أحكام أهل الذمة ط رمادي

 [الْفَصْلُ الْسادسُ فِي أَحْكَامِ ضِيَافَتِهِمْ لِلْمَارَّةِ بِهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ] [فَصْلٌ قَوْلُهُمْ وَأَنَّ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ]
الْفَصْلُ السَّادِسُ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ.
259 - فَصْلٌ
قَوْلُهُمْ: " وَأَنَّ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ ".
وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ الذِّلَّةِ وَالْقَهْرِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ هُمُ الْغَالِبِينَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ضَرَبُوا الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مُنَاقِضًا لِعَهْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ زَادَهُمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَلْحَقَهُمَا بِالشُّرُوطِ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ لَمَّا كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِكِتَابِ الشُّرُوطِ قَالَ: " أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ، وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ أَشْتَرِطُهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَّا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا، وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ ".
فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَامَ مِنَ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ.

(3/1348)


[فَصْلٌ مَتَى يُعْتَبَرُ الذِّمِّيُّ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ]
260 - فَصْلٌ
[مَتَى يُعْتَبَرُ الذِّمِّيُّ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ؟]
وَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ " أَنَّهُ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ " فَمَنْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ فَهُوَ أَوْلَى بِنَقْضِ الْعَهْدِ! وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
قَالَ الْخَلَّالُ: " بَابُ ذِمِّيٍّ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ ".
أَخْبَرَنِي حَرْبٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ قُتِلَ الذِّمِّيُّ، وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
قَالَ حَرْبٌ: هَكَذَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِي.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ: نَصْرَانِيٌّ اسْتَكْرَهَ مُسْلِمَةٍ عَلَى نَفْسِهَا؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَى هَذَا صُولِحُوا، يُقْتَلُ. قُلْتُ: فَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِذَا اسْتَكْرَهَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي ذِمِّيٍّ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ، لَيْسَ عَلَى هَذَا صُولِحُوا، قِيلَ لَهُ

(3/1349)


فَالْمَرْأَةُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ سَوَاءٌ.
قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُبْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ زَنَى الْيَهُودِيُّ بِمُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ. عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ [نَخَسَ] بِمُسْلِمَةٍ ثُمَّ غَشِيَهَا فَقَتَلَهُ. فَالزِّنَى أَشَدُّ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ عَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ أَيْضًا، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؟ قَالَ: نَعَمْ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - وَسُئِلَ عَنْ [مَجُوسِيٍّ] فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ - قَالَ: يُقْتَلُ،

(3/1350)


هَذَا قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ أَيْضًا، قَدْ صَلَبَ عُمَرُ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ صَلَبَ عُمَرُ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ، هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ. قِيلَ لَهُ: تَرَى عَلَيْهِ الصَّلْبَ مَعَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: إِنْ ذَهَبَ رَجُلٌ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُهَنَّا قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ. فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ قَالَ: يُقْتَلُ. قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ غَيْرَ هَذَا. قَالَ: كَيْفَ يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُقْتَلُ. قُلْتُ لَهُ: فِي هَذَا شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ عَنْ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قُلْتُ: مَنْ يَرْوِيهِ؟ قَالَ: خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ ابْنِ [أَشْوَعَ] ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا فَحَشَ بِامْرَأَةٍ فَتَحَلَّلَهَا، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. قُلْتُ: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ.

(3/1351)


حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَذِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَحَشَ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّامِ وَهِيَ عَلَى حِمَارٍ فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَرَآهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ يَشْكُو عَوْفًا، فَأَتَى عَوْفٌ عُمَرَ فَحَدَّثَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَسَأَلَهَا فَصَدَّقَتْ عَوْفًا، فَقَالَ إِخْوَتُهَا: قَدْ شَهِدَتْ أُخْتُنَا، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصُلِبَ. قَالَ [سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ] وَكَانَ أَوَّلَ مَصْلُوبٍ [رَأَيْتُهُ صُلِبَ] فِي الْإِسْلَامِ!
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي ذِمَّةِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ فَمَنْ فَعَلَ فَلَا ذِمَّةَ لَهُ ".

(3/1352)


[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ فُجُورِهِ بِمُسْلِمَةٍ]
261 - فَصْلٌ
[حُكْمُ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ فُجُورِهِ بِمُسْلِمَةٍ] .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ.
قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ، وَأَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ بُخْتَانَ حَدَّثَهُمْ، وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ [أَبِي] هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ: كُلُّ هَؤُلَاءِ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - وَسُئِلَ عَنْ ذِمِّيٍّ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ -؟ قَالَ: يُقْتَلُ. قِيلَ: فَإِنْ أَسْلَمَ؟ قَالَ: يُقْتَلُ، هَذَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ! وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ فِي كَلَامِهِمْ كُلِّهِ، انْتَهَى.
وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ، وَهُوَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى إِقَامَتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ لَا سِيَّمَا إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَسَنَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قُرْبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(3/1353)


[فَصْلٌ إِذَا نَقَضُوا مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ عَهْدُهُمْ]
262 - فَصْلٌ
[إِذَا نَقَضُوا مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ عَهْدُهُمْ]
قَالُوا: " ضَمِنَّا لَكَ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِينِنَا، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكَ مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ ".
هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ مَتَى خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا عُوهِدُوا عَلَيْهِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، فَإِنَّ الدَّمَ مُبَاحٌ بِدُونِ الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَإِذَا لَمْ يَفِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِمَا عَاقَدَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ أَوْ يَتَمَكَّنَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ مِنْ فَسْخِهِ، هَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ [وَالْهِبَةِ] وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا [الْتَزَمَ مَا] الْتَزَمَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْآخَرُ بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِذَا لَمْ [يَلْتَزِمْ] لَهُ الْآخَرُ صَارَ هَذَا غَيْرَ مُلْتَزِمٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ مِثْلِهِ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقًّا لِلْعَاقِدِ بِحَيْثُ لَهُ أَنْ يَبْذُلَهُ بِدُونِ

(3/1354)


الشَّرْطِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ كَمَا إِذَا شَرَطَ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا [أَوْ صِفَةً] فِي الْبَيْعِ - وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ
[أَوْ] لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ بِالْوِلَايَةِ وَنَحْوِهَا - لَمْ يَجُزْ لَهُ إِمْضَاءُ الْعَقْدِ، بَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ فَسْخُهُ، كَمَا إِذَا شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ حُرَّةً فَظَهَرَتْ أَمَةً وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، أَوْ شَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا فَبَانَ كَافِرًا، أَوْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً فَبَانَتْ وَثَنِيَّةً.
وَعَقْدُ الذِّمَّةِ لَيْسَ هُوَ حَقًّا لِلْإِمَامِ، بَلْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ قِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، وَفَسْخُهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ وَيُخْرِجَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ظَنًّا أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الْمُخَالَفَةِ بَلْ يَجِبُ فَسْخُهُ.
قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ إِذَا كَانَتْ حَقًّا لِلَّهِ - لَا لِلْعَاقِدِ - انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ.
[وَهَذِهِ الشُّرُوطُ] عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، وَيُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْمُقَامِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا إِذَا الْتَزَمُوهَا، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

(3/1355)


قُلْتُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْعَهْدُ وَمَا لَا يُنْتَقَضُ، وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ هَلْ يَجْرِي حُكْمُهَا عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا إِمَامُ الْوَقْتِ اكْتِفَاءً بِشَرْطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ لَا بُدَّ مِنِ اشْتِرَاطِ الْإِمَامِ لَهَا فِي حُكْمِهِمْ إِذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ؟ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

(3/1356)


الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَمَا لَا يَنْقُضُهُ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ وَمَا قَالَهُ أَتْبَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ
ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ:
قَدْ ذَكَرْنَا نُصُوصَهُ فِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِالزِّنَى بِالْمُسْلِمَةِ.
ذِكْرُ قَوْلِهِ فِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ الْخَلَّالُ (بَابٌ فِيمَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

(3/1357)


أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ انْتَقَصَهُ - مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا - فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ.
أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُقْتَلُ؛ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ.
ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ حَنْبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِهِ رَاهِبٌ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ سَمِعْتُهُ لَقَتَلْتُهُ أَنَا، لَمْ نُعْطِهِمُ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَسُبُّوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ حَنْبَلٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَأَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ حَدَثًا مِثْلَ هَذَا رَأَيْتُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، لَيْسَ عَلَى هَذَا أُعْطُوا الْعَهْدَ وَالذِّمَّةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخَلَّالُ الْآثَارَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ أَبَا الصَّقْرِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَأَلْتُ

(3/1358)


أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ؛ يُقْتَلُ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
أَخْبَرَنِي حَرْبٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يُقْتَلُ.
ذِكْرُ قَوْلِهِ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ:
قَالَ الْخَلَّالُ (بَابٌ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرِيدُ تَكْذِيبًا أَوْ غَيْرَهُ)
أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُلُّ مَنْ ذَكَرَ شَيْئًا يَعْرِضُ بِهِ بِذِكْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ يَهُودِيٍّ مَرَّ بِمُؤَذِّنٍ وَهُوَ يُؤَذِّنُ فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، فَقَالَ: يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(3/1359)


قَالَ شَيْخُنَا: وَأَقْوَالُ أَحْمَدَ كُلُّهَا نَصٌّ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَفِي أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَلَيْسَ عَنْهُ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، مُتَقَدِّمُهُمْ وَمُتَأَخِّرُهُمْ، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ فِي " الْمُجَرَّدِ " ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهَا وَفِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآحَادِهِمْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَهِيَ: الْإِعَانَةُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُؤْوِيَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَاسُوسًا، وَأَنْ يُعِينَ عَلَيْهِمْ بِدَلَالَةٍ، مِثْلَ أَنْ يُكَاتِبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَزْنِيَ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ يُصِيبَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، وَأَنْ يَفْتِنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ.
قَالَ: فَعَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ هَذَا شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، فَإِنْ خَالَفَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَذَكَرَ نُصُوصَ أَحْمَدَ فِي نَقْضِهَا مِثْلَ نَصِّهِ فِي الزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ، وَفِي التَّجَسُّسِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ [عَبْدًا]- كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ - ثُمَّ ذَكَرَ نَصَّهُ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ.

(3/1360)


قَالَ:
[فَتُخَرَّجُ] الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذِكْرَهُ اللَّهَ وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ وَرَسُولَهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي.
قَالَ: فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، الْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الثَّمَانِيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، لَيْسَ ذِكْرُهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنْ [أَتَوْا] وَاحِدَةً مِنْهَا نَقَضُوا الْأَمَانَ، سَوَاءٌ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَهْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " التَّعْلِيقِ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.
قَالَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ إِلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَجَرْيِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا قَذَفَ الْمُسْلِمَ يُضْرَبُ، قَالَ: فَلَمْ يَجْعَلْهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِهَتْكِ عِرْضِهِ.

(3/1361)


وَتَبِعَ الْقَاضِيَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَالشَّرِيفِ [أَبِي جَعْفَرٍ] وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْحُلْوَانِيِّ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَذَكَرُوا - فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا الضَّرَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآحَادِهِمْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فِيهَا غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، مِثْلَ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ - رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ.
وَالْأُخْرَى: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ وَيُقَامُ فِيهِ الْحَدُّ مَعَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِذَلِكَ.

(3/1362)


ثُمَّ إِنَّ الْقَاضِيَ وَالْأَكْثَرِينَ لَمْ يَعُدُّوا قَذْفَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُضِرَّةِ النَّاقِضَةِ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُخَرَّجَةَ إِنَّمَا خَرَجَتْ مِنْ نَصِّهِ فِي الْقَذْفِ.
وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا حُكْمَ تِلْكَ الْخِصَالِ إِلَى الْقَذْفِ، كَمَا نَقَلُوا حُكْمَ الْقَذْفِ إِلَيْهَا حَتَّى حَكَوْا فِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِالْقَذْفِ رِوَايَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ وَسَائِرَ الْأَصْحَابِ ذَكَرُوا مَسْأَلَةَ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَكَرُوا أَنَّ سَابَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَأَنَّ عَهْدَهُ يُنْتَقَضُ، وَذَكَرُوا نُصُوصَ أَحْمَدَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ إِلَّا أَنَّ الْحُلْوَانِيَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يُقْتَلَ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا.

(3/1363)


[فَصْلٌ طَرِيقٌ ثَالِثٌ فِي نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ]
263 - فَصْلٌ
[طَرِيقٌ ثَالِثٌ فِي نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ] .
وَسَلَكَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ طَرِيقًا ثَالِثَةً فِي نَوَاقِضِ الْعَهْدِ فَقَالَ: أَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآحَادِهِمْ فِي مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَإِنَّهَا تَنْقُضُ الْعَهْدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَأَمَّا مَا فِيهِ إِدْخَالُ غَضَاضَةٍ وَنَقْصٍ عَلَى الْإِسْلَامِ - وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي - فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْعَهْدَ، نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُخَرِّجْ فِي هَذَا رِوَايَةً أُخْرَى كَمَا ذَكَرَ أُولَئِكَ.
وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: " لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِذَلِكَ " فَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ فِي الْعَهْدِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ، قَالَهُ الْخِرَقِيُّ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي كُلِّ مَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ، فَصَحَّحَ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ بِانْتِقَاضِ الْعَهْدِ إِذَا خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ.

(3/1364)


وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ، قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَهَاتَانِ الطَّرِيقَتَانِ ضَعِيفَتَانِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِقْرَارُ نُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى حَالِهَا، وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي مَسَائِلِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ فَيَمَنْ جَسَسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ عَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِهِ وَقَتْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْخِرَقِيُّ فِيمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ قَذْفَ الْمُسْلِمَ وَسِحْرَهُ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ تَقْرِيرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ تَخْرِيجَ حُكْمِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَجَعْلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَسْأَلَتَيْنِ - لِوُجُودِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا نَصًّا وَاسْتِدْلَالًا، وَلِوُجُودِ مَعْنًى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا لِلْفَرْقِ - غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَمْ يُخَرَّجِ التَّخْرِيجُ.

(3/1365)


قُلْتُ: لَفْظُ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ": مَسْأَلَةٌ: إِذَا امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ صَارَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآحَادِهِمْ فِي مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ:
[1 -] الِاجْتِمَاعُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ.
[2 -] وَأَلَّا يَزْنِيَ بِمُسْلِمَةٍ.
[3 -] وَلَا يُصِيبُهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ.
[4 -] وَلَا يَفْتِنُ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ.
[5 -] وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ.
[6 -] وَلَا يُؤْوِي لِلْمُشْرِكِينَ عَيْنًا.
[7 -] وَلَا يُعَاوِنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَةٍ - أَعْنِي لَا يُكَاتِبُ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ -.
8 - وَلَا يَقْتُلُ مُسْلِمًا.
وَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ مَا فِيهِ إِدْخَالُ غَضَاضَةٍ وَنَقْصٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
[1 -] ذِكْرُ اللَّهِ.
[2 -] وَكِتَابِهِ.
[3 -] وَدِينِهِ.
[4 -] وَرَسُولِهِ، بِمَا لَا يَنْبَغِي سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ مَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
نَصَّ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ فِي الذِّمِّيِّ يَمْنَعُ الْجِزْيَةَ: إِنْ كَانَ وَاجِدًا أُكْرِهَ عَلَيْهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا ضُرِبَتْ

(3/1366)


عُنُقُهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي نَصْرَانِيٍّ اسْتَكْرَهَ مُسْلِمَةً عَلَى نَفْسِهَا: يُقْتَلُ، لَيْسَ عَلَى هَذَا صُولِحُوا، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ قُتِلَ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: كُلُّ مَنْ ذَكَرَ شَيْئًا يَعْرِضُ بِهِ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي يَهُودِيٍّ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ فَقَالَ: " كَذَبْتَ " يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ شَتَمَ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي يَهُودِيٍّ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقْتَلُ، قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ.
وَإِنْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ يُقْتَلُ، أُتِيَ عُمَرُ بِيَهُودِيٍّ فَحَشَ بِمُسْلِمَةٍ ثُمَّ غَشِيَهَا فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ الْخِرَقِيُّ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا مُسْلِمًا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إِلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَجَرْيِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ [يُوسُفَ] بْنِ مُوسَى الْمَوْصِلِيِّ فِي الْمُشْرِكِ إِذَا قَذَفَ

(3/1367)


مُسْلِمًا يُضْرَبُ.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْذِفُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ: يُنَكَّلُ بِهِ، يُضْرَبُ مَا يَرَى الْحَاكِمُ.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي نَصْرَانِيٍّ قَذَفَ مُسْلِمًا: عَلَيْهِ الْحَدُّ.
قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِهَتْكِ عِرْضِهِ، انْتَهَى.
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ النُّصُوصَ، وَتَأَمَّلْ تَخْرِيجَهُ لَهَا، فَأَحْمَدُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ نَصُّهُ فِي عَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ، فَإِلْحَاقُ مَسَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَسَبَّةِ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَفْسَدِ الْإِلْحَاقِ، وَتَخْرِيجُ عَدَمِ النَّقْضِ بِهِ مِنْ نَصِّهِ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِسَبِّ

(3/1368)


آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَفْسَدِ التَّخْرِيجِ، وَأَيْنَ الضَّرَرُ وَالْمَفْسَدَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ مِنَ النَّوْعِ الْآخَرِ؟ وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ يُقْتَلُ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالزِّنَى مَعَ الْإِحْصَانِ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْقَذْفِ، فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ، وَالتَّخْرِيجُ بَاطِلٌ نَصًّا وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا.
وَاشْتِرَاكُ الصُّوَرِ كُلِّهَا فِي إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يُوجِبُ تَسَاوِيَهَا فِي مِقْدَارِ الضَّرْبِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَالْمُسْلِمُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ أَيْضًا مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ يُقَالُ: يَا لِلَّهِ الْعَجَبُ! ! أَيْنَ ضَرَرُ الْمُجَاهَرَةِ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِهِ وَدِينِهِ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ، وَقَهْرِ الْمُسْلِمَاتِ وَإِنْ كُنَّ شَرِيفَاتٍ عَلَى الزِّنَى، إِلَى ضَرَرِ مَنْعِ دِينَارٍ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجِزْيَةِ! .
وَكَذَلِكَ أَيْنَ ضَرَرُ تَحْرِيقِهِ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَنَابِرِ، إِلَى ضَرَرِ مَنْعِهِ لِدِينَارٍ وَجَبَ عَلَيْهِ! ! فَكَيْفَ يَقْتَضِي الْفِقْهُ أَنْ يُقَالَ: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِمَنْعِ الدِّينَارِ دُونَ هَذِهِ الْأُمُورِ؟ وَأَيْنَ ضَرَرُ امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إِلَى ضَرَرِ مُجَاهَرَتِهِ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا مَعَهُ؟
وَطَرِيقَةُ أَبِي الْبَرَكَاتِ فِي " الْمُحَرَّرِ " فِي تَحْصِيلِ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَصَحُّ طُرُقِ الْأَصْحَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَالَ: وَإِذَا لَحِقَ الذِّمِّيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ مُتَوَطِّنًا أَوِ امْتَنَعَ مِنْ إِعْطَاءِ مَا عَلَيْهِ أَوِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ أَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَإِنْ قَذَفَ مُسْلِمًا أَوْ آذَاهُ بِسِحْرٍ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: يَنْتَقِضُ.

(3/1369)


وَإِنْ فَتَنَهُ عَنْ دِينِهِ أَوْ قَتَلَهُ أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ تَجَسَّسَ لِلْكُفَّارِ أَوْ آوَى لَهُمْ جَاسُوسًا أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ كِتَابَهُ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ، انْتَقَضَ عَهْدُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ بِنَاءً عَلَى نَصِّهِ فِي الْقَذْفِ، وَالْأَصَحُّ التَّفْرِقَةُ.
وَإِذَا أَظْهَرَ مُنْكَرًا أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِكِتَابِهِ أَوْ رَكِبَ الْخَيْلَ وَنَحْوَهُ عُزِّرَ وَلَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ، وَقِيلَ: إِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَإِلَّا فَلَا.

[فَصْلٌ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ]
264 - فَصْلٌ
[مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ] .
وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ فِي " الْأُمِّ ": " وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ صُلْحٍ عَلَى الْجِزْيَةِ كَتَبَ وَذَكَرَ الشُّرُوطَ إِلَى أَنْ قَالَ: " وَعَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ إِنْ ذَكَرَ مُحَمَّدًا أَوْ كِتَابَ اللَّهِ أَوْ دِينَهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ بِهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ثُمَّ ذِمَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَقَضَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْأَمَانِ، وَحَلَّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَالُهُ وَدَمُهُ كَمَا تَحِلُّ أَمْوَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاؤُهُمْ، وَعَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ رِجَالِهِمْ إِنْ أَصَابَ مُسْلِمَةً بِزِنًى أَوِ اسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ أَعَانَ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ إِيوَاءٍ لِعُيُونِهِمْ، فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَحَلَّ دَمَهُ وَمَالَهُ.

(3/1370)


وَإِنْ نَالَ مُسْلِمًا بِمَا دُونَ هَذَا فِي مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ لَزِمَهُ فِيهِ الْحُكْمُ ".
ثُمَّ قَالَ: " فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَازِمَةٌ [لَهُ] إِنْ رَضِيَهَا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْضَهَا فَلَا عَقْدَ لَهُ وَلَا جِزْيَةَ ".
ثُمَّ قَالَ: " وَأَيُّهُمْ قَالَ أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا وَصَفْتُهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَأَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِعْلًا لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ قُتِلَ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، فَيُقْتَلُ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَا بِنَقْضِ عَهْدٍ، وَإِنْ فَعَلَ مَا وَصَفْنَا وَشُرِطَ أَنَّهُ نَقْضٌ لِعَهْدِ الذِّمَّةِ فَلَمْ يُسْلِمْ، لَكِنَّهُ قَالَ: " أَتُوبُ وَأُعْطِي الْجِزْيَةَ كَمَا كُنْتُ أُعْطِيهَا، أَوْ [عَلَى] صُلْحٍ أُجَدِّدُهُ " عُوقِبَ وَلَمْ يُقْتَلْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ فِعْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ، فَأَمَّا مَا دُونَ هَذَا مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فَكُلُّ قَوْلٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ.
قَالَ: فَإِنْ فَعَلَ أَوْ قَالَ مَا وَصَفْنَا وَشُرِطَ أَنْ يَحِلَّ دَمُهُ فَظُفِرَ بِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ: " أُسْلِمُ أَوْ أُعْطِي الْجِزْيَةَ " قُتِلَ وَأُخِذَ مَالُهُ فَيْئًا ".
وَنَصَّ فِي " الْأُمِّ " أَيْضًا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَنْتَقِضُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَلَا بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَلَا بِالزِّنَى بِالْمُسْلِمَةِ وَلَا بِالتَّجَسُّسِ، بَلْ يُحَدُّ فِيمَا فِيهِ الْحَدُّ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً مُنَكِّلَةً فِيمَا فِيهِ الْعُقُوبَةُ، وَلَا يُقْتَلُ إِلَّا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.

(3/1371)


قَالَ: وَلَا يَكُونُ النَّقْضُ لِلْعَهْدِ إِلَّا بِمَنْعِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَالِامْتِنَاعِ بِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: " أُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَلَا أُقِرُّ بِالْحُكْمِ " نُبِذَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُقَاتَلْ عَلَى ذَلِكَ مَكَانَهُ، وَقِيلَ لَهُ: قَدْ تَقَدَّمَ لَكَ أَمَانٌ [بِأَدَائِكَ] لِلْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِكَ بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْنَاكَ فِي أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ مَبْلَغَ مَأْمَنِهِ قُتِلَ إِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: أَنَّ عَهْدَهُ يَنْتَقِضُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقْتَلُ.
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَذَكَرُوا - فِيمَا إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ - وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ - كَمَا إِذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَوِ امْتَنَعُوا مِنَ الْتِزَامِ الْحُكْمِ - كَطَرِيقَةِ أَبِي الْحُسَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ.

(3/1372)


وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبَّ كَالْأَفْعَالِ الَّتِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا ضَرَرٌ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَى بِالْمُسْلِمَةِ وَالْجَسِّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ.
وَذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْأُمُورِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ تَرْكُهَا بِأَعْيَانِهَا لَمْ يَنْتَقِضِ الْعَهْدُ بِفِعْلِهَا، وَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ تَرْكُهَا بِأَعْيَانِهَا فَفِي انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِفِعْلِهَا مُطْلَقًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى هَذِهِ الْوُجُوهَ أَقْوَالًا وَهِيَ أَقْوَالٌ مُشَارٌ إِلَيْهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى أَقْوَالًا وَوُجُوهًا.
هَذِهِ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ شَرْطُ تَرْكِهَا لَا شَرْطُ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِفِعْلِهَا كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ.
وَأَمَّا الْخُرَاسَانِيُّونَ فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالِاشْتِرَاطِ هُنَا شَرْطُ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ بِفِعْلِهَا لَا شَرْطُ تَرْكِهَا.
قَالُوا: إِنَّ الشَّرْطَ مُوجِبٌ نَفْسَ الْعَقْدِ وَذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْخِصَالِ الْمُضِرَّةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِفِعْلِهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِفِعْلِهَا انْتَقَضَ وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ شُرِطَ نُقِضَ؛ وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ فَوَجْهَانِ.

(3/1373)


وَحَسِبُوا أَنَّ مُرَادَ الْعِرَاقِيِّينَ بِالِاشْتِرَاطِ هَذَا فَقَالُوا - حِكَايَةً عَنْهُمْ -: وَإِنْ لَمْ يَجْرِ شَرْطٌ لَمْ يَنْتَقِضِ الْعَهْدُ، وَإِنْ جَرَى فَوَجْهَانِ. وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعِرَاقِيُّونَ قَائِلِينَ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْرِ شَرْطُ الِانْتِقَاضِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا، قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ صُرِّحَ بِشَرْطِ تَرْكِهَا انْتَقَضَ.
وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَصَرُوهُ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ: أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيُوجِبُ الْقَتْلَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ.

[فَصْلٌ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ]
265 - فَصْلٌ
[مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ] .
وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا: يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِالْقِتَالِ، أَوْ مَنْعِ الْجِزْيَةِ، أَوِ التَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ، أَوْ إِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَى، أَوِ التَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالُوا: وَمَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَجَبَ قَتْلُهُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ.
قَالُوا: وَمَنْ سَبَّ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَجَبَ قَتْلُهُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ.
وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا فَحُكْمُهُ فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ نَقْضِ الْعَهْدِ.
قَالُوا: وَأَمَّا رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِكِتَابِهِمْ وَرُكُوبُ السُّرُوجِ وَتَرْكُ الْغِيَارِ وَإِظْهَارُ مُعْتَقَدِهِمْ فِي عِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا

(3/1374)


يُوجِبُ التَّأْدِيبَ لَا الْقَتْلَ.
قَالُوا: وَإِذَا ظَهَرَ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ بَعْضِهِمْ فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ وَظَهَرَ مِنْهُمْ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ اخْتَصَّ النَّقْضُ بِهِ.
وَإِنْ ظَهَرَ رِضَاهُمْ بِذَلِكَ كَانَ نَقْضًا مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَعَلَامَةُ بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ إِنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ.

[فَصْلٌ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ]
266 - فَصْلٌ
[مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ] .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْإِمَامِ وَيَمْنَعُونَ الْجِزْيَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ.
فَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَضَاضَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَصِرْ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، لَكِنْ مِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ مَا لَا قَتْلَ فِيهِ عِنْدَهُمْ مِثْلَ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَالتَّلَوُّطِ وَسَبِّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذَا تَكَرَّرَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ فَاعِلَهُ تَعْزِيرًا.

(3/1375)


وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الْمُقَدَّرِ فِيهِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَيَحْمِلُونَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَتْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ وَيُسَمُّونَهُ الْقَتْلَ سِيَاسَةً، وَكَانَ حَاصِلُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ بِالْقَتْلِ فِي الْجَرَائِمِ الَّتِي تَغَلَّظَتْ بِالتَّكْرَارِ، وَشُرِعَ الْقَتْلُ فِي جِنْسِهَا، وَلِهَذَا أَفْتَى أَكْثَرُ أَصْحَابِهِمْ بِقَتْلِ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِهِ.
وَقَالُوا: يُقْتَلُ سِيَاسَةً، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلَى أُصُولِهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ": وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ يَحْصُلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ - وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْإِضْرَارِ وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِضْرَارٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَقِضَ الْعَهْدُ بِفِعْلِهَا كَمَا لَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ أَمَانٍ فَانْتَقَضَ بِالْمُخَالَفَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَالْهُدْنَةِ.

(3/1376)


[الْأَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّابِّ وَانْتِقَاضِ عَهْدِهِ] .
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قُلْتُ: وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ سِوَى مَا ذَكَرَهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَلَا يَجُوزُ الْإِمْسَاكُ عَنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا صَاغِرِينَ حَالَ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَالْمُرَادُ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ حِينِ بَذْلِهَا أَوِ الْتِزَامِهَا إِلَى حِينِ تَسْلِيمِهَا وَإِقْبَاضِهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ شَرَعُوا فِي الْإِعْطَاءِ وَوَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ إِلَى أَنْ نَقْبِضَهَا مِنْهُمْ، فَمَتَى لَمْ يَلْتَزِمُوهَا أَوِ الْتَزَمُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِهَا لَمْ يَكُونُوا مُعْطِينَ لَهَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا صَاغِرِينَ حَالَ تَنَاوُلِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَقَطْ، وَيُفَارِقُهُمُ الصَّغَارُ فِيمَا عَدَا هَذَا الْوَقْتَ، هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.

(3/1377)


وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَمَنْ جَاهَرَنَا بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِكْرَاهِ حَرِيمِنَا عَلَى الزِّنَى وَتَحْرِيقِ جَوَامِعِنَا وَدُورِنَا وَرَفْعِ الصَّلِيبِ فَوْقَ رُءُوسِنَا، فَلَيْسَ مَعَهُ مِنَ الصَّغَارِ شَيْءٌ، فَيَجِبُ قِتَالُهُ بِنَصِّ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ صَاغِرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقِتَالُ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمُ الْقَتْلُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أُمْرِنَا بِقِتَالِهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّا إِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَعْقِدَ لَهُمْ عَهْدَ الذِّمَّةِ بِدُونِهَا، وَلَوْ عُقِدَ لَهُمْ [كَانَ] عَقْدًا فَاسِدًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْلَ إِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ، يُمْسِكُ عِصْمَتَهَا الْحَبْلَانِ: حَبْلٌ مِنَ اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَحَبْلٌ مِنَ النَّاسِ بِالْعَهْدِ وَالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنَ الْحَبْلَيْنِ.
أَمَّا حَبْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الْأَمْرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا كَانُوا صَاغِرِينَ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدُ وَصْفُ الصَّغَارِ الْمُقْتَضِي لِلْكَفِّ مِنْهُمْ وَعَنْهُمْ، فَالْقَتْلُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالْقِتَالُ لِلطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا حَبْلُ النَّاسِ فَلَمْ يُعَاهِدْهُمُ الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا عَلَى الْكَفِّ عَمَّا فِيهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَغَضَاضَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدُ فَلَا عَهْدَ لَهُمْ مِنَ الْإِمَامِ وَلَا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.

(3/1378)


[فَصْلٌ لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَهْدٌ إِلَّا مَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنَا]
267 - فَصْلٌ
[لَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَهْدٌ إِلَّا مَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنَا] .
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] فَنَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِمُشْرِكٍ عَهْدٌ مِمَّنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَهُمْ إِلَّا قَوْمًا ذَكَرَهُمْ فَجَعَلَ لَهُمْ عَهْدًا مَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَبْقَى لِلْمُشْرِكِ إِلَّا مَا دَامَ مُسْتَقِيمًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَاهَرَتَنَا بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ تَقْدَحُ فِي الِاسْتِقَامَةِ كَمَا تَقْدَحُ مُجَاهَرَتُنَا بِالِاسْتِقَامَةِ فِيهَا، بَلْ مُجَاهَرَتُنَا بِسَبِّ رَبِّنَا وَنَبِيِّنَا وَكِتَابِهِ وَإِحْرَاقِ مَسَاجِدِنَا وَدُورِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ مُجَاهَرَتِنَا بِالْمُحَارَبَةِ إِنْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَا يُجْهَرَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ لَنَا مَعَ الْقَدْحِ فِي أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُونَ لَنَا مَعَ الْقَدْحِ فِي أَعْظَمِهِمَا؟
يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]

(3/1379)


أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَوْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ لَمْ يَرْقُبُوا الرَّحِمَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَلَا الْعَهْدَ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ حَالَتُهُ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَمْ يَرْقُبْ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنَ الْعَهْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، وَمَنْ جَاهَرَنَا بِالطَّعْنِ فِي دِينِنَا وَسَبِّ رَبِّنَا وَنَبِيِّنَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْنَا لَمْ يَرْقُبِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا فِعْلُهُ مَعَ وُجُودِ الْعَهْدِ وَالذِّلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّوْلَةِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ لَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفِيَ لَنَا بِالْعَهْدِ وَلَوْ ظَهَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ الْهُدْنَةِ الْمُقِيمِينَ فِي دَارِهِمْ، قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَهَا أَعَمُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِيمِينَ بِدَارِهِمْ فَثُبُوتُهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِيمِينَ بِدَارِنَا أَوْلَى وَأَحْرَى.

[فَصْلٌ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِنَكْثِهِمْ أَيْمَانَهُمْ]
268 - فَصْلٌ
[انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِنَكْثِهِمْ أَيْمَانَهُمْ] .
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِقِتَالِ مَنْ نَكَثَ

(3/1380)


يَمِينَهُ؛ أَيْ: عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْكَفِّ عَنْ أَذَانَا وَالطَّعْنِ فِي دِينِنَا، وَجَعَلَ عِلَّةَ قِتَالِهِ ذَلِكَ، وَعَطَفَ الطَّعْنَ فِي الدِّينِ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ بَيَانًا أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِتَالِ، وَلِهَذَا تُغَلَّظُ عَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يُهْدِرُ دِمَاءَ مَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَطَعَنَ فِي الدِّينِ وَيُمْسِكُ عَنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَطَعَنَ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ لَمْ يُقَاتَلْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِوَصْفَيْنِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفَيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَمَتَى تَحَقَّقَ أَحَدُهُمَا تَحَقَّقَ الْآخَرُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَهْدِ مَعَ الطَّعْنِ فِي دِينِنَا بَلْ إِمْكَانُ بَقَائِهِ عَلَى الْعَهْدِ دِينًا أَقْرَبُ

(3/1381)


مِنْ بَقَائِهِ عَلَى الْعَهْدِ مَعَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّعْنِ فِي الدِّينِ، بَلْ إِنْ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَهْدِ مَعَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَسُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْمُحَارَبَةِ بِالْيَدِ وَمَنْعِ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَا يُبَيَّنُ فِي الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَالْوَصْفُ الْعَدِيمُ التَّأْثِيرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَكَلَ وَزَنَى حُدَّ، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ كُلُّ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِالتَّأْثِيرِ لَوِ انْفَرَدَتْ، كَمَا يُقَالُ: يُقْتَلُ هَذَا لِأَنَّهُ زَانٍ مُرْتَدٌّ. وَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْجَزَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلِكُلِّ وَصْفٍ تَأْثِيرٌ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] .
وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفَاتُ مُتَلَازِمَةً، كُلٌّ مِنْهَا لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ لَكَانَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، فَيُذْكَرُ إِيضَاحًا وَبَيَانًا لِلْمُوجِبِ.
وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفَاتُ مُتَلَازِمَةً، كُلٌّ مِنْهَا لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ لَكَانَ مُؤَثِّرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، فَيُذْكَرُ إِيضَاحًا وَبَيَانًا لِلْمُوجِبِ.
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مُسْتَلْزِمًا لِلْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقِّ} [آل عمران: 21] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ فُرِضَتْ كَانَتْ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُقَالُ: إِنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلْقِتَالِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ مُؤَكِّدٌ لَهُ مُوجِبٌ لَهُ، فَنَقُولُ إِذَا كَانَ الطَّعْنُ يُغَلِّظُ قِتَالَ مَنْ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَيُوجِبُهُ؛ فَلِأَنْ يُوجِبَ قَتْلَ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ذِمَّةٌ - وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلصَّغَارِ - أَوْلَى، فَإِنَّ الْمُعَاهِدَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ

(3/1382)


فِي دَارِهِ مَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شَيْئًا مِنْ دِينِهِ الْبَاطِلِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُجَرَّدَ نَكْثِ الْأَيْمَانِ مُقْتَضٍ لِلْمُقَاتَلَةِ وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الطَّعْنِ فِي الدِّينِ، وَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الطَّعْنِ فِي الدِّينِ عَلَيْنَا، فَإِذَا كَانَ أَيْسَرُ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلْمُقَاتَلَةِ فَكَيْفَ بِأَشَدِّهِمَا؟
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا سَبَّ اللَّهَ وَالرَّسُولَ أَوْ عَابَ الْإِسْلَامَ عَلَانِيَةً فَقَدْ نَكَثَ يَمِينَهُ وَطَعَنَ فِي دِينِنَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَرْدَعُهُ وَيُنَكَّلُ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُعَاهِدْنَا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُعَاهَدًا عَلَيْهِ لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُعَاقَبُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا كُنَّا عَاهَدْنَاهُ عَلَى أَلَّا يَطْعَنَ فِي دِينِنَا ثُمَّ طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ يَمِينَهُ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِنَصِّ الْآيَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْمُنَازِعَ سَلَّمَ لَنَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لَكِنَّهُ يَقُولُ: " لَيْسَ كُلُّ مَا مُنِعَ مِنْهُ يَنْقُضُ عَهْدَهُ كَإِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ". وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَهْدُ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِنَا ضَرَرًا بَيِّنًا، كَتَرْكِ الْغِيَارِ مَثَلًا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِظْهَارِ الْخِنْزِيرِ، وَبَيْنَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ مَا مُنِعَ مِنْهُ الْعَهْدُ مِمَّا فِيهِ غَايَةُ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ وَبِالدِّينِ، فَإِلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بَاطِلٌ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ الْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّكْثَ هُوَ مُخَالَفَةُ الْعَهْدِ، فَمَتَى

(3/1383)


خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ نَكْثٌ مَأْخُوذٌ مِنْ نَكْثِ الْحَبْلِ وَهُوَ نَقْضُ قُوَاهُ، وَنَكْثُ الْحَبْلِ يَحْصُلُ بِنَقْضِ قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَحْصُلُ بِنَقْضِ جَمِيعِ الْقُوَى، لَكِنْ قَدْ يَبْقَى مِنْ [قُوَاهُ مَا [يَتَمَسَّكُ بِهِ الْحَبْلُ، وَقَدْ يَهِنُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ مِنَ الْمُعَاهِدِ قَدْ تُبْطِلُ الْعَهْدَ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى تَجْعَلَهُ حَرْبِيًّا، وَقَدْ تُشَعِّثُ الْعَهْدَ حَتَّى تُبِيحَ عُقُوبَتَهُمْ، كَمَا أَنَّ فَقْدَ بَعْضِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا قَدْ يُبْطِلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ يُبِيحُ الْفَسْخَ وَالْإِمْسَاكَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: " يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِجَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ ". فَظَاهِرٌ عَلَى قَوْلٍ قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ".
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوا مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ: إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِكُتُبِهِمْ وَالضَّرْبِ بِالنَّوَاقِيسِ وَإِطَالَةِ الْبِنَاءِ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي مَلْبُوسِهِمْ وَمَرْكُوبِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكُنَاهُمْ.

(3/1384)


قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ عَادَ حَرْبِيًّا " - فَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَإِنَّمَا نُهُوا عَنْ فِعْلِهَا لِمَا فِي إِظْهَارِهَا مِنَ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا لِأَنَّ فِي فِعْلِهَا ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ فَبَانَ الْفَرْقُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ شَيْخُنَا: فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدِ اقْتَضَى الْعَقْدُ أَلَّا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَأَنَّهُمْ مَتَى أَظْهَرُوهُ فَقَدْ نَكَثُوا وَطَعَنُوا فِي الدِّينِ فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ يَبْلُغُ دَرَجَةَ النَّصِّ.

[فَصْلٌ كُلُّ مَنْ طَعَنَ فِي دِينِنَا فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ]
269 - فَصْلٌ
[كُلُّ مَنْ طَعَنَ فِي دِينِنَا فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ] .
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] وَهُمُ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا، وَلَكِنْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْمُقَاتَلَةَ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] وَنَظَائِرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَكَثَ يَمِينَهُ وَطَعَنَ

(3/1385)


فِي دِينِنَا فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، وَإِمَامُ الْكُفْرِ هُوَ الدَّاعِي إِلَيْهِ الْمُتَّبَعُ فِيهِ.
وَإِنَّمَا صَارَ إِمَامًا فِي الْكُفْرِ لِأَجْلِ الطَّعْنِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مُجَرَّدَ النَّكْثِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَدْعُو إِلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْإِمَامِ، فَإِذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ كَانَ إِمَامًا فِي الْكُفْرِ فَيَجِبُ قِتَالُهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] عِلَّةٌ أُخْرَى لِقِتَالِهِ، فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُقْتَضِي لِلْقِتَالِ - وَهُوَ نَكْثُ الْعَهْدِ وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ - وَبَيَانُ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنَ الْقِتَالِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْعَاصِمُ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْأَلِفِ فَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ أَحْسَنُ الْقِرَاءَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ سَبَبِ الْقِتَالِ - وَهُوَ نَكْثُ الْأَيْمَانِ وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ - ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ تَعْصِمُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُمْ قَدْ نَكَثُوهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْأَيْمَانِ هُنَا الْعُهُودُ لَا الْقَسَمُ بِاللَّهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاسِمْهُمْ بِاللَّهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِنَّمَا عَاهَدَهُمْ، وَنُسْخَةُ الْكِتَابِ مَحْفُوظَةٌ لَيْسَ فِيهَا قَسَمٌ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَاهِدَيْنِ يَمُدُّ يَمِينَهُ إِلَى الْآخَرِ، ثُمَّ صَارَ مُجَرَّدُ الْكَلَامِ بِالْعَهْدِ يُسَمَّى يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مَدُّ الْيَمِينِ.
وَقَدْ قِيلَ: سُمِّيَ الْعَهْدُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] وَلَمَّا كَانَ الْحَلِفُ مَعْقُودًا مَشْدُودًا سُمِّيَ

(3/1386)


يَمِينًا، فَاسْمُ الْيَمِينِ جَامِعٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ نَذْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " النَّذْرُ حَلْفَةٌ " وَلِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] فَالنَّهْيُ عَنْ [نَقْضِ] الْعُهُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَسَمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَسَمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]

(3/1387)


مَعْنَاهُ: تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَعَنَ فِي دِينِنَا بَعْدَ أَنْ عَاهَدْنَاهُ عَهْدًا يَقْتَضِي أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ إِمَامٌ فِي الْكُفْرِ لَا يَمِينَ لَهُ فَيَجِبُ قَتْلُهُ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاكِثِ الَّذِي لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الْكُفْرِ، وَهُوَ مَنْ خَالَفَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحَ عَلَيْهِ.

[فَصْلٌ الْهَمُّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مُوجِبٌ لِقِتَالِهِمْ]
270 - فَصْلٌ
[الْهَمُّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مُوجِبٌ لِقِتَالِهِمْ] .
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13] فَجَعَلَ هَمَّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مُوجِبًا لِقِتَالِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى لَهُ.
وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ سَبَّهُ أَعْظَمُ أَذًى لَهُ مِنْ مُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلِهَذَا عَفَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ عَنِ الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّنْ سَبَّهُ، فَالذِّمِّيُّ إِذَا أَظْهَرَ سَبَّهُ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وَفَعَلَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْهَمِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَبَدَأَ بِالْأَذَى فَيَجِبُ قِتَالُهُ.

[فَصْلٌ الْأَمْرُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ]
271 - فَصْلٌ
[الْأَمْرُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ] .
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15]

(3/1388)


فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ: تَعْذِيبِهِمْ بِأَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَخِزْيِهِمْ، وَالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَشِفَاءِ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَهَابِ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ، وَتَوْبَتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يَحْصُلْ هَذَا.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مُرَتَّبَةً عَلَى قِتَالِ النَّاكِثِ وَالطَّاعِنِ فِي الدِّينِ - وَهِيَ أُمُورٌ مَطْلُوبَةٌ - كَانَ سَبَبُهَا الْمُقْتَضِي لَهَا مَطْلُوبًا لِلشَّارِعِ - وَهُوَ الْقِتَالُ - وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَطْلُوبَةً حَاصِلَةً بِالْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ تَعْطِيلُ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهَا مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ يُقَاتِلُهُ، وَهُوَ النَّكْثُ وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ.
فَشِفَاءُ الصُّدُورِ الْحَاصِلُ مِنْ أَلَمِ النَّكْثِ وَالطَّعْنِ، وَذَهَابُ الْغَيْظِ الْحَاصِلِ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ، مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ مَطْلُوبُ الْحُصُولِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَغِيظُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤْلِمُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا يُثِيرُ الْغَضَبَ لِلَّهِ وَالْحَمِيَّةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَهِيجُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ غَيْظٌ أَكْثَرَ مِنْهُ، بَلِ الْمُؤْمِنُ الْمُسَدَّدُ لَا يَغْضَبُ هَذَا الْغَضَبَ إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ شِفَاءَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَهَابَ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَتْلِ السَّبَّابِ لِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ [تَعْزِيرَهُ] وَتَأْدِيبَهُ يُذْهِبُ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ إِذَا شَتَمَ أَحَدًا مِنْ

(3/1389)


الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَذْهَبَ التَّعْزِيرُ وَالتَّأْدِيبُ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ إِذَا شَتَمَ الرَّسُولَ لَكَانَ غَيْظُهُمْ مِنْ سَبِّ نَبِيِّهِمْ مِثْلَ غَيْظِهِمْ مِنْ سَبِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.
الثَّانِي: أَنَّ شَتْمَهُ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُسْفَكَ دِمَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ لَوْ قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَشْفِ صُدُورَهُمْ إِلَّا قَتْلُهُ، فَأَنْ لَا تُشْفَى صُدُورُهُمْ إِلَّا بِقَتْلِ السَّابِّ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ قِتَالَهُمْ هُوَ السَّبَبَ فِي حُصُولِ الشِّفَاءِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ يُحَصِّلُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ هُوَ الشَّافِيَ لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَرَادَ أَنْ يَشْفِيَ صُدُورَ خُزَاعَةَ - وَهُمُ الْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ - مِنْ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ مَكَّنَهُمْ مِنْهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ أَمَانِهِ لِسَائِرِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ شِفَاءُ صُدُورِهِمْ وَذَهَابُ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَتْلِ لِلَّذِينَ نَكَثُوا أَوْ طَعَنُوا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَمَانِهِ النَّاسَ.

[فَصْلٌ الْمُحَادُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ]
272 - فَصْلٌ
[الْمُحَادُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ] .
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]

(3/1390)


ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] فَجَعَلَهُمْ مُؤْذِينَ لَهُ بِقَوْلِهِمْ: (هُوَ أُذُنٌ) ثُمَّ قَالَ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63] فَجَعَلَهُمْ بِهَذَا مُحَادِّينَ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مَسَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالطَّعْنَ فِي دِينِهِ أَعْظَمُ مُحَادَّةً لَهُ وَلِرَسُولِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُحَادٌّ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] وَالْأَذَلُّ أَبْلَغُ مِنَ الذَّلِيلِ، وَلَا يَكُونُ أَذَلَّ حَتَّى يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ دَمُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومًا لَا يُسْتَبَاحُ فَلَيْسَ بِأَذَلَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَيْنَمَا ثُقِفُوا فَعَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ إِلَّا مَعَ الْعَهْدِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَهُ عَهْدٌ وَحَبْلٌ يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا ذِلَّةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ الْمَسْكَنَةُ، فَإِنَّ الْمَسْكَنَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الذِّلَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الْحَادِّينَ فِي الْأَذَلِّينَ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ؛ إِذِ الْعَهْدُ يُنَافِي الذِّلَّةَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْأَذَلَّ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُ بِهَا مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهِ نَصْرُهُ وَمَنْعُهُ فَلَيْسَ بِأَذَلَّ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحَادَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَكُونُ لَهُ عَهْدٌ يَعْصِمُهُ.

(3/1391)


[فَصْلٌ بَيَانُ مَعْنَى الْكَبْتِ]
273 - فَصْلٌ
[بَيَانُ مَعْنَى الْكَبْتِ] .
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5] ) وَالْكَبْتُ: الْإِذْلَالُ وَالْخِزْيُ وَالتَّصْرِيعُ عَلَى الْوَجْهِ.
قَالَ النَّضْرُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ الْغَيْظُ وَالْحُزْنُ.
وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كُبِتُوا أُهْلِكُوا وَأُخْزُوا وَحَزِنُوا، وَإِذَا كَانَ الْمُحَادُّ مَكْبُوتًا فَلَوْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مَكْبُوتًا بَلْ مَسْرُورًا جَذِلًا يَشْفِي صَدْرَهُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ آمِنًا عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ، فَأَيْنَ الْكَبْتُ إِذَنْ؟

(3/1392)


وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5] فَخَوْفُهُمْ بِكَبْتٍ نَظِيرَ كَبْتِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ الْإِهْلَاكُ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] عَقِيبَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ [الْمُحَادَّةَ] مُغَالَبَةٌ وَمُعَادَاةٌ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُ الْمُحَادِّينَ غَالِبًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا أَهْلِ السِّلْمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحَادَّ لَيْسَ بِمُسَالِمٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَمَانٌ مَعَ الْمُحَادَّةِ، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْغَلَبَةَ لِرُسُلِهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَهْرِ، فَمَنْ أُمِرَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ نُصِرَ عَلَى عَدُوِّهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْحَرْبِ أُهْلِكَ عَدُوُّهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُحَادَّةَ مُشَاقَّةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحَدِّ وَالْفَصْلِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُشَاقَّةُ مِنَ الشَّقِّ، وَكَذَلِكَ الْمُعَادَاةُ مِنَ الْعُدْوَةِ وَهِيَ الْجَانِبُ، يَكُونُ أَحَدُ الْعَدُوَّيْنِ فِي شَقٍّ وَجَانِبٍ وَحَدٍّ، وَعَدُوُّهُ الْآخَرُ فِي غَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَعْنَى الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُفَاصَلَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْقِطَاعِ الْحَبْلِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَا يَكُونُ مَعَ اتِّصَالِ الْحَبْلِ أَبَدًا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَبْلَ وَصْلَةٌ وَسَبَبٌ، فَلَا يُجَامِعُ الْمُفَاصَلَةَ وَالْمُبَايَنَةَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمُشَاقَّةِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

(3/1393)


{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ [يُشَاقِقِ] اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 12 - 13] فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمُشَاقَّتِهِمْ [وَمُحَادَّتِهِمْ] وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ تَاسِعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَتَرْتِيبُهُ هَكَذَا: هَذَا مُشَاقٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمُشَاقُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَحِقٌّ ضَرْبَ الْعُنُقِ، وَقَدْ تَبَيَّنَتْ صِحَّةُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ.
وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3] وَالتَّعْذِيبُ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْقِتَالُ وَالْإِهْلَاكُ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْمُشَاقَّةِ، وَأَخَّرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ لِمَا سَبَقَ مِنْ كِتَابَةِ الْجَلَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ الْمُشَاقَّةُ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الْجَلَاءُ اسْتَحَقَّ عَذَابَ الدُّنْيَا الَّذِي أَخَّرَهُ عَنْ أُولَئِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَاشِرٌ فِي الْمَسْأَلَةِ.

(3/1394)


[فَصْلٌ زَوَالُ الْعِصْمَةِ عَنْ نَفْسِ وَمَالِ الْمُؤْذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ]
274 - فَصْلٌ
[زَوَالُ الْعِصْمَةِ عَنْ نَفْسِ وَمَالِ الْمُؤْذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ]
الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] ) وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ أَذًى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ قَطْعًا، بَلْ أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَحْصُلُ بِدُونِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَلْعُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَادِمَ النَّصِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ وَدَمُهُ مَعْصُومَيْنِ لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُ وَكَانُوا كُلُّهُمْ أَنْصَارَهُ، وَهَذَا مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِقَوْلِهِ: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]
يُوَضِّحُهُ الدَّلِيلُ الثَّانِي عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا مُؤْذٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» " فَنَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ بَعْدَ الْعَهْدِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(3/1395)


[فَصْلٌ مَدَّ اللَّهُ قِتَالَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ]
275 - فَصْلٌ
[مَدَّ اللَّهُ قِتَالَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ] .
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] ) فَمَدَّ قِتَالَهُمْ إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالْمُجَاهِرُ بِالسَّبِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُنْتَهٍ فَقِتَالُهُ وَاجِبٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَقَتْلُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ حَتْمٌ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَعَلَيْهِ الْعُدْوَانُ الَّذِي نَفَاهُ عَمَّنِ انْتَهَى وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ.

[فَصْلٌ يُوَفَّى الْعَهْدُ إِلَيْهِمْ مَا لَمْ يَنْقُصُونَا شَيْئًا مِمَّا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ]
276 - فَصْلٌ
[يُوَفَّى الْعَهْدُ إِلَيْهِمْ مَا لَمْ يَنْقُصُونَا شَيْئًا مِمَّا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ] .
الدَّلِيلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] ) إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ مَا لَمْ يُنْقُصُونَا شَيْئًا مِمَّا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ فَقَدْ نَقَصَنَا جُلَّ مَا عَاهَدْنَاهُ عَلَيْهِ مَا خَلَا الدِّينَارَ الَّذِي هُوَ أَهْوَنُ شَيْءٍ عُوهِدَ عَلَيْهِ فَهُوَ

(3/1396)


أَوْلَى بِفَسْخِ الْعَهْدِ مِنْ نَقْصِ الدِّينَارِ، وَلَا كَانَ بَاذِلُهُ وَقَدْ جَاهَرَ بِأَعْظَمِ الْعَدَاوَةِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الدِّينَارَ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُ إِذْلَالًا لَهُ وَقَهْرًا حَتَّى يَكُونَ صَاغِرًا، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ لَمْ يَكُنْ صَاغِرًا فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، فَإِذَا أَتَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِ الدِّينَارِ مِمَّا يُنَافِي الصَّغَارَ، فَاسْتِحْقَاقُهُ لِلْقَتْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا يُقَرِّبُ مِنَ الْمُقَاطِعِ.

(3/1397)


ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّبَّابِ وَانْتِقَاضِ عَهْدِهِ
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ

(3/1398)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا» . وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " السُّنَنِ ".
وَاحْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْمَى يَأْوِي إِلَى امْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ، فَكَانَتْ تُطْعِمُهُ وَتُحْسِنُ إِلَيْهِ، فَكَانَتْ لَا تَزَالُ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُؤْذِيهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي خَنَقَهَا فَمَاتَتْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَشَدَ النَّاسُ فِي أَمْرِهَا، فَقَامَ الْأَعْمَى فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهَا، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا» .

(3/1399)


قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الْحَدِيثُ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ رَأَى عَلِيًّا وَرَوَى عَنْهُ حَدِيثَ [شُرَاحَةَ] الْهَمْدَانِيَّةِ، وَكَانَ فِي حَيَاةِ عَلِيٍّ قَدْ نَاهَزَ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ مَعَهُ فِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِقَاؤُهُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا، وَإِنْ يَبْعُدْ سَمَاعُ الشَّعْبِيِّ مِنْ عَلِيٍّ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَالشَّعْبِيُّ عِنْدَهُمْ صَحِيحُ الْمَرَاسِيلِ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ إِلَّا مُرْسَلًا صَحِيحًا، وَهُوَ

(3/1400)


مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَعْلَمِهِمْ بِثِقَاتِ أَصْحَابِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ:
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهَا، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ تَشْتُمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا إِنَّ دَمَ فُلَانَةَ هَدَرٌ» ".

(3/1401)


رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْتُمُهُ فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: " أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ " فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَدَلْدَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةُ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» ".

(3/1402)


وَالْمِغْوَلُ - بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ شَبِيهُ الْمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ: هُوَ سَيْفٌ دَقِيقٌ يَكُونُ غِمْدُهُ كَالسَّوْطِ، وَالْمِشْمَلُ السَّيْفُ الْقَصِيرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، أَيْ: يُغَطِّيهِ بِثَوْبِهِ، وَاشْتِقَاقُ الْمِغْوَلِ مِنْ غَالَهُ الشَّيْءَ وَاغْتَالَهُ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.
قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذِهِ الْقِصَّةُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْأُولَى، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ أَحَادِيثُ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ مِنْهَا حَدِيثُ الْأَعْمَى الَّذِي قَتَلَ الْمَرْأَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ خَنَقَهَا وَبَعَجَ بَطْنَهَا، أَوْ تَكُونُ كَيْفِيَّةُ الْقَتْلِ غَيْرَ مَحْفُوظَةٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ وُقُوعَ قِصَّتَيْنِ مِثْلَ هَذِهِ لِأَعْمَيَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ

(3/1403)


تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَتُكَرِّرُ الشَّتْمَ، وَكِلَاهُمَا قَتَلَهَا وَحْدَهُ، وَكِلَاهُمَا نَشَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا النَّاسَ، بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَقْتُولَةُ يَهُودِيَّةٌ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا قِصَّتَيْنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الذِّمِّيِّ الْمُعَاهِدِ وَانْتِقَاضِ عَهْدِهِ بِالسَّبِّ، قِيلَ: هَذَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ بِالسُّنَّةِ كَثِيرُ عِلْمٍ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مُوَادَعَةً مُهَادَنَةً؛ إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَادَعَ جَمِيعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا مُوَادَعَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً، وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ بَيْنَهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ» "، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَ فِيمَا حَوْلَهَا ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْيَهُودِ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ. وَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو النَّضِيرِ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَادَنَهُمْ وَوَادَعَهُمْ مَعَ إِقْرَارِهِ لَهُمْ وَلِمَنْ كَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حُلَفَاءِ الْأَنْصَارِ عَلَى حِلْفِهِمْ وَعَهْدِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّهُ عَاهَدَ الْيَهُودَ أَنْ يُعِينُوهُ إِذَا حَارَبَ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو قَيْنُقَاعَ ثُمَّ النَّضِيرُ ثُمَّ قُرَيْظَةُ.

(3/1404)


قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ - كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هَذَا الْكِتَابَ، كَانَ مَقْرُونًا بِكِتَابِ " الصَّدَقَةِ " الَّذِي كَتَبَ عُمَرُ لِلْعُمَّالِ، كَتَبَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مِنْ مُحَمَّدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بَيْنَ] الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ النَّاسِ

(3/1405)


الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ لِبُطُونِ الْأَنْصَارِ: بَنِي حَارِثٍ، وَبَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنِي جُشَمَ، وَبَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَبَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا مِنْهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ، وَلَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ. . . " إِلَى أَنْ قَالَ: ". . . وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوْلَى بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرُ

(3/1406)


مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ. . . " إِلَى أَنْ قَالَ ". . . وَإِنَّ الْيَهُودَ مُتَّفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ذِمَّةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا [يَوْتَغُ] إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يَوْتَغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ. وَإِنْ لَحِقَهُ بَطْنٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَهُ، وَإِنَّ لِبَنِي الشَّطْبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ مَوَالِي ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ ".
ثُمَّ يَقُولُ فِيهَا: " وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَرْثٍ وَأَشْجَارٍ يُخْشَى فَسَادُهُ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ يَهُودَ الْأَوْسِ وَمَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ".

(3/1407)


وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ، ثُمَّ كَتَبَ: " أَنَّهُ لَا يَحِلُّ [لِمُسْلِمٍ] أَنْ يَتَوَلَّى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ» ". فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ كُلَّ مَنْ تَبِعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ.
وَمَعْنَى الِاتِّبَاعِ مُسَالَمَتُهُ وَتَرْكُ مُحَارَبَتِهِ، لَا الِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي أَثْنَاءِ " الصَّحِيفَةِ " فَكُلُّ مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَمَخَالِيفِهَا غَيْرُ مُحَارِبٍ مِنْ يَهُودَ دَخَلَ فِي هَذَا.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ لِيَهُودِ كُلِّ بَطْنٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ذِمَّةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا وَلَهُ حِلْفٌ، إِمَّا مَعَ الْأَوْسِ أَوْ مَعَ بَعْضِ بُطُونِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ - وَهُمُ الْمُجَاوِرُونَ لِلْمَدِينَةِ وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - حُلَفَاءُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ رَهْطُ ابْنِ أَبِي رُهْمٍ، الْبَطْنُ الَّذِي بُدِئَ بِهِمْ فِيهِ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: «أَنَّ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَانُوا

(3/1408)


فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيِّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْسِلْنِي "، وَغَضِبَ حَتَّى إِنَّ لِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظِلَالًا وَقَالَ: " وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي "، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوَالِيِّ: أَرْبَعِمِائَةِ حَاسِرٍ وَثَلَاثِمِائَةِ دَارِعٍ، قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، إِنِّي وَاللَّهِ أَخْشَى الدَّوَائِرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُمْ لَكَ» ".

(3/1409)


وَأَمَّا النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ فَكَانُوا خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعَهْدُهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَقْتُولَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَتْ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ؛ إِذْ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا كَانَتْ ذِمِّيَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا ذِمِّيٌّ، فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَكُلُّهُمْ مُعَاهِدٌ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ،

(3/1410)


عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَادَعَتْهُ يَهُودُ كُلُّهَا، فَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كِتَابًا، وَأَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ بِحُلَفَائِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانَا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا، فَكَانَ فِيمَا شَرَطَ: " أَلَّا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا "، فَلَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ بَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَغَتَ يَهُودُ وَقَطَعَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَهُمْ ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ بِكُمْ مِثْلَ وَقْعَةِ قُرَيْشٍ ". فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ مَنْ لَقِيَتْ، إِنَّكَ لَقِيتَ أَقْوَامًا أَغْمَارًا، وَإِنَّا وَاللَّهِ أَصْحَابُ الْحَرْبِ، وَإِنْ قَاتَلْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّكَ لَمْ تُقَاتِلْ مِثْلَنَا» .
ثُمَّ ذَكَرَ حِصَارَهُمْ وَإِجْلَاءَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتٍ، وَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ.
فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَعْبٍ مِثْلَ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاهَدَ جَمِيعَ الْيَهُودِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الْمَأْثُورَةَ وَالسِّيرَةَ كَيْفَ كَانَتْ مَعَهُمْ عَلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً.

(3/1411)


وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا قُتِلَتْ نَشَدَ النَّاسَ فِي أَمْرِهَا، فَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ ذَنْبُهَا أَبْطَلَ دَمَهَا، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَكَمَ بِأَمْرٍ [عَقِبَ] حِكَايَةِ حَالٍ حُكِيَتْ لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْكِيَّ هُوَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبِ حَادِثٍ، وَلَا سَبَبَ إِلَّا مَا حُكِيَ وَهُوَ مُنَاسِبٌ فَيَجِبُ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَلَمَّا نَشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهَا ثُمَّ أَبْطَلَ دَمَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْصُومَةً، وَأَنَّ دَمَهَا كَانَ قَدِ انْعَقَدَ سَبَبُ ضَمَانِهِ، وَكَانَ مَضْمُونًا لَوْ لَمْ يُبْطِلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً لَمْ يَنْشُدِ النَّاسَ فِيهَا وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهَا وَيُهْدِرَهُ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ وَالْإِهْدَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِدَمٍ قَدِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ أَنْكَرَ قَتْلَهَا وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَلَمْ يُبْطِلْهُ وَلَمْ يُهْدِرْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا هَدَرًا، وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ دَمَ الْحَرْبِيَّةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بَلْ هُوَ هَدَرٌ لَمْ يَكُنْ لِإِبْطَالِهِ وَإِهْدَارِهِ وَجْهٌ، وَهَذَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - ظَاهِرٌ.
فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَ الْيَهُودَ عَهْدًا بِغَيْرِ ضَرْبِ جِزْيَةٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ يَهُودِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَجْلِ سَبِّهِ، فَأَنْ يُهْدِرَ دَمَ يَهُودِيَّةٍ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْمِلَّةِ - لِأَجْلِ السَّبِّ - أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَتْلُهَا جَائِزًا لَبَيَّنَ لِقَاتِلِهَا قُبْحَ مَا فَعَلَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ - كَيْفَ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(3/1412)


" «إِنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ". وَلَأَوْجَبَ ضَمَانَهَا وَكَفَّارَةَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ، فَلَمَّا أَهْدَرَ دَمَهَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا.
وَقَدْ وَهَمَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْمَقْتُولَةِ فَقَالَ: " فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَّ مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتِدَادٌ عَنِ الدِّينِ " فَاعْتَقَدَ أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً مُنْتَقِلَةً إِلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقِرَّ سَيِّدَهَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا طَوِيلَةً، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ نَهْيِهَا عَنِ السَّبِّ، بَلْ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهَا الْعَوْدَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ لَمْ يَقُلْ: " كَفَرَتْ وَلَا ارْتَدَّتْ " وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُجَرَّدَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا زَائِدٌ عَلَيْهِ.

(3/1413)


[فَصْلٌ حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ السَّابِّ]
277 - فَصْلٌ
[حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ السَّابِّ]
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا سَبَّ قُتِلَ وَبَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَهُوَ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ إِذَا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِخَبَرِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": " لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قُرْبَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يَهُودَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَنْصَارُ أَجْمَعَتْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلَامًا، فَوَادَعَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَدَاوَتِهِ بِقَوْلٍ [يَظْهَرُ] وَلَا فِعْلٍ، حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ".
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ.

(3/1414)


وَقَدْ رَوَاهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: " قُلْ ".
فَأَتَاهُ وَذَكَّرَهُ مَا بَيْنَهُمْ، قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَرَادَ الصَّدَقَةَ وَعَنَانَا فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ الْآنَ، وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَنِي سَلَفًا، قَالَ: فَمَا تَرْهَنُونَنِي؟ نِسَاءَكُمْ؟ قَالَ: أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ، أَنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟ قَالَ: تَرْهَنُونَ إِلَيَّ أَوْلَادَكُمْ؟ قَالَ: يُسَبُّ ابْنُ أَحَدِنَا فَيُقَالُ: رُهِنْتَ فِي وَسَقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، وَلَكِنَّ نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ - قَالَ:

(3/1415)


نَعَمْ؛ وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ وَأَبِي عَبْسِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، فَجَاءُوا فَدَعُوهُ لَيْلًا فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ وَرَضِيعُهُ أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ لَيْلًا لَأَجَابَ.
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِّي إِذَا جَاءَ سَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى رَأْسِهِ فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَدُونَكُمْ، فَنَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ فَقَالَ: أَنَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيبِ؟

(3/1416)


قَالَ: نَعَمْ، تَحْتِي فُلَانَةُ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ.
قَالَ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ مِنْهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّ ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟ قَالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ فَقَتَلُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُعِينَ عَلَيْهِ وَلَا يُقَاتِلَهُ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِمُعَادَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا خَزَعَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
أَذَاهِبٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ [بِمَنْقَمَةٍ] ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ
فِي أَبْيَاتٍ يَهْجُوهُ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَتْلِهِ» .
وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.

(3/1417)


وَقَالَ: قَوْلُهُ " خَزَعَ " مَعْنَاهُ قَطَعَ عَهْدَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: فَخَزَعَ مِنْهُ هِجَاؤُهُ لَهُ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
وَالْخَزْعُ الْقَطْعُ، يُقَالُ: " خَزَعَ فُلَانٌ عَنْ أَصْحَابِهِ يَخْزَعُ خَزْعًا؛ أَيِ: انْقَطَعَ وَتَخَلَّفَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ " خُزَاعَةٌ " لِأَنَّهُمُ انْخَزَعُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ ".
فَعَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَهَذَا أَوَّلُ خَزْعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَيْ: أَوَّلُ انْقِطَاعِهِ عَنْهُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ.
وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: الْمَعْنَى قَطَعَ هِجَاءَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ؛ أَيْ: نَقَضَ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَزَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَاهُ: أَيْ: نَالَ مِنْهُ وَشَعَّثَ مِنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ - مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ - أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَادَعَهُ مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَرَبِيًّا مِنْ بَنِي طَيِّئٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ.

(3/1418)


قَالُوا: فَلَمَّا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَرَثَاهُمْ لِقُرَيْشٍ، وَفَضَّلَ دِينَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51 - 52] ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخَذَ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ [يَهْجُو بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَيُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَذَكَرُوا قِصَّةَ قَتْلِهِ مَبْسُوطَةً.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ [ابْنِ] كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ: «فَفَزِعَتْ يَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ،

(3/1419)


فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا: قَدْ طَرَقَ صَاحِبُنَا اللَّيْلَةَ وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، [قُتِلَ غِيلَةً] بِلَا جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَوْ قَرَّ كَمَا قَرَّ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مَا اغْتِيلَ، وَلَكِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ ". وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا تَحْتَ الْعَذْقِ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَحَذِرَتْ يَهُودُ وَخَافَتْ وَذَلَّتْ مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ» .

(3/1420)


فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَعْبًا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ بَلْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ دَمُهُ بِالسَّبِّ بَلْ بِلُحُوقِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَ دَمَهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: " أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الصُّنْبُرِ الْمُنْبَتِرِ عَنْ قَوْمِهِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السَّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] قَالَ: وَأُنْزِلَتْ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] إِلَى قَوْلِهِ: (نَصِيرًا)

(3/1422)


وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وَأَمَرَهُمْ] أَنْ يَغْزُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ،

(3/1423)


وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَخْرُجَ مَعَكَ فَاسْجُدْ لِهَذَيْنِ الصَّنَمَيْنِ وَآمِنْ بِهِمَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ نَحْنُ نَصِلُ الرَّحِمَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ وَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَنْحَرُ الْكُومَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]
وَقَالَ: حَدَّثَنَا [عَبْدُ الرَّزَّاقِ] ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ: دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوا: اعْرِضُوا عَلَيَّ دِينَكُمْ، قَالُوا: نُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ الْمَاءَ وَنَصِلُ الرَّحِمَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ.

(3/1424)


قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيُّ - وَهُوَ أَحَدُ بَنِي النَّضِيرِ [وَقَيِّمُهُمْ]- قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، [فَاسْتَغْوَاهُمْ] بِهَمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ [لَهُ] أَبُو سُفْيَانَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ، أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ وَأَيُّنَا أَهْدَى فِي رَأْيِكَ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ؟ فَإِنَّا نُطْعِمُ الْجَزُورَ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ وَنُطْعِمُ مَا هَبَّتِ الشَّمَالُ. قَالَ ابْنُ الْأَشْرَفِ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ مُقْبِلًا حِينَ أَجْمَعَ رَأْيُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْلِنًا بِعَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِجَائِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَنَا مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ قَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا، وَقَدْ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَجَمَعَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا، وَقَدْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى أَخْبَثِ

(3/1425)


مَا كَانَ [يَنْتَظِرُ] قُرَيْشًا أَنْ تَقْدَمَ فَيُقَاتِلَنَا مَعَهُمْ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا أُنْزِلَ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] إِلَى قَوْلِهِ: (سَبِيلًا) وَآيَاتٍ مَعَهَا فِيهِ وَفِي قُرَيْشٍ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ [اكْفِنِي] ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْتَ " فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْتُلُهُ؟» . . . وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي قَتْلِهِ، قَالَ: فَقَتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْرَفِ بِعَدَاوَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِجَائِهِ إِيَّاهُ وَتَأْلِيبِهِ عَلَيْهِ قُرَيْشًا وَإِعْلَانِهِ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ

(3/1426)


أَصْحَابُ بَدْرٍ وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرَيْنِ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ الظَّفَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ.
قَالُوا: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ طَيِّئٍ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ: أَحَقٌّ هَذَا الَّذِي يَرْوُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى هَذَانِ الرَّجُلَانِ؟ - يَعْنِي زَيْدًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ - هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ

(3/1427)


أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ [وَجَعَلَ يُحَرِّضُ] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَيُنْشِدُ] الْأَشْعَارَ، [وَيَبْكِي] أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ، وَذَكَرَ شِعْرَهُ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُغِيثِ -: " مَنْ لِي مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ " فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ» وَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ

(3/1428)


وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي مِنْهُ بِطَائِفَةٍ، وَكَانَ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَنَا عَلَيْهِ قَالُوا: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِمْ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ: مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فِيهِمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَمِنْهُمْ حُلَفَاءُ الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلَّهُمْ وَمُوَادَعَتَهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكًا فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] الْآيَةَ.

(3/1429)


فَلَمَّا أَبَى ابْنُ الْأَشْرَفِ أَنْ يَدَعَ عَنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ مِنْ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، فَرَأَى الْأُسَارَى مُقَرَّنِينَ كُبِتَ وَذَلَّ، ثُمَّ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَيْلَكُمْ! لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا الْيَوْمَ، هَؤُلَاءِ سُرَاةُ النَّاسِ قَدْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا، فَقَالَ: وَمَا أَنْتُمْ وَقَدْ وَطِئَ قَوْمَهُ وَأَصَابَهُمْ؟ وَلَكِنِّي أَخْرُجُ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَحُضُّهَا وَأَبْكِي قَتْلَاهَا، لَعَلَّهُمْ يَنْتَدِبُونَ فَأَخْرَجُ مَعَهُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَوَضَعَ رَحْلَهُ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ أَبِي صَبْرَةَ السَّهْمِيِّ وَتَحْتَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ، فَجَعَلَ يَرْثِي قُرَيْشًا. . . وَذَكَرَ مَا رَثَاهُمْ بِهِ مِنَ الشِّعْرِ وَمَا أَجَابَهُ حَسَّانُ، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ كَعْبٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ، فَقَالَ حَسَّانُ، فَذَكَرَ شِعْرًا هَجَا بِهِ أَهْلَ الْبَيْتِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَهَا شِعْرُهُ نَبَذَتْ رَحْلَهُ وَقَالَتْ: مَا لَنَا وَلِهَذَا الْيَهُودِيِّ؟ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ بِنَا حَسَّانُ؟ فَتَحَوَّلَ، فَكُلَّمَا تَحَوَّلَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ، فَقَالَ: " ابْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَ عَلَى فُلَانٍ ". فَلَا يَزَالُ

(3/1430)


يَهْجُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا رَحْلَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَأْوًى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُومُهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْتَ فِي إِعْلَانِهِ الشَّرَّ وَقَوْلِهِ الْأَشْعَارَ ".
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لِي مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدَ [آذَانِي] فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ، قَالَ: " فَافْعَلْ» ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَقَدِ اجْتَمَعَ لِابْنِ الْأَشْرَفِ ذُنُوبٌ مِنْهَا: أَنَّهُ رَثَى قَتْلَى قُرَيْشٍ، وَحَضَّهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاطَأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى مُحَارَبَتِهِ بِإِخْبَارِهِ أَنَّ دِينَهُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَهَجَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

(3/1431)


أَحَدُهَا: أَنَّ كَعْبًا كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِهِجَائِهِ وَأَذَاهُ بِلِسَانِهِ.
الثَّانِي: أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَقَضَ بِهِ الْعَهْدَ قَصِيدَتُهُ الَّتِي أَنْشَأَهَا يَهْجُو بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَجَاهُ بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ لَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ فِي شَأْنِ قَتْلِهِ: " «إِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ» ". وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدَ اسْتَحَقَّ السَّيْفَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْدُبْ إِلَى قَتْلِهِ لِكَوْنِهِ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ لَمَّا قَدِمَ وَهَجَاهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: " ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا قَطَعَ بِهِ الْعَهْدَ تِلْكَ الْأَبْيَاتُ الَّتِي قَالَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: " «مَنْ لَنَا مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا» ".
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ

(3/1432)


قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْمَاءَ عَلَى اللَّبَنِ وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ قَطَّعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] .
وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَتَيَا قُرَيْشًا فِي الْمَوْسِمِ، فَقَالَ لَهُمَا الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ، إِنَّمَا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ حَسَدُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] فَلَمَّا رَجَعَا إِلَى قَوْمِهِمَا قَالَ لَهُمَا قَوْمُهُمَا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكُمْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ، مَا حَمَلَنَا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا حَسَدُهُ وَبُغْضُهُ.

(3/1433)


وَهَذَانِ مُرْسَلَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فِيهِمَا أَنَّ كِلَا الرَّجُلَيْنِ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَدِمَا فَنَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَأَمْسَكَ عَنِ ابْنِ أَخْطَبَ، حَتَّى نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ الْعَهْدَ فَأَجْلَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقَ بِخَيْبَرَ، ثُمَّ جَمَعَ عَلَيْهِ الْأَحْزَابَ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ مَعَهُمْ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي أَتَيَاهُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُوجِبَ لِلنَّدْبِ إِلَى قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ ابْنُ الْأَشْرَفِ مِنَ الْهِجَاءِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ بِمَكَّةَ مُقَوِّيًا لِذَلِكَ وَلَكِنْ مُجَرَّدُ الْأَذَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يُوجِبُ النَّدْبَ إِلَى قَتْلِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " «فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَكَمَا بَيَّنَهُ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ

(3/1434)


الْحَارِثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: " لَمَّا قَالَ: «كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ - كَذَا فِيهِ، قَالَ شَيْخُنَا: أَحْسَبُهُ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ - اعْتَزَلَ ابْنُ الْأَشْرَفِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَانَ فِيهَا وَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَيْهِ وَلَا أُقَاتِلُهُ، فَقِيلَ لَهُ بِمَكَّةَ: دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ وَأَقْدَمُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ حَدِيثٌ» .
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ مُحَارَبَتَهُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ جَمِيعَ مَا أَتَاهُ ابْنُ الْأَشْرَفِ إِنَّمَا هُوَ أَذًى بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ رِثَاءَهُ لِقَتْلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَحْضِيضَهُ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَّهُ وَطَعْنَهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَفْضِيلَهُ دِينَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، كُلُّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا فِيهِ مُحَارَبَةٌ.
وَمَنْ نَازَعَنَا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِهِ فَهُوَ فِيمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ تَفْضِيلِ دِينِ الْكُفَّارِ وَحَضِّهِمْ بِاللِّسَانِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مُنَازَعَةً، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا تَجَسَّسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَخْبَرَهُمْ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعَا الْكُفَّارَ إِلَى قِتَالِهِمُ انْتَقَضَ عَهْدُهُ أَيْضًا كَمَا يَنْتَقِضُ

(3/1435)


عَهْدُ السَّابِّ.
وَمَنْ قَالَ: " إِنَّ السَّابَّ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ " فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا ابْنُ الْأَشْرَفِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلَّا أَذًى بِاللِّسَانِ فَقَطْ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ تَفْضِيلَ دِينِ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ دُونَ [سَبِّ] النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَفْضُولًا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ كَوْنِهِ مَسْبُوبًا مَشْتُومًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَالسَّبُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا مَرْثِيَّتُهُ لِلْقَتْلَى وَحَضُّهُمْ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِمْ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَهْيِيجُ قُرَيْشٍ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، وَقُرَيْشٌ كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَ بَدْرٍ، وَأَرْصَدُوا الْعِيرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ لِلنَّفَقَةِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي ذَلِكَ إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْأَشْرَفِ.
نَعَمْ، مَرْثِيَّتُهُ وَتَفْضِيلُهُ رُبَّمَا زَادَهُمْ غَيْظًا وَمُحَارَبَةً، لَكِنَّ سَبَّهُ لِلنَّبِيِّ وَهِجَاءَهُ لَهُ وَلِدِينِهِ أَيْضًا مِمَّا يُهَيِّجُهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَيُغْرِيهِمْ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْهِجَاءَ فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَأَبْلَغُ، فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ نَقْضًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَقْضًا أَوْلَى، وَلِهَذَا قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ يَشْتُمْنَهُ وَيَهْجِينَهُ مَعَ عَفْوِهِ عَمَّنْ كَانَتْ تُعِينُ عَلَيْهِ وَتَحُضُّ عَلَى قِتَالِهِ.

(3/1436)


الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُسْتَوْطِنًا، وَلِهَذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَطَنُهُ، وَالذِّمِّيُّ إِذَا سَافَرَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَ قَدْ سَافَرَ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ لَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لِمَا قَالَهُ لِقُرَيْشٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَعَنَهُ وَمَنْ لَعَنَهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ لَكَانَ يَجِبُ نَصْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ وَعَدَمِ نَاصِرِهِ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ مِنْ شَتْمٍ وَسَبٍّ؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلِنْ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَحْيًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهِدِينَ إِلَّا بِذَنْبٍ ظَاهِرٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعْلَنَ الْهِجَاءَ وَالْعَدَاوَةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقْتَلَ لِظُهُورِ أَذَاهُ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَ

(3/1437)


النَّاسِ.
نَعَمْ، مَنْ خِيفَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فَإِنَّهُ يُنْبَذُ إِلَيْهِ الْعَهْدُ، أَمَّا إِجْرَاءُ حُكْمِ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ حَتَّى يُظْهِرَ الْمُحَارَبَةَ وَتَثْبُتَ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ النَّفَرَ الْخَمْسَةَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، قَدْ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْدَعُوهُ بِكَلَامٍ يُظْهِرُونَ بِهِ أَنَّهُمْ قَدْ آمَنُوهُ وَوَافَقُوهُ ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لِكَافِرٍ أَمَانًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ، بَلْ لَوِ اعْتَقَدَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ آمَنَهُ صَارَ مُسْتَأْمَنًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ آمَنُ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

(3/1438)


وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا آمَنَكَ الرَّجُلُ عَلَى دَمِهِ فَلَا تَقْتُلْهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

(3/1439)


وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " « [الْإِيمَانُ] قَيْدُ الْفَتْكِ، لَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ» " رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَقَدْ زَعَمَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَتَكُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلَعَ الْأَمَانَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ قَبْلَ هَذَا، وَزَعَمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ مِنَ الْكَافِرِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ، كَمَا جَازَ الْبَيَاتُ وَالْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْغِرَّةِ، لَكِنْ يُقَالُ: فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي كَلَّمُوهُ بِهِ صَارَ مُسْتَأْمَنًا، وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُبْهَةُ أَمَانٍ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْأَمَانَ يَعْصِمُ دَمَ الْحَرْبِيِّ وَيَصِيرُ مُسْتَأْمَنًا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ، وَإِنَّمَا قَتَلُوهُ لِأَجْلِ هِجَائِهِ وَأَذَاهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِهَذَا الْوَجْهِ لَمْ يُعْصَمْ دَمُهُ بِأَمَانٍ وَلَا بِعَهْدٍ كَمَا لَوْ آمَنَ الْمُسْلِمُ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، أَوْ آمَنَ

(3/1440)


مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ زِنَاهُ، أَوْ آمَنَ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ الرِّدَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ تَرْكِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ عَهْدًا، سَوَاءٌ كَانَ عَقْدَ أَمَانٍ أَوْ عَقْدَ هُدْنَةٍ أَوْ عَقْدَ ذِمَّةٍ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ، وَلَيْسَ قَتْلُهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ كَافِرًا حَرْبِيًّا كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
أَمَّا الْإِغَارَةُ وَالْبَيَاتُ فَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ صَارُوا بِهِ آمِنِينَ، وَلَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أُومِنُوا، بِخِلَافِ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْهِجَاءِ وَنَحْوِهِ لَا يُحْقَنُ مَعَهُ الدَّمُ بِالْأَمَانِ، فَلَأَنْ لَا يُحْقَنَ مَعَهُ بِالذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالْهُدْنَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَمَانَ يَجُوزُ عَقْدُهُ لِكُلِّ كَافِرٍ وَيَعْقِدُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ شَيْءٌ مِنَ الشُّرُوطِ وَالذِّمَّةِ لَا يَعْقِدُهَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَلَا يُعْقَدُ إِلَّا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ تُشْرَطُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْتِزَامِ الصَّغَارِ وَنَحْوِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجَاءِ وَالشِّعْرِ وَهُوَ كَلَامٌ مَوْزُونٌ يُحْفَظُ وَيُرْوَى وَيُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْحَانِ وَيَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْأَذَى وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَيْسَ لِلْكَلَامِ الْمَنْثُورِ، وَلِذَلِكَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ حَسَّانَ أَنْ يَهْجُوَهُمْ وَيَقُولَ: " إِنَّهُ أَنْكَى فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ» ". فَيُؤَثِّرُ هِجَاؤُهُ فِيهِمْ أَثَرًا عَظِيمًا يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْهَا لَوْ سُبُّوا بِكَلَامٍ مَنْثُورٍ أَضْعَافَ الشِّعْرِ.

(3/1441)


وَأَيْضًا فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمُتَقَدِّمَةَ تَكَرَّرَ مِنْهُمَا سَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَاهُ، وَالشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ صَارَ لَهُ حَالٌ أُخْرَى لَيْسَتْ لَهُ إِذَا انْفَرَدَ، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُجِيزُونَ قَتْلَ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا قَتْلَ مَنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ، فَإِذَنْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ يُمَكِّنُ الْمُخَالِفَ أَنْ يَقُولَ بِهِ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ السَّبَّ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ يَقْتَضِي إِهْدَارَ دَمِهِ وَانْتِقَاضَ عَهْدِهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِي النَّاقِضِ لِلْعَهْدِ: هَلْ هُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ السَّبِّ - وَهُوَ مَا كَثُرَ وَغَلُظَ - أَوْ هُوَ مُطْلَقُ السَّبِّ؟ هَذَا نَظَرٌ آخَرُ، فَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا السَّبِّ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُهْدِرٌ لِدَمِ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يَسُوغَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ نَصَّ السُّنَّةِ، فَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ شَيْئًا مِنْ سَبِّ الذِّمِّيِّ وَأَذَاهُ لَا يُبِيحُ دَمَهُ كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ خِلَافًا لَا عُذْرَ فِيهِ لِأَحَدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رَيْبَ أَنَّ الْجِنْسَ الْمُوجِبَ لِلْعُقُوبَةِ قَدْ يَتَغَلَّظُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً وَقَدْرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ قَتْلِ وَالِدٍ وَعَالِمٍ وَصَالِحٍ، وَلَا ظُلْمُ بَعْضِ النَّاسِ مِثْلَ ظُلْمِ يَتِيمٍ فَقِيرٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ صَالِحَيْنِ، وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحْوَالِ الْمُشَرَّفَةِ كَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ كَالْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

(3/1442)


وَكَذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَغْلِيظِ الدِّيَةِ إِذَا تَغَلَّظَ الْقَتْلُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ - قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ". قِيلَ لَهُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ". قِيلَ لَهُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ". وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَسَفَكَ دَمَ خَلْقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثُرَ مِنْهُ أَخْذُ الْأَمْوَالِ كَانَ جُرْمُهُ أَعْظَمَ مِنْ جُرْمِ مَنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَظَّمَ الْقَصَائِدَ فِي سَبِّهِ فَإِنَّ جُرْمَهُ أَعْظَمُ مِنْ جُرْمِ مَنْ سَبَّهُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الْمَنْثُورَةِ، بِحَيْثُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَالِانْتِصَارُ مِنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ، وَلَوْ كَانَ الْمُقِلُّ أَهْلًا أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَهْلًا لِذَلِكَ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْأَذَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُطْلَقُ السَّبِّ الظَّاهِرِ مُهْدِرٌ لِدَمِ الذِّمِّيِّ نَاقِضٌ لِعَهْدِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَذَلِكَ اسْمٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِنَوْعٍ وَلَا قَدْرٍ

(3/1443)


وَلَا تَكْرَارٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلِيلَ السَّبِّ وَكَثِيرَهُ وَمَنْظُومَهُ وَمَنْثُورَهُ أَذًى لِلَّهِ بِلَا رَيْبٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّكْرَارَ وَالْمُبَالَغَةَ لَأَتَى بِالِاسْمِ الْمُفْهِمِ لِذَلِكَ فَقَالَ: " فَإِنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ " وَقَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَهُوَ الْمَعْصُومُ فِي غَضَبِهِ وَرِضَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «إِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ» ". وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ بَلْ عَلَّقَهُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كَعْبًا آذَاهُ بِكَلَامِهِ الْمَنْظُومِ، وَالْيَهُودِيَّةَ بِكَلَامِهَا الْمَنْثُورِ، وَكِلَاهُمَا أَهْدَرَ دَمَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّظْمَ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ إِذَا ثَبَتَ بِدُونِ الْوَصْفِ كَانَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْجِنْسَ الْمُبِيحَ لِلدَّمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَغَلِيظِهِ وَخَفِيفِهِ فِي كَوْنِهِ مُبِيحًا، سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا كَالرِّدَّةِ أَوْ فِعْلًا كَالزِّنَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا قِيَاسُ الْأُصُولِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا يُبِيحُ الدَّمَ إِذَا كَثُرَ وَلَا يُبِيحُهُ مَعَ الْقِلَّةِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ.

(3/1444)


وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُنَازِعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ وَالْفَاحِشَةُ فِي الدُّبُرِ دُونَ مَنْ قَلَّ مِنْهُ ذَلِكَ، فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَالْبَابُ وَاحِدٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ يَهُودِيٍّ رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ» لَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ.
وَصَحَّ عَنْهُ فِي اللُّوطِيِّ: " «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ". وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ

(3/1445)


بِتَكْرَارٍ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَجْمَعُوا قَتْلَهُ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا تَكْرَارًا، وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ الْمَنْصُوصَةُ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهَا قَدْ سَوَّتْ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ بَيْنَ قَلِيلِ الْمُوجِبِ وَكَثِيرِهِ كَانَ الْفَرْقُ تَحَكُّمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ يُوَضِّحُهُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْكَثِيرُ، فَكَذَلِكَ مَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ أَوْ أَنَّ الْمُبِيحَ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَا حَدُّ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ؟ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقِيَاسَ فِي

(3/1446)


الْمُقَدَّرَاتِ، وَالْكُلُّ مُنْتَفٍ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُبِيحُ الدَّمَ مِنْهُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ وَلَا يُبِيحُهُ أَقَلُّ مِنْهُ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْقَتْلِ بِالزِّنَى، وَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَلَا بِالْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَوَدَ بِهَا، وَلَا رَجْمَ الْمُلَاعَنَةِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ شَهَادَةِ الزَّوْجِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تُرْجَمُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَنُكُولِهَا، فَإِنَّ الْمُبِيحَ لِلدَّمِ لَيْسَ هُوَ الْإِقْرَارَ وَلَا الْأَيْمَانَ، وَإِنَّمَا الْمُبِيحُ فِعْلُ الزِّنَى وَفِعْلُ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ وَالْأَيْمَانُ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ.
وَنَحْنُ لَمْ نُنَازِعْ فِي أَنَّ الْحُجَجَ الشَّرْعِيَّةَ لَهَا نُصُبٌ مَحْدُودَةٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ لَا نِصَابَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِجِنْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْقَتْلَ عِنْدَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدًّا يَجِبُ فِعْلُهُ أَوْ تَعْزِيرًا يَرْجِعُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ مُوجِبِهِ، وَلَا حَدَّ لَهُ إِلَّا تَعْلِيقَهُ بِالْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ تَحَكُّمٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَعْزِيرٌ بِالْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ، وَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» " تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

(3/1447)


[فَصْلٌ رَدُّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَى شُبْهَةٍ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ]
278 - فَصْلٌ
[رَدُّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَى شُبْهَةٍ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ]
قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ عَرَضَ لِبَعْضِ السُّفَهَاءِ شُبْهَةٌ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ فَظَنَّ أَنَّ دَمَ مِثْلَ هَذَا مَعْصُومٌ بِذِمَّةٍ أَوْ بِظَاهِرِ الْأَمَانِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ حِينَ ظَنَّ أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَنْتَقِضُ بِذَاكَ.
فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ أَخِي سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ قَالَ: ذُكِرَ قَتْلُ ابْنِ الْأَشْرَفِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ: كَانَ قَتْلُهُ غَدْرًا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا مُعَاوِيَةُ أَيُغَدَّرُ عِنْدَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُنْكِرُ؟ وَاللَّهِ لَا يُظِلُّنِي وَإِيَّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ أَبَدًا، وَلَا يَخْلُو لِي دَمُ هَذَا إِلَّا قَتَلْتُهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ

(3/1448)


الْحَكَمِ - وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ ابْنُ يَامِينَ النَّضْرِيُّ -: كَيْفَ كَانَ قَتْلُ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ: كَانَ غَدْرًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَالِسٌ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ يَا مَرْوَانُ: أَيُغَدَّرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَكَ؟ وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ إِلَّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَا يُؤْوِينِي وَإِيَّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا ابْنَ يَامِينَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ أَفْلَتَّ، وَقَدَرْتُ عَلَيْكَ وَفِي يَدِي سَيْفٌ إِلَّا ضَرَبْتُ بِهِ رَأْسَكَ، فَكَانَ ابْنُ يَامِينَ لَا يَنْزِلُ [فِي] بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا يَنْظُرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ضِيَاعِهِ نَزَلَ فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَبَيْنَمَا مُحَمَّدٌ فِي جِنَازَةٍ وَابْنُ يَامِينَ بِالْبَقِيعِ فَرَأَى مُحَمَّدًا [نَعْشًا] عَلَيْهِ جَرَائِدُ [رَطْبَةٌ لِامْرَأَةٍ جَاءَ فَحَلَّهُ] فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا تَصْنَعُ؟ نَحْنُ نَكْفِيكَ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا جَرِيدَةً جَرِيدَةً حَتَّى كَسَّرَ ذَلِكَ الْجَرِيدَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ بِهِ مَصَحًّا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَلَا طَبَاخَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قَدَرْتُ عَلَى السَّيْفِ لَضَرَبْتُكَ بِهِ.
قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَصَلَ لِبَعْضِ الْجُهَّالِ بِالسُّنَّةِ مِنْ بِنَائِهِ بِصَفِيَّةَ عَقِيبَ سِبَائِهِ لَهَا، فَقَالَ: بَنَى بِهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ وَكُفْرِهِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ: " «فَلَمَّا

(3/1449)


انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَنَى بِهَا» ".
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هُوَ وَبَنُو النَّضِيرِ قَبِيلَتُهُ مُوَادِعِينَ فَمَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي مَوْلًى لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهَا مُحَيِّصَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: " مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ " فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ - رَجُلٌ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ - فَقَتَلَهُ، وَكَانَ حُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ مُحَيِّصَةَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيِّصَةُ يَضْرِبُهُ، وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْتَهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ، فَقَالَ حُوَيِّصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ مِنْكَ هَذَا لَعَجَبٌ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيِّصَةَ» .

(3/1450)


وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَقَدِّمَةِ: قَالُوا: «فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْأَشْرَفِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ ". فَخَافَتَ يَهُودُ فَلَمْ تُطْلِعْ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يُبَيَّتُوا كَمَا بُيِّتَ ابْنُ الْأَشْرَفِ، وَذَكَرَ قَتْلَ ابْنِ سُنَيْنَةَ إِلَى أَنْ قَالَ: " وَفَزِعَتْ يَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» " وَسَاقَ الْقِصَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُوَادِعِينَ، وَإِلَّا لَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الَّذِي كَتَبَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ كَانَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ.
وَحِينَئِذٍ، فَلَا يَكُونُ ابْنُ الْأَشْرَفِ مُعَاهِدًا.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ ظُفِرَ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ مِنْ سَادَاتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَكُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا، وَكَانُوا مُقِيمِينَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُهُ، وَكَانَ مِمَّا هَيَّجَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَإِظْهَارِ نَقْضِ الْعَهْدِ انْتِصَارُهُمْ لِلْمَقْتُولِ وَذَبُّهُمْ عَنْهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ دَلِيلٌ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ وَانْتِصَارِهِ

(3/1451)


لِلْمَقْتُولِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَّ فَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى عَهْدِهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ الْعَدَاوَةَ وَلِهَذَا لَمْ يُحَاصِرْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُحَارِبْهُمْ حَتَّى أَظْهَرُوا عَدَاوَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا هَذَا الْكِتَابُ فَهُوَ شَيْءٌ ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَحْدَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ أَيْضًا أَنَّ قَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَنَّ غَزْوَةَ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ بَعْدَ بَدْرٍ بِنَحْوِ شَهْرٍ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي وَادَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ كُلَّهَا كَانَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا كِتَابًا ثَانِيًا خَاصًّا لِبَنِي النَّضِيرِ يُجَدِّدُ فِيهِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ غَيْرَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْيَهُودِ لِأَجْلِ مَا كَانُوا قَدْ أَرَادُوا مِنْ إِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ مُعَاهِدًا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ الْكِتَابَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالْقِصَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا جَاءَ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَوْا إِلَيْهِ قَتْلَ صَاحِبِهِمْ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُ لَمْ يَسْتَنْكِرُوا قَتْلَهُ، وَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ قَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ بَعْدَ بَدْرٍ، فَإِنَّ مُعَاهَدَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.

(3/1452)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُ بَنِي قَيْنُقَاعَ، يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَغَزْوَةِ الْفَرْعِ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي جُمَادَى الْأُولَى.
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ بَنِي قَيْنُقَاعَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ حَارَبَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ.
قُلْتُ: الْيَهُودُ الَّذِينَ حَارَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ طَوَائِفَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةُ، وَيَهُودُ خَيْبَرَ. وَكَانَتْ غَزْوَةُ كُلِّ طَائِفَةٍ عَقِيبَ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَبَنُو النَّضِيرِ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَأَهْلُ خَيْبَرَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَانَ الظَّفَرُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ كَالشُّكْرَانِ لِلْغَزَاةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/1453)


[فَصْلٌ سَبُّ النَّبِيِّ أَوِ الْأَصْحَابِ]
279 - فَصْلٌ
[سَبُّ النَّبِيِّ أَوِ الْأَصْحَابِ]
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابَهُ جُلِدَ» ".

(3/1454)


رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ وَأَبُو الْقَاسِمِ [الْأَزَجِيُّ] .
وَرَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، وَلَفْظُهُ: " «مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَاقْتُلُوهُ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاجْلِدُوهُ» ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

(3/1455)


مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ [الْحُسَيْنِ] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ. وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ.

(3/1456)


فَإِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ قَدْ رُكِّبَ عَلَيْهِ مُتُونٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُحَدِّثُ بِهِ [عَنْ] أَهْلِ الْبَيْتِ ضَعِيفٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ، وَأَنَّ الْقَتْلَ حَدٌّ لَهُ.
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ، وَيَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّانِي (فَصْلٌ: الدَّلِيلُ الْخَامِسُ)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ كِتَابَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الثَّانِي مِنْ شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَمَانِمِائَةٍ.
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَهَا، وَأَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ.
آمِينَ آمِينَ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

(3/1457)