سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي كتاب القضاء
كتاب القضاء
...
كتاب القضاء
القضاء بالمد الولاية المعروفة وهو في اللغة
مشترك بين أحكام الشيء والفراغ منه ومنه
فقضاهن سبع سماوات وبمعنى إمضاء الأمر ومنه
وقضينا الى بني إسرائيل وبمعنى الحتم والإلزام
ومنه وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وفي الشرع
إلزام ذي الولاية بعد الترافع وقيل هو الإكراه
بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة
والمراد بالجهة كالحكم لبيت المال أو عليه
1- عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: "القضاة ثلاثة اثنان
في النار وواحد في الجنة" وكأنه قيل من هم
فقال "رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل
عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في
النار ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل
فهو في النار" رواه الأربعة وصححه الحاكم وقال
في علوم الحديث تفرد به الخراسانيون وروته
مراوزة قال المصنف له طرق غير هذه جمعتها في
جزء مفرد والحديث دليل على أنه لا ينجو من
النار من القضاة إلا من عرف الحق وعمل به
والعمدة العمل فإن من عرف الحق ولم يعمل به
فهو ومن حكم بجهل سواء في النار وظاهره أن من
حكم بجهل وإن وافق حكمه الحق فإنه في النار
لأنه أطلقه وقال فقضى للناس على جهل فإنه يصدق
على من وافق الحق وهو جاهل في قضائه أنه قضى
على جهل وفيه التحذير من الحكم بجهل أو بخلاف
الحق مع معرفته به والذي في الحديث أن الناجي
من قضى بالحق عالما
(4/115)
به والإثنان
الآخران في النار وفيه أنه يتضمن النهي عن
تولية الجاهل القضاء قال في مختصر شرح السنة
إنه لا يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء ولا
يجوز للإمام توليته قال والمجتهد من جمع خمسة
علوم علم كتاب الله وعلم سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأقاويل علماء السلف من
إجماعهم واختلافهم وعلم اللغة وعلم القياس وهو
طريق استنباط الحكم من الكتاب والسنة إذا لم
يجده صريحا في نص كتاب أو سنة أو إجماع فيجب
أن يعلم من علم الكتاب محمود والمنسوخ والمجمل
والمفسر والخاص والعام والمحكم والمتشابه
والكراهة والتحريم والإباحة والندب ويعرف من
السنة هذه الأشياء ويعرف منها الصحيح والضعيف
والمسند والمرسل ويعرف ترتيب السنة على الكتاب
وبالعكس حتى إذا وجد حديثا لا يوافق ظاهره
الكتاب اهتدى إلى وجه محمله فإن السنة بيان
للكتاب فلا تخالفه وإنما تجب معرفة ما ورد
منها من أحكام الشرع دون ما عداها من القصص
والأخبار والمواعظ وكذا يجب أن يعرف من علم
اللغة ما أتى في الكتاب والسنة من أمور
الأحكام دون الإحاطة بجميع لغات العرب ويعرف
أقاويل الصحابة والتابعين في الأحكام ومعظم
فتاوى فقهاء الأمة حتى لا يقع حكمه مخالفا
لأقوالهم فيأمن فيه خرق الإجماع فإذا عرف كل
نوع من هذه الأنواع فهو مجتهد وإذا لم يعرفها
فسبيله التقليد ا ه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي القضاء فقد
ذبح بغير سكين" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن
خزيمة وابن حبان دل الحديث على التحذير من
ولاية القضاء والدخول فيه كأنه يقول من تولى
القضاء فقد تعرض لذبح نفسه فليحذره وليتوقه
فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به أو جهله له
فهو في النار والمراد من ذبح نفسه إهلاكها أي
فقد أهلكها بتوليه القضاء وإنما قال بغير سكين
للإعلام بأنه لم يرد بالذبح فري الأوداج الذي
يكون في الغالب بالسكين بل أريد به إهلاك
النفس بالعذاب الأخروي وقيل ذبح ذبحا معنويا
وهو لازم له لأنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه
في الدنيا لإرادته الوقوف على الحق وطلبه
واستقصاء ما يجب عليه رعايته في النظر في
الحكم والموقف مع الخصمين والتسوية بينهما في
العدل والقسط وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب
الآخرة فلا بد له من التعب والنصب ولبعضهم
كلام في الحديث لا يوافق المتبادر منه
3- وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستحرصون
على الإمارة" عام لكل إمارة من الإمامة العظمى
إلى أدنى إمارة ولو على واحد "وستكون ندامة
يوم القيامة فنعم المرضعة" أي في الدنيا
"وبئست الفاطمة" أي بعد الخروج منها رواه
البخاري
قال الطيبي: تأنيث الإمارة
(4/116)
غيرحقيقي فترك
تأنيث نعم وألحقه ببئس نظرا إلى كون الإمارة
حينئذ داهية دهياء وقال غيره أنث في لفظ وتركه
في لفظ للافتتان وإلا فالفاعل واحد وأخرج
الطبراني والبزار بسند صحيح من حديث عوف بن
مالك بلفظ أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها
عذاب يوم القيامة إلا من عدل وأخرج الطبراني
من حديث زيد بن ثابت يرفعه نعم الشيء الإمارة
لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن
أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة
وهذا يقيد ما أطلق فيما قبله وقد أخرج مسلم من
حديث أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا
تستعملني؟ قال: "إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها
يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها
وأدى الذي عليه فيها"
قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية
لا سيما لمن كان فيه ضعف وهو في حق من دخل
فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما
فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من
كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت
به الأخبار ولكن في الدخول فيها خطر عظيم
ولذلك امتنع الأكابر منها فامتنع الشافعي لما
استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب وامتنع
منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه
وضربه والذين امتنعوا من الأكابر جماعة كثيرون
وقد عد في النجم الوهاج جماعة
(تنبيه) في قوله ستحرصون دلالة على محبة
النفوس للإمارة لما فيها من نيل حظوظ الدنيا
ولذاتها ونفوذ الكلمة ولذا ورد النهي عن طلبها
كما أخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال
لعبد الرحمن: "لا تسأل الإمارة فإنك إن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن
غير مسألة أعنت عليها" وأخرج أبو داود
والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم "من طلب
القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه ومن لم
يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدده"
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "
و الله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سأله ولا
أحدا حرص عليه" حرص بفتح الراء قال الله
تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ
حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ويتعين على الإمام أن
يبحث عن أرضي الناس وأفضلهم فيوليه لما أخرجه
الحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال من استعمل رجلا على عصابة وفي تلك العصابة
من هو أرضي لله تعالى منه فقد خان الله ورسوله
وجماعة المسلمين وإنما نهى عن طلب الإمارة لأن
الولاية تفيد قوة بعد ضعف وقدرة بعد عجز
تتخذها النفس المجبولة على الشر وسيلة إلى
الانتقام من العدو والنظر للصديق وتتبع
الأغراض الفاسدة ولا يوثق بحسن عاقبتها ولا
بالإجماع مجاورتها فالأولى أن لا تطلب ما أمكن
وإن كان قد أخرج أبو داود بإسناد حسن عنه صلى
الله عليه وسلم من طلب قضاء المسلمين حتى
يناله فغلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره
عدله فله النار
4-وعن عمرو ابن العاص أنه سمع رسول لله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم" أي إذا
أراد الحكم لقوله "فاجتهد" فإن الاجتهاد قبل
الحكم "ثم أصاب فله أجران فإذا حكم واجتهد ثم
أخطأ" أي لم يوافق ما هو عند الله تعالى من
الحكم
(4/117)
"فله أجر" متفق
عليه الحديث من أدلة القول بأن الحكم عند الله
في كل قضية واحد معين قد يصيبه من أعمل فكره
وتتبع الأدلة ووفقه الله فيكون له أجران أجر
الاجتهاد وأجر الإصابة والذي له أجر واحد هو
من اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد واستدلوا
بالحديث على أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدا
قال الشارح وغيره وهو المتمكن من أخذ الأحكام
من الأدلة الشرعية قال ولكنه يعز وجوده بل كاد
يعدم بالكلية ومع تعذره فمن شرطه أن يكون
مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه ومن شرطه أن يتحقق
أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم
يجده منصوصا من مذهب إمامه اه قلت ولا يخفى ما
في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه
الأعيان وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في
رسالتنا المسماة بإرشاد النقاد إلى تيسير
الاجتهاد بما لا يمكن دفعه وما أرى هذه الدعوى
التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران نعمة
الله عليهم فإنهم أعني المدعين لهذه الدعوى
والمقررين لها مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة
ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه
عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله عليه
سلم على مكة ولا أبو موسى الأشعري قاضي رسول
الله صلى الله عليه وسلم في اليمن ولا معاذ بن
جبل قاضيه فيها وعامله عليها ولا شريح قاضي
عمر وعلي رضي الله عنهم على الكوفة ويدل لذلك
قول الشارح فمن شرطه أي المقلد أن يكون مجتهدا
في مذهب إمامه وأن يتحقق أصوله وأدلته أي ومن
شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه
عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه فإن
هذا هو الاجتهاد الذي حكم بكيدودة عدمه
بالكلية وسماه متعذرا فهلا جعل هذا المقلد
إمامه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
سلم عوضا عن إمامه وتتبع نصوص الكتاب والسنة
عوضا عن تتبع نصوص إمامه والعبارات كلها ألفاظ
دالة على معان فهلا استبدل بألفاظ إمامه
ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام
عليها إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها
على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا تالله لقد
استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة
الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب
وتفهم مرامهم والتفتيش عن كلامهم ومن المعلوم
يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى
الله عليه سلم أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى
إصابة المرام فإنه أبلغ الكلام بالإجماع
وأعذبه في الأفواه والأسماع وأقربه إلى الفهم
والانتفاع ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع ومن
لاحظ له في النفع والانتفاع والأفهام التي فهم
بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي
كأفهامنا وأحلامهم كأحلامنا إذ لو كانت
الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات
الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا
مأمورين ولا منهيين لا اجتهادا ولا تقليدا أما
الأول فلاستحالته وأما الثاني فلأنا لا نقلد
حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد ولا نعلم ذلك
إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على
جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز
التقليد فهذا الفهم الذي فهمنا به
(4/118)
هذا الدليل
نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل على أنه
قد شهد المصطفى صلى الله عليه سلم بأنه يأتي
من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه
حيث قال "فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ
"أوعى له من سامع" والكلام قد وفينا حقه في
الرسالة المذكورة ومن أحسن من ما يغرفه القضاة
كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى
الذي رواه أحمد والدارقطني والبيهقي قال الشيخ
أبو إسحاق هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة
وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس
ولفظه أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة
متبعة فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر فافهم
إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض
إذا قضيت فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له آس
بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع
شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة
على المدعي واليمين على من أنكر والصلح جائز
بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا
ينتهي إليه فإن جاء ببينة أعطيته حقه وإلا
استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر
وأجلى للعمى ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم
فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى
الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من
التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يختلج في
صدرك مما ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه سلم ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس
الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله
تعالى وأشببها بالحق المسلمون عدول بعضهم على
بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور
أو ظنينا في ولاء أو نسب أو قرابة فإن الله
تعالى تولى منكم السرائر وادرأ بالبينات
والأيمان وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي
بالناس عند الخصومة والتنكر عند الخصومات فإن
القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به
الأجر ويحسن به الذكر فمن خلصت نيته في الحق
ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين
الناس ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه
الله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل من العباد
إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب من الله في
عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام ا ه ولأمير
المؤمنين علي عليه السلام في عهد عهده إلى
الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب
ومواعظ وحكم وهو معروف في النهج لم أنقله
لشهرته وقد أخذ من كلام عمر رضي الله عنه أنه
ينقض القاضي حكمه إذا أخطأ ويدل له ما أخرجه
الشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان
معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما
فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت
الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود عليه
السلام فقضى به للكبرى فخرجتا إلى سليمان
فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما
نصفين فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو
ابنها فقضى به للصغرى" وللعلماء قولان في
المسألة: قول إنه ينقضه إذا أخطأ والآخر لا
ينقضه لحديث "وإن أخطأ فله أجر"
قلت: ولا يخفى أنه لا دليل فيه لأن المراد
(4/119)
أخطأ ما عند
الله وما هو في نفس الأمر من الحق وهذا الخطأ
لا يعلم إلا يوم القيامة أو بوحي من الله
تعالى والكلام في الخطأ الذي يظهر له في
الدنيا من عدم استكمال شرائط الحكم أو نحوه
5- وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد
بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه النهي ظاهر في
التحريم وحمله الجمهور على الكراهة وترجم
النووي في شرح مسلم له بباب كراهة قضاء القاضي
وهو غضبان وترجم البخاري بباب هل يقضي القاضي
أو يفتي المفتي وهو غضبان وصرح النووي
بالكراهة في ذلك وإنما حملوه على الكراهة نظرا
إلى العلة المستنبطة لذلك وهي أنه لما رتب
النهي على الغضب والغضب بنفسه لا مناسبة فيه
لمنع الحكم وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله وهو
تشويش الفكر ومشغلة القلب عن استيفاء ما يجب
من النظر وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن
الصواب ولكنه غير مطرد مع كل غضب ومع كل إنسان
فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل
فلا كلام في تحريمه وإن لم يفض إلى هذا الحد
فأقل أحواله الكراهة وظاهر الحديث أنه لا فرق
بين مراتب الغضب ولا بين أسبابه وخصه البغوي
وإمام الحرمين بما إذا كان الغضب لغير الله
وعلل بأن الغضب لله يؤمن معه من التعدي بخلاف
الغضب للنفس واستبعده جماعة لمخالفته لظاهر
الحديث والمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم معه
ثم لا يخفى أن الظاهر في النهي التحريم وأن
جعل العلة المستنبطة صارفة إلى الكراهة بعيد
وأما حكمه صلى الله عليه وسلم مع غضبه في قصة
الزبير فلما علم من أن عصمته مانعة عن إخراج
الغضب له عن الحق عند الظاهر أيضا عدم نفوذ
الحكم مع الغضب إذ النهي يقتضي الفساد
والتفرقة بين النهي للذات والنهي للوصف كما
يقوله الجمهور غير واضح كما قرر في غير هذا
المحل وقد ألحق بالغضب الجوع والعطش المفرطان
لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند تفرد به
القاسم العمري وهو ضعيف عن أبي سعيد الخدري أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقضي القاضي
إلا وهو شبعان ريان وكذلك ألحق به كل ما يشغل
القلب ويشوش الفكر من غلبة النعاس أو الهم أو
المرض أو نحوها
6- وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تقاضى إليك
رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف
تدري كيف تقضي" قال علي رضي الله عنه فما زلت
قاضيا بعد" رواه أحمد وأبو داود والترمذي
وحسنه ابن المديني وصححه ابن حبان الحديث
أخرجوه من طرق أحسنها رواية البزار عن عمرو بن
مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي رضي الله عنه
وفي إسناده عمرو بن أبي المقدام واختلف فيه
على عمرو بن مرة فرواه شعبة عنه عن أبي
البختري قال حدثني من سمع عليا رضي الله عنه
أخرجه أبو يعلى وإسناده صحيح لولا هذا المبهم
وله طرق أخر تشهد له ويشهد له الحديث الآتي
وهو قوله
(4/120)
7- وله شاهد
عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
والحديث دليل على أنه يجب على الحاكم أن يسمع
دعوى المدعي أولا ثم يسمع جواب المجيب ولا
يجوز له أن يبني الحكم على سماع دعوى المدعي
قبل جواب المجيب فإن حكم قبل سماع الإجابة
عمدا بطل قضاؤه وكان قدحا في عدالته وإن كان
خطأ لم يكن قادحا وأعاد الحكم على وجه الصحة
وهذا حيث أجاب الخصم فإن سكت عن الإجابة أو
قال لا أقر ولا أنكر ففي البحر عن الإمام يحيى
ومالك يحكم عليه لتصريحه بالتمرد وإن شاء حبسه
حتى يقر أو ينكر وقيل بل يلزمه الحق بسكوته إذ
الإجابة تجب فورا فإذا سكت كان كنكوله وأجيب
بأن النكول الامتناع من اليمين وهذا ليس منه
وقيل يحبس حتى يقر أو ينكر وأجيب بأن التمرد
كاف في جواز الحكم إذ الحكم شرع لفصل الشجار
ودفع الضرار وهذا حاصل ما في البحر قيل
والأولى أن يقال ذلك حكمه حكم الغائب فمن أجاز
الحكم على الغائب أجاز الحكم على الممتنع عن
الإجابة باشتراكهما في عدم الإجابة وفي الحكم
على الغائب قولان الأول أنه لا يحكم على
الغائب لأنه لو كان الحكم عليه جائزا لم يكن
الحضور عليه واجبا ولهذا الحديث فإنه دل على
أنه لا يحكم حتى يسمع كلام المدعى عليه
والغائب لا يسمع له جواب وهذا الذي ذهب إليه
زيد بن علي وأبو حنيفة والثاني يحكم عليه لما
تقدم من حديث هند وتقدم الكلام فيه مستوفى
وهذا مذهب الهادوية ومالك والشافعي وحملوا
حديث علي هذا على الحاضر وقالوا الغائب لا
يفوت عليه حق فإنه إذا حضر كانت حجته قائمة
وتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم
لأنه في حكم المشروط
8- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي
فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي
له على نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق
أخيه شيئا" زاد في رواية "فلا يأخذه" رواه ابن
كثير في الإرشاد "فإنما أقطع له قطعة من
النار" متفق عليه اللحن هو الميل عن جهة
الاستقامة والمراد أن بعض الخصماء يكون أعرف
بالحجة وأفطن لها من غيره وقوله على نحو ما
أسمع من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين
وقد تكون باطل في نفس الأمر فيقطع من مال أخيه
قطعة من نار باعتبار ما يؤول إليه من باب:
{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَاراً} والحديث دليل على أن حكم الحاكم لا
يحل به للمحكوم له ما حكم له به على غيره إذا
كان ما ادعاه باطلا في نفس الأمر وما أقامه من
الشهادة كاذبا وأما الحاكم فيجوز له الحكم بما
له والإلزام به وتخليص المحكوم عليه مما حكم
به لو امتنع وينفذ حكمه ظاهرا ولكنه لا يحل به
الحرام إذا كان المدعي مبطلا وشهادته كاذبة
وإلى هذا ذهب الجمهور وخالف أبو حنيفة فقال
إنه ينفذ ظاهرا وباطنا وأنه لو حكم الحاكم
بشهادة زور أن هذه المرأة زوجة فلان حلت له
واستدل بآثار لا يقوم بها دليل وبقياس لا يقوى
على مقاومة النص وفي الحديث دليل أنه صلى الله
عليه وسلم يقر على الخطأ وقد
(4/121)
نقل الاتفاق عن
الأصوليين أنه لا يقر فيما حكم فيه باجتهاده
بناء على جواز الخطأ في الأحكام وجمع بين
اتفاقهم وما أفاده الحديث بأن مرادهم أنه لا
يقر فيما حكم فيه باجتهاده بناء على جواز
الخطأ عليه فيه وذلك كقصة أسارى بدر والإذن
للمتخلفين وأما الحكم الصادر عن الطريق التي
فرضت كالحكم بالبينة أو يمين المحكوم عليه
فإنه إذا كان مخالفا للباطن لا يسمى الحكم به
خطأ بل هو صحيح لأنه على وفق ما وقع به
التكليف من وجوب العمل بالشاهدين وإن كانا
شاهدي زور فالتقصير منهما أما الحاكم فلا حيلة
له في ذلك ولا عتب عليه بسببه بخلاف ما إذا
أخطأ في الاجتهاد الذي وقع الحكم على وفقه مثل
أن يحكم بأن الشفعة مثلا للجار وكان الحكم في
ذلك في علم الله أنها لا تثبت إلا للخليط فإنه
إذ كان مخالفا للحق الذي في علم الله فيثبت
فيه الخطأ للمجتهد على من يقول الحق مع واحد
وهذا هو الذي تقدم أنه إذا أخطأ كان له أجر
واستدل بالحديث على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه
لأنه صلى الله عليه وسلم كان يمكنه اطلاعه على
أعيان القضايا مفصلا كذا قاله ابن كثير في
الإرشاد قلت وفيه تأمل لأنه صلى الله عليه
وسلم إنما أخبر أنه يحكم على نحو ما يسمع ولم
ينف أنه يحكم بما علم والتعليل بقوله فإنما
أقطع له قطعة من النار دال على أن ذلك في حكمه
بما يسمع فإذا حكم بما علمه فلا تجري فيه
العلة
9- وعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "كيف تقدس أمة" أي
تطهر "لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم" رواه ابن
حبان وأخرج حديث جابر أيضا ابن خزيمة وابن
ماجه وقد شهد له الحديث
10- وله شاهد من حديث بريدة عند البزار وفي
الباب عن قابوس بن المخارق عن أبيه رواه
الطبراني وابن قانع وفيه عن خولة غير منسوبة
فقيل إنها امرأة حمزة رواه الطبراني وأبو نعيم
وشواهد حديث هذا الباب كثيرة منها ما ذكر
ومنها الحديث وهو قوله
11- وآخر من حديث أبي سعيد عن ابن ماجه وهو
قوله وآخر أي وله شاهد من حديث أبي سعيد عند
ابن ماجه والمراد أنها لا تطهر أمة من الذنوب
لا ينتصف لضعيفها من قويها فيما يلزم من الحق
له فإنه يجب نصر الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي
كما يؤيده حديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"
12- وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدعى بالقاضي
العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما
يتمنى أنه لم يقض بين اثنين" في عمره رواه ابن
حبان وأخرجه البيهقي ولفظه في تمرة
(4/122)
في الحديث دليل
على شدة نجاسة القضاة يوم القيامة وذلك لما
يتعاطونه من الخطر فينبغي له أن يتحرى الحق
ويبلغ فيه جهده ويحذر من خلطاء السوء من
الوكلاء والأعوان فقد أخرج البخاري وغيره من
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا "ما استخلف الله
من خليفة إلا له بطانتان بطانة تأمره بالخير
وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه
والمعصوم من عصمه الله تعالى" وأخرجه النسائي
من حديث أبي هرير مرفوعا بلفظ " ما من وال إلا
له بطانتان" الحديث ويحذر الغرماء والوكلاء
ويروي لهم حديث من خاصم في باطل وهو يعلمه لم
يزل في سخط الله حتى ينزع وفي لفظ " من أعان
على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله" رواهما
أبو داود من حديث ابن عمر ولما عرفته من تجنب
أكابر العلماء ولاية القضاء كما قدمناه وإذا
كان هذا في القاضي العدل فكيف بقضاة الجور
والجهالة في ترجمة عبد الله بن وهب في الغربال
أنه كتب إليه الخليفة بقضاء مصر فاختفى في
بيته فاطلع عليه بعضهم يوما فقال يابن وهب ألا
تخرج فتحكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال أما علمت أن
العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع
السلاطين
13- وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم
امرأة" رواه البخاري فيه دليل على عدم جواز
تولية المرأة شيئا من الأحكام العامة بين
المسلمين وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها
راعية في بيت زوجها وذهب الحنفية إلى جواز
توليتها الأحكام إلا الحدود وذهب ابن جرير إلى
جواز توليتها مطلقا والحديث إخبار عن عدم فلاح
من ولي أمرهم امرأة وهم منهيون عن جلب عدم
الفلاح لأنفسهم مأمورون باكتساب ما يكون سببا
للفلاح
14- وعن أبي مريم الأزدي وهو صحابي اسمه عمرو
بن مرة الجهني روى عنه ابن عمه أبو الشماخ
وأبو المعطل وغيرهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "من ولاه الله شيئا من أمور
المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وفقيرهم احتجب
الله دون حاجته" أخرجه أبو داود والترمذي
ولفظه عند الترمذي ما من إمام يغلق بابه دون
ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله
أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته وأخرجه
الحاكم عن أبي مخيمرة عن أبي مريم وله قصة مع
معاوية وذلك أنه قال لمعاوية سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولاه الله.."
الحديث فجعل معاوية رجلا على حوائج المسلمين
ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ "من ولي من أمور
المسلمين شيئا فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة
احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة" ورواه
الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بلفظ "
أيما أمير احتجب عن الناس فأهملهم احتجب الله
تعالى عنه يوم القيامة" وقال ابن أبي حاتم عن
أبيه في هذا الحديث منكر وأخرج الطبراني
(4/123)
برجال ثقات إلا
شيخه فإنه قال المنذري لم يقف فيه على جرح ولا
تعديل من حديث أبي جحيفة أنه قال لمعاوية سمعت
من رسول الله صلى الله عليه سلم حديثا أحببت
أن أضعه عندك مخافة أن لا تلقاني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس
من ولي منكم عملا فحجب بابه عن ذي حاجة
للمسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة ومن كانت
همته الدنيا حرم الله عليه جواري فإني بعثت
بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها" والحديث دليل
على أنه يجب على من ولي أمرا من أمور عباد
الله أن لا يحتجب عنهم أن يسهل الحجاب ليصل
إليه ذو الحاجة من فقير وغيره وقوله احتجب
الله عنه كناية عن منعه له من فضله وعطائه
ورحمته
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي
والمرتشي" في النهاية الراشي من يعطي الذي
يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ في الحكم
رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن
حبان وزاد أحمد والرائش هو الذي يمشي بينهما
وهو السفير بين الدافع والآخذ وإن لم يأخذ على
سفارته أجرا فإن أخذ فهو أبلغ
16- وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند
الأربعة إلا النسائي إلا أنه لم يذكر فيه لفظ
في الحكم وكذا في رواية أبي داود لم يذكرها
إنما زادها في رواية الترمذي والرشوة حرام
بالإجماع سواء كانت للقاضي أو للعامل على
الصدقة أو لغيرهما وقد قال تعالى: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ
أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} وحاصل ما يأخذه القضاة من
الأموال على أربعة أقسام رشوة وهدية وأجرة
ورزق فالأول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم
بغير حق فهي حرام على الآخذ والمعطي وإن كانت
ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم
دون المعطي لأنها لاستيفاء حقه فهي كجعل الآبق
وأجرة الوكالة على الخصومة وقيل تحرم لأنها
توقع الحاكم في الإثم وأما الهدية وهي الثاني
فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم
استدامتها وإن كان لا يهدى إليه إلا بعد
الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد
عنده جازت وكرهت وإن كانت ممن بينه وبين غريمه
خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي
(4/124)
ويأتي فيه ما
سلف في الرشوة على باطل أو حق وأما الأجرة وهي
الثالث فإن كان للحاكم جراية من بيت المال
ورزق حرمت بالاتفاق لأنه إنما أجري له الرزق
لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للأجرة وإن كان
لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الأجرة
على قدر حاكم فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم
عليه لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملا لا
لأجل كونه حاكما فأخذه لما زاد على أجرة مثله
غير حاكم إنما أخذها لا في مقابلة شيء بل في
مقابلة كونه حاكما ولا يستحق لأجل كونه حاكما
شيئا من أموال الناس اتفاقا فأجرة العمل أجرة
مثله فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام ولذا
قيل إن تولية القضاء لمن كان غنيا أولى من
تولية من كان فقيرا وذلك لأنه لفقره يصير
متعرضا لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم
يكن له رزق من بيت المال قال المصنف لم ندرك
في بكذا هذا من يطلب القضاء إلا وهو مصرح بأنه
لم يطلبه إلا لاحتياجه إلى ما يقوم بأوده مع
العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال ا ه
17- وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الخصمين يقعدان بين يدي" الحاكم رواه أبو داود
وصححه الحاكم وأخرجه أحمد والبيهقي كلهم من
رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير
وفيه كلام قال أبو حاتم إنه كثير الغلط
والحديث دليل على شرعية قعود الخصمين بين يدي
الحاكم ويسوي بينهما في المجلس ما لم يكن
أحدهما غير مسلم فإنه يرفع المسلم كما في قصة
علي عليه السلام مع غريمه الذمي عند شريح وهي
ما أخرجه أبو نعيم في الحلية بسنده قال وجد
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه درعا له
عند يهودي التقطها فعرفها فقال درعي سقطت عن
جمل لي أورق فقال اليهودي درعي وفي يدي ثم قال
اليهودي بيني وبينك قاضي المسلمين فأتوا شريحا
فلما رأى عليا قد أقبل تحرف عن موضعه وجلس على
فيه ثم قال علي لو كان خصمي من المسلمين
لساويته في المجلس لكني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجلس"
وساق الحديث قال شريح ما تشاء يا أمير
المؤمنين قال درعي سقط عن جمل لي أورق
فالتقطها هذا اليهودي قال شريح ما تقول يا
يهودي قال درعي وفي يدي قال شريح صدقت والله
يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا يد لك من
شاهدين فدعا قنبرا والحسن بن علي فشهدا إنه
لدرعه فقال شريح أما شهادة مولاك فقد أجزناها
وأما شهادة ابنك فلا نجيزها فقال عليه السلام
ثكلتك أمك أما سمعت عمر بن الخطاب يقول قال
رسول الله صلى الله عليه سلم: "الحسن و الحسين
سيدا شباب أهل الجنة " قال اللهم نعم قال أفلا
تجيز شهادة سيدي شباب أهل الجنة ثم قال
لليهودي خذ الدرع فقال اليهودي أمير المؤمنين
جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي صدقت
والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن
جمل لك التقطتها أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله فوهبها له علي رضي الله عنه
وأجازه بتسعمائة
(4/125)
وقتل معه يوم
صفين ا هـ وقول شريح والله إنها لدرعك كأنه
عرفها ويعلم أنها درعه لكنه لا يرى الحكم
بعلمه كما أنه لا يرى شهادة الولد لأبيه فانظر
ما أبرك العمل بالحق من الحاكم والمحكوم عليه
وما آل إليه من الخير للمدعى عليه
(4/126)
باب الشهادات
الشهادة مصدر شهد جمع لإرادة الأنواع قال
الجوهري الشهادة خبر قاطع والشاهد حامل
الشهادة ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره
وقيل مأخوذة من الإعلام من قوله تعالى شهد
الله أنه لا إله إلا هو أي علم
1- عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو
الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" رواه مسلم
دل على أن خير الشهداء من يأتي بالشهادة لمن
هي له قبل أن يسأله إلا أنه يعارضه الحديث
الثاني وهو حديث عمران وفيه "ثم يكون قوم
يشهدون ولا يستشهدون" في سياق الذم لهم ولما
تعارضا اختلف العلماء في الجمع بينهما على
ثلاثة أوجه الأول أن المراد بحديث زيد إذا كان
عند الشاهد شهادة بحق لا يعلم بها صاحب الحق
فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها فيخلف
ورثة فيأتي إليهم فيخبرهم بأنه عنده لهم شهادة
وهذا أحسن الأجوبة وهو جواب يحيى بن سعيد شيخ
مالك الثاني أن المراد بها شهادة الحسبة وهي
ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا
ويدخل في الحسبة ما يتعلق بحق الله تعالى أو
ما فيه شائبة منه كالصلاة والوقف والوصية
العامة ونحوها وحديث عمران المراد به الشهادة
في حقوق الآدميين المحضة الثالث أن المراد
بقوله "أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها"
المبالغة في الإجابة فيكون لقوة استعداده
كالذي أتى بها قبل أن يسألها كما يقال في حق
الجواد إنه ليعطي قبل الطلب وهذه الأجوبة
مبنية على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها
صاحب الحق ومنهم من أجاز ذلك عملا برواية زيد
وتأويل حديث عمران بأحد تأويلات الأول أنه
محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق
لهم بها علم حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم
الثاني أن المراد إتيانه بالشهادة بلفظ الحلف
نحو أشهد بالله ما كان إلا كذا وهذا جواب
الطحاوي الثالث أن المراد به الشهادة على ما
لا يعلم مما سيكون من الأمور المستقبلة فيشهد
على قوم بأنهم من أهل النار وعلى قوم بأنهم من
أهل الجنة من غير دليل كما يصنع ذلك أهل
الأهواء حكاه الخطابي والأول أحسنها
2- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم قرني
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون قوم
يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون
وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" متفق
عليه القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في
أمر
(4/126)
من الأمور
المقصودة ويقال إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا
في زمان أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو
عمل ويطلق القرن على مدة من الزمان واختلفوا
في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين قال
المصنف: إنه لم ير من صرح بالتسعين ولا بمائة
وعشرين وما عدا ذلك فقد قال به قائل قلت أما
التسعون فنعم وأما المائة والعشرون فصرح به في
القاموس فإنه قال أو مائة أو مائة وعشرون
والأول أصح لقوله صلى الله عليه وسلم لغلام عش
قرنا فعاش مائة سنة انتهى قال صاحب المطالع
القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد وقرنه صلى
الله عليه وسلم المراد به المسلمون في عصره
وقوله ثم الذين يلونهم هم التابعون والذين
يلون التابعين أتباع التابعين وهذا يدل على أن
الصحابة أفضل من التابعين والتابعين أفضل من
تابعيهم وأن التفضيل بالنظر إلى كل فرد فرد
وإليه ذهب الجماهير وذهب ابن عبد البر إلى أن
التفضيل بالنسبة إلى مجموع الصحابة لا إلى
الأفراد فمجموع الصحابة أفضل ممن بعدهم لا كل
فرد منهم إلا أهل بدر وأهل الحديبية فإنهم
أفضل من غيرهم يريد أن أفرادهم أفضل من أفراد
من يأتي بعدهم واستدل على ذلك بما أخرجه
الترمذي من حديث أنس وصححه ابن حبان من حديث
عمار من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي مثل
المطر لا يدري أو له خير أم آخره" وبما أخرجه
أحمد والطبراني والدارمي من حديث أبي جمعة قال
قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا
أسلمنا معك وهاجرنا معك قال قوم يكونون من
بعدكم يؤمنون بي ولم يروني وصححه الحاكم وأخرج
أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة يرفعه "يأتي
أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا
يا رسول الله قال بل منكم" وأخرج أبو الحسن
القطان في مشيخته عن أنس يرفعه يأتي على الناس
زمان الصابر فيه على دينه له أجر خمسين منكم
وجمع الجمهور بين الأحاديث بأن للصحبة فضيلة
ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحبه
صلى الله عليه وسلم فضيلتها وإن قصر عمله
وأجره باعتبار الاجتهاد في العبادة وتكون
خيريتهم على من سيأتي باعتبار كثرة الأجر إلى
ثواب الأعمال وهذا قد يكون في حق بعض الصحابة
وأما مشاهير الصحابة فإنهم حازوا السبق من كل
نوع من أنواع الخير وبهذا يحصل الجمع بين
الأحاديث وأيضا فإن المفاضلة بين إلى الأعمال
المتساوية في النوع وفضيلة الصحبة مختصة
بالصحابة لم يكن لمن عداهم شيء من ذلك النوع
وفي قوله ثم يكون قوم إلى آخره دليل على أنه
لم يكن في القرنين الأولين من بعد الصحابة من
يتصف المذمومة ولكن الظاهر أن المراد بحسب
الأغلب واستدل به على تعديل القرون الثلاثة
ولكنه أيضا باعتبار الأغلب وقوله لا يؤتمنون
أي لا يراهم الناس أمناء ولا يثقون بهم لظهور
خيانتهم وقد ثبت أن الأمانة أول ما يرفع من
الناس ومعنى قوله يظهر فيهم السمن أنهم
يتوسعون في المآكل والمشارب وهي أسباب
(4/127)
السمن وقيل
أراد كثرة المال وقيل المراد أنهم يسمنون أي
يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من
الشرف وفي حديث أخرجه الترمذي بلفظ "ثم يجيء
قوم يتسمنون ويحبون السمن" فجمع بين السمن أي
التكثر بما ليس عندهم وتعاطي أسباب السمن
3- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا
تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر" بفتح
الغين المعجمة وفتح الميم وكسرها بعدها راء
فسره أبو داود بالحنة بالحاء المهملة وهي
الحقد والشحناء على أخيه ولا تجوز شهادة
القانع بالقاف وبعد الألف نون ثم عين مهملة
يأتي بيانه لأهل البيت رواه أحمد وأبو داود
وأخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده بلفظ "رد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم شهادة الخائن والخائنة" وأخرجه ابن ماجه
والبيهقي وإسناده قوي وأخرجه الترمذي
والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة رضي الله
عنها بلفظ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة وذي
غمر لأخيه الحديث وفيه ضعف قال الترمذي لا يصح
عندنا إسناده وقال أبو زرعة في العلل منكر
وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي وقال
البيهقي لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى الله
عليه وسلم وقوله الخائن قال أبو عبيدة لا نراه
خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما افترض
الله على عباده وأتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك
أمانة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} فمن
ضيع شيئا مما أمر الله تعالى به أو نهى عنه
فليس ينبغي أن يكون عدلا فإنه إذا كان خائنا
فليس له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين
التى منها الكذب فلا يحصل الظن بخبره لأنه
مظنه تهمة أو مسلوب الأهلية.وأما ذو الغمر
فلمراد به ما ذكرناه من الحقد
والشحناء.والمراد بأخية المسلم المشهود
عليه،والكافر مثله لا يجوز أن يشهد ذو حقد
عليه إذا كانت العدواة بسبب غير الدين،فإن ذا
الحقد مظنة عدم صدق خبره لمحبته إنزال الضرر
بمن يحقد عليه. وأما المسلم إذا لم يكن ذا حقد
على الكافر بسبب غير الدين فإنها تقبل شهادته
عليه وإن كان بينهما عداوة في الدين، فإن
عداوة الدين لا تقتضي أن يشهد عليه زورا فإن
الدين لا يسوغ ذلك، وإنما خرج الحديث على
الأغلب والقانع هو الخادم لأهل البيت والمنقطع
إليهم للخدمة وقضاء الحوائج، وموالاتهم عند
الحاجة وفي تمام الحديث وأجازها:أي شهادة
القانع لغيرهم: أي لغير من هو تابع لهم، وإنما
منع من شهادته لمن هو قانع لهم لأنه مظنة تهمة
فيحب دفع الضر عنهم وجلب الخير إليهم فمنع من
الشهادة. ومنع هؤلاء من الشهادة دليل على
اعتبار العدالة في الشاهد، وعليه دل قوله
تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
وقد رسموا العدالة بأنها محافظة دينية تحمل
على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة وقد
نازعناهم في هذا الرسم في عدة من المباحث
كرسالة المسائل المهمة فيما تعم به البلوى
حكام الأمة وحققنا الحق في العدالة في رسالة
ثمرات النظر في علم الأثر
(4/128)
وفي منحة
الغفار حاشية ضوء النهار ولله الحمد واخترنا
أن العدل هو من غلب خيره شره ولم يجرب عليه
اعتياد كذب وأقمنا عليه الأدلة هنالك والشارح
هنا مشى مع الجماهير وذكر بعض ما يتعلق بتفسير
مرادهم
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه:قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة
بدوي على صاحب قرية" رواه أبو داود وابن ماجه
البدوي من سكن البادية نسب على غير قياس
النسبة والقياس بادوي والقرية بفتح القاف وقد
تكسر المصر الجامع وفيه دليل على عدم صحة
شهادة البدوي على صاحب القرية لا على بدوي
مثله فتصح وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وجماعة
من أصحابه وقال أحمد أخشى أن لا تقبل شهادة
البدوي على صاحب القرية لهذا الحديث ولأنه
متهم حيث أشهد بدويا ولم يشهد قرويا وإليه ذهب
مالك إلا أنه قال لا تقبل شهادة البدوي لما
فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام
الشرائع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة
على وجهها وذهب الأكثرون إلى قبول شهادتهم
وحملوا الحديث على من لا تعرف عدالته من أهل
البادية إذ الأغلب أن عدالتهم غير معروفة وقد
استدل في البحر لقبول شهادتهم بقبوله صلى الله
عليه وسلم لشهادة الأعرابي على هلال رمضان
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب
فقال إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد
انقطع وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من
أعمالكم رواه البخاري وتمامه فمن أظهر لنا
خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء
الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم
نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة استدل
به على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة نظرا
إلى ظاهر الحال وأنه يكفي في التعديل ما يظهر
من حال المعدل من الاستقامة من غير كشف عن
حقيقة سريرته لأن ذلك متعذر إلا بالوحي وقد
انقطع وكأن المصنف أورده وإن كان كلام صحابي
لا حجة فيه لأنه خطب به عمر وأقره من سمعه
فكان قول جماهير الصحابة ولأن هذا الذي قاله
هو الجاري على قواعد الشريعة وظاهر كلامه أنه
لا يقبل المجهول ويدل له ما رواه ابن كثير في
الإرشاد أنه شهد عند عمر رجل فقال له عمر لست
أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك ائت بمن يعرفك
فقال رجل من القوم أنا أعرفه قال بأي شيء
تعرفه قال بالعدالة والفضل فقال هو جارك
الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه
قال لا قال فعاملك بالدينار والدرهم اللذين
يستدل بهما على الورع قال لا قال فرفيقك في
السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال لا
قال لست تعرفه ثم قال للرجل ائت بمن يعرفك قال
ابن كثير رواه البغوي بإسناد حسن
6- وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم "أنه عد شهادة الزور من أكبر
الكبائر" متفق عليه في حديث ولفظه أنه صلى
الله عليه سلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر
ثلاثا قالوا بلى قال الإشراك بالله وعقوق
الوالدين" وجلس
(4/129)
وكان متكئا ثم
قال: "ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى
قلنا ليته سكت تقدم تفسير شهادة الزور قال
الثعلبي: الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته
حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه بخلاف ما هو به
فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وقد جعل صلى
الله عليه وآله سلم قول الزور عديلا للإشراك
ومساويا له قال النووي وليس على ظاهره
المتبادر وذلك لأن الشرك أكبر بلا شك وكذلك
القتل فلا بد من تأويله وذلك بأن التفضيل لها
بالنظر إلى ما يناظرها في المفسدة وهي التسبب
في أكل المال بالباطل فهي أكبر الكبائر
بالنسبة إلى الكبائر التي يتسبب بها إلى أكل
المال بالباطل فهي أكبر من الزنا ومن السرقة
وإنما اهتم صلى الله عليه وسلم بإخبارهم عن
شهادة الزور وجلس وأتى بحرف التنبيه وكرر
الإخبار لكون قول الزور وشهادة الزور أسهل على
اللسان والتهاون بها أكثر ولأن الحوامل عليه
كثيرة من العداوة والحسد وغيرها فاحتيج إلى
الاهتمام بشأنه بخلاف الإشراك فإنه ينبو عنه
قلب المسلم ولأنه لا تتعدى مفسدته ألى غير
المشرك بخلاف قول الزور فإنه يتعدى إلى من قيل
فيه والعقوق يصرف عنه كرم الطبع والمروءة
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لرجل: "ترى الشمس؟" قال
نعم قال "على مثلها فشاهد أو دع" أخرجه ابن
عدي بإسناد ضعيف وصححه الحاكم فأخطأ لأن في
إسناده محمد بن سليمان بن مشمول ضعفه النسائي
وقال البيهقي لم يرو من وجه يعتمد عليه وفيه
دليل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على
ما يعلمه علما يقينا كما تعلم الشمس بالمشاهدة
ولا تجوز الشهادة بالظن فإن كانت الشهادة على
فعل فلا بد من رؤيته وإن كانت على صوت فلا بد
من سماع ذلك الصوت ورؤية المصوت أو التعريف
بالصوت بعدلين أو عدل عند من يكتفي به إلا في
مواضع فإنها تجوز الشهادة بالظن وقد بوب
البخاري للشهادة على الظن بقوله باب الشهادة
على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم
وذكر أربعة أحاديث في ثبوت الرضاع وثبوته إنما
هو بالاستفاضة ولم يذكر حديثا على رؤية الرضاع
وأشار بذلك إلى ثبوت النسب فإن من لازم الرضاع
ثبوت النسب وأما ثبوت الرضاعة نفسها
بالاستفاضة فإنه مستفاد من صريح الأحاديث فإن
الرضاعة المذكورة فيها كانت في الجاهلية وكان
ذلك مستفيضا عند من وقع له وحد الاستفاضة عند
الهادوية شهرة في المحلة تثمر ظنا أو علما
وإنما اكتفي بالشهرة في المذكورة إذ لا طريق
له إلى التحقيق
(4/130)
بالنسب لتعذر
التحقق فيه في الأغلب وأراد البخاري بالموت
القديم ما تطاول الزمان عليه وحده البعض
بخمسين سنة وقيل أربعين وذلك لأنه يشق فيه
التحقيق وإلى العمل بالشهرة في النسب ذهب
الهادوية والشافعية وأحمد ومثله الموت كذلك
ذهبت إليه الهادوية في ثبوت الولاء وقال
المصنف في الفتح اختلف العلماء في ضابط ما
تفيد فيه الشهادة بالاستفاضة فيصح عند
الشافعية في النسب قطعا والولادة وفي الموت
والعتق والولاء والولاية والوقف والعزل
والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية
والرشد والسفه وذلك على الراجح في جميع ذلك
وبلغها بعض المتأخرين من الشافعية بضعة وعشرين
موضعا وهي مستوفاة في قواعد العلائي إلى آخر
كلامه
8- وعنه رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه
وسلم قضى بيمين وشاهد" أخرجه مسلم وأبو داود
والنسائي وقال إسناده جيد قال ابن عبد البر لا
مطعن لأحد في إسناده كذا قال لكنه قال الترمذي
في العلل سألت محمدا يعني البخاري عنه فقال لم
يسمعه عندي عمرو من ابن عباس يريد عمرو بن
دينار راويه عن ابن عباس وقال الحاكم قد سمع
عمرو من ابن عباس عدة أحاديث وسمع من جماعة من
أصحابه فلا ينكر أن يكون سمع منه حديثا وسمعه
من أصحابه عنه وله شواهد
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله أخرجه أبو
داود والترمذي وصححه ابن حبان وأخرجه أيضا
الشافعي وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه
وهو صحيح وقد أخرج الحديث عن اثنين و عشرين من
الصحابة وقد سرد الشارح أسماءهم والحديث دليل
على أنه يثبت القضاء بشاهد ويمين وإليه ذهب
جماهير من الصحابة والتابعين وغيرهم وهو مذهب
فقهاء المدينة السبعة والهادوية ومالك وقال
الشافعي وعمدتهم هذه الأحاديث واليمين وإن كان
حاصلها تأكيد الدعوى لكن يعظم شأنها فإنها
إشهاد لله سبحانه أن الحقيقة كما يقول ولو كان
الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريا على الله
أنه يعلم صدقه فلما كانت بهذه المنزلة العظيمة
هابها المؤمن بإيمانه وعظمة شأن الله عنده أن
يحلف به كاذبا وهابها الفاجر لما يراه من
تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينا فاجرة فلما
كان لليمين هذا الشأن صلحت للهجوم على الحكم
كشهادة الشاهد وقد اعتبرت الأيمان فقط في
اللعان وفي القسامة في مقام الشهود وذهب زيد
بن علي وأبو حنيفة وأصحابه إلى عدم الحكم
باليمين والشاهد مستدلين بقوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ} قالوا وهذا يقتضي الحصر ويفيد
المخالفة أنه لا يكون بغير ذلك وزيادة الشاهد
واليمين تكون نسخا لمفهوم المخالفة وأجيب عنه
بأنه على تقدير اعتبار مفهوم المخالفة يصح
نسخه بالحديث الصحيح أعني حديث ابن عباس
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو
يمينه" وأجيب بأن هذا الحديث صحيح وحديث
الشاهد واليمين صحيح يعمل بهما في منطوقهما
فإن مفهوم أحدهما لا يقاوم منطوق
(4/131)
الآخر هذا وفي
سنن أبي داود أنه قال سلمة في حديثه قال عمرو
في الحقوق يريد أن عمرو بن دينار الراوي عن
ابن عباس خص الحكم بالشاهد واليمين بالحقوق
قال الخطابي وهذا خاص بالأموال دون غيرها فإن
الراوي وقفه عليها والخاص لا يتعدى به محله
ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير
جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له ا ه
والحق أنه لا يخرج من الحكم بالشاهد واليمين
إلا الحد والقصاص للإجماع أنهما لا يثبتان
بذلك
(4/132)
باب الدعاوى والبينات
الدعاوى جمع دعوى وهي اسم مصدر من ادعى شيئا
إذا زعم أن له حقا أو باطلا والبينات جمع بينة
وهي الحجة الواضحة سميت الحجة بينة لوضوح الحق
وظهوره بها
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه سلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم
لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه" متفق عليه وللبيهقي أي من حديث
ابن عباس بإسناد صحيح البينة على المدعي
واليمين على من أنكر وفي الباب عن ابن عمر عند
ابن حبان وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند
الترمذي والحديث دال على أنه لا يقبل قول أحد
فيما يدعيه لمجرد دعواه بل يحتاج إلى البينة
أو تصديق المدعى عليه فإن طلب يمين المدعى
عليه فله ذلك وإلى هذا ذهب سلف الأمة وخلفها
قال العلماء والحكمة في كون البينة على المدعي
أن جانب المدعي ضعيف لأنه يدعي خلاف الظاهر
فكلف الحجة القوية وهي البينة فيقوى بها ضعف
المدعي وجانب المدعى عليه قوي لأن الأصل أفطر
ذمته فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيف
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى
الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا
فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف "
رواه البخاري يفسره ما رواه أبو داود والنسائي
من طريق أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلين
اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة فقال
النبي صلى الله عليه وسلم استهما على اليمين
ما كان أحبا ذلك أو كرها قال الخطابي ومعنى
الاستهام هنا الاقتراع يريد أنهما يقترعان
فأيهما خرجت حلف وأخذ ما ادعى وروي مثله عن
علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أنه أتى بنعل
وجد في السوق يباع فقال رجل هذا نعلي لم أبع
ولم أهب وقرع على خمسة يشهدون وجاء آخر يدعيه
يزعم أنه نعله وجاء بشاهدين قال الراوي فقال
علي رضي الله عنه إن فيه قضاء وصلحا وسوف أبين
لكم ذلك أما صلحه فأن يباع النعل فيقسم على
سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان وإن لم
يصطلحا فالقضاء أن يحلف أحد الخصمين أنه ما
باعه ولا وهبه وإنه نعله فإن تشاححتما أيكما
يحلف فإنه يقرع بينكما على الحلف فأيكما قرع
حلف انتهى كلام الخطابي
(4/132)
3 - وعن أبى
أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرىء مسلم
بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه
الجنة" فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا
رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبا من أراك" رواه
مسلم الحديث دليل على شدة الوعيد لمن حلف
ليأخذ حقا لغيره أو يسقط عن نفسه حقا فإنه
يدخل تحت الاقتطاع لحق المسلم والتعبير بحق
المرء المسلم يدخل فيه ما ليس بمال شرعا كجلد
الميتة ونحوه وذكر المسلم خرج مخرج الغالب
وإلا فالذمي مثله في هذا الحكم قيل ويحتمل أن
هذه تختص بمن اقتطع بيمينه حق المسلم لا حق
الذمي وإن كان محرما فله عقوبة أخرى وإيجاب
النار وتحريم الجنة مقيد بما إذا لم يتب
ويتخلص من الحق الذي أخذه باطلا عند المراد
باليمين اليمين الفاجرة وإن كانت مطلقة في
الحديث فقد قيدها الحديث الآتي وهو قوله
4- وعن الأشعث بشين معجمة ساكنة فعين مهملة
مفتوحة فمثلثة وهو أبو محمد ابن قيس بن معد
يكرب الكندي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم
في وفد كندة وكان رئيسهم وذلك في سنة عشر وكان
رئيسا في الجاهلية مطاعا في قومه وجيها في
الإسلام وارتد عن الإسلام بعد موت النبي صلى
الله عليه وسلم ثم رجع إلى الإسلام في خلافة
أبي بكر رضي الله عنه وخرج للجهاد مع سعد بن
أبي وقاص وشهد القادسية وغيرها ثم سكن الكوفة
ومات بها سنة اثنتين وأربعين وصلى عليه الحسن
بن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال "من حلف على يمين يقتطع بها مال
امرىء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه
غضبان" متفق عليه والمراد بكونه فاجرا فيها أن
يكون متعمدا عالما أنه غير محق وإذا كان تعالى
عليه غضبان حرمه جنته وأوجب عليه عذابه
5- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "أن
رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فقضى بها
رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما نصفين"
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه وقال
إسناده جيد قال الخطابي يشبه أن يكون هذا
البعير أو الدابة التي كانت في أيديهما معا
فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما
لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا
بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشيء في يد
أحدهما وقد روى أبو داود عقيبه حديثا فقال
ادعيا بعيرا في عهد رسول الله صلى الله عليه
سلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي
صلى الله عليه سلم بينهما نصفين قال الخطابي
وهو مروي بالإسناد الأول إلا أن في الحديث
المتقدم لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا أن
كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل أن تكون
القضية واحدة إلا أن الشهادات لما تعارضت
تهاترت فصارا كمن لا بينة له وحكم بالشيء
بينهما نصفين لاستوائهما في اليد ويحتمل أن
البعير في يد غيرهما فلما أقام كل واحد منهما
شاهدين على دعواه نزع الشيء من يد المدعى
(4/133)
عليه ودفعه
إليهما وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يد
الرجل يتداعاه اثنان يقيم كل واحد منهما بينة
فقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه يقرع
بينهما فمن خرجت صار له وكان الشافعي يقول به
قديما ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي
به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي و سفيان
الثوري والقول الثاني يقرع بينهما فأيهما خرج
سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضى له به
وقال مالك لا أقضي به لواحد منهما إن كان في
يد غيرهما وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهودا
وأشهرهما في الصلاح وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر
البينتين عددا وحكي عن الشعبي أنه قال هو
بينهما على حصص الشهود ا هـ كلام الخطابي وفي
المنارأن القرعة ليس هذا محلها وإنما وظيفتها
حيث تعذر التقريب إلى الحقيقة من كل وجه وكون
المدعي هنا مشتركا أحد المحتملات فلا وجه
لإبطاله بالقرعة واختار قسمة المدعي وهو
الصواب في هذه الصورة
6- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين
آثمة تبوأ مقعده من النار" رواه أحمد وأبو
داود والنسائي وصححه ابن حبان وأخرج النسائي
برجال ثقات من حديث أبي أمامة مرفوعا "من حلف
عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال
امرىء مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا"
والحديث دليل على عظمة إثم من حلف على منبره
صلى الله عليه سلم كاذبا واختلف العلماء في
تغليظ الحلف بالمكان والزمان هل يجوز للحاكم
أو لا والحديث لا دليل فيه على أحد القولين
إنما فيه عظمة إثم من حلف على منبره صلى الله
عليه سلم كاذبا وذهب الهادوية والحنفية
والحنابلة إلى أنه لا تغليظ بزمان ولا مكان
وأنه لا يجب على الحالف الإجابة إلى ذلك وذهب
الجمهور إلى أنه يجب التغليظ في الزمان
والمكان قالوا ففي المدينة على المنبر وفي مكة
بين الركن والمقام وفي غيرهما في المسجد
الجامع وكأنهم يقولون في الزمان ينظر إلى
الأوقات الفاضلة كبعد العصر وليلة الجمعة
ويومها ونحو ذلك احتج الأولون بإطلاق أحاديث
اليمين على المدعى عليه وبقوله شاهداك أو
يمينه واحتج الجمهور بحديث جابر وحديث أبي
أمامة وبفعل عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم من
السلف واستدلوا للتغليظ بالزمان بقوله تعالى:
{حْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} قال
المفسرون هي صلاة العصر وقال آخرون: يستحب
التغليظ في الزمان والمكان ولا يجب وقيل هو
موضع اجتهاد للحاكم إذا رآه حسنا ألزم به
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه سلم: "ثلاثة لا يكلمهم
الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم" هذا كناية
عن غضبه تعالى وإشارة إلى حرمانهم من رحمته
"ولا يزكيهم" أي لا يطهرهم عن أدناس الذنوب
بالمغفرة "ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء
بالفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلا
بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا
وكذا فصدقه
(4/134)
وهو على غير
ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن
أعطاه منها وفي وإن لم يعطه منها لم يف" متفق
عليه قوله على فضل ماء أي على ماء فاضل عن
كفايته فهذا منع ما لا حاجة إليه من هو محتاج
له وتقدم الكلام عليه في كتاب البيع وقوله
فصدقه أي المشتري وضمير هو للأخذ مصدر قوله
لأخذها لدلالة فعله عليه مثل: {اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي والأخذ على غير ما
حلف عليه فهذا ارتكب أمرين عظيمين الحلف بالله
والكذب في قيمة السلعة وخص بعد العصر لشرف
الوقت وهو من أدلة من غلظ بالزمان وقوله بايع
إماما لا يبايعه إلا للدنيا أي لما يعطيه منها
والوعيد يحتمل أنه لمجموع ما ذكر من المبايعة
لأجل الدنيا فإنها نية غير صالحة ولعدم الوفاء
بالخروج عن الطاعة وتفريق الجماعة والأصل في
بيعة الإمام أن يقصد بها إقامة الشريعة ويعمل
بالحق ويقيم ما أمر الله بإقامته ويهدم ما أمر
الله بهدمه ووقع في البخاري ورجل حلف على يمين
كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم
فيكون من توعد بهذا النوع من الوعيد أربعة.
وفي مسلم مثل حديث أبي هريرة قال وشيخ زان
وملك كذاب وعائل مستكبر وأخرج أيضا من حديث
أبي ذر مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم الله يوم
القيامة المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة
والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره
فحصل من مجموع الأحاديث تسع خصال إن جعلنا
المنفق سلعته بالحلف الكاذب والذي حلف بعد
العصر لقد أعطي كذا وكذا شيئا واحدا وإن
جعلناهما شيئين كما هو الظاهر فإن المنفق
سلعته بالكذب أعم من الذي يحلف لقد أعطي فتكون
عشرا
8- وعن جابر رضي الله عنه أن رجلين اختصما في
ناقة فقال كل واحد منهما نتجت هذه الناقة عندي
وأقاما أي كل واحد بينة فقضى بها رسول الله
صلى الله عليه سلم للذي هي في يده سيأتي من
أخرجه وأخرج الذي بعده وقد أخرج هذا البيهقي
ولم يضعفه وأخرج نحوه عن الشافعي إلا أن فيه
تداعيا دابة ولم يضعف إسناده أيضا والحديث
دليل على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها
وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وغيرهما قال
الشافعي يقال لهما قد استويتما في الدعوى
والبينة وللذي هو في يده سبب بكينونته في يده
هو أقوى من سببك فهو له بفضل قوة سببه وذكر
هذا الحديث وذهب الهادوية وجماعة من الآل وابن
حنبل إلى أنه ترجح بينة الخارج وهو من لم يكن
في يده قالوا إذ شرعت له وللمنكر اليمين
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على
المدعي" فإنه يقتضي أنه لا تفيد بينة المنكر
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال من كان في
يده شيء فبينته لا تعمل له شيئا ذكره في البحر
وأجيب عن ذلك بأن حديث جابر خاص وحديث البينة
على المدعي عام والخاص مخصص مقدم وأثر علي رضي
الله عنه لم يصح وعلى صحته فمعارض بما سبق وعن
القاسم أنه يقسم بينهما لأن اليد مقوية
(4/135)
لبينة الداخل
فساوت بينة الخارج ويروى عنه كقول الشافعي
وللحنفية تفصيل لم يقم عليه دليل
9- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق
رواهما أي هذا والذي قبله الدارقطني وفي
إسنادهما ضعف لأن مدارهما على محمد بن مسروق
عن إسحاق بن الفرات ومحمد لا يعرف وإسحاق
مختلف فيه كما قاله المصنف وقال الذهبي في
الكاشف إن إسحاق بن الفرات قاضي مصر ثقة معروف
وقال البيهقي والاعتماد في هذا الباب على
أحاديث القسامة فإنه قال صلى الله عليه وسلم
لأولياء الدم أتحلفون فأبوا قال فتحلف يهود
وهو حديث صحيح وساق الروايات في القسامة وفيها
رد اليمين قال فهذه الأحاديث هي المعتمدة في
رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعى عليه
قلت وهذا منه قياس إلا أنه قد ثبت عندهم أن
القسامة على خلاف القياس وثبت أنه لا يقاس على
ما خالف القياس وقد استدل بحديث الكتاب على
ثبوت رد اليمين على المدعي والمراد به أنها
تجب اليمين على المدعي ولكن إذا لم يحلف
المدعى عليه وقد ذهب الشافعي وآخرون إلى أنه
إذا نكل المدعى عليه فإنه لا يجب بالنكول شيء
إلا إذا حلف المدعي وذهب الهادوية وجماعة إلى
أنه يثبت الحق بالنكول من دون تحليف للمدعي
وقال المؤيد لا يحكم به ولكن يحبس حتى يحلف أو
يقر استدل الهادوية بأن النكول كالإقرار ورد
بأنه مجرد تمرد عن حق معلوم وجوبه عليه هو
اليمين فيحبس له حتى يوفيه أو يسقطه بالإقرار
واستدلوا أيضا بأنه حكم به عمر وعثمان وابن
عباس وأبو موسى وأجيب بعدم حجة أفعالهم نعم لو
صح حديث ابن عمر كان الحجة فيه
10- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا
تبرق" بفتح المثناة الفوقية وضم الراء "أسارير
وجهه" هي الخطوط التي في الجبهة واحدها سر
وسرر وجمعها أسرار وأسرة وجمع الجمع أسارير أي
تضيء وتستنير من الفرح والسرور فقال "ألم تري
إلى مجزز" بضم الميم وفتح الجيم ثم زاي مشددة
مكسورة ثم زاي أخرى اسم فاعل لأنه كان في
الجاهلية إذا أسر أسير جز ناصيته وأطلقه
"المدلجي" بضم الميم وبالدال المهملة وجيم
بزنة مخرج نسبة إلى بني مدلج بن مرة بن عبد
مناف بن كنانة "نظر آنفا" أي الآن "إلى زيد بن
حارثة وأسامة بن زيد فقال هذه الأقدام بعضها
من بعض" متفق عليه في رواية للبخاري أنه صلى
الله عليه وسلم قال: "ألم تري أن مجززا
المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة
قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه
الأقدام بعضها من بعض"
واعلم أن الكفار كانوا يقدحون في نسب أسامة
لكونه كان أسود شديد وكان زيد أبيض كذا قاله
أبو داود وأم أسامة هي أم أيمن كانت حبشية
سوداء ووقع في الصحيح
(4/136)
أنها كانت
حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله
عليه وسلم ويقال كانت من سبي الحبشة الذين
قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها
لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم
وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشي فولدت له أيمن
فكنيت به واشتهرت بكنيتها واسمها بركة والحديث
دليل على اعتبار القيافة في ثبوت النسب وهي
مصدر قاف قيافة والقائف الذي يتتبع الآثار
ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه وإلى
اعتبارها في ثبوت النسب ذهب مالك والشافعي
وجماهير العلماء مستدلين بهذا الحديث ووجه
دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله
عليه وسلم حجة لأنه أحد أقسام السنة وحقيقة
التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا
من فاعل أو يسمع قولا من قائل أو يعلم به وكان
ذلك الفعل من الأفعال التي لا يعلم تقدم
إنكاره لها كمضي كافر إلى كنيسة أو مع عدم
القدرة كالذي كان يشاهده من كفار مكة من عبادة
الأوثان وأذاهم للمسلمين ولم ينكره كان ذلك
تقريرا دالا على جوازه فإن استبشر به فأوضح
كما في هذه القصة فإنه استبشر بكلام مجزز في
إثبات نسب أسامة إلى زيد فدل ذلك على تقرير
كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب وبما
رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب
كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في
الإسلام فأتى رجلان إلى عمر رضي الله عنه
كلاهما يدعي ولد امرأة فدعا قائفا فنظر إليه
القائف فقال لقد اشتركا فيه فضربه عمر بالدرة
ثم دعا المرأة فقال أخبريني خبرك فقالت كان
هذا لأحد الرجلين يأتيها في إبل لأهلها فلا
يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل ثم
ينصرف عنها فأهريقت عليه دما ثم خلف عليها هذا
يعني الآخر فلا أدري من أيهما هو فكبر القائف
فقال عمر للغلام فإلى أيهما شئت فانتسب فقضى
عمر بمحضر من الصحابة بالقيافة من غير إنكار
من واحد منهم فكان كالإجماع تقوى به أدلة
القيافة قالوا وهو مروي عن ابن عباس وأنس بن
مالك ولا مخالف لهما من الصحابة ويدل عليه
حديث اللعان وقوله صلى الله عليه وسلم "إن
جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لفلان أو على
صفة كذا وكذا فهو لفلان فجاءت به على الوصف
المكروه" فقال "لولا الأيمان لكان لي ولها
شأن" فقوله فهو لفلان إثبات للنسب بالقيافة
وإنما منعت الأيمان عن إلحاقه بمن جاء على
صفته وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يعمل
بالقيافة في إثبات النسب والحكم في الولد
المتنازع فيه أن يكون للشريكين أو المشتريين
أو الزوجين وللهادوية في الزوجين تفاصيل
معروفة في الفروع وتأولوا حديث مجزز هذا
وقالوا ليس من باب التقرير لأن نسب أسامة كان
معلوما إلى زيد وإنما كان يقدح الكفار في نسبه
لاختلاف اللون بين الولد وأبيه والقيافة كانت
من أحكام الجاهلية وقد جاء الإسلام بإبطالها
ومحو آثارها فسكوته صلى الله عليه وسلم عن
الإنكار على مجزز ليس تقريرا لفعله واستبشاره
إنما هو لإلزام الخصم الطاعن في نسب أسامه بما
يقوله ويعتمده فلا حجة في ذلك قلت ولا يخفى
(4/137)
أن هذا الجواب
مبني على أنه قد سبق منه صلى الله عليه وسلم
إنكار للقيافة وإلحاق النسب بها كتقدم إنكاره
مضي كافر إلى كنيسة وهذا لا دليل عليه بل
الدليل قائم على خلافه وهو قوله صلى الله عليه
وسلم في قصة اللعان بما سمعت ثم فعل الصحابة
من بعده وقولهم بثبوت النسب به من الأدلة على
عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم وأما قوله
"الولد للفراش" فذلك فيما إذ علم الفراش فإنه
معلوم أن الحكم به مقدم قطعا وإنما القيافة
عند عدمه ثم الأصح عند القائلين بالإلحاق أنه
يكفي قائف واحد وقيل لا بد من اثنين وحديث
الباب دال على الاكتفاء بالواحد
(4/138)
|