شرح حديث: (غدوة في
سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما
طلعت عليه الشمس وغربت) أخرجه مسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله ليعه وسلم:
(غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) أخرجه البخاري.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى حنين -وذكر قصة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قالها ثلاثاً) .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم
عين من المشركين -وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته، فنفلني سلبه) ، وفي
رواية فقال: (من قتل الرجل؟ فقالوا ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) ]
.
في هذه الأحاديث فضل الخروج في سبيل الله للجهاد، وفيها بعض أحكام
الجهاد التي لها صلة بالقتال في سبيل الله، فالحديث الأول: (غدوة في
سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس) ، وفي الحديث الثاني:
(غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، والمعنى واحد، والغدوة:
المسير من أول النهار يعني: من طلوع الشمس إلى نصف النهار، هذا يُسمى:
غدواً، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل
عمران:121] ، فالغدو هو: المسير أول النهار، والروحة: المسير آخر
النهار، أي: من زوال الشمس إلى غروب الشمس، هذا يُسمى رواحاً، ويُسمى
المسير فيه روحة، وقد كانوا يسافرون للقتال في سبيل الله، فكانوا
يقطعون ليالي وأياماً في السير على أقدامهم، أو على خيولهم، أو على
إبلهم؛ لأجل الغزو، ولأجل الإتيان إلى المشركين حتى يقاتلوهم في عقر
دارهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم إذا سرتم نصف يوم في
سبيل الله فأجره خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا بحذافيرها، ومن أن يحصل
لكم ما تطلع عليه الشمس أو تغرب؛ وما ذاك إلا أن هذا ولو كان مسيراً
وسفراً عادياً، ولكنكم سافرتموه لأجل القتال في سبيل الله، ولأجل نصرة
دين الله، ولأجل قتال من كفر بالله، ولو لم تبدءوا بالقتال، ولو كنتم
تسيرون من بلادكم، متوجهين إلى بلادهم، فكل يوم أو نصف يوم تسيرونه
ثوابه خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا وما فيها، ولا شك أن هذا دليل على
أهمية السير في سبيل الله الذي هو الغزو.
وقد كانوا يسيرون شهراً متوجهين إلى البلاد التي فيها الكفار، فإذا
ساروا -مثلاً- من المدينة إلى الشام لا يقطعونها إلا في خمسة وعشرين
يوماً أو ثلاثين يوماً، حتى يصلوا إلى بلاد المشركين، فكل نهار فيه
غدوة وروحة خير لهم من الدنيا وما فيها.
ومعلوم أن القصد هو وصولهم إلى البلاد الكفرية، وصمودهم أمام المشركين،
وقتالهم لهم، وتوجههم نحوهم، وبدؤهم بالقتال، وصبرهم أمام العدو، هذا
هو المقصود؛ إذ ليس السير إلا وسيلة من الوسائل، فإذا كان السير الذي
هو وسيلة من الوسائل فيه هذا الأجر وهذا الثواب فلا شك أن ما سواه -وهو
الصمود للقتال، والبدء به، والصبر عليه، وتعريض النفس للقتل، وكذلك
تعريض المال للسلب وللنهب- أكثر أجراً وأعظم ثواباً، وما ذاك إلا أنه
هو المقصد، فالوسيلة هذا فضلها، والمقصد هذا فضله وأجره أكثر وأعظم.
شرح حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله
سلبه)
قصة حديث أبي قتادة كانت في غزوة حنين، وهي التي كانت بعد فتح مكة؛
وذلك لأن هوازن وثقيفاً كانوا قبائل قوية، وكان لهم منعة، وكان عندهم
بأس، وكانوا مناوئين للإسلام، فلما أسلم أهل مكة امتنعت الطائف وقبائل
ثقيف وهوازن عن الإسلام، واجتمعوا في حنين، واستعدوا ليقاتلوا محمداً
صلى الله عليه وسلم ومن معه، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه
الذين جاءوا معه لفتح مكة وهم عشرة آلاف، ومعهم ألفان من الطلقاء الذين
أسلموا بمكة، فصاروا اثني عشر ألفاً، فتقابلوا مع ثقيف وهوازن في حنين،
ولما تقابلوا بدأت ثقيف القتال، وكانوا رماة، وكان معهم سهام كثيرة،
وكان من آثارها أن انهزم بعض المسلمين لشدة الرمي، ولشدة إصابتهم
بالسهام التي أشبهت الوابل، فلما انهزموا بقي منهم بقية، فرأى أبو
قتادة رجلاً من المسلمين قد استولى عليه مشرك من المشركين، وأمسكه يرد
أن يقتله، فجاء أبو قتادة إلى ذلك المشرك من خلفه فطعنه حتى أرداه
قتيلاً، يقول: ولكنه قبل أن يموت ضمني ضمةً شديدةً حتى وجدت رائحة
الموت ثم مات.
وفي هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم بعدما انهزم المشركون ورجع
المسلمون وقتل من قتل من هؤلاء وهؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(من قتل قتيلا ً له عليه بينة فله سلبه) ، ويعني بالسلب: ما كان معه من
سلاحه ولباسه وما كان يحمله، حتى ولو كانت نقوداً ثمينة أو نحوها، وأبو
قتادة ما أخذ سلب ذلك الكافر الذي قتله، بل تركه، وأخذه أحد المسلمين،
ولما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتادة: من يشهد لي؟
يعني: من يشهد لي بالقتيل الذي قتلته، ولم يشاركني في قتله أحد؟ فقال:
(ما شأنك؟) قال: رجل قتلته وكان من أمره كذا وكذا، فقال أحد المسلمين:
صدق وسلبه عندي، فمره يسمح لي به، فقال أبو بكر: لا يعمد إلى أَسَد من
أُسْد الله يقاتل في سبيل الله فيعطيك سلبه، فأعطاه سلبه، فاشترى به
مخرفاً، يعني: نخلاً، يقول: فإنه لأول مالٍ تأثلته في الإسلام.
شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم
عينٌ من المشركين)
قصة سلمة بن الأكوع فيها أنهم كانوا في غزوة، ولعلها غزوة حنين، فجاءهم
عين من المشركين، والعين هو: الجاسوس، أي: أنه أرسل ليتجسس على
المسلمين، وينظر قوتهم، وينظر مكانتهم ومجتمعهم، ثم يذهب إلى الكفار
ويخبرهم بما مع المسلمين، فيقول لهم: تجدونهم في المكان الفلاني،
وعندهم من القوة كذا، وأعدوا لهم كذا وكذا، فهذا الجاسوس جعل ينظر
ويتأمل في أحوال المسمين، وكأنه رأى فيهم ضعفاً، ثم إنه لما عرفهم رجع
وركب ناقته، ففطن له النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه أرسل من
المشركين للتجسس، فأمرهم بأن يقتلوه، وكان قد ركب ناقته وأسرع السير،
ولم يقدر الصحابة على أن يدركوه، وكان سلمة بن الأكوع شديد السعي، فسعى
في أثره على قدميه، ثم إنه سعى حتى وصل إلى قرب رجلي الناقة، ثم اشتد
بالسيف حتى وصل إلى قوائمها، ثم تقدم حتى مسك بخطامها، وتمسك به إلى أن
قوي عليها، ثم بركت الناقة لما أنه اجتذبها بقوته، ولما بركت عمد إلى
ذلك الجاسوس فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتله؟ فقالوا:
ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) .
حكم السلب
أخذ من هاتين القصتين أن من قتل أحداً من المشركين فإنه يستحق سلبه،
ولا يدخل ذلك في الغنيمة، بل يكون ذلك له تشجيعاً، حيث إنه يصمد أمام
المشركين، ويعرض نفسه للقتل، ويستعد للقتال، حتى إن بعض الصحابة قد قتل
عدداً من المشركين، ذكروا أن أبا طلحة الأنصاري قتل في غزوة حنين نحو
عشرين قتيلاً، وانفرد بأسلابهم تشجيعاً له، فيأخذ القاتل سلب القتيل،
ويدخل في السلب سلاحه الذي يقاتل به، كسيف أو رمح أو نبل أو قوس أو
خنجر، وغير ذلك، ويدخل في السلب درعه إذا كان عليه درع قد ارتداه ليقي
به السلاح، ويدخل في ذلك الخوذة، وهي: المجن الذي يلبس على الرأس،
ويدخل في ذلك بقية الألبسة التي يلبسها كجبة أو قميص أو ما أشبه ذلك،
وإذا كان معه شيء من النفقة دخل أيضاً، فإذا وجدوا معه نقوداً أو نحوها
فإنها تدخل في سلبه، فيأخذ القاتل ذلك كله تشجيعاً له.
وكذلك أيضاً دابته التي يقاتل عليها، فهي على الصحيح له، فإذا كان
الكافر يقاتل على فرس أو على ناقة أو نحوها فإنه يأخذه ذلك المسلم الذي
قتله من باب التشجيع له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك
تشجيعاً لمن يقتل مشركاً في المعركة، أما إذا قتله في غير المعركة فإن
ذلك يكون في الأصل من الغنيمة التي تقسم على الغانمين.
أما بقية المغنم فإن الكفار إذا انهزموا وتركوا أمتعتهم وأزودتهم،
وتركوا مكانهم الذي كانوا يجتمعون فيه، وتركوا ما فيه فإن هذا من
الغنيمة التي تُغنم، وكذلك أيضاً إذا فتحوا بلاداً، وأخذوا ما فيها من
الأموال، فإن هذه من الغنائم التي أباحها الله تعالى لهذه الأمة في
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً}
[الأنفال:69] فأباح الله لهذه الأمة غنائم المشركين، فما يأخذونه من
الغنائم التي ينهزم عنها المشركون ويتركونها فإنها تُقسم بين الغانمين،
لكن بعدما يخرج منها الخمس الذي ذكره الله بقوله: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] يعني: أن الخمس يقسم بين هؤلاء،
وأربعة الأخماس الباقية تقسم على الذين اشتركوا في الوقعة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قسم يعطي من قاتل على فرس ثلاثة
أسهم -سهماً له وسهمين لفرسه-، وأما الذي يقاتل على قدميه فليس له إلا
سهم واحد، سهم للراجل وثلاثة أسهم للفارس، وما ذاك إلا أن الفارس أشد
نكاية؛ حيث إنه يخوض المعركة، ويجول بفرسه، ويصمد أمام المشركين، ويدرك
المنهزمين، ويجول فيهم، ويكثر فعله، ويكثر تأثيره في إضعاف قوة
المشركين، فكان من تشجيعه أن أُعطي ثلاثة أسهم، ومع ذلك فإن الأصل أن
المسلمين ما كانوا يقاتلون لأجل السلب، ولا يقاتلون لأجل المغنم،
ولكنهم كانوا يقاتلون لوجه الله، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا،
ودينه هو الظاهر، يقاتلون المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، والذين
يقاتلون أولياء الله، والذين يعادون المسلمين، وينصبون لهم العداوة،
فالمسلمون إذا قاتلوهم يقصدون بذلك إذلال الكفر، وإهانة الكافرين،
وتحقيرهم، وإعزاز الدين، ونصرة الله ورسوله، كما أمرهم الله بقوله:
{كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] ، وقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] هذه هي نيتهم التي يثيبهم الله تعالى عليها، ومع
ذلك فلهم هذا الأجر.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تضمن الله لمن خرج في سبيلي
لا يخرجه إلا قتال في سبيلي إن مات أن أدخله الجنة، أو أرده إلى بلده
بما نال من أجر أو غنيمة) ، فبشره أنه إذا قتل فإن له الجنة، وإذا رجع
فإن له الأجر أو يحوز مع الأجر المغنم الذي يغنمه المسلمون من بلاد
المشركين، وهذا من الترغيب في الجهاد، والترغيب فيه ترغيب دنيوي
وأخروي، ولكن ينبغي أن يكون الترغيب الأخروي هو المقصد الأعلى.
شرح حديث: (بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد، فخرجت
فيها، فأصبنا إبلاً وغنماً، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونفلنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً) .
وعنه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله
الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ]
.
حديث ابن عمر فيه قصة هذه السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم
إلى نجد، والتي غنمت هذه الغنائم من إبل وغنم والسرية: قطعة من الجيش،
تنطلق منه إلى بعض الأعداء الذين ليسوا في طريق الجيش، فتغير عليهم
وتقتل منهم وتغنم، وترجع إلى الجيش، فيمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان في غزوة من غزواته، إما في غزوة حنين أو في غيرها من الغزوات، كان
متوجهاً إلى جهة، فذُكر له أن بعض المشركين في أحد جوانب البلاد،
فاختار لها سرية؛ لأنهم قليل لا يستحقون أن يذهب إليهم الجيش كله،
والجيش قد يكون -مثلاً- عشرة آلاف وهم لا يحتاجون إلا إلى مائتين أو
ثلاثمائة أو أربعمائة فارس أو راجل، فأرسل تلك السرية، وفيها عبد الله
بن عمر، فذهب رضي الله عنه معهم فقاتلوا أولئك المشركين، وأصابوا هذه
الغنائم، وهي غنائم كثيرة، كانت أغناماً وإبلاً، فجاءوا بها يسوقونها،
فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الجميع، أي: بين الجيش والسرية،
ولم يجعلها للسرية وحدها؛ وذلك لأن السرية تتقوى بالجيش، والجيش يتقوى
بها، فإذا غنمت السرية فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، وإذا غنم الجيش
بعد السرية شيئاً فإن السرية تشاركه فيما غنم؛ لأنهم جميعاً غزاة في
جهة واحدة، فهم سواء فيما غنموه، إلا أن أصحاب السرية ينفلون؛ وذلك
لأنها تتعرض للخطر، ولأنها غالباً تسير ليلها وتكمن نهارها، ويصيبها
شيء من التعب والكلل والملل والمشقة، فلذلك يُحتاج إلى تنشيطها بأن
تُنفل شيئاً مما غنمت.
وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في ذهابه الربع بعد
الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس، ومعنى ذلك أنه إذا كان خارجاً في
بدايته يعني: في خروجه من المدينة متوجهاً إلى العدو، وأرسل سرية
يغيرون من هنا أو من هناك، قال لهم: اذهبوا إلى البئر الفلانية أو إلى
البلد الفلانية، وإذا غنمتم شيئاً فأخرجوا منه الخمس، وخذوا الربع لكم،
والباقي بيننا وبينكم، فهذا الربع الذي يأخذونه يُسمى نفلاً، أي:
زيادة، وكذلك إذا انتهوا ورجعوا إلى بلادهم، فمعلوم أنهم في ذلك الوقت
يكونون مشتاقين إلى أهليهم، وقد يكون معهم شيء من التعب والملل والكسل؛
فلأجل ذلك هم بحاجة إلى أن يُزاد لهم، فإذا بعثهم يقول لهم: أغيروا على
القوم الفلانيين، على بني فلان أو على أهل البلد الفلانية، وإذا غنمتم
فلكم الثلث بعد الخمس، والباقي بيننا وبينكم، هكذا كان ينفل.
فهذه السرية التي فيها ابن عمر غنموا غنائم كثيرة، ولما قسمت أخرج منها
الخمس الذي هو سهم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل، وبعد إخراج الخمس أخرج الربع لهذه السرية وحدها، وبعد ذلك قسم
الباقي على الغانمين الذين غنموا، وعلى الجيش الذين هم قوة الغانمين،
فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيراً، هذا سهمانهم عموماً، كل منهم له اثنا
عشر بعيراً.
وأما النفل فلكل واحد منهم بعير، والبعير: اسم للواحد من الإبل،
فالناقة تُسمى بعيراً، والجمل يُسمى بعيراً، فأعطى كل واحد اثني عشر من
الإبل من الذكور والإناث، هكذا قسمت، وذكر بعض الذين شرحوا الحديث أنها
سرية لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرسلهم قبل نجد،
وأنهم غنموا، وأن الغنائم صارت لهم إلا الخمس، وأن هذا النفل كان من
الخمس، يعني: أعطوا من الخمس بقدرهم، فكان لكل منهم بعير زيادة على
سهمه.
وبكل حال: فهذا الحديث دليل على جواز النفل، ودليل على جواز إرسال
السرايا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يرسل السرايا من المدينة يقاتلون ثم
يرجعون، ويُسمون سرية؛ لأنهم يسيرون ليلاً طويلاً حتى يصلوا إلى قرب
العدو، فيقاتلون ثم يغنمون ويرجعون.
وتارة يفصل قطعة من الجيش ويرسلهم، ويسمون أيضاً: سرية، فالسرية تقع
على قطعة من الجيش أو مجموعة يخرجون من البلد، يغيرون على الأعداء
فيقاتلونهم حتى يغنموا منهم ما يغنموا، ولا شك أن هذا دليل على حرص
النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال المقاتلين إلى بلاد المشركين؛ حتى
يطهر البلاد وينقيها من المشركين، ويُظِهر الإسلام، وما زال كذلك حتى
أظهر الله الإسلام ونصره، ودان الناس بدين الله سبحانه وتعالى، ودخل
الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك لم يكن قصده ولا قصد صحابته ما
يحصل لهم من هذا المغنم، ولكن كان قصدهم الأساسي هو القتال في سبيل
الله، أي: قتال المشركين حتى يدخلوا في الإسلام؛ وذلك لأن المشركين إذا
هزموا وسلبوا أموالهم وذراريهم شعروا بذل وبضعف، وشعروا بأن الإسلام هو
القوي، وأن المسلمين دائماً هم المنتصرون، فيكون ذلك سبباً في إقبالهم
على الإسلام، وديانتهم به، ودخولهم فيه، كما حصل ذلك لكثير من المشركين
الذين هزموا، ثم بعد ذلك دخلوا في الإسلام ودانوا به، كما حصل لقبيلة
هوازن الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهزمهم، ثم حصل أنهم بعد
ذلك رجعوا إلى الإسلام.
شرح حديث: (إذا جمع
الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء)
حديث: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان)
أورد المؤلف هذا الحديث لبيان أن الأمان يجب الوفاء به، وكذلك العهد،
وكذلك الذمة، كل ذلك يجب الوفاء به، ويحرم الغدر والخيانة وترك الوفاء
بما التزمه المسلم.
وصورة ذلك: أن يطلب بعض الكفار الأمان، فيقولون: نطلب الأمان، أو نطلب
الهدنة والصلح، أو نطلب أن نتعاهد على ألا يقاتل بعضنا بعضاً مدة شهر
أو سنة أو سنوات، حتى نستجم، ونريح أنفسنا، ويلتقي بعضنا ببعض، ونجول
في الأرض، ونتقلب فيها لما نحتاجه، ثم بعد ذلك إذا انقضت نعود إلى ما
كنا عليه من القتال حتى ينتصر من ينصره الله، وكما كان في عمرة
الحديبية حين اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش على المعاهدة،
فتعاهدوا على وضع الحرب عشر سنين، فلا يقاتل بعضهم بعضاً، وقُصد بذلك
أن يأمن الناس على أموالهم وعلى دمائهم، وأن يتمكن الدعاة من الدعوة
إلى التوحيد، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العهد ووفى به،
ولكن قريشاً لم يوفوا بما عاهدوا عليه، بل نقضوا العهد؛ وذلك لأن خزاعة
كانوا قد دخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر دخلوا في
عهد قريش، فوقع أن بني بكر غدروا، وأمدتهم قريش بالمال وبالرجال
وقاتلوا خزاعة، وكان هذا هو النقض الذي نقضوا به العهد، فأرسلت خزاعة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه بأن قريشاً قد نقضوا الميثاق
ونقضوا العهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثمان، وحصل فتح
مكة، فكفار قريش هم الذين نقضوا العهد، أما النبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمون فما نقضوا العهد؛ لأنه يحث دائماً على الوفاء بالعهد، والله
تعالى يحث على ذلك كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا
عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] ، وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ
إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34] ، وكقوله تعالى:
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فإذا قال الإنسان:
أعاهد الله أنني لا أخونكم، ولا أفشي أسراركم، ولا أطلع عليها أحداً من
الأضداد، ولا أتكلم فيكم؛ فله ذلك، وكان لزاماً عليه الوفاء بهذا العهد
وعدم نقضه.
فإذا نقضه وخان فإن هذه الخيانة وهذا النقض خصلة مذمومة، بل هي من خصال
النفاق، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كنَّ فيه كان
منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى
يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب) ،
فذكر من جملتها الغدر، فقوله: (إذا عاهد) يعني: كذب في عهده ولم يوف
به، فالغادر هو الذي ينقض العهد، فيؤمن إنساناً، فإذا أمنه بعد ذلك
قتله، ويعتبر هذا مما يعاقب الله عليه، فيرفع للغادر لواء يوم القيامة
يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه
وسلم يحافظ على الوفاء بالعهد، وينهى عن الكذب وعن الغدر.
وأما ما يحتج به بعضهم من أن الحرب خدعة، فإن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن
قوله: (الحرب خدعة) بمعنى: أنك تخدعهم إذا رأيتهم مجتمعين، وأتيتهم على
أنك ليس بينك وبينهم عهد ولا ذمة ولا أمان، فتأتيهم كأنك مسالم أو نحو
ذلك، وأنت تقصد بذلك قتالهم، أو تأتيهم وهم غافلون ونحو ذلك، كما ثبت
أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فهذا من الحرب
الذي قال فيه: (الحرب خدعة) ، ولا يصلح أن يكون فيه نقض للعهد، ولا
الخيانة، ولا نقض الأمان ونحو ذلك، بل هذه الثلاثة: العهد، والأمان،
والذمة، يجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها بحال مع كافر أو مع مسلم.
شرح حديث: (أن امرأة
وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنهما (أن امرأة وجدت في
بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه
وسلم قتل النساء والصبيان) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن
العوام شكيا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة لهما،
فرخص لهم في قميص الحرير، فرأيته عليهما) ] .
هذان الحاديثان من الأحاديث التي تتعلق بالجهاد، فالحديث الأول في
النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب، والحديث الثاني في الرخصة في
لباس الحرير في الحروب عند الحاجة إليه، وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة في
النهي عن قتل النساء والصبيان، وفي هذا الحديث: أنه وجدت امرأة مقتولة،
ولما وجدها المجاهدون وقفوا عندها، كأنهم استنكروا قتلها، أو كأنهم
ينظرون إلى خلقتها، فأدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم صافون حولها،
فلما رآها أنكر قتلها، ونهى بعد ذلك أن يقتل في الحرب امرأة، لكن في
بعض الروايات أنه قال: (ما كانت هذه لتقاتل) ، فعلل النهي عن قتلها
بكونها ليست من المقاتلين، وهذه عادة النساء سابقاً أنهن لا يدخلن
المعارك، ولا يأخذن الأسلحة، ولا يقاتلن، وإنما تبقى النساء مع الصبيان
ومع الأمتعة، ويبقين خلف الرجال، أو يبقين في مساكنهن، ويغلقن على
أنفسهن، هكذا كان الأمر المعتاد، فالأصل عدم قتل النساء والصبيان.
ومعلوم أيضاً أن الصبي الذي هو دون البلوغ ليس أهلاً للقتال، وقد ثبت
أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استولى على المقاتلين وعلى الذراري نظر
في الصبيان: فمن وجده قد أنبت الشعر حول الفرج قتله؛ لأنه من الرجال،
ومن وجده لم يحصل منه الإنبات لم يقتله، وجعله مع الذرية، فإذا استولى
المسلمون على النساء فإنهن سبي يستحلونهن ويقسمونهن بينهم، يعني: كإماء
يملكونهن بالاستيلاء عليهن، وكذلك الصبيان، يملكونهم أيضاً، ويكونون
غنيمة للمسلمين، فيستخدمون الصبيان، ويتبادلونهم في الملكية، ويكونون
عبيداً مملوكين لهم، هذا هو السبب في عدم قتل النساء والصبيان في
الحروب.
لكن إذا قدر أن المرأة دخلت المعركة، وأخذت من السلاح ما تقاتل به،
فإذا لم يكن بد من كف شرها إلا القتل فإنها تقتل دفعاً لضررها، ومعلوم
أنه في هذه الأزمنة أصبحت نساء الكفار كرجالهم، ومما عابوا به المسلمين
حرجهم على المرأة، ومنعها أن تخوض المعركة، وأن تقاتل مع أولادها
وأحفادها، ومع إخوانها وأولاد إخوانها؛ فألزموها أن تتعلم القتال، وأن
تتعلم استخدام الأسلحة، وإذا حصلت معركة مع عدو استوى الرجال والنساء
في خوض تلك المعركة، ففي هذه الحال إذا حصل القتال بين مسلمين وكفار،
ومع الكفار نساء، فإن القتال يكون عاماً لكل من يقاتل من رجل أو امرأة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (ما كانت هذه لتقاتل) ،
فإذا وجد أنها قاتلت فلا مانع من أن تقتل، وقتلها هنا يكون كفاً لشرها؛
لتوليها من القتال ما يتولاه الرجال.
فأما إذا لم تخض المعركة، وإنما كانت مع الذراري ومع النساء في مؤخرات
الجيش، أو في محل المعركة، أو في مكان القوم الذي تحجروا لأنفسهم،
فإنها لا تقتل، بل تبقى على ما كانت عليه، حتى إذا استولى المسلمون
عليهم أخذوها كسائر السبي، أو فادوا بها كما يفادون بالأسرى ونحوهم.
ويستثنى من ذلك إذا بيت المسلمون عدوهم في داخل دورهم، وكانت الدور
-مثلاً- مظلمة، ولا يميزون صغيراً وكبيراً، ولا يميزون ذكراً وأنثى،
فإنهم في هذه الحال يقتلون من تمكنوا منه، ومن وجدوه من صغير وكبير
يقتلوه؛ لأنهم يريدون بذلك الاستيلاء على المشركين واستضعافهم وإذلالهم
وإهانتهم، فإذا بيتوهم فإنهم يقتلون من تمكنوا منه؛ ولذلك لما سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيقتل بعض النساء والذرية
قال: (هم منهم) يعني: أنهم من آبائهم، ولهم حكم آبائهم، وما ذاك إلا أن
قتالهم هاهنا هو لأجل أن يُستولى عليهم، ولأجل أن يحصل من قتلهم
الإذلال والإطاحة بهم، والاستيلاء على بلادهم، وذلك يحصل بأن يقتل من
تمكن من قتله من ذكر أو أنثى.
شرح حديث: (أن عبد
الرحمن والزبير شكيا القمل إلى رسول الله في غزوة لهما)
الحديث الثاني يتعلق بلبس الحرير للعذر، ففي غزوة من الغزوات طال
الأمر، واشتد الحر، وطالت الغيبة، وكان بعض الصحابة كـ الزبير بن
العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن اعتادوا النظافة، واعتادوا الثياب
اللينة، فلما طالت غيبتهم مع ثياب خشنة وعرق، ومع طول مسافة، وبعد عهد
بالاغتسال وبالنظافة؛ تولد القمل في الثياب وفي الجلد؛ فآذاهما القمل،
وآذتهما حكته، فاشتكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل الذي تولد
من الوسخ، والذي تولد من الثياب الدنسة الخشنة، فلما لم يكن هناك علاج
يخففان به هذه الحكة، رخص لهما في ثياب الحرير، يقول الراوي: (فرأيت
عليهما قميص الحرير في تلك الغزوة) .
فأخذ العلماء أنه يرخص في لبس ثياب الحرير عند شدة الحاجة إليها، ومن
جملة ذلك الحكة والقمل، ويكون ذلك عند طول العهد بالنظافة ونحوه.
ومعروف أن القمل يتولد في الثياب وفي البدن بسبب بعد العهد بالنظافة،
وتكاثر الأوساخ في البدن وفي الثياب خاصة، إذا بعد العهد بتنظيفها
وغسلها وإزالة الأوساخ عنها، فإذا تعاهد الإنسان بدنه يومياً أو كل
يومين أو كل أسبوع مرة أو مرتين بأن يغسل بدنه وأن يغسل ثيابه وينظفها
فإنه والحال هذه لا يتوالد معه القمل الذي يتوالد من الوسخ كما ذكرنا،
وكذلك إذا كانت ثيابه نظيفة ولينة الملمس كثياب الحرير لا يتولد فيها
هذا القمل غالباً.
ورخص لهما النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب الحرير لرقتها وليونتها
ونعومتها، وكونها تكون مكافئة ومكافحة لتولد هذه الحكة وهذا القمل، هذا
هو السبب، فإذا وجدت مشقة حصلت الرخصة، وإلا فإن الحرير حرام على
الرجال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا
لم يلبسه في الآخرة) وإنما رخص فيه للنساء، وقال في الذهب والحرير:
(هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) فصرح بأنهما محرمان على الرجال.
وقد ذكر الله أنها لباس أهل الجنة؛ يقول تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فإذا كان لباسهم الحرير في الجنة فإن الذي يطلب
الجنة في الدنيا يتقلل من الأسباب التي تمنع من دخولها، ومن جملة ذلك
ألا يفعل الأشياء التي إن فعلها منع منها في الآخرة، كما صرح في هذا
الحديث، وحديث: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ، فكذلك
من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، يعني: يعاقب بألا يدخل
الجنة التي لباس أهلها حرير.
وسبب منع الرجال من لباس الحرير في الدنيا: أنه لباس أهل الترف، وأهل
البذخ والكبر والرفاهية والتنعم، ولباس الذين يعتبرون الدنيا ملذة
ونعيماً، وهذه الرتبة إذا حصلت فإن الذي تحصل له يكون من أهل الدنيا
أصلاً، ولا يشتغل بالآخرة، بل يكون حظه منها هو الانكباب والإقبال على
الشهوات وأسبابها، وهذا هو السبب في منع الرجال من لباس الحرير، ومن
التحلي بالذهب في الدنيا.
وإذا كان كذلك فإنه يرخص فيه للعذر كما في هذه الحالة، والرخصة خاصة
بالحرب، فإذا كان الإنسان غازياً، وطالت به الغيبة لطول الغزو، ولم يجد
مكاناً أو بلداً يتنظف فيه، ويغير لباسه وكسوته أو ينظفه أو نحو ذلك،
وحصلت له هذه الحكة من آثار هذا القمل؛ ففي هذه الحالة تحصل له الرخصة،
وأما إذا وجد رخصة غير هذه بأن وجد ثياباً نظيفة أو وجد ما ينظف به
بدنه ويزيل عنه الوسخ فلا تعمه الرخصة التي رخصت لهما.
وقد ذكرنا أنهما رضي الله عنهما كانا ممن اعتاد النظافة، واعتاد الثياب
الرقيقة، ولما طالت بهما المدة تغيرت الحال عليهما، فكثرت الحكة فيهما،
ولم يذكر أن غيرهما حصل له هذا الأمر؛ وذلك لأن غيرهما كانوا قد
اعتادوا الثياب الدنسة ونحوها، ولا تؤثر الحكة على من اعتاده ذلك،
والله أعلم.
شرح حديث: (أجرى
النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما قال: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء
إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) ،
قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى.
قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية
الوداع إلى مسجد بني زريق ميل.
وعنه رضي الله عنهما قال: (عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم
الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) ] .
الحديث الأول يتعلق بالمسابقة، فالسباق على الخيل سنة لهذا الحديث؛
وذلك لأن فيه: أولاً: تجرأة على ركوب الخيل واعتياده، والثبات
والمجاراة عليها.
ثانياً: تجربة الخيل، ومعرفة السابق منها وما ليس بسابق، وسبب ذلك: أن
القتال كان على هذه الخيل؛ فالقتال الذي كانوا يقاتلون به أعداء
الإسلام غالباً كانوا يركبون فيه الخيل، وقد يركبون الإبل، قال تعالى:
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] ،
فالركاب هي: الإبل، فدل على أنهم يوجفون دائماً أو كثيراً على الخيل أو
على الركاب التي هي الإبل.
ثالثاً: أن الخيل تحتاج إلى تعويد وتمرين على السباق، وأنها تختلف
باختلاف أحوالها، فمنها المضمر ومنها غير المضمر؛ لذلك فرق بينهما في
هذه المسابقة، فأمر بأن تجري الخيل المضمرة مسافةً طويلة، والخيل غير
المضمرة مسافةً قصيرة.
والمضمرة هي: خيولٌ تُعلَّف مدة ستة أشهر أو سنة ويزاد في علفها، وتعطى
أنواع العلف الذي تقوى به حتى تسمن وتقوى ويكثر لحمها ويقوى عظمها، ثم
إذا أرادوا السباق عليها جوعوها ثلاثة أيام أو يومين لا يعطونها شيئاً
حتى تضمر ويخف ما في بطنها، فيكون عظمها قد صلب وقوي، وجسمها قوي
أيضاً، وبطنها صار خفيفاً، فإذا أرادوا السباق في ذلك اليوم كانت قد
ضمرت وخفت، فيطعمونها طعاماً قليلاً بقدر ما تتمسك به قوتها، ثم بعد
ذلك يجرونها، فيجتمع فيها قوة البدن والسِّمن، وخفة البطون والجسم،
فيكون سيرها أسرع.
وحيث إن الله تعالى ذكر الخيل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ، فأمر بإعداد الخيول
وبتهيئتها لتكون إرهاباً للأعداء وتخويفاً لهم؛ حتى إذا علموا أن عند
المسلمين قوة ومنعة كان ذلك سبباً في هيبتهم وفي خوفهم؛ حتى لا يطمعوا
في شيء من بلاد المسلمين أو من أموالهم أو ردهم عن دينهم أو نحو ذلك،
بل يخافونهم، وإذا عزموا على قتالهم كان المسلمون قد استعدوا وقد
تهيئوا، وقد أعدوا لهم العدة، فيكون مع المسلمين قوة ونجدة واستعداد
لرد كيد الأعداء ولإذلالهم وإهانتهم.
فهذا هو السبب في الأمر بإعداد الخيل، في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
[الأنفال:60] .
ولا شك أن من جملة إعداد وتهيئة الخيول الدخول إلى الميادين؛ وذلك
بمعرفة الأسبق منها، وبمعرفة السابق والقوي وغير ذلك، وهذا هو السبب في
أنه صلى الله عليه وسلم أجرى هذه الخيل، أمر كل فارس أن يركب على فرسٍ،
ويدخلوا المسابقة، وإذا أطلقوها فإنها تسير سيراً سريعاً، وتسعى سعياً
شديداً إلى أن تصل إلى نهاية المدى الذي حُدد لها.
فجعل للخيل التي أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع، وهذه أمكنة معروفة
بالمدينة، وحددها الراوي بأنها خمسة أميال، وهذا يدل على أنها مسافة
طويلة.
والميل يساوي قريباً من ألف وسبعمائة، وهذه مسافة طويلة، ولكن الخيول
المضمرة خفيفة الجري، وسريعة العدو، وشديدة الأبدان، ولا تألم ولا
تتعب، فلذلك لو سارت خمس ساعات سعياً شديداً لن تتعب في الغالب.
وأما الخيل التي لم تضمر فإنها تتعب بسرعة، لذلك جعل لها ميلاً واحداً،
فجعلها تجري من الثنية إلى مسجد بني زريق نحو ميل أو قريباً من الميل،
أي ألف وسبعمائة متر، وهذا لا شك أنه رفق بها؛ لكونها تتعب بسرعة؛
لأنها ممتلئة البطون، وثقيلة الجري، ولكونها لم تتعود على الجري.
الأشياء التي يكون
فيها السباق
السباق على الخيل من السنة، بل قد يستحق صاحب الفرس السابق جائزة
تشجيعاً له على ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا
في نصلٍ أو خف أو حافر) ، والسبق هو: الجُعل الذي يبذل لمن سبق،
فالجائزة التي تبذل للسابق تُسمى سبقاً، يعني: أجرةً وجائزة له تشجيعاً
له على سبقه.
فجعل السبق يختص بهذه الثلاثة: السباق على الإبل، والسباق على الخيل،
والسباق بالسهام التي هي الرمي، فالسباق بالرمي كأن ينصبون -مثلاً-
هدفاً ثم يرمونه بسهامهم، فمن أصابه فله الجائزة، والذي يخطئ ليس له
شيء، وهذا يجعلهم يعودون أنفسهم على الرمي.
وقد وردت الأحاديث في الأمر به، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في
تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ} [الأنفال:60] قال: (ألا إن القوة الرمي) .
ويدخل في ذلك الرمي بالأسلحة الجديدة، كالرصاص المعروف الآن، وكل ما
يلحق به مما فيه تعلمٌ للقتال على هذه الأسلحة فإنه داخلٌ في قوله:
(ألا إن القوة الرمي) فيدخل فيه الرمي بالرصاص المعروف، والرمي
بالمدافع ونحوها، والرمي بالقاذفات وما أشبهها، ولا شك أن ذلك كله
يعتبر من الرمي، فيصح السباق عليه، ويصح أن ينصب هدفٌ، وأن يرميه الذين
يريدون التعلم، ومن أصابه في أول مرة أخذ الجائزة.
كذلك أيضاً السباق على الإبل؛ وذلك لأن الإبل من جملة ما يطلب عليه
العدو، فيصح أن يُسابق عليها، وقد كانوا يتسابقون على الإبل، ينظر أيها
أشد جرياً وعَدَواً، حتى تدرك من هرب، أو تنجو بمن هرب، أي: تدرك
المطلوب، وتفوت الطالب.
وكذلك أيضاً الخيل.
فالحاصل: أن هذه الثلاثة هي التي تصح فيها الجوائز، وأما المسابقة على
الأقدام فهي جائزة أيضاً، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت
النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما غشيني اللحم سابقته فسبقني،
وقال: هذه بتلك) ، فالمسابقة على الأقدام جائزة؛ وما ذاك إلا أن فيها
تمريناً على شدة العدو والجري، والإنسان إذا عود نفسه سرعة السير وسرعة
المشي وسرعة العدو كان ذلك مما يسبب قوته إذا هرب من عدوٍ، فقد تضطره
الظروف أحياناً إلى أن يهرب إذا كان مطلوباً أو يطلب من هرب، فينجو ممن
يطلبه، ويدرك من طلبه.
فيصح السباق على الأقدام، ولكن لا يصح بعوض.
كذلك يصح السباق على السفن وعلى الزوارق، ولكن إذا كان في بعض الأمور
التي يسابق عليها شيءٌ من المخاطرة والمهاترة والإلقاء باليد إلى
التهلكة والتعرض للأخطار فلا يجوز ذلك، كالمسابقة على السيارات أو
الدبابات وما أشبهها،لما فيه من التعرض للأخطار؛ لأنه قد يكون من آثار
السرعة حوادث انقلاب، أو حوادث اصطدام، أو نحو ذلك.
وبكل حالٍ فهذا الحديث دليلٌ على جواز المسابقة على هذه الأشياء، وإذا
جازت المسابقة جاز جنسها، وجاز كل شيء فيه تشجيع على القتال، وفيه حث
على إعداد القوة لمواجهة المشركين بكل ما يستطاع.
وعلى هذا نقول: إن على الإنسان أن يهيئ نفسه، فالنبي صلى الله عليه
وسلم حث أصحابه على أن يتهيئوا لتعلم الرمي، وأن يتهيئوا لركوب الخيل،
وأن يتعلموا ركوب الخيل والجري عليها، ولما شكا إليه بعض أصحابه -وهو
جرير بن عبد الله البجلي - أنه لا يثبت على الخيل دعا له وقال: (اللهم
ثبته) ، فكان بعد ذلك يثبت عليها، فدعا له بالثبات عليها، وحثهم على أن
يتعلموا ركوبها، وأن يتعلموا الثبات والجري عليها؛ لأن في ذلك تقوية
وتمريناً لهم على القتال ونحوه.
ونقول أيضاً: علينا أن نتعلم الرمي بالأسلحة الجديدة التي يُقاتَل بها
العدو في هذه الأزمنة، وما ذاك إلا أن فيها استعداداً للعدو الذي قد
يأتي فجأة وبغتة، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقاتل، ولم يتعلم
القتال والرمي ولا الجري، ولم يتعلم استخدام الأسلحة الثقيلة أو
الخفيفة، ولم يتدرب على شيء من ذلك؛ أصبح كلاً على المجتمع، ولم يستفد
المجتمع منه بشيء، بخلاف ما إذا كان قد درب نفسه وعودها على الثبات،
وعلى الرمي، وعلى الكر والفر، وعلى الأسلحة الجديدة ونحوها، وعرف كيف
تُستعمل، وعرف كيفية إصلاحها، وعرف كيف يصيب بها، فكل ذلك بلا شك من
جملة ما أُمرنا به بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] ، فكل شيءٍ تستطيعه في القضاء على الأعداء
فإنك تفعله، وبذلك نستطيع أن نذل كل عدوٍ، لكن إذا أصلحنا علاقتنا مع
الله تعالى، فهو الذي ينصر من استنصره، وهو الذي ينزل النصر على من
ثبته، ولكن مع ذلك لابد من فعل سبب ليكون هذا السبب مقوياً أو مثبتاً
للإنسان على الخير.
شرح حديث ابن عمر:
(عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد)
قال ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن
أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة
فأجازني) ، وفي بعض الروايات: (رآني قد بلغت فأجازني في القتال) .
وكانت غزوة أحد في آخر سنة ثلاث للهجرة، وكان سن ابن عمر حين ذلك في
أول الرابعة عشرة، وأما غزوة الخندق فكانت في أول سنة خمس للهجرة، وسنه
حين ذلك في آخر الخامسة عشرة، أو أنه قد بدأ في السادسة عشرة.
ففي المرة الأولى رآه صغيراً فلم يأذن له أن يدخل الميدان، ولا أن يخوض
المعركة، ولا أن يقف في جبهات القتال؛ لأنه لا يزال صغيراً، والصغير قد
لا يثبت، أو قد ينهزم، أو قد يسبب انهزاماً أو ضعفاً، فهذا هو السبب،
والله أعلم.
حكم حمل السلاح على
المسلمين
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي موسى عبد الله بن قيس
الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا
السلاح فليس منا) .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا
فهو في سبيل الله) ] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، هذا من
أحاديث الوعيد التي تُجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، ولا شك
أن المراد بحمل السلاح على المسلمين: حمله للقتال أي: من همَّ بقتال
المسلمين أو أراد قتال المسلمين وتولى ذلك وفعله.
وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حثه على ائتلاف
المسلمين، ونهييه عن اختلافهم، ونهييه عن قتال بعضهم بعضاً، وإن كان قد
أخبر بأنه سيقع في هذه الأمة قتال وشجار فيما بينهم، ولكنه مع ذلك كان
دائماً ينهاهم عن هذا التقاتل، ويأمرهم بالائتلاف، ويحذرهم من أن يقاتل
بعضهم بعضاً، ففي خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع -التي هي آخر
مجمع كبير اجتمع وتكلم فيه- حفظ عنه أنه قال فيها: (لا ترجعوا بعدي
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، فجعلهم إذا فعلوا ذلك في حكم الكفار،
أي: لا تفعلوا ما هو كفر، أو ما هو من عمل الكفار من كونكم تتقاتلون
ويقتل بعضكم بعضاً، ويضرب بعضكم رقاب بعض، فإن ذلك لا شك من أعمال
الكفار، وإن لم نحكم بكفر من فعله مطلقاً.
وكذلك في تلك الخطبة حث صلى الله عليه وسلم على البعد عما يؤذي كل
مسلم، فألقى عليهم سؤالاً، فقال: (أي شهر هذا؟ فقالوا: الشهر الحرام)
وفي رواية أنه قال: (أليس شهر ذي الحجة؟ أي يوم هذا؟ فسكتوا، فقال:
أليس يوم الحج الأكبر؟ أليس يوم النحر؟ أي بلدٍ هذا؟ فسكتوا، فقال:
أليس بلد الله الحرام؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .
فلا شك أن هذا كله تحريض وحث على الأخوة فيما بين المسلمين، ونهيٌ لهم
عن أن يعتدي أحدٌ على المسلمين بأخذ مالٍ، أو سفك دمٍ، أو انتهاك عرض،
أو نحو ذلك مما يكون ضرره على المسلمين عموماً.
وكذلك أيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان
بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل
فما بال المقتول؟ فقال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، وهذا أيضاً من
أحاديث الوعيد.
ومع ذلك فإن المسلمين عليهم أن يحترموا كل المسلمين، ولا يجوز لهم أن
يحملوا عليهم السلاح، ولا أن يستحلوا دماءهم، ولا أن يستحلوا محارمهم،
ولا أن يستحلوا أموالهم، فلا تُسفك الدماء ولا تنهب الأموال ولا تنتهك
الأعراض، ولا تستحل المحارم، حتى يكونوا بذلك إخوةً مسلمين كما أمرهم
الله بقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]
، وبقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ،
والأحاديث التي تحث على الأخوة وتحذر من التقاطع كثيرة، ومن هذه
الأحاديث التي تحذر المسلم من أن يقاطع إخوته قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تقاطعوا، لا تهاجروا، لا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا) ،
وأحاديث كثيرةٌ جاءت في حث المسلمين على أن يكونوا إخوة.
ثم إذا كانوا إخوةً فإنهم يكونون يداً واحدةً على أعدائهم، ويكونون
جميعاً من أولياء الله إذا فعلوا ما أُمروا به وتركوا ما نُهوا عنه،
وأطاعوا الله ورسوله، وامتثلوا أمره؛ فمن كانوا كذلك فهم من المسلمين،
لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
ولا شك أن هذا يعم: حمل السلاح على أفراد المسلمين، وعلى جماعاتهم،
وعلى أئمتهم وولاة أمورهم، كل ذلك يعمهم قوله: (من حمل علينا السلاح
فليس منا) ، فالفرد من أفراد الناس إذا سل سيفه وأخذ يقاتل، أو أخذ
بندقيته وصار يقاتل، أو همَّ بالقتال وأشهر سلاحه وأعلنه أمام الناس،
وهدفه أن يقاتل هؤلاء المسلمين أو يخوفهم دخل في حكم هذا الحديث: (من
حمل علينا السلاح) ، لأن هذا الحديث فيه توعد بمجرد الحمل.
كذلك أيضاً إذا أراد أن يقاتل جماعة أو فئةً أو طائفة أو دولةً أو أهل
بلدةٍ، كأن اجتمعت مجموعة، وكان معهم قوةٌ، ومعهم عدةٌ وأسلحة، وأرادوا
أن يقاتلوا أهل بلدة أخرى، أو يقاتلوا أهل دولة أخرى، أو يقاتلوا قبيلة
أخرى، وليس ذلك إلا لإرادة التجبر والتكبر عليهم، دخلوا في ذلك؛ بسبب
أنهم قد حملوا السلاح على مسلمين من أهل الإسلام الصحيح، فيكونون بذلك
متوعدَين بهذا الوعيد: (فليس منا) .
وكذلك لو كان لهم منعة وقوة وعدة وذخائر ونزعوا يدهم من طاعة ولاة
الأمور، وأرادوا أن يقاتلوا ولاة الأمر أو يقاتلوا من تحت ولاية الوالي
ونحو ذلك؛ فيدخلون في هذا الحديث، ويصيرون ممن حمل السلاح على
المسلمين، فيكونون بذلك قد توعدوا بهذا الوعيد الشديد: (من حمل علينا
السلاح فليس منا) .
وهكذا إذا حملوا السلاح على المسلم، الذي هو متمسك بالإسلام وبالعقيدة
وبالتوحيد وطاردوه لأجل إسلامه، أو لأجل تمسكه، أو لأجل عقيدته، أو
لأجل ديانته، فإذا طاردوه، وحمل عليه السلاح وتبعه بالسلاح واحد أو
عددٌ دخلوا في هذا الوعيد: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وهكذا أيضاً يدخل في ذلك أفرادٌ وجماعات إذا كانوا يقطعون الطرق،
ويقصدون بذلك أخذ الأموال، كأن يقفون في طرق الناس، فإذا مر بهم من
يظنون أن معه مالاً أو معه محارم أشهروا السلاح عليه، وقالوا: أعطنا ما
معك من المال، أو خلِ بيننا وبين محارمك لنفعل فيهن الفاحشة وإلا
قتلناك، فإذا شهروا السلاح عليه فلا شك أن ذلك أيضاً داخل في هذا
الحديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وهكذا يدخل في ذلك البغاة الذين يكون لهم شبهة، ويكون لهم قوةٌ،
ويخرجون عن طاعة الإمام كالحرورية الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام
ويتركون أهل المعاصي والكفر، فهؤلاء داخلون في هذا الحديث؛ حيث إنهم
حملوا السلاح على المسلمين فقط، وتركوا غير المسلمين.
ففي هذا وعيد شديد لكل من حمل السلاح على فرد أو على جماعة، سواء كان
ذلك الحامل معه غيره أو كان وحده، وسواء كان قصده أن يستبد بالأمر أو
قصده أن يذل ويهين المسلمين لأجل إسلامهم وعقيدتهم، أو قصده أن يذل كل
متدين وكل عبدٍ صالح، حتى يظهر الفسق ويعلو، ويذل أهل الإيمان وينقمعوا
في زعمه، ويتهمهم بما يتهمهم به من الإرهاب أو نزع يد الطاعة، أو ما
أشبه ذلك، ولو سماهم بما سماهم فلا شك أن هذا داخل في هذا الوعيد.
حكم قتال الكفار
المتسمين باسم الإسلام
ولا يدخل في ذلك من ليس من المسلمين، ممن يتسمون بمسلمين، ولكن ليسوا
بمسلمين، إذ ليس معهم من الإسلام إلا مجرد التسمي دون حقيقته، فإن
هؤلاء لا يصلح أن يُسموا مسلمين، فالحديث ورد في الوعيد على حمل السلاح
على المسلمين وحدهم، لا على من حمله على غيرهم، فإذا كان هؤلاء الذين
تقاتلهم من المشركين الذين ظهر شركهم كأن كانوا ممن يعبدون القبور، أو
يعبدون الصالحين، أو يعبدون غير الله، ويدعون غير الله عند الشدائد
والملمات، ويهتفون بأسماء المخلوقات، ويدعونهم من دون الله تعالى،
ويسمون ذلك توسلاً أو استشفاعاً، أو نحو ذلك، فهؤلاء يُقاتَلون ولو
تسموا بأنهم مسلمون، كما قاتلهم الأئمة، ومنهم أئمة الدعوة، ومعهم
أوائل أمراء هذه الدولة، فلقد قاتلوا في سبيل الله أناساً معهم اسم
الإسلام، وليس معهم حقيقته، فلا يقال: إن محمد بن عبد الوهاب ومن معه
حملوا السلاح على المسلمين، فإن هذا ليس بصحيح، وما ذُكر من أنهم فعلوا
ذلك فليس له صحة، وكذلك ما ذكر من أنهم يكفرون كل من على وجه الأرض ليس
له صحة، كما قال بعضهم: إن الشيخ محمداً يعم المسلمين جميعهم بالكفر،
فنقول: هذا ليس بصحيح، وقد عابهم بهذا بعض أعدائهم حيث يقول في قصيدة
له: وإنما تجاريك في سفك الدماء ليس بالقصد وتكفير أهل الأرض لست أقوله
ولكن يقال: لم يتجار في سفك دماء المسلمين، وإنما في سفك دماء المشركين
الذين شركهم صريح واضح، فإذا عُرف أن هذه الطائفة من المشركين الذين
يدعون غير الله تعالى فلن ينفعهم تشهدهم، ولن ينفعهم انتسابهم إلى
الإسلام ما دام أنهم يخالفونه مخالفةً صريحة.
ولا شك أنه يلحق بهم كل من حُكم بكفرهم، فإذا قُوتلوا فقتالهم قتالٌ في
سبيل الله، وليس قتالاً لأجل منصب أو نحو ذلك، كقتال المحاربين وقتال
البغاة، وقتال قطاع الطريق، وقتال المتعصبين ونحوهم، وإنما الذين
يقاتلون المشركين لأجل شركهم فهؤلاء يقاتلون في سبيل الله.
شرح حديث: (من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قاتل لتكون كلمة
الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لا شك أن الذي يقاتل لإعلاء كلمة
الله، ولنشر الإسلام ولإظهار الدين، ولإظهار محاسنه، فهو في سبيل الله،
وأما الذي يقاتل حميةً لقومه، كأن يقول: أقاتل حتى أحمي قومي من الذل،
فهذا ليس له أجر ولو كانوا مسلمين؛ لأنه لم يقاتل لإعلاء الدين.
وكذلك الذي يقاتل تعصباً لطائفة على طائفة ليس له أجر القتال في سبيل
الله، وكذلك الذي يقاتل رياءً ليُرى مكانه؛ حتى يمدحه الناس بأنه من
أهل النجدة، ومن أهل الشجاعة، ومن أهل الجرأة، وأنه مقدامٌ وأنه إلخ،
فهذا أيضاً ليس له أجر على قتاله؛ حيث إنه ما أراد بذلك الدار الآخرة.
وكذلك الذي يقاتل لأجل أن يحصل على جزء من الغنيمة من المال الذي يحصل
عليه المجاهدون، فهذا أيضاً أجره ما يحصل له وما يظفر به من هذه
الغنيمة، بخلاف الذي يقاتل لأجل أن يعلى الإسلام، ويظهر دين الله،
وتعلو كلمة الله، ويذل الكفر وأهله، ويضطهد الكفر والكافرون، ويزول عن
المسلمين ما هم فيه من الذل والهوان، والضعف والاضطهاد.
فمثل هؤلاء إذا قاتلوا هذا القتال فإن الله تعالى يثيبهم وينصرهم ويرفع
معنوياتهم ويعزهم، وقد وعد الله تعالى بذلك بقوله: {إِنْ تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ، فهؤلاء
حقاً هم الذين نصروا الله، وهم الذين ينصرهم الله.