سبل
السلام ط دار الحديث [بَابُ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ] 1
ِ الزُّهْدُ هُوَ قِلَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ
وَإِنْ شِئْت قُلْت قِلَّةُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ، وَفِي
اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ بُغْضُ الدُّنْيَا
وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَقِيلَ تَرْكُ رَاحَةِ
الدُّنْيَا لِرَاحَةِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ أَنْ يَخْلُوَ
قَلْبُك مِمَّا خَلَتْ مِنْهُ يَدُك. وَقِيلَ: بَذْلُك مَا
تَمْلِكُ وَلَا تُؤْثِرُ مَا تُدْرِكُ. وَقِيلَ تَرْكُ
الْأَسَفِ عَلَى مَعْدُومٍ، وَنَفْيُ الْفَرَحِ
بِمَعْلُومٍ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا
لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ،
(2/640)
(1381) - عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ -
وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِأُصْبُعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ -
«إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ،
وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ
مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي
الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ: كَالرَّاعِي يَرْعَى
حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ
لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ
مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا
صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ
فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِمَا
فِي يَدَيْ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدَيْك
وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أَنْتَ
أُصِبْت بِهَا أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا
بَقِيَتْ لَك» انْتَهَى. فَهَذَا التَّفْسِيرُ
النَّبَوِيُّ يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ تَفْسِيرٍ.
وَالْوَرَعُ تَجَنُّبُ الشُّبُهَاتِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي
مُحَرَّمٍ وَقِيلَ: تَرْكُ مَا يَرِيبُك، وَنَفْيُ مَا
يَعِيبُك، وَقِيلَ: الْأَخْذُ بِالْأَوْثَقِ وَحَمْلُ
النَّفْسِ عَلَى الْأَشَقِّ وَقِيلَ النَّظَرُ فِي
الْمَطْعَمِ وَاللِّبَاسِ، وَتَرْكُ مَا بِهِ بَأْسٌ،
وَقِيلَ: تَجَنُّبُ الشُّبُهَاتِ، وَمُرَاقَبَةُ
الْخَطَرَاتِ.
[الْحَلَال بَيِّنٌ وَالْحَرَام بَيِّنٌ]
(عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ - وَأَهْوَى
النُّعْمَانُ بِأُصْبُعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ «إنَّ
الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ» وَيُرْوَى مُشَبَّهَاتٌ بِضَمِّ الْمِيمِ
وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَمُشْبَهَاتٌ بِضَمِّهَا
أَيْضًا وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ «لَا يَعْلَمُهُنَّ
كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ
اسْتَبْرَأَ» بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْبَرَاءَةِ أَيْ حَصَلَ
لَهُ الْبَرَاءُ مِنْ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ وَصَانَ
عِرْضَهُ مِنْ ذَمِّ النَّاسِ (لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ،
«وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ»
أَيْ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَإِنَّمَا حَذَفَهُ
لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ
الْوُقُوعُ فِي الشُّبُهَاتِ وُقُوعًا فِي الْحَرَامِ
لَكَانَتْ مَنْ قِسْمِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ.
وَقَدْ جَعَلَهَا قِسْمًا بِرَأْسِهِ وَكَمَا يَدُلُّ لَهُ
التَّشْبِيهُ بِقَوْلِهِ: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ
الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ
مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ
أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ
صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ) أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ
هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي
تَدُورُ عَلَيْهَا قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ قَالَ
جَمَاعَةٌ: هُوَ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ دَوَرَانَهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى حَدِيثِ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
وَعَلَى حَدِيثِ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ
مَا لَا يَعْنِيهِ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد إنَّهُ يَدُورُ
عَلَى أَرْبَعَةٍ. هَذِهِ وَرَابِعُهَا حَدِيثُ «لَا
يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ» وَقِيلَ حَدِيثُ «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا
يُحِبَّك
(2/641)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّك
النَّاسُ» قَوْلُهُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ» أَيْ قَدْ
بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إمَّا بِإِعْلَامٍ
بِأَنَّهُ حَلَالٌ نَحْوُ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى:
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال:
69] أَوْ سَكَتَ عَنْهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحَرِّمْهُ.
فَالْأَصْلُ حِلُّهُ أَوْ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ
حَلَالٌ أَوْ امْتَنَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَإِنَّهُ
لَازِمٌ حِلُّهُ وَقَوْلُهُ: «وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» أَيْ
بَيَّنَهُ اللَّهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ
رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أَوْ
بِالنَّهْيِ عَنْهُ {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وَالْإِخْبَارُ
عَنْ الْحَلَالِ بِأَنَّهُ بَيِّنٌ إعْلَامٌ بِحِلِّ
الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي وُجُوهِ النَّفْعِ كَمَا أَنَّ
الْإِخْبَارَ بِأَنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ إعْلَامٌ
بِاجْتِنَابِهِ وَقَوْلُهُ «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ
لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» الْمُرَادُ
بِهَا الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ حِلُّهَا وَلَا حُرْمَتُهَا
فَصَارَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ
عِنْدَ الْكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ الْجُهَّالُ فَلَا
يَعْرِفُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِنَصٍّ فَمَا لَمْ
يُوجَدْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اجْتَهَدَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ وَأَلْحَقُوهُ بِأَيِّهِمَا بِقِيَاسٍ أَوْ
اسْتِصْحَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ خَفِيَ دَلِيلُهُ
فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ «فَمَنْ اتَّقَى
الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ» أَيْ أَخَذَ
بِالْبَرَاءَةِ (لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ) فَإِذَا لَمْ
يَظْهَرْ فِيهِ لِلْعَالِمِ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ وَلَا
حِلِّهِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ
قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَمَنْ لَا يُثْبِتُ لِلْعَقْلِ
حُكْمًا يَقُولُ لَا حُكْمَ فِيهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ
الْأَحْكَامَ شَرْعِيَّةٌ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا
يُعْرَفُ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا حُكْمٌ
لِلْعَقْلِ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَقْلَ حَاكِمٌ لَهُمْ فِي
ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ
وَالْوَقْفُ. وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ
هَلْ هِيَ مِمَّا اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ أَوْ مَا
اشْتَبَهَ بِالْحَرَامِ الَّذِي قَدْ صَحَّ تَحْرِيمُهُ
رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ الْأَخِيرَ وَمَثَّلُوا ذَلِكَ
بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ
الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخْبَرَتْهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ
بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَتَهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ
وَقَدْ قِيلَ» فَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُ الْأُخْتِ مِنْ
الرَّضَاعَةِ شَرْعًا قَطْعًا وَقَدْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ
زَوْجَتُهُ بِهَذَا الْحَرَامِ الْمَعْلُومِ وَمِثْلُهُ
«التَّمْرَةُ الَّتِي وَجَدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي
أَخَافُ أَنَّهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ مِنْ الصَّدَقَةِ
لَأَكَلْتُهَا» فَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ
عَلَيْهِ ثُمَّ الْتَبَسَتْ هَذِهِ التَّمْرَةُ
بِالْحَرَامِ الْمَعْلُومِ. وَأَمَّا مَا الْتَبَسَ هَلْ
حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا أَمْ لَا فَقَدْ وَرَدَتْ
أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ مِنْهَا
حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ إثْمًا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَأَلَ عَنْ
شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ» فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ
سُؤَالِهِ حَلَالًا وَلَمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ سَأَلَ
عَنْهُ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ «مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ
مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَيَدُلُّ
لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}
[الأعراف: 157] فَكُلُّ مَا كَانَ طَيِّبًا وَلَمْ
يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَبَهَ
عَلَيْنَا تَحْرِيمُهُ وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُوَ مَا
أَحَلَّهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَكَتَ عَنْهُ،
وَالْخَبِيثُ مَا حَرَّمَهُ وَإِنْ عَدَّتْهُ النُّفُوسُ
طَيِّبًا كَالْخَمْرِ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْأَطْيَبَيْنِ
فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي
(2/642)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ
الْحَلَالَ الْكَسْبُ الطَّيِّبُ وَهُوَ الْحَلَالُ
الْمَحْضُ وَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ
الْحَلَالِ بِدَلَائِلَ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ تَنْضِيدِ التَّمْهِيدِ فِي
التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ نَقَلَهُ عَنْهُ السَّيِّدُ
مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ حَقَّقْنَا أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ
الْبَيِّنِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ: الْقَوْلُ
الْمُبِينُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَا شَكَكْت فِيهِ
فَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَحْوَالٍ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَمَكْرُوهٍ،
فَالْوَاجِبُ اجْتِنَابُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَرَّمَ،
وَالْمَنْدُوبُ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَى
مَالِهِ الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ اجْتِنَابُ الرُّخْصَةِ
الْمَشْرُوعَةِ ا. هـ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَقَدْ يُنَازَعُ فِي الْمَنْدُوبِ
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ الْحَرَامَ فَأَوْلَى
أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الِاجْتِنَابِ وَهُوَ الَّذِي بَنَى
عَلَيْهِ الْهَادَوِيَّةُ فِي مُعَامَلَةِ الظُّلْمِ
فِيمَا لَمْ يُظَنَّ تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي غَلَبَ
عَلَيْهِ الْحَرَامُ يُظَنُّ فِيهِ التَّحْرِيمُ ا. هـ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ.
[أَقْسَام الْوَرَع] 1
وَقَسَّمَ الْغَزَالِيُّ الْوَرَعَ أَقْسَامًا وَرَعُ
الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ
بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى حِلِّهِ، وَوَرَعُ
الْمُتَّقِينَ وَهُوَ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ
يَخَافُ أَنْ يَجُرَّ إلَى الْحَرَامِ، وَوَرَعُ
الصَّالِحِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ
احْتِمَالٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ
مَوْقِعٌ وَإِلَّا فَهُوَ وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ.
قُلْت: وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ قَدْ بَوَّبَ لَهُ
الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ
الْوَسْوَاسَ فِي الشُّبُهَاتِ) كَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ
أَكْلِ الصَّيْدِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ انْفَلَتَ مِنْ
إنْسَانٍ وَكَمَنْ تَرَكَ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
مِنْ مَجْهُولٍ لَا يَدْرِي أَمَالُهُ حَرَامٌ أَمْ
حَلَالٌ وَلَا عَلَامَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
التَّحْرِيمِ وَكَمَنْ تَرَكَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ لِخَبَرٍ
وَرَدَ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَيَكُونُ دَلِيلُ
إبَاحَتِهِ قَوِيًّا وَتَأْوِيلُهُ مُمْتَنِعٌ أَوْ
مُسْتَبْعَدٌ وَالْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ مُتَّسِعٌ وَفِي
هَذَا كِفَايَةٌ وَقَوْلُهُ «إنَّ لِكُلِّ مَلْكٍ حِمًى»
إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مُلُوكُ الْعَرَبِ
وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حِمًى
يَحْمِيهِ مِنْ النَّاسِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ دُخُولِهِ
فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ الْعُقُوبَةَ وَمَنْ
أَرَادَ نَجَاةَ نَفْسِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَمْ
يَقْرَبْهُ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَذَكَرَ هَذَا
كَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُخَاطَبِينَ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ
أَنَّ حِمَاهُ تَعَالَى: الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى
الْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ
إلَخْ " أَيْ مَنْ وَقَعَ فِيهَا فَقَدْ حَامَ حَوْلَ
حِمَى الْحَرَامِ فَيَقْرُبُ وَيَسْرُعُ أَنْ يَقَعَ
فِيهِ.
وَفِيهِ إرْشَادٌ إلَى الْبُعْدِ عَنْ ذَرَائِعِ
الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ فَإِنَّهُ
يُخَافُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهَا الْوُقُوعُ فِيهِ فَمَنْ
احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَا يَقْرَبُ الشُّبُهَاتِ لِئَلَّا
يَدْخُلَ فِي الْمَعَاصِي. ثُمَّ أَخْبَرَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَبِّهًا مُؤَكَّدًا
بِأَنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ
اللَّحْمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُمْضَغُ فِي
الْفَمِ لِصِغَرِهَا وَأَنَّهَا مَعَ صِغَرِهَا عَلَيْهَا
مَدَارُ صَلَاحِ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ فَإِنْ صَلُحَتْ
صَلُحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ وَفِي كَلَامِ
الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْقَلْبِ
الْمُضْغَةُ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ لِلْبَهَائِمِ
مُدْرَكَةٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ بَلْ الْمُرَادُ
بِالْقَلْبِ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ لَهَا
بِهَذَا الْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ تَعَلُّقٌ وَتِلْكَ
اللَّطِيفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ وَهِيَ
الْمُدْرِكَةُ
(2/643)
(1382) - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ،
وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْعَارِفَةُ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ
وَالْمُعَاقَبُ وَالْمُطَالَبُ، وَلِهَذِهِ اللَّطِيفَةِ
عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ
جَمِيعَ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ أَجْنَادٌ مُسَخَّرَةٌ
لِلْقَلْبِ وَكَذَلِكَ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ فِي
حُكْمِ الْخَدَمِ وَالْأَعْوَانِ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ
فِيهَا وَالْمُتَرَدِّدُ لَهَا وَقَدْ خُلِقَتْ
مَجْبُولَةً عَلَى طَاعَةِ الْقَلْبِ لَا تَسْتَطِيعُ لَهُ
خِلَافًا وَلَا عَلَيْهِ تَمَرُّدًا فَإِذَا أَمَرَ
الْعَيْنَ بِالِانْفِتَاحِ انْفَتَحَتْ وَإِذَا أَمَرَ
الرِّجْلَ بِالْحَرَكَةِ تَحَرَّكَتْ وَإِذَا أَمَرَ
اللِّسَانَ بِالْكَلَامِ وَجَزَمَ بِهِ تَكَلَّمَ وَكَذَا
سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَتَسْخِيرُ الْأَعْضَاءِ
وَالْحَوَاسِّ لِلْقَلْبِ يُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ تَسْخِيرَ
الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ جُبِلُوا
عَلَى طَاعَتِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ خِلَافًا
وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ عَالِمَةٌ بِطَاعَتِهَا لِلرَّبِّ
وَالْأَجْفَانُ تُطِيعُ الْقَلْبَ بِالِانْفِتَاحِ
وَالِانْطِبَاقِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْخِيرِ وَإِنَّمَا
افْتَقَرَ الْقَلْبُ إلَى الْجُنُودِ مِنْ حَيْثُ
افْتِقَارُهُ إلَى الْمَرْكَبِ وَالزَّادِ لِسَفَرِهِ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ إلَى لِقَائِهِ
فَلِأَجْلِهِ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56] وَإِنَّمَا مَرْكَبُهُ الْبَدَنُ وَزَادُهُ
الْعِلْمُ وَإِنَّمَا الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوَصِّلُهُ
إلَى الزَّادِ وَتُمَكِّنُهُ مِنْ التَّزَوُّدِ مِنْهُ
هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ثُمَّ أَطَالَ فِي هَذَا
الْمَعْنَى بِمَا يَحْتَمِلُ مُجَلَّدَةً لَطِيفَةً
وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَى كَلَامِهِ لِيُعْلَمَ مِقْدَارُ
الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ وَأَنَّهُ بَحْرٌ قَطَرَاتُهُ لَا
تُنْزَفُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَحَلَّ الْعَقْلِ أَوْ
مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ عِلْمِ
الْآثَارِ حَتَّى يُشْتَغَلَ بِذِكْرِهَا وَذِكْرِ
الْخِلَافِ فِيهَا.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: تَعِسَ) فِي الْقَامُوسِ كَسَمِعَ وَمَنَعَ
وَإِذَا خَاطَبْت قُلْت تَعَسَ كَمَنَعَ وَإِذَا حَكَيْت
قُلْت تَعِسَ كَفَرِحَ وَهُوَ الْهَلَاكُ وَالْعِثَارُ
وَالسُّقُوطُ وَالشَّرُّ وَالْبُعْدُ وَالِانْحِطَاطُ
(عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ)
الثَّوْبُ الَّذِي لَهُ خَمْلٌ (إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ
وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ) أَرَادَ بِعَبْدِ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ مَنْ اسْتَعْبَدَتْهُ الدُّنْيَا
يَطْلُبُهَا وَصَارَ كَالْعَبْدِ لَهَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ
تَصَرُّفَ الْمَالِكِ لِيَنَالَهَا وَيَنْغَمِسَ فِي
شَهَوَاتِهَا وَمُطَالَبِهَا وَذِكْرُ الدِّينَارِ
وَالْقَطِيفَةِ مُجَرَّدُ مِثَالٍ وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ
اسْتَعْبَدَتْهُ الدُّنْيَا فِي أَيِّ أَمْرٍ وَشَغَلَتْهُ
عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَ رِضَاهُ
وَسَخَطَهُ مُتَعَلِّقًا بِنَيْلِ مَا يُرِيدُ أَوْ عَدَمِ
نَيْلِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَسْتَعْبِدُهُ حُبُّ الْإِمَارَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَعْبِدُهُ حُبُّ الصُّوَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَعْبِدُهُ حُبُّ الْأَطْيَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ
الْمَذْمُومَ مِنْ الدُّنْيَا كُلُّ مَا يُبْعِدُ
الْعَبْدَ
(2/644)
(1383) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبَيَّ،
فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ، أَوْ
عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْت فَلَا تَنْتَظِرْ
الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْت فَلَا تَنْتَظِرْ
الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِسَقَمِك، وَمِنْ
حَيَاتِك لِمَوْتِك. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَيَشْغَلُهُ عَنْ وَاجِبِ
طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لَا مَا يُعِينُهُ عَلَى
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ
وَقَدْ يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ
تَحْصِيلُهُ وَقَوْلُهُ (رَضِيَ) أَيْ عَنْ اللَّهِ بِمَا
نَالَهُ مِنْ حُطَامِهَا (وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ)
أَيْ عَنْهُ تَعَالَى وَلَا عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ
سَاخِطًا فَهَذَا الَّذِي تَعِسَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ
رِضَاهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَسَخَطَهُ عَلَى نَيْلِ
الدُّنْيَا وَعَدَمِهِ. وَالْحَدِيثُ نَظِيرُ قَوْله
تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:
11] الْآيَةَ.
[التحذير مِنْ حب الدنيا والانشغال عَنْ طاعة اللَّه]
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ:
أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبَيَّ) يُرْوَى بِالْإِفْرَادِ
وَالتَّثْنِيَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ مَجْمَعُ
الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ (فَقَالَ «كُنْ فِي الدُّنْيَا
كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا
أَمْسَيْت فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْت
فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك
لِسَقَمِك وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك " أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ) الْغَرِيبُ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ
يَأْوِيهِ وَلَا سَكَنَ يَأْنَسُ بِهِ وَلَا بَلَدَ
يَسْتَوْطِنُ فِيهِ كَمَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ سَعِدَ
الْمَسِيحُ يَسِيحُ لَا وَلَدَ يَمُوتُ وَلَا بِنَاءَ
يَخْرَبُ. وَعَطْفُ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ مِنْ بَابِ
عَطْفِ التَّرَقِّي وَأَوْ لَيْسَتْ لِلشَّكِّ بَلْ
لِلتَّخْيِيرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، وَالْأَمْرُ
لِلْإِرْشَادِ وَالْمَعْنَى: قَدِّرْ نَفْسَك وَنَزِّلْهَا
مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؛
لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْتَوْطِنُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ
أَوْ لِلْإِضْرَابِ وَالْمَعْنَى: بَلْ كُنَّ فِي
الدُّنْيَا كَأَنَّك عَابِرُ سَبِيلٍ؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ
قَدْ يَسْتَوْطِنُ بَلَدًا بِخِلَافِ عَابِرِ السَّبِيلِ
فَهَمُّهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إلَى مَقْصِدِهِ
وَالْمَقْصِدُ هُنَا إلَى اللَّهِ {وَأَنَّ إِلَى
(2/645)
(1384) - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَشَبَّهَ
بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد،
وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ:
لَمَّا كَانَ الْغَرِيبُ قَلِيلَ الِانْبِسَاطِ إلَى
النَّاسِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْحِشٌ مِنْهُمْ وَلَا يَكَادُ
يَمُرُّ بِمَنْ يَعْرِفُهُ فَيَأْنَسُ بِهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ
فِي نَفْسِهِ خَائِفٌ وَكَذَلِكَ عَابِرُ السَّبِيلِ لَا
يَنْفُذُ فِي سَفَرِهِ إلَّا بِقُوَّتِهِ وَتَخْفِيفِهِ
مِنْ الْأَثْقَالِ غَيْرُ مُتَشَبِّثٍ بِمَا يَمْنَعُهُ
عَنْ قَطْعِ سَفَرِهِ، مَعَهُ زَادُهُ وَرَاحِلَتُهُ
يُبَلِّغَانِهِ إلَى مَا يَعْنِيهِ مِنْ مَقْصِدِهِ. وَفِي
هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى إيثَارِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا
وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنْهَا وَالْكَفَافِ، فَكَمَا لَا
يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ إلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ
إلَى غَايَةِ سَفَرِهِ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا
يَحْتَاجُ فِي الدُّنْيَا إلَى أَكْثَرَ مِمَّا
يُبَلِّغُهُ الْمَحَلَّ وَقَوْلُهُ (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
إلَخْ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَلَامُ ابْنِ عُمَرَ
مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ
مُتَضَمِّنٌ لِنِهَايَةِ تَقْصِيرِ الْأَجْلِ مِنْ
الْعَاقِلِ إذَا أَمْسَى يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا
يَنْتَظِرَ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحَ يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ لَا يَنْتَظِرَ الْمَسَاءَ بَلْ يَظُنُّ أَنْ
أَجَلَهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي كَلَامِهِ
الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ
الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فَيَغْتَنِمُ أَيَّامَ صِحَّتِهِ
وَيُنْفِقُ سَاعَاتِهِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ
فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يَنْزِلُ بِهِ مَرَضٌ يَحُولُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ الطَّاعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا
مَرِضَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا فَقَدْ
أَخَذَ مِنْ صِحَّتِهِ لِمَرَضِهِ حَظَّهُ مِنْ
الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ (مِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك) أَيْ
خُذْ مِنْ أَيَّامِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّشَاطِ
لِمَوْتِك بِتَقْدِيمِ مَا يَنْفَعُك بَعْدَ الْمَوْتِ
وَهُوَ نَظِيرُ حَدِيثِ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا
مَا تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى
مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا
أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَإِنَّهُ شَرُّ
مُنْتَظَرٍ أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى
وَأَمَرُّ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)
الْحَدِيثُ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ عِنْدَ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ تُخْرِجُهُ عَنْ الضَّعْفِ، وَمِنْ
شَوَاهِدِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مَرْفُوعًا مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ كَانَ
مِنْهُمْ» وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَشَبَّهَ
بِالْفُسَّاقِ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ بِالْكُفَّارِ أَوْ
بِالْمُبْتَدِعَةِ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَصُّونَ
(2/646)
(1385) - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
«كُنْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، احْفَظْ
اللَّهَ يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك،
وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت
فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
بِهِ مِنْ مَلْبُوسٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ هَيْئَةٍ،
قَالُوا: فَإِذَا تَشَبَّهَ بِالْكَافِرِ فِي زِيٍّ
وَاعْتَقَدَ أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مِثْلَهُ كَفَرَ فَإِنْ
لَمْ يَعْتَقِدْ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكْفُرُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ.
[حفظ اللَّه أَنْ تحفظ حدوده]
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قَالَ: «كُنْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ احْفَظْ
اللَّهَ يَحْفَظْك» جَوَابُ الْأَمْرِ «احْفَظْ اللَّهَ
تَجِدْهُ» مِثْلُهُ (تُجَاهَك) فِي الْقَامُوسِ وِجَاهَك
وَتُجَاهَك مِثْلَيْنِ تِلْقَاءَ وَجْهِك (وَإِذَا
سَأَلْت) حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدَّارَيْنِ (فَاسْأَلْ
اللَّهَ) فَإِنَّ بِيَدِهِ أُمُورَهُمَا «وَإِذَا
اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَتَمَامُهُ
«وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ
يَنْفَعُوك بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ
كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ
يَضُرُّوك بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ
الصُّحُفُ» .
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ بِلَفْظِ «كُنْت رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَوْ
يَا غُلَيْمُ أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ يَنْفَعُك
اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْت بَلَى. قَالَ: احْفَظْ اللَّهَ
يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَك تَعَرَّفْ
إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفُك فِي الشِّدَّةِ،
وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت
فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ
كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ
يَنْفَعُوك بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ
يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوك
بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْك لَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا
تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ
الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرْجَ مَعَ الْكُرْبَةِ وَأَنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخَرُ وَهُوَ
حَدِيثٌ جَلِيلٌ أَفْرَدَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ
الْحَنَابِلَةِ بِتَصْنِيفٍ مُفْرَدٍ فَإِنَّهُ اشْتَمَلَ
عَلَى وَصَايَا جَلِيلَةٍ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ
(احْفَظْ اللَّهَ) أَيْ حُدُودَهُ وَعُهُودَهُ
وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ.
وَحِفْظُ ذَلِكَ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ
بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالِاجْتِنَابِ.
وَعِنْدَ حُدُودِهِ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهَا وَلَا
يَتَعَدَّى مَا أَمَرَ بِهِ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ
فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ كُلِّهَا
وَتَرْكُ الْمُنْهَيَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ تَعَالَى:
{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]
وَقَالَ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
(2/647)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
حَفِيظٍ} [ق: 32] فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الْحَفِيظَ
بِالْحَافِظِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ. وَفُسِّرَ بِالْحَافِظِ
لِذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْهَا فَأَمْرُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ اللَّهِ يَدْخُلُ
فِيهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ وَتَفَاصِيلُهَا وَاسِعَةٌ.
وَقَوْلُهُ (تَجِدْهُ أَمَامَك) وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ
(يَحْفَظْك) وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَيْ تَجِدْهُ
أَمَامَك بِالْحِفْظِ لَك مِنْ شُرُورِ الدَّارَيْنِ
جَزَاءً وِفَاقًا مِنْ بَابِ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] يَحْفَظُهُ فِي دُنْيَاهُ عَنْ
غَشَيَانِ الذُّنُوبِ. وَعَنْ كُلِّ أَمْرٍ مَرْهُوبٍ
وَيَحْفَظُ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] .
[لَا يَنْبَغِي الدُّعَاء إلَّا لِلَّهِ]
وَقَوْلُهُ: فَاسْأَلْ اللَّهَ) أَمْرٌ بِإِفْرَادِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالسُّؤَالِ وَإِنْزَالِ
الْحَاجَاتِ بِهِ وَحْدَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ
مَرْفُوعًا «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ
يَغْضَبْ عَلَيْهِ» وَفِيهِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ
«يَسْأَلُ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى
يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ» وَقَدْ
«بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا
النَّاسَ شَيْئًا مِنْهُمْ الصِّدِّيقُ وَأَبُو ذَرٍّ
وَثَوْبَانُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ
يَسْقُطُ خِطَامُ نَاقَتِهِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ
يُنَاوِلَهُ» . وَإِفْرَادُ اللَّهِ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ
دُونَ خَلْقِهِ يَدُلُّ لَهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ
فَإِنَّ السُّؤَالَ بَذْلٌ لِمَاءِ الْوَجْهِ وَذُلٌّ لَا
يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْغَنِيُّ مُطْلَقًا وَالْعِبَادُ
بِخِلَافِ هَذَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ فِيهِ «يَا
عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ
وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي
فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ
ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ
إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ» وَزَادَ فِي التِّرْمِذِيِّ
وَغَيْرِهِ «وَذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ
أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ
إذَا أَرَدْت شَيْئًا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .
1 -
وَقَوْلُهُ «إذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ»
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: 5] أَيْ نُفْرِدُك بِالِاسْتِعَانَةِ. أَمَرَهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَعِينَ
بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ أَيْ إفْرَادُهُ
بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ وَفِي إفْرَادِهِ
تَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ فَائِدَتَانِ، فَالْأُولَى
أَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهِ
فِي الطَّاعَاتِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ
عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمُعَانُ،
وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ. وَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ
بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» وَعَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِبَادَ أَنْ يَقُولُوا فِي
خُطْبَةِ الْحَاجَةِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ
«وَعَلَّمَ مُعَاذًا أَنْ يَقُولَ دُبُرَ الصَّلَاةِ
اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ
عِبَادَتِك» فَالْعَبْدُ أَحْوَجُ إلَى مَوْلَاهُ فِي
طَلَبِ إعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ
الْمَحْظُورَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ. قَالَ
سَيِّدَنَا يَعْقُوبُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ: {وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] وَمَا
ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا النَّبَوِيَّةِ لَا
يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا مِنْ
جُمْلَةِ سُؤَالِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ
طَلَبَ رِزْقَهُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ
الْمَأْذُونِ فِيهَا رُزِقَ
(2/648)
(1386) - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا
عَمِلْته أَحَبَّنِي اللَّهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ،
فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّك اللَّهُ،
وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ»
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ مِنْهُ تَعَالَى وَإِنْ حُرِمَ
فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا وَلَوْ كَشَفَ
الْغِطَاءَ لَعُلِمَ أَنَّ الْحِرْمَانَ خَيْرٌ مِنْ
الْعَطَاءِ. وَالْكَسْبُ الْمَمْدُوحُ الْمَأْجُورُ
فَاعِلُهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ لِطَلَبِ الْكِفَايَةِ
لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ أَوْ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ
إذَا كَانَ يَعُدُّهُ لِقَرْضِ مُحْتَاجٍ أَوْ صِلَةِ
رَحِمٍ أَوْ إعَانَةِ طَالِبِ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ
وُجُوهِ الْخَيْرِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ
مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَفَتْحِ بَابِ
مَحَبَّتِهَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «كَسْبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ»
أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْقُضَاعِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ
عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ ضَعِيفٌ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ «طَلَبُ الْحَلَالِ
وَاجِبٌ» وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا
«طَلَبُ الْحَلَالِ جِهَادٌ» رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ
وَمِثْلُهُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
الْعُلَمَاءُ: الْكَسْبُ الْحَلَالُ مَنْدُوبٌ أَوْ
وَاجِبٌ إلَّا لِلْعَالِمِ الْمُشْتَغِلِ بِالتَّدْرِيسِ
وَالْحَاكِمِ الْمُسْتَغْرَقَةُ أَوْقَاتُهُ فِي إقَامَةِ
الشَّرِيعَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ
الْعَامَّةِ كَالْإِمَامِ فَتَرْكُ الْكَسْبِ بِهِمْ
أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْقِيَامِ
بِمَا هُمْ فِيهِ وَيُرْزَقُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ
الْمُعَدَّةِ لِلْمَصَالِحِ.
[كيف يَكُون الْعَبْد محبوبا مِنْ اللَّه]
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته
أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ فَقَالَ:
ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا
عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ) فِيهِ خَالِدُ بْنُ عُمَرَ
الْقُرَشِيُّ مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ وَنُسِبَ إلَى
الْوَضْعِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْحَاكِمِ إنَّهُ صَحِيحٌ
وَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ
حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَنَسٍ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ إلَّا
أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَسٍ
وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا وَقَدْ حَسَّنَ النَّوَوِيُّ
الْحَدِيثَ كَأَنَّهُ لِشَوَاهِدِهِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ
عَلَى شَرَفِ الزُّهْدِ وَفَضْلِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا
لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَلِمَحَبَّةِ النَّاسِ
لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ زَهِدَ فِيمَا هُوَ عِنْدَ الْعِبَادِ
أَحَبُّوهُ؛ لِأَنَّهُ جُبِلَتْ الطَّبَائِعُ عَلَى
اسْتِثْقَالِ مَنْ أَنْزَلَ بِالْمَخْلُوقِينَ حَاجَاتِهِ
وَطَمِعَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا
بَأْسَ بِطَلَبِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ وَالسَّعْيِ فِيمَا
يُكْسِبُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ
(2/649)
(1387) - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ.
(1388) - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ
حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
إلَيْهِ أَوْ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» وَأَرْشَدَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إفْشَاءِ السَّلَامِ
فَإِنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلَى
التَّهَادِي وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ) فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ مَحَبَّةَ اللَّهِ
لِعَبْدِهِ بِأَنَّهَا إرَادَتُهُ الْخَيْرَ لَهُ
وَهِدَايَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَنَقِيضُ ذَلِكَ بُغْضُ
اللَّهِ لَهُ. وَالتَّقِيُّ هُوَ الْآتِي بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِ الْمُجْتَنِبُ لِمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ،
وَالْغِنَى هُوَ غِنَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ الْغِنَى
الْمَحْبُوبُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «لَيْسَ الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ
الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» ، وَأَشَارَ عِيَاضٌ إلَى أَنَّ
الْمُرَادُ بِهِ غِنَى الْمَالِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ،
وَالْخَفِيُّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَالْفَاءِ أَيْ
الْخَامِلُ الْمُنْقَطِعُ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ،
وَالِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ نَفْسِهِ وَضَبَطَهُ بَعْضُ
رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ لِلرَّحِمِ
اللَّطِيفُ بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ،
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ الِاعْتِزَالِ وَتَرْكِ
الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ
مَا لَا يَعْنِيه» أَيْ يُهِمُّهُ مِنْ عَنَاهُ يَعْنُوهُ
وَيُعْنِيه أَهَمَّهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
حَسَنٌ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ
النَّبَوِيَّةِ يَعُمُّ الْأَقْوَالُ كَمَا رُوِيَ أَنَّ
فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ
عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا
فِيمَا يَعْنِيه وَيَعُمُّ الْأَفْعَالَ فَيَنْدَرِجُ
فِيهِ تَرْكُ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ
الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ
وَالثَّنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ
(2/650)
(1389) - وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ
يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً
شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
إلَيْهِ الْمَرْءُ فِي إصْلَاحِ دِينِهِ وَكِفَايَتِهِ
مِنْ دُنْيَاهُ.
وَأَمَّا اشْتِغَالُ الْعُلَمَاءِ بِالْمَسَائِلِ
الْفَرْضِيَّةِ فَقِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الِاشْتِغَالِ
بِمَا لَا يَعْنِي بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤْجَرُونَ فِيهِ؛
لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا مِنْ الْأَحَادِيثِ
النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَقِلُّ
الْعِلْمُ وَيَفْشُو الْجَهْلُ اجْتَهَدُوا فِي ذَلِكَ
لِمَا يَأْتِي مِنْ الزَّمَانِ، وَمَنْ يَأْتِي مِنْ
الْعِبَادِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ
مَعَ عَجْزِهِمْ عَنْ الْبَحْثِ، فَإِنَّهُمْ أَتْعَبُوا
الْقَرَائِحَ وَخَرَّجُوا التَّخَارِيجَ وَقَدَّرُوا
التَّقَادِيرَ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (قُلْت)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَخْرِيجَ التَّخَارِيجِ وَتَقْدِيرَ
التَّقَادِيرِ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ الْمَحْمُودِ؛
لِأَنَّ غَايَتَهَا أَقْوَالٌ خَرَجَتْ مِنْ أَقْوَالِ
الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَتْ أَقْوَالًا لَهُمْ وَلَا
أَقْوَالًا لِمَنْ يُخْرِجُهَا وَلَا احْتِيَاجَ إلَيْهَا،
وَالْعَمَلُ بِهَا مُشْكِلٌ إذْ لَيْسَتْ لِقَائِلٍ إذْ
الْقَائِلُ بِهَا لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ ضَرُورَةً فَلَا
يُقَلَّدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَلَّدُ مُجْتَهِدٌ
عَدْلٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْمُخَرِّجِينَ لَيْسُوا
مُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ التَّقَادِيرِ،
فَإِنَّهُ قِسْمٌ مِنْ التَّخَارِيجِ إذْ غَالِبُ مَا
يُقَدَّرُ أَنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ بِأَقْوَالِ
الْمُخَرِّجِينَ وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ: - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - الْعِلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا الْجُهَّالُ بَلْ
هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتُ فِي التَّخَارِيجِ كَانَتْ
مَضَرَّةً لِلنَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ
شَغَلَتْ النَّاظِرِينَ عَنْ النَّظَرِ فِيهِمَا وَنَيْلِ
بَرَكَتِهِمَا فَقَطَعُوا الْأَعْمَارَ فِي تَقْرِيرِ
تِلْكَ التَّخَارِيجِ وَقَدْ أَشْبَعَ الْكَلَامَ عَنْ
ذَلِكَ وَعَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ
عُلَمَاءِ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهَا
قَدْ عَمَّ كُلَّ فَرِيقٍ.
[النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْأَكْل]
(وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ.»
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ) وَأَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ
فِي صَحِيحِهِ وَتَمَامُهُ «فَحَسْبُ ابْنُ آدَمَ
أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا
مَحَالَةَ» (وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ) : «فَإِنْ
غَلَبَتْ ابْنَ آدَمَ نَفْسُهُ فَثُلُثًا لِطَعَامِهِ،
وَثُلُثًا لِشَرَابِهِ، وَثُلُثًا لِنَفَسِهِ» ،
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّوَسُّعِ فِي
الْمَأْكُولِ وَالشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ، وَالْإِخْبَارُ
عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ
الدِّينِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ فُضُولَ
الطَّعَامِ مَجْلَبَةٌ لِلسَّقَامِ وَمُثَبِّطَةٌ عَنْ
الْقِيَامِ بِالْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْإِرْشَادُ إلَى
جَعْلِ الْأَكْلِ ثُلُثَ مَا يَدْخُلُ الْمِعْدَةَ مِنْ
أَفْضَلِ مَا أَرْشَدَ إلَيْهِ سَيِّدُ الْأَنَامِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ يُخَفِّفُ
عَلَى الْمِعْدَةِ وَيَسْتَمِدُّ مِنْ الْبَدَنِ
الْغِذَاءَ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْقُوَى وَلَا يَتَوَلَّدُ
عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْوَاءِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ
(2/651)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
شَيْءٌ كَثِيرٌ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ فَقَدْ أَخْرَجَ
الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا رِجَالُهُ
ثِقَاتٌ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي
الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي
جُحَيْفَةَ لَمَّا تَجَشَّأَ فَقَالَ: مَا مَلَأْت بَطْنِي
مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادِ حَسَنٍ «وَأَهْلُ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا
هُمْ أَهْلُ الْجُوعِ غَدًا فِي الْآخِرَةِ» زَادَ
الْبَيْهَقِيُّ «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ
الْكَافِرِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى
رَجُلًا عَظِيمَ الْبَطْنِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ
كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَك» .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَخْرَجَهُ
الشَّيْخَانِ مُخْتَصَرًا «لَيُؤْتَيَنَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِالْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ
الشَّرُوبِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] » وَأَخْرَجَ ابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إلَى حَجَرٍ
فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رُبَّ
نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٍ
عَارِيَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ
لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ أَلَا رُبَّ مُهِينٌ
لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ» وَصَحَّ حَدِيثُ «مِنْ
الْإِسْرَافِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْت» .
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ
لَهِيعَةَ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: رَآنِي النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَكَلْت فِي
الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَّا
تُحِبِّينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَك شُغْلٌ إلَّا جَوْفَك؛
الْأَكْلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ الْإِسْرَافِ
وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» وَصَحَّ «كُلُوا
وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا
مَخِيلَةٍ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «سَيَكُونُ رِجَالٌ
مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ
وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ
أَلْوَانَ الثِّيَابِ وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ
فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا
امْتَلَأَتْ الْمِعْدَةُ نَامَتْ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتْ
الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ،
وَفِي الْخُلُوِّ عَنْ الطَّعَامِ فَوَائِدُ وَفِي
الِامْتِلَاءِ مَفَاسِدُ فَفِي الْجُوعِ صَفَاءُ الْقَلْبِ
وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ
الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ
وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الْمَعِدَةِ وَالدِّمَاغِ
كَشَبَهِ السُّكْرِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ
الْفِكْرِ فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنْ
الْجَرَيَانِ فِي الْأَفْكَارِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ كَسْرُ
شَهْوَةِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى
النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنَّ مَنْشَأَ
الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ، وَالْقُوَى وَمَادَّةُ
الْقُوَى الشَّهَوَاتُ وَالشَّهَوَاتُ لَا مَحَالَةَ
الْأَطْعِمَةُ فَتَقْلِيلُهَا يُضَعِّفُ كُلَّ شَهْوَةٍ
وَقُوَّةٍ، وَإِنَّمَا السَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ
يَمْلِكَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَالشَّقَاوَةُ كُلُّهَا فِي
أَنْ تَمْلِكَهُ نَفْسُهُ.
قَالَ ذُو النُّونِ: مَا شَبِعْت قَطُّ إلَّا عَصَيْت أَوْ
هَمَمْت بِمَعْصِيَةٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الشِّبَعُ إنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَبِعَتْ بُطُونَهُمْ
جَمَحَتْ بِهِمْ نُفُوسُهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَيُقَالُ:
الْجُوعُ خِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ وَأَوَّلُ مَا
يَنْدَفِعُ بِالْجُوعِ شَهْوَةُ الْفَرْجِ وَشَهْوَةُ
الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْجَائِعَ لَا تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ
شَهْوَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْ آفَاتِ
اللِّسَانِ، وَلَا يَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ
الْفَرْجِ فَيَخْلُصُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي
(2/652)
(1390) - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ،
وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ.
(1391) - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الصَّمْتُ حِكْمَةٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلَهُ»
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدِ
ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ
لُقْمَانَ الْحَكِيمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
الْحَرَامِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ قِلَّةُ النَّوْمِ، فَإِنَّ
مَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ طَوِيلًا
وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ خُسْرَانُ الدَّارَيْنِ
وَفَوَاتُ كُلِّ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ
وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ عَشْرَ فَوَائِدَ
لِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَعَدَّ عَشْرَ مَفَاسِدَ
لِلتَّوَسُّعِ مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ
يُعَوِّدَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَمِيلُ إلَى
الشَّرَهِ وَيَصْعُبُ تَدَارُكُهَا وَلْيُرِضْهَا مِنْ
أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى السَّدَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
أَهْوَنُ لَهُ مِنْ أَنْ يُجَرِّئُهَا عَلَى الْفَسَادِ،
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِطَالَةَ إذْ هُوَ مِنْ
الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ الَّتِي قَدْ جَرَّبَهَا
كُلُّ إنْسَانٍ، وَالتَّجْرِبَةُ مِنْ أَقْسَامِ
الْبُرْهَانِ.
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءُونَ» أَيْ كَثِيرُو الْخَطَأِ
إذْ هُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ «وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ
التَّوَّابُونَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ) ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْخَطِيئَةِ إنْسَانٌ لِمَا
جُبِلَ عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الضَّعْفِ وَعَدَمِ
الِانْقِيَادِ لِمَوْلَاهُ فِي فِعْلِ مَا إلَيْهِ دَعَاهُ
وَتَرْكِ مَا عَنْهُ نَهَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى
بِلُطْفِهِ فَتْحَ بَابَ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ
الْمُكْثِرُونَ لِلتَّوْبَةِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ
الْخَطَأِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ
الْعَبْدَ إذَا عَصَى اللَّهَ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَلَنْ يَهْلِكَ عَلَى
اللَّهِ إلَّا هَالِكٌ، وَقَدْ خُصَّ مِنْ هَذَا
الْعُمُومِ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ مَا هَمَّ بِخَطِيئَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَقِيَهُ إبْلِيسُ وَمَعَهُ مَعَالِيقُ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: هِيَ
الشَّهَوَاتُ الَّتِي أُصِيبُ بِهَا بَنِي آدَمَ فَقَالَ
هَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: رُبَّمَا شَبِعْت
فَشَغَلْنَاك عَنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ قَالَ: هَلْ
غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا
أَمْلَأَ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا فَقَالَ إبْلِيسُ:
لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا.
(2/653)
(1392) - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ، وَالْحَسَدَ،
فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ
النَّارُ الْحَطَبَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سبل السلام]
[فَضْل الصمت وقلة الْكَلَام]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلَهُ» . أَخْرَجَهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدِ ضَعِيفٍ وَصَحَّحَ
أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ) ،
وَسَبَبُهُ أَنَّ لُقْمَانَ دَخَلَ عَلَى دَاوُد -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَآهُ يَسْرُدُ دِرْعًا لَمْ
يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا
رَأَى فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَنَعَتْهُ
حِكْمَتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَتَرَكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ
فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ دَاوُد وَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ:
نِعْمَ الدِّرْعُ لِلْحَرْبِ فَقَالَ لُقْمَانُ الصَّمْتُ
حِكْمَةٌ - الْحَدِيثَ وَقِيلَ تَرَدَّدَ إلَيْهِ سَنَةً،
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ الصَّمْتِ وَمَدْحِهِ،
وَالْمُرَادُ بِهِ عَنْ فُضُولِ الْكَلَامِ (وَقَدْ)
وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ دَالَّةٌ عَلَى مَدْحِ
الصَّمْتِ وَمَدَحَهُ الْعُقَلَاءُ وَالشُّعَرَاءُ. وَفِي
الْحَدِيثِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» «وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ
عَامِرٍ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا النَّجَاةُ، قَالَ أَمْسِكْ
عَلَيْك لِسَانَك» الْحَدِيثَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِمَا بَيْنَ
لَحْيَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ»
«وَقَالَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ
قَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسُ عَلَى
مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت» الْأَحَادِيثُ فِيهِ وَاسِعَةٌ
جِدًّا، وَالْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ كَذَلِكَ، وَاعْلَمْ
أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ، بَلْ الْمُهِمُّ
مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}
[النساء: 114] ، وَآفَاتُهُ لَا تَنْحَصِرُ فَعَدَّ
مِنْهَا الْخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ
لِلْمَعَاصِي مِنْ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَمَجَالِسِ
الْخَمْرِ وَمَوَاقِفِ الْفَسَادِ وَتَنَعُّمِ
الْأَغْنِيَاءِ وَتَجَبُّرِ الْمُلُوكِ وَمَوَاسِمِهِمْ
الْمَذْمُومَةِ وَأَحْوَالِهِمْ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّ
كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحِلُّ الْخَوْضُ فِيهِ، فَهَذَا
حَرَامٌ.
وَمِنْهَا الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَكَفَى بِهَا
هَلَاكًا فِي الدِّينِ وَمِنْهَا الْمِرَاءُ،
وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْمُزَاحُ. وَمِنْهَا الْخُصُومَةُ
وَالسَّبُّ، وَالْفُحْشُ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ
وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالنَّاسِ وَالسُّخْرِيَةُ،
وَالْكَذِبُ، وَقَدْ عَدَّ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ
عِشْرِينَ آفَةً وَذَكَرَ فِي كُلِّ آفَةٍ كَلَامًا
بَسِيطًا حَسَنًا، وَذَكَرَ عِلَاجَ هَذِهِ الْآفَاتِ.
(2/654)
وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ |