، ما دام أنه على سبيل الهدية والمكارمة، وليس على سبيل البيع والمشارطة، ولا تقل: أشتري ضراب فحلك بكذا، أو تلقيحه للأنثى عندي بكذا، ولكن اتركه عليها أو أطلقه عليها، فلا بأس.
وقد ذكر عن مالك رحمه الله: أن لصاحب الإبل أن يستأجر الجمل الجيد الذي يرغب في سلالته يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً يسرح مع إبله، ويلقح ما تيسر له، فلا مانع في مثل ذلك.
واستنجاب النسل أمر معروف ومرغوب، وقد كان من عادات أهل الجاهلية السيئة -وقد قضي عليها والحمد لله- أن الرجل إذا أحب أن يكون له ولدا فارسا أو شاعرا أو كريما، فإنه ينظر من يتصف بذلك من قومه أو من غيرهم، فيرسل زوجته -بعد أن تطهر من حيضتها ولا يمسها- إلى ذلك الرجل، وتبقى عنده إلى أن تشعر بأنها قد حملت، فتعود إلى زوجها ويعاشرها الحياة العادية، فتنجب على فراشه، ويكون أصل الإنجاب وأصل التلقيح من ذلك الرجل، فيخرج الولد مشابهاً لأبيه في الشجاعة أو الفصاحة والبلاغة أو الحكمة أوالكرم، أو الشعر وكانوا يسمون هذا الفعل: نكاح الاستبضاع.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها في هذا: (كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء) أي: أربع صفات، وذكرت هذا منها، ومنها: أن تخطب المرأة من وليها فيصدقها الخاطب ويتزوجها، أي: مثل النكاح الذي عندنا اليوم، فألغى الإسلام كل تلك الأنواع وأبقى النكاح بخطبة المرأة من وليها ويمهرها صداقها ويدخل عليها وينفرد بها.


النطف المجمدة والتلقيح الصناعي
والآن يوجد في جميع وزارات الزراعة والمؤسسات الكبرى استجلاب النطف المجمدة، وهو ما يسمى: بالتلقيح الصناعي، والتلقيح الصناعي كان يجري حتى على بني الإنسان، وكانت ترتكب فيه الجرائم، ونقابات الأطباء تجرم كل طبيب أجرى عملية تلقيح صناعي لامرأة بماء غير زوجها، ويقولون: إن هذه جناية، فالمؤسسات تأتي بلقاحات لفصائل فارهة، سواء كانت من ذات اللحم، أو من ذات الجري، أو القوة، فيأتون بها محفوظة بطريقتهم الخاصة، ثم يلقحون الإناث من تلك الأجناس بتلك اللقاحات المشهورة، أو المعروفة، أو المرغوب فيها، فيأتي النتاج مهجناً، ويأتي على حسب أصالة ورفاهة الأصل الذي أخذت منه النطف ولقحت به الإناث.
فالملاقيح لا يجوز بيعها، ولكن يجوز المكارمة عليها، ولا يجوز نقل نطفة بالنسبة للإنسان عن طريق التلقيح الصناعي، ولا بأس في الحيوان؛ لأن الحيوان ليست له محارم وليس له سلالة نسب، فإنه كلما كان فيه من إصلاح النوعية وتحسينها كان أفضل، ولا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.