سبل السلام ط دار الحديث

[سبل السلام]
[كِتَابُ الْجِنَايَاتِ]
هِيَ جَمْعُ جِنَايَةٍ مَصْدَرٌ مِنْ جَنَى الذَّنْبَ يَجْنِيه جِنَايَةً أَيْ جَرَّهُ إلَيْهِ وَجُمِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي النَّفْسِ وَفِي الْأَطْرَافِ وَتَكُونُ عَمْدًا وَخَطَأً.
(عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ مُسْلِمٍ (إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبِ الزَّانِي) أَيْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ «وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ» أَيْ الْمُرْتَدِّ عَنْهُ (الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ دَمُ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِتْيَانِهِ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ وَالْمُرَادُ مِنْ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ وَسَيَأْتِي وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ يَعُمُّ كُلَّ مُرْتَدٍّ عَنْ الْإِسْلَامِ بِأَيِّ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خَارِجٍ عَنْ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ، أَوْ بَغْيٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا كَالْخَوَارِجِ إذَا قَاتَلُوا وَأَفْسَدُوا.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْحَصْرِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الصَّائِلِ وَلَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ قَصْدًا وَالصَّائِلُ لَا يُقْتَلُ قَصْدًا بَلْ دَفْعًا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ لِطَلَبِ إيمَانِهِ بَلْ لِدَفْعِ شَرِّهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ دَاخِلٌ تَحْتَ التَّارِكِ لِدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِطْرَتَهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ.
(1086) - وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

(2/336)


(1087) - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ» بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ (زَانٍ مُحْصَنٌ) يَأْتِي تَفْسِيرُهُ (فَيُرْجَمُ وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا) قَيَّدَ مَا أَطْلَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ (فَيُقْتَلُ، «وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) .
الْحَدِيثُ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَيُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَيَانٌ لِحُكْمٍ خَاصٍّ لِخَارِجٍ عَنْ الْإِسْلَامِ خَاصٍّ، وَهُوَ الْمُحَارِبُ وَلَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ هُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقَتْلِ، أَوْ الصَّلْبِ، أَوْ النَّفْيِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الَّذِي أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ: وَالنَّفْيُ الْحَبْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ النَّفْيُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا يَزَالُ يُطْلَبُ، وَهُوَ هَارِبٌ فَزِعٌ وَقِيلَ: يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ فَقَطْ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ فِي كُلِّ مُحَارِبٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.

[حرمة الدِّمَاء]
(وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ دَمِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ إلَّا الْأَهَمَّ وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ» . أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ حَدِيثَ الدِّمَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَخْلُوقِ وَحَدِيثَ الصَّلَاةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَةِ الْخَالِقِ وَبِأَنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْآخَرَ فِي أَوَّلِيَّةِ الْحِسَابِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ» ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ يَحْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَتْلَى بَدْرٍ» - الْحَدِيثَ " فَبَيَّنَ فِيهِ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ يُقْضَى فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الِاخْتِصَامَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ قَدْ حَمَلَ رَأْسَهُ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي» - الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ «يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُعَلِّقًا رَأْسَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ مُلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى تَشَحَّطُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَقِفَا بَيْنَ

(2/337)


(1088) - وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِزِيَادَةِ «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فِي الدِّمَاءِ. وَفِي الْقَضَاءِ بِالْأَمْوَالِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ، أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ» . وَفِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، وَأَنَّهَا إذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ طُرِحَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَيْفَ يُعْطَى الثَّوَابَ، وَهُوَ لَا يَتَنَاهَى فِي مُقَابَلَةِ الْعِقَابِ، وَهُوَ يَتَنَاهَى يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يُوَازِي عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي يُضَاعِفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْحَسَنَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحْضِ الْفَضْلِ الَّذِي يَخُصُّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَهَذَا فِيمَنْ مَاتَ غَيْرَ نَاوٍ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ، وَهُوَ يَنْوِي الْقَضَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَنْهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَبْوَابِ السَّلَمِ.

[السَّيِّد يُقَادُ بِعَبْدِهِ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ]
(وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابٌ وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ وَأَثْبَتَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ.
(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِزِيَادَةِ «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ) .
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يُقَادُ بِعَبْدِهِ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ إذْ الْجَدْعُ قَطْعُ الْأَنْفِ أَوْ الْأُذُنِ، أَوْ الْيَدِ، أَوْ الشَّفَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَ السَّيِّدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ.
ذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عَمَلًا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ وَأَيَّدَهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ سَيِّدَهُ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ وَكَأَنَّهُ يَخُصُّ السَّيِّدَ بِحَدِيثِ «لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكِهِ، وَلَا وَلَدٌ مِنْ وَالِدِهِ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عِيسَى يُذْكَرُ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو «فِي قِصَّةِ زِنْبَاعٍ لَمَّا جَبَّ عَبْدَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ وَحَرَقَ بِالنَّارِ، فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» فَأَعْتَقَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْتَصَّ

(2/338)


(1089) - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ مُضْطَرِبٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
مِنْ سَيِّدِهِ إلَّا أَنَّ فِيهِ الْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ.
وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَادُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا مُسْتَدِلِّينَ بِمَا يُفِيدُهُ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] ، فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِغَيْرِ الْحُرِّ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] تَفْسِيرٌ وَتَفْصِيلٌ لَهَا، وقَوْله تَعَالَى: فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] مُطْلَقٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَيِّدَةٌ مُبَيِّنَةٌ، وَهَذِهِ صَرِيحَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَتِلْكَ سِيقَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَشَرِيعَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ شَرِيعَةً لَنَا لَكِنَّهُ وَقَعَ فِي شَرِيعَتِنَا التَّفْسِيرُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَثِيرًا فَيُقَرُّ أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ إذْ فِيهِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَةٌ وَشَرِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخَفُّ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهَا، فَإِنَّهُ وُضِعَ عَنْهُمْ فِيهَا الْآصَارُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ آيَةَ الْبَقَرَةِ لِتَأَخُّرِهَا مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ حَتَّى يُصَارَ إلَى النَّسْخِ وَلِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ مُتَقَدِّمَةٌ حُكْمًا، فَإِنَّهَا حِكَايَةٌ لِمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ نُزُولًا عَلَى الْقُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يَقْتُلَانِ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ ".
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ» . وَفِي إسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَمِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، أَوْ مَنْسُوخٌ بِمَا سَرَدْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ.
هَذَا وَأَمَّا قَتْلُ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ فَإِجْمَاعٌ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَيَلْزَمُ مَنْ قَتَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى خِلَافٍ فِيهَا مَعْرُوفٍ، وَلَوْ بَلَغَتْ مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ جَاوَزَتْ دِيَةَ الْحُرِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، فَفِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ صَبْرًا مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً» .

[لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ]
(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُقَادُ

(2/339)


(1090) - وَعَنْ «أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْت لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْت: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ مُضْطَرِبٌ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَفِي إسْنَادِهِ عِنْدَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَوَجْهُ الِاضْطِرَابِ أَنَّهُ اخْتَلَفَ عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَقِيلَ: عَنْ عَمْرٍو وَهِيَ رِوَايَةُ الْكِتَابِ وَقِيلَ: عَنْ سُرَاقَةَ وَقِيلَ: بِلَا وَاسِطَةٍ. وَفِيهَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهَا مُنْقَطِعَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا مَعْلُولَةٌ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَفِظْت عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَقِيتُهُمْ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَبِذَلِكَ أَقُولُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مُطْلَقًا لِلْحَدِيثِ قَالُوا: لِأَنَّ الْأَبَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ، فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا لِإِعْدَامِهِ.
وَذَهَبَ الْبَتِّيُّ إلَى أَنَّهُ يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِالْخَبَرِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ يُقَادُ بِالْوَلَدِ إذَا أَضْجَعَهُ وَذَبَحَهُ. قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ حَقِيقَةً لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي مِثْلِ اسْتِعْمَالِ الْجَارِحِ فِي الْمَقْتَلِ هُوَ قَصْدُ الْعَمْدِ وَالْعَمْدِيَّةُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُحْكَمُ بِإِثْبَاتِهَا إلَّا بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ فِيمَا يُحْتَمَلُ عَدَمُ إزْهَاقِ الرُّوحِ بَلْ قَصْدُ التَّأْدِيبِ مِنْ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ يُحْكَمُ فِيهِ بِالْعَمْدِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ لِمَا لِلْأَبِ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ وَغَلَبَةِ قَصْدِ التَّأْدِيبِ عِنْدَ فِعْلِهِ مَا يُغْضِبُ الْأَبَ فَيُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْقَتْلِ، وَهَذَا رَأْيٌ مِنْهُ: وَإِنْ ثَبَتَ النَّصُّ لَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي قِصَّةِ الْمُدْلِجِيِّ وَأَلْزَمَ الْأَبَ الدِّيَةَ وَلَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ، فَلَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ إجْمَاعًا، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْجَدُّ وَالْأُمُّ كَالْأَبِ عِنْدَهُمْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ.

(2/340)


الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ فِيهِ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[قَتْلَ الْمُسْلِم بالذمي]
(وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: «قُلْت لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمٌ» اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَفْظِ شَيْءٍ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) أَيْ الْوَرَقَةِ الْمَكْتُوبَةِ (قُلْت وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ الْعَقْلُ) أَيْ الدِّيَةُ سُمِّيَتْ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ الْإِبِلَ الَّتِي هِيَ دِيَةٌ بِفِنَاءِ دَارِ الْمَقْتُولِ (وَفِكَاكُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا (الْأَسِيرِ، «وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ فِيهِ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّمَا سَأَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الشِّيعَةِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - لَا سِيَّمَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتِصَاصًا بِشَيْءٍ مِنْ الْوَحْيِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ سَأَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَيْضًا ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْوَحْيِ الشَّامِلِ لِكِتَابِ اللَّهِ الْمُعْجِزِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا وَحْيًا إذْ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ مَا نُسِبَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْجَفْرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ (إلَّا فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ) ، فَإِنَّهُ كَمَا نَسَبَ إلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ أَنَّهُ يَسْتَنْبِطُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَالْحَدِيثُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى مَسَائِلَ:
(الْأُولَى) الْعَقْلُ، وَهُوَ الدِّيَةُ وَيَأْتِي تَحْقِيقُهَا.
(وَالثَّانِيَةُ) فِكَاكُ الْأَسِيرِ أَيْ حُكْمُ تَخْلِيصِ الْأَسِيرِ مِنْ يَدَيْ الْعَدُوِّ، وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي ذَلِكَ.
(وَالثَّالِثَةُ)

(2/341)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
عَدَمُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ قَوَدًا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فَذُو الْعَهْدِ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَدْخُلُ عَلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَإِنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ فَلَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ (وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مُؤْمِنٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدٍ فِي الثَّانِي كَمَا فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فَيُقَدَّرُ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ الْكَافِرِ فِي الْمَعْطُوفِ بِلَفْظِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَيُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ، وَإِذَا كَانَ التَّقْيِيدُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ وَمَفْهُومُ حَرْبِيٍّ أَنَّهُ قُتِلَ بِالذِّمِّيِّ بِدَلِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَنَفِيَّةُ لَا تَعْمَلُ بِالْمَفْهُومِ فَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ صَرِيحًا. وَأَمَّا قَتْلُهُ بِالذِّمِّيِّ فَبِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَلِمَا.
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ أَنَا أَكْرَمُ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ابْنُ الْبَيْلَمَانِيُّ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إذَا وَصَلَ الْحَدِيثُ فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِثْلُهُ إمَّا مَا تُسْفَكُ بِهِ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ كَانَ فِي قِصَّةِ الْمُسْتَأْمِنِ الَّذِي قَتَلَهُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ فَعَلَى هَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» خَطَبَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَقِصَّةُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ مُتَقَدِّمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ.
هَذَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ التَّقْدِيرِ، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّقْدِيرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ (وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) كَلَامٌ تَامٌّ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ.
وَقَوْلُهُمْ إنَّ قَتْلَ الْمُعَاهَدِ مَعْلُومٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَهْدِ فَائِدَةٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِخْبَارِ بِهِ.
جَوَابُهُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ إذْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقِ الشَّارِعِ وَإِلَّا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومَاتِ يَقْضِي بِجَوَازِ قَتْلِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ تَقْدِيرُ الْكَافِرِ، فَلَا يُسَلَّمُ اسْتِلْزَامُ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ بِالْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ مُطْلَقُ الِاشْتِرَاكِ لَا الِاشْتِرَاكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَنَّهُ إذَا أَمَّنَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا كَانَ أَمَانًا مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً كَمَا فِي قِصَّةِ أُمِّ هَانِئٍ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُؤْمِنِ مُكَلَّفًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمَانًا مِنْ الْجَمِيعِ، فَلَا يَجُوزُ نَكْثُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) أَيْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ لَا يَحِلُّ لَهُمْ التَّخَاذُلُ بَلْ يُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جَمِيعِ مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَأَنَّهُ جَعَلَ أَيْدِيَهُمْ يَدًا وَاحِدَةً وَفِعْلَهُمْ فِعْلًا وَاحِدًا.

(2/342)


وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ بِك هَذَا: فُلَانٌ، فُلَانٌ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[الْقِصَاصُ بِالْمِثْقَلِ]
(وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ بِك هَذَا فُلَانٌ فُلَانٌ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) .
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْمِثْقَلِ كَالْمُحَدَّدِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ بِمَا قُتِلَ بِهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
(الْأُولَى) وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِالْمُثَقِّلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ صِيَانَةُ الدِّمَاءِ مِنْ الْإِهْدَارِ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْمِثْقَلِ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالْمِثْقَلِ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفَ وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ» . وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْحَدِيدَةِ خَطَأٌ وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَدَارُهُ عَلَى جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِمَا، فَلَا يُقَاوِمُ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا وَجَوَابُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِأَنَّهُ حَصَلَ فِي الرَّضِّ الْجُرْحُ، أَوْ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ كَانَ عَادَتُهُ قَتْلَ الصِّبْيَانِ، فَهُوَ مِنْ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا تَكَلُّفٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَتْلُ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ بِمِثْلِهَا الْقَتْلُ غَالِبًا كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ وَاللَّيْثِ وَمَالِكٍ يَجِبُ الْقَوَدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ. وَفِيهِ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مُغَلَّظَةٌ فِيهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا، وَإِنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فِيهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْإِرْشَادِ فِي إسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ.
قُلْت إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ، فَقَدْ اتَّضَحَ الْوَجْهُ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْآلَةِ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ بَلْ مَا أَزْهَقَ الرُّوحَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ.

[قَتْلُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ] 1
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَتْلُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ: ذَهَبَ إلَى قَتْلِهِ بِهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْأُنْثَى وَكَأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَرُدَّ بِأَنَّهُ ثَبَتَ إلَّا

(2/343)


(1092) - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ أَنَّ الذَّكَرَ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ. وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقَادُ بِالْمَرْأَةِ وَيُوَفَّى وَرَثَتُهُ نِصْفَ دِيَتِهِ قَالُوا: لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الدِّيَةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَرُدَّ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الدِّيَةِ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي النَّفْسِ وَلِذَا يُقْتَلُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْجُرُوحِ أَنْ لَا يَزِيدَ الْمُقْتَصُّ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْجُرْحِ.

[الْقَوَدُ بِمِثْلِ مَا قُتِلَ بِهِ] 1
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَنْ يَكُونَ الْقَوَدُ بِمِثْلِ مَا قُتِلَ بِهِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَوْلِهِ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَرَّضَ غَرَّضْنَا لَهُ وَمَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» أَيْ مَنْ اتَّخَذَهُ غَرَضًا لِلسِّهَامِ، وَهَذَا يُقَيَّدُ بِمَا إذَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي قُتِلَ بِهِ يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ كَمَنْ قُتِلَ بِالسِّحْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ.
وَفِيهِ خِلَافٌ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا قَتَلَ بِاللِّوَاطِ، أَوْ بِإِيجَارِ الْخَمْرِ أَنَّهُ يَدُسُّ فِيهِ خَشَبَةً وَيُوجِرُ الْخَلَّ وَقِيلَ: يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الِاقْتِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَاحْتَجُّوا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَا ذُكِرَ.
وَفِي قَوْلِهِ (فَأَقَرَّ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي الْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِقْرَارَ.

[لَا غرامة عَلَى الْفَقِير فِي قَتْلَ الْخَطَأ]
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ) .
الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا غَرَامَةَ عَلَى الْفَقِيرِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ فِيهِ الْمَمْلُوكَ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ، فَهُوَ يَدُلُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ خَطَأً، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(2/344)


(1093) - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ: حَتَّى تَبْرَأَ ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَجْت، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي، فَأَبْعَدَك اللَّهُ، وَبَطَلَ عَرَجُك ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْ عِنْدِهِ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ كَانَ حُرًّا وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا إمَّا لِفَقْرِهِمْ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْجِنَايَةَ الْوَاقِعَةَ عَلَى الْعَبْدِ إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَمْلُوكًا - كَمَا فِي الْبَيْهَقِيّ - وَقَدْ يَكُونُ الْجَانِي غُلَامًا حُرًّا غَيْرَ بَالِغٍ وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا فَلَمْ يَجِدْ أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَكَانَ فَقِيرًا فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَوْ رَآهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَوَجَدَهُمْ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِ جِنَايَتِهِ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ، وَلَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَجْعَلْ أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ) هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَمْدَ الصَّغِيرِ يَكُونُ فِي مَالِهِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَهُوَ (أَوْ رَآهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) يَعْنِي مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ وَمَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَمْدٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ.

[لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْجِرَاحَاتِ حَتَّى يَحْصُلَ الْبُرْءُ]
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ أَقِدْنِي، فَقَالَ حَتَّى تَبْرَأَ ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ أَقِدْنِي فَأَقَادَهُ ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَجْت، فَقَالَ قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي فَأَبْعَدَك اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُك ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يُدْرِكْ جَدَّهُ، وَقَدْ دُفِعَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ لِقَاءُ شُعَيْبٍ لِجَدِّهِ.
وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ تَزِيدُهُ قُوَّةً، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْجِرَاحَاتِ حَتَّى يَحْصُلَ الْبُرْءُ مِنْ ذَلِكَ وَتُؤْمَنَ السِّرَايَةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ الِانْتِظَارَ مَنْدُوبٌ بِدَلِيلِ تَمْكِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِاقْتِصَاصِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ وَاجِبٌ، وَإِذْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِصَاصِ كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ.

(2/345)


وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهُمَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هَذَا مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1095) -.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ؟ قَالَ: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ، فَقَالَ: كُنْت بَيْنَ يَدِي امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[الْجَنِين إذَا مَاتَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ]
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ» بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُنَوَّنٌ (عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ) هُمَا بَدَلٌ مِنْ غُرَّةٍ وَأَوْ لِلتَّقْسِيمِ «وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُ» فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَالْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. وَمِثْلُهُ فِي مُسْلِمٍ فَضَمِيرُ وَرَّثَهَا يَعُودُ إلَى الْقَاتِلَةِ وَقِيلَ: يَعُودُ إلَى الْمَقْتُولَةِ وَذَلِكَ أَنَّ عَاقِلَتَهَا قَالُوا: إنَّ مِيرَاثَهَا لَنَا، فَقَالَ لَا فَقَضَى بِدِيَتِهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا (فَقَالَ حَمَلُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ - (بْنُ النَّابِغَةِ) بِالنُّونِ بَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةً فَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ «الْهُذَلِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ؟» الِاسْتِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بِصَوْتِ نُطْقٍ، أَوْ بُكَاءٍ (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ مِنْ طَلَّ وَمَعْنَاهُ يُهْدَرُ وَيُلْغَى، وَلَا يُضْمَنُ وَيُرْوَى بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ مِنْ الْبُطْلَانِ (، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هَذَا) أَيْ هَذَا الْقَائِلُ (مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
فِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
(الْأُولَى) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ إذَا مَاتَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ وَخَرَجَ مَيِّتًا أَوْ مَاتَ فِي بَطْنِهَا، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ جَنِينٌ تَخْرُجُ مِنْهُ يَدٌ، أَوْ رِجْلٌ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَعَدَمُ وُجُوبِ الْغُرَّةِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْغُرَّةَ فِي الْحَدِيثِ بِعَبْدٍ، أَوْ وَلِيدَةٍ وَهِيَ الْأَمَةُ قَالَ الشَّعْبِيُّ الْغُرَّةُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مِائَةُ شَاةٍ وَقِيلَ: خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي الدِّيَاتِ، وَهَذَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ. وَأَمَّا جَنِينُ الْأَمَةِ فَقِيلَ: يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ عَلَى دِيَتِهَا فَكَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهَا فِي ضَمَانِهَا فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي جَنِينِهَا الْأَرْشَ مَنْسُوبًا إلَى الْقِيمَةِ وَقِيَاسُهُ عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ اللَّازِمُ فِيهِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهَا

(2/346)


(1095) - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ؟ قَالَ: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ، فَقَالَ: كُنْت بَيْنَ يَدِي امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
(الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ «وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ يُثْبِتُ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ كَانَ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ، أَوْ عُودٍ صَغِيرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ بِحَسْبِ الْأَغْلَبِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَالْحَنَفِيَّةُ تَجْعَلُهُ مِنْ أَدِلَّةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْمِثْقَلِ.
(الثَّالِثَةُ) فِي قَوْلِهِ عَلَى عَاقِلَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْعَاقِلَةُ هُمْ الْعَصَبَةُ، وَقَدْ فُسِّرَتْ بِمَنْ عَدَا الْوَلَدِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ أَبُوهَا: إنَّمَا يَعْقِلُهَا بَنُوهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ «الدِّيَةُ عَلَى الْعَصَبَةِ، وَفِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ» وَلِهَذَا بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ (بَابَ جَنِينِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِ لَا عَلَى الْوَلَدِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ الْعَصَبَةُ وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَفُسِّرَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَةِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ. وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ يَأْتِي فِي الْقَسَامَةِ.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَخَالَفَ جَمَاعَةٌ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا يُعْقَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ» وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ أَيْ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ جِنَايَةً يُعَاقَبُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال.
(الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ يُظْهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ مُدْرَجٌ فَهِمَهُ الرَّاوِي، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ السَّجْعِ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ وَرَامَ إبْطَالَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّفَهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنْ السَّجْعِ مَذْمُومَانِ. وَأَمَّا السَّجْعُ الَّذِي وَرَدَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَلَا يَتَكَلَّفُهُ، فَلَا نَهْيَ عَنْهُ. .

(2/347)


(1096) - «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ - عَمَّتَهُ - كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إلَيْهَا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ، فَأَبَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَبَوْا إلَّا الْقِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «عُمَرَ سَأَلَ مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ؟ قَالَ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقَالَ كُنْت بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهَا بِغُرَّةِ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك قَالَ فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَهِدَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إمْلَاصُ الْمَرْأَةِ إنَّمَا سُمِّيَ إمْلَاصًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُزْلِقُهُ قَبْلَ وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا زُلِقَ مِنْ الْيَدِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ مَلِصَ انْتَهَى.
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَنِينَ قَدْ تَخَلَّقَ وَجَرَى فِيهِ الرُّوحُ لِيَتَّصِفَ بِأَنَّهُ قَتَلَتْهُ الْجِنَايَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَسَرُّوهُ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ مِنْ يَدٍ وَأُصْبُعٍ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ الصُّورَةُ وَيَشْهَدُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الْآدَمِيِّ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ خَفِيَّةً، وَإِنْ شَكَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ اتِّفَاقًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ.

[قَلْع السِّنِّ بِالسِّنِّ فِي الْعَمْدِ]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الرُّبَيِّعَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ أُخْتَ أَنَسٍ (بِنْتِ النَّضْرِ عَمَّتَهُ) أَيْ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهِيَ غَيْرُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وَوَقَعَ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ بِنْتُ مُعَوِّذٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ إنَّهُ غَلَطٌ «كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ أَيْ شَابَّةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ فَطَلَبُوا أَيْ قَرَابَةُ الرُّبَيِّعِ إلَيْهَا أَيْ إلَى الْجَارِيَةِ الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَوْا إلَّا الْقِصَاصَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ

(2/348)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
لِلْبُخَارِيِّ) .
فِيهِ مَسَائِلُ:
(الْأُولَى) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ فِي السِّنِّ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَمَالِهَا، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَلْعِ السِّنِّ بِالسِّنِّ فِي الْعَمْدِ. وَأَمَّا كَسْرُ السِّنِّ، فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْقِصَاصِ فِيهِ أَيْضًا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَذَلِكَ إذَا عُرِفَتْ الْمُمَاثَلَةُ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ سِرَايَةٍ إلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ - يُرِيدُ ابْنَ حَنْبَلٍ - كَيْفَ فِي السِّنِّ؟ قَالَ تُبْرَدُ أَيْ يُبْرَدُ مِنْ سِنِّ الْجَانِي بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَلْعِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كَسَرَتْ قَلَعَتْ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ غَيْرُ السِّنِّ، فَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ ذَهَابُ النَّفْسِ إذَا لَمْ تَتَأَتَّ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِأَنْ لَا يُوقَفَ عَلَى قَدْرِ الذَّاهِبِ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ غَيْرِ السِّنِّ؛ لِأَنَّ دُونَ الْعَظْمِ حَائِلًا مِنْ جِلْدٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ فَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْمُمَاثَلَةُ فَلَوْ أَمْكَنَتْ لَحَكَمْنَا بِالْقِصَاصِ وَلَكِنْ لَا نَصِلُ إلَى الْعَظْمِ حَتَّى نَنَالَ مَا دُونَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ.
(الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ (أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ) ظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارُ، وَقَدْ تُؤُوِّلَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحُكْمَ وَالْمُعَارَضَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُؤَكِّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ وَأَكَّدَ طَلَبَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَمِ وَقِيلَ: بَلْ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَتْمٌ وَظَنَّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ، أَوْ الْعَفْوِ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فِي جَوَابِهِ (يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ) وَقِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِنْكَارَ بَلْ قَالَهُ تَوَقُّعًا وَرَجَاءً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يُلْهِمَ الْخُصُومَ الرِّضَا حَتَّى يَعْفُوا، أَوْ يَقْبَلُوا الْأَرْشَ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَرَادَ.
وَفِي إلْهَامِهِمْ الْعَفْوَ فِي تَقْدِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَلِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَلِفُ فِيمَا يُظَنُّ وُقُوعُهُ.
(الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» الْمَشْهُورُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَيَجُوزُ النَّصْبُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَفِعْلُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ كَتَبَ كِتَابَ اللَّهِ. وَفِي الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ قِيلَ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْحُكْمَ أَيْ حُكْمُ اللَّهِ الْقِصَاصُ وَقِيلَ: أَشَارَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، أَوْ إلَى {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، أَوْ إلَى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] . وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ - إلَى آخِرِهِ) تَعَجُّبٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُقُوعِ مِثْلِ هَذَا مِنْ حَلِفِ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِصْرَارِ الْغَيْرِ عَلَى إيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَكَانَ قَضِيَّةُ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَيْرَ الْعَفْوَ فَبَرَّ قَسَمُ أَنَسٍ، وَأَنَّ هَذَا الِاتِّفَاقَ وَقَعَ إكْرَامًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَسٍ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى أَرَبَهُمْ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ. وَفِيهِ جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِ.

(2/349)


وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا أَوْ رَمْيًا بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ الْخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[مَنْ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ]
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ بِالْقَصْرِ فِعِّيلَى مِنْ الْعَمَاءِ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ رِمِّيًّا) بِزِنَةِ مَصْدَرٍ يُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ «بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَإِ وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ) .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَيْنِ: الْمَعْنَى أَنْ يُوجَدَ بَيْنَهُمْ قَتِيلٌ يَعْمَى أَمْرُهُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ قَاتِلُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ قَتِيلِ الْخَطَإِ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ.
الْحَدِيثُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَتَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَظَاهِرُهُ مِنْ غَيْرِ أَيْمَانِ قَسَامَةٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ إنْ كَانَ الْحَاضِرُونَ الَّذِينَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ الْقَتْلُ مُنْحَصِرِينَ لَزِمَتْ الْقَسَامَةُ وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهَا مِنْ الْأَيْمَانِ وَالدِّيَةِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُنْحَصِرِينَ لَزِمَتْ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ اُخْتُلِفَ هَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ لَا قَالَ إِسْحَاقُ بِالْوُجُوبِ وَتَوْجِيهُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ مَاتَ بِفِعْلِ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَهَبَ الْحَسَنُ إلَى أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ يَحْضُرُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمْ، فَلَا تَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ يُهْدَرُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَاتِلُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ أَحَدٌ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إنَّهُ يُقَالُ لِوَلِيِّهِ اُدْعُ عَلَى مَنْ شِئْت وَاحْلِفْ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلَ حُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ وَسَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالطَّلَبِ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا الِاخْتِلَافَ وَعَدَمَ الْمُسْتَنَدِ الْقَوِيِّ فِي أَيِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ سَنَدَ الْحَدِيثِ قَوِيٌّ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ عَلِمْت أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ أَوْلَى الْأَقْوَالِ.

[مُوجِبُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ] 1
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي قَوْلِهِ «وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُوجِبُهُ الْقَتْلُ عَمْدًا هُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ وَيَدُلُّ

(2/350)


(1098) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَجَّحَ الْمُرْسَلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
لَهُمْ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] وَحَدِيثُ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» قَالُوا: وَأَمَّا الدِّيَةُ، فَلَا تَجِبُ إلَّا إذَا رَضِيَ الْجَانِي، وَلَا يُجْبَرُ الْجَانِي عَلَى تَسْلِيمِهَا.
(وَالثَّانِي) لِلْهَادَوِيَّةِ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْقَتْلِ عَمْدًا أَحَدُ أَمْرَيْنِ الْقِصَاصُ، أَوْ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يُقِيدَ وَإِمَّا أَنْ يُودَى» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَرْضَى الْجَانِي أَنْ يَغْرَمَ الدِّيَةَ قَالُوا: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. قُلْنَا الِاقْتِصَارُ فِي الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى بَعْضٍ مَا يَجِبُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ مِمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ، أَوْ خَبْلٍ - وَالْخَبْلُ الْجِرَاحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ إمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ، أَوْ يَعْفُوَ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ النَّارَ» .

[عقوبة مِنْ أعان عَلَى الْقَتْل]
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَجَّحَ الْمُرْسَلَ) قَالَ الْحَافِظُ بْنُ كَثِيرٍ فِي الْإِرْشَادِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قُلْت إشَارَةٌ إلَى إسْنَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد الْحَفَرِيِّ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. .. الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مَا رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي دَاوُد الْحَفَرِيِّ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مُرْسَلًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُمْسِكِ سِوَى حَبْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مُدَّتِهِ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ، وَأَنَّ الْقَوَدَ، أَوْ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْحَدِيثِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(2/351)


(1099) - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ: أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ» .

(1100) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قُتِلَ غُلَامٌ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إلَى أَنَّهُمَا يُقْتَلَانِ جَمِيعًا إذْ هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْإِمْسَاكُ مَا قُتِلَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّصَّ مَنَعَ الْإِلْحَاقَ، فَإِنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ الْحَافِرِ لِلْبِئْرِ وَالْمُرْدِي إلَيْهَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُرْدِي دُونَ الْحَافِرِ اتِّفَاقًا وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ دَلِيلٌ لِلْأَوَّلِينَ
(1099) - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ: أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ» . أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا مُرْسَلًا، وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الْمَوْصُولِ وَاهٍ.
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ اللَّامِ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ إذَا وُصِلَ فَكَيْفَ إذَا أُرْسِلَ فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ. وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي لَيْلَى ضَعِيفٌ (أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ: أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ» أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا مُرْسَلًا وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ وَإِسْنَادُ الْمَوْصُولِ وَاهٍ) . تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ قَرِيبًا.

[قَتْلَ الْجَمَاعَة بالواحد]
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قُتِلَ غُلَامٌ غِيلَةً) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ سِرًّا (، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ " قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِرَجُلٍ ". وَأَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّإِ بِسَنَدٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ جَمِيعًا ". وَلِلْحَدِيثِ قِصَّةٌ أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ امْرَأَةً بِصَنْعَاءَ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرَكَ فِي حِجْرِهَا ابْنًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ أَصِيلٌ فَاِتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ زَوْجِهَا خَلِيلًا، فَقَالَتْ لَهُ إنَّ هَذَا الْغُلَامَ يَفْضَحُنَا فَاقْتُلْهُ فَأَبَى فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَطَاوَعَهَا فَاجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِ الْغُلَامِ الرَّجُلُ

(2/352)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَرَجُلٌ آخَرُ وَالْمَرْأَةُ وَخَادِمُهَا فَقَتَلُوهُ ثُمَّ قَطَّعُوهُ أَعْضَاءً وَجَعَلُوهُ فِي عَيْبَةٍ وَطَرَحُوهُ فِي رَكِيَّةٍ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهَا - فَأُخِذَ خَلِيلُهَا فَاعْتَرَفَ ثُمَّ اعْتَرَفَ الْبَاقُونَ فَكَتَبَ يَعْلَى - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ - بِشَأْنِهِمْ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ عُمَرُ بِقَتْلِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ لَقَتَلْتهمْ أَجْمَعِينَ ".
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ رَأْيَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلِذَا قُلْنَا إنَّ فِيهِ دَلِيلًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلُ عُمَرَ: لَوْ تَمَالَأَ أَيْ تَوَافَقَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مَذَاهِبُ:
(الْأَوَّلُ) هَذَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ " عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ أَتَيَاهُ بِآخَرَ، فَقَالَا هَذَا الَّذِي سَرَقَ وَأَخْطَأْنَا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَمْ يُجِزْ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَأَغْرَمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعَتْكُمَا "، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ وَالنَّفْسِ.
(وَالثَّانِي) لِلنَّاصِرِ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا مِنْ الْجَمَاعَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ قُتِلَ وَيُلْزَمُ الْبَاقُونَ الْحِصَّةَ مِنْ الدِّيَةِ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْمَقْتُولِ بَلْ الدِّيَةُ رِعَايَةٌ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ.
هَذِهِ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالظَّاهِرُ قَوْلُ دَاوُد؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ، وَقَدْ انْتَفَتْ هُنَا ثُمَّ مُوجِبُ الْقِصَاصِ هُوَ الْجِنَايَةُ الَّتِي تُزْهَقُ الرُّوحُ بِهَا، فَإِنْ زُهِقَتْ بِمَجْمُوعِ فِعْلِهِمْ فَكُلُّ فَرْدٍ لَيْسَ بِقَاتِلٍ فَكَيْفَ يُقْتَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ النَّخَعِيِّ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَاتِلًا بِانْفِرَادِهِ لَزِمَ تَوَارُدُ الْمُؤْثِرَاتِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ وَالْجُمْهُورُ يَمْنَعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمْ جَمِيعًا، أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ فَرْضَ مَعْرِفَتِنَا بِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ قَاتِلَةٌ بِانْفِرَادِهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ مَاتَ بِكُلٍّ مِنْهَا، فَلَا عِبْرَةَ بِالْأَسْبَقِ.
وَأَمَّا حُكْمُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِعْلُ صَحَابِيٍّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَدَعْوَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ دَمِ الْمَقْتُولِ وَقِيلَ: تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ وَنَسَبَ قَائِلُهُ إلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ هَذَا مَا قَرَّرْنَاهُ هُنَا ثُمَّ قَوِيَ لَمَّا قَتَلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ وَحَرَّرْنَا دَلِيلَهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَفِي ذَيْلِنَا عَلَى الْأَبْحَاثِ الْمُسَدِّدَةِ.

(2/353)


وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ أَوْ يَقْتُلُوا» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ - وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
(وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ (الْخُزَاعِيِّ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَزَايٍ بَعْدَ الْأَلِفِ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ وَقِيلَ: غَيْرُهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَرَاءٍ تَثْنِيَةُ خِيَرَةٍ بَيَّنَهُمَا بِقَوْلِهِ «إمَّا أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ) .
أَصْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: «ثُمَّ إنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ - الْحَدِيثَ» وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ، وَلَا مُنَافَاةَ.
قَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا الْقِصَاصُ، أَوْ الدِّيَةُ وَالْخِيَرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاء، الْعَفْوُ مَجَّانًا، أَوْ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، أَوْ الْقِصَاصُ، وَلَا خِلَافَ فِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّابِعَةُ الْمُصَالَحَةُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَشْهُرُهُمَا مَذْهَبًا أَيْ لِلْحَنَابِلَةِ جَوَازُهُ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ إلَّا الدِّيَةُ، أَوْ دُونَهَا، وَهَذَا أَرْجَحُ دَلِيلًا، فَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ سَقَطَ الْقَوَدُ وَلَمْ يَمْلِكْ طَلَبَهُ بَعْدُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مُوجِبَهُ الْقَوَدُ عَيْنًا وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ إلَّا بِرِضَا الْجَانِي وَتَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ.