إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة
كتاب الزكاة
مدخل
...
كتاب الزكاة.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن
جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل
كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم
أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك
بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ
من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا
لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة
المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 1.
الزكاة في اللغة لمعنيين: أحدهما النماء
والثاني: الطهارة فمن الأول قولهم زكاة الزرع
ومن الثاني وقوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا} [التوبة: 103] وسمي هذا الحق زكاة
بالاعتبارين أما بالاعتبار الأول فمعنى أن
يكون سببا للنماء في المال كما صح: "ما نقص
مال من صدقة" 2 ووجه الدليل منه أن النقصان
محسوس بإخراج القدر الواجب فلا يكون غير ناقص
إلا بزيادة تبلغه إلى ما كان عليه على
المعنيين جميعا أعني المعنوي والحسي في
الزيادة أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات
النماء وسميت بالنماء لتعلقها به أو بمعنى
تضعيف أجورها كما جاء "إن الله يربي الصدقة
حتى تكون كالجبل" 3.
وأما بالمعنى الثاني فلأنها طهرة للنفس من
رذيلة البخل أو لأنها تطهر من الذنوب.
وهذا الحق أثبته الشارع لمصلحة الدافع والآخذ
معا أما في حق الدافع فتطهيره وتضعيف أجوره
وأما في حق الأخذ فلسد خلته.
وحديث معاذ يدل على فريضة الزكاة وهو أمر
مقطوع به نم الشريعة ومن جحده كفر.
وقوله عليه السلام: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب"
لعله للتوطئة والتمهيد للوصية باستجماع همته
في الدعاء لهم فإن أهل الكتاب أهل علم
ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين
وعبدة الأوثان في العناية بها والبداءة في
المطالبة في الشهادتين لأن ذلك
ـــــــ
1 البخاري "4347" ومسلم "19" واللفظ للبخاري.
2 مسلم "2588" من حديث أبي هريرة.
3 البخاري "7430" ومسلم "1014" من حديث أبي
هريرة.
(1/255)
أصل الدين الذي
لا يصح شيء من فروعه إلا به فمن كان منهم غير
موحد على التحقيق كالنصارى فالمطالبة متوجهة
إليه بكل واحدة من الشهادتين عينا ومن كان
موحدا كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر
به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كان
هؤلاء اليهود الذين كانوا باليمن عندهم ما
يقتضي الإشراك ولو باللزوم يكون مطالبتهم
بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم وقد ذكر
الفقهاء أن من كان كافرا بشيء مؤمنا بغيره لم
يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به1.
وقد يتعلق بالحديث في أن الكفار غير مخاطبين
بالفروع من حيث أنه إنما أمر أولا بالدعاء إلى
الإيمان فقط وجعل الدعاء إلى الفروع بعد
إجاباتهم الإيمان وليس بالقوي من حيث أن
الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في
الوجوب ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب
بينهما في الوجوب؟ وقد قدمت في المطالبة على
الزكاة وآخر الأخبار لوجوب الزكاة عن الطاعة
بالصلاة مع أنهما متساويتان في خطاب الوجوب.
و قوله عليه السلام: "فإن هم أطاعوا لك بذلك"
طاعتهم في الإيمان بالتلفظ بالشهادتين وأما
طاعتهم في الصلاة فيحتمل وجهين أحدهما: أن
يكون المراد إقرارهم بوجوبها وفريضتها عليهم
والتزامهم لها والثاني: أتن يكون المراد
الطاعة بالفعل وأداء الصلاة وقد رجح الأول بأن
المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة
فتعود الإشارة بذلك إليها ويترجح الثاني بأنهم
لو أخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل
لكفى ولم يشترط تلفظهم بالإقرار بالوجوب وكذلك
نقول في الزكاة لو امتثلوا بأدائها من غير
تلفظ بالإقرار لكفى فالشرط عدم الإنكار
والإذعان للوجوب لا التلفظ بالإقرار.
وقد استدل بقوله عليه السلام: "أعلمهم أن الله
قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم" على عدم جواز نقل الزكاة عن بلد
المال وفيه عندي ضعيف لأن الأقرب أن المراد
يؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون لا من
حيث إنهم من أهل اليمن وكذلك الرد على فقرائهم
وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل احتمالا
قويا ويقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في
قواعد الشرع الكلية لا تعتبر ولولا وجود
مناسبة في باب الزكاة لقطع بأن ذلك غير معتبر
وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصلاة ولا
يختص بهم قطعا أعني الحكم وإن اختص بهم خطاب
المواجهة.
وقد استدل بالحديث أيضا أن من ملك النصاب لا
يعطى من الزكاة وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب
مالك من حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غنيا
وقابله بالفقير ومن ملك
ـــــــ
1 ذلك لأن الإيمان كل لا يتجزأ.
(1/256)
النصاب فالزكاة
منه فهو غني والغني لا يعطى من الزكاة إلا في
المواضع المستثناة في الحديث وليس بالشديد
القوة وقد يستدل به من يرى إخراج الزكاة إلى
صنف واحد لأنه لم يذكر في الحديث1 إلا الفقراء
وفيه بحث.
وقد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام
لأنه وصف الزكاة بكونها: "مأخوذة عن الأغنياء"
فكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه.
ويدل الحديث أيضا على كرائم الأموال لا تؤخذ
من الصدقة كالأكولة والربى وهي التي تربي
ولدها والماخض وهي الحامل وفحل الغنم وحزرات
المال وهي التي تحرز بالعين وترمق لشرفها عند
أهلها.
و الحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء
من مال الأغنياء ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب
الأموال فسامح الشرع أرباب الأموال بما يضنون
به ونهى المصدقين عن أخذه وفي الحديث دليل على
تعظيم أمر الظلم واستجابة دعوة المظلوم وذكر
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب النهي عن
أخذ كرائم الأموال لأن أخذها ظلم وفيه تنبيه
على جميع أنواع الظلم.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون
خمس أواق صدقة ولا فيما دون ذود صدقة ولا فيما
دون خمسة أوسق صدقة" 2.
يقال أواقي بالتشديد والتخفيف وتحذف الياء
ويقال: أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء ووقية
وأنكرها بعضهم والأوقية أربعون درهما فالنصاب
مائتا درهم والدرهم ينطلق على الخالص حقيقة
فإن كان مغشوشا لتجب الزكاة حتى يبلغ من
الخالص مائتي درهم والذود قيل: إنه ينطلق على
الواحد وقيل إنه كالقوم والرهط.
والحديث دليل على الزكاة فيما دون هذه
المقادير من هذه الأعيان وأبو حنيفة يخالف في
زكاة الحرث ويعلق الزكاة بكل قليل وكثير منه
ويستدل له بقوله عليه السلام: "فيما سقت
السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية ففيه
نصف العشر" 3 وهذا عام في القليل والكثير.
ـــــــ
1 يشير بذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله
أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها
بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على
المسكين فأهداها المسكين للغني" أبو داود
"1635".
2 البخاري "1405" ومسلم "979".
3 في البخاري "1483" "فيما سقت السماء والعيون
أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف
العشر".
(1/257)
وأجيب عن هذا
بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج لا
بيان المخرج منه وهذا فيه قاعدة أصولية وهو أن
الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب
أحدها: ما ظهر فيه عدم قصد التعميم ومثل بهذا
الحديث والثانية: ما ظهر فيه قصد التعميم بأن
أورد مبتدأ لا على سبب لقصد تأسيس القواعد
والثالثة: ما لم يظهر فيه قرينة تدل على
التعميم ولا قرينة تدل على عدم التعميم.
وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم
الأول في كون المقصود منه عدم التعميم فطالب
بعضهم بالدليل على ذلك وهذا الطريق ليس بجيد
لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام ودلالة
السياق لا يقام عليها دليل وكذلك لو فهم
المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر
فالناظر يرجع إلى ذوقه والمناظر يرجع إلى دينه
وإنصافه.
واستدل بالحديث من يرى أن النقصان اليسير في
الوزن يمنع وجوب الزكاة وهو ظاهر الحديث ومالك
يسامح بالنقص اليسير جدا الذي تروج معه
الدراهم والدنانير رواج الكامل.
وأما الأوسق فاختلف أصحاب الشافعي في أن
المقدار فيها تقريب أو تحديد ومن قال: إنه
تقريب يسامح باليسير وظاهر الحديث: يقتضي أن
النقصان لا يؤثر والأظهر: أن النقصان اليسير
جدا لا يمنع إطلاق الاسم في العرف ولا يعبأ به
أهل العرف: أنه يغتفر.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في
عبده ولا فرسه صدقة" 1.
وفي لفظ2: "إلا زكاة الفطر في الرقيق".
الجمهور على عدم وجوب الزكاة في عين الخيل
واحترزنا بقولنا في عين الخيل عن وجوبها في
قيمتها إذا كانت للتجارة وأوجب أبو حنيفة في
الخيل الزكاة وحاصل مذهبه: أنه إذا اجتمع
الذكور والإناث وجبت الزكاة عنده قولا واحدا
وإن انفردت الذكور والإناث وإذا وجبت الزكاة
فهو مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو
يقوم ويخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وقد
استدل عليه بهذا الحديث فإنه يقتضي عدم وجوب
الزكاة في فرس المسلم مطلقا.
والحديث يدل أيضا على عدم وجوب الزكاة في عين
العبيد.
وقد استدل بهذا الحديث الظاهرية على عدم وجوب
زكاة التجارة وقيل: إنه قول قديم
ـــــــ
1 البخاري "1463" ومسلم "982" "9" واللفظ له.
2 عند أبي داود "1594" "ليس في الخيل والرقيق
زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق".
(1/258)
للشافعي من حيث
إن الحديث يقتضي عدم وجوب الزكاة في الخيل
والعبيد مطلقا ويجيب الجمهور عن استدلالهم
بوجهين.
أحدهما: القول بالموجب فإن زكاة التجارة
متعلقها القيمة لا العين فالحديث يدل على عدم
التعلق بالعين فإنه لو تعلقت الزكاة بالعين من
العبيد والخيل: لثبتت ما بقيت العين وليس كذلك
فإنه لو نوي القنية لسقطت الزكاة والعين باقية
وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة بشرط نية التجارة
وغير ذلك من الشروط.
والثاني: أن الحديث عام في العبيد والخيل فإذا
أقاموا الدليل على وجوب زكاة التجارة كان هذا
الدليل أخص من ذلك العام من كل وجه فيقدم عليه
إن لم يكن فيه عموم من وجه فإن كان خرج على
قاعدة العامين من وجه دون وجه إن كان ذلك
الدليل من النصوص نعم يحتاج إلى تحقيق إقامة
الدليل على وجوب زكاة التجارة وإنما المقصود
ههنا: بيان كيفية النظر بالنسبة إلى هذا
الحديث.
والحديث يدل على وجوب زكاة الفطر عن العبيد
ولا يعرف فيه خلاف إلا أن يكونوا للتجارة وقد
اختلف فيه.
وهذه الزيادة - أعني قوله: "إلا صدقة الفطر في
الرقيق" 1 - ليس متفقا عليها وإنما هي عند
مسلم فيما أعلم.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار والبئر
جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" 2.
الجبار الهدر وما لا يضمن والعجماء الحيوان
البهيم وورد في بعض الروايات3: "جرح العجماء
جبار" والحديث يقتضي: أن جرح العجماء جبار
بنصه فيحتمل أن يراد بذلك: جناياتها على
الأبدان والأموال ويحتمل أن يراد: الجناية على
الأبدان فقط وهو أقرب إلى حقيقة الجرح وعلى كل
تقدير فلم يقولوا بهذا العموم أما جناياتها
على الأموال: فقد فصل في المزارع بين الليل
والنهار وأوجب على المالك ضمان ما أتلفته
بالليل دون النهار وفيه حديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم يقتضي ذلك4.
ـــــــ
1 هذه صيغة مسلم "982" "10" ولم يسقها المصنف
رحمه الله تعالى وإنما ساق رواية أبي داود.
2 البخاري "1499" ومسلم "1710" واللفظ
للبخاري.
3 في البخاري "العجماء جرحها جبار..." "6912"
وقد بدأ المصنف رحمه الله بشرح المفردات على
غير ترتيب.
4 هو ما رواه أبو داود "3569" عن حرام بن
محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت
حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار
وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
(1/259)
وأما جناياتها
على الأبدان: فقد تكلم فيها إذا كان معها
الراكب والسائق والقائد وفصلوا فيه القول
واختلفوا في بعض الصور فلم يقولوا بالعموم في
إهدار جناياتها فيمكن أن يقال: إن جنايتها هدر
إذا لم يكن ثمة تقصير من المالك أو ممن هي تحت
يده وينزل الحديث على ذلك.
وأما الركاز: فالمعروف فيه عند الجمهور: أنه
دفن الجاهلية والحديث يقتضي أن الواجب فيه:
الخمس بنصه وفي مصرفه وجهان للشافعية أحدهما:
إلى أهل الزكاة والثاني: إلى أهل الفيء وهو
اختيار المزني وقد تكلم الفقهاء في مسائل
تتعلق بالركاز يمكن أن تؤخذ من الحديث.
أحدها: إن الركاز هل يختص بالذهب والفضة أو
يجري في غيرهما وللشافعي فيه قولان وقد يتعلق
بالحديث من يجريه في غيرهما من حيث العموم
وجديد قول الشافعي: أنه يختص.
الثانية: الحديث يدل على أنه لا فرق في الركاز
بين القليل والكثير ولا يعتبر فيه النصاب وقد
اختلف في ذلك.
الثالثة: يستدل به على أنه لا يجب الحول في
إخراج زكاة الركاز ولا خلاف فيه عند الشافعي
كالغنيمة والمعشرات وله في المعدن اختلاف قول
في اعتبار الحول والفرق: أن الركاز يحصل جملة
من غير كد ولا تعب والنماء فيه متكامل وما
تكامل فيه النماء لا يعتبر فيه الحول فإن
الحول مدة مضروبة لتحصيل النماء وفائدة المعدن
تحصل بكد وتعب شيئا فشيئا فيشبه أرباح التجارة
فيعتبر فيها الحول.
الرابعة: تكلم الفقهاء في الأراضي التي يوجد
فيها الركاز وجعل الحكم مختلفا باختلافها ومن
قال منهم: بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو
في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث وعند
الشافعية: أن الأرض إن كانت مملوكة لمالك
محترم مسلم أو ذمي فليس بركاز فإن ادعاه فهو
له وإن نازعه منازع فالقول قوله وإن لم يدعه
لنفسه عرض على البائع ثم على بائع البائع حتى
ينتهي الأمر إلى من عمر الموضع فإن لم يعرف
فظاهر المذهب: أنه يجعل لقطة وقيل: ليس بلقطة
ولكنه مال ضائع يسلم إلى الإمام ويجعله في بيت
المال وإن وجد الركاز في أرض عامة لحربي فهو
كسائر أموال الحربي إذا حصلت في أيدي المسلمين
وإذا وجد في موات دار الحرب فهو كموت دار
الإسلام عند الشافعي للواجد أربعة أخماسه.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على
الصدقة.
(1/260)
فقيل: منع ابن
جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان
فقيرا: فأغناه الله؟ وأما خالد: فإنكم تظلمون
خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله
وأما العباس: فهي علي ومثلها", ثم قال: "ياعمر
أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟" 1.
الحديث مشكل في مواضع منه والكلام عليه من
وجوه:
الأول: قوله: "بعث عمر على الصدقة" الأظهر: أن
المراد على الصدقة الواجبة وذكر بعضهم: أن
تكون التطوع احتمالا أو قولا وإنما كان الظاهر
أنها الواجبة لأنها المعهودة فتصرف الألف
واللام إليها ولأن البعث إنما يكون على
الصدقات المفروضة.
والثاني: يقال: نقم ينقم - بالفتح في الماضي
والكسر في المستقبل وبالعكس بالكسر في الماضي
والفتح في المستقبل - والحديث يقتضي: أنه لا
عذر له في الترك فإن نقم بمعنى أنكر وإذا لم
يحصل له موجب للمنع إلا أن كان فقيرا فأغناه
الله فلا موجب للمنع وهذا مما تقصده العرب في
مثله النفي على سبيل المبالغة بالإثبات كما
قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من
قراع الكتائب
لأنه إن لم يكن فيهم عيب إلا هذا - وهذا ليس
بعيب - فلا عيب فيهم فكذلك هنا إذا لم ينكر
إلا كون الله أغناه بعد فقره فلم يكن منكرا
أصلا.
الثالث: العتاد ما أعد الرجل من السلاح
والدواب وآلات الحرب وقد وقع في هذه الرواية
أعتاده وفي أخرى أعتده2 واختلف فيها فقيل
أعتده بالتاء: وقيل أعبده بالباء ثاني الحروف
وعلى هذا اختلفوا فالظاهر: أن أعبده جمع عبد
وهو الحيوان العاقل المملوك وقيل: إنه جمع صفة
من قولهم فرس عبد وهو الصلب وقيل: المعد
للركوب وقيل: السريع الوثب ورجح بعضهم هذا بأن
العادة لم تجر بتحبيس العبيد في سبيل الله
بخلاف الخيل.
الرابع: فيه دليل على تحبيس المنقولات واختلف
الفقهاء في ذلك.
الخامس: نشأ إشكال من كونه لم يؤمر بأخذ
الزكاة منه وانتزاعها عند منعه فقيل: في
جوابه: يجوز أن يكون عليه السلام أجاز لخالد
أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من
الزكاة لأنه في سبيل الله حكاه القاضي قال:
وهو حجة لمالك في جواز دفعها.
ـــــــ
1 البخاري "1468" ومسلم "983" واللفظ له
وفيهما أنه كان فقيرا.
2 هي رواية البخاري "1468".
(1/261)
لصنف واحد وهو
قول كافة العلماء خلافا للشافعي في وجوب
قسمتها على الأصناف الثمانية قال: وعلى هذا
يجوز إخراج القيم في الزكاة وقد أدخل البخاري
هذا الحديث في باب أخذ العرض في الزكاة1 فيدل:
أنه ذهب إلى هذا التأويل.
وأقول: هذا لا يزيل الإشكال لأن ما حبس على
جهة معينة تعين صرفه إليها واستحقه أهل تلك
الجهة مضافا إلى جهة الحبس فإن كان قد طلب من
خالد زكاة ما حبسه فكيف يمكن من ذلك مع تعين
ما حبسه لمصرفه؟ وإن كان قد طلب منه زكاة
المال الذي لم يحبسه - من العين والحرث
والماشية - فكيف يحاسب بما وجب عليه في ذلك
وقد تعين صرف ذلك المحبس إلى جهته؟.
وأما الاستدلال بذلك على أن صرف الزكاة إلى
صنف من الثمانية جائز وأن أخذ القيم جائز:
فضعيف جدا لأنه لو أمكن توجيه ما قيل في ذلك
لكان الإجزاء في المسألتين مأخوذا على تقدير
ذلك التأويل وما ثبت على تقدير لا يلزم أن
يكون واقعا إلا إذا ثبت وقوع ذلك التقدير ولم
يثبت ذلك بوجه ولم يبين قائل هذه المقالة إلا
مجرد الجواز والجواز لا يدل على الوقوع.
إلا أن القاضي: أنه حجة لمالك وأبي حنيفة على
التقدير فقريب إلا أنه يجب التنبيه لأنه لا
يفيد الحكم في نفس الأمر.
وأنا أقول: يحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه
وأعتاده في سبيل الله: إرصاده إياها لذلك وعدم
تصرفه بها في غير ذلك وهذا النوع حبس وإن لم
يكن تحبيسا ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا
اللفظ ويكون قوله: " إنكم تظلمون خالدا"
مصروفا إلى قولهم منع خالد أي تظلمونه في
نسبته إلى منع الواجب مع كونه صرف ماله في
سبيل الله ويكون المعنى: أنه لم يقصد منع
الواجب ويحمل منعه على غير ذلك.
السادس: أخذ بعضهم من هذا: وجوب زكاة التجارة
وأم خالدا طولب بأثمان الأربع والأعتد قالوا:
ولا زكاة في هذه الأشياء إلا أن تكون للتجارة
وقد استضيف هذا الاستدلال من حيث إنه استدلال
بأمر محتمل غير متعين لما ادعى.
السابع: من قال بأن هذه الصدقة كانت تطوعا
ارتفع عنه هذا الإشكال ويكون النبي صلى الله
عليه وسلم اكتفى بما حبسه خالد على هذه الجهات
عن أخذ شيء آخ من صدقة التطوع ويكون من طلب
منه شيئا آخر - مع ما حبسه من ماله وأعتاده في
سبيل الله - ظالما له في مجرى العادة وعلى
سبيل التوسع في إطلاق اسم الظلم.
الثامن: قوله عليه السلام: "فهي علي ومثلها"
فيه وجهان أحدهما: أن يكون هذا
ـــــــ
1 من كتاب الزكاة باب "33".
(1/262)
اللفظ صيغة
إنشاء لالتزام ما لزم العباس ويرجحه قوله: "إن
عم الرجل صنو أبيه" فإن في هذه اللفظة إشعارا
بما ذكرناه فإن كونه صنو الأب: يناسب تحمل ما
عليه.
الثاني: أن يكون إخبارا عن أمر وقع ومضى وهو
تسلف صدقة عامين من العباس وقد روي في ذلك
حديث منصوص: "أنا تعجلنا منه صدقة عامين" 1
والصنو المثل وأصله في النخل أن يجمع النخلتين
أصل واحد.
6 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء
الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس وفي
المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم
وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس
فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم
ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم
الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟", كلما قال
شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال: "ما يمنعكم
أن تجيبوا رسول الله؟", قالوا: الله ورسوله
أمَنَّ قال: "لو شئتم لقلتم جئتنا كذا وكذا
ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير
وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ لولا الهجرة
لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو
شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار
والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا
حتى تلقوني على الحوض" 2.
في الحديث دليل على إعطاء المؤلفة قلوبهم إلا
أن هذا ليس من الزكاة فلا يدخل في بابها إلا
بطريق أن يقاس إعطاؤهم من الزكاة على إعطائهم
من الفيء والخمس.
وقوله: "فكأنهم وجدوا في أنفسهم" تعبير حسن
كسي حسن الأدب في الدلالة على ما كان غي
أنفسهم.
وفي الحديث دليل على إقامة الحجة عند الحاجة
إليها على الخصم وهذا الضلال المشار إليه ضلال
الإشراك والكفر والهداية بالإيمان ولا شك أن
نعمة الإيمان أعلى النعم بحيث لا يوازيها شيء
من أمور الدنيا ثم اتبع ذلك بنعمة الألفة وهي
أعظم من نعمة الأموال إذ تبذل الأموال في
تحصيلها وقد كانت الأنصار في غاية التباعد
والتنافر وجرت بينهم حروب قيل المبعث منها يوم
بعاث ثم اتبع ذلك بنعمة الغنى والمال وفي جواب
الصحابة رضي الله عنهم بما أجابوه استعمال
الأدب والاعتراف بالحق الذي كنى عنه بقول
الراوي كذا وكذا وقد تبين مصرحا به في رواية
أخرى فتأدب الراوي بالكناية وفي جملة ذلك جبر
للأنصار وتواضع وحسن مخاطبة ومعاشرة.
ـــــــ
1 الدرفطني "2/125".
2 البخاري "4340" ومسلم "1061" واللفظ
للبخاري.
(1/263)
وفي قوله عليه
السلام: "ألا ترضون" الخ إثارة لأنفسهم وتنبيه
على ما وقعت الغفلة عنه من عظم ما أصابهم
بالنسبة إلى ما أصاب غيرهم من عرض الدنيا.
وفي قوله عليه السلام: "لولا الهجرة" وما
بعده: إشارة عظيمة بفضيلة الأنصار.
وقوله "لكنت امرأ من الأنصار" أي في الأحكام
والعداد والله أعلم ولا يجوز أن يكون المراد
النسب قطعا.
وقوله: "الأنصار شعار والناس دثار" الشعار
الثوب الذي يلي الجسد والدثار الثوب الذي فوقه
واستعمال اللفظين مجاز عن قربهم واختصاصهم
وتمييزهم على غيرهم في ذلك وقوله عليه السلام:
"إنكم ستلقون بعدي أثرة" علم من أعلام النبوة
إذ هو إخبار عن أمر مستقبل وقع على وفق ما
أخبر به صلى الله عليه وسلم والمراد بالأثرة
استئثار الناس عليهم بالدنيا والله أعلم
بالصواب.
(1/264)
باب زكاة الفطر.
1 - عن عبد الله بن عباس بن عمر رضي الله
عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر- أو قال رمضان- على الذكر والأنثى
والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير
قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير
والكبير"1.
و في لفظ: ""وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس
إلى الصلاة"2.
المشهور من مذاهب الفقهاء وجوب زكاة الفطر
لظاهر هذا الحديث.
وقوله: "فرض" وذهب بعضهم إلى عدم الوجوب
وحملوا: "فرض" على معنى قدر وهو أصله في اللغة
لكنه نقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب فالحمل
عليه أولى لأنه ما اشتهر في الاستعمال فالقصد
غليه هو الغالب.
وقوله: "رمضان" وفي رواية أخرى: "من رمضان" قد
يتعلق به نم يرى أن وقت الوجوب غروب الشمس من
ليلة العيد وقد يتعلق به من يرى أن وقت الوجوب
طلوع الفجر من يوم العيد وكلا الاستدلالين
ضعيف لأن إضافتهما إلى الفطر من رمضان لا
يستلزم أنه وقت الوجوب بل يقتضي إضافة هذه
الزكاة إلى الفطر من رمضان فيقال حينئذ
بالوجوب لظاهر لفظه: "فرض" ويؤخذ وقت الوجوب
من أمر آخر.
ـــــــ
1 البخاري "1511" ومسلم "984" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1503" ومسلم "986".
(1/264)
وقوله: "على
الذكر والأنثى والحر والمملوك" يقتضي وجوب
الإخراج عن هؤلاء وإن كانت لفظة: "على" تقتضي
الوجوب عليهم ظاهرا وقد اختلف الفقهاء في أن
الذي يخرج عنهم هل باشرهم الوجوب أولا؟
والمخرج يتحمله أم الوجوب يلقي المخرج أولا؟
فقد يتمسك من قال بالقول الأول بظاهر قوله:
"على الذكر والأنثى والحر والمملوك" فإن ظاهره
يقتضي تعلق الوجوب بهم كما ذكرنا وشرط هذا
التمسك إمكان ملاقاة الوجوب للأصل.
والصاع أربعة أمداد والمد: رطل وثلث بالبغدادي
وخالف في ذلك أبو حنيفة وجعل الصاع ثمانية
أرطال واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف
بالمدينة وهو استدلال صحيح قوي في مثل هذا
ولما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد في المسألة
رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل بما ذكرناه.
وقوله: "صاعا من التمر أو صاعا من شعير" بيان
لجنس المخرج في هذه الزكاة وقد ورد تعيين
أجناس لها في أحاديث متعددة أزيد مما في هذا
الحديث فمن الناس من أجاز جميع هذه الأجناس
مطلقا لظاهر الحديث ومنهم من قال لا يخرج إلا
غالب قوت البلد إنما ذكرت هذه الأشياء لأنها
كلها كانت مقتاتة بالمدينة في ذلك الوقت فعلى
هذا لا يجزئ بأرض مصر إلا إخراج البر لأنه
غالب القوت.
وقوله فعدل الناس الخ هو مذهب أبي حنيفة في
البر فإنه يخرج منه نصف صاع وقيل أن الذي عدل
ذلك معاوية بن أبي سفيان وروي في ذلك حديث
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة
ابن عباس ولا يمكن من قال بهذا المذهب أن
يستدل بقوله: "فعدل الناس" ويجعل ذلك إجماعا
على هذا الحكم ويقدمه على خبر الواحد لأن أبا
سعيد الخدري قد خالف في ذلك وقال1 أما أنا فلا
أزال أخرجه كما كنت أخرجه ولا يخلو هذا من
نظر.
والسنة في صدقة الفطر أن تؤدى قبل الخروج إلى
الصلاة ليحصل غنى الفقير وينقطع تشوفه عن
الطلب في حالة العبادة.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
"كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط
أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت
السمراء قال: أرى مدا من هذه يعدل مدين قال
أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت
أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم"2.
ـــــــ
1 هو الحديث التالي.
2 البخاري "1508" ومسلم "985".
(1/265)
وقول أبي سعيد:
"صاعا من طعام" يريد به البر.
فيه دليل على خلاف مذهب أبي حنيفة في أن البر
يخرج منه نصف صاع وهذا أصرح في المراد وأبعد
عن التقدير والتقويم بنصف صاع من حديث ابن عمر
فإن في ذلك الحديث نص على التمر والشعير
فتقدير الصاع منهما بنصف الصاع من البر لا
يكون مخالفا للنص بخلاف حديث أبي سعيد فإنه
يكون مخالفا له وقد كانت لفظة الطعام تستعمل
في البر عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق
الطعام فهم منه سوق البر وإذا غلب العرف بذلك
نزل اللفظ عليه لأن الغالب أن الإطلاق في
الألفاظ على حسب ما يخطر في البال من المعاني
والمدلولات وما غلب استعمال اللفظ عليه فخطوره
عند الإطلاق أقرب فينزل اللفظ عليه وهذا بناء
على أن يكون هذا العرف موجودا في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم وتردد قول الشافعي في
إخراج الأقط وقد صح الحديث به.
وقد ذكر الزبيب في هذا الحديث والكلام في هذه
الأجناس قد مر وهل تتعين هذه أنها كانت أقواتا
في ذلك الوقت أو يتعلق الحكم بها مطلقا؟.
والسمراء: يراد بها الحنطة المحمولة من الشام
وفي هذا الحديث دليل على ما قيل من أن معاوية
هو الذي عدل الصاع من غير البر بنصف الصاع منه
ويؤخذ منه القول بالاجتهاد بالنظر والتعويل
على المعاني في الجملة وإن كان في هذا الموضع
إذ لم يرد بذلك نص خاص مرجوحا بمخالفة النص
والله أعلم.
(1/266)
|