نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب الصلاة‏
قال النووي في شرح مسلم‏:‏ اختلف العلماء في أصل الصلاة فقيل هي الدعاء لاشتمالها عليه وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم‏.‏ وقيل لأنها ثانية لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في خيل الحلبة‏.‏ وقيل هي من الصلوين وهما عرقان مع الردف‏.‏ وقيل هما عظمان‏.‏ وقيل هي من الرحمة‏.‏ وقيل أصلها الإقبال على الشيء‏.‏ وقيل غير ذلك انتهى‏.‏
باب افتراضها ومتى كان
1- عن عبد اللَّه بن عمر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏على خمس‏"‏ في بعض الروايات خمسة بالهاء وكلاهما صحيح فالمراد برواية الهاء خمسة أركان أو أشياء أو نحو ذلك وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحو ذلك‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏شهادة‏"‏ بالجر على البدل ويجوز رفعه خبر المبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وتقديره أحدها أو منها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإقام الصلاة‏"‏ أي المداومة عليها‏.‏والحديث يدل على أن كمال الإسلام وتمامه بهذه الخمس فهو كخباء أقيم على خمسة أعمدة وقطبها الذي يدور عليه الأركان الشهادة وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء‏.‏ فظهر من هذا التمثيل أن الإسلام غير الأركان كما أن البيت

 

ج / 1 ص -285-       غير الأعمدة والأعمدة غيره وهذا مستقيم على مذهب أهل السنة لأن الإسلام عندهم التصديق بالقول والعمل والحديث أورده عبد اللَّه بن عمر في جواب من قال له ألا تغزو فقال‏:‏ ‏"‏إني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول بني الإسلام‏"‏ الحديث فاستدل به ابن عمر على عدم وجوب غير ما اشتمل عليه ومن جملة ذلك الغزو لأن الإسلام بني على خمس ليس هو منها‏.‏قال النووي في شرح مسلم‏:‏ اعلم أن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده وقد جمع أركانه‏.‏
2- وعن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏"‏فرضت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم الصلوات ليلة أُسرِي به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسًا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لديَّ وإن لك بهذه الخمس خمسين‏"‏‏.‏رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه‏.‏
الحديث في الصحيحين بلفظ‏:‏ ‏
"‏هي خمس وهي خمسون‏"‏ وبلفظ‏:‏ ‏"‏هن خمس وهن خمسون‏"‏ المراد أنها خمس في العدد وخمسون في الأجر والاعتداد‏.‏والحديث طرف من حديث الإسراء الطويل‏.‏ وقد استدل به على عدم فرضية ما زاد على الخمس الصلوات كالوتر وعلى دخول النسخ في الإنشاآت ولو كانت مؤكدة خلافًا لقوم فيما أكد‏.‏ وعلى جواز النسخ قبل الفعل وإليه ذهبت الأشاعرة قال ابن بطال وغيره‏:‏ في بيان وجه الدلالة ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب وتعقبه ابن المنير فقال‏:‏ هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة لكونهم اتفقوا جميعًا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ فهو مشكل عليهم جميعًا قال‏:‏ وهذه نكتة مبتكرة‏.‏قال الحافظ في الفتح‏:‏ قلت إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع وإن أراد قبل البلاغ إلى الأمة فمسلم ولكن قد يقال ليس هو بالنسبة إليهم نسخًا لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأنه كلف بذلك قطعًا ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل فالمسألة صحيحة التصوير في حقه صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏ 3- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت‏:‏ ‏"‏فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعًا وتركت صلاة السفر على الأول‏"‏‏.‏رواه أحمد والبخاري‏.‏
زاد أحمد من طريق ابن كيسان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا‏.‏والحديث يدل على وجوب القصر وأنه عزيمة لا رخصة وقد أخذ بظاهره الحنفية والهادوية واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه ‏
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}‏ ونفي الجناح لا يدل على العزيمة والقصر إنما يكون من شيء أطول منه قالوا‏:‏ ويدل على أنه رخصة قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم‏"‏ وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة قاله

 

ج / 1 ص -286-       الخطابي وغيره‏.‏قال الحافظ‏:‏ وفي هذا الجواب نظر أما أولًا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع وأما ثانيًا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة لأنه يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أو عن صحابي آخر أدرك ذلك‏.‏
وأما قول إمام الحرمين لو كان ثابتًا لنقل متواترًا ففيه نظر لأن التواتر في مثل هذا غير لازم وقالوا أيضًا يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس‏:‏
‏"‏فرضت الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏- والجواب - أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس فلا تعارض وذلك بأن يقال إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار‏"‏ انتهى‏.‏
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة‏.‏ ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها‏.‏
وقيل كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه‏.‏ وقيل بعد الهجرة بأربعين يومًا فعلى هذا المراد بقول عائشة‏:‏ ‏"‏فأقرت صلاة السفر‏"‏ أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف‏.‏
والمصنف ساق الحديث للاستدلال به على فرضية الصلاة لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة ولعله يأتي تحقيق ما هو الحق في باب صلاة السفر إن شاء اللَّه تعالى‏.‏
2- وعن طلحة بن عبيد اللَّه‏:‏ ‏"‏أن أعرابيًا جاء إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثائر الرأس فقال‏:‏ يا رسول اللَّه أخبرني ما فرض اللَّه عليَّ من الصلاة قال‏:‏
الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا قال‏:‏ أخبرني ما فرض اللَّه عليَّ من الصيام قال‏:‏ شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا قال‏:‏ أخبرني ما فرض اللَّه عليَّ من الزكاة قال‏:‏ فأخبره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بشرائع الإسلام كلها فقال‏:‏ والذي أكرمك لا أطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض اللَّه عليَّ شيئًا فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ وغير هؤلاء‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏أن أعرابيًا‏"‏ في رواية ‏"‏جاء رجل‏"‏ زاد أبو داود ‏"‏من أهل نجد‏"‏ وكذا في مسلم والموطأ‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏ثائر الرأس‏"‏ هو مرفوع على الوصف على رواية جاء رجل ويجوز نصبه على الحال والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة‏.‏وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن

 

ج / 1 ص -287-       الشعر منه ينبت‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن تطوع‏"‏ بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏والذي أكرمك‏"‏ وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري ‏"‏واللَّه‏"‏‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏أفلح إن صدق‏"‏ وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر ‏"‏أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق‏"‏ ولأبي داود مثله‏.‏ ‏"‏فإن قيل‏"‏ ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء أجيب عن ذلك بأنه كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال ورب أبيه أو أنه خاص ويحتاج إلى دليل‏.‏وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال‏:‏ هو تصحيف وإنما كان واللَّه فقصرت اللامان واستنكره القرطبي وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ‏:‏ ‏"‏وأبيه‏"‏ لم تصح وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وأقوى الأجوبة الأولان‏.‏والحديث يدل على فرضية الصلاة وما ذكر معها على العباد‏.‏ قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ فيه مستدل لمن لم يوجب صلاة الوتر ولا صلاة العيد انتهى‏.‏وقد أوجب قوم الوتر وآخرون ركعتي الفجر وآخرون صلاة الضحى وآخرون صلاة العيد وآخرون ركعتي المغرب وآخرون صلاة التحية ومنهم من لم يوجب شيئًا من ذلك وجعل هذا الحديث صارفًا لما ورد بعده من الأدلة المشعرة بالوجوب‏.‏وفي الحديث أيضًا دليل على عدم وجوب صوم عاشوراء وهو إجماع وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وفيه غير ذلك وقد جعل هذا الحديث دليلًا على عدم وجوب ما ذكر نظر عندي لأن ما وقع في مبادئ التعاليم لا يصح التعلق به في صرف ما ورد بعده وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة وأنه خرق للإجماع وإبطال لجمهور الشريعة فالحق أنه يؤخذ بالدليل المتأخر إذا ورد موردًا صحيحًا ويعمل بما يقتضيه من وجوب أو ندب أو نحوهما وفي المسألة خلاف وهذا أرجح القولين‏.‏ والبحث مما ينبغي لطالب الحق أن يمعن النظر فيه ويطيل التدبر فإن معرفة الحق فيه من أهم المطالب العلمية لما ينبني عليه من المسائل البالغة إلى حد يقصر عنه العد‏.‏وقد أعان اللَّه وله الحمد على جمع رسالة في خصوص هذا المبحث وقد أشرت إلى هذه القاعدة في عدة مباحث في غير هذا الباب وهذا موضع عرض ذكرها فيه‏.‏

باب قتل تارك الصلاة
1- عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه عز وجل‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏ ولأحمد مثله من حديث أبي هريرة‏.

 

ج / 1 ص -288-       قوله‏:‏ ‏"‏أمرت‏"‏ قال الخطابي‏:‏ معلوم أن المراد بقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا اللَّه ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف وهذا التخصيص بأهل الأوثان إنما يحتاج إليه في الحديث الذي اقتصر فيه على ذكر الشهادة وجعلت لمجردها موجبة للعصمة‏.‏ وأما حديث الباب فلا يحتاج إلى ذلك لأن العصمة متوقفة على كمال تلك الأمور ولا يمكن وجودها جميعًا من غير مسلم‏.‏والحديث يدل على أن من أخل بواحدة منها فهو حلال الدم والمال إذا لم يتب وسيأتي ذكر الخلاف وبيان ما هو الحق في الباب الذي بعد هذا‏.‏ وفي الاستتابة وصفتها ومدتها خلاف المعروف في الفقه‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏إلا بحق الإسلام‏"‏ المراد ما وجب به من شرائع الإسلام إراقة الدم كالقصاص وزنا المحصن ونحو ذلك أو حل به أخذ جزء من المال كأروش الجنايات وقيم المتلفات وما وجب من النفقات وما أشبه ذلك‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏وحسابهم على اللَّه‏"‏ المراد فيما يستسر به ويخفيه دون ما يعلنه ويبديه‏.‏ وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء‏.‏وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل قاله الخطابي‏.‏وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه‏.‏ قال النووي‏:‏ وقد اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر الشرع جملة قال‏:‏ فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا والأصوب فيها‏:‏ قبولها مطلقًا للأحاديث الصحيحة المطلقة‏.‏ والثاني‏:‏ لا تقبل ويتحتم قتله لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة فكان من أهل الجنة‏.‏ والثالث‏:‏ إن تاب مرة واحدة قبلت توبته فإن تكرر ذلك منه لم تقبل‏.‏ والرابع‏:‏ إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا‏.‏ والخامس‏:‏ إن كان داعيًا إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل‏.‏قال النووي‏:‏ وأيضًا ولا بد مع هذا يعني القيام بالأمور المذكورة في الحديث من الإيمان بجميع ما جاء به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما جاء في الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنف وهي من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم بلفظ‏:‏ ‏"‏حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏"‏‏.‏
2- وعن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏"‏لما توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ارتدت العرب فقال‏:‏ يا أبا بكر كيف نقاتل العرب فقال أبو بكر‏:‏ إنما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة‏"‏‏.‏رواه النسائي‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا البيهقي في السنن وإسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا عمران أبو العوام حدثنا معمر عن الزهري عن أنس فذكره وكلهم من رجال الصحيح إلا عمران أبو العوام فإنه صدوق يهم ولكن قد ثبت معناه في الصحيحين لكن بدون أنه قال ذلك أبو بكر في مراجعته لعمر بل الذي فيهما أن عمر احتج على أبي بكر

 

ج / 1 ص -289-       لما عزم على قتال أهل الردة بقول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه فمن قال لا إله إلا اللَّه فقد عصم نفسه وماله فقال له أبو بكر‏:‏ واللَّه لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال واللَّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه‏"‏‏.‏قال النووي‏:‏ وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي اللَّه عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة يعني من الأحاديث التي فيها ذكر الصلاة والزكاة فإن عمر لو سمع لما خالف ولما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم اهـ‏.‏ وإنما ذكرنا هذا الكلام للتعريف بأن المشهور عند أهل الصحيح والشارحين له خلاف ما ذكره النسائي في هذه الرواية وسيأتي الكلام على مراجعة أبي بكر وعمر مبسوطًا في كتاب الزكاة‏.‏والحديث يدل على ما دل عليه الذي قبله من أن المخل بواحدة من هذه الخصال حلال الدم ومباح المال‏.‏
3- وعن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ‏"‏بعث علي عليه السلام وهو باليمن إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذهبية فقسمها بين أربعة فقال رجل‏:‏ يا رسول اللَّه اتق فقال‏:‏
ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي اللَّه ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد‏:‏ يا رسول اللَّه ألا أضرب عنقه فقال‏:‏ لا لعله أن يكون يصلي فقال خالد‏:‏ وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم‏"‏‏.‏مختصر من حديث متفق عليه‏.‏
الحديث اختصره المصنف وترك أطرافًا من أوائله وتمامه قال‏:‏
‏"‏ثم نظر إليه وهو مقف فقال‏:‏ إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه لينًا رطبًا لئن أدركتهم لأقتلهن قتل ثمود‏"‏ انتهى‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏بذهيبة‏"‏ على التصغير‏.‏ وفي رواية بذهبة بفتح الذال‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏بين أربعة‏"‏ هم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل كذا في صحيح مسلم‏.‏قال النووي‏:‏ قال العلماء ذكر عامر هنا غلط ظاهر لأنه توفي قبل هذا بسنين والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم به في باقي الروايات‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏فقال خالد بن الوليد‏"‏ في رواية عمر بن الخطاب وليس بينهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏لعله أن يكون يصلي‏"‏ فيه أن الصلاة موجبة لحقن الدم ولكن مع بقية الأمور المذكورة في الأحاديث الآخرة‏.‏قوله‏:‏ ‏"‏لم أومر أن أنقب‏"‏ الخ معناه إني أمرت بالحكم بالظاهر واللَّه متولي السرائر كما قال صلى اللَّه عليه وسلم ‏"‏فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه‏"‏‏.‏ والحديث استدل به على كفر الخوارج لأنهم المرادون بقوله في آخره ‏"‏قوم يتلون كتاب اللَّه‏"‏ كما صرح بذلك شراح الحديث وغيرهم‏.‏ وقد اختلف الناس في ذلك قال النووي بعد أن صرح هو والخطابي

 

ج / 1 ص -290-       بأن الحديث وأمثاله يدل على كفر الخوارج‏:‏ وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا من سائر المسائل ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق في الكلام عليها فاعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه لأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيم في الدين‏.‏ وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني وناهيك به في علم الأصول وأشار ابن الباقلاني إلى أنها من المعوصات لأن القوم لم يصرحوا بالتكفير وإنما قالوا قولًا يؤدي إلى ذلك‏.‏ وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الإشكال وذلك أن المعتزلي مثلًا إذا قال إن اللَّه تعالى عالم ولكن لا علم له وحي ولا حياة له وقع الاشتباه في تكفيره لأنا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال أن اللَّه ليس بحي ولا عالم كان كافرًا وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له فهل يقول إن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون اللَّه عالمًا أو يقول قد اعترف بأن اللَّه تعالى عالم فلا يكون نفيه للعلم نفيًا للعالم هذا موضوع الإشكال‏.‏ قال‏:‏ هذا كلام الماوردي ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء أن الخوارج لا يكفرون‏.‏ قال الشافعي‏:‏ أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم وسيأتي الكلام على الخوارج مبسوطًا في كتاب الحدود‏.‏وقد استدل المصنف بالحديث على قبول توبة الزنديق فقال‏:‏ وفيه دليل لمن يقبل توبة الزنديق انتهى‏.‏ وقد تقدم الكلام على ذلك وما ذكره متوقف على أن مجرد قوله لرسول اللَّه ‏"‏اتق اللَّه‏"‏ زندقة وهو خلاف ما عرف به العلماء الزنديق‏.‏وقد ثبت في رواية أخرى في الصحيح أنه قال ‏"‏واللَّه إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه اللَّه‏"‏ والاستدلال بمثل هذا على ما زعمه المصنف أظهر‏.‏قال القاضي عياض‏:‏ حكم الشرع أن من سب النبي صلى اللَّه عليه وسلم كفر وقتل ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل‏.‏ قال المازري‏:‏ يحتمل أن يكون لم يفهم منع الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة ويحتمل أن يكون استدلال المصنف ناظرًا إلى قوله في الحديث ‏"‏لعله يصلي‏"‏ وإلى قوله‏:‏ ‏"‏لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس‏"‏ فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي فإذا كان الزنديق قد أظهر التوبة وفعل أفعال الإسلام كان معصوم الدم‏.‏
-4 وعن عبيد اللَّه بن عدي بن الخيار‏:‏ ‏"‏أن رجلًا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال‏:‏
أليس يشهد أن لا إله إلا اللَّه قال الأنصاري‏:‏ بلى يا رسول اللَّه ولا شهادة له قال‏:‏ أليس يشهد أن محمدًا رسول اللَّه قال‏:‏ بلى ولا شهادة له قال‏:‏ أليس يصلي قال‏:‏ بلى ولا صلاة له قال‏:‏ أولئك الذين نهاني اللَّه عن قتلهم‏"‏‏.‏رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما‏.‏

 

ج / 1 ص -291-       الحديث أخرجه أيضًا مالك في الموطأ وفيه دلالة على أن الواجب المعاملة للناس بما يعرف من ظواهر أحوالهم من دون تفتيش وتنقيش فإن ذلك مما لم يتعبدنا اللَّه به ولذلك قال‏:‏ ‏"‏إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس‏"‏ وقال لأسامة لما قال له إنما قال ما قال يا رسول اللَّه تقية يعني الشهادة‏:‏ ‏"‏هل شققت عن قلبه‏"‏ واعتباره صلى اللَّه عليه وسلم لظواهر الأحوال كان ديدنًا له وهجيرًا في جميع أموره منها قوله صلى اللَّه عليه وسلم لعمه العباس لما اعتذر له يوم بدر بأنه مكره فقال له‏:‏ ‏"‏كان ظاهرك علينا‏"‏ وكذلك حديث‏:‏ ‏"‏إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من نار‏"‏ وكذلك حديث‏:‏ ‏"‏إنما نحكم بالظاهر‏"‏ وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى اللَّه عليه وسلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال‏.

باب حجة من كفَّر تارك الصلاة
1- عن جابر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة‏"‏‏.‏رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي‏.‏
الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرًا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة وإن كان تركه لها تكاسلًا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف الناس في ذلك فذهبت العترة والجماهير من السلف والخلف منهم مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق فإن تاب وإلا قتلناه حدًا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف‏.‏وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وبه قال عبد اللَّه بن المبارك وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي‏.‏وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي‏.‏احتج الأولون على عدم كفره بقول اللَّه عز وجل:
{‏ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}‏ وبما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من الأدلة‏.‏واحتجوا على قتله بقوله تعالى ‏{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ‏}‏ وبقوله صلى اللَّه عليه وسلم ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏"‏ الحديث متفق عليه‏.‏ وتأولوا قوله صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة‏"‏ وسائر أحاديث الباب على أنه مستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو على أن فعله فعل الكفار‏.‏واحتج أهل القول الثاني بأحاديث الباب‏.‏واحتج أهل القول الثالث على عدم الكفر بما احتج به أهل القول الأول وعلى عدم القتل بحديث‏:‏ ‏"‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا

 

ج / 1 ص -292-       بإحدى ثلاث‏"‏ وليس فيه الصلاة‏.‏والحق أنه كافر يقتل أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة فتركها مقتض لجواز الإطلاق ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون لأنا نقول لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها وأما أنه يقتل فلأن حديث‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس‏"‏ يقضي بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له وكذلك سائر الأدلة المذكورة في الباب الأول ولا أوضح من دلالتها على المطلوب وقد شرط اللَّه في القرآن التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال:‏{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ‏}‏ فلا يخلى من لم يقم الصلاة‏.‏ وفي صحيح مسلم ‏"‏سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ عنقه ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقالوا‏:‏ ألا نقاتلهم قال‏:‏ لا ما صلوا‏"‏ فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجور‏.‏ وكذلك قوله لخالد في الحديث السابق ‏"‏لعله يصلي‏"‏ فجعل المانع من القتل نفس الصلاة‏.‏ وحديث ‏"‏لا يحل دم امرئ مسلم‏"‏ لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة‏.‏ والمراد بقوله في حديث الباب ‏"‏بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة‏"‏ كما قال النووي إن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإن تركها لم يبق بينه وبين الكفر حائل‏.‏ وفي لفظ مسلم ‏"‏بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة‏"‏‏.‏ومن الأحاديث الدالة على الكفر حديث الربيع بن أنس عن أنس عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر جهارًا‏"‏ ذكره الحافظ في التلخيص وقال‏:‏ سئل الدارقطني عنه فقال‏:‏ رواه أبو النضر عن أبي جعفر عن الربيع موصولًا وخالفه علي بن الجعد فرواه عن أبي جعفر عن الربيع مرسلًا وهو أشبه بالصواب‏.‏ وأخرجه البزار من حديث أبي الدرداء بدون قوله‏:‏ ‏"‏جهارًا‏"‏ وأخرج ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعًا ‏"‏تارك الصلاة كافر‏"‏ واستنكره‏.‏ ورواه أبو نعيم من حديث أبي سعيد وفيه عطية وإسماعيل بن يحيى وهما ضعيفان‏.‏قال العراقي‏:‏ لم يصح من أحاديث الباب إلا حديث جابر المذكور‏.‏ وحديث بريدة الذي سيأتي وأخرج ابن ماجه من حديث أبي الدرداء قال‏:‏ ‏"‏أوصاني خليلي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن لا تشرك باللَّه وإن قطعت وحرقت وأن لا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر‏"‏ قال الحافظ‏:‏ وفي إسناده ضعف‏.‏ ورواه الحاكم في المستدرك ورواه أحمد والبيهقي من طريق أخرى وفيه انقطاع‏.‏ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت ومن حديث معاذ بن جبل وإسنادهما ضعيفان‏.‏ وقال ابن الصلاح والنووي‏:‏ إنه حديث منكر‏.‏
واختلف القائلون بوجوب قتل تارك الصلاة فالجمهور أنه يضرب عنقه بالسيف وقيل يضرب بالخشب حتى يموت واختلفوا أيضًا في وجوب الاستتابة فالهادوية توجبها وغيرهم

 

ج / 1 ص -293-       لا يوجبها لأنه يقتل حدًا ولا تسقط التوبة الحدود كالزاني والسارق وقيل إنه يقتل لكفره فقد حكى جماعة الإجماع على كفره كالمرتد وهو الظاهر وقد أطال الكلام المحقق ابن القيم في ذلك كتابه في الصلاة والفرق بينه وبين الزاني واضح فإن هذا يقتل لتركه الصلاة في الماضي وإصراره على تركها في المستقبل والترك في الماضي يتدارك بقضاء ما تركه بخلاف الزاني فإنه يقتل بجناية تقدمت لا سبيل إلى تركها واختلفوا هل يجب القتل لترك صلاة واحدة أو أكثر فالجمهور أنه يقتل لترك صلاة واحدة والأحاديث قاضية بذلك والتقييد بالزيادة على الواحدة لا دليل عليه‏.‏قال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا دعي إلى الصلاة فامتنع وقال لا أصلي حتى خرج وقتها وجب قتله وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء أو غسل أو استقبال قبلة أو ستر عورة وكل ما كان ركنًا أو شرطًا‏.‏
2- وعن بريدة قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر‏"‏‏.‏رواه الخمسة‏.‏
الحديث صححه النسائي والعراقي ورواه ابن حبان والحاكم وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر لأن الترك الذي جعل الكفر معلقًا به مطلق عن التقييد وهو يصدق بمرة لوجود ماهية الترك في ضمنها‏.‏ والخلاف في المسألة والتصريح بما هو الحق فيها قد تقدم في الذي قبله‏.‏
3- وعن عبد اللَّه بن شقيق العقيلي قال‏:‏ ‏"‏كان أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة‏"‏‏.‏رواه الترمذي‏.‏الحديث رواه الحاكم وصححه على شرطهما وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة لأن قوله كان أصحاب رسول اللَّه جمع مضاف وهو من المشعرات بذلك‏.‏
4- وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه ذكر الصلاة يومًا فقال‏:‏ ‏
"‏من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبيَّ بن خلف‏"‏‏.‏رواه أحمد‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الطبراني في الكبير والأوسط‏.‏ وقال في مجمع الزوائد‏:‏ رجال أحمد ثقات وفيه أنه لا انتفاع للمصلي بصلاته إلا إذا كان محافظًا عليها لأنه إذا انتفى كونها نورًا وبرهانًا ونجاة مع عدم المحافظة انتفى نفعها‏.‏وقوله‏:‏ ‏"‏وكان يوم القيامة مع قارون‏"‏ الخ يدل على أن تركها

 

ج / 1 ص -294-       كفر متبالغ لأن هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذابًا وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل معهم في العذاب فيكون هذا الحديث مع صلاحيته للاحتجاج مخصصًا لأحاديث خروج الموحدين وقد ورد من هذا الجنس شيء كثير في السنة ويمكن أن يقال مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأييد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة لكن لا يخفى أن مقام المبالغة يأبى ذلك وسيأتي في الباب الثاني ما يعارضه‏.‏

باب حجة من لم يكفَّر تارك الصلاة ولم يقطع عليه بخلود في النار ورَجا له ما يُرجى لأهل الكبائر
1- عن ابن محيريز‏:‏ ‏"‏أن رجلًا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلًا بالشام يدعى أبا محمد يقول‏:‏ إن الوتر واجب قال المخدجي‏:‏ فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة‏:‏ كذب أبو محمد سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند اللَّه عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند اللَّه عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‏"‏‏.‏رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وقال فيه‏:‏ ‏"‏ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئًا استخفافًا بحقهن‏"‏‏.‏الحديث أخرجه أيضًا مالك في الموطأ وابن حبان وابن السكن‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ هو صحيح ثابت لم يختلف عن مالك فيه ثم قال‏:‏ والمخدجي مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث‏.‏قال الشيخ تقي الدين القشيري‏:‏ انظر إلى تصحيحه لحديثه مع حكمه بأنه مجهول وقد ذكره ابن حبان في الثقات ولحديثه شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد‏.‏ورواه أبو داود الصنابحي قال‏:‏ زعم أبو محمد أن الوتر واجب فقال عبادة بن الصامت وساق الحديث‏.‏ والمخدجي المذكور في هذا الإسناد هو بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة ثم جيم بعدها ياء النسب قيل اسمه رفيع‏.‏وأبو محمد المذكور هو مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن عثمان بن مالك بن النجار وقيل مسعود بن زيد بن سبيع يعد في الشاميين وقد عده الواقدي وطائفة من البدريين ولم يذكره ابن إسحاق فيهم وذكره جماعة في الصحابة‏.‏وقول عبادة كذب أبو محمد أي أخطأ ولا يجوز أن يراد به حقيقة الكذب لأنه في الفتوى ولا يقال لمن أخطأ في فتواه كذب‏.‏ وأيضًا قد ورد في الحديث ما يشهد لما قاله كحديث ‏"‏الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا‏"‏ عند أبي داود من حديث بريدة وغيره من الأحاديث وسيأتي بسط الكلام على ذلك في باب أن الوتر سنة مؤكدة إن شاء اللَّه تعالى‏.‏ والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم كفر

 

ج / 1 ص -295-       من ترك الصلاة وعدم استحقاقه للخلود في النار لقوله ‏"‏إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‏"‏ وقد عرفناك في الباب الأول أن الكفر أنواع منها ما لا ينافي المغفرة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا وهو يدل على عدم استحقاق كل تارك للصلاة للتخليد في النار‏.‏قوله ‏"‏استخفافًا بحقهن‏"‏ هو قيد للمنفي لا للنفي‏.‏قوله ‏"‏كان له عند اللَّه عهد أن يدخله الجنة‏"‏ فيه متمسك للمرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر من حافظ على الصلوات المكتوبة وهو مقيد بعدم المانع كأحاديث ‏"‏من قال لا إله إلا اللَّه‏"‏ ونحوها لورود النصوص الصريحة كتابًا وسنة بذكر ذنوب موجبة للعذاب كدم المسلم وماله وعرضه وغير ذلك مما يكثر تعداده‏.‏
2- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك‏"‏‏.‏رواه الخمسة‏.‏
الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق طريقتين متصلتين بأبي هريرة والطريق الثالثة بتميم الداري وكلها لا مطعن فيها ولم يتكلم عليه هو ولا المنذري بما يوجب ضعفه وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان‏.‏ وأخرج الحديث الحاكم في المستدرك وقال‏:‏ هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة قال العراقي‏:‏ وإسناده صحيح وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال‏:‏ إسناده صحيح على شرط مسلم‏.‏ وعن أنس عند الطبراني في الأوسط‏.‏ وعن أبي سعيد قال العراقي‏:‏ رويناه في الطبوريات في انتخاب السلفي منها وفي إسناده حصين بن مخارق نسبه الدارقطني إلى الوضع وعن صحابي لم يسم عند أحمد في المسند‏.‏والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل‏.‏ وأورده المصنف في حجج من قال بعدم الكفر لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصًا في الذات وهو ترك بعضها أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها أو أركانها وجبرانها بالنوافل مشعر بأنها مقبولة مثاب عليها والكفر ينافي ذلك‏.‏وقد عرفت الكلام على ذلك فيما سلف ثم أورد من الأدلة ما يعتضد به قول من لم يكفر تارك الصلاة وعقبه بتأويل لفظ الكفر الواقع في الأحاديث فقال‏:‏
3- ويعضد هذا المذهب عمومات‏:‏ منها ما روي عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله اللَّه الجنة على ما كان من العمل‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏

 

ج / 1 ص -296-       4- وعن أنس بن مالك‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل‏:‏ يا معاذ قال‏:‏ لبيك يا رسول اللَّه وسعديك ثلاثًا ثم قال‏:‏ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه اللَّه على النار قال‏:‏ يا رسول اللَّه أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال‏:‏ إذن يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا أي خوفًا من الإثم بترك الخبر به‏"‏‏.‏
متفق عليه‏.‏
5- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئًا‏"‏‏.‏رواه مسلم‏.‏
6- وعنه أيضًا‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه‏"‏‏.‏
رواه البخاري‏.‏ وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة أو على معنى قد قارب الكفر وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك‏.‏
7- فروى ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
8- وعن أبي ذر أنه‏:‏ ‏"‏سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
9- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
10- عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏كان عمر يحلف وأبي فنهاه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقال‏:‏
من حلف بشيء دون اللَّه فقد أشرك‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
11- وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
مدمن الخمر إن مات لقي اللَّه كعابد وثن‏"‏‏.‏رواه أحمد‏.‏ انتهى كلام المصنف‏.‏
وأقول قد أطبق أئمة المسلمين من السلف والخلف والأشعرية والمعتزلة وغيرهم أن الأحاديث

 

ج / 1 ص -297-       الواردة بأن من قال لا إله إلا اللَّه دخل الجنة مقيدة بعدم الإخلال بما أوجب اللَّه من سائر الفرائض وعدم فعل كبيرة من الكبائر التي لم يتب فاعلها عنها وأن مجرد الشهادة لا يكون موجبًا لدخول الجنة فلا يكون حجة على المطلوب ولكنهم اختلفوا في خلود من أخل بشيء من الواجبات أو قارف شيئًا من المحرمات في النار مع تكلمه بكلمة الشهادة وعدم التوبة عن ذلك فالمعتزلة جزموا بالخلود والأشعرية قالوا يعذب في النار ثم ينقل إلى الجنة‏.‏ وكذلك اختلفوا في دخوله تحت المشيئة فالأشعرية وغيرهم قالوا بدخوله تحتها والمعتزلة منعت من ذلك وقالوا لا يجوز على اللَّه المغفرة لفاعل الكبيرة مع عدم التوبة عنها‏.‏ وهذه المسائل محلها علم الكلام وإنما ذكرنا هذا للتعريف بإجماع المسلمين على أن هذه الأحاديث مقيدة بعدم المانع ولهذا أوَّلها السلف فحكي عن جماعة منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي ورد بأن راوي بعض هذه الأحاديث أبو هريرة وهو متأخر الإسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق وكانت إذ ذاك أحكام الشريعة مستقرة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها‏.‏ وحكى النووي عن بعضهم أنه قال‏:‏ هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها قال‏:‏ وهذا قول الحسن البصري‏.‏ وقال البخاري‏:‏ إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك ذكره في كتاب اللباس‏.‏ وذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح أنه يجوز أن يكون ذلك أعني الاقتصار على كلمة الشهادة في سببية دخول الجنة اقتصارًا من بعض الرواة لا من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بدليل مجيئه تامًا في رواية غيره ويجوز أن يكون اختصارًا من الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم باللَّه تعالى مصحوبًا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزمًا له والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي وقال لا إله إلا اللَّه وحاله الحال التي حكيناها حكم بإسلامه‏.‏ قال النووي‏:‏ ويمكن الجمع بين الأدلة بأن يقال المراد باستحقاقه الجنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلًا معافى وإما مؤخرًا بعد عقابه والمراد بتحريم النار تحريم الخلود‏.‏ وحكي ذلك عن القاضي عياض وقال‏:‏ إنه في نهاية الحسن ولا بد من المصير إلى التأويل لما ورد في نصوص الكتاب والسنة بذكر كثير من الواجبات الشرعية والتصريح بأن تركها موجب للنار‏.‏ وكذلك ورود النصوص بذكر كثير من المحرمات وتوعد فاعلها بالنار‏.‏ وأما الأحاديث التي أوردها المصنف في تأييد ما ذكره من التأويل فالنزاع في إطلاق الكفر على تارك الصلاة وقد عرفناك أن سبب الوقوع في مضيق التأويل توهم الملازمة بين الكفر وعدم المغفرة وليست بكلية كما عرفت وانتفاء كليتها يريحك من تأويل ما ورد في كثير من الأحاديث‏.‏ منها ما ذكره المصنف‏.‏ ومنها ما ثبت في الصحيح بلفظ‏:‏ ‏"‏لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض‏"‏ وحديث ‏"‏أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم‏"‏ وحديث ‏"‏أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل اللَّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب‏"‏ وحديث ‏"‏من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها‏"‏ وكل هذه الأحاديث في الصحيح‏.‏ وقد ورد من هذا الجنس أشياء كثيرة ونقول من سماه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كافرًا سميناه كافرًا ولا نزيد على هذا المقدار ولا نتأول بشيء منها لعدم الملجئ إلى ذلك‏.‏

 

ج / 1 ص -298-        باب أمر الصبي بالصلاة تمرينًا لا وجوبًا
1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ مروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع‏"‏‏.‏رواه أحمد وأبو داود‏.‏
الحديث أخرجه الحاكم من حديثه أيضًا والترمذي والدارقطني من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده بنحوه ولم يذكر التفرقة‏.‏وفي الباب عن أبي رافع عند البزار بلفظ قال‏:‏ ‏"‏وجدنا في صحيفة في قراب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد وفاته فيها مكتوب
بسم اللَّه الرحمن الرحيم وفرقوا بين الغلمان والجواري والأخوة والأخوات لسبع سنين واضربوا أبناءكم على الصلاة إذا بلغوا أظنه تسع سنين‏"‏‏.‏وعن معاذ بن عبد اللَّه بن خبيب الجهني أنه قال لامرأته وفي رواية لامرأة‏:‏ ‏"‏متى يصلي الصبي فقالت‏:‏ كان رجل منا يذكر عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏ قال ابن القطان‏:‏ لا نعرف هذه المرأة ولا الرجل الذي روت عنه‏.‏ وقد رواه الطبراني من هذا الوجه فقال‏:‏ عن أبي معاذ بن عبد اللَّه بن خبيب عن أبيه به قال ابن صاعد‏:‏ إسناده حسن غريب‏.‏وفي الباب عن أبي هريرة رواه العقيلي وأنس عند الطبراني بلفظ‏:‏ ‏"‏مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لثلاث عشرة‏"‏ وفي إسناده داود بن المحبر وهو متروك وقد تفرد به‏.‏والحديث يدل على وجوب أمر الصبيان بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين وضربهم عليها إذا بلغوا عشرًا والتفريق بينهم في المضاجع لعشر سنين إذا جعل التفريق معطوفًا على قوله واضربوهم أو لسبع سنين إذا جعل معطوفًا على قوله مروهم‏.‏ ويؤيد هذا الوجه حديث أبي رافع المذكور‏.‏وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب إجبار ابن العشر على الولي وشرط الصلاة الذي لا تتم إلا به حكمه حكمها ولا فرق بين الذكر والأنثى والزوجة وغيرها‏.‏وقال في الوافي والمؤيد باللَّه في أحد قوليه‏:‏ إن ذلك مستحب فقط وحملوا الأمر على الندب ولكنه إن صح ذلك في قوله مروهم لم يصح في قوله واضربوهم لأن الضرب إيلام للغير وهو لا يباح للأمر المندوب والاعتراض بأن عدم تكليف الصبي يمنع من حمل الأمر على حقيقته لأن الإخبار إنما يكون على فعل واجب أو ترك محرم وليست الصلاة بواجبة على الصبي ولا تركها محظور عليه مدفوع بأن ذلك إنما يلزم لو اتحد المحل وهو هنا مختلف فإن محل الوجوب الولي ومحل عدمه ابن العشر ولا يلزم من عدم الوجوب على الصغير عدمه على الولي‏.‏
2- وعن عائشة رضي اللَّه عنها‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
رفع القلم

 

ج / 1 ص -299-       عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل‏"‏‏.‏رواه أحمد ومثله من رواية علي له ولأبي داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏.
‏الحديث أخرجه أيضًا النسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عائشة‏.‏ قال يحيى بن معين‏:‏ ليس يرويه إلا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان يعني عن إبراهيم عن الأسود عنها‏.‏ وأخرجه أيضًا النسائي والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة من حديث علي عليه السلام‏.‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد برفعه جرير بن حازم قال الدارقطني في العلل‏:‏ وتفرد به عن جرير عبد اللَّه بن وهب وخالفه ابن فضيل ووكيع فروياه عن الأعمش موقوفًا ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي عليه السلام وعمر مرفوعًا‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وقول ابن فضيل ووكيع أشبه بالصواب‏.‏ورواه أبو داود من حديث أبي الضحى عن علي عليه السلام ولكن قال أبو زرعة‏:‏ حديثه عن علي مرسل‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث القاسم بن يزيد عن علي عليه السلام وهو مرسل أيضًا كما قال أبو زرعة‏.‏ ورواه الترمذي من حديث الحسن البصري عن علي قال أبو زرعة‏:‏ لم يسمع الحسن من علي شيئًا‏.‏ وروى الطبراني من طريق برد بن سنان عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني قال‏:‏ أخبرني غير واحد من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثوبان ومالك بن شداد وغيرهما فذكر نحوه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفي إسناده مقال وبرد مختلف فيه‏.‏ وروى أيضًا من طريق مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ وإسناده ضعيف‏.‏والحديث يدل على عدم تكليف الصبي والمجنون والنائم ما داموا متصفين بتلك الأوصاف‏.‏ قال ابن حجر في التلخيص حاكيًا عن ابن حبان‏:‏ إن الرفع مجاز عن عدم التكليف لأنه يكتب له فعل الخير انتهى‏.‏ وهذا في الصبي ظاهر وأما في المجنون فلا تتصف أفعاله بخير ولا شر إذ لا قصد له والموجود منه من صور الأفعال لا حكم له شرعًا وأما في النائم ففيه بعد لأن قصده منتف أيضًا فلا حكم لما صدر منه من الأفعال حال نومه‏.‏ وللناس كلام في تكليف الصبي بجميع الأحكام أو ببعضها ليس هذا محل بسطه وكذلك النائم‏.‏

باب أن الكافر إذا أسلم لم يقض الصلاة
1- عن عمرو بن العاص‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الإسلام يجب ما قبله‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الطبراني والبيهقي من حديثه وابن سعد من حديث جبير بن مطعم‏:‏ وأخرج مسلم في صحيحه معناه من حديث عمر وأيضًا بلفظ‏:‏
‏"‏أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله‏"‏ وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قلنا يا رسول اللَّه أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال‏:‏ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أوخذ بالأول والآخر‏"‏ فهذا مقيد والحديث

 

ج / 1 ص -300-        أبواب المواقيت
المواقيت جمع ميقات وهو القدر المحدود للفعل من الزمان والمكان
 باب وقت الظهر
1- عن جابر بن عبد اللَّه‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له‏:‏ قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاءه العصر فقال‏:‏ قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه المغرب فقال‏:‏ قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال‏:‏ قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فقال‏:‏ قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع الفجر ثم جاءه من الغد للظهر فقال‏:‏ قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه العصر فقال‏:‏ قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاء حين أسفر جدًا فقال‏:‏ قم فصله فصلى الفجر ثم قال‏:‏ ما بين هذين الوقتين وقت‏"‏‏.‏رواه أحمد والنسائي والترمذي بنحوه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ هو أصح شيء في المواقيت‏.‏
2- وللترمذي عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين‏"‏ فذكر نحو حديث جابر إلا أنه قال فيه‏:‏ ‏"‏وصلى المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر

 

 

ج / 1 ص -301-       بالأمس‏"‏ وقال فيه‏:‏ ‏"‏ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ثم قال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين‏"‏‏.‏قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏
أما حديث جابر فأخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم وروى الترمذي في سننه عن البخاري أنه أصح شيء في الباب كما قال المصنف رحمه اللَّه‏.‏وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم وفي إسناده ثلاثة مختلف فيهم أولهم عبد الرحمن بن أبي الزناد كان ابن مهدي لا يحدث عنه‏.‏ وقال أحمد‏:‏ مضطرب الحديث وقال النسائي‏:‏ ضعيف وقال يحيى بن معين وأبو حاتم‏:‏ لا يحتج به وقال الشافعي‏:‏ ضعيف وما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد وقال ابن عدي‏:‏ بعض ما يرويه لا يتابع عليه وقد وثقه مالك واستشهد البخاري بحديثه عن موسى بن عقبة في باب التطوع بعد المكتوبة وفي حديث ‏
"‏لا تمنوا لقاء العدو‏"‏‏.‏والثاني شيخه عبد الرحمن بن الحارث بن عبد اللَّه بن عياش ابن أبي ربيعة قال أحمد‏:‏ متروك الحديث‏.‏ وقال ابن نمير‏:‏ لا أقدم على ترك حديثه وقال فيه ابن معين‏:‏ صالح وقال أبو حاتم‏:‏ شيخ وقال ابن سعد‏:‏ ثقة وقال ابن حبان‏:‏ كان من أهل العلم ولكنه قد توبع في هذا الحديث فأخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس بنحوه‏.‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ هي متابعة حسنة‏.‏والثالث حكيم بن حكيم وهو ابن عباد بن حنيف قال ابن سعد‏:‏ كان قليل الحديث ولا يحتجون بحديثه‏.‏وحديث ابن عباس هذا قد صححه ابن عبد البر وأبو بكر ابن العربي قال ابن عبد البر‏:‏ إن الكلام في إسناده لا وجه له وأخرجه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش فسلمت طريقه من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد‏.‏ وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود وابن خزيمة قال أبو عمر‏:‏ وذكره عبد الرزاق عن عمر بن نافع وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده وذكره أيضًا عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس‏.‏وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي بإسناد حسن وصححه ابن السكن والحاكم وحسنه الترمذي ولكن فيه‏:‏ ‏"‏إن للمغرب وقتين‏"‏ ونقل عن البخاري أنه خطأ‏.‏ ورواه الحاكم من طريق أخرى وقال‏:‏ صحيح الإسناد‏.‏ وعن بريدة عند الترمذي أيضًا وصححه‏.‏ وعن أبي موسى عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبي عوانة وأبي نعيم قال الترمذي في كتاب العلل‏:‏ إنه حسنه البخاري‏.‏ وعن أبي مسعود عند مالك في الموطأ وإسحاق بن راهويه والبيهقي في الدلائل وأصله في الصحيحين من غير تفصيل وفصله أبو داود‏.‏ وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد في مسنده والطحاوي وعن عمرو بن حزم رواه إسحاق بن راهويه‏.‏وعن البراء ذكره ابن أبي خيثمة‏.‏ وعن أنس عند الدارقطني وابن السكن في صحيحه والإسماعيلي في معجمه وأشار إليه الترمذي ورواه عنه النسائي بنحوه وأبو أحمد الحاكم في الكنى‏.‏ وعن ابن عمر عند

 

ج / 1 ص -302-       الدارقطني قال الحافظ‏:‏ بإسناد حسن لكن فيه عنعنة ابن إسحاق‏.‏ ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق أخرى فيها محبوب بن الجهم وهو ضعيف‏.‏ وعن مجمع بن جارية عند الحاكم‏.‏قوله في الحديث ‏"‏قم فصله‏"‏ الهاء هاء السكت‏.‏ قوله ‏"‏حين وجبت الشمس‏"‏ الوجوب السقوط والمراد سقوطها للغروب‏.‏ وقوله ‏"‏زالت الشمس‏"‏ أي مالت إلى جهة الغرب‏.‏ وقوله ‏"‏حين صار كل شيء مثله‏"‏ الظل الستر ومنه قولهم أنا في ظلك وظل الليل سواده لأنه يستر كل شيء وظل الشمس ما ستر به الشخوص من مسقطها‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وكانت إمامة جبريل بالنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء وأول صلاة أديت كذلك الظهر على المشهور قيل الصحيح كما ثبت من حديث ابن عباس عند الدارقطني‏.‏قال الحافظ‏:‏ والصحيح خلافه وذكر ابن أبي خيثمة عن الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل محمد أو يؤم محمد الناس لا يسمعهم فيهن قراءة‏.‏ وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ قال نافع بن جبير وغيره‏:‏ لما أصبح النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس ولذلك سميت الأولى فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس وطول الركعتين الأوليتين ثم قصر الباقيتين‏.‏وسيأتي للمصنف وغيره في شرح حديث أبي موسى أن صلاة جبريل كانت بمكة مقتصرين على ذلك‏.‏قال الحربي‏:‏ إن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل الغروب وصلاة قبل طلوع الشمس‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ قال جماعة من أهل العلم إن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يكن عليه صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام رمضان من غير توقيت ولا تحديد ركعات معلومات ولا لوقت محصور‏.‏ وكان صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وقامه معه المسلمون نحوًا من حول حتى شق عليهم ذلك فأنزل اللَّه التوبة عنهم والتخفيف في ذلك ونسخه وحطه فضلًا منه ورحمة فلم يبق في الصلاة فريضة إلا الخمس‏.‏والحديث يدل على أن للصلوات وقتين وقتين إلا المغرب وسيأتي الكلام على ذلك‏.‏ وعلى أن الصلاة لها أوقات مخصوصة لا تجزئ قبلها بالإجماع وعلى أن ابتداء وقت الظهر الزوال ولا خلاف في ذلك يعتد به وآخره مصير ظل الشيء مثله‏.‏ واختلف العلماء هل يخرج وقت الظهر بمصير ظل الشيء مثله أم لا فذهب الهادي ومالك وطائفة من العلماء أنه يدخل وقت العصر ولا يخرج وقت الظهر وقالوا يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالحًا للظهر والعصر أداء‏.‏قال النووي في شرح مسلم‏:‏ واحتجوا بقوله صلى اللَّه عليه وسلم ‏"‏فصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله وصلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله‏"‏ وظاهره اشتراكهما في قدر أربع ركعات قال‏:‏ وذهب الشافعي والأكثرون إلى أنه لا اشتراك بين وقت الظهر ووقت العصر بل متى خرج وقت الظهر بمصير ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون عند الزوال دخل

 

ج / 1 ص -303-       وقت العصر وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر‏.‏ واحتجوا بحديث ابن عمرو بن العاص عند مسلم مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏"‏وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر‏"‏ الحديث قال‏:‏ وأجابوا عن حديث جبريل بأن معناه فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء مثله وشرع في العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله فلا اشتراك بينهما قال‏:‏ وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث ولأنه إذا حمل على الاشتراك يكون آخر وقت الظهر مجهولًا لأنه إذا ابتدأ بها حين صار ظل كل شيء مثله لم يعلم متى فرغ منها وحينئذ لا يحصل بيان حدود الأوقات وإذا حمل على ذلك التأويل حصل معرفة آخر الوقت فانتظمت الأحاديث على اتفاق‏.‏ ويؤيد هذا أن إثبات ما عدا الأوقات الخمسة دعوى مفتقرة إلى دليل خالص عن شوائب المعارضة فالتوقف على المتيقن هو الواجب حتى يقوم ما يلجئ إلى المصير إلى الزيادة عليها‏.‏وفي الحديث أيضًا ذكر بقية أوقات الصلوات وسيعقد المصنف لكل واحد منها بابًا وسنتكلم على كل واحد منها في بابه إن شاء اللَّه تعالى‏.‏

باب تعجيلها وتأخيرها في شدة الحر
1- عن جابر بن سمرة قال‏:‏ ‏"‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس‏"‏‏.‏رواه أحمد ومسلم وابن ماجه وأبو داود‏.‏
وفي الباب أيضًا عن أنس عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وقال‏:‏ صحيح وعن خباب عند الشيخين وعن أبي بزرة عندهما أيضًا‏.‏ وعن ابن مسعود عند ابن ماجه وفيه زيد بن جبيرة قال أبو حاتم‏:‏ ضعيف وقال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏ وعن زيد بن ثابت أشار إليه الترمذي‏.‏ وعن أم سلمة عند الترمذي أيضًا‏.‏قوله ‏"‏دحضت الشمس‏"‏ هو بفتح الدال والحاء المهملتين وبعدها ضاد معجمة أي زالت‏.‏والحديث يدل على استحباب تقديمها وإليه ذهب الهادي والقاسم والشافعي والجمهور للأحاديث الواردة في أفضلية أول الوقت وقد خصه الجمهور بما عدا أيام شدة الحر وقالوا يستحب الإبراد فيها إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج وسيأتي تحقيق ذلك‏.‏
2- وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي الظهر في أيام الشتاء وما ندري أما ذهب من النهار أكثر أو ما بقي منه‏"‏‏.‏رواه أحمد‏.‏
3- وعن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏"‏كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل‏"‏‏.‏رواه النسائي‏.‏ وللبخاري نحوه‏.‏
4- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏
إذا اشتد الحر

 

ج / 1 ص -304-       فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم‏"‏‏.‏رواه الجماعة‏.‏
حديث أنس الأول أخرجه أيضًا عبد الرزاق وفي الباب عن ابن عمر عند البخاري وابن ماجه وعن أبي موسى عند النسائي وعن عائشة عند ابن خزيمة وعن المغيرة عند أحمد وابن ماجه وابن حبان وفي رواية للخلال ‏"‏وكان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الإبراد‏"‏ وعن أبي سعيد عند البخاري وعن عمرو بن عبسة عند الطبراني وعن صفوان عند ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي وعن ابن عباس عند البزار وفيه عمرو بن صهبان وهو ضعيف وعن عبد الرحمن بن جارية عند الطبراني وعن عبد الرحمن بن علقمة عند أبي نعيم‏.‏قوله ‏"‏فأبردوا بالصلاة‏"‏ أي أخروها عن ذلك الوقت وادخلوا بها في وقت الإبراد وهو الزمان الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر ويوجد فيه برودة جهنم يقال أبرد الرجل أي صار في برد النهار‏.‏ وفيح جهنم شدة حرها وشدة غليانها‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ اختلف العلماء في معناه فقال بعضهم هو على ظاهره وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره قال‏:‏ والأول أظهر‏.‏ وقال النووي‏:‏ هو الصواب لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره انتهى‏.‏ويدل عليه حديث
‏"‏أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف‏"‏ وهو في الصحيح وحديث ‏"‏إن لجهنم نفسين‏"‏ وهو كذلك‏.‏والأحاديث تدل على مشروعية الإبراد والأمر محمول على الاستحباب وقيل على الوجوب حكى ذلك القاضي عياض وهو المعنى الحقيقي له‏.‏ وذهب إلى الأول جماهير العلماء لكنهم خصوا ذلك بأيام شدة الحر كما يشعر بذلك التعليل بقوله ‏"‏فإن شدة الحر من فيح جهنم‏"‏ ولحديث أنس المذكور في الباب‏.‏وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين الجماعة والمنفرد‏.‏ وقال أكثر المالكية‏:‏ الأفضل للمنفرد التعجيل والحق عدم الفرق لأن التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره‏.‏ وخصه الشافعي بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون المسجد من مكان بعيد لا إذا كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في ظل فالأفضل التعجيل‏.‏وظاهر الأحاديث عدم الفرق وقد ذهب إلى الأخذ بهذا الظاهر أحمد وإسحاق والكوفيون وابن المنذر ولكن التعليل بقوله ‏"‏فإن شدة الحر‏"‏ يدل على ما ذكره من التقييد بالبلد الحار‏.‏وذهب الهادي والقاسم وغيرهما إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقًا وتمسكوا بحديث جابر بن سمرة المذكور في أول الباب وسائر الروايات المذكورة هنالك وبأحاديث أفضلية أول الوقت على العموم كحديث أبي ذر عند البخاري ومسلم وغيرهما قال‏:‏ ‏"‏سألت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أي العمل أحب إلى اللَّه قال‏:‏ الصلاة على وقتها‏"‏ وبحديث خباب عند مسلم قال‏:‏ ‏"‏شكونا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يعذرنا ولم يزل شكوانا‏"‏ وزاد ابن المنذر والبيهقي‏:‏ ‏"‏وقال‏:‏ إذا زالت الشمس فصلوا‏"‏ وتأولوا حديث الإبراد بأن معناه صلوا أول الوقت أخذًا من برد النهار وهو أوله وهو تعسف يرده قوله ‏"‏فإن شدة الحر من

 

ج / 1 ص -305-       فيح جهنم‏"‏ وقوله ‏"‏فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة‏"‏ ويجاب عن ذلك بأن الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت عامة أو مطلقة وحديث الإبراد خاص أو مقيد ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد‏.‏ وأجيب عن حديث خباب بأنه كما قال الأثرم والطحاوي‏:‏ منسوخ قال الطحاوي‏:‏ ويدل عليه حديث المغيرة ‏"‏كنا نصلي بالهاجرة فقال لنا أبردوا‏"‏ فبين أن الإبراد كان بعد التهجير وقال آخرون‏:‏ إن حديث خباب محمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإبراد لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فيء يمشون فيه ويتناقص الحر‏.‏وحمل بعضهم حديث الإبراد على ما إذا صار الظل فيئًا وحديث خباب على ما إذا كان الحصى لم يبرد لأنه لا يبرد حتى تصفر الشمس فلذلك رخص في الإبراد ولم يرخص في التأخير إلى خروج الوقت وعلى فرض عدم إمكان الجمع فرواية الخلال السابقة عن المغيرة بلفظ‏:‏ ‏"‏كان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الإبراد‏"‏ وقد صحح أبو حاتم وأحمد حديث المغيرة وعده البخاري محفوظًا من أعظم الأدلة الدالة على النسخ كما قاله من قدمنا ولو نسلم جهل التاريخ وعدم معرفة المتأخر لكانت أحاديث الإبراد أرجح لأنها في الصحيحين بل في جميع الأمهات بطرق متعددة وحديث خباب في مسلم فقط ولا شك أن المتفق عليه مقدم وكذا ما جاء من طرق‏.‏
2- وعن أبي ذر قال‏:‏ ‏"‏كنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أبرد ثم أراد أن يؤذن فقال له‏:‏ أبرد حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏
قوله ‏"‏فيء التلول‏"‏ قال ابن سيده‏:‏ الفيء ما كان شمسًا فنسخه الظل والجمع أفياء وفيوء وفاء الفيء فيئًا تحول وتفيأ فيه تظلل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يتوهم الناس أن الظل والفيء بمعنى وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية ومن أول النهار إلى آخره وأما الفيء فلا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما قبل الزوال وإنما قيل لما بعد الزوال فيء لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع والفيء الرجوع ونسبه النووي في شرح مسلم إلى أهل اللغة‏.‏‏"‏والتلول‏"‏ جمع تل وهو الربوة من التراب المجتمع والمراد أنه أخر تأخيرًا كثيرًا حتى صار للتلول فيء وهي منبطحة لا يصير لها فيء في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير‏.‏الحديث يدل على مشروعية الإبراد وقد تقدم الكلام عليه مستوفى‏.‏ قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وفيه دليل على أن الإبراد أولى وإن لم ينتابوا المسجد من بعد لأنه أمر به مع اجتماعهم معه انتهى‏.‏ أشار رحمه اللَّه بهذا إلى رد ما قاله الشافعي وقد قدمنا حكاية ذلك عنه‏.‏

 

ج / 1 ص -306-       باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة
قد سبق في حديث ابن عباس وجابر في باب وقت الظهر‏.‏
1- وعن عبد اللَّه بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس‏"‏‏.‏رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول‏"‏‏.
قوله ‏"‏ثور الشفق‏"‏ هو بالثاء المثلثة أي ثورانه وانتشاره ومعظمه‏.‏ وفي القاموس إنه حمرة الشفق الثائرة فيه‏.‏قوله ‏"‏قرن الشمس‏"‏ هو ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها قاله في القاموس‏.‏وقوله ‏"‏ويسقط قرنها الأول‏"‏ المراد به الناحية كما قاله النووي‏.والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس وقد تقدم الكلام في الظهر وسيأتي الكلام على وقت المغرب والعشاء والفجر كل في بابه‏.‏وأما وقت العصر فالحديث يدل على امتداد وقته إلى اصفرار الشمس كما في الرواية الأولى من حديث الباب إلى سقوط قرنها أي غروبه كما في الرواية الثانية منه‏.‏وحديث ‏
"‏من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر‏"‏ يدل على أن إدراك بعضها في الوقت مجزئ وإلى هذا ذهب الجمهور وقال أبو حنيفة‏:‏ آخره الاصفرار وقال الاصطخري‏:‏ آخره المثلان وبعدها قضاء‏.‏ والأحاديث ترد عليهم ولكنه استدل الاصطخري بحديث جبريل السابق وفيه أنه ‏"‏صلى العصر اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله واليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه‏"‏ وقال بعد ذلك‏:‏ ‏"‏الوقت ما بين هذين الوقتين‏"‏‏.‏وقد أجيب عن ذلك بحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز وهذا الحمل لا بد منه للجمع بين الأحاديث وهو أولى من قول من قال إن هذه الأحاديث ناسخة لحديث جبريل لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع وكذلك لا يصار إلى ترجيح‏.‏ ويؤيد هذا الجمع حديث ‏"‏تلك صلاة المنافق‏"‏ وسيأتي بعد هذا الحديث فمن كان معذورًا كان الوقت في حقه ممتدًا إلى الغروب ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين وما دامت الشمس بيضاء نقية فإن آخرها إلى الاصفرار وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث‏.‏ وأما أول وقت العصر فذهب العترة والجمهور إنه مصير ظل الشيء مثله لما تقدم في حديث جبريل وقال الشافعي‏:‏ الزيادة على المثل وقال أبو حنيفة‏:‏ المثلان وهو فاسد ترده الأحاديث الصحيحة‏.‏قال النووي في شرح مسلم‏:‏ قال أصحابنا للعصر خمسة أوقات وقت فضيلة واختيار وجواز بلا كراهة وجواز مع كراهة ووقت عذر‏:‏ فأما وقت الفضيلة فأول وقتها‏.‏ ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه‏.‏ ووقت الجواز إلى الاصفرار‏.‏ ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى

 

ج / 1 ص -307-       الغروب‏.‏ ووقت العذر وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين العصر والظهر لسفر أو مطر‏.‏ ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداء فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء انتهى‏.‏ قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وفيه دليل على أن للمغرب وقتين وأن الشفق الحمرة وأن وقت الظهر يعاقبه وقت العصر وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل جائز انتهى قوله وفيه دليل على أن للمغرب وقتين استدل على ذلك بقوله في الحديث ‏"‏ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق‏"‏ قال النووي في شرح مسلم‏:‏ وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجوز غيره‏.‏والجواب عن حديث جبريل حين صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه‏:‏أحدها أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر‏.‏ والثاني أنه متقدم في أول الأمر بمكة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها‏.‏ والثالث أن هذه الأحاديث أصح إسنادًا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها انتهى‏.‏وقوله ‏"‏وأن الشفق الحمرة‏"‏ قد أخرج ابن عساكر في غرائب مالك والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏"‏الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة‏"‏ ولكنه صحح البيهقي وقفه وقد ذكر نحوه الحاكم وسيذكره المصنف في باب وقت صلاة العشاء‏.‏وقوله ‏"‏وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل‏"‏ الخ سيأتي تحقيق ذلك في باب وقت صلاة العشاء‏.‏
2- وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر اللَّه إلا قليلاً‏"‏‏.‏رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏.‏
الحديث رواه أبو داود بتكرير قوله تلك صلاة المنافق‏.‏قوله ‏"‏بين قرني الشيطان‏"‏ اختلفوا فيه فقيل هو على حقيقته وظاهر لفظه والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذلك عند طلوعها لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له وتخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له‏.‏ وقيل هو على المجاز والمراد بقرنه وقرنيه علوه وارتفاعه وسلطانه وغلبة أعوانه وسجود مطيعيه من الكفار للشمس قاله النووي‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هو تمثيل ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه‏.‏قوله ‏"‏فنقرها‏"‏ المراد بالنقر سرعة الحركات كنقر الطائر قال الشاعر‏:‏
لا أذوق النوم إلا غرارًا

مثل حسو الطير ماء الثماد

وفي الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت الاصفرار والتصريح بذم من أخر صلاة العصر بلا عذر والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق ولا أردع لذوي الإيمان وأفزع لقلوب

 

ج / 1 ص -308-       أهل العرفان من هذا‏.‏وقوله ‏"‏يجلس يرقب الشمس‏"‏ فيه إشارة إلى أن الذم متوجه إلى من لا عذر له‏.‏
وقوله ‏"‏فنقرها أربعًا‏"‏ فيه تصريح بذم من صلى مسرعًا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار وقد نقل بعضهم الاتفاق على عدم جواز التأخير إلى هذا الوقت لمن لا عذر له وهذا من أوضح الأدلة القاضية بصحة الجمع بين الأحاديث الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا‏.‏
3- وعن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا وأمر بلالًا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول انتصف النهار أو لم وكان أعلم منهم ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت وأخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس ثم أخر العصر فانصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح فدعا السائل فقال
الوقت فيما بين هذين‏"‏‏.‏رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي‏.‏
حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه‏:‏ ‏"‏أن رجلا سأل رسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن وقت الصلاة فقال‏:‏
صل معنا هذين الوقتين فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر وأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال‏:‏ أين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل‏:‏ أنا يا رسول اللَّه قال‏:‏ وقت صلاتكم بين ما رأيتم‏"‏‏.‏قوله ‏"‏أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا‏"‏ أي لم يرد جوابًا ببيان الأوقات باللفظ بل قال له صل معنا لتعرف ذلك ويحصل لك البيان بالفعل كما وقع في حديث بريدة أنه قال له ‏"‏صل معنا هذين اليومين‏"‏ وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل كما هو الظاهر من حديث أبي موسى لأن المعلوم من أحواله أنه كان يجيب من سأله عما يحتاج إليه فلا بد من تأويل ما في حديث

 

ج / 1 ص -309-       أبي موسى من قوله ‏"‏فلم يرد عليه شيئًا‏"‏ بما ذكرنا‏.‏ وقد ذكر معنى ذلك النووقوله ‏"‏انشق الفجر‏"‏ أي طلع‏.‏وقوله ‏"‏والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا‏"‏ بيان لذلك الوقت‏.‏قوله ‏"‏وقبت الشمس‏"‏ هو بقاف فباء موحدة فتاء مثناة يقال وقبت الشمس وقبًا ووقوبًا غربت ذكر معناه في القاموس‏.‏وفي الحديث بيان مواقيت الصلاة وفيه تأخير وقت العصر إلى قريب احمرار الشمس وفيه أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل‏.‏ وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو السابق أنه أخرها إلى نصف الليل وهو بيان لآخر وقت الاختيار وسيأتي تحقيق ذلك‏.‏قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وهذا الحديث يعني حديث الباب في إثبات الوقتين للمغرب وجواز تأخير العصر ما لم تصفر الشمس أولى من حديث جبريل عليه السلام لأنه كان بمكة في أول الأمر وهذا متأخر ومتضمن زيادة فكان أولى وفيه من العلم جواز تأخير البيان عن وقت السؤال انتهى‏.‏ وهكذا صرح البيهقي والدارقطني وغيرهما أن صلاة جبريل كانت بمكة وقصة المسألة بالمدينة وصرحوا بأن الوقت الآخر لصلاة المغرب رخصة وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في شرح حديث جبريل وفيه زيادة أن ذلك في صبيحة ليلة الإسراء‏.‏وقوله ‏"‏الوقت فيما بين هذين الوقتين‏"‏ ينفي بمفهومه وقتية ما عداه ولكن حديث ‏"‏من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس ومن الفجر ركعة قبل طلوع الشمس‏"‏ وغيره منطوقات وهي أرجح من المفهوم ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع وقد أمكن بما عرفت في شرح حديث عبد اللَّه بن عمرو ولو صرت إلى الترجيح لكان حديث أنس المذكور قبل هذا مانعًا من التمسك بتلك المنطوقات والمصير إلى الجمع لا بد منه‏.‏

باب ما جاء في تعجيلها وتأكيده مع الغيم
1- عن أنس قال‏:‏ ‏"‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة‏"‏‏.‏رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏ وللبخاري وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه‏.‏ وكذلك لأحمد وأبي داود معنى ذلك‏.‏
قوله ‏"‏فيذهب‏"‏ في رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏ثم يذهب الذاهب إلى قبا‏"‏ وفي رواية له أيضًا‏:‏ ‏"‏ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون‏.‏قوله ‏"‏والشمس مرتفعة‏"‏ حية قال الخطابي‏:‏ حياتها وجود حرها‏.‏قال أبو داود في سننه بإسناده إلى خيثمة أنه قال‏:‏ حياتها أن تجد حرها‏.‏قوله ‏"‏إلى العوالي‏"‏ هي القرى التي حول المدينة أبعدها على ثمانية أميال من المدينة وأقربها ميلان وبعضها على ثلاثة أميال وبه فسرها مالك وكذا في شرح مسلم للنووي‏.‏والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله‏.‏قال النووي‏:‏ ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة وهو دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من العترة وغيرهم القائلين

 

ج / 1 ص -310-       بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وفيه رد لمذهب أبي حنيفة فإنه قال‏:‏ إن وقت العصر لا يدخل حتى يصير ظل كل شيء مثليه وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏
2- وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال‏:‏ يا رسول اللَّه إنا نريد أن ننحر جزورًا لنا وإنا نحب أن تحضرها قال‏:‏
نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس‏"‏‏.‏رواه مسلم‏.‏
3- وعن رافع بن خديج قال‏:‏ ‏"‏كنا نصلي العصر مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قسم ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجًا قبل مغيب الشمس‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏
قوله ‏"‏ننحر جزورًا لنا‏"‏ في القاموس الجزور البعير أو خاص بالناقة المجزورة الجمع جزائر وجزر وجزرات‏.‏والحديثان يدلان على مشروعية المبادرة بصلاة العصر فإن نحر الجزور ثم قسمته ثم طبخه ثم أكله نضيجًا ثم الفراغ من ذلك قبل غروب الشمس من أعظم المشعرات بالتبكير بصلاة العصر فهو من حجج الجمهور‏.‏ومن ذلك حديث ابن عباس وجابر في صلاة جبريل وغير ذلك وكلها ترد ما قاله أبو حنيفة وقد خالفه الناس في ذلك ومن جملة المخالفين له أصحابه وقد تقدم ذكر مذهبه‏.‏
4- وعن بريدة الأسلمي قال‏:‏ ‏"‏كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في غزوة فقال‏:‏
بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاته صلاة العصر حبط عمله‏"‏‏.‏رواه أحمد وابن ماجه‏.‏
الحديث في سنن ابن ماجه رجاله رجال الصحيح ولكنه وهم فيه الأوزاعي فجعل مكان أبي المليح أبا المهاجر‏.‏وقد أخرجه أيضًا البخاري والنسائي عن أبي المليح عن بريدة بنحوه والأمر بالتبكير تشهد له الأحاديث السابقة وأما كون فوت صلاة العصر سببًا لإحباط العمل فقد أخرج البخاري في صحيحه
‏"‏من ترك صلاة العصر حبط عمله‏"‏ وأما تقييد التبكير بالغيم فلأنه مظنة التباس الوقت فإذا وقع التراخي فربما خرج الوقت أو اصفرت الشمس قبل فعل الصلاة ولهذه الزيادة ترجم المصنف الباب بقوله وتأكيده في الغيم‏.‏والحديث من الأدلة الدالة على استحباب التبكير لكن مقيدًا بذلك القيد وعلى عظم ذنب من فاتته صلاة العصر وسيأتي لذلك مزيد بيان‏.‏

 

ج / 1 ص -311-        باب بيان أنها الوسطى وما ورد في ذلك في غيرها
1- عن علي عليه السلام‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب‏:‏
ملأ اللَّه قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس‏"‏‏.‏متفق عليه‏.‏ ولمسلم وأحمد وأبي داود‏:‏‏"‏شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر‏"‏‏.‏
2- وعن علي عليه السلام‏:‏ ‏"‏قال‏:‏ كنا نراها الفجر فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى‏"‏‏.‏رواه عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه‏.‏
هذه الرواية الأخيرة رواها ابن مهدي قال حدثنا سفيان عن عاصم عن زر قال‏:‏ قلت لعبيدة‏:‏ سل عليًا عليه السلام عن الصلاة الوسطى فسأله فقال‏:‏ كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب ‏
"‏شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر‏"‏ قال ابن سيد الناس‏:‏ وقد روي ذلك عنه من غير وجه‏.‏
والحديث يدل على أن الصلاة الوسطى هي العصر وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال بعد اتفاقهم على أنها آكد الصلوات‏:‏- القول الأول - أنها العصر وإليه ذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأُبيَّ بن كعب وسمرة بن جندب وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي والكلبي وقتادة والضحاك ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر نقله عن هؤلاء النووي وابن سيد الناس في شرح الترمذي وغيرهما ونقله الترمذي عن أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم‏.‏ ورواه المهدي في البحر عن علي عليه السلام والمؤيد باللَّه وأبي ثور وأبي حنيفة‏.‏- القول الثاني - أنها الظهر نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة ونقله ابن المنذر عن عبد اللَّه بن شداد ونقله المهدي في البحر عن علي عليه السلام والهادي والقاسم وأبي العباس وأبي طالب وهو أيضًا مروي عن أبي حنيفة‏.‏- القول الثالث - أنها الصبح وهو مذهب الشافعي صرح به في كتبه ونقله النووي وابن سيد الناس عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس وجمهور أصحاب الشافعي وقال الماوردي من أصحاب الشافعي‏:‏ إن مذهبه أنها العصر لصحة الأحاديث فيه قال‏:‏ وإنما نص على أنها الصبح لأنها لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه أتباع الحديث ورواه أيضًا في البحر عن علي عليه السلام‏.‏- القول الرابع - أنها المغرب وإليه ذهب قبيصة بن ذؤيب‏.‏- القول الخامس - أنها العشاء نسبه ابن سيد الناس وغيره إلى البعض من العلماء وصرح المهدي في البحر بأنه مذهب الإمامية‏.‏- القول السادس - أنها الجمعة في يوم الجمعة وفي سائر الأيام الظهر حكاه ابن مقسم في تفسيره ونقله القاضي عياض عن البعض‏.‏- القول السابع - أنها إحدى الخمس مبهمة رواه ابن سيد الناس عن زيد بن ثابت والربيع بن خثيم وسعيد بن المسيب ونافع وشريح وبعض العلماء‏.‏- القول الثامن

 

ج / 1 ص -312-       أنها جميع الصلوات الخمس حكاه القاضي والنووي ورواه ابن سيد الناس عن البعض‏.‏القول التاسع - أنها صلاتان العشاء والصبح ذكره ابن مقسم في تفسيره أيضًا ونسبه إلى أبي الدرداء‏.‏القول العاشر - أنها الصبح والعصر ذهب إلى ذلك أبو بكر الأبهري‏.‏القول الحادي عشر - أنها الجماعة حكى ذلك عن الإمام أبي الحسن الماوردي‏.‏القول الثاني عشر - أنها صلاة الخوف ذكره الدمياطي وقال حكاه لنا من يوثق به من أهل العلم‏.‏القول الثالث عشر - أنها الوتر وإليه ذهب أبو الحسن علي بن محمد السخاوي المقري‏.‏القول الرابع عشر - أنها صلاة عيد الأضحى ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي والدمياطي‏.‏القول الخامس عشر - أنها صلاة عيد الفطر حكاه الدمياطي القول السادس عشر - أنها الجمعة فقط ذكره النووي‏.‏القول السابع عشر - أنها صلاة الضحى رواه الدمياطي عن بعض شيوخه ثم تردد في الرواية‏.‏احتج أهل القول الأول بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها ومنها حديث الباب وما بعده من الأحاديث المذكورة الآتية وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجود النظر إلى الأدلة ولم يعتذر عن أدلة هذا القول أهل الأقوال الآخرة بشيء يعتد به إلا حديث عائشة أنها أمرت أبا يونس يكتب لها مصحفًا الحديث سيأتي ويأتي الجواب عن هذا الاعتذار‏.‏وأما اعتذار من اعتذر عنه بأن الاعتبار بالوسطى من حيث العدد فهو عذر بارد ونصب لنظر فاسد في مقابلة النصوص لأن الوسطى لا تتعين أن تكون من حيث العدد لجواز أن تكون من حيث الفضل على أنه لو سلم أن المراد بها الوسطى من حيث العدد لم يتعين بذلك غير العصر من سائر الصلوات إذ لا بد أن يتعين الابتداء ليعرف الوسط ولا دليل على ذلك ولو فرضنا وجود دليل يرشد إلى الابتداء لم ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة المتفق عليها المتضمنة لأخبار الصادق المصدوق أن الوسطى هي العصر فكيف يليق بالمتدين أن يعول على مسلك النظر المبني على شفا جرف هار ليتحصل له به معرفة الصلاة الوسطى وهذه أقوال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تنادي ببيان ذلك‏.‏واحتج أهل القول الثاني بأن الظهر متوسطة بين نهاريتين وبأنها في وسط النهار ونصب هذا الدليل في مقابلة الأحاديث الصحيحة من الغرائب التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ واحتجوا أيضًا بقوله تعالى ‏{أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ}‏ فلم يذكرها ثم أمر بها حيث قال ‏{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ‏}‏ وأفردها في الأمر بالمحافظة عليها بقوله ‏{وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ‏}‏ وهذا الدليل أيضًا من السقوط بمحل لا يجهل نعم أحسن ما يحتج به لهم حديث زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وسيأتيان وسنذكر الجواب عليهما‏.‏واحتج أهل القول الثالث بأن الصبح تأتي وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف والنعاس وفتور الأعضاء وغفلة الناس وبورود الأخبار الصحيحة في تأكيد أمرها فخصت بالمحافظة لكونها معرضة للضياع بخلاف غيرها وهذه الحجة ليست بشيء ولكن الأولى الاحتجاج لهم بما رواه النسائي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏أدلج

 

ج / 1 ص -313-       رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم عرس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى وهي صلاة الوسطى‏"‏ ويمكن الجواب عن ذلك من وجهين الأول أن ما روي من قوله في هذا الخبر وهي صلاة الوسطى يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس ويحتمل أن يكون من قوله وقد أخرج عنه أبو نعيم أنه قال‏:‏ ‏"‏الصلاة الوسطى صلاة العصر‏"‏ وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الأول فلا يعارضه‏.‏ الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى فقد روى عنه أحمد في مسنده قال‏:‏ ‏"‏قاتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عدوًا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها فلما رأى ذلك قال اللَّهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املأ بيوتهم نارًا أو قبورهم نارًا‏"‏ وذكر أبو محمد بن الفرس في كتابه في أحكام القرآن أن ابن عباس قرأ ‏{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ‏}‏ صلاة العصر على البدل على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بل قالها من قبل نفسه وقوله ليس بحجة‏.‏واحتج أهل القول الرابع بأن المغرب سبقت عليها الظهر والعصر وتأخرت عنها العشاء والصبح‏.‏واحتج أهل القول الخامس بأنها العشاء بمثل ما احتج أهل القول الرابع‏.‏واحتج أهل القول السادس بأن الجمعة قد ورد الترغيب في المحافظة عليها‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا ضعيف لأن المفهوم من الإيصاء بالمحافظة عليها إنما كان لأنها معرضة للضياع وهذا لا يليق بالجمعة فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها لأنها تأتي في الأسبوع مرة بخلاف غيرها‏.‏واحتج أهل القول السابع على أنها مبهمة بما روي أن رجلًا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال‏:‏ حافظ على الصلوات تصبها فهي مخبوءة في جميع الصلوات خبء ساعة الإجابة في ساعات يوم الجمعة وليلة القدر في ليالي شهر رمضان والاسم الأعظم في جميع الأسماء والكبائر في جملة الذنوب‏.‏ وهذا قول صحابي ليس بحجة ولو فرض أن له حكم الرفع لم ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما‏.‏واحتج أهل القول الثامن بأن ذلك أبعث على المحافظة عليها أيضًا قال النووي‏:‏ وهذا ضعيف أو غلط لأن العرب لا تذكر الشيء مفصلًا ثم تجمله وإنما تذكره مجملًا ثم تفصله أو تفصل بعضه تنبيهًا على فضيلته‏.‏واحتج أهل القول التاسع بقوله صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو يعلمون ما في العشاء والصبح لأتوهما ولو حبوًا‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلاها مع الصبح في جماعة كان كقيام ليلة‏"‏ وهذا الاستدلال مع كونه لا يثبت المطلوب معارض بما ورد في العصر وغيرها من الترغيب والترهيب‏.‏واحتج أهل القول العاشر بمثل ما احتج به للتاسع ورد بمثل ما ورد‏.‏ واحتج أهل القول الحادي عشر بما ورد من الترغيب في المحافظة على الجماعة ورد بأن ذلك لا يستلزم كونها الوسطى وعورض بما ورد في سائر الصلوات من الفرائض وغيرها‏.‏واحتج أهل القول الثاني عشر بقول اللَّه تعالى عقيب قوله ‏{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} {‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}‏ وذكروا وجوهًا للاستدلال كلها مردودة‏.‏واحتج أهل القول الثالث عشر بأن المعطوف غير المعطوف عليه

 

ج / 1 ص -314-       فالصلاة الوسطى غير الصلوات الخمس وقد وردت الأحاديث بفضل الوتر فتعينت والنص الصريح الصحيح يرده‏.‏واحتج أهل القول الرابع عشر بمثل ما احتج به للذي قبله ورد بمثل ما رد‏.‏واحتج أهل القول الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر بمثل ذلك ورد بالنص والمعارضة‏.‏إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه ليس في شيء من حجج هذه الأقوال ما يعارض حجج القول الأول معارضة يعتد بها في الظاهر إلا ما سيأتي في الكتاب من الاحتجاج لأهل القول الثاني وستعرف عدم صلاحيته للتمسك به‏.‏
3- وعن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏حبس المشركون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏
شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه أجوافهم وقبورهم نارًا أو حشا اللَّه أجوافهم وقبورهم نارًا‏"‏‏.‏
 -4وعن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلاة الوسطى صلاة العصر‏"‏‏.‏رواه الترمذي وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏
5- وعن سمرة بن جندب عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏الصلاة الوسطى صلاة العصر‏"‏‏.‏
رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏ وفي رواية لأحمد‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وسماها لنا أنها صلاة العصر‏"‏‏.‏
حديث ابن مسعود الثاني حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره وحديث سمرة حسنه الترمذي في كتاب الصلاة من سننه وصححه في التفسير ولكنه من رواية الحسن عن سمرة وقد اختلف في صحة سماعه منه فقال‏:‏ شعبة لم يسمع منه شيئًا قيل سمع منه حديث العقيقة‏.‏وقال البخاري‏:‏ قال علي بن المديني‏:‏ سماع الحسن من سمرة صحيح ومن أثبت مقدم على من نفى‏.‏ ورواية أحمد ذكرها الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتكلم عليها وما في الصحيحين وغيرهما يشهد لها‏.‏ وفي الباب عن عمر عند النسائي والترمذي وقال‏:‏ ليس بإسناده بأس‏.‏وعن أبي هريرة عند الطحاوي والدمياطي وأشار إليه الترمذي وعن أبي هاشم بن عتبة عند الطحاوي وأشار إليه الترمذي أيضًا وهذه الأحاديث مصرحة بأن الصلاة الوسطى صلاة العصر فهي من حجج أهل القول الأول الذي أسلفناه وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك‏.‏قوله ‏"‏عن صلاة العصر‏"‏ هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم وظاهره أنه لم يفت غيرها وفي الموطأ أنها الظهر والعصر وفي الترمذي والنسائي بإسناد لا بأس به من حديث عبد اللَّه بن مسعود أنه قال‏:‏ ‏"‏شغل المشركون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه فأمر بلالًا فأذن

 

ج / 1 ص -315-       ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء‏"‏ ومثله أخرج أحمد والنسائي وأشار إليه الترمذي من حديث أبي سعيد‏.‏وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من رجح ما في الصحيحين كابن العربي ومنهم من جمع بين الأحاديث في ذلك بأن الخندق كانت وقعته أيامًا فكان ذلك كله في أوقات مختلفة في تلك الأيام وهذا أولى من الأول لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه وهذا إسناد صحيح جليل‏.‏ وأيضًا لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع على أن الزيادة مقبولة بالإجماع إذا وقعت غير منافية للمزيد‏.‏قوله ‏"‏حتى احمرت الشمس أو اصفرت‏"‏ وفي بعض روايات الصحيح ‏"‏حتى غابت‏"‏ قيل أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف قال العلماء‏:‏ يحتمل أنه أخرها نسيانًا لا عمدًا وكان السبب في النسيان الاشتغال بالعدو وكان هذا عذرًا قبل نزول صلاة الخوف على حسب الأحوال وسيأتي البحث عن ذلك‏.‏
6- وعن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء اللَّه ثم نسخها اللَّه فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل‏:‏ هي إذن صلاة العصر فقال‏:‏ قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها اللَّه واللَّه أعلم‏"‏‏.‏رواه أحمد ومسلم‏.‏
أخرجه مسلم من طريق شقيق بن عقبة عن البراء وليس له في صحيحه عن شقيق غير هذا الحديث وفيه متمسك لمن قال إن الصلاة الوسطى هي العصر بقرينة اللفظ المنسوخ وإن لم يكن صريحًا في المطلوب لأنه لا يجب أن يكون معنى اللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ وربما تمسك به من يرى أنها غير العصر قائلًا لو كان المراد باللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ لم يكن للنسخ فائدة فالعدول إلى لفظ الوسطى ليس إلا لقصد الإبهام ويجاب عنه بأنه أرشد إلى أن المراد بالناسخ المبهم نفس المنسوخ المعين ما في الباب من الأدلة الصحيحة‏.‏قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وهو دليل على كونها العصر لأنه خصها ونص عليها في الأمر بالمحافظة ثم جاء الناسخ في التلاوة متيقنًا وهو في المعنى مشكوك فيه فيستصحب المتيقن السابق وهكذا جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تعظيم أمر فواتها تخصيصًا فروى عبد اللَّه بن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله‏"‏ رواه الجماعة انتهى‏:‏قوله ‏"‏أهله وماله‏"‏ روي بنصب اللامين ورفعهما والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور على أنه مفعول ثان ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله ومعناه انتزع منه أهله وماله وهذا تفسير مالك بن أنس‏.‏وأما على رواية النصب فقال الخطابي وغيره‏:‏ معناه نقص هو أهله وماله وسلبهم فبقي بلا أهل ولا مال فليحذر من تفويتها

 

ج / 1 ص -316-       كحذره من ذهاب أهله وماله‏.‏ وقال أبو عمر ابن عبد البر‏:‏ معناه عند أهل اللغة والفقه أنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترًا والوتر الجناية التي يطلب ثأرها فيجتمع عليه غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر‏.‏
7- وعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال‏:‏ ‏"‏أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا فقالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها آذنتها فأملت عليَّ
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين قالت عائشة‏:‏ سمعتها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏"‏‏.‏رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏.‏
وفي الباب عن حفصة عند مالك في الموطأ قال عمرو بن رافع أنه‏:‏ ‏"‏كان يكتب لها مصحفًا فقالت له‏:‏ إذا انتهيت إلى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فآذني فآذنتها فقالت‏:‏ اكتب والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين‏"‏‏.‏استدل بالحديث من قال إن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر لأن العطف يقتضي المغايرة وهو راجع إلى الخلاف الثابت في الأصول في القراءة الشاذة هل تنزل منزلة أخبار الآحاد فتكون حجة كما ذهبت إليه الحنفية وغيرهم أم لا تكون حجة لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر كما ذهبت إلى ذلك الشافعية والراجح الأول‏.‏وقد غلط من استدل من الشافعية بحديث عائشة وحفصة على أن هذه الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لما عرفت من أن مذهبهم في الأصول يأبى هذا الاستدلال وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث من طرف القائلين بأنها العصر بوجهين‏:‏الأول أن تكون الواو زائدة في ذلك على حد زيادتها في قوله تعالى
‏{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏}‏ وقوله ‏{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ‏}‏ وقوله ‏{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}‏ وقوله ‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ‏}‏ حكى عن الخليل أنه قال‏:‏ يصدون والواو مقحمة زائدة‏.‏ ومثله في القرآن كثير ومنه قول امرئ القيس‏:‏
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاق عقنقل
وقول الآخر‏:‏
فإذا وذاك يا كبيشة لم يكن

إلا كلمة حالم بخيال

الثاني أن لا تكون زائدة وتكون من باب عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد نحو قوله‏:‏
إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم
 
وقريب منه قول الآخر‏:‏

 

ج / 1 ص -317-       أكر عليهم دعلجًا ولبانة

إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمحمًا

فعطف لبانة وهو صدره على دعلج وهو اسم فرسه ومعلوم أن الفرس لا يكر إلا ومعه صدره لما كان الصدر يلتقي به ويقع به المصادمة‏:‏
وقال مكي بن أبي طالب في تفسيره‏:‏ وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى غير العصر لأن سيبويه حكى مررت بأخيك وصاحبك والصاحب هو الأخ فكذلك الوسطى هي العصر وإن عطفت بالواو انتهى‏.‏
وتغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى في جواز العطف ومنه قول أبي داود الأيادي‏:‏
سلط الموت والمنون عليهم

فلهم في صد المقابر هام

وقول عدي بن زيد العبادي‏:‏
وقدمت الأديم لراهشيه

فألفى قولها كذبًا ومينًا

وقول عنترة‏:
حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأفقر بعد أم الهيثم

وقول الآخر‏:‏
ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد
 
وهذا التأويل لا بد منه لوقوع هذه القراءة المحتملة في مقابلة تلك النصوص الصحيحة الصريحة‏.‏ وقد روي عن السائب بن يزيد أنه تلا هذه الآية ‏
{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى صلاة العصر‏}‏ وهذا التأويل المذكور يجري في حديث عائشة وحفصة ويختص حديث حفصة بما روى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عمرو بن رافع قال‏:‏ ‏"‏كان مكتوبًا في مصحف حفصة بنت عمر حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر‏"‏ ذكر هذه الرواية والرواية السابقة عن السائب ابن سيد الناس في شرح الترمذي‏.‏
قال المصنف رحمه اللَّه تعالى بعد سياق حديث عائشة ما لفظه‏:‏ وهذا يتوجه منه كون الوسطى العصر لأن تسميتها في الحث على المحافظة دليل تأكدها وتكون الواو فيه زائدة كقوله :
{‏ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً ‏}‏ أي ضياء وقوله ‏{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ‏}‏ أي ناديناه إلى نظائرها انتهى‏.‏
8- وعن زيد بن ثابت قال‏:‏ ‏"‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها فنزلت ‏
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ‏}‏ وقال‏:‏ إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين‏"‏‏.‏رواه أحمد وأبو داود‏.‏
9- وعن أسامة بن زيد في الصلاة الوسطى قال‏:‏ هي الظهر ‏"‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف

 

ج / 1 ص -318-       والصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل اللَّه {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للَّه قانتين}‏‏.‏رواه أحمد‏‏
الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه البخاري في التاريخ والنسائي بإسناد رجاله ثقات‏.‏ وأخرج نحو ذلك في الموطأ والترمذي عن زيد أيضًا‏.‏والحديث الثاني أخرجه أيضًا النسائي وابن منيع وابن جرير والضياء في المختارة ورجال إسناده في سنن النسائي ثقات‏.‏قوله ‏"‏الهجير‏"‏ قال في القاموس‏:‏ الهجيرة والهجير والهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر لأن الناس يسكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا لشدة الحر‏.‏والأثران استدل بهما من قال إن الصلاة الوسطى هي الظهر وأنت خبير بأن مجرد كون صلاة الظهر كانت شديدة على الصحابة لا يستلزم أن تكون الآية نازلة فيها غاية ما في ذلك أن المناسب أن تكون الوسطى هي الظهر ومثل هذا لا يعارض به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة قد قدمنا لك منها جملة نافعة وعلى فرض أن قول هذين الصحابين تصريح ببيان سبب النزول لا إبداء مناسبة فلا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الاستدلال أن ذلك لا ينتهض لمعارضة ما سلف على أنه يعارض المروي عن زيد بن ثابت هذا ما قدمنا عنه في شرح حديث علي فراجعه ولعلك إذا أمعنت النظر فيما حررناه في هذا الباب لا تشك بعده أن الوسطى هي العصر‏.‏
فكن رجلًا رجله في الثرى

وهامة همته في الثرياقال المصنف رحمه اللَّه بعد أن ساق الأثرين ما لفظه‏:‏ وقد احتج بهما من يرى تعجيل الظهر في شدة الحر انتهى‏.‏