سبل السلام ط دار الحديث

[بَابُ الْآنِيَةِ]
الْآنِيَةُ: جَمْعُ إنَاءٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا بَوَّبَ لَهَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ نَهَى عَنْ بَعْضِهَا، فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامٌ.
(14) - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ " حُذَيْفَةَ " أَيْ أَرْوِي أَوْ أَذْكُرُ كَمَا سَلَفَ، وَ " حُذَيْفَةُ " بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَذَالٌ مُعْجَمَةٌ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَفَاءٌ، هُوَ: " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ " بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ آخِرُهُ نُونٌ، وَ " حُذَيْفَةُ " وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ شَهِدَا أُحُدًا، وَ " حُذَيْفَةُ " صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَمَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، بَعْدَ قَتْلِ " عُثْمَانَ " بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا» جَمْعُ صَحْفَةٍ، قَالَ الْكَشَّافُ وَالْكِسَائِيُّ: الصَّحْفَةُ هِيَ مَا تُشْبِعُ الْخَمْسَةَ [فَإِنَّهَا] أَيْ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصِحَافَهُمَا [لَهُمْ] أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرُوا فَهُمْ مَعْلُومُونَ [فِي الدُّنْيَا] إخْبَارٌ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ لَا إخْبَارٌ بِحِلِّهَا لَهُمْ [وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصِحَافِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنَاءُ خَالِصًا ذَهَبًا أَوْ مَخْلُوطًا بِالْفِضَّةِ إذْ هُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ أَنَّهُ إنَاءُ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِمَا.
وَاخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ فَقِيلَ: لِلْخُيَلَاءِ، وَقِيلَ: بَلْ لِكَوْنِهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً؛ وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِنَاءِ الْمَطْلِيِّ بِهِمَا هَلْ يَلْحَقُ بِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: إنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلُهُمَا حَرُمَ

(1/39)


(15) - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُمَا لَا يَحْرُمُ. وَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ إجْمَاعًا، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيمَا ذُكِرَ لَا خِلَافَ فِيهِ.
فَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ سَائِرِ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَفِيهِ الْخِلَافُ. قِيلَ: لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَقِيلَ يَحْرُمُ سَائِرُ الِاسْتِعْمَالَاتِ إجْمَاعًا؛ وَنَازَعَ فِي الْأَخِيرِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ: النَّصُّ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا غَيْرُ، وَإِلْحَاقُ سَائِرِ الِاسْتِعْمَالَاتِ بِهِمَا قِيَاسًا لَا تَتِمُّ فِيهِ شَرَائِطُ الْقِيَاسِ.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ غَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِمَا، إذْ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا مِنْ شُؤْمِ تَبْدِيلِ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ فَعَدَلُوا عَنْ عِبَارَتِهِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَهَجَرُوا الْعِبَارَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَجَاءُوا بِلَفْظٍ عَامٍّ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَهَا نَظَائِرُ فِي عِبَارَاتِهِمْ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا لِإِفَادَةِ تَحْرِيمِ الْوُضُوءِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَبَابُ هَذَا الْحَدِيثِ بَابُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، ثُمَّ هَلْ يَلْحَقُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نَفَائِسُ الْأَحْجَارِ كَالْيَاقُوتِ وَالْجَوَاهِرِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ إلْحَاقِهِ، وَجَوَازُهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهَا.
(15) - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ " أُمِّ سَلَمَةَ " هِيَ " أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اسْمُهَا " هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ "، كَانَتْ تَحْتَ " أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ " هَاجَرَتْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ عَوْدَتِهِمَا مِنْ الْحَبَشَةِ، وَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَعُمْرُهَا أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. [قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ] هَكَذَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ [فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ] إنَّمَا [يُجَرْجِرُ] بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَجِيمٍ فَرَاءٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ.
وَالْجَرْجَرَةُ صَوْتُ وُقُوعِ الْمَاءِ فِي الْجَوْفِ، وَصَوْتُ الْبَعِيرِ عِنْدَ الْجَرَّةِ، جَعَلَ الشُّرْبَ وَالْجَرْعَ جَرْجَرَةً [فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرْوَى بِرَفْعِ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ مَجَازًا، وَإِلَّا فَنَارُ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا تُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ، إنَّمَا جَعَلَ جَرْعَ الْإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَاسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، كَجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِهِ مَجَازًا، هَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ. وَذُكِّرَ الْفِعْلُ

(1/40)


(16) - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ - وَعِنْدَ الْأَرْبَعَةِ " أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
يَعْنِي (يُجَرْجِرُ) وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ النَّارَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِهَا، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى نَصْبِ نَارِ جَهَنَّمَ، وَفَاعِلُ الْجَرْجَرَةِ هُوَ الشَّارِبُ، وَالنَّارُ مَفْعُولُهُ، وَالْمَعْنَى: كَأَنَّمَا يُجَرَّعُ نَارَ جَهَنَّمَ مِنْ بَابِ {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالنَّصْبُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّارِحُونَ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ، وَاللُّغَةِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَزْهَرِيُّ وَجَهَنَّمَ عَجَمِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، إذْ هِيَ عَلَمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا، وَقِيلَ لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي الْعِقَابِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ " حُذَيْفَةَ " الْأَوَّلُ.

[طَهَارَة الإهاب بِالدِّبَاغِ]
[وَعَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ بِزِنَةِ كِتَابٍ، هُوَ: الْجِلْدُ. أَوْ مَا لَمْ يُدْبَغْ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَمِثْلُهُ فِي النِّهَايَةِ [فَقَدْ طَهُرَ] بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا كَمَا يُفِيدُهُ الْقَامُوسِ، أَخْرَجَهُ " مُسْلِمٌ " بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ تَمَامُهُ فَقَدْ طَهُرَ» وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إنَّمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ، وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ. وَذُكِرَ لَهُ سَبَبٌ وَهُوَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ لِمَيْمُونَةَ فَقَالَ: أَلَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَإِنَّ دِبَاغَ الْأَدِيمِ طَهُورٌ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ " سَوْدَةَ " قَالَتْ: «مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مِسْكَهَا ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا» .
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجِلْدِ مَيْتَةِ كُلِّ حَيَوَانٍ، كَمَا يُفِيدُهُ عُمُومُ كَلِمَةِ " أَيُّمَا " وَأَنَّهُ يَطْهُرُ بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ وَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ، عَمَلًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ " ابْنِ عَبَّاسٍ " وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ مَسْعُودٍ.
(الثَّانِي) مِنْ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ

(1/41)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الدِّبَاغُ شَيْئًا، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْهَادَوِيَّةِ. وَيُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: [قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ] . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَذْهَبُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: هَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ تَرَكَهُ، قَالُوا: أَيْ الْهَادَوِيَّةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِهَا وَعَصَبِهَا.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ:
(الْأَوَّلُ) : أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ فِي سَنَدِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَارَةً عَنْ مَشَايِخَ مِنْ جُهَيْنَةَ عَمَّنْ قَرَأَ كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُضْطَرِبٌ أَيْضًا فِي مَتْنِهِ، فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي رِوَايَةِ الْأَكْلِ، وَرُوِيَ بِالتَّقْيِيدِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ إنَّهُ مُعَلٌّ أَيْضًا بِالْإِرْسَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ " مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُعَلٌّ بِالِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى " مِنْ " ابْنِ عُكَيْمٍ "، وَلِذَلِكَ تَرَكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْقَوْلَ بِهِ آخِرًا، وَكَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ أَوَّلًا كَمَا قَالَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَ (ثَانِيًا) : بِأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى النَّسْخِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الدِّبَاغِ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَانِ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ثَلَاثَةٌ، وَعَنْ أَنَسٍ حَدِيثَانِ، وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ وَعَائِشَةَ وَالْمُغِيرَةِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ تَأَخُّرِهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَأَخُّرِ حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، وَرِوَايَةُ التَّارِيخِ فِيهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ مُعَلَّةٌ، فَلَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ عَلَى النَّسْخِ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رِوَايَةُ التَّارِيخِ صَحِيحَةً مَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ جَزْمًا، وَلَا يُقَالُ: فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ النَّسْخُ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَعَ التَّعَارُضِ يُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ أَوْ الْوَقْفِ،؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا تَعَارُضَ إلَّا مَعَ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ كَمَا عَرَفْت مِنْ صِحَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ، وَعَدَمِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ.
وَ (ثَالِثًا) : بِأَنَّ الْإِهَابَ كَمَا عَرَفْت عَنْ الْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ اسْمٌ لِمَا يُدْبَغُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْإِهَابُ لِمَا لَمْ يُدْبَغْ، وَبَعْدَ الدَّبْغِ يُقَالُ لَهُ شِنٌّ وَقِرْبَةٌ، وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ قِيلَ: فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ وَرَدَ الْحَدِيثَانِ فِي صُورَةِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْإِهَابِ مَا لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا دُبِغَ لَمْ يُسَمَّ إهَابًا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَهُوَ حَسَنٌ.
(الثَّالِثُ) : يُطَهِّرُ جِلْدَ مَيْتَةِ الْمَأْكُولِ لَا غَيْرَهُ. لَكِنْ يَرُدُّهُ عُمُومُ [أَيُّمَا إهَابٍ] .
(الرَّابِعُ) : يُطَهِّرُ الْجَمِيعَ إلَّا الْخِنْزِيرَ، فَإِنَّهُ لَا جِلْدَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
(الْخَامِسُ) : يُطَهِّرُ إلَّا الْخِنْزِيرَ، لَكِنْ لَا لِكَوْنِهِ لَا جِلْدَ لَهُ بَلْ لِكَوْنِهِ رِجْسًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَالضَّمِيرُ

(1/42)


(17) - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(18) - وَعَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
لِلْخِنْزِيرِ، فَقَدْ حُكِمَ بِرِجْسِيَّتِهِ كُلِّهِ، وَالْكَلْبُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ بِجَامِعِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(السَّادِسُ) : يُطَهِّرُ الْجَمِيعَ لَكِنَّ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَابِسَاتِ دُونَ الْمَائِعَاتِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ جَمْعًا مِنْهُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ لَمَّا تَعَارَضَتْ.
(السَّابِعُ) : يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ تُدْبَغْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» وَهُوَ رَأْيُ الزُّهْرِيِّ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدَتْهُ أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ الَّتِي سَلَفَتْ.
(17) - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَعَنْ " سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالْقَافِ، وَ " سَلَمَةُ " صَحَابِيٌّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ " سِنَانٌ "، وَلِسِنَانٍ أَيْضًا صُحْبَةٌ. [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْ أَخْرَجَهُ وَصَحَّحَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ غَيْرُ ابْنِ حِبَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ لَكِنْ بِأَلْفَاظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ " سَلَمَةَ " بِلَفْظِ «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» وَفِي لَفْظٍ «دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» وَفِي آخَرَ «دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» وَفِي لَفْظِ «ذَكَاتُهَا دِبَاغُهَا» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ»
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي تَشْبِيهِهِ الدِّبَاغَ بِالذَّكَاةِ إعْلَامٌ بِأَنَّ الدِّبَاغَ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ تَذْكِيَةِ الشَّاةِ فِي الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يُطَهِّرُهَا وَيُحِلُّ أَكْلَهَا.
(18) - وَعَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ " مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ " مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ " الْهِلَالِيَّةُ، كَانَ اسْمُهَا " بَرَّةَ "، فَسَمَّاهَا

(1/43)


(19) - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَيْمُونَةَ "، تَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: إحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سِتٍّ وَسِتِّينَ؛ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ؛ وَهِيَ خَالَةُ " ابْنِ عَبَّاسٍ "، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهَا. قَالَتْ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا؟ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ؟ فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَلَيْسَ فِي الْمَاءِ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا»
وَأَمَّا رِوَايَةُ «أَلَيْسَ فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا» فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يَجُوزُ الدِّبَاغُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُنَشِّفُ فَضَلَاتِ الْجِلْدِ؛ وَيُطَيِّبُهُ وَيَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ كَالشَّثِّ وَالْقَرَظِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطَّاهِرَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالشَّمْسِ إلَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا بِالتُّرَابِ؛ وَالرَّمَادِ، وَالْمِلْحِ عَلَى الْأَصَحِّ.

[آنِيَة أَهْل الْكتاب واستعمالها]
وَعَنْ " أَبِي ثَعْلَبَةَ " بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ فَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ فَمُوَحَّدَةٌ " الْخُشَنِيُّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَشِينٌ مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ فَنُونٌ نِسْبَةٌ إلَى " خُشَيْنِ بْنِ النَّمِرِ " مِنْ قُضَاعَةَ؛ حُذِفَتْ يَاؤُهُ عِنْدَ النِّسْبَةِ؛ وَاسْمُهُ " جُرْهُمٌ " بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ فَهَاءٌ مَضْمُومَةٌ، " ابْنُ نَاشِبٍ " بِالنُّونِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ آخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، اُشْتُهِرَ بِلَقَبِهِ، بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ، وَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَأَرْسَلَهُ إلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، نَزَلَ الشَّامَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا إلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ.
اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَلْ هُوَ لِنَجَاسَةِ رُطُوبَتِهِمْ؛ أَوْ لِجَوَازِ أَكْلِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلِلْكَرَاهَةِ؟ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْكُفَّارِ، وَهُمْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْقَاسِمِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى

(1/44)


(20) - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَالْكِتَابِيُّ يُسَمَّى مُشْرِكًا، إذْ قَدْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إلَى طَهَارَةِ رُطُوبَتِهِمْ وَهُوَ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] . «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد «وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْنَا» .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ.
قُلْنَا: فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ غُنْيَةً عَنْهُ، فَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ يَهُودِيٌّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةِ سَنَخَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا» بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ النُّونِ الْمُعْجَمَةِ فَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ أَيْ مُتَغَيِّرَةٍ.
قَالَ فِي الْبَحْرِ: لَوْ حَرُمَتْ رُطُوبَتُهُمْ لَاسْتَفَاضَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ نَقْلُ تَوَقِّيهِمْ لَهَا لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالَاتهمْ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا مَلْبُوسٌ وَمَطْعُومٌ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَقْضِي بِالِاسْتِفَاضَةِ قَالَ: وَحَدِيثُ " أَبِي ثَعْلَبَةَ " إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَكْلِ فِي آنِيَتِهِمْ لِلِاسْتِقْذَارِ، لَا لِكَوْنِهَا نَجِسَةً، إذْ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمْ يَجْعَلْهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ وِجْدَانِ غَيْرِهَا، إذْ الْإِنَاءُ الْمُتَنَجِّسُ بَعْدَ إزَالَةِ نَجَاسَتِهِ هُوَ وَمَا لَمْ يَتَنَجَّسْ عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ لِمَا يُطْبَخُ فِيهَا لَا لِرُطُوبَتِهِمْ كَمَا تُفِيدُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَأَحْمَدَ بِلَفْظِ: «إنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمْ الْخَمْرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا» الْحَدِيثَ.
وَحَدِيثُهُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِآنِيَةٍ يُطْبَخُ فِيهَا مَا ذُكِرَ وَيُشْرَبُ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالنَّجَسُ لُغَةً: الْمُسْتَقْذَرُ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: ذُو نَجَسٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَهُمْ الشِّرْكُ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّجَسِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يَغْتَسِلُونَ وَلَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَاتِ، فَهِيَ مُلَابِسَةٌ لَهُمْ، وَبِهَذَا يَتِمُّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِهَا؛ وَآيَةُ الْمَائِدَةِ أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ.
(20) - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

(1/45)


(21) - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ، فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سَلْسَلَةً مِنْ فِضَّةٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَعَنْ " عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ " بِالْمُهْمَلَتَيْنِ تَصْغِيرُ حِصْنٍ، وَ " عِمْرَانُ " هُوَ " أَبُو نُجَيْدٍ " بِالْجِيمِ تَصْغِيرُ نَجْدٍ، الْخُزَاعِيُّ الْكَعْبِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ إلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ» بِفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ ثُمَّ أَلِفٌ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُهْمَلَةٌ، وَهِيَ الرَّاوِيَةُ وَلَا تَكُونُ إلَّا مِنْ جِلْدَيْنِ تُقَامُ بِثَالِثٍ بَيْنَهُمَا لِتَتَّسِعَ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ [امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ] [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ [فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ] . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَلْفَاظٍ فِيهَا: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا وَآخَرُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ فَقَدَا الْمَاءَ، فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ، فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ، أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، قَالَا: انْطَلِقِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. .. إلَى أَنْ قَالَ: وَدَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنَاءٍ فَفَرَغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ، أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَسُقِيَ مَنْ سُقِيَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ» الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَمُعْجِزَاتٌ نَبَوِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ الْمُشْرِكَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَا سَلَفَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ " أَبِي ثَعْلَبَةَ " مِنْ طَهَارَةِ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى طَهُورِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ؛ لِأَنَّ الْمَزَادَتَيْنِ مِنْ جُلُودِ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ الْمُشْرِكِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُشْرِكَةَ قَدْ بَاشَرَتْ الْمَاءَ وَهُوَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْجَمَلُ قَدْرَ الْقُلَّتَيْنِ.
وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ رُطُوبَتَهُمْ نَجِسَةٌ، وَيَقُولُ: لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ مَا غَيَّرَهُ، فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

[تضبيب الْإِنَاء بالفضة]
[وَعَنْ " أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ الْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الصَّدْعُ وَالشِّقُّ [سَلْسَلَةٌ مِنْ فِضَّةٍ] فِي الْقَامُوسِ سَلْسَلَةٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ السِّينِ الثَّانِيَةِ، مِنْهَا إيصَالُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، أَوْ سِلْسِلَةٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ دَائِرٌ مِنْ حَدِيدٍ وَنَحْوِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ، فَيُقْرَأُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ] . وَهُوَ دَلِيلُ جَوَازِ تَضْبِيبِ الْإِنَاءِ بِالْفِضَّةِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ كَمَا سَلَفَ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَاضِعِ " السَّلْسَلَةِ " فَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الَّذِي جَعَلَ السَّلْسَلَةَ هُوَ " أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ " وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ؛؛ لِأَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ «رَأَيْت

(1/46)


(أَيْ بَيَانُ النَّجَاسَةِ وَمُطَهِّرَاتِهَا) .
(22) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ: تُتَّخَذُ خَلًّا؟ قَالَ: لَا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَكَانَ قَدْ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ» . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ ": (لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَرَكَهُ) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ عَائِدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى أَنَسٍ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، إلَّا أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْقَدَحَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْت: وَالسِّلْسِلَةُ غَيْرُ الْحَلْقَةِ الَّتِي أَرَادَ " أَنَسٌ " تَغْيِيرَهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَلْسَلَهُ، هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ.