نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الجنائز
هي جمع جنازة بكسر الجيم
وفتحها قال ابن قتيبة وجماعة والكسر أفصح وحكى
صاحب المطالع أنه يقال بالفتح للميت وبالكسر
للنعش عليه الميت ويقال عكس ذلك انتهى.
والجنازة مشتقة من جنز
إذا ستر قاله ابن فارس وغيره والمضارع يجنز
بكسر النون قاله النووي. والجنائز بفتح
الجيم لا غير قاله النووي والحافظ وغيرهما.
باب عيادة
المريض
1- عن أبي هريرة:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال:
حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة
المريض وإتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت
العاطس".
متفق عليه.
2- وعن ثوبان قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في
مخرفة الجنة حتى يرجع".
رواه أحمد ومسلم والترمذي.
قوله: "خمس" في
رواية لمسلم:
"حق المسلم على المسلم ست" وزاد: "وإذا
استنصحك فانصح له" وفي رواية للبخاري من حديث البراء:
"أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم بسبع" وذكر الخمس المذكورة في حديث
الباب وزاد:
"ونصر المظلوم وإبرار القسم"
والمراد بقوله
"حق المسلم"
أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبًا أو
مندوبًا ندبًا مؤكدًا شبيهًا بالواجب الذي لا
ينبغي تركه ويكون استعماله في المعنيين من باب
استعمال المشترك في معنييه فإن الحق يستعمل في
معنى الواجب كذا ذكره ابن الأعرابي وكذا
يستعمل في معنى الثابت ومعنى اللازم ومعنى
الصدق وغير ذلك. وقال ابن بطال: المراد
ج / 4 ص -16-
بالحق هنا الحرمة والصحبة. وقال الحافظ:
الظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية.
قوله: "رد السلام"
فيه دليل على مشروعية رد السلام ونقل ابن عبد
البر الإجماع على أن ابتداء السلام سنة وأن
رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام
ورحمة اللَّه وبركاته وهذه الصفة أكمل وأفضل
فلو حذف الواو جاز وكان تاركًا للأفضل وكذا لو
اقتصر على وعليكم السلام بالواو أو بدونها
أجزأه فلو اقتصر على وعليكم لم يجزه بلا خلاف
ولو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان
لأصحاب الشافعي. وظاهر قوله "حق المسلم"
أنه لا يرد على الكافر.
وأخرج البخاري في صحيحه
عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم".
وفي الصحيحين عن أنس: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم"
وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن عمر وقد قطع
الأكثر بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام وفي
الصحيحين عن أسامة: "أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم مر على مجلس فيه أخلاط
من المسلمين والمشركين فسلم عليهم".
وفي الصحيحين أيضًا:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
كتب إلى هرقل عظيم الروم
سلام على من اتبع الهدى".
قوله: "وعيادة المريض" فيه دلالة على شرعية عيادة المريض
وهي مشروعة بالإجماع وجزم البخاري بوجوبها
فقال باب وجوب عيادة المريض. قال ابن
بطال: يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية كإطعام
الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون الوارد فيها
محمولا على الندب وجزم الداودي بالأول وقال
الجمهور بالندب وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض
دون بعض وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته
وتسن فيمن يراعي حاله وتباح فيما عدا ذلك وفي
الكافر خلاف ونقل النووي الإجماع على عدم
الوجوب.
قال الحافظ: يعني على
الأعيان وعامة في كل مرض.
قوله: "وإتباع
الجنائز" فيه أن إتباعها مشروع وهو سنة
بالإجماع واختلف في وجوبه وسيأتي الكلام عليه
إن شاء اللَّه تعالى.
قوله: "وإجابة
الدعوة" فيه مشروعية إجابة الدعوة وهي أعم
من الوليمة وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب
الوليمة إن شاء اللَّه تعالى.
قوله: "وتشميت
العاطس" التشميت بالسين المهملة والمعجمة
لغتان مشهورتان. قال الأزهري: قال الليث
التسميت ذكر اللَّه تعالى على كل شيء ومنه
قولك للعاطس يرحمك اللَّه. وقال ثعلب:
الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب
المحكم: تسميت العاطس معناه الدعاء له
بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على
مشروعية تسميت العاطس وهو أن يقول له يرحمك
اللَّه.
وأخرج أبو داود بإسناد
صحيح عن أبي هريرة: "عن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم أنه قال:
إذا عطس أحدكم فليقل الحمد للَّه على كل حال
وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك اللَّه ويقول هو
يهديكم اللَّه ويصلح بالكم".
وأخرج البخاري عن أبي
هريرة قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
إذا عطس أحدكم فليقل الحمد للَّه وليقل أخوه
أو صاحبه يرحمك اللَّه فإذا قال يرحمك اللَّه
فليقل له يهديكم اللَّه ويصلح بالكم".
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر قال:
"إذا عطس أحدكم فقيل له يرحمك اللَّه يقول يرحمنا اللَّه وإياكم
ويغفر لنا وإياكم".
والتسميت سنة على الكفاية ولو قال بعض الحاضرين أجزأ عن
الباقين
ج / 4 ص -17-
ولكن الأفضل أن يقول كل واحد لما في البخاري
عن أبي هريرة: "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
إذا عطس أحدكم وحمد اللَّه كان حقًا على كل مسلم سمعه أن يقول يرحمك
اللَّه تعالى"
وقال أهل الظاهر: إنه يلزم كل واحد وبه قال
ابن أبي مريم واختاره ابن العربي والتسميت
إنما يكون مشروعًا للعاطس إذا حمد اللَّه كما
في حديث أبي هريرة المذكور.
وفي الصحيحين عن أنس
قال: "عطس رجلان عند النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فسمت أحدهما ولم يسمت الآخر
فقال الذي لم يسمته فلان عطس فسمته وعطست فلم
تسمتني فقال هذا حمد اللَّه وأنت لم تحمد
اللَّه".
وفي صحيح مسلم عن أبي
موسى الأشعري قال: "سمعت رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يقول:
إذا عطس أحدكم فحمد اللَّه فشمتوه فإن لم يحمد
اللَّه فلا تشمتوه" وإذا تكرر العطاس فهل يشرع تكرير التسميت أو لا فيه خلاف.
وقد أخرج ابن السني
بإسناد فيه من لم يتحقق حاله عن أبي هريرة
قال: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
إذا عطس أحدكم فليسمته جليسه وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يسمت بعد
ثلاث".
وفي مسلم عن سلمة بن الأكوع: "أنه قال له النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في الثانية
إنك مزكوم" وأخرج أبو داود والترمذي من حديث سلمة أنه قال له في الثالثة
يرحمك اللَّه هذا رجل مزكوم.
وأخرج أبو داود والترمذي
أيضًا عن عبيد بن رفاعة قال: "قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
تسميت العاطس ثلاثًا فإن زاد فإن شئت سمته وإن شئت فلا" ولكنه حديث ضعيف قال الترمذي: إسناده مجهول.
قال ابن العربي: ومعنى
قوله إنك مزكوم أي إنك لست ممن يسمت بعد هذا
لأن هذا الذي بك زكام ومرض لا خفة العطاس
ولكنه يدعى له بدعاء المسلم للمسلم بالعافية
والسلامة ولا يكون من باب التسميت.
والسنة للعاطس أن يضع
ثوبه أو يده على فيه عند العطاس لما أخرجه أبو
داود والترمذي عن أبي هريرة قال: "كان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا
عطس وضع ثوبه أو يده على فيه وخفض أو غض بها
صوته" وحسنه الترمذي.
ويكره رفع الصوت بالعطاس
لما أخرجه ابن السني عن عبد اللَّه بن الزبير
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم: إن اللَّه عز وجل يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس".
وأخرج أيضًا عن أم سلمة
قالت: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
التثاؤب الرفيع والعطسة الشديدة من
الشيطان".
قوله: "لم يزل في مخرفة الجنة" بالخاء المعجمة على زنة
مرحلة وهي البستان ويطلق على الطريق اللاحب أي
الواضح. ولفظ الترمذي:
"لم يزل في خرفة الجنة" والخرف بالضم المخترف والمجتني أفاده صاحب القاموس.
3- وعن علي رضي اللَّه
عنه قال: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يقول:
إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى
يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى
عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى
عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح".
رواه أحمد
ج / 4 ص -18-
وابن ماجه. وللترمذي وأبي داود نحوه.
4- وعن أنس قال:
"كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا
يعود مريضا إلا بعد ثلاث".
رواه ابن ماجه.
5- وعن زيد بن أرقم
قال: "عادني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم من وجع كان بعيني".
رواه أحمد وأبو داود.
حديث علي قال أبو
داود: إنه أسند عن علي من غير وجه صحيح وقال
الترمذي: إنه حسن غريب. وقال أبو بكر
البزار: هذا الحديث رواه أبو معاوية عن
الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ورواه شعبة عن الحكم عن عبد اللَّه عن نافع
وهذا اللفظ لا يعلم رواه إلا علي. وقد روي
عن علي من غير وجه وحديث أنس في إسناده مسلم
بن علي وهو متروك وحديث زيد بن أرقم سكت عنه
أبو داود والمنذري وأخرجه أيضًا البخاري في
الأدب المفرد وصححه الحاكم ـ وفي الباب ـ عن
أبي موسى عند البخاري قال: "قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني" وعن جابر عند البخاري وأبي داود قال: "كان النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا
برذون" وعن أنس غير حديث الباب عند أبي داود
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسبًا بوعد من جهنم مسير
سبعين خريفًا"
وفي إسناده الفضل بن دلهم. قال يحيى بن
معين: ضعيف الحديث وقال أحمد: لا يحفظ.
وقال مرة: ليس به باس. وقال ابن حبان:
كان ممن يخطئ فلا يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج
به ولا أقتفي أثر العدول فيسلك به سنتهم فهو
غير محتج به إذا انفرد. وعن عائشة عند
البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال:
"لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق ضرب عليه
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم خيمة
في المسجد ليعوده من قريب" وعن عائشة بنت
سعد عن أبيها قال: "اشتكيت فجاءني رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعودني ووضع
يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال اللَّهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته" أخرجه البخاري وأبو داود. وعن البراء أشار إليه الترمذي. وعن
أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه بلفظ:
"من عاد مريضًا نادى مناد من السماء طبت
وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا".
قوله: "من خرافة" بزنة كناسة المخترف والمجتني كذا قال
في القاموس قال في الفتح: خرفة بضم المعجمة
وسكون الراء بعدها فاء هي الثمرة وقيل المراد
بها هنا الطريق. والمعنى أن العائد يمشي في
طريق يؤديه إلى الجنة والتفسير الأول أولى فقد
أخرجه البخاري في الأدب من هذا الوجه وفيه:
قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة قال جناها.
وهو عند مسلم من جملة المرفوع.
قوله: "إلا بعد
ثلاث" يدل على أن زيارة المريض إنما تشرع
بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به
مطلقات الأحاديث الواردة في الزيارة ولكنه غير
صحيح ولا حسن كما عرفت فلا يصلح لذلك.
قوله: "من وجع كان
بعيني" فيه أن وجع العين من الأمراض التي
تشرع لها الزيارة فيرد
ج / 4 ص -19-
بالحديث على من لم يقل باستحباب زيارة من
كان مرضه الرمد ونحوه من الأمراض الخفيفة .
وأحاديث الباب تدل على
تأكد مشروعية زيارة المريض وقد تقدم الخلاف في
حكمها ويستحب الدعاء للمريض وقد ورد في صفته
أحاديث منها حديث عائشة بنت سعد المتقدم.
ومنها حديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي
والترمذي وحسنه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم أنه قال:
"من عاد مريضًا لم يحضر أجله فقال عنده سبع
مرات أسال اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن
يشفيك إلا عافاه اللَّه من ذلك المرض"
وفي إسناده يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد
المعروف بالدالاني وقد وثقه أبو حاتم وتكلم
فيه غير واحد. ومنها حديث عن عبد اللَّه بن
عمرو بن العاص عند أبي داود قال: "قال
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: إذا جاء
الرجل يعود مريضًا فليقل اللَّهم اشف عبدك ينكأ لك عدوًا أو يمشي لك إلى جنازة".
باب من كان آخر
قوله لا إله إلا اللَّه وتلقين المحتضر
وتوجيهه وتغميض الميت والقراءة عنده
1- عن معاذ قال:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يقول:
من كان آخر قوله لا إله إلا اللَّه دخل
الجنة".
رواه أحمد وأبو داود.
الحديث أخرجه أيضًا
الحاكم وفي إسناده صالح ابن أبي غريب. قال
ابن القطان: لا يعرف وأعل الحديث به وتعقب
بأنه روى عنه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات
وقد عزا هذا الحديث ابن معن إلى الصحيحين فغلط
فإنه ليس فيهما والذي فيهما لم يقيد بالموت
ولكنه روى مسلم من حديث عثمان:
"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا اللَّه دخل الجنة" ـ وفي الباب ـ عن أبي سعيد وأبي هريرة عند الطبراني بلفظ: "من قال عند موته لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا
باللَّه لا تطعمه النار أبدًا"
وفي إسناده جابر بن يحيى الحضرمي. وأخرج
النسائي نحوه عن أبي هريرة وحده. وأخرج مسلم
من حديث أبي ذر قال: "قال النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
ما من عبد قال لا إله إلا اللَّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"
وأخرج الحاكم عن عمر مرفوعًا:
"إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه
فيموت على ذلك إلا حرم على النار لا إله إلا
اللَّه" ـ وفي الباب أيضًا ـ عن طلحة وعبادة وعمر عند أبي نعيم في
الحلية. وعن ابن مسعود عند الخطيب مثل حديث
الباب. وعن حذيفة عنده أيضًا بنحوه. وعن
جابر وابن عمر عند الدارقطني في العلل بنحوه
أيضًا والحديث فيه دليل على نجاة من كان آخر
قوله لا إله إلا اللَّه من النار واستحقاقه
لدخول الجنة وقد وردت أحاديث صحيحة في
الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن مجرد
قوله لا إله إلا اللَّه من موجبات دخول الجنة
من غير تقييد بحال الموت فبالأولى أن توجب ذلك
إذا قالها في وقت لا تتعقبه معصية.
2- وعن أبي سعيد عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
"لقنوا موتاكم
ج / 4 ص -20-
لا إله إلا اللَّه". رواه الجماعة إلا البخاري.
ـ وفي الباب ـ عن أبي
هريرة عند مسلم بمثل حديث أبي سعيد ورواه ابن
حبان عنه وزاد: "فإنه
من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة
يوما من الدهر وان أصابه ما أصابه قبل ذلك" وعنه أيضًا حديث آخر بلفظ:
"إذا ثقلت مرضاكم فلا تملوهم قول لا إله إلا اللَّه ولكن لقنوهم فإنه
لم يختم به لمنافق قط"
وفي إسناده محمد بن الفضل ابن عطية وهو
متروك. وعن عائشة عند النسائي بنحو حديث
الباب. وعن عبد اللَّه ابن جعفر عند ابن
ماجه وزاد:
"الحليم الكريم سبحان اللَّه رب العرش
العظيم الحمد للَّه رب العالمين" وعن جابر عند الطبراني في الدعاء والعقيلي في الضعفاء وفيه عبد
اللَّه بن مجاهد وهو متروك. وعن عروة بن
مسعود الثقفي عند العقيلي بإسناد ضعيف. وعن
حذيفة عند ابن أبي الدنيا وزاد:
"فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا"
وعن ابن عباس عند الطبراني. وعن ابن مسعود
عنده أيضًا. وعن عطاء بن السائب عن أبيه عن
جده عنده أيضًا. قال العقيلي: روي في
الباب أحاديث صحاح عن غير واحد من الصحابة.
وروي فيه أيضًا عن عمر وعثمان وابن مسعود وأنس
وغيرهم هكذا في التلخيص.
قوله: "لقنوا
موتاكم" قال النووي: أي من حضره الموت
والمراد ذكروه لا إله إلا اللَّه لتكون آخر
كلامه كما في الحديث:
"من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة" والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا
الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجره لضيق حاله
وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه أو يتكلم بكلام لا
يليق قالوا وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن
يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض له به
ليكون آخر كلامه. ويتضمن الحديث الحضور عند
المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينيه والقيام
بحقوقه وهذا مجمع عليه اهـ كلام النووي ولكنه
ينبغي أن ينظر ما القرينة الصارفة للأمر عن
الوجوب.
3- وعن عبيد بن عمير عن
أبيه وكانت له صحبة: "أن رجلا قال: يا
رسول اللَّه ما الكبائر قال:
هي سبع فذكر منها
واستحلال البيت الحرام
ج / 4 ص -21-
قبلتكم أحياءً وأمواتًا".
رواه أبو داود.
الحديث أخرجه أيضًا
النسائي والحاكم ولفظه عند أبي داود
والنسائي: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم قال وقد سأله رجل عن الكبائر
فقال:
هن تسع الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا
وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف
المحصنات وعقوق الوالدين واستحلال البيت"
الحديث.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
عمر عند البغوي في الجعديات بنحو حديث الباب
ومداره على أيوب بن عتبة وهو ضعيف وقد اختلف
عليه فيه.
قوله: "قال هي
سبع" بتقديم السين هكذا وقع في نسخ الكتاب
الصحيحة التي وقفنا عليها والصواب تسع بتقديم
التاء الفوقية.
والحديث استدل به على
مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة لقوله
واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً
وأمواتًا. وفي الاستدلال به على ذلك نظر لأن
المراد بقوله أحياءً عند الصلاة وأمواتًا في
اللحد والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث
وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي
وعدم اختصاصه بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع.
والأولى الاستدلال لمشروعية التوجيه بما رواه
الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة: "أن البراء
بن معرور أوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر فقال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
أصاب الفطرة"
وقد ذكر هذا الحديث في التلخيص وسكت عنه.
وقد اختلف في صفة التوجيه إلى القبلة فقال
الهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه: إنه
يوجه مستلقيًا ليستقبلها بكل وجهه. وقال
المؤيد باللَّه وأبو حنيفة والإمام يحيى
والشافعي في أحد قوليه: إنه يوجه على جنبه
الأيمن وروي عن الإمام يحيى أنه قال:
الأمران جائزان والأولى أن يوجه على جنبه
الأيمن لما أخرجه ابن عدي في الكامل ولم يضعفه
من حديث البراء بلفظ:
"إذا أخذ أحدكم مضجعه فليتوسد يمينه" الحديث. أخرجه البيهقي في الدعوات بإسناد قال الحافظ حسن. وأصل
الحديث في الصحيحين بلفظ:
"إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم
اضطجع على شقك الأيمن وقل اللَّهم إني أسلمت
نفسي إليك"
وفي آخره:
"فان مت من ليلتك فأنت على الفطرة" ـ وفي الباب ـ عن عبد اللَّه بن زيد عند النسائي والترمذي وأحمد
بلفظ: "كان إذا نام وضع يده اليمنى تحت
خده" وعن ابن مسعود عند النسائي والتزمذي
وابن ماجه. وعن حفصة عند أبي داود. وعن
سلمى أم أبي رافع عند أحمد في المسند بلفظ:
"أن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت
يمينها" وعن حذيفة عند الترمذي. وعن أبي
قتادة عند الحاكم والبيهقي بلفظ: "كان إذا
عرس وعليه ليل توسد يمينه" وأصله في مسلم.
ووجه الاستدلال بأحاديث توسد اليمين عند النوم
على استحباب أن يكون المحتضر عند الموت كذلك
أن النوم مظنة للموت وللإشارة بقوله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
"فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة"
بعد قوله:
"ثم اضطجع على شقك الأيمن" فإنه يظهر منها أنه ينبغي أن يكون المحتضر على تلك الهيئة.
4- وعن شداد بن أوس
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر
يتبع الروح وقولوا خيرًا فإنه يؤمن على ما قال
أهل الميت".
رواه أحمد وابن ماجه.
الحديث أخرجه أيضًا
الحاكم والطبراني في الأوسط والبزار وفي
إسناده قزعة بن سويد. قال في التقريب:
قزعة بفتح القاف والزاي والعين قال في
الخلاصة: قال أبو حاتم: محله الصدق ليس
بذاك القوي. ـ وفي الباب ـ عن أم سلمة
قالت: "دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم
قال:
إن الروح إذا قبض تبعه البصر" أخرجه مسلم.
قوله: "فإن البصر
يتبع الروح" قال النووي: معناه إذا خرج
الروح من الجسد تبعه البصر ناظرًا أين يذهب
قال: وفي الروح لغتان التذكير والتأنيث
قال: وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين ومن
وافقهم أن الروح أجسام لطيفة متخللة
ج / 4 ص -22-
في البدن وتذهب الحياة عن الجسد بذهابها
وليس عرضًا كما قاله آخرون ولا دمًا كما قاله
آخرون وفيها كلام متشعب للمتكلمين اهـ.
قوله: "وقولوا
خيرًا" الخ هذا في صحيح مسلم من حديث أم
سلمة بلفظ:
"لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة
يؤمنون على ما تقولون" والحديث فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له
وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه وحضور
الملائكة حينئذ وتأمينهم. وفيه أن تغميض
الميت عند موته مشروع. قال النووي: وأجمع
المسلمون على ذلك قالوا: والحكمة فيه أن لا
يقبح منظره لو ترك إغماضه.
5- وعن معقل بن يسار
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
اقرؤوا يس على موتاكم".
رواه أبو داود وابن ماجه
وأحمد ولفظه: "يس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد اللَّه والدار والآخرة إلا غفر له
واقرؤوها على موتاكم".
الحديث أخرجه أيضًا النسائي وابن حبان وصححه وأعله ابن القطان
بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان
وأبيه المذكورين في السند. وقال
الدارقطني: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول
المتن ولا يصح في الباب حديث. قال أحمد في
مسنده: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان
قال: كانت المشيخة يقولون إذا قرئت يعني يس
لميت خفف عنه بها وأسنده صاحب مسند الفردوس من
طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمر وعن شريح
عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: "قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون اللَّه
عليه"
ـ وفي الباب ـ عن أبي ذر وحده أخرجه أبو الشيخ
في فضل القرآن هكذا في التلخيص. قال ابن
حبان في صحيحه: قوله "اقرؤوا على موتاكم
يس" أراد به من حضرته المنية لا أن الميت
يقرأ عليه وكذلك:
"لقنوا موتاكم لا إله إلا اللَّه"
ورده المحب الطبري في القراءة وسلم له في
التلقين اهـ واللفظ نص في الأموات وتناوله
للحي المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا
لقرينة.
باب المبادرة
إلى تجهيز الميت وقضاء دينه
1- عن الحصين بن وحوح
"أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يعوده فقال:
إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فأذنوني
به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس
بين ظهري أهله".
رواه أبو داود .
الحديث سكت عنه أبو داود
وقال المنذري: قال أبو القاسم البغوي: ولا
أعلم روى هذا الحديث غير سعيد بن عثمان البلوي
وهو غريب اهـ. وقد وثق سعيد المذكور ابن
حبان ولكن في إسناد هذا الحديث عروة ابن سعيد
الأنصاري ويقال عزرة عن أبيه وهو وأبوه
مجهولان. ـ وفي
ج / 4 ص -23-
الباب ـ عن علي: "أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
ثلاث يا علي لا يؤخرن الصلاة إذا آنت والجنازة
إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤًا" أخرجه أحمد وهذا لفظه والترمذي بهذا اللفظ ولكنه قال لا تؤخرها
مكان قوله لا يؤخرهن وقال: هذا حديث غريب
وما أرى إسناده بمتصل وأخرجه أيضًا ابن ماجه
والحاكم وابن حبان وغيرهم وإعلال الترمذي له
بعدم الاتصال لأنه من طريق عمر بن علي عن أبيه
علي بن أبي طالب قيل ولم يسمع منه وقد قال أبو
حاتم: إنه سمع منه فاتصل إسناده وقد أعله
الترمذي أيضًا بجهالة سعيد بن عبد اللَّه
الجهني ولكنه عده ابن حبان في الثقات.
قوله: "عن الحصين بن
وحوح" هو أنصاري وله صحبة ووحوح بفتح الواو
وسكون الحاء المهملة وبعدها واو مفتوحة وحاء
مهملة أيضًا. وطلحة بن البراء أنصاري له
صحبة.
والحديث يدل على مشروعية
التعجيل بالميت والإسراع في تجهيزه وتشهد له
أحاديث الإسراع بالجنازة وستأتي.
2- وعن أبي هريرة "عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه".
رواه أحمد وابن ماجه
والترمذي وقال: حديث حسن.
الحديث رجال إسناده ثقات
إلا عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو صدوق
يخطئ. فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت
والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى
عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه وأما
من لا مال له ومات عازمًا على القضاء فقد ورد
في الأحاديث ما يدل على أن اللَّه تعالى يقضي
عنه بل ثبت أن مجرد محبة المديون عند موته
للقضاء موجبة لتولي اللَّه سبحانه لقضاء دينه
وإن كان له مال ولم يقض منه الورثة أخرجه
الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: "من دان بدين في نفسه وفاؤه تجاوز اللَّه عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن
دان بدين وليس في نفسه وفاؤه ومات اقتص اللَّه
لغريمه منه يوم القيامة"
وأخرج أيضًا من حديث ابن عمر:
"الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاؤه فأنا وليه ومن
مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته
ليس يومئذ دينار ولا درهم" وأخرج أيضًا من حديث عبد الرحمن ابن أبي
بكر: "يؤتى بصاحب الدين يوم القيامة فيقول اللَّه فيم
أتلفت أموال الناس فيقول يا رب إنك تعلم أنه
أتى على إما حرق وإما غرق فيقول فإني سأقضي
عنك اليوم فيقضي عنه"
وأخرج أحمد وأبو نعيم في الحلية والبزار
والطبراني بلفظ: "يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي اللَّه عز وجل فيقول
يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق
الناس فيقول يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم أكل
ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق
وإما سرق وإما وضيعة فيقول اللَّه صدق عبدي
وأنا أحق من قضى عنك فيدعو اللَّه بشيء فيضعه
في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل
الجنة بفضل رحمته" وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال:
"من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى اللَّه عنه
ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه"
ج / 4 ص -24-
وأخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث
ميمونة: "ما من مسلم يدان دينًا يعلم اللَّه أنه يريد
أداؤه إلا أدى اللَّه عنه في الدنيا
والآخرة" وأخرج الحاكم بلفظ:
"من تداين بدين في نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز
اللَّه عنه وأرضى غريمه بما شاء" وقد ورد أيضًا ما يدل على أن من مات من المسلمين مديونًا فدينه على
من إليه ولاية أمور المسلمين يقضيه عنه من بيت
مالهم وإن كان له مال كان لورثته أخرج البخاري
من حديث أبي هريرة:
"ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا
والأخرة اقرؤوا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن مات وترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينًا أو
ضياعًا فليأتني فأنا مولاه"
وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وأخرج
أحمد وأبو يعلى من حديث أنس: "من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينًا فعلى اللَّه وعلى رسوله"
وأخرج ابن ماجه من حديث عائشة:
"من حمل من أمتي دينًا فجهد في قضائه فمات
قبل أن يقضيه فأنا وليه"
وأخرج ابن سعد من حديث جابر يرفعه:
"أحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها
وكل بدعة ضلالة من مات فترك مالا فلأهله ومن
ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ"
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه في حديث
آخر:
"من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينًا أو
ضياعًا فإليَّ وعليَّ وأنا أولى بالمؤمنين" وفي معنى ذلك عدة أحاديث ثبتت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه
قالها بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون
فلما فتح اللَّه عليه البلاد وكثرت الأموال
صلى على من مات مديونًا وقضى عنه وذلك مشعر
بأن من مات مديونًا استحق أن يقضى عنه دينه من
بيت مال المسلمين وهو أحد المصارف الثمانية
فلا يسقط حقه بالموت ودعوى من ادعى اختصاصه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذلك ساقطة وقياس
الدلالة ينفي هذه الدعوى في مثل قوله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
"وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه" أخرجه أحمد وابن ماجه وسعيد بن منصور والبيهقي وهم لا يقولون أن
ميراث من لا وارث له مختص برسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وقد أخرج الطبراني من
حديث سلمان ما يدل على انتفاء هذه الخصوصية
المدعاة ولفظه: "من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينًا فعلي وعلى الولاة من بعدي من
بيت المال".
باب تسجية الميت
والرخصة في تقبيله
1- عن عائشة: "أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين
توفى سجى ببرد حبرة".
متفق عليه.
2- وعن عائشة: "أن
أبا بكر دخل فبصر برسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم وهو مسجى ببرده فكشف عن وجهه
وأكب عليه فقبله".
رواه أحمد والبخاري
والنسائي.
3- وعن عائشة وابن
عباس: "أن أبا بكر قبل النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بعد موته".
رواه البخاري والنسائي
وابن ماجه.
ج / 4 ص -25-
أبواب غسل الميت
باب من يليه ورفقه به وستره عليه
1- عن عائشة قالت: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
من غسل ميتًا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه
ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته
أمه وقال:
ليله أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن
ترون عنده حظًا من ورع وأمانة".
رواه أحمد.
2- وعن عائشة: "أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
إن كسر عظم الميت مثل كسر عظمه حيًا".
رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه.
3- وعن ابن عمر: "أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
من ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة".
متفق عليه.
4- عن أُبيِّ بن كعب:
"أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه
وكفنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه
ثم دخلوا قبره فوضعوه في قبره ووضعوا عليه
اللبن ثم خرجوا من القبر ثم حثوا عليه التراب
ثم قالوا يا بني آدم هذه سنتكم".
رواه عبد اللَّه بن أحمد في المسند.
4- وعن عائشة قالت: "قبل رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت
حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه".
رواه أحمد وابن ماجه
والترمذي وصححه.
حديث عائشة الرابع في
إسناده عاصم بن عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب
وهو ضعيف.
قوله: "سجى" بضم
السين وبعدها جيم مشددة مكسورة أي غطى.
قوله: "حبرة" بكسر
الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء
مهملة وهي ثوب فيه أعلام وهي ضرب من برود
اليمن وفيه استحباب تسجية الميت. قال
النووي: وهو مجمع عليه وحكمته صيانته من
الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين.
قال أصحاب الشافعي: ويلف طرف الثوب المسجى
به تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف
منه قال: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي
توفى فيها لئلا يتغير بدنه بسببها.
قوله: "فقبله" فيه
جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا لأنه لم
ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر
فكان إجماعًا. قوله: "قبل رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم عثمان" فيه دلالة
على جواز تقبيل الميت كما تقدم.
قوله: "حتى رأيت
الدموع" الخ فيه جواز البكاء على الميت
وسيأتي تحقيقه.
ج / 4 ص -26-
حديث عائشة الأول أخرجه الطبراني في الأوسط
وفي إسناده جابر الجعفي وفيه كلام كثير وحديث
عائشة الثاني رجاله رجال الصحيح على كلام في
سعد بن سعيد الأنصاري. وحديث أُبيِّ بن كعب
أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح
الإسناد ولم يخرجاه.
قوله: "فأدى فيه
الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك"
المراد بتأدية الأمانة إما كتم ما يرى منه مما
يكرهه الناس ويكون قوله ولم يفش عطفًا
تفسيريًا أو يكون المراد بتأدية الأمانة أن
يغسل الغسل الذي وردت به الشريعة لأن العلم
عند حامله أمانة واستعماله في مواضعه من
تأديتها.
قوله: "ليله
أقربكم" فيه أن الأحق بغسل الميت من الناس
الأقرب إلى الميت بشرط أن يكون عالمًا بما
يحتاج إليه من العلم وقد قال بتقديم القريب
على غيره الإمام يحيى.
قوله: "فمن ترون
عنده حظًا من ورع وأمانة" فيه دليل لما ذهبت
إليه الهادوية من اشتراط العدالة في الغاسل
وخالفهم الجمهور فإن صح هذا الحديث فذاك وإلا
فالظاهر عدم اختصاص هذه القربة بمن ليس فاسقًا
لأنه مكلف بالتكاليف الشرعية وغسل الميت من
جملتها وإلا لزم عدم صحة كل تكليف شرعي منه
وهو خلاف الإجماع ودعوى صحة بعضها دون بعض
بغير دليل تحكم. وقد حكى المهدي في البحر
الإجماع على أن غسل الميت واجب على الكفاية.
وكذلك حكى الإجماع النووي وناقش دعوى الإجماع
صاحب ضوء النهار مناقشة واهية حاصلها أنه لا
مستند له إلا أحاديث الفعل وهي لا تفيد الوجوب
وأحاديث الأمر بغسل الذي وقصته ناقته والأمر
بغسل ابنته صلى اللَّه عليه وآله وسلم والأمر
مختلف في كونه للوجوب أو للندب ورد كلامه بأنه
إن ثبت الإجماع على الوجوب فلا يضر جهل
المستند ويراد أيضًا بأن الاختلاف في كون
الأمر للوجوب لا يستلزم الاختلاف في كل مأمور
به لأنه ربما شهدت لبعض الأوامر قرائن يستفاد
منها وجوبه وهذا مما لا يخالف فيه القائل بأن
الأمر ليس للوجوب لأن محل الخلاف الأمر المجرد
كما تقرر في الأصول نعم قال في الفتح: وقد
نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض
كفاية وهو ذهول شديد فإن الخلاف مشهور جدًا
عند المالكية على أن القرطبي رجح في شرح مسلم
أنه سنة ولكن الجمهور على وجوبه وقد رد ابن
العربي على من لم يقل بذلك وقال: قد توارد
به القول والعمل انتهى. وهكذا فليكن التعقب
لدعوى الإجماع.
قوله: "إن كسر عظم
الميت" الخ فيه دليل على وجوب الرفق بالميت
في غسله وتكفينه وحمله وغير ذلك لأن تشبيه كسر
عظمه بكسر عظم الحي إن كان في الإثم فلا شك في
التحريم وإن كان في التألم فكما يحرم تأليم
الحي يحرم تأليم الميت وقد زاد ابن ماجه من
حديث أم سلمة لفظ "في الإثم"
فيتعين الاحتمال الأول.
قوله:
"من ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة"
فيه الترغيب في ستر عورات المسلم وظاهره عدم
الفرق بين الحي والميت فيدخل في عمومه ستر ما
يراه الغاسل ونحوه من الميت وكراهة إفشائه
والتحدث به وأيضًا قد صح أن الغيبة هي ذكرك
لأخيك بما يكره ولا فرق بين الأخ الحي والميت
ولا شك أن الميت يكره أن يذكر بشيء من عيوبه
التي تظهر حال موته فيكون على هذا ذكرها
محرمًا وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب
الكف عن ذكر مساوئ الأموات.
قوله: " وعن أُبيِّ
بن كعب أن آدم" الخ سيأتي الكلام في تفاصيل
ما اشتمل عليه حديث أُبيِّ بن كعب هذا في
أبوابه من هذا الكتاب.
ج / 4 ص -27-
باب ما جاء في غسل أحد الزوجين للآخر
1- عن عائشة قالت:
"رجع إليَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا
في رأسي وأقول وارأساه فقال: بل أنا وارأساه ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك
ودفنتك".
رواه أحمد وابن ماجه.
2- وعن عائشة أنها كانت
تقول: "لو استقبلت من الأمر ما استدبرت ما
غسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
إلا نساؤه".
رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه. وقد ذكرنا أن الصديق أوصى أسماء
زوجته أن تغسله فغسلته.
حديث عائشة الأول أخرجه
أيضًا الدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي
وفي إسناده محمد بن إسحاق وبه أعله البيهقي.
قال الحافظ: ولم ينفرد به بل تابعه عليه
صالح بن كيسان عند أحمد والنسائي. وأما ابن
الجوزي فقال: لم يقل غسلتك إلا ابن إسحاق
وأصل الحديث عند البخاري بلفظ: "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك" وأثرها الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات إلا ابن
إسحاق وقد عنعن. وغسل أسماء لأبي بكر الذي
أشار إليه المصنف قد تقدم في باب الغسل من غسل
الميت من أبواب الغسل وليس فيه إن ذلك كان
بوصية من أبي بكر.
قوله: "فغسلتك"
فيه دليل على أن المرأة يغسلها زوجها إذا ماتت
وهي تغسله قياسًا وبغسل أسماء لأبي بكر كما
تقدم وعلي لفاطمة كما أخرجه الشافعي
والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن ولم
يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء
فكان إجماعًا. وقد ذهب إلى ذلك العترة
والشافعية والأوزاعي وإسحاق والجمهور. وقال
أحمد: لا تغسله لبطلان النكاح ويجوز العكس
عنده كالجمهور. وقال أبو حنيفة وأصحابه
والشعبي والثوري: لا يجوز أن يغسلها لمثل ما
ذكر أحمد ويجوز العكس عندهم كالجمهور قالوا
لأنه لا عدة عليه بخلافها. ويجاب عن
المذهبين الآخرين بأنه إذا سلم ارتفاع حل
الاستمتاع بالموت وأنه العلة في جواز نظر
الفرج فغايته تحريم نظر الفرج فيجب ستره عند
غسل أحدهما للآخر وقد قيل إن النظر إلى الفرج
وغيره لازم من لوازم العقد فلا يرتفع بارتفاع
جواز الاستمتاع المرتفع بالموت والأصل بقاء حل
النظر على ما كان عليه قبل الموت.
قوله: "لو استقبلت
من الأمر" الخ قيل فيه أيضًا متمسك لمذهب
الجمهور ولكنه لا يدل على عدم جواز غسل الجنس
لجنسه مع وجود الزوجة ولا على أنها أولى من
الرجال لأنه قول صحابية ولا حجة فيه وقد تولى
غسله صلى اللَّه عليه وآله وسلم علي والفضل بن
العباس وأسامة بن زيد يناول الماء والعباس
واقف. قال ابن دحية: لم يختلف في أن الذين
غسلوه صلى اللَّه عليه وآله وسلم علي والفضل
ج / 4 ص -28-
واختلف في العباس وأسامة وقثم وشقران
انتهى. وقد استوفى صاحب التلخيص الطرق في
ذلك ولم ينقل إلينا أن أحدًا من الصحابة أنكر
ذلك فكان إجماعًا منهم. وروى البزار من طريق
يزيد بن بلال قال: "قال علي: أوصى النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن لا يغسله أحد
غيري" وروى ابن المنذر عن أبي بكر أنه أمرهم
أن يغسل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بنو
أبيه وخرج من عندهم.
باب ترك غسل
الشهيد وما جاء فيه إذا كان جنبًا
1- عن جابر قال: "كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد
في الثوب الواحد ثم يقول أيهم أكثر أخذًا للقرآن
فإذا أُشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وأمر
بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل
عليهم".
رواه البخاري والنسائي
وابن ماجه والترمذي وصححه. ولأحمد: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال في قتلى
أُحد:
لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة ولم يصل
عليهم".
قوله: "يجمع بين الرجلين" الخ فيه جواز جمع الرجلين في
كفن واحد عند الحاجة إلى ذلك والظاهر أنه كان
يجمعهما في ثوب واحد. وقيل كان يقطع الثوب
بينهما نصفين. وقيل المراد بالثوب القبر
مجازًا ويرده ما وقع في رواية عن جابر فكفن
أبي وعمي في نمرة واحدة. وقد ترجم البخاري
على هذا الحديث باب دفن الرجلين والثلاثة في
قبر واحد وأورده مختصرًا بلفظ: "كان يجمع
بين الرجلين من قتلى أُحد" وليس فيه تصريح
بالدفن. قال ابن رشيد: إنه جرى على عادته
من الإشارة إلى ما ليس على شرطه أو اكتفى
بالقياس يعني على جمعهم في ثوب واحد انتهى.
ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث قدمه في اللحد
يدل على الجمع بين الرجلين فصاعدًا في
الدفن. وقد أورد الحديث البخاري باللفظ الذي
ذكره المصنف في باب الصلاة على الشهيد فلعل
البخاري أشار بما أورده مختصرًا إلى هذا لا
إلى ما ليس على شرطه ولا سيما مع اتصال باب
دفن الرجلين والثلاثة بباب الصلاة على الشهيد
بلا فاصل وقد ثبت عند عبد الرزاق بلفظ:
"وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر
الواحد" وورد ذكره الثلاثة أيضًا في هذه
القصة عند الترمذي وغيره. وروى أصحاب السنن
من حديث هشام بن عامر الأنصاري: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر الأنصار أن
يجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر" وصححه
الترمذي. قال في الفتح: ويؤخذ من هذا جواز
دفن المرأتين في قبر واحد وأما دفن الرجل مع
المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة
بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في
القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه
وكأنه كان يجعل بينهما حاجزًا لا سيما إذا
كانا أجنبيين.
قوله: "أيهم أكثر
أخذًا للقرآن" فيه استحباب تقديم من كان
أكثر قرآنًا ومثله سائر أنواع الفضائل
قياسا.
قوله: "ولم
يغسلوا" فيه دليل على أن الشهيد لا يغسل وبه
قال الأكثر وسيأتي الكلام في بيان ماهية
الشهيد الذي وقع
ج / 4 ص -29-
الخلاف في غسله في الصلاة على الشهيد.
وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري حكاه عنهما
ابن المنذر وابن أبي شيبة: إنه يغسل وبه قال
ابن سريج من الشافعية والحق ما قاله الأولون
والاعتذار عن حديث الباب بأن الترك إنما كان
لكثرة القتلى وضيق الحال مردود بعلة الترك
المنصوصة كما في رواية أحمد المتقدمة وهي
رواية لا مطعن فيها.
ـ وفي الباب ـ أحاديث
منها عن أنس عند أحمد والحاكم وأبي داود
والترمذي وقال: غريب. وغلط بعض المتأخرين
فقال: وحسنه "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم لم يصل على قتلى أُحد ولم يغسلهم"
وعن جابر حديث آخر غير حديث الباب عند أبي
داود قال: "رمى رجل بسهم في صدره أو في
حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم" وإسناده
على شرط مسلم. وعن ابن عباس عند أبي داود
وابن ماجه قال: "أمر النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بقتلى أُحد أن ينزع عنهم
الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"
وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه
جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال.
ـ وفي الباب ـ أيضًا عن
رجل من الصحابة وسيأتي وقد اختلف في الشهيد
إذا كان جنبًا أو حائضًا وسيأتي الكلام على
ذلك وأما سائر من يطلق عليه اسم الشهيد
كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم فيغسلون
إجماعًا كما في البحر.
قوله: "ولم يصل
عليهم" قال في التلخيص: هو بفتح اللام
وعليه المعنى قال النووي: ويجوز أن يكون
بكسرها ولا يفسد لكنه لا يبقى فيه دليل على
ترك الصلاة عليهم مطلقا لأنه لا يلزم من قوله
"لم يصل عليهم أن لا يأمر غيره بالصلاة
عليهم" انتهى. وسيأتي الكلام في الصلاة
على الشهيد.
2- وروى محمد بن إسحاق
في المغازي بإسناده عن عاصم بن عمر بن قتادة
عن محمود بن لبيد: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم قال: إن صاحبكم لتغسله
الملائكة يعني حنظلة فسألوا أهله ما شأنه
فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع
الهائعة فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم لذلك غسلته الملائكة".
الحديث قال في الفتح:
قصته مشهورة رواها ابن إسحاق وغيره انتهى
وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه والحاكم
والبيهقي من حديث ابن الزبير والحاكم في
الإكليل من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف
والسرقسطي في غريبه من طريق الزهري مرسلًا
والحاكم أيضًا في المستدرك والطبراني والبيهقي
عن ابن عباس أيضًا وفي إسناد الحاكم معلى بن
عبد الرحمن وهو متروك وفي إسناد الطبراني حجاج
وهو مدلس وفي إسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي
وهو ضعيف جدًا.
ـ وفي الباب أيضًا ـ عن
ابن عباس عند الطبراني بإسناد قال الحافظ:
لا بأس به عنه قال: "أصيب حمزة بن عبد
المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
رأيت الملائكة تغسلهما"
وهو غريب في ذكر حمزة كما قال في الفتح.
قوله: "الهائعة"
هي الصوت الشديد. وقد استدل بالحديث من قال
إنه يغسل الشهيد إذا كان جنبًا وبه قال أبو
حنيفة والمنصور باللَّه.
ج / 4 ص -30-
وقال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد وإليه
ذهب الهادي والقاسم والمؤيد باللَّه وأبو
طالب: إنه لا يغسل لعموم الدليل وهو الحق
لأنه لو كان واجبًا علينا ما اكتفى فيه بغسل
الملائكة وفعلهم ليس من تكليفنا ولا أمرنا
بالإقتداء بهم.
3- وعن أبي سلام عن رجل
من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال: "أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من
المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم: أخوكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه وصلى
عليه ودفنه فقالوا: يا رسول اللَّه أشهيد هو
قال: نعم وأنا له شهيد".
رواه أبو داود.
الحديث سكت عنه أبو داود
والمنذري وفي إسناده سلام بن أبي سلام وهو
مجهول. وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلام
المذكور وإنما هو عن زيد بن سلام عن جده أبي
سلام انتهى. وزيد ثقة.
قوله: "فلفه رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بثيابه
ودمائه" ظاهره أنه لم يغسله ولا أمر بغسله
فيكون من أدلة القائلين بأن الشهيد لا يغسل
كما تقدم وهو يدل على أن من قتل نفسه في
المعركة خطأ حكمه حكم من قتله غيره في ترك
الغسل وأما من قتل نفسه عمدًا فإنه لا يغسل
عند العترة والأوزاعي لفسقه لا لكونه
شهيدًا.
قوله: "وصلى عليه"
فيه إثبات الصلاة على الشهيد وسيأتي الكلام
على ذلك.
قوله: "قال نعم"
الخ فيه أن من قتل نفسه خطأ شهيد وقد أخرج
مسلم والنسائي وأبو داود عن سلمة بن الأكوع
قال: "لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا
شديدًا فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في ذلك
وشكوا فيه رجل مات بسلاحه فقال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
مات جاهدًا مجاهدًا" وفي رواية: "كذبوا
مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين"
هذا لفظ أبي داود.
باب صفة الغسل
1- عن أم عطية قالت:
"دخل علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم حين توفيت ابنته فقال:
اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن
رأيتن بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورًا أو
شيئًا من كافور فإذا فرغتن فآذنني
فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال:
أشعرنها إياه يعني إزاره".
رواه الجماعة. وفي
رواية لهم: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وفي لفظ:
"اغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو
أكثر من ذلك إن رأيتن" وفيه قالت: "فضفرنا
شعرها ثلاثة
ج / 4 ص -31-
قرون
فألقيناها خلفها" متفق عليهما لكن ليس لمسلم
فيه: "فألقيناها خلفها".
قوله "حين توفيت ابنته" في رواية متفق
عليها "ونحن نغسل ابنته" قال في الفتح:
ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع
النسوة في الغسل وابنته المذكورة هي زينب زوج
أبي العاص بن الربيع كما في مسلم. وقال
الداودي: إنها أم كلثوم زوج عثمان. ويدل
عليه ما أخرجه ابن ماجه بإسناد على شرط
الشيخين كما قال الحافظ ولفظه: "دخل علينا
ونحن نغسل ابنته أم كلثوم" وكذا وقع لابن
بشكوال في المبهمات عن أم عطية والدولابي في
الذرية الطاهرة. قال في الفتح: فيمكن
ترجيح أنها أم كلثوم بمجيئه من طرق متعددة
ويمكن الجمع بأن تكون أم عطية حضرتهما جميعًا
فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت
غاسلة الميتات انتهى.
قوله: "اغسلنها" قال ابن بريدة: استدل
به على وجوب غسل الميت قال ابن دقيق العيد:
لكن قوله "ثلاثًا" الخ ليس للوجوب على
المشهور من مذاهب العلماء فيتوقف الاستدلال به
على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد
لأن قوله ثلاثًا غير مستقل بنفسه فلا بد أن
يكون داخلًا تحت صيغة الأمر فيراد بلفظ الأمر
الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل أو الندب
بالنسبة إلى الإيتار انتهى. فمن جوز ذلك جوز
الاستدلال بهذا الأمر على الوجوب ومن لم يجوزه
حمل الأمر على الندب لهذه القرينة واستدل
للوجوب بدليل آخر. وقد ذهب الكوفيون وأهل
الظاهر والمزني إلى إيجاب الثلاث وروى ذلك عن
الحسن وهو يرد ما حكاه في البحر من الإجماع
على أن الواجب مرة فقط.
قوله: "من ذلك" بكسر الكاف لأنه خطاب
للمؤنث. قال في الفتح: ولم أر في شيء من
الروايات بعد قوله سبعًا التعبير بأكثر من ذلك
إلا في رواية لأبي داود وأما سواه فإما أو
سبعًا وإما أو أكثر من ذلك انتهى. وهو ذهول
منه عما أخرجه البخاري في باب يجعل الكافور
فإنه روى حديث أم عطية هنالك بلفظ: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك" وقد صرح المصنف رحمه اللَّه تعالى بأن الجمع بين التعبير بسبع
وأكثر متفق عليه كما وقع في حديث الباب لكن
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا قال
بمجاوزة السبع. وصرح بأنها مكروهة أحمد
والماوردي وابن المنذر.
قوله: "إن رأيتن ذلك" فيه دليل على
التفويض إلى اجتهاد الغاسل ويكون ذلك بحسب
الحاجة لا التشهي كما قال في الفتح. قال ابن
المنذر: إنما فوض الرأي إليهن بالشرط
المذكور وهو الإيتار.
قوله: "بماء وسدر" قال الزين ابن
المنير: ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من
مرات الغسل لأن قوله بماء وسدر يتعلق بقوله
اغسلنها قال: وهو مشعر بأن غسل الميت
للتنظيف لا للتطهير لأن الماء المضاف لا يتطهر
به وتعقبه الحافظ بمنع لزوم مصير الماء مضافًا
بذلك لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن
يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة فإن لفظ
الخبر لا يأبى ذلك.
قوله: "واجعلن في الأخيرة كافورًا أو
شيئًا من كافور" هو شك من الراوي قال في
الفتح: والأول محمول على الثاني لأنه نكرة
في سياق الإثبات فيصدق بكل شيء منه وقد جزم
البخاري في رواية باللفظ الأول وظاهره أنه
يجعل الكافور في الماء وبه قال الجمهور.
ج / 4 ص -32-
وقال النخعي والكوفيون: إنما يجعل الكافور
في الحنوط والحكمة في الكافور كونه طيب
الرائحة وذلك وقت تحضر فيه الملائكة وفيه
أيضًا تبريد وقوة نفوذ وخاصة في تصلب بدن
الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتحلل من
الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وإذا عدم قام
غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو بعضها.
قوله: "فآذنني" أي
أعلمنني.
قوله: "فأعطانا
حقوه" قال في الفتح: بفتح المهملة ويجوز
كسرها وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة والمراد
هنا الإزار كما وقع مفسرًا في آخر هذه
الرواية. والحقو في الأصل معقد الإزار وأطلق
على الإزار مجازًا. وفي رواية للبخاري:
"فنزع عن حقوه إزاره" والحقو على هذا
حقيقة.
قوله: "فقال أشعرنها
إياه" أي الففنها فيه لأن الشعار ما يلي
الجسد من الثياب والمراد اجعلنه شعارًا لها.
قال في الفتح: قيل الحكمة في تأخير الإزار
معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه
أولا ليكون قريب العيد من جسده حتى لا يكون
بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل وهو أصل
في التبرك بآثار الصالحين. وفيه جواز تكفين
المرأة في ثوب الرجل وقد نقل ابن بطال الاتفاق
على ذلك.
قوله: "ابدأن
بميامنها ومواضع الوضوء منها" ليس بين
الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء
وبالميامن معًا. قال الزين ابن المنير:
قوله "ابدأن بميامنها" أي في الغسلات التي
لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها أي في الغسلة
المتصلة بالوضوء وفي هذا رد على من لم يقل
باستحباب البداءة بالميامن وهم الحنفية واستدل
به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل
الميت خلافًا للحنفية.
قوله: "اغسلنها
وترًا ثلاثًا" الخ استدل به على أن أقل
الوتر ثلاث قال الحافظ: ولا دلالة فيه لأنه
سيق مساق البيان للمراد إذ لو أطلق لتناول
الواحدة فما فوقها.
قوله: "فضفرنا شعرها
ثلاثة قرون" هو بضاد وفاء خفيفة وفيه
استحباب ضفر شعر المرأة وجعله ثلاثة قرون وهي
ناصيتها وقرناها أي جانبا رأسها كما وقع في
رواية وكيع عن سفيان عند البخاري تعليقًا ووصل
ذلك الإسماعيلي وتسمية الناصية قرنا تغليب
وقال الأوزاعي والحنفية: إنه يرسل شعر
المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقًا. قال
القرطبي: وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم
عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فيكون مرفوعًا أو هو شيء رأته
ففعلته استحبابًا كلا الأمرين محتمل لكن الأصل
أن لا يفعل في الميت شيء من جنس القرب إلا
بإذن الشرع ولم يرد ذلك مرفوعًا كذا قال.
وقال النووي: الظاهر عدم إطلاع النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وتقريره له وتعقب ذلك
الحافظ بأن سعيد بن منصور روى عن أم عطية أنها
قالت: "قال لنا رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم: اغسلنها وترًا واجعلن شعرها ضفائر" وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية مرفوعًا بلفظ: "واجعلن لها ثلاث قرون".
قوله: "فألقيناها
خلفها" فيه استحباب جعل ضفائر المرأة خلفها
وقد زعم ابن دقيق العيد أن الوارد في ذلك حديث
غريب. قال في الفتح: وهو مما يتعجب منه مع
كون الزيادة في صحيح البخاري وقد توبع رواتها
عليها وقد استوفى تلك المتابعات وذكر للحديث
فوائد غير ما تقدم.
2- وعن عائشة قالت:
"لما أرادوا غسل رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم
ج / 4 ص -33-
اختلفوا فيه فقالوا: واللَّه ما ندري كيف
نصنع أنجرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه
قالت: فلما اختلفوا أرسل اللَّه عليهم السنة
حتى واللَّه ما من القوم من رجل إلا ذقنه في
صدره نائمًا قالت: ثم كلمهم مكلم من ناحية
البيت لا يدرون من هو فقال: اغسلوا النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم وعليه ثيابه
قالت: فثاروا إليه فغسلوا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وهو في قميصه يفاض عليه
الماء والسدر ويدلك الرجال بالقميص".
رواه أحمد وأبو داود.
الحديث أخرجه أيضًا ابن
حبان والحاكم. وفي رواية لابن حبان فكان
الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب وروى
الحاكم عن عبد اللَّه بن الحارث قال: "غسل
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم علي وعلى يده
خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله
والقميص عليه" وفي الباب عن بريدة عند ابن
ماجه والحاكم والبيهقي قال: "لما أخذوا في
غسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
ناداهم مناد من الداخل لا تنزعوا عن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قميصه" وعن ابن عباس
عند أحمد: "أن عليًا أسند رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم إلى صدره وعليه
قميصه" وفي إسناده حسين بن عبد اللَّه وهو
ضعيف. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عند عبد
الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي
قال: "غسل النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم ثلاثًا بسدر وغسل وعليه قميص وغسل من بئر
يقال لها الغرس بقبا كانت لسعد بن خيثمة وكان
يشرب منها وولي سفلته على والفضل محتضنه
والعباس يصيب الماء فجعل الفضل يقول أرحني
قطعت وتيني أني لا أجد شيئًا يترطل علي" قال
الحافظ: وهو مرسل جيد.
قوله: "السنة"
بسين مهملة مكسورة بعدها نون وهي ما يتقدم
النوم من الفتور الذي يسمى النعاس. قال عدي
بن الرقاع العاملي:
وسنان أقصده النعاس
فرنقت * في عينه سنة وليس بنائم
أبواب الكفن
وتوابعه
باب التكفين من رأس المال
1- عن خباب بن الأرت:
"أن مصعب بن عمير قتل يوم أُحد ولم يترك إلا
نمرة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا
غطينا رجليه بدا رأسه فأمرنا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن نغطي بها رأسه ونجعل
على رجليه شيئًا من الإذخر".
رواه الجماعة إلا ابن
ماجه.
ج / 4 ص -34-
2- وعن خباب أيضًا: "أن حمزة لم يوجد له
كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت
عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه
الإذخر".
رواه أحمد.
الحديث الثاني أخرجه
الحاكم عن أنس.
قوله: "أن مصعب بن
عمير قتل" في رواية للبخاري: "أن عبد
الرحمن بن عوف قال: قتل مصعب بن عمير وكان
خيرًا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة
وقتل حمزة أو رجل آخر فلم يوجد له ما يكفن فيه
إلا بردة" قال في الفتح: قوله "أو رجل
آخر" لم أقف على اسمه ولم يقع في أكثر
الروايات إلا بلفظ حمزة ومصعب فقط.
قوله: "إلا نمرة"
هي شملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف
يلبسها الأعراب كذا في القاموس.
قوله: "فأمرنا رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن نغطي بها
رأسه" فيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن
ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي
الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين. قال
النووي: فإن ضاق عن ذلك سترت العورة فإن فضل
شيء جعل فوقها وإن ضاق عن العورة سترت
السوأتان لأنهما أهم وهما الأصل في العورة
قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب
في الكفن ستر العورة فقط ولا يجب استيعاب
البدن عند التمكن "فإن قيل" لم يكونوا
متمكنين من جميع البدن لقوله: "لم يوجد
غيرها" فجوابه أن معناه لم يوجد مما يملكه
الميت إلا نمرة ولو كان ستر جميع البدن واجبًا
لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه إن لم يكن
له قريب يلزمه نفقته فإن كان وجبت عليه "فإن
قيل" كانوا عاجزين عن ذلك لأن القضية جرت
يوم أحد وقد كثرت القتلى من المسلمين واشتغلوا
بهم وبالخوف من العدو عن ذلك وجوابه أنه يبعد
من حال الحاضرين المتولين دفنه أن لا يكون مع
واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها انتهى. وقد
استدل بالحديثين على أن الكفن يكون من رأس
المال لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أمر بالتكفين في النمرة ولا مال غيرها. قال
ابن المنذر: قال بذلك جميع أهل العلم إلا
رواية شاذة عن خلاص بن عمر وقال: الكفن من
الثلث. وعن طاوس قال: من الثلث إن كان
قليلا. وحكى في البحر عن الزهري وطاوس أنه
من الثلث إن كان معسرًا. وقد أخرج الطبراني
في الأوسط من حديث علي أن الكفن من جميع المال
وإسناده ضعيف وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل من
حديث جابر وحكي عن أبيه أنه منكر وقد أخرجهما
عبد الرزاق .
قوله: "ونجعل على
رجليه شيئًا من الإذخر" فيه أنه يستحب إذا
لم يوجد ساتر البتة لبعض البدن أو لكله أن
يغطى بالإذخر فإن لم يوجد فما تيسر من نبات
الأرض وقد كان الإذخر مستعملا لذلك عند العرب
كما يدل عليه قول العباس إلا الإذخر فإنه
لبيوتنا وقبورنا.
باب استحباب
إحسان الكفن من غير مغالاة
1- عن أبي قتادة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه".
رواه ابن ماجه
والترمذي.
ج / 4 ص -35-
2- وعن جابر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم خطب يومًا
فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل
وقبر ليلا فزجر النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه إلا أن
يضطر إنسان إلى ذلك وقال النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
حديث أبي قتادة حسنه الترمذي ورجال إسناده
ثقات. وفي الباب عن أم سلمة عند الديلمي:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية ولا
بقطيعة وعجلوا بقضاء دينه واعدلوا عن جيران
السوء وإذا حفرتم فأعمقوا ووسعوا".
وعن جابر غير حديث الباب عند الديلمي أيضًا
قال: "قال النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم: أحسنوا
كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في
قبورهم".
قوله: "فليحسن
كفنه" ضبط بفتح الحاء وإسكانها. قال
النووي: وكلاهما صحيح والمراد بإحسان الكفن
نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وكونه من
جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر قال
العلماء وليس المراد بإحسانه السرف فيه
والمغالاة ونفاسته وإنما المراد ما تقدم.
قوله: "غير طائل" أي حقير غير كامل.
قوله: "حتى يصلى عليه" هو بفتح اللام
كما قال النووي وإنما نهى عن القبر ليلًا حتى
يصلى عليه لأن الدفن نهارًا يحضره كثيرون من
الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل إلا
أفراد. وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل
لرداءة الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول
الحديث وآخره.
قال القاضي: العلتان صحيحتان قال: والظاهر
أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قصدهما
معًا قال: وقد قيل غير هذا.
قوله: "إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك" يدل
على أنه لا بأس به في وقت الضرورة.
وقد اختلف العلماء في الدفن بالليل فكرهه
الحسن البصري إلا لضرورة وقال جماعة العلماء
من السلف والخلف لا يكره واستدلوا بأن أبا بكر
الصديق وجماعة من السلف دفنوا ليلا من غير
إنكار. وبحديث المرأة السوداء أو الرجل الذي
كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفنوه ليلا
وسألهم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عنه
فقالوا: توفي فدفناه في الليل فقال:
ألا آذنتموني قالوا: كانت ظلمة ولم ينكر عليهم أخرجه البخاري.
وسيأتي في باب الدفن ليلا وأجابوا عن حديث
الباب بأن النهي كان لترك الصلاة لا لمجرد
الدفن بالليل أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع
وتأتي بقية الكلام إن شاء اللَّه في باب الدفن
ليلا.
3- وعن عائشة: "أن أبا بكر نظر إلى ثوب
عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال:
اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني
فيها قلت: إن هذا خلق قال: إن الحي أحق
بالجديد من الميت إنما هو للمهلة".
مختصر من البخاري.
ج / 4 ص -36-
قوله: "به ردع" بسكون المهملة بعدها
عين مهملة أي لطخ لم يعمه كله.
قوله: "وزيدوا عليه
ثوبين" في رواية جديدين.
قوله: "فكفنوني
فيها" رواية أبي ذر فيهما. وفسر الحافظ
ضمير المثنى بالمزيد والمزيد عليه وفي رواية
غير أبي ذر فيها كما وقع عند المصنف.
قوله: "خلق" بفتح
المعجمة واللام أي غير جديد. وفي رواية عند
ابن سعد ألا نجعلها جددًا كلها قال: لا.
وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في
الأكفان ويؤيده قوله إنما هو للمهلة. وروى
أبو داود من حديث علي عليه السلام مرفوعًا:
"لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعًا"
ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن
كما تقدم فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على
الصفة وحمل المغالاة على الثمن. وقيل
التحسين حق للميت فإذا أوصى بتركه اتبع كما
فعل الصديق ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب
بعينه لمعنى فيه من التبرك لكونه صار إليه من
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أو لكونه قد
كان جاهد فيه أو تعبد فيه.
ويؤيده ما رواه ابن سعد
من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: قال
أبو بكر: كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي
فيهما.
قوله: "إنما هو أي
الكفن للمهلة" قال القاضي عياض: روي بضم
الميم وفتحها وكسرها وبذلك جزم الخليل. وقال
ابن حبيب: هو بالكسر الصديد وبالفتح التمهل
وبالضم عكر الزيت والمراد هنا الصديد ويحتمل
أن يكون المراد بقوله وإنما هو أي الجديد وأن
يكون المراد المهلة على هذا التمهل أي الجديد
لمن يريد البقاء. قال الحافظ: والأول
أظهر.
وفي هذا الأثر استحباب
التكفين في ثلاثة أكفان وجواز التكفين في
الثياب المغسولة وإيثار الحي بالجديد. ويدل
على استحباب أن يكون الكفن جديدًا ما أخرجه
أبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي
سعيد: "أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد
فلبسها ثم قال سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يقول: إن الميت يبعث في
ثيابه التي مات فيها" رواه ابن حبان بدون
القصة وقال: أراد بذلك إعماله لقوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }
يريد وعملك فأصلحه قال: والأخبار الصحيحة
صريحة أن الناس يحشرون حفاة عراة وحكى الخطابي
في الجمع بينهما أنه يبعث في ثيابه ثم يحشر
عريانًا.
باب صفة الكفن
للرجل والمرأة
1-عن ابن عباس: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أثواب قميصه الذي
مات فيه وحلة نجرانية الحلة ثوبان".
رواه أحمد وأبو داود.
2- وعن عائشة قالت:
"كفن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية ليس
فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجًا".
رواه الجماعة. ولهم
إلا أحمد والبخاري ولفظه لمسلم: "وأما
الحلة فإنما شبه على الناس فيها إنما اشتريت
ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب
بيض سحولية" ولمسلم:
ج / 4 ص -37-
"قالت: أدرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم في حلة يمنية كانت لعبد اللَّه ابن
أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب بيض
سحولية يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص".
حديث ابن عباس في إسناده
يزيد ابن أبي زياد وقد تغير وهذا من أضعف
حديثه. وقال النووي: إنه مجمع على ضعف
يزيد المذكور وقد بين مسلم أنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم لم يكفن في الحلة وإنما شبه
على الناس كما ذكر المصنف.
ـ وفي الباب ـ عن جابر
بن سمرة عند البزار وابن عدي في الكامل أنه
كفن صلى اللَّه عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب
قميص وإزار ولفافة. وفي إسناده ناصح وهو
ضعيف. وعن ابن عباس غير حديث الباب عند ابن
عدي قال: كفن صلى اللَّه عليه وآله وسلم في
قطيفة حمراء. وفي إسناده قيس بن الربيع وهو
ضعيف قال الحافظ: وكأنه اشتبه عليه بحديث
جعل في قبره قطيفة حمراء فإنه يروى بالإسناد
المذكور بعينه. وعن علي عند ابن أبي شيبة
وأحمد والبزار قال: كفن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في سبعة أثواب. وفي إسناده
عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ لا
يصلح الاحتجاج بحديثه إذا خالف الثقات كما هنا
وقد خالف ههنا رواية نفسه فإنه روي عن جابر
أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كفن في ثوب
نمرة. قال الحافظ: وروى الحاكم من حديث
أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن
عقيل عن ابن الحنفية عن علي بمعنى أنه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كفن في سبعة.
وعن جابر عند أبي داود
أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كفن في ثوبين
وبرد حبرة وفي رواية للنسائي فذكر لعائشة
قولهم في ثوبين وبرد حبرة فقالت: قد أتي
بالبرد ولكنهم ردوه. وأخرج مسلم والترمذي
عنها أنها قالت: إنهم نزعوها عنه. وروى
عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم لف في برد حبرة جفف
فيه ثم نزع عنه. قال الترمذي: تكفينه في
ثلاثة أثواب أصح ما ورد في كفنه.
قوله: "قميصه الذي
مات فيه" دليل لمن قال باستحباب القميص في
الكفن وهم الحنفية ومالك وزيد بن علي والمؤيد
باللَّه وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب
واستدلوا بقول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة
وأجابوا عن حديث ابن عباس بأنه ضعيف الإسناد
كما تقدم وأجاب القائلون بالاستحباب أن قول
عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي
وجودهما ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي
الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة وهما زائدان
وأن يكون معناه ليس فيها قميص جديد أو ليس
فيها القميص الذي غسل فيه أو ليس فيها قميص
مكفوف الأطراف ويجاب بأن الاحتمال الأول هو
الظاهر وما عداه متعسف فلا يصار إليه.
قوله: "جدد" هكذا
وقع عند المصنف وكذلك رواه البيهقي وليس في
الصحيحين لفظ جدد. ووقع في رواية لهما بدل
جدد من كرسف وهو القطن.
قوله: "بيض" فيه
دليل على استحباب التكفين في الأبيض قال
النووي: وهو مجمع عليه.
قوله: "سحولية"
بضم المهملتين ويروى بفتح أوله نسبة إلى سحول
قرية باليمن قال النووي: والفتح أشهر وهو
رواية الأكثرين. قال ابن الأعرابي وغيره:
هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن وقال
ابن قتيبة: ثياب بيض ولم يخصها بالقطن وفي
رواية للبخاري سحول بدون نسبة وهو
ج / 4 ص -38-
جمع سحل والسحل الثوب الأبيض النقي ولا يكون
إلا من قطن كما تقدم.
وقال الأزهري: بالفتح
المدينة وبالضم الثياب وقيل النسبة إلى القرية
بالضم وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل
الثياب أي ينقيها كذا في الفتح.
قوله: "يمانية"
بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة.
وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في
تشديدها.
ووجه الأول أن الألف بدل
من ياء النسبة فلا يجتمعان فيقال يمنية
بالتشديد أو يمانية بالتخفيف وكلاهما نسبة إلى
اليمن.
قوله: "فإنما شبه
على الناس" بضم الشين المعجمة وكسر الباء
المشددة ومعناه اشتبه عليهم واعلم أنه قد
اختلف في أفضل الكفن بعد الاتفاق على أنه لا
يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن فذهب
الجمهور إلى أن أفضلها ثلاثة أثواب بيض
واستدلوا بحديث عائشة المذكور. قال في
الفتح: وتقرير الاستدلال به أن اللَّه عز
وجل لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل وعن
الحنفية أن المستحب أن يكون في أحدها ثوب حبرة
وتمسكوا بحديث جابر المتقدم وإسناده كما قال
الحافظ حسن ولكنه معارض بالمتفق عليه من حديث
عائشة على أنا قد قدمنا عن عائشة أنهم نزعوا
عنه ثوب الحبرة وبذلك يجمع بين الروايات.
وقال الهادي: إن
المشروع إلى سبعة ثياب واستدل بحديث علي
المتقدم وأجيب عنه بأنه لا ينتهض لمعارضة حديث
عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد قال
الحاكم: إنها تواترت الأخبار عن علي وابن
عباس وابن عمر وعبد اللَّه بن مغفل وعائشة في
تكفين النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في
ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة
ولكنه لا يخفى أن إثبات ثلاثة ثياب لا ينفي
الزيادة عليها وقد تقرر أن ناقل الزيادة أولى
بالقبول على أنه لو تعرض رواة الثلاثة لنفي ما
زاد عليها لكان المثبت أولى من النافي نعم
حديث علي فيه المقال المتقدم فإن صلح الاحتجاج
معه فالمصير إلى الجمع بما ذكرنا متعين وإن لم
يصلح فلا فائدة في الاشتغال به لا سيما وقد
اقتصر على رواية الثلاثة جماعة من الصحابة
ويبعد أن يخفى على جميعهم الزيادة عليها وقد
قال الإمام يحيى: إن السبعة غير مستحبة
إجماعًا.
3- وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم
وكفنوا فيها موتاكم".
رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
الحديث أخرجه أيضًا
الشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن
القطان. وأخرجه أيضًا الترمذي وصححه وابن
ماجه والنسائي والحاكم من حديث سمرة واختلف في
وصله وإرساله وقد تقدم في اللباس.
ـ وفي الباب ـ عن عمران
بن حصين عند الطبراني. وعن أنس عند أبي حاتم
في العلل والبزار في مسنده. وعن ابن عمر عند
ابن عدي في الكامل. وعن أبي الدرداء عند ابن
ماجه يرفعه:
"أحسن ما زرتم اللَّه به في قبوركم ومساجدكم
البياض".
والحديث يدل على مشروعية لبس البياض وقد تقدم الكلام على ذلك
في أبواب اللباس وعلى مشروعية تكفين الموتى في
الثياب البيض وهو إجماع كما تقدم في شرح
الحديث الذي قبله وقد تقدم أيضًا عن
ج / 4 ص -39-
الحنفية أنهم يستحبون أن يكون في الأكفان
ثوب حبرة واستدلوا بما سلف.
ومن أدلتهم حديث جابر
عند أبي داود بإسناد حسن كما قال الحافظ
بلفظ: "إذا توفي أحدكم فوجد شيئًا فليكفن في ثوب
حبرة"
والأمر باللبس والتكفين في الثياب البيض محمول
على الندب لما قدمنا في أبواب اللباس.
4- وعن ليلى بنت قانف
الثقفية قالت: "كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عند
وفاتها وكان أول ما أعطانا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم الحقا ثم الدرع ثم
الخمار ثم الملحفة ثم أُدرجت بعد ذلك في الثوب
الآخر قالت: ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبًا
ثوبًا".
رواه أحمد وأبو داود.
قال البخاري: قال الحسن: الخرقة الخامسة
يشد بها الفخذان والوركان تحت الدرع.
الحديث في إسناده ابن
إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وفي إسناده أيضًا
نوح بن حكيم. قال ابن القطان: مجهول.
ووثقه ابن حبان وقال: ابن إسحاق كان قارئًا
للقرآن وفي إسناده أيضًا داود رجل من بني عروة
بن مسعود فإن كان داود بن عاصم بن عروة بن
مسعود فهو ثقة وقد جزم بذلك ابن حبان وإن كان
غيره فينظر فيه.
قوله: "ليلى بنت
قانف" بالقاف بعد الألف نون ثم فاء.
قوله: "الحقا"
بكسر المهملة وتخفيف القاف مقصور قيل هو لغة
في الحقو وهو الإزار.
والحديث يدل على أن
المشروع في كفن المرأة أن يكون إزارًا ودرعًا
وخمارًا وملحفة ودرجًا ولم يقع تسمية أم عطية
في هذا الحديث فيمن حضر. وقد وقع عند ابن
ماجه أن أم عطية قالت: "دخل علينا رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ونحن نغسل
ابنته أم كلثوم" الحديث. ورواه مسلم فقال
زينب ورواته أتقن وأثبت وقد تقدم الكلام على
هذا الاختلاف في باب صفة الغسل.
قوله: "قال البخاري
قال الحسن" الخ وصله ابن أبي شيبة قال في
الفتح: وهذا يدل على أن أول الكلام أن
المرأة تكفن في خمسة أثواب. وروى الخوارزمي
من طريق إبراهيم بن حبيب ابن الشهيد عن هشام
بن حسان عن حفصة عن أم عطية أنها قالت:
"وكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما نخمر
الحي" قال الحافظ: وهذه الزيادة صحيحة
الإسناد وقول الحسن إن الخرقة الخامسة يشد بها
الفخذان والوركان قال به زفر. وقالت
طائفة: تشد على صدرها ليضم أكفانها ولا يكره
القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية
والحنابلة.
باب وجوب تكفين
الشهيد في ثيابه التي قتل فيها
1- عن ابن عباس قال: "أمر رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يوم أُحد بالشهداء أن
ننزع عنهم الحديد والجلود وقال:
ادفنوهم بدمائهم وثيابهم".
رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه.
ج / 4 ص -40-
2- وعن عبد اللَّه بن ثعلبة: "أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال يوم
أُحد:
زملوهم في ثيابهم وجعل يدفن في القبر الرهط ويقول: قدموا أكثرهم قرآنًا".
رواه أحمد.
الحديث الأول في إسناده
عطاء بن السائب وهو مما حدث به بعد الاختلاط
وحديث عبد اللَّه بن ثعلبة أخرجه أيضًا أبو
داود بإسناد رجاله رجال الصحيح. وفي الباب
أحاديث قد تقدم ذكرها في باب ترك غسل
الشهيد.
والحديثان المذكوران في
الباب وما في معناهما فيها مشروعية دفن الشهيد
بما قتل فيه من الثياب ونزع الحديد والجلود
عنه وكل ما هو آلة حرب.
وقد روى زيد بن علي عن
أبيه عن جده عن علي أنه قال ينزع من الشهيد
الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة
والسراويل إلا أن يكون أصاب السراويل دم وفي
إسناده أبو خالد الواسطي والكلام فيه معروف.
وقد روى ذلك أحمد بن عيسى في أماليه من طريق
الحسين بن علوان عن أبي خالد المذكور عن زيد
بن علي والحسين بن علوان متكلم فيه أيضًا
والظاهر أن الأمر بدفن الشهيد بما قتل فيه من
الثياب للوجوب.
قوله: "وجعل يدفن في
القبر" الخ قد تقدم الكلام على هذا في باب
ترك غسل الشهيد.
باب تطبيب بدن الميت وكفنه إلا المحرم
1- عن جابر قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثًا".
رواه أحمد.
2- وعن ابن عباس قال:
"بينما رجل واقف مع رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته
فذكر ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فقال:
اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه
ولا تخمروا رأسه فإن اللَّه تعالى يبعثه يوم
القيامة ملبيًا".
رواه الجماعة. وللنسائي عن ابن عباس قال: "قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما
واغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه
بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة
محرمًا".
حديث جابر أخرجه أيضًا البيهقي والبزار قيل ورجاله رجال الصحيح
وأخرج نحوه أحمد بن حنبل أيضًا عن جابر
مرفوعًا بلفظ: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا".
قوله: "إذا أجمرتم
الميت" أي بخرتموه وفيه استحباب تبخير الميت
ثلاثًا.
قوله: "بينما رجل"
قال في الفتح: لم أقف في شيء من الطرق على
تسمية المحرم المذكور ووهم بعض المتأخرين فزعم
أن اسمه واقد بن عبد اللَّه وعزاه إلى ابن
قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي وسبب
الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر
أولاده ومنهم عبد اللَّه بن عمر ثم ذكر أولاد
عبد اللَّه فذكر فيهم واقد بن عبد اللَّه بن
عمر فقال: وقع
ج / 4 ص -41-
عن بعيره وهو محرم فهلك فظن هذا المتأخر أن
لواقد بن عبد اللَّه صحبة وأنه صاحب القصة
التي وقعت في زمن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وليس كما ظن فإن واقد المذكور لا صحبة له
فإن أمه صفية بنت أبي عبيد وإنما تزوجها أبوه
في خلافة عمر وفي الصحابة أيضًا واقد بن عبد
اللَّه آخر ولكنه مات في خلافة عمر كما ذكر
ابن سعد.
قوله: "فوقصته"
بفتح الواو بعدها قاف ثم صاد مهملة. وفي
رواية للبخاري فأقصعته. وفي أخرى له أيضًا
أقصعته وفي أخرى له أيضًا أوقصته والوقص الكسر
كما في القاموس والقصع الهشم وقيل هو خاص بكسر
العظم. قال الحافظ: ولو سلم فلا مانع أن
يستعار لكسر الرقبة والقعص القتل في الحال
ومنه قعاص الغنم وهو موتها كذا في الفتح.
قوله: "اغسلوه بماء
وسدر" فيه دليل على وجوب الغسل بالماء
والسدر وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: "وكفنوه في
ثوبيه" فيه أنه يكفن المحرم في ثيابه التي
مات فيها وقيل إنما اقتصر على تكفينه في ثوبيه
لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة
الفاضلة ويحتمل أنه لم يجد غيرهما.
قوله: "ولا
تحنطوه" هو من الحنوط بالمهملة وهو الطيب
الذي يوضع للميت.
قوله: "ولا تخمروا
رأسه" أي لا تغطوه وفيه دليل على بقاء حكم
الإحرام وكذلك قوله "ولا تحنطوه" وأصرح من
ذلك التعليل بقوله "فإن
اللَّه يوم القيامة يبعثه ملبيًا"
وقوله في الرواية الأخرى "فإنه يبعث يوم القيامة محرمًا" وخالف في ذلك المالكية والحنفية وقالوا إن قصة هذا الرجل واقعة عين
لا عموم لها فتختص به وأجيب بأن الحديث ظاهر
في أن العلة هي كونه في النسك وهي عامة في كل
محرم والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثبت لغيره حتى يثبت
التخصيص. وما أحسن ما اعتذر به الداودي عن
مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث.
قوله: "ولا تمسوه"
بضم أوله وكسر الميم من أمس. قال ابن
المنذر: وفي الحديث إباحة غسل المحرم الحي
بالسدر خلافًا لمن كرهه وأن الوتر في الكفن
ليس بشرط وأن الكفن من رأس المال لأمره صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بتكفينه في ثوبيه ولم
يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا وفيه استحباب
تكفين المحرم في إحرامه وأن إحرامه باق وأنه
لا يكفن في المحنط كما تقدم وأنه يجوز التكفين
في الثياب الملبوسة وأن الإحرام يتعلق
بالرأس.
ج / 4 ص -42-
فقال كيف نصلي عليك قال: ادخلوا أرسالا"
كذا في التلخيص.
وعن جابر وابن عباس
أيضًا عند الطبراني وفي إسناده عبد المنعم بن
إدريس وهو كذاب وقد قال البزار: إنه
موضوع. وعن ابن مسعود عند الحاكم بسند
واه. وعن نبيط بن شريط عند البيهقي وذكره
مالك بلاغًا.
ـ وفي الحديث ـ أن
الصلاة كانت عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فرادى الرجال ثم النساء ثم الصبيان. قال ابن
عبد البر: وصلاة الناس عليه أفرادًا مجمع
عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا
يختلفون فيه. وتعقبه ابن دحية بأن ابن
القصار حكى الخلاف فيه هل صلوا عليه الصلاة
المعهودة أو دعوا فقط وهل صلوا فرادى أو جماعة
واختلفوا فيمن أمَّ بهم فقيل أبو بكر روي
بإسناد قال الحافظ لا يصح وفيه حرام وهو ضعيف
جدًا. قال ابن دحية: هو باطل بيقين لضعف
رواته وانقطاعه. قال: والصحيح أن المسلمين
صلوا عليه أفرادًا لا يؤمهم أحد وبه جزم
الشافعي. قال: وذلك لعظم رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي وتنافسهم
في أن لا يتولى الإمامة عليه في الصلاة
واحد. قال ابن دحية: كان المصلون عليه
ثلاثين ألفًا. قال المصنف رحمه اللَّه تعالى
بعد أن ساق الحديث: وتمسك به من قدم النساء
على الصبيان في الصلاة على جنائزهم وحال دفنهم
في القبر الواحد اهـ.
ترك الصلاة على الشهيد
1- عن أنس: "أن
شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل
عليهم".
رواه أحمد وأبو داود
والترمذي. وقد أسلفنا هذا المعنى من رواية
جابر وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا
تثبت.
أما حديث أنس فأخرجه
أيضًا الحاكم. وقال الترمذي: إنه حديث
غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا
الوجه. وأخرجه أبو داود في المراسيل والحاكم
من حديثه قال: مر النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم على حمزة وقد مثل به ولم يصل على
أحد من الشهداء غيره وأعله البخاري والترمذي
والدارقطني بأنه غلط فيه أسامة بن زيد فرواه
عن الزهري عن أنس ورجحوا رواية الليث عن
الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن
جابر.
وأما حديث جابر فقد تقدم
في باب ترك غسل الشهيد وأما الأحاديث الواردة
في الصلاة على شهداء أحد التي أشار إليها
المصنف وقال: إنها بأسانيد لا تثبت فستعرف
الكلام عليها وفي الصلاة على الشهيد أحاديث.
منها ما أخرجه الحاكم من
حديث جابر قال: "فقصد رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم حمزة حين جاء الناس من
القتال فقال رجل: رأيته عند تلك الشجيرات
فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من
الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى
عليه" الحديث. وفي إسناده أبو حماد الحنفي
وهو متروك.
وعن شداد بن الهاد عند
النسائي بلفظ: "أن رجلا من الأعراب جاء
إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فآمن به
واتبعه" وفي الحديث: "أنه استشهد فصلى
عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فحفظ من دعائه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم له
اللَّهم إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك
فقتل في سبيلك"
وحمل البيهقي هذا على أنه لم يمت في
المعركة. وعن أنس عند
ج / 4 ص -43-
أبي داود في المراسيل والحاكم وقد تقدم
لفظه.
وعن عقبة بن عامر في
البخاري وغيره: "أنه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم صلى على قتلى أُحد بعد ثمان سنين صلاته
على ميت كالمودع للأحياء والأموات" وفي
رواية لابن حبان ثم دخل بيته ولم يخرج حتى
قبضه اللَّه.
وعن ابن عباس عند ابن
إسحاق قال: "أمر رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بحمزة فسجى ببرده ثم صلى عليه
وكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى
حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه
ثنتين وسبعين صلاة" وفي إسناده رجل مبهم لأن
ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى
ابن عباس عن ابن عباس. قال السهيلي: إن
كان الذي أبهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة
فهو ضعيف وإلا فهو مجهول لا حجة فيه.
قال الحافظ: الحامل
للسهيلي على ذلك ما وقع في مقدمة مسلم عن شعبة
أن الحسن بن عمارة حدثه عن الحكم عن مقسم عن
ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
صلى على قتلى أُحد فسألت الحكم فقال لم يصل
عليهم اهـ. لكن حديث ابن عباس روى من طرق
أخرى منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجه
والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد
عن مقسم عن ابن عباس مثله وأتم منه ويزيد فيه
ضعف يسير.
ـ وفي الباب ـ أيضًا عن
أبي مالك الغفاري عند أبي داود في المراسيل من
طريقه وهو تابعي اسمه غزوان ولفظه: "أنه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى على قتلى أُحد
عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين
صلاة".
قال الحافظ: ورجاله
ثقات وقد أعله الشافعي بأنه متدافع لأن
الشهداء كانوا سبعين فإذا أتى بهم عشرة عشرة
يكون قد صلى سبع صلوات فكيف تكون سبعين قال:
وإن أراد التكبير فيكون ثمانية وعشرين تكبيرة
وأجيب بأن المراد صلى على سبعين نفسًا وحمزة
معهم كلهم فكأنه صلى عليه سبعين صلاة.
وعن ابن مسعود عند أحمد
بلفظ: "رفع الأنصاري وترك حمزة فصلى عليه
ثم جيء برجل من الأنصار ووضعوه إلى جنبه فصلى
عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى صلى عليه
يومئذ سبعين صلاة".
ـ وفي الباب ـ أيضًا
حديث أبي سلام عن رجل من الصحابة عند أبي داود
وقد تقدم في باب ترك غسل الشهيد. هذا جملة
ما وقفنا عليه في هذا الباب من الأحاديث
المتعارضة وقد اختلف أهل العلم في ذلك قاله
الترمذي قال بعضهم: يصلى على الشهيد وهو قول
الكوفيين وإسحاق وقال بعضهم: لا يصلى عليه
وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد اهـ وبالأول
قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والمزني والحسن
البصري وابن المسيب وإليه ذهب العترة واستدلوا
بالأحاديث التي ذكرناها وأجاب عنها القائلون
بأنه لا يصلى على الشهيد فقالوا أما حديث جابر
ففيه متروك كما تقدم وأما حديث شداد بن الهاد
فهو مرسل لأن شدادًا تابعي وقد أجيب عنه بما
تقدم عن البيهقي وبأن المراد بالصلاة الدعاء
وأما حديث أنس فقد تقدم أن البخاري والترمذي
والدارقطني قالوا بأنه غلط فيه أسامة وقد قال
البيهقي عن الدارقطني أن قوله فيه ولم يصل على
أحد من الشهداء غيره ليست بمحفوطة على أنه
يقال الحديث حجة عليهم لا لهم لأنها لو كانت
واجبة لما خص بها واحدًا من سبعين. وأما
حديث عقبة فلنبدأ بتقرير الاستدلال به ثم نذكر
جوابه وتقريره ما قاله الطحاوي أن معنى صلاته
صلى اللَّه عليه وآله وسلم عليهم لا يخلو
ج / 4 ص -44-
من ثلاثة معان إما أن يكون ناسخًا لما تقدم
من ترك الصلاة عليهم أو يكون من سنتهم أن لا
يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة أو تكون الصلاة
عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة وأيها
كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء
ثم الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في
الصلاة عليهم قبل دفنهم وإذا ثبتت الصلاة
عليهم بعد الدفن كانت قيل الدفن أولى اهـ
وأجيب بأن صلاته عليهم تحتمل أمورًا أخر منها
أن تكون من خصائصه ومنها أن تكون بمعنى الدعاء
ثم هي واقعة عين لا عموم لها فكيف ينتهض
الاحتجاج بها لدفع حكم قد ثبت.
وأيضًا لم يقل أحد من
العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره
الطحاوي. كذا قال الحافظ وأنت خبير بأن دعوى
الاختصاص خلاف الأصل ودعوى أن الصلاة بمعنى
الدعاء يردها قوله في الحديث صلاته على الميت
وأيضًا قد تقرر في الأصول أن الحقائق الشرعية
مقدمة على اللغوية فلو فرض عدم ورود هذه
الزيادة لكان المتعين المصير إلى حمل الصلاة
على حقيقتها الشرعية وهي ذات الأذكار والأركان
ودعوى أنها واقعة عين لا عموم لها يردها أن
الأصل فيما ثبت لواحد أو لجماعة في عصره صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ثبوته للغير على أنه
يمكن معارضة هذه الدعوى بمثلها فيقال ترك
الصلاة على الشهداء في يوم أحد واقعة عين لا
عموم لها فلا تصلح للاستدلال بها على مطلق
الترك بعد ثبوت مطلق الصلاة على الميت ووقوع
الصلاة منه على خصوص الشهيد في غيرها كما في
حديث شداد بن الهاد وأبي سلام.
وأما حديث ابن عباس وما
ورد في معناه من الصلاة على قتلى أُحد قبل
دفنهم فأجاب عن ذلك الشافعي بأن الأخبار جاءت
كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لم يصل على قتلى أُحد
قال: وما روي أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح
وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث أن
يستحي على نفسه اهـ.
وأجيب أيضًا بأن تلك
الحالة الضيقة لا تتسع لسبعين صلاة وبأنها
مضطربة وبأن الأصل عدم الصلاة ولا يخفى عليك
أنها رويت من طريق يشد بعضها بعضًا وضيق تلك
الحالة لا يمنع من إيقاع الصلاة فإنها لو ضاقت
عن الصلاة لكان ضيقها عن الدفن أولى ودعوى
الاضطراب غير قادحة لأن جميع الطرق قد أثبتت
الصلاة وهي محل النزاع ودعوى أن الأصل عدم
الصلاة مسلمة قبل ورود الشرع وأما بعد وروده
فالأصل الصلاة على مطلق الميت والتخصيص ممنوع
وأيضًا أحاديث الصلاة قد شد من عضدها كونها
مثبتة والإثبات مقدم على النفي وهذا مرجح
معتبر والقدح في اعتباره في المقام يبعد غفلة
الصحابة عن إيقاع الصلاة على أولئك الشهداء
معارض بمثله وهو بعد غفلة الصحابة عن الترك
الواقع على خلاف ما كان ثابتًا عنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم من الصلاة على الأموات فكيف
يرجح ناقله وهو أقل عددًا من نقلة الإثبات
الذي هو مظنة الغفول عنه لكونه واقعًا على
مقتضى عادته صلى اللَّه عليه وآله وسلم من
الصلاة على مطلق الميت ومن مرجحات الإثبات
الخاصة بهذا المقام أنه لم يرو النفي إلا أنس
وجابر وأنس عند تلك الواقعة من صغار الصبيان
وجابر قد روى أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
صلى على حمزة وكذلك أنس كما تقدم فقد وافقا
غيرهما في وقوع مطلق الصلاة على الشهيد في تلك
الواقعة ويبعد كل البعد أن يخص
ج / 4 ص -45-
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بصلاته
حمزة لمزية القرابة ويدع بقية الشهداء ومع هذا
فلو سلمنا أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لم يصل عليهم حال الواقعة وتركنا جميع هذه
المرجحات لكانت صلاته عليهم بعد ذلك مفيدة
للمطلوب لأنها كالاستدراك لما فات مع اشتمالها
على فائدة أخرى وهي أن الصلاة على الشهيد لا
ينبغي أن تترك بحال وإن طالت المدة وتراخت إلى
غاية بعيدة.
وأما حديث أبي سلام فلم
أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه وهو من
أدلة المثبتين لأنه قتل في المعركة بين يدي
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسماه
شهيدًا وصلى عليه نعم لو كان النفي عامًا غير
مقيد بوقعة أحد ولم يرد في الإثبات غير هذا
الحديث لكان مختصًا بمن قتل على مثل صفته.
واعلم أنه قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف
في غسله والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في
المعركة أو أعم من ذلك فعند الشافعي أن المراد
بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار وخرج
بقوله في المعركة من جرح في المعركة وعاش بعد
ذلك حياة مستقرة وخرج بحرب الكفار من مات في
قتال المسلمين كأهل البغي وخرج بجميع ذلك من
يسمى شهيدًا بسبب غير السبب المذكور ولا خلاف
أن من جمع هذه القيود شهيد وروي عن أبي حنيفة
وأبي يوسف ومحمد أن من جرح في المعركة إن من
مات قبل الإرتثاث فشهيد والإرتثاث أن يحمل
ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة
يومًا وليلة حيًا وذهبت الهادوية إلى أن من
جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد
الإرتثاث وأما من قتل مدافعًا عن نفس أو مال
أو في المعركة ظلمًا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
والهادوية إنه شهيد.
وقال الإمام يحيى
والشافعي: إنه وإن قيل له شهيد فليس من
الشهداء الذين لا يغسلون. وذهبت العترة
والحنفية والشافعي في قول له إن قتيل البغاة
شهيد قالوا إذ لم يغسل على أصحابه وهو
توقيف.
[فائدة]
لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم صلى على شهداء بدر ولا أنه لم
يصل عليهم. وكذلك في شهداء سائر المشاهد
النبوية إلا ما ذكرنا في هذا البحث فليعلم
ذلك.
الصلاة على السقط والطفل
1- عن المغيرة بن
شعبة: "عن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبًا
منها عن يمينها أو عن يسارها والسقط يصلى عليه
ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة".
رواه أحمد وأبو داود
وقال فيه: "والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبًا منها" وفي رواية:
"الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها والطفل يصلى عليه" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
الحديث أخرجه أيضًا ابن
حبان وصححه والحاكم وقال على شرط البخاري
بلفظ:
"السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية
والرحمة"
وأخرجه بهذا اللفظ الترمذي وصححه ولكن رواه
الطبراني موقوفًا على المغيرة ورجح الدارقطني
في العلل الموقوف.
ـ وفي الباب ـ عن علي
عند ابن
ج / 4 ص -46-
عدي وفي إسناده عمرو بن خالد وهو متروك.
وعن ابن عباس عنده أيضًا من رواية شريك عن أبي
إسحاق عن عطاء عنه وقواه ابن طاهر في الذخيرة
وقد ذكره البخاري من قول الزهري تعليقًا ووصله
ابن أبي شيبة.
وعن أبي هريرة عند ابن
ماجه يرفعه بلفظ:
"صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم" وإسناده ضعيف.
قوله: "الراكب خلف
الجنازة" أي يمشي وسيأتي الكلام على المشي
مع الجنازة.
قوله: "والسقط يصلى
عليه" فيه دليل على مشروعية الصلاة على
السقط وإليه ذهبت العترة والفقهاء ولكنها إنما
تشرع الصلاة عليه إذا كان قد استهل والاستهلال
الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياة
الطفل. وقد أخرج البزار عن ابن عمر
مرفوعًا:
"استهلال الصبي العطاس" قال الحافظ: وإسناده ضعيف. ويدل على اعتبار الاستهلال حديث
جابر عند الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي
بلفظ:
"إذا استهل السقط صلى عليه وورث" وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عنه وهو ضعيف.
قال الترمذي: رواه أشعث بن سوار وغير واحد
عن أبي الزبير عن جابر. ورواه النسائي أيضًا
وابن حبان في صحيحه والحاكم من طريق إسحاق
الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر
وصححه الحاكم على شرط الشيخين. قال
الحافظ: ووهم لأن أبا الزبير ليس من شرط
البخاري وقد عنعن فهو علة هذا الخبر إن كان
محفوظًا عن سفيان قال: ورواه الحاكم أيضًا
من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير
مرفوعًا وقال: لا أعلم أحدًا رفعه عن أبي
الزبير غير المغيرة وقد وقفه ابن جريج وغيره
وروي أيضًا من طريق بقية عن الأوزاعي عن أبي
الزبير مرفوعًا. وقال الشافعي: إنما يغسل
لأربعة أشهر إذ يكتب في الأربعين الرابعة رزقه
وأجله وإنما ذلك للحي.
وقد رجح المصنف رحمه
اللَّه تعالى هذا واستدل له فقال: قلت وإنما
يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح وهو أن يستكمل
أربعة أشهر فأما إن سقط لدونها فلا لأنه ليس
بميت إذ لم ينفخ فيه روح. وأصل ذلك حديث ابن
مسعود قال: "حدثنا رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق
أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم
يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللَّه إليه ملكًا
بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو
سعيد ثم ينفخ فيه الروح"
متفق عليه اهـ.
ومحل الخلاف فيمن سقط
بعد أربعة أشهر ولم يستهل. وظاهر حديث
الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق لأن
الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط
كما يدل على وجودها بعده فاعتبار الاستهلال من
الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من
البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل
وأنه لا يكتفي بمجرد العلم بحياته في البطن
فقط.
ترك الإمام الصلاة على الغال وقاتل نفسه
1- عن زيد بن خالد
الجهني: "أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر
وأنه ذكر لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فقال:
صلوا على صاحبكم
فتغيرت وجوه القوم لذلك فلما رأى الذي بهم
قال:
إن صاحبكم غل في سبيل اللَّه
ج / 4 ص -47-
ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزًا من خرز
اليهود ما يساوي درهمين".
رواه الخمسة إلا
الترمذي.
2- وعن جابر بن سمرة:
"أن رجلا قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم".
رواه الجماعة إلا
البخاري.
الحديث الأول سكت عنه
أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال
الصحيح.
قوله: "فقال صلوا
على صاحبكم" فيه جواز الصلاة على العصاة
وأما ترك النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
للصلاة عليه فلعله للزجر عن الغلول كما امتنع
من الصلاة على المديون وأمرهم بالصلاة عليه.
قوله: "ففتشنا
متاعه" الخ فيه معجزة لرسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لإخباره بذلك وانكشاف
الأمر كما قال. قوله: "ما يساوي
درهمين" فيه دليل على تحريم الغلول وإن كان
شيئًا حقيرًا وقد ورد في الوعيد عليه أحاديث
كثيرة ليس هذا محل بسطها.
قوله: "بمشاقص"
جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك
والنصل الطويل أو سهم فيه ذلك يرمي به الوحش
كذا في القاموس.
قوله: "فلم يصل
عليه" فيه دليل لمن قال إنه لا يصلى على
الفاسق وهم العترة وعمر بن عبد العزيز
والأوزاعي فقالوا لا يصلى على الفاسق تصريحًا
أو تأويلا ووافقهم أبو حنيفة وأصحابه في
الباغي والمحارب ووافقهم الشافعي في قول له في
قاطع الطريق وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة
وجمهور العلماء إلى أنه يصلى على الفاسق
وأجابوا عن حديث جابر بأن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجرًا
للناس وصلت عليه الصحابة. ويؤيد ذلك ما عند
النسائي بلفظ:
"أما أنا فلا أصلي عليه" وأيضًا مجرد الترك لو فرض أنه لم يصل عليه
هو ولا غيره لا يدل على الحرمة المدعاة.
ويدل على الصلاة على
الفاسق حديث:
"صلوا على من قال لا إله إلا اللَّه" وقد تقدم الكلام عليه في باب ما جاء في إمامة الفاسق من أبواب
الجماعة.
الصلاة على من قتل في حد
1- عن جابر: "أن
رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه حتى شهد
على نفسه أربع مرات فقال: أبك جنون
قال: لا. قال: أحصنت
قال: نعم فأمر به فرجم بالمصلى فلما أذلقته
الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
خيرًا
و صلى عليه".
رواه البخاري في صحيحه
ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه
وقالوا: "ولم يصل عليه" ورواية الإثبات
أولى وقد صح عنه عليه السلام أنه صلى على
الغامدية وقال الإمام أحمد: ما نعلم أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ترك الصلاة
على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه".
حديث جابر أخرجه البخاري
باللفظ الذي ذكره المصنف عن محمود بن غيلان عن
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عنه
وقال: لم يقل يونس وابن جريج عن الزهري وصلى
عليه
ج / 4 ص -48-
وعلل بعضهم هذه الزيادة أعني قوله "فصلى
عليه" بأن محمد بن يحيى لم يذكرها وهو أضبط
من محمود بن غيلان. قال: وتابع محمد بن
يحيى نوح بن حبيب وقال غيره كذا روي عن عبد
الرزاق والحسن بن علي ومحمد بن المتوكل ولم
يذكروا الزيادة وقال: ما أرى مسلمًا ترك
حديث محمود بن غيلان إلا لمخالفة هؤلاء وقد
خالف محمودًا أيضًا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي
المعروف بابن راهويه وحميد بن زنجويه وأحمد بن
منصور الرمادي وإسحاق بن إبراهيم الديري
فهؤلاء ثمانية من أصحاب عبد الرزاق خالفوا
محمودًا وفيهم هؤلاء الحفاظ إسحاق بن راهويه
ومحمد بن يحيى الذهلي وحميد بن زنجويه. وقد
أخرجه مسلم في صحيحه عن إسحاق عن عبد الرزاق
ولم يذكر لفظه غير أنه قال نحو رواية عقيل.
وحديث عقيل الذي أشار
إليه ليس فيه ذكر الصلاة. وقال البيهقي:
ورواه البخاري عن محمود بن غيلان عن عبد
الرزاق إلا أنه قال: "فصلى عليه" وهو
خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه ثم
إجماع أصحاب الزهري على خلافه انتهى.
وعلى هذا تكون زيادة
قوله "وصلى عليه" شاذة ولكنه قد تقرر في
الأصول أن زيادة الثقة إذا وقعت غير منافية
كانت مقبولة وهي ههنا كذلك باعتبار رواية
الجماعة المذكورين لأصل الحديث وأما باعتبار
ما وقع عند أحمد وأهل السنن من أنه لم يصل
عليه فرواية الصلاة أرجح من جهات: الأولى:
كونها في الصحيح. الثانية: كونها مثبتة.
الثالثة: كونها معتضدة بما أخرجه مسلم في
صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
من حديث عمران بن حصين: "أن امرأة من
جهينة أتت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فقالت: إنها قد زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وليها فقال له رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها فلما وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها
فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها" الحديث. وبما
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة
أن امرأة من غامد أتت النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فذكر نحو حديث عمران وقال:
"فأمر بها فصلى عليها" الحديث. وبما
أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي بكرة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجم
امرأة" وفيه: "فلما طفئت أخرجها فصلى
عليها" وفي إسناده مجهول. ومن المرجحات
أيضًا الاجتماع على الصلاة على المرجوم. قال
النووي: قال القاضي مذهب العلماء كافة
الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه
وولد الزنا اهـ.
ويتعقب بأن الزهري يقول
لا يصلى على المرجوم وقتادة يقول لا يصلى على
ولد الزنا وأما قاتل نفسه فقد تقدم الخلاف
فيه.
ـ ومن جملة ـ المرجحات
ما حكاه المصنف عن أحمد أنه قال: ما نعلم أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ترك الصلاة
على أحد إلا الغال وقاتل نفسه. وأما ما
أخرجه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يصل
على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه ففي إسناده
مجاهيل وبقية الكلام على حديث ماعز والغامدية
يأتي إن شاء اللَّه في الحدود وهذا المقدار هو
الذي تدعو إليه الحاجة في المقام.
الصلاة على الغائب بالنية وعلى القبر إلى شهر
1- عن جابر: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى على
أصحمة النجاشي فكبر عليه
ج / 4 ص -49-
أربعًا" وفي لفظ: "قال:
توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلموا فصلوا عليه فصففنا خلفه فصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عليه ونحن
صفوف". متفق عليهما.
2- وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم نعى
النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى
المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات".
رواه الجماعة وفي لفظ:
"نعى النجاشي لأصحابه ثم قال استغفروا له
ثم خرج بأصحابه إلى المصلى ثم قام فصلى بهم
كما يصلي على الجنازة" رواه أحمد.
3- وعن عمران بن حصين:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال:
إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه
قال: فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت
وصلينا عليه كما يصلى على الميت".
رواه أحمد والنسائي
والترمذي وصححه.
قوله: "على أصحمة"
قال في الفتح: وقع في جميع الروايات التي
اتصلت بنا من طريق البخاري أصحمة بمهملتين
بوزن أفعلة مفتوح العين. ووقع في مصنف ابن
أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء وحكى
الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء
معجمة وإثبات الألف قال: وهو غلط. وحكى
الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل
الميم انتهى. وهو اسم النجاشي. قال ابن
قتيبة وغيره: معناه بالعربية عطية والنجاشي
بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة
ثم ياء كياء النسب وقيل بالتخفيف ورجحه
الصنعاني لقب لمن ملك الحبشة وحكى المطرزي
تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه.
قال المطرزي وابن خالويه
وآخرون: إن كل من ملك المسلمين يقال له أمير
المؤمنين ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك
الروم قيصر ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك الترك
خاقان ومن ملك القبط فرعون ومن ملك مصر العزيز
ومن ملك اليمن تبع ومن ملك حمير القيل بفتح
القاف وقيل القيل أقل درجة من الملك.
قوله: "فكبر عليه
أربعًا" فيه دليل على أن المشروع في تكبير
الجنازة أربع وسيأتي الكلام في ذلك.
قوله: "وخرج بهم إلى
المصلى" تمسك به من قال بكراهة صلاة الجنازة
في المسجد وسيأتي البحث في ذلك وقد استدل بهذه
القصة القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب عن
البلد. قال في الفتح: وبذلك قال الشافعي
وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم: لم يأت
عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي:
الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له وهو
غائب أو في القبر.
وذهبت الحنفية والمالكية
وحكاه في البحر عن العترة أنها لا تشرع الصلاة
على الغائب مطلقًا. قال الحافظ: وعن بعض
أهل العلم إنما يجوز
ج / 4 ص -50-
ذلك في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرب منه
لا إذا طالت المدة حكاه ابن عبد البر وقال ابن
حبان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة
قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره واعتذر
من لم يقل بالصلاة على الغائب عن هذه القصة
بأعذار منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد
ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا
إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه
واستحسنه الروياني وترجم بذلك أبو داود في
السنن فقال باب الصلاة على المسلم يليه أهل
الشرك في بلد آخر. قال الحافظ: وهذا محتمل
إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصل
عليه في بلده أحد انتهى. وممن اختار هذا
التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد المصنف
والمحقق المقبلي واستدل له بما أخرجه الطيالسي
وأحمد وابن ماجه وابن قانع والطبراني والضياء
المقدسي.
وعن أبي الطفيل عن حذيفة
بن أسيد: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه"
ومن الأعذار قولهم إنه كشف له صلى اللَّه عليه
وآله وسلم حتى رآه فيكون حكمه حكم الحاضر بين
يدي الإمام الذي لا يراه المؤتمون ولا خلاف في
جواز الصلاة على من كان كذلك.
قال ابن دقيق العيد:
هذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال وتعقبه
بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثله هذا من
جهة المانع. قال الحافظ: وكأن مستند
القائل بذلك ما ذكره الواحدي في أسباب النزول
بغير إسناد عن ابن عباس قال: "كشف للنبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن سرير النجاشي
حتى رآه وصلى عليه" ولابن حبان من حديث
عمران بن حصين: "فقاموا وصفوا خلفه وهم لا
يظنون إلا أن جنازته بين يديه" ولأبي عوانة
من طريق أبان وغيره عن يحيى فصلينا خلفه ونحن
لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا.
ومن الأعذار أن ذلك خاص
بالنجاشي لأنه لم يثبت أنه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم صلى على ميت غائب غيره وتعقب بأنه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى على معاوية بن
معاوية الليثي وهو مات بالمدينة والنبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كان إذ ذاك بتبوك ذكر
ذلك في الاستيعاب.
وروي أيضًا عن أبي أمامة
الباهلي مثل هذه القصة في حق معاوية بن مقرن
وأخرج مثلها أيضًا عن أنس في ترجمة معاوية بن
معاوية المزني ثم قال بعد ذلك: أسانيد هذه
الأحاديث ليست بالقوية ولو أنها في الأحكام لم
يكن شيء منها حجة.
وقال الحافظ في الفتح
متعقبًا لمن قال أنه لم يصل على غير النجاشي
قال: وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن
معاوية الليثي وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة
أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه انتهى.
وقال الذهبي: لا نعلم
في الصحابة معاوية بن معاوية وكذلك تكلم فيه
البخاري. وقال ابن القيم: لا يصح حديث
صلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم على معاوية
بن معاوية لأن في إسناده العلاء بن يزيد قال
ابن المديني: كان يضع الحديث وقال النووي
مجيبًا على من قال بأن ذلك خاص بالنجاشي:
إنه لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من
ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكروه
لتوفرت الدواعي إلى نقله.
وقال ابن العربي: قال
المالكية ليس ذلك إلا لمحمد قلنا وما عمل به
محمد تعمل به أمته يعني لأن الأصل عدم الخصوص
قالوا طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه
قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك
ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا
حديثًا من عند أنفسكم ولا تحدثوا
ج / 4 ص -51-
إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنه سبيل إتلاف
إلى ما ليس له تلاف. وقال الكرماني: قولهم
رفع الحجاب عنه ممنوع ولئن سلمنا فكان غائبًا
عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم.
ـ والحاصل ـ أنه لم يأت
المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتد به
سوى الاعتذار بأن ذلك مختص بمن كان في أرض لا
يصلى عليه فيها وهو أيضًا جمود على قصة
النجاشي يدفعه الأثر والنظر.
4- وعن ابن عباس قال:
"انتهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر
أربعًا".
5- وعن أبي هريرة:
"أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًا
ففقدها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات قال:
أفلا آذنتموني قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره فقال:
دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها
ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن اللَّه ينورها لهم بصلاتي
عليهم".
متفق عليهما وليس
للبخاري:
"إن هذه القبور مملوءة ظلمة"
إلى آخر الخبر.
6- وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى
على قبر بعد شهر".
7- عنه: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى على ميت بعد
ثلاث".
رواهما الدارقطني.
8- وعن سعيد بن
المسيب: "أن أم سعد ماتت والنبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم غائب فلما قدم صلى
عليها وقد مضى لذلك شهر".
رواه الترمذي.
حديث ابن عباس الآخر
أخرج الدارقطني الرواية الأولى منه من طريق
بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن
الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس. وأخرجه
أيضًا البيهقي وأخرج الثانية من طريق سفيان عن
الشيباني به. ووقع في الأوسط للطبراني من
طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن
زكريا عن الشيباني به أنه صلى بعد دفنه
بليلتين. وحديث سعيد بن المسيب أخرجه
البيهقي. قال الحافظ: وإسناده مرسل
صحيح. وقد رواه البيهقي عن ابن عباس وفي
إسناده سويد بن سعيد.
ـ وفي الباب ـ عن أبي
هريرة عند الشيخين بنحو حديث الباب. وعن أنس
عند البزار نحوه. وعن أبي أمامة بن سهل عند
مالك في الموطأ نحوه أيضًا. وعن زيد بن ثابت
عند أحمد والنسائي نحوه أيضًا. وعن أبي سعيد
عند ابن ماجه وفي إسناده ابن لهيعة. وعن
عقبة بن عامر عند البخاري. وعن عمران بن
حصين عند الطبراني في الأوسط. وعن ابن عمر
عنده أيضًا. وعن عبد اللَّه بن عامر بن
ربيعة عند النسائي. وعن أبي قتادة عند
البيهقي أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى
على قبر البراء. وفي رواية بعد شهر. قال
حرب الكرماني.
ـ وفي الباب ـ أيضًا عن
عامر بن
ج / 4 ص -52-
ربيعة وعبادة وبريدة بن الحصيب.
قوله: "إلى قبر
رطب" أي لم ييبس ترابه لقرب وقت الدفن
فيه.
قوله: "وكبر
أربعًا" فيه أن المشروع في تكبير صلاة
الجنازة أربع وسيأتي.
قوله: "أن امرأة
سوداء" سماها البيهقي أم محجن وذكر ابن منده
في الصحابة خرقاء اسم امرأة سوداء كانت تقم
المسجد فيمكن أن يكون اسمها خرقاء وكنيتها أم
محجن.
قوله: "أو شابًا"
هكذا وقع الشك في ألفاظ الحديث وفي حديث أبي
هريرة الجزم بأن صاحبة القصة امرأة وجزم بذلك
ابن خزيمة في روايته لحديث أبي هريرة.
قوله: "كانت تقم"
بضم القاف أي تجمع القمامة وهي الكناسة.
قوله: "ثم قال إن
هذه القبور مملوءة ظلمة" الخ احتج بهذه
الرواية من قال بعدم مشروعية الصلاة على القبر
وهو النخعي ومالك وأبو حنيفة والهادوية قالوا
إن قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإن اللَّه
ينورها بصلاتي عليهم يدل على أن ذلك من خصائصه
وتعقب ذلك ابن حبان فقال في ترك إنكاره صلى
اللَّه عليه وآله وسلم على من صلى معه على
القبر بيان جواز ذلك لغيره وأنه ليس من خصائصه
وتعقب هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا
ينتهض دليلا للأصالة.
ـ ومن جملة ـ ما أجاب به
الجمهور عن هذه الزيادة أنها مدرجة في هذا
الإسناد وهي من مراسيل ثابت بيَّن ذلك غير
واحد من أصحاب حماد بن زيد. قال الحافظ:
وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج.
قال البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة
من مراسيل ثابت كما قال أحمد انتهى.
وقد عرفت غير مرة أن
الاختصاص لا يثبت إلا بدليل ومجرد كون اللَّه
ينور القبور بصلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم
على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر
لغيره لا سيما بعد قوله صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
"صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن وأما من لم يصل عليه
ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة
باق وجعل الدفن مسقطًا لهذا الفرض محتاج إلى
دليل وقد قال بمشروعية الصلاة على القبر
الجمهور كما قال ابن المنذر وبه قال الناصر من
أهل البيت.
وقد استدل بحديث الباب
على رد قول من فصل فقال يصلي على قبر من لم
يكن قد صلى عليه قبل الدفن لا من كان قد صلى
عليه لأن القصة وردت فيمن قد صلى عليه والمفصل
هو بعض المانعين الذين تقدم ذكرهم واختلفوا في
أمد ذلك فقيده بعضهم إلى شهر. وقيل ما لم
يبل الجسد وقيل يجوز أبدًا. وقيل إلى اليوم
الثالث. وقيل إلى أن يترب.
ـ ومن جملة ـ ما اعتذر
به المانعون من الصلاة على القبر أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك حيث صلى
من ليس بأولى بالصلاة مع إمكان صلاة الأولى
وهذا تمحل لا ترد بمثله هذه السنة لا سيما مع
ما تقدم من صلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم
على البراء بن معرور مع أنه مات والنبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم غائب في مكة قبل الهجرة
وكان ذلك بعد موته بشهر. وعلى أم سعد وكان
أيضًا عند موتها غائبًا وعلى غيرهما.
باب فضل الصلاة
على الميت وما يرجى له بكثرة الجمع
1- عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن
شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل وما القيراطان
قال مثل الجبلين العظيمين".
متفق عليه. ولأحمد
ج / 4 ص -53-
ومسلم: "حتى توضع في اللحد"
بدل تدفن وفيه دليل فضيلة اللحد على
الشق".
ـ وفي الباب ـ عن عائشة
عند البخاري. وعن ثوبان عند مسلم. وعن عبد
اللَّه بن مغفل عند النسائي. وعن أبي سعيد
عند أحمد. وعن ابن مسعود عند أبي عوانة.
قال الحافظ: وأسانيده هذه صحاح. وعن
أُبيِّ بن كعب عند ابن ماجه. وعن ابن مسعود
عند البيهقي في الشعب وأبي عوانة. وعن أنس
عند الطبراني في الأوسط. وعن واثلة بن
الأسقع عند ابن عدي. وعن حفصة عند حميد بن
زنجويه في فضائل الأعمال. قال الحافظ: وفي
كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف.
قوله: "من شهد" في
رواية للبخاري:
"من شيع"
وفي أخرى له: "من تبع" وفي رواية لمسلم:
"من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى
تدفن"
فينبغي أن تكون هذه الرواية مقيدة لبقية
الروايات فالتشييع والشهادة والإتباع يعتبر في
كونها محصلة للأجر المذكور في الحديث أن يكون
ابتداء الحضور من بيت الميت. ويدل على ذلك
ما وقع في رواية لأبي هريرة عند البزار
بلفظ: "من أهلها"
وما عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ:
"فمشى
معها من أهلها"
ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر
إلى انقضاء الصلاة وبذلك جزم الطبري.
قال الحافظ: والذي
يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلى فقط لأن كل
ما قبل الصلاة وسيلة إليها لكن يكون قيراط من
صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى. واستدل بما
عند مسلم بلفظ:
"من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط"
وبما عند أحمد عن أبي هريرة:
"ومن صلى ولم يتبع فله قيراط" فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع إتباع قال: ويمكن أن
يحمل الإتباع هنا على ما بعد الصلاة انتهى.
وهكذا الخلاف في قيراط
الدفن هل يحصل بمجرد الدفن من دون إتباع أو لا
بد منه.
قوله: "حتى يصلى
عليها" قال في الفتح: اللام للأكثر
مفتوحة. وفي بعض الروايات بكسرها ورواية
الفتح محمولة عليها فإن حصول القيراط متوقف
على وجود الصلاة من الذي يحصل له انتهى. قال
ابن المنير: إن القيراط لا يحصل إلا لمن
اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن
اتبع مثلًا وشيع ثم انصرف بغير صلاة وذلك لأن
الإتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما
الصلاة وإما الدفن فإذا تجردت الوسيلة عن
المقصد لم يحصل المترتب على المقصود وإن كان
يترجى أن يحصل لذلك فضل ما يحتسب وقد روى سعيد
بن منصور عن مجاهد أنه قال: إتباع الجنازة
أفضل النوافل وفي رواية عبد الرزاق عنه إتباع
الجنازة أفضل من صلاة التطوع.
قوله: "فله قيراط"
بكسر القاف قال في الفتح: قال الجوهري:
القيراط نصف دانق قال والدانق سدس الدرهم فهو
على هذا نصف سدس الدرهم كما قال ابن عقيل وذكر
القيراط تقريبًا للفهم لما كان الإنسان يعرف
القيراط ويعمل العمل في مقابلته فضرب له المثل
بما يعلم ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف
حقيرًا نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل
ذلك فقال مثل أحدكما كما في بعض الروايات وفي
أخرى أصغرهما مثل أحد. وفي حديث الباب مثل
الجبلين العظيمين.
قوله: "ومن شهدها
حتى تدفن"
ج / 4 ص -54-
ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن
وهو أصح الأوجه عند الشافعية وغيرهم وقيل يحصل
بمجرد الوضع في اللحد وقيل عند انتهاء الدفن
قبل إهالة التراب. وقد وردت الأخبار بكل ذلك
فعند مسلم:
"حتى يفرغ منها"
وعنده في أخرى:
"حتى توضع في اللحد" وعنده أيضًا: "حتى
توضع في القبر"
وعند أحمد: "حتى يقضي قضاؤها"
وعند الترمذي:
"حتى يقضي دفنها" وعند أبي عوانة: "حتى
يسوى عليها" أي التراب. وقيل يحصل القيراط بكل من
ذلك ولكن يتفاوت. والظاهر أنها تحمل
الروايات المطلقة عن الفراغ من الدفن وتسوية
التراب بالمقيدة بهما.
قوله: "مثل
الجبلين" في رواية: "مثل أحد"
وفي رواية للنسائي: "كل واحد منهما أعظم من أحد" وعند مسلم
"أصغرهما مثل أحد". وعند ابن عدي "أثقل من أحد"
فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد
وأن المراد به زنة الثواب المترتب على ذلك.
قوله: "حتى توضع في
اللحد" استدل به المصنف على أن اللحد أفضل
من الشق وسيأتي الكلام على ذلك .
2- وعن مالك بن هبيرة
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
"ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين
يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" فكان مالك بن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة
صفوف". رواه الخمسة إلا النسائي.
3- وعن عائشة: "عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون
مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه".
رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه.
4- وعن ابن عباس قال:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يقول:
ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون
رجلًا لا يشركون باللَّه شيئًا إلا شفعهم
اللَّه فيه".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
5- وعن أنس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه
الأدنين إلا قال اللَّه تعالى قد قبلت علمهم
فيه وغفرت له ما لا يعلمون".
رواه أحمد.
حديث مالك بن هبيرة في
إسناده محمد بن إسحاق رواه عن يزيد بن أبي
حبيب عن مرثد عن مالك وفيه مقال معروف إذا
عنعن. وقد حسن الحديث الترمذي. وقال:
رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق وروى إبراهيم
بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث وأدخل بين
مرثد ومالك بن هبيرة رجلا ورواية هؤلاء أصح
عندنا قال: ـ وفي الباب ـ عن عائشة وأم
حبيبة وأبي هريرة ثم ذكر حديث عائشة بنحو
اللفظ الذي ذكره المصنف من طريق ابن أبي عمر
عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب. وعن أحمد بن
منيع وعلي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن
أيوب عن أبي
ج / 4 ص -55-
قلابة عن عبد اللَّه بن يزيد عن عائشة ثم
قال: حسن صحيح وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه.
قال النووي: من رفعه ثقة وزيادة الثقة
مقبولة. وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا ابن
ماجه.
وحديث أنس أخرجه أيضًا
ابن حبان والحاكم من طريق حماد ابن سلمة عن
ثابت عن أنس مرفوعًا. ولأحمد من حديث أبي
هريرة نحوه وقال ثلاثة بدل أربعة. وفي
إسناده رجل لم يسم وله شاهد من مراسيل بشير بن
كعب أخرجه أبو مسلم الكجي.
قوله: "يبلغون أن
يكونوا ثلاثة صفوف" فيه دليل على أن من صلى
عليه ثلاثة صفوف من المسلمين غفر له وأقل ما
يسمى صفًا رجلان ولا حد لأكثره.
قوله: "يبلغون
مائة" فيه استحباب تكثير جماعة الجنازة
ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من
موجبات الفوز وقد قيد ذلك بأمرين:
الأول أن يكونوا شافعين
فيه أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة.
الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك
باللَّه شيئًا كما في حديث ابن عباس قال
القاضي: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة
لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن
سؤاله.
قال النووي: ويحتمل أن
يكون النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر
بقبول شفاعة مائة فأخبر به ثم بقبول شفاعة
أربعين فأخبر به ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم
فأخبر به. قال: ويحتمل أيضًا أن يقال هذا
مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين فلا
يلزم من الأخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول
ما دون ذلك وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف
وحينئذ كل الأحاديث معمول بها وتحصل الشفاعة
بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين.
قوله: "أربعة
أبيات" ليس عند ابن حبان والحاكم لفظ أبيات
وفيه أن شهادة أربعة من جيران الميت من موجبات
مغفرة اللَّه تعالى له. ويؤيد ذلك ما أخرجه
البخاري وغيره عن عمر: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله اللَّه
الجنة
فقلنا: وثلاثة قال:
وثلاثة
فقلنا: واثنان قال: واثنان
ثم لم نسأله عن الواحد".
قال الزين ابن المنير:
إنما لم يسأله عمر عن الواحد استبعادًا منه أن
يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من
النصاب.
قال الداودي: المعتبر
في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة
لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم ولا من بينه
وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل.
وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أنس قال:
"مر بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال:
وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: وجبت
فقال عمر: ما وجبت قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم
عليه شرًا فوجبت له النار أنتم شهداء اللَّه
في الأرض" هذا لفظ البخاري. وفي مسلم وجبت وجبت وجبت ثلاثًا في الموضعين.
قال النووي: قال بعضهم
معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه
أهل الفضل وكان ذلك مطابقًا للواقع فهو من أهل
الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه.
قالوا: والصحيح أنه
على عمومه وأن من مات فألهم اللَّه تعالى
الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من
أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا
فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة وهذا الإلهام
يستدل به على تعيينها وبهذا تظهر فائدة الثناء
انتهى.
قال الحافظ: وهذا في
جانب الخير واضح وأما في جانب الشر فظاهر
الأحاديث أنه كذلك لكن إنما يقع ذلك في حق من
غلب شره على خيره وقد وقع في رواية من حديث
أنس المتقدم:
"إن للَّه عز وجل ملائكة تنطق على ألسنة بني
آدم بما في المرء من الخير والشر".
ج / 4 ص -56-
باب ما جاء في كراهة النعي
1- عن ابن مسعود:
"عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية".
رواه الترمذي كذلك.
ورواه موقوفًا وذكر أنه أصح.
2- وعن حذيفة أنه قال:
"إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدًا إني أخاف أن
يكون نعيًا إني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم ينهى عن النعي". رواه أحمد
وابن ماجه والترمذي وصححه.
3- وعن إبراهيم أنه
قال: "لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه
وأصحابه إنما كان يكره أن يطاف في المجالس
فيقال أنعى فلانًا فعل أهل الجاهلية".
رواه سعيد في سننه.
4- وعن أنس قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم
أخذها عبد اللَّه بن رواحة فأصيب وإن عيني
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لتذرفان ثم أخذها خالد بن الوليد من غير أمرة
ففتح له".
رواه أحمد والبخاري.
حديث ابن مسعود في
إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي عند
أهل الحديث. وقد اختلف في رفعه ووقفه ورجح
الترمذي وقفه كما قال المصنف وقال: إنه حديث
غريب.
وحديث حذيفة قال الحافظ
في الفتح: إسناده حسن وكلام إبراهيم الذي
رواه سعيد بن منصور هو من طريق ابن علية عن
ابن عون قال: قلت لإبراهيم هل كانوا يكرهون
النعي قال: نعم ثم ذكره. وروى أيضًا سعيد
بن منصور بهذا الإسناد إلى ابن سيرين أنه
قال: لا أعلم بأسًا أن يؤذن الرجل صديقه
وحميمه.
قوله: "إياكم
والنعي" النعي هو الإخبار بموت الميت كما في
الصحاح والقاموس وغيرهما من كتب اللغة قال في
القاموس نعاه له نعيًا ونعيًا ونعيانًا أخبره
بموته. وفي النهاية نعى الميت نعيًا إذا ذاع
موته وأخبر به انتهى. فمدلول النعي لغة هو
هذا وإليه يتوجه النهي لوجوب حمل كلام الشارع
على مقتضى اللغة العربية عند عدم وجود اصطلاح
له يخالفه. وقال في الفتح: إنما نهى عما
كان أهل الجاهلية يصنعونه وكانوا يرسلون من
يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور
والأسواق. وقال ابن المرابط: إن النعي
الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان
فيه إدخال الكرب والمصاب على أهله لكن في تلك
المفسدة مصالح جمة لما يترتب على
ج / 4 ص -57-
معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة
أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار
وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام
انتهى.
ويستدل لجواز مجرد
الإعلام بحديث أنس المذكور في الباب فإن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر بقتل الثلاثة
الأمراء المقتولين بمؤتة وقصتهم مشهورة وهم
زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد اللَّه
بن رواحة. وبحديث أبي هريرة: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي
في اليوم الذي مات فيه" كما تقدم. وقد بوب
عليه البخاري باب الرجل ينعى إلى أهل الميت
بنفسه. وبحديث أبي هريرة وغيره: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال عند أن
أخبر بموت السوداء أو الشاب الذي كان يقم
المسجد ألا آذنتموني"
وقد تقدم.
وفي حديث ابن عباس ما
منعكم أن تعلموني. وقد بوب عليه البخاري باب
الإذن بالجنازة. وبحديث الحصين بن وحوح وقد
تقدم في باب المبادرة إلى تجهيز الميت فهذه
الأحاديث تدل على أن مجرد الإعلام بالموت لا
يكون نعيًا محرمًا وإن كان باعتبار اللغة مما
يصدق عليه اسم النعي كما تقدم. ويؤيد ذلك ما
رواه سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي وابن
سيرين كما سلف. وقال ابن العربي: يؤخذ من
مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى
إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
الثانية
الدعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه.
الثالثة
الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم
انتهى.
ـ فالحاصل ـ أن الإعلام
للغسل والتكفين والصلاة والحمل والدفن مخصوص
من عموم النهي لأن إعلام من لا تتم هذه الأمور
إلا به مما وقع الإجماع على فعله في زمن
النبوة وما بعده وما جاوز هذا المقدار فهو
داخل تحت عموم النهي .
باب عدد تكبير
صلاة الجنائز
قد ثبت الأربع في رواية
أبي هريرة وابن عباس وجابر.
1- وعن عبد الرحمن بن
أبي ليلى قال: "كان زيد بن أرقم يكبر على
جنائزنا أربعًا وأنه كبر خمسًا على جنازة
فسألته فقال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يكبرها". رواه الجماعة إلا
البخاري.
حديث أبي هريرة وابن
عباس وجابر تقدم في الصلاة على الغائب وممن
روى الأربع كما قال البيهقي عقبة بن عامر
والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود.
وروى ابن عبد البر في
الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي
حثمة عن أبيه: "كان النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعًا وخمسًا
وسبعًا وثمانيًا حتى جاء موت النجاشي فخرج
فكبر أربعًا ثم ثبت النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم على أربع حتى توفاه اللَّه
تعالى".
وكذا قال القاضي عياض
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعًا:
"صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير
والكبير والدنيء والأمير أربعًا"
وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي تفرد به عن
ابن لهيعة وإلى مشروعية الأربع التكبيرات في
الجنازة ذهب الجمهور. قال الترمذي: العمل
عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم
ج / 4 ص -58-
وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع
تكبيرات وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس
وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق انتهى.
قال ابن المنذر: ذهب
أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع انتهى.
وقد اختلف السلف في ذلك
فروي عن زيد بن أرقم أنه كان يكبر خمسًا كما
في حديث الباب وروى ابن المنذر عن ابن مسعود
أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسًا
وروي أيضًا عن ابن مسعود عن علي أنه كان يكبر
على أهل بدر ستًا وعلى الصحابة خمسًا وعلى
سائر الناس أربعًا. وروى ذلك أيضًا ابن أبي
شيبة والطحاوي والدارقطني عن عبد خير عنه.
وروى ابن المنذر أيضًا بإسناد صحيح عن ابن
عباس أنه كبر على جنازة ثلاثًا. قال القاضي
عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث
تكبيرات إلى تسع. قال ابن عبد البر:
وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع. وأجمع
الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما
جاء في الأحاديث الصحيح وما سوى ذلك عندهم
شذوذ لا يلتفت إليه وقال: لا نعلم أحدًا من
فقهاء الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى وقال علي
ابن الجعد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت
سعيد بن المسيب يقول: إن عمر قال: كل ذلك
قد كان أربعًا وخمسًا فاجتمعنا على أربع.
رواه البيهقي. ورواه ابن عبد البر من وجه
آخر عن شعبة. وروى البيهقي أيضًا عن أبي
وائل قال: "كانوا يكبرون على عهد رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أربعًا
وخمسًا وستًا وسبعًا فجمع عمر أصحاب رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخبر كل
رجل منهم بما رأى فجمعهم عمر على أربع
تكبيرات".
وروي أيضًا من طريق
إبراهيم النخعي أنه قال: اجتمع أصحاب رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في بيت أبي
مسعود فاجتمعوا على أن التكبير على الجنازة
أربع. وروى أيضًا بسنده إلى الشعبي قال:
صلى ابن عمر على زيد بن عمر وأمه أم كلثوم بنت
علي فكبر أربعًا وخلفه ابن عباس والحسين بن
علي وابن الحنفية.
قوله: "كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يكبرها"
استدل به من قال إن تكبير الجنازة خمس وقد
حكاه في البحر عن العترة جميعًا وأبي ذر وزيد
بن أرقم وحذيفة وابن عباس ومحمد بن الحنفية
وابن أبي ليلى وحكاه في المبسوط عن أبي يوسف
وفي دعوى إجماع العترة نظر لأن صاحب الكافي
حكى عن زيد بن علي القول بالأربع واستدلوا
أيضًا بحديث حذيفة الآتي وبما تقدم عن جماعة
من الصحابة قالوا والخمس زيادة يتحتم قبولها
لعدم منافاتها وأورد عليهم أنه كان يلزمكم
الأخذ بأكثر من خمس لأنها زيادة وقد وردت كما
أخرجه البيهقي عن أبي وائل وقد تقدم ورجح
الجمهور ما ذهبوا إليه من مشروعية الأربع
بمرجحات أربعة:
الأول:
إنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر
عددًا ممن روى منهم الخمس.
الثاني:
إنها في الصحيحين.
الثالث:
إنه أجمع على العمل بها الصحابة كما تقدم.
الرابع:
إنها آخر ما وقع منه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كما أخرج الحاكم من حديث ابن عباس
بلفظ: "آخر ما كبر رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم على الجنائز أربع" وفي
إسناده الفرات ابن سلمان. وقال الحاكم بعد
ذكر الحديث ليس من شرط الكتاب. ورواه أيضًا
البيهقي بإسناد فيه النضر بن عبد الرحمن وهو
ضعيف وقد تفرد به كما قال البيهقي.
قال الحافظ: وروي هذا
اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة. وقال
الأثرم: رواه محمد بن معاوية
ج / 4 ص -59-
النيسابوري عن أبي المليح عن ميمون بن مهران
عن ابن عباس. وقد سألت أحمد عنه فقال محمد
هذا روى أحاديث موضوعة منها هذا واستعظمه.
وقال: كان أبو المليح أتقى للَّه وأصح
حديثًا من أن يروي مثل هذا وقال حرب عن
أحمد: هذا الحديث إنما رواه محمد بن زياد
الطحان وكان يضع الحديث. وقال ابن القيم:
قال أحمد هذا كذب ليس له أصل اهـ.
ورواه ابن الجوزي في
الناسخ والمنسوخ من طريق ابن شاهين عن ابن عمر
وفي إسناده زافر بن الحارث عن أبي العلاء عن
ميمون بن مهران عنه. قال ابن الجوزي وخالفه
غيره ولا يثبت فيه شيء ورواه الحارث بن أبي
أسامة عن جعفر بن حمزة عن فرات بن السائب عن
ميمون بن مهران عن ابن عمر بنحوه ويجاب عن
الأول من هذه المرجحات والثاني منها بأنه إنما
يرجح بهما عند التعارض ولا تعارض بين الأربع
والخمس لأن الخمس مشتملة زيادة غير معارضة.
وعن الرابع بأنه لم يثبت ولو ثبت لكان غير
رافع للنزاع لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي
مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه وغاية ما فيه
جواز الأمرين نعم المرجح الثالث أعني إجماع
الصحابة على الأربع هو الذي يعول عليه في مثل
هذا المقام إن صح وإلا كان الأخذ بالزيادة
الخارجة من مخرج صحيح هو الراجح.
وفي المسألة أقوال أخر:
منها ما روي عن أحمد بن حنبل أنه لا ينقص عن
أربع ولا يزاد على سبع. ومنها ما روي عن بكر
بن عبد اللَّه المزني أنه لا ينقص عن ثلاث ولا
يزاد على سبع. ومنها ما روي عن ابن مسعود
أنه قال التكبير تسع وسبع وخمس وأربع وكبر ما
كبر الإمام روى ذلك جميعه ابن المنذر. ومنها
ما روي عن أنس أن تكبير الجنازة ثلاث كما روى
عنه ابن المنذر أنه قيل له إن فلانًا كبر
ثلاثًا فقال وهل التكبير إلا ثلاث وروى عنه
ابن أبي شيبة أنه كبر ثلاثًا لم يزد عليها
وروى عنه عبد الرزاق أنه كبر على جنازة ثلاثًا
ثم انصرف ناسيًا فقالوا له يا أبا حمزة إنك
كبرت ثلاثًا قال فصفوا فصفوا فكبر الرابعة.
وروى عنه البخاري تعليقًا نحو ذلك وجمع بين
الروايات عنه الحافظ بأنه إما كان يرى الثلاث
مجزئة والأربع أكمل منها وإما بأن من أطلق عنه
الثلاث لم يذكر الأولى لأنها افتتاح الصلاة.
2- وعن حذيفة: "أنه
صلى على جنازة فكبر خمسًا ثم التفت فقال ما
نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم صلى على جنازة فكبر
خمسًا". رواه أحمد.
3- وعن علي: "أنه
كبر على سهل بن حنيف ستًا وقال: إنه شهد
بدرًا". رواه البخاري.
4- وعن الحكم بن عتيبة
أنه قال: "كانوا يكبرون على أهل بدر خمسًا
وستًا وسبعًا". رواه سعيد في سننه.
حديث حذيفة ذكره الحافظ
في التلخيص وسكت عنه وفي إسناده يحيى بن عبد
اللَّه
ج / 4 ص -60-
الجابري وهو متكلم عليه والأثر المذكور عن
علي هو في البخاري بلفظ: "أنه كبر على سهل
بن حنيف" زاد البرقاني في مستخرجه
"ستًا" وكذا ذكره البخاري في تاريخه وسعيد
بن منصور. ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر
عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن مغفل
فقال خمسًا. وروى البيهقي عنه أنه كبر على
أبي قتادة سبعًا وقال: إنه غلط لأن أبا
قتادة عاش بعد ذلك. قال الحافظ: وهذه علة
غير قادحة لأنه قد قيل إن أبا قتادة مات في
خلافة علي وهذا هو الراجح اهـ.
وقول الحكم بن عتيبة
أورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه وقد
تقدم الخلاف في عدد التكبير وما هو الراجح.
وفي فعل علي دليل على استحباب تخصيص من له
فضيلة بإكثار التكبير عليه وكذلك في رواية
الحكم بن عتيبة عن السلف وقد تقدم من فعله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بصلاته على حمزة ما يدل
على ذلك.
باب القراءة
والصلاة على رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى
عليه وآله وسلم فيها
1- عن ابن عباس: "أنه صلى على جنازة فقرأ
بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنه من
السنة".
رواه البخاري وأبو داود
والترمذي وصححه والنسائي وقال فيه: "فقرأ
بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال سنة
وحق".
2- وعن أبي أمامة بن
سهل: "أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على
الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب
بعد التكبيرة الأولى سرًا في نفسه ثم يصلي على
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ويخلص الدعاء
للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم
يسلم سرًا في نفسه".
رواه الشافعي في
مسنده.
3- وعن فضالة بن أبي
أمية قال: "قرأ الذي صلى على أبي بكر وعمر
بفاتحة الكتاب". رواه البخاري في
تاريخه.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضًا ابن حبان والحاكم. وحديث أبي أمامة بن
سهل في إسناده مطرف ولكنه قد قواه البيهقي بما
رواه في المعرفة من طريق عبد اللَّه ابن أبي
زياد الرصافي عن الزهري بمعناه.
وأخرج نحوه الحاكم من
وجه آخر وأخرجه أيضًا النسائي وعبد الرزاق قال
في الفتح: وإسناده صحيح وليس فيه قوله
"بعد التكبيرة" ولا قوله "ثم يسلم سرًا
في نفسه" ولكنه أخرج الحاكم نحوها.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
عباس حديث آخر عند الترمذي وابن ماجه: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قرأ على
الجنازة بفاتحة الكتاب" وفي إسناده إبراهيم
بن عثمان أبو شيبة الواسطي
ج / 4 ص -61-
وهو ضعيف جدًا وقال الترمذي: لا يصح هذا
عن ابن عباس والصحيح عنه قوله "من
السنة".
وعن أم شريك عند ابن
ماجه قالت: "أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة
الكتاب" وفي إسناده ضعف يسير كما قال
الحافظ.
وعن ابن عباس حديث آخر
أيضًا عند الحاكم: "أنه صلى على جنازة
بالأبواء فكبر ثم قرأ الفاتحة رافعًا صوته ثم
صلى على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم
قال اللَّهم هذا عبدك وابن عبديك أصبح فقيرًا
إلى رحمتك فأنت غني عن عذابه إن كان زاكيًا
فزكه وإن كان مخطئًا فاغفر له اللَّهم لا
تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده ثم كبر صلاة
تكبيرات ثم انصرف فقال أيها الناس إني لم أقرأ
عليها أي جهرًا إلا لتعلموا أنه سنة" وفي
إسناده شرحبيل بن سعد وهو مختلف في توثيقه.
وعن جابر عند النسائي في
المجتبى والحاكم والشافعي وأبي يعلى: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قرأ فيها بأم
القرآن" وفي إسناد الشافعي والحاكم إبراهيم
بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل.
وعن محمد بن مسلمة عند
ابن أبي حاتم في العلل أنه قال: السنة على
الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ أم القرآن في
نفسه ثم يدعو ويخلص الدعاء للميت ثم يكبر
ثلاثًا ثم يسلم وينصرف ويفعل من وراءه ذلك
وقال: سألت أبي عنه فقال هذا خطأ إنما هو
حبيب بن مسلمة. قال الحافظ: حديث حبيب في
المستدرك من طريق الزهري عن أبي أمامة ابن سهل
باللفظ السابق.
قوله: "لتعلموا أنه
من السنة" فيه وفي بقية أحاديث الباب دليل
على مشروعية قراء فاتحة الكتاب في صلاة
الجنازة وقد حكى ابن المنذر عن ابن مسعود
والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة
وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وبه قال الهادي
والقاسم والمؤيد باللَّه ونقل ابن المنذر
أيضًا عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها
قراءة وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر
الكوفيين وإليه ذهب زيد بن علي والناصر
وأحاديث الباب ترد عليهم.
ـ واختلف الأولون ـ هل
قراءة الفاتحة واجبة أم لا فذهب إلى الأول
الشافعي وأحمد وغيرهما واستدلوا بحديث أم شريك
المتقدم وبالأحاديث المتقدمة في كتاب الصلاة
كحديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ونحوه وصلاة
الجنازة صلاة وهو الحق.
قوله: "وسورة" فيه
مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في صلاة
الجنازة ولا محيص عن المصير إلى ذلك لأنها
زيادة خارجة من مخرج صحيح. ويؤيد وجوب قراءة
السورة في صلاة الجنازة الأحاديث المتقدمة في
باب وجوب قراءة الفاتحة من كتاب الصلاة فإنها
ظاهرة في كل صلاة.
قوله: "وجهر" فيه
دليل على الجهر في قراءة صلاة الجنازة. وقال
بعض أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل
كالليلية وذهب الجمهور إلى أنه لا يستحب الجهر
في صلاة الجنازة وتمسكوا بقول ابن عباس
المتقدم لم أقرأ أي جهرًا إلا لتعلموا أنه سنة
وبقوله في حديث أبي أمامة سرًا في نفسه.
قوله: "بعد التكبيرة
الأولى" فيه بيان محل قراءة الفاتحة وقد
أخرج الشافعي والحاكم عن جابر مرفوعًا بلفظ:
"وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى"
وفي إسناده إبراهيم بن محمد وهو ضعيف جدًا.
وقد صرح العراقي في شرح الترمذي بأن إسناد
حديث جابر ضعيف.
قوله: "ثم يصلي على
النبي" فيه مشروعية الصلاة على النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة ويؤيد
ج / 4 ص -62-
ذلك الأحاديث المتقدمة في الصلاة كحديث:
"لا صلاة لمن لم يصل عليَّ" ونحوه. وروى إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة على النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم عن أبي أمامة أنه قال: إن
السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بفاتحة
الكتاب ويصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ ولا يقرأ
إلا مرة ثم يسلم. وأخرجه ابن الجارود في
المنتقى. قال الحافظ: ورجاله مخرج لهم في
الصحيحين.
قوله: "ثم يسلم سرًا
في نفسه" فيه دليل على مشروعية السلام في
صلاة الجنازة والإسرار به وهو مجمع عليه حكى
ذلك في البحر.
وأخرج البيهقي عن ابن
مسعود قال: "ثلاث كان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يفعلهن تركهن الناس
إحداهن التسليم على الجنائز مثل التسليم في
الصلاة" وله أيضًا نحوه عن عبد اللَّه بن
أبي أوفى فحصل من الأحاديث المذكورة في الباب
أن المشروع في صلاة الجنازة قراءة الفاتحة بعد
التكبيرة الأولى وقراءة سورة وتكون أيضًا بعد
التكبيرة الأولى مع الفاتحة لقوله في حديث أبي
أمامة بن سهل ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات
ولا يقرأ في شيء منهن ثم يصلي على النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ولم يرد ما يدل على
تعيين موضعها والظاهر أنها تفعل بعد القراءة
ثم يكبر بقية التكبيرات ويستكثر من الدعاء
بينهن للميت مخلصًا له ولا يشتغل بشيء من
الاستحسانات التي وقعت في كتب الفقه فإنه لا
مستند لها إلا التخيلات ثم بعد فراغه من
التكبير والدعاء المأثور يسلم وقد اختلف في
مشروعية الرفع عند كل تكبيرة فذهب الشافعي إلى
أنه يشرع مع كل تكبيرة. وحكاه ابن المنذر عن
ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء وسالم بن
عبد اللَّه وقيس بن أبي حازم والزهري
والأوزاعي وأحمد وإسحاق واختاره ابن المنذر
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي: إنه
لا يرفع عند سائر التكبيرات بل عند الأولى
فقط.
وعن مالك ثلاث روايات
الرفع في الجميع وفي الأولى فقط وعدمه في كلها
وقالت العترة بمنعه في كلها.
احتج الأولون بما أخرجه
البيهقي عن ابن عمر قال الحافظ بسند صحيح
وعلقه البخاري ووصله في جزء رفع اليدين أنه
كان يرفع يديه في جميع تكبيرات الجنازة.
ورواه الطبراني في الأوسط في ترجمة موسى بن
عيسى مرفوعًا وقال لم يروه عن نافع إلا عبد
اللَّه بن محرر تفرد به عباد بن صهيب قال في
التلخيص: وهما ضعيفان. ورواه الدارقطني من
طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع
عنه مرفوعًا لكن قال في العلل: تفرد به
برفعه عمر بن شيبة عن يزيد بن هارون. ورواه
الجماعة عن يزيد موقوفًا وهو الصواب. وروى
الشافعي عمن سمع سلمة بن وردان يذكر عن أنس
أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة.
وروى أيضًا الشافعي عن عروة وابن المسيب مثل
ذلك قال: وعلى ذلك أدركنا أهل العلم
ببلدنا.
واحتج القائلون بأنه لا
يرفع يديه إلا عند تكبيرة الافتتاح بما رواه
الدارقطني من حديث ابن عباس وأبي هريرة أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا صلى
على جنازة رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا
يعود. قال الحافظ: ولا يصح فيه شيء وقد صح
عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات
الجنازة رواه سعيد بن منصور اهـ.
واحتجوا أيضًا بما أخرجه
الترمذي عن أبي هريرة: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كبر على جنازة فرفع
يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى"
وقال غريب.
ج / 4 ص -63-
وفي إسناده يزيد بن سنان الرهاوي وهو ضعيف
عند أهل الحديث. والحاصل أنه لم يثبت في غير
التكبيرة الأولى شيء يصلح للاحتجاج به عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأفعال
الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها فينبغي أن يقتصر
على الرفع عند تكبيرة الإحرام لأنه لم يشرع في
غيرها إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن كما في
سائر الصلوات ولا انتقال في صلاة الجنازة.
باب الدعاء
للميت وما ورد فيه
1- عن أبي هريرة قال:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء".
رواه أبو داود وابن ماجه.
2- وعن أبي هريرة قال:
"كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا
صلى على جنازة قال:
اللَّهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا
وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا اللَّهم من
أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا
فتوفه على الإيمان".
رواه أحمد والترمذي. ورواه أبو داود وابن ماجه وزاد:
"اللَّهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده".
الحديث الأول أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه والبيهقي وفي إسناده
ابن إسحاق وقد عنعن ولكن أخرجه ابن حبان من
طريق أخرى عنه مصرحًا بالسماع. والحديث
الثاني أخرجه أيضًا النسائي وابن حبان والحاكم
وقال وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه.
وأخرج هذا الشاهد
الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار وفي إسناد حديث
الباب يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي
هريرة قال أبو حاتم: الحفاظ لا يذكرون أبا
هريرة إنما يقولون أبو سلمة عن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم مرسلًا ولا يوصله بذكر
أبي هريرة إلا غير متقن والصحيح أنه مرسل.
وقال الترمذي: روى هذا الحديث هشام
الدستوائي وعلي بن المبارك عن يحيى ابن أبي
كثير عن أبي سلمة عن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم مرسلًا اهـ وقد رواه يحيى بن أبي
كثير من حديث أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مثل حديث أبي
هريرة أخرجه من هذا الوجه أحمد والنسائي
والترمذي وقال حسن صحيح وقال: أصح الروايات
في هذا يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم
الأشهلي عن أبيه وسألته عن اسم أبي إبراهيم
فلم يعرفه. وقال أبو حاتم: أبو إبراهيم
مجهول اهـ ولكن جهالة الصحابي غير قادحة.
وقد أخرجه الترمذي والحاكم عن يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة عن عائشة ولكن في إسناد هذه
الطريق عكرمة بن عمار كما تقدم.
وأخرجه أيضًا الترمذي عن
يحيى بن أبي كثير عن عبد اللَّه ابن أبي قتادة
عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
وقد توهم بعض الناس أن أبا إبراهيم الأشهلي هو
عبد اللَّه بن أبي قتادة قال الحافظ: وهو
غلط لأن أبا إبراهيم من بني عبد الأشهل وأبو
قتادة من بني سلمة.
ـ وفي الباب ـ عن أبي
هريرة حديث آخر عند أبي داود والنسائي:
"أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم في صلاته على الجنازة يقول اللَّهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها وأنت قبضت روحها
ج / 4 ص -64-
وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر
لها" وعن عوف بن مالك وواثلة وسيأتيان.
قوله: "فأخلصوا له
الدعاء" فيه دليل على أنه لا يتعين دعاء
مخصوص من هذه الأدعية الواردة وأنه ينبغي
للمصلي على الميت أن يخلص الدعاء له سواء كان
محسنًا أو مسيئًا فإن ملابس المعاصي أحوج
الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى
شفاعتهم ولذلك قدموه بين أيديهم وجاؤوا به
إليهم لا كما قال بعضهم أن المصلي يلعن الفاسق
ويقتصر في الملتبس على قوله
"اللَّهم إن كان محسنًا فزده إحسانًا وإن كان مسيئًا فأنت أولى
بالعفو عنه فإن الأول من إخلاص السب لا من إخلاص
الدعاء والثاني من باب التفويض باعتبار المسيء
لا من باب الشفاعة والسؤال وهو تحصيل للحاصل
والميت غني عن ذلك.
قوله: "فأحيه على
الإسلام" هذا اللفظ هو الثابت عند الأكثر
وفي سنن أبي داود "فأحيه على الإيمان وتوفه
على الإسلام".
واعلم أنه قد وقع في كتب
الفقه ذكر أدعية غير المأثورة عنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم والتمسك بالثابت عنه أولى
واختلاف الأحاديث في ذلك محمول على أنه كان
يدعو لميت بدعاء ولآخر بآخر والذي أمر به صلى
اللَّه عليه وآله وسلم إخلاص الدعاء.
فائدة
إذا كان المصلى عليه طفلا استحب أن يقول
المصلي: "اللَّهم اجعله لنا سلفًا وفرطًا
وأجرًا" روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة
وروى مثله سفيان في جامعه عن الحسن.
3 - وعن عوف بن مالك
قال: "سمعت النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم صلى على جنازة يقول
اللَّهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم
نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه
من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلا خيرًا من
أهله وزوجًا خيرًا من زوجه وقه فتنة القبر
وعذاب النار قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لذلك الميت". رواه
مسلم والنسائي.
4 - وعن واثلة بن الأسقع
قال: "صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم على رجل من المسلمين فسمعته
يقول
اللَّهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة القبر وعذاب
النار وأنت أهل الوفاء والحمد اللَّهم فاغفر
له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم".
رواه أبو داود.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا الترمذي مختصرًا والحديث الثاني أخرجه
أيضًا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري
وفي إسناده مروان بن جناح وفيه مقال.
قوله: "سمعت النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم" وكذلك قوله
"فسمعته" وفي رواية لمسلم من حديث عوف
"فحفظت من دعائه" جميع
ج / 4 ص -65-
ذلك
يدل على أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
جهر بالدعاء وهو خلاف ما صرح به جماعة من
استحباب الإسرار بالدعاء وقد قيل إن جهره صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بالدعاء لقصد
تعليمهم.
وأخرج أحمد عن جابر قال: "ما أباح لنا في
دعاء الجنازة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم ولا أبو بكر ولا عمر". وفسر
أباح بمعنى قدر. قال الحافظ: والذي وقفت
عليه باح بمعنى جهر والظاهر أن الجهر والإسرار
بالدعاء جائزان.
قوله: "واغسله بماء وثلج" الخ هذه
الألفاظ قد تقدم شرحها في الصلاة.
واعلم أنه لم يرد تعيين موضع هذه الأدعية فإن
شاء المصلي جاء بما يختار منها دفعة إما بعد
فراغه من التكبير أو بعد التكبيرة الأولى أو
الثانية أو الثالثة أو يفرقه بين كل تكبيرتين
أو يدعو بين كل تكبيرتين بواحد من هذه الأدعية
ليكون مؤديًا لجميع ما روي عنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم.
وأما حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى الآتي فليس
فيه أنه لم يدع إلا بعد التكبيرة الرابعة إنما
فيه أنه دعا بعدها وذلك لا يدل على أن الدعاء
مختص بذلك الموضع.
قوله: "إن فلان بن فلان" فيه دليل على
استحباب تسمية الميت باسمه واسم أبيه وهذا إن
كان معروفًا وإلا جعل مكان ذلك اللَّهم إن
عبدك هذا أو نحوه والظاهر أنه يدعو بهذه
الألفاظ الواردة في هذه الأحاديث سواء كان
الميت ذكرًا أو أنثى ولا يحول الضمائر
المذكورة إلى صيغة التأنيث إذا كان الميت أنثى
لأن مرجعها الميت وهو يقال على الذكر
والأنثى.
5- وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى: "أنه ماتت
ابنة له فكبر عليها أربعًا ثم قام بعد الرابعة
قدر ما بين التكبيرتين يدعو ثم قال: كان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصنع
في الجنازة هكذا". رواه أحمد وابن ماجه
بمعناه.
الحديث أخرجه أيضًا البيهقي في السنن
الكبرى. وفي رواية: "كبر أربعًا حتى
ظننت أنه سيكبر خمسًا ثم سلم عن يمينه وعن
شماله فلما انصرف قلنا له ما هذا فقال إني لا
أزيد على ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يصنع وهكذا كان يصنع رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم" قال الحاكم هذا
حديث صحيح. وفيه دليل على استحباب الدعاء
بعد التكبيرة الآخرة قبل التسليم وفيه خلاف
والراجح الاستحباب لهذا الحديث.
وقال الشافعي في كتاب البويطي: إنه يقول
بعدها:
"اللَّهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده" وقال أبو علي بن أبي هريرة: كان المتقدمون يقولون في الرابعة
اللَّهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار.
وقال الهادي والقاسم: إنه يقول بعد الرابعة
سبحان من سبحت له السماوات والأرضون سبحان
ربنا الأعلى سبحانه وتعالى اللَّهم هذا عبدك
وابن عبديك وقد صار إليك وقد أتيناك مستشفعين
له سائلين المغفرة فاغفر له ذنوبه وتجاوز عن
سيئاته وألحقه بنبيه محمد صلى اللَّه عليه
وآله وسلم اللَّهم وسع عليه قبره وافسح له
أمره وأذقه عفوك ورحمتك يا أكرم الأكرمين
اللَّهم ارزقنا حسن الاستعداد لمثل يومه ولا
تفتنا بعده واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير
أيامنا يوم نلقاك ثم يكبر الخامسة ثم يسلم.
ج / 4 ص -66-
باب موقف الإمام من الرجل والمرأة وكيف يصنع
إذا اجتمعت أنواع
1- عن سمرة قال: "صليت وراء رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم على امرأة ماتت في
نفاسها فقام عليها رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في الصلاة وسطها". رواه
الجماعة.
2- وعن أبي غالب الحناط
قال: "شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل
فقام عند رأسه فلما رفعت أتي بجنازة امرأة
فصلى عليها فقام وسطها وفينا العلاء بن زياد
العلوي فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل
والمرأة قال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقوم من
الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت قال:
نعم". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو
داود. وفي لفظه: فقال العلاء بن زياد:
"هكذا كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها
أربعًا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة
قال: نعم".
الحديث الثاني حسنه
الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ
في التلخيص ورجال إسناده ثقات.
قوله: "وسطها"
بسكون السين وفيه دليل على أن المصلي على
المرأة الميتة يستقبل وسطها ولا منافاة بين
هذا الحديث وبين قوله في حديث أنس:
"وعجيزة المرأة" لأن العجيزة يقال لها وسط
وأما الرجل فالمشروع أن يقف الإمام حذاء رأسه
لحديث أنس المذكور ولم يصب من استدل بحديث
سمرة على أنه يقام حذاء وسط الرجل والمرأة
وقال إنه نص في المرأة ويقاس عليها الرجل لأن
هذا قياس مصادم للنص وهو فاسد الاعتبار ولا
سيما مع تصريح من سأل أنسًا بالفرق بين الرجل
والمرأة وجوابه عليه بقوله نعم وإلى ما يقتضيه
هذان الحديثان من القيام عند رأس الرجل ووسط
المرأة ذهب الشافعي وهو الحق.
وقال أبو حنيفة: حذاء
صدرهما وفي رواية حذاء وسطهما. وقال مالك:
حذاء الرأس منهما. وقال الهادي: حذاء رأس
الرجل وثدي المرأة واستدل بفعل علي عليه
السلام قال أبو طالب: وهو رأي أهل البيت لا
يختلفون فيه. وحكى في البحر عن القاسم أنه
يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل
قال في البحر بعد حكاية الخلاف مؤيدًا لما ذهب
إليه الهادي: لنا إجماع العترة أولى من
استحسانهم انتهى.
وقد عرفت أن الأدلة على
ما ذهب إليه الشافعي وأن ما عداه لا مستند له
من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال أو
التعويل على محض الرأي أو ترجيح ما فعله
الصحابي على ما فعله النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم وإذا جاء نهر اللَّه بطل نهر معقل
نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلا للوجوب ولكن
النزاع فيما هو الأولى والأحسن ولا أولى ولا
أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى صلى
اللَّه عليه وآله وسلم.
قوله: [العلاء بن
زياد العلوي] الذي في غير هذا الكتاب كجامع
الأصول والكاشف وغيرهما العدوي وهو الصواب.
3- وعن عمار مولى الحارث
بن نوفل قال: "حضرت جنازة
ج / 4 ص -67-
صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت
المرأة وراءه فصلى عليهما وفي القوم أبو سعيد
الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة
فسألتهم عن ذلك فقالوا السنة". رواه
النسائي وأبو داود.
4- وعن عمار أيضًا:
"أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر
أخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة
فجعل المرأة بين يدي الرجل وأصحاب رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم يومئذ كثير وثمت
الحسن والحسين.
5- وعن الشعبي: "أن
أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا
جميعًا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير
المدينة فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى
عليهما". رواهما سعيد في سننه.
الحديث سكت عنه أبو داود
والمنذري ورجال إسناده ثقات وأخرجه أيضًا
البيهقي. وقال: وفي القوم الحسن والحسين
وابن عمر وأبو هريرة ونحو من ثمانين نفسًا من
أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
وفي رواية للبيهقي: أن
الإمام في هذه القصة ابن عمر. وفي أخرى له
وللدارقطني والنسائي في المجتبى من رواية نافع
ابن عمر أنه صلى على سبع جنائز رجال ونساء
فجعل الرجال مما يلي الإمام وجعل النساء مما
يلي القبلة وصفهم صفًا واحدًا ووضعت جنازة أم
كلثوم بنت علي امرأة عمر وابن لها يقال له زيد
والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس يومئذ
ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة
فوضع الغلام مما يلي الإمام فقلت: ما هذا
قالوا: السنة. وكذلك رواه ابن الجارود في
المنتقى قال الحافظ: وإسناده صحيح.
قوله: "أمير
المدينة" هو سعيد بن العاص كما وقع مبينًا
في سائر الروايات ويجمع بينه وبين ما وقع فيه
أن الإمام كان ابن عمر بأن ابن عمر أمَّ بهم
بإذنه. قال الحافظ: ويحمل قوله أن الإمام
يومئذ سعيد بن العاص يعني الأمير لا أنه كان
إمامًا في الصلاة ويرده قوله في حديث الباب
فصلى عليهما أمير المدينة. قال الحافظ: أو
يحمل على أن نسبة ذلك إلى ابن عمر لكونه أشار
بترتيب وضع تلك الجنائز.
والحديث يدل على أن
السنة إذا اجتمعت جنائز أن يصلى عليها صلاة
واحدة وقد تقدم في كيفية صلاته صلى اللَّه
عليه وآله وسلم على قتلى أُحد أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم صلى على كل واحد منهم
صلاة وحمزة مع كل واحد وأنه كان يصلي على كل
عشرة صلاة.
وأخرج ابن شاهين أن عبد
اللَّه بن معقل بن مقرن أتي بجنازة رجل وامرأة
فصلى على الرجل ثم صلى على الرجل ثم صلى على
المرأة وفيه انقطاع.
ـ وفي الحديث ـ أيضًا أن
الصبي إذا صلى عليه مع امرأة كان الصبي مما
يلي الإمام والمرأة مما يلي القبلة وكذلك إذا
اجتمع رجل وامرأة أو أكثر من ذلك كما تقدم عن
ابن عمر. وقد ذهب إلى ذلك الهادي والقاسم
والمؤيد باللَّه وأبو طالب والشافعية
ج / 4 ص -68-
والحنفية وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر
والحسن البصري وسالم بن عبد اللَّه بل الأولى
العكس ليلي القبلة الأفضل. وفيه أيضًا دليل
على أن الأولى بالتقدم للصلاة على الجنازة ذو
الولاية ونائبه ويؤيده قوله صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
"لا يؤم الرجل في سلطانه"
وقد تقدم في الصلاة وقد وقع الخلاف إذا اجتمع
الإمام والولي أيهما أولى فعند أكثر العترة
وأبي حنيفة وأصحابه أن الإمام وواليه أولى
وعند الشافعي والمؤيد باللَّه والناصر في
رواية عنه أن الولي أولى.
باب الصلاة على
الجنازة في المسجد
1-عن عائشة أنها قالت:
"لما توفي سعد بن أبي وقاص أدخلوا به المسجد
حتى أصلي عليه فأنكروا ذلك عليها فقالت:
واللَّه لقد صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل
وأخيه".
رواه مسلم. وفي
رواية: "ما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم على سهيل ابن البيضاء إلا في
جوف المسجد" رواه الجماعة إلا البخاري.
2- وعن عروة قال:
"صلى على أبي بكر في المسجد".
3- وعن ابن عمر قال:
"صلى على عمر في المسجد". رواهما سعيد
وروى الثاني مالك.
وأخرج الصلاة على أبي
بكر وعمر أيضًا في المسجد ابن أبي شيبة
بلفظ: "إن عمر صلى على أبي بكر في المسجد
وإن صهيبًا صلى على عمر في المسجد".
قوله: "على ابني
بيضاء" قال النووي: قال العلماء بنو بيضاء
ثلاثة أخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء
اسمها دعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب بن ربيعة
القرشي الفهري.
ـ والحديث ـ يدل على
جواز إدخال الميت إلى المسجد والصلاة عليه فيه
وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور. قال
ابن عبد البر: ورواه المدنيون في رواية عن
مالك وبه قال ابن حبيب المالكي وكرهه ابن أبي
ذئب وأبو حنيفة ومالك في المشهور عنه
والهادوية وكل من قال بنجاسة الميت وأجابوا عن
حديث الباب بأنه محمول على أن الصلاة على ابني
بيضاء وهما كانا خارج المسجد والمصلون داخله
وذلك جائز بالاتفاق وردَّ بأن عائشة استدلت
بذلك لما أنكروا عليها أمرها بإدخال الجنازة
المسجد وأجابوا أيضًا بأن الأمر استقر على ترك
ذلك لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من
الصحابة وردَّ بأن عائشة لما أنكرت ذلك
الإنكار سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه
وأن الأمر استقر على الجواز ويدل على ذلك
الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد لما تقدم
وأيضًا العلة التي لأجلها كرهوا الصلاة على
الميت في المسجد هي زعمهم أنه نجس وهي باطلة
لما تقدم:
"إن المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا"
وأنهض ما استدلوا به على الكراهة ما أخرجه أبو
داود عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"
وأخرجه ابن ماجه ولفظه:
ج / 4 ص -69-
"فليس له شيء" وفي إسناده صالح مولى
التوءمة وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.
قال النووي: وأجابوا عنه يعني الجمهور
بأجوبة: أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج
به. قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد
به صالح مولى التوءمة وهو ضعيف، والثاني أن
الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من
سنن أبي داود:
"من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه"
فلا حجة لهم حينئذ. والثالث أنه لو ثبت
الحديث وثبت أنه فلا شيء له لوجب تأويله بأن
له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين قال: وقد
جاء بمعنى عليه كقوله تعالى
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }.
الرابع أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى
في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما
فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه
انتهى.
أبواب حمل
الجنازة والسير بها
1- عن ابن مسعود قال:
"من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها
فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء
فليدع". رواه ابن ماجه.
الحديث أخرجه أيضًا أبو
داود الطيالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة
ابن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه قال
الدارقطني في العلل: اختلف في إسناده على
منصور بن المعتمر ـ وفي الباب ـ عن أبي
الدرداء عند ابن أبي شيبة في مصنفه وعن ثوبان
عند ابن الجوزي في العلل وإسناده ضعيف. وعن
أنس عنده أيضًا فيها وإسناده ضعيف. وأخرجه
الطبراني في الأوسط مرفوعًا بلفظ: "من حمل
جوانب السرير الأربع كفر اللَّه عنه أربعين
كبيرة" وعن بعض الصحابة عند الشافعي:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم حمل
جنازة سعد بن معاذ بين العمودين" ورواه
أيضًا ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن
شيوخ من بني عبد الأشهل. وروى حمل الجنازة
عن جماعة من الصحابة والتابعين فأخرج الشافعي
عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال:
"رأيت سعد ابن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن
بن عوف قائمًا بين العمودين المقدمين واضعًا
للسرير على كاهله" ورواه الشافعي أيضًا
بأسانيد من فعل عثمان وأبي هريرة وابن الزبير
وابن عمر أخرجها كلها البيهقي وروى ذلك
البيهقي أيضًا من فعل المطلب بن عبد اللَّه بن
حنطب وغيره وفي البخاري أن ابن عمر حمل ابنًا
لسعيد بن زيد وروى ابن سعد ذلك عن عثمان وأبي
هريرة ومروان وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق
من طريق علي الأزدي قال: رأيت ابن عمر في
جنازة يحمل جوانب السرير الأربع. وروى عبد
الرزاق عن أبي هريرة أنه قال: من حمل
الجنازة بجوانبها الأربع فقد قضى الذي عليه.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: "سمعت
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يقول:
من تبع الجنازة وحملها ثلاث مرار فقد قضى ما عليه من حقها" قال الترمذي: هذا حديث غريب. ورواه بعضهم بهذا الإسناد ولم
يرفعه.
ـ والحديث ـ يدل على
مشروعية الحمل للميت وأن السنة أن يكون بجميع
جوانب السرير.
ج / 4 ص -70-
باب الإسراع بها من غير رمل
1-عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتمونها إلى
الخير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن
رقابكم".
رواه الجماعة.
2 - وعن أبي موسى قال
"مرت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
عليكم القصد".
رواه أحمد.
3 - وعن أبي بكرة قال:
"لقد رأيتنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة
رملا".
رواه أحمد والنسائي.
4 - وعن محمود بن لبيد
عن رافع قال: "أسرع النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن
معاذ". أخرجه البخاري في تاريخه.
حديث أبي موسى أخرجه
أيضًا ابن ماجه والبيهقي وقاسم بن أصبغ وفي
إسناده ضعف كما قال الحافظ. وأخرج البيهقي
عن أبي موسى من قوله إذا انطلقتم بجنازتي
فأسرعوا في المشي قال: وهذا يدل على أن
المراد كراهة شدة الإسراع. وحديث أبي بكرة
أخرجه أيضًا أبو داود والحاكم.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
مسعود عند الترمذي وأبي داود قال: "سألنا
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
المشي خلف الجنازة فقال:
ما دون الخبب فإن كان خيرًا عجلتموه وإن كان
شرًا فلا يبعد إلا أهل النار"
وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي وابن عدي
والنسائي والبيهقي وغيرهم لأن في إسناده أبا
ماجدة قال الدارقطني: مجهول. وقال يحيى
الرازي وابن عدي: منكر الحديث والراوي عنه
يحيى. الجابر بالجيم والباء الموحدة قال
البيهقي وغيره: إنه ضعيف.
قوله: "أسرعوا"
قال ابن قدامة: هذا الأمر للاستحباب بلا
خلاف بين العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه
والمراد بالإسراع شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض
السلف وهو قول الحنفية. قال صاحب الهداية:
ويمشون بها مسرعين دون الخبب وفي المبسوط ليس
فيه شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلى أبي
حنيفة. وعن الجمهور المراد بالإسراع ما فوق
سجية المشي المعتاد. قال في الفتح:
والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا
ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة الميت أو
مشقة على الحامل أو المشيع لئلا يتنافى
المقصود من النظافة وإدخال المشقة على
المسلم. قال القرطبي: مقصود الحديث أن لا
يتباطأ بالميت عن الدفن لأن التباطؤ ربما أدى
إلى التباهي والاختيال اهـ.
وحديث أبي بكرة وحديث
محمود بن لبيد يدلان على أن المراد بالسرعة
المأمور بها في حديث أبي هريرة هي السرعة
الشديدة المقاربة للرمل.
وحديث ابن مسعود يدل على
أن المراد بالسرعة ما دون الخبب والخبب على ما
في القاموس هو ضرب من العدو أو كالرمل أو
السرعة فيكون
ج / 4 ص -71-
المراد بالخبب في الحديث ما هو كالرمل
بقرينة الأحاديث المتقدمة لا مجرد السرعة.
وحديث أبي موسى يدل على
أن المشي المشروع بالجنازة هو القصد والقصد ضد
الإفراط كما في القاموس فلا منافاة بينه وبين
الإسراع ما لم يبلغ إلى حد الإفراط ويدل على
ذلك ما رواه البيهقي من قول أبي موسى كما
تقدم. قوله: "بالجنازة" أي بحملها إلى
قبرها وقيل المعنى الإسراع بتجهيزها فهو أعم
من الأول. قال القرطبي: والأول أظهر وقال
النووي: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث
تضعونه عن رقابكم وقد قوى الحافظ الثاني بما
أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر قال:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره" وبما أخرجه أيضًا أبو داود من حديث الحصين
بن وحوح مرفوعًا:
"لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني
أهله"
الحديث تقدم.
قوله: "فإن كانت
صالحة" أي الجثة المحمولة.
قوله: "تضعونه"
استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال
للإتيان فيه بضمير الذكورة ولا يخفى ما فيه.
قال الحافظ: والحديث فيه استحباب المبادرة
إلى دفن الميت لكن بعد أن يتحقق أنه مات أما
مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا
يسرع في تجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق
موتهم نبه على ذلك ابن بزيزة. ويؤخذ من
الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين
اهـ.
باب المشي أمام
الجنازة وما جاء في الركوب معها
قد سبق في ذلك حديث المغيرة
1 - وعن ابن عمر:
"أنه رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". رواه
الخمسة واحتج به أحمد.
حديث المغيرة تقدم في
الصلاة على السقط وحديث ابن عمر أخرجه أيضًا
الدارقطني وابن حبان وصححه والبيهقي من حديث
ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه به قال
أحمد: إنما هو عن الزهري مرسل. وحديث سالم
فعل ابن عمر. وحديث ابن عيينة وهم. قال
الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح قاله
ابن المبارك قال: وروى معمر ويونس ومالك عن
الزهري: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كان يمشي أمام الجنازة" قال الزهري:
وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة
قال الترمذي: ورواه ابن جريج عن الزهري مثل
ابن عيينة ثم روى عن ابن المبارك أنه قال:
أرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة. وقال
النسائي: وصله خطأ والصواب مرسل. وقال
أحمد: حدثنا حجاج قرأت على ابن جريج حدثنا
زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره حدثني سالم عن
ابن عمر أنه كان يمشي بين يدي الجنازة وقد كان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأبو
بكر وعمر يمشون أمامها. وأخرجه ابن خزيمة في
صحيحه من فعل ابن عمر وأبي بكر وعثمان. قال
الزهري: وكذلك السنة. قال الحافظ في
التلخيص: فهذا أصح من حديث ابن عيينة وصحح
الدارقطني بعد ذكر الاختلاف أنه فعل ابن عمر
ورجح البيهقي الموصول لأن ابن عيينة ثقة حافظ
وقد أتى بزيادة على من أرسل والزيادة مقبولة
وقد قال لما قال له ابن المديني إنه قد خالفه
الناس في هذا الحديث أن الزهري حدثه به مرارًا
عن سالم عن أبيه. قال الحافظ: وهذا
ج / 4 ص -72-
لا ينفي الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن
سالم عن أبيه وهو كذلك إلا أن فيه إدراجًا وقد
جزم بصحة الحديث ابن المنذر وابن حزم.
ـ وفي الباب ـ عن أنس
عند الترمذي مثله وقال: سألت عنه البخاري
فقال هذا خطأ أخطأ فيه محمد بن بكر.
وقد اختلف أهل العلم هل
الأفضل لمتبع الجنازة أن يمشي خلفها أو أمامها
فقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد والجمهور
وجماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان
وابن عمر وأبو هريرة: إن المشي أمام الجنازة
أفضل واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في
الباب. وقال أبو حنيفة وأصحابه وحكاه
الترمذي عن سفيان الثوري وإسحاق وحكاه في
البحر عن العترة أن المشي خلفها أفضل واستدلوا
بما تقدم من حديث ابن مسعود عند الترمذي وأبي
داود قال: "سألنا النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال:
ما دون الخبب" فقرر قولهم خلف الجنازة ولم ينكره
واستدلوا أيضًا بما روي عن طاوس أنه قال:
"ما مشى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم حتى مات إلا خلف الجنازة" وهذا مع كونه
مرسلا لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث.
وروى في البحر عن علي عليه السلام أنه قال:
المشي خلف الجنازة أفضل وحكى في البحر عن
الثوري أنه قال: الراكب يمشي خلفها والماشي
أمامها ويدل لما قاله حديث المغيرة المتقدم:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبًا
منها عن يمينها أو عن يسارها" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم وهذا مذهب قوي لولا ما
سيأتي من الأدلة الدالة على كراهة الركوب
لمتبع الجنازة. وقال أنس بن مالك: إنه
يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن
شمالها. رواه البخاري عنه تعليقًا ووصله عبد
الوهاب بن عطاء في كتاب الجنائز ووصله أيضًا
ابن أبي شيبة وعبد الرزاق.
2 - وعن جابر بن سمرة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم اتبع
جنازة ابن الدحداح ماشيًا ورجع على فرس".
رواه الترمذي. وفي
رواية: "أتي بفرس معرور فركبه حين انصرفنا
من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله" رواه
أحمد ومسلم والنسائي.
3 - وعن ثوبان قال:
"خرجنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
في جنازة فرأى ناسًا ركبانًا فقال: ألا
تستحيون إن ملائكة اللَّه على أقدامهم وأنتم
على ظهور الدواب". رواه ابن ماجه
والترمذي.
4 - وعن ثوبان أيضًا:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما
انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال: إن
الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون
فلما ذهبوا ركبت". رواه أبو داود.
حديث جابر بن سمرة قال
الترمذي: حسن صحيح وفي لفظ له: "وهو على
فرس له يسعى
ج / 4 ص -73-
ونحن حوله وهو يتوقص به" وحديث ثوبان
الأول قال الترمذي: قد روي عنه مرفوعًا.
ولم يتكلم عليه بحسن ولا ضعف وفي إسناده أبو
بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. وحديث ثوبان
الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال
إسناده رجال الصحيح.
قوله: "ابن
الدحداح" بدالين مهملتين وحاء بين مهملتين
ويقال أبو الدحداح ويقال أبو الدحداحة. قال
ابن عبد البر: لا يعرف اسمه.
قوله: "ورجع على
فرس" فيه أنه لا بأس بالركوب عند الرجوع من
دفن الميت.
قوله: "معرور" بضم
الميم وفتح الراء. قال أهل اللغة: اعروريت
الفرس إذا ركبته عريانًا فهو معرور. قال
النووي: ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم
اعروريت الفرس واحلوليت الشيء اهـ.
قوله: "ونحن نمشي
حوله" فيه جواز مشي الجماعة مع كبيرهم
الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم
إذا لم يكن فيه مفسدة وإنما يكره ذلك إذا حصل
فيه انتهاك للتابعين أو خيف إعجاب أو نحو ذلك
من المفاسد.
قوله: "ألا
تستحيون" فيه كراهة الركوب لمن كان متبعًا
للجنازة ويعارضه حديث المغيرة المتقدم من أذنه
للراكب أن يمشي خلف الجنازة ويمكن الجمع بأن
قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم الراكب خلفها
لا يدل على عدم الكراهة وإنما يدل على الجواز
فيكون الركوب جائزًا مع الكراهة أو بأن إنكاره
صلى اللَّه عليه وآله وسلم على من ركب وتركه
للركوب إنما كان لأجل مشي الملائكة ومشيهم مع
الجنازة التي مشى معها رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم لا يستلزم مشيهم مع كل جنازة
لإمكان أن يكون ذلك معهم تبركًا به صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فيكون الركوب على هذا جائزًا
غير مكروه واللَّه تعالى أعلم.
باب ما يكره مع
الجنازة من نياحة أو نار
1 - عن ابن عمر قال: "نهى رسول اللَّه أن نتبع
جنازة معها رانة". رواه أحمد وابن ماجه.
2 - وعن أبي بردة قال:
"أوصي أبو موسى حين حضره الموت فقال: لا
تتبعوني بمجمر قالوا: أو سمعت فيه شيئًا
قال: نعم من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم". رواه ابن ماجه.
الحديث الأول إسناده عند
ابن ماجه هكذا حدثنا أحمد بن يوسف حدثنا عبيد
اللَّه أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد
عن ابن عمر. وأبو يحيى هذا القتات وفيه مقال
وبقية رجاله ثقات. والحديث الثاني في إسناده
أبو حريز مولى معاوية قال في التقريب: شامي
مجهول. وقال في الخلاصة: مجهول.
قوله: "معها رانة"
هي بالراء المهملة وبعد الألف نون مشددة أو
مصوتة. قال في القاموس: رن يرن رنينًا صاح
اهـ "وفيه دليل" على تحريم إتباع الجنازة
التي معها النائحة وعلى تحريم النوح وسيأتي
الكلام عليه.
قوله: "بمجمر"
المجمر كمنير الذي يوضع فيه الجمر. وفيه
دليل على أنه لا يجوز إتباع الجنائز بالمجامر
وما يشابهها لأن ذلك من فعل الجاهلية وقد هدم
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ذلك وزجر
عنه.
ج / 4 ص -74-
باب من اتبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع
1 - عن أبي سعيد قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا
يجلس حتى توضع".
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكن إنما لأبي داود منه:
"إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع" وقال: روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال
فيه: "حتى توضع في الأرض" ورواه أبو معاوية عن سهيل:
"حتى توضع في اللحد"
وسفيان أحفظ من أبي معاوية.
2 - وعن علي بن أبي طالب
عليه السلام: "أنه ذكر القيام في الجنائز
حتى توضع فقال علي عليه السلام: قام رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم
قعد". رواه النسائي والترمذي وصححه.
ولمسلم معناه.
ولفظ مسلم من حديث علي
عليه السلام: "قام النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يعني في الجنازة ثم قعد.
قوله: "إذا رأيتم
الجنازة فقوموا لها" فيه مشروعية القيام
للجنازة إذا مرت لمن كان قاعدًا وسيأتي الكلام
فيه في الباب الذي بعد هذا.
قوله: "فمن اتبعها
فلا يجلس" فيه النهي عن جلوس الماشي مع
الجنازة قبل أن توضع على الأرض فقال الأوزاعي
وإسحاق وأحمد ومحمد بن الحسن: إنه مستحب.
حكى ذلك عنهم النووي والحافظ في الفتح ونقله
ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين
قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرت به لا
في قيام من شيعها. وحكى في الفتح عن الشعبي
والنخعي أنه يكره القعود قبل أن توضع قال:
وقال بعض السلف: يجب القيام واحتج له برواية
النسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا:
"ما رأينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع" انتهى.
ولا يخفى أن مجرد الفعل
لا ينتهض دليلًا للوجوب فالأولى الاستدلال له
بحديث الباب فإن فيه النهي عن القعود قبل
وضعها وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب.
ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا:
"من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه فإن مشى معها فلا
يقعد حتى توضع"
وروى الحافظ عن الشعبي والنخعي أن القعود
مكروه قبل أن توضع. ومما يدل على الاستحباب
ما رواه البيهقي عن أبي هريرة وابن عمر
وغيرهما إن القائم مثل الحامل يعني في
الأجر.
قوله: "حتى توضع في
الأرض" قد ذكر المصنف كلام أبي داود في
ترجيح هذه الرواية على الرواية الأخرى أعني
قوله "حتى توضع في اللحد" وكذلك أشار
البخاري إلى ترجيحها بقوله باب من شهد جنازة
فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال. وأخرج
أبو نعيم عن سهيل قال: رأيت أبا صالح لا
يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. وهذا يدل
على أن الرواية الأولى أرجح لأن أبا صالح راوي
الحديث وهو أعرف بالمراد منه وقد تمسك
بالرواية الثانية صاحب المحيط من الحنفية
فقال: الأفضل أن لا يقعد حتى يهال عليها
التراب انتهى. وإذا قعد
ج / 4 ص -75-
الماشي مع الجنازة قبل أن توضع فهل يسقط
القيام أو يقوم الظاهر الثاني لأن أصل مشروعية
القيام تعظيم أمر الموت وهو لا يفوت بذلك.
وقد روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة ومروان
كانا مع جنازة فقعدا قبل أن توضع فجاء أبو
سعيد فأخذ بيد مروان فأقامه وذكر أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم نهى عن ذلك فقال أبو
هريرة صدق ورواه الحاكم بنحو ذلك وزاد أن
مروان لما قال له أبو سعيد: قم. قام ثم
قال له: لم أقمتني. فذكر له الحديث فقال
لأبي هريرة: فما منعك أن تخبرني فقال: كنت
إمامًا فجلست فجلست.
وقد استدل المهلب بقعود
أبي هريرة ومروان على أن القيام ليس بواجب
وأنه ليس عليه العمل. قال الحافظ: إن أراد
أنه ليس بواجب عنهما فظاهر وإن أراد في نفس
الأمر فلا دلالة فيه على ذلك.
قوله: "وعن علي عليه
السلام" الخ ذكر المصنف هذا الحديث
للاستدلال به على نسخ مشروعية القيام لمن تبع
الجنازة حتى توضع لقوله فيه "حتى توضع"
فإنه يدل على أن المراد به قيام التابع
للجنازة لا قيام من مرت به لأنه لا يشرع حتى
توضع بل حتى تخلفه كما سيأتي ولكنه سيأتي في
باب القيام للجنازة من حديث عامر بن ربيعة عند
الجماعة بلفظ: "حتى تخلفكم أو توضع"
فذكر الوضع في حديث علي عليه السلام لا يكون
نصًا على أن المراد قيام التابع وقد استدل به
الترمذي على نسخ قيام من رأى الجنازة فقال بعد
إخراجه له: وهذا ناسخ للأول
"إذا رأيتم الجنازة فقوموا"
اهـ. ولو سلم أن المراد بالقيام المذكور في
حديث علي هو قيام التابع للجنازة فلا يكون
تركه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ناسخًا مع عدم
ما يشعر بالتأسي به في هذا الفعل بخصوصه لما
تقرر في الأصول من أن فعله صلى اللَّه عليه
وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ولا
ينسخه.
باب ما جاء في
القيام للجنازة إذا مرت
1 - عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة: "عن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو
توضع".
رواه الجماعة. ولأحمد: "وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى
تجاوزه" وله أيضًا عنه: "أنه ربما تقدم
الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى
توضع".
2 - وعن جابر قال:
"مر بنا جنازة فقام لها النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم وقمنا معه فقلنا: يا رسول
اللَّه إنها جنازة يهودي فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها".
3 - وعن سهل بن حنيف
وقيس بن سعد: "أنهما كانا قاعدين
بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل
لهما: إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة
فقالا: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم مرت به جنازة فقام
ج / 4 ص -76-
فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفسًا".
متفق عليهما. وللبخاري عن ابن أبي ليلى
قال: كان أبو مسعود وقيس يقومان للجنازة.
قوله: "حتى
تخلفكم" بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام
المكسورة أي تترككم ورائها.
قوله: "مر بنا" في
رواية الكشميهني مرت بفتح الميم.
قوله: "فقال إذا
رأيتم الجنازة فقوموا لها" زاد البيهقي: "إن
الموت فزع" وكذا لمسلم من وجه آخر. قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع.
قال البيضاوي: وهو مصدر جرى مجرى الوصف
للمبالغة أو فيه تقدير أي الموت ذو فزع.
ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة
بلفظ: "إن للموت فزعًا"
وعن ابن عباس مثله عند البزار.
قوله: "أليست
نفسًا" هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث
قال: إن للموت فزعًا. وكذا ما أخرج الحاكم
عن أنس مرفوعًا: "إنما قمنا للملائكة"
ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى ولأحمد وابن
حبان والحاكم من حديث عبد اللَّه بن عمرو
مرفوعًا: "إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس". ولفظ ابن حبان: "إعظامًا
للَّه تعالى الذي يقبض الأرواح"
فإن ذلك لا ينافي التعليل السابق لأن القيام
للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر اللَّه تعالى
وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة.
فأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي
قال: إنما قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم تأذيًا بريح اليهود. زاد
الطبراني: فأذاه ريح بخورها. وللطبراني
والبيهقي من وجه آخر عنه كراهية أن يعلو على
رأسه فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة
أما أولا فلأن أسانيد هذه لا تقاوم تلك في
الصحة وأما ثانيًا فلأن التعليل بذلك راجع إلى
ما فهمه الراوي والتعليل الماضي صريح من لفظ
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكأن الراوي
لم يسمع التصريح بالتعليل منه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فعلل باجتهاده ومقتضى التعليل بقوله
"أليست نفسًا" أن ذلك يستحب لكل جنازة.
واختلف العلماء في هذه
المسألة فذهب أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن
الماجشون إن القيام للجنازة لم ينسخ والقعود
منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما في حديث
علي الآتي إنما هو لبيان الجواز فمن جلس فهو
في سعة ومن قام فله أجر. وكذا قال ابن حزم
إن قعوده صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد أمره
بالقيام يدل على أن الأمر للندب ولا يجوز أن
يكون نسخًا. قال النووي: والمختار أنه
مستحب وبه قال المتولي وصاحب المهذب من
الشافعية. وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن
عمر وابن مسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف كما
يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب.
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إن القيام
منسوخ بحديث علي الآتي. قال الشافعي: إما
أن يكون القيام منسوخًا أو يكون لعلة وأيهما
كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله والحجة في
الآخر من أمره والقعود أحب إليَّ انتهى.
وسيأتي بيان ما هو الحق. وظاهر أحاديث الباب
أنه يشرع القيام لجنازة المسلم والكافر كما
تقدم.
4 - وعن علي بن أبي طالب
عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه
ج / 4 ص -77-
صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أمرنا بالقيام في
الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس".
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بنحوه.
5 - وعن ابن سيرين: "أن جنازة مرت بالحسن
وابن عباس فقام الحسن ولم يقم ابن عباس فقال
الحسن لابن عباس: أما قام لها رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال: قام
وقعد". رواه أحمد والنسائي.
الحديث الأول رجال إسناده ثقات عند أبي داود
وابن ماجه وقد أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ
والبيهقي بلفظ: "ثم قعد بعد ذلك وأمرهم
بالقعود" وقد خرج حديث علي مسلم باللفظ الذي
تقدم في الباب الأول. والحديث الثاني رجال
إسناده ثقات وقد أشار إليه الترمذي أيضا.ً
ـ وفي الباب ـ عن عبادة بن الصامت عند أبي
داود والترمذي وابن ماجه والبزار: "أن
يهوديًا قال: لما كان النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقوم للجنازة هكذا يفعل فقال النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
اجلسوا وخالفوهم"
وفي إسناده بشر بن رافع وليس بالقوي كما قال
الترمذي. وقال البزار: تفرد به بشر وهو
لين. قال الترمذي: حديث عبادة غريب.
وقال أبو بكر الهمداني ولو صح لكان صريحًا في
النسخ غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا
يقاومه هذا الإسناد وقد تمسك بهذه الأحاديث من
قال إن القيام للجنازة منسوخ وقد تقدم
ذكرهم. قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف
إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا
وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا
تعذر الجمع وهو ههنا ممكن.
واعلم أن حديث علي باللفظ الذي سبق في الباب
الأول لا يدل على النسخ لما عرفناك من أن فعله
لا ينسخ القول الخاص بالأمة. وأما حديثه
باللفظ الذي ذكره هنا فإن صح صلح النسخ لقوله
فيه: "وأمرنا بالجلوس" ولكنه لم يخرج
هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبو داود بل
اقتصروا على قوله "ثم قعد".
وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضًا لا يدل على
النسخ لما عرفت. وأما حديث عبادة بن الصامت
فهو صريح في النسخ لولا ضعف إسناده فلا ينبغي
أن يستند في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث
الصحيحة من طريق جماعة من الصحابة إلى مثله بل
المتحتم الأخذ بها واعتقاد مشروعيتها حتى يصح
ناسخ صحيح ولا يكون الأمر بالجلوس أو نهي عن
القيام أو إخبار من الشارع بأن تلك السنة
منسوخة بكذا واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي
عليه السلام وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر
زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمئنان
إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة
في الغاية لا سيما بعد أن شد من عضدها عمل
جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى
على مثلهم الناسخ ووقوع ذلك منهم بعد عصر
النبوة. ويمكن أن يقال إن الأمر بالجلوس لا
يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة لأن
من علم حجة على من لم يعلم. وحديث عبادة وإن
كان ضعيفًا فهو لا يقصر عن كونه شاهدًا لحديث
الأمر بالجلوس.
ج / 4 ص -78-
أبواب الدفن وأحكام القبور
باب تعميق القبر واختيار اللحد على الشق
1 - عن رجل من الأنصار
قال: "خرجنا في جنازة فجلس رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم على حفيرة القبر
فجعل يوصي الحافر ويقول: أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين رب عذق له في الجنة".
رواه أحمد وأبو داود.
2 - وعن هشام بن عامر
قال: "شكونا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يوم أُحد فقلنا: يا رسول
اللَّه الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد فقالوا: فمن نقدم يا رسول اللَّه قال: قدموا أكثرهم قرآنًا
وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد".
رواه النسائي والترمذي
بنحوه وصححه.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا البيهقي. قال الحافظ: إسناده
صحيح. والحديث الثاني أخرجه أيضًا أبو داود
وابن ماجه واختلف فيه على حميد بن هلال راويه
عن هشام فمنهم من أدخل بينه وبين سعد بن هشام
ابنه ومنهم من أدخل بينهما أبا الدهماء ومنهم
من لم يذكر بينهما أحدًا.
قوله: "يوصي"
بالواو والصاد من التوصية وذكر ابن المواق أن
الصواب يرمي بالراء والميم وأطال في ذلك.
وفيه مشروعية التوصية من الحاضرين للدفن
بتوسيع القبر وتفقد ما يحتاج إلى التفقد.
قوله: "رب عذق"
العذق بفتح العين النخلة والجمع أعذق وأعذاق
وبكسر العين القنو منها والعنقود من العنب
والجمع أعذاق وعذوق.
قوله: "وأعمقوا
وأحسنوا" فيه دليل على مشروعية إعماق القبر
وإحسانه. وقد اختلف في حد الإعماق فقال
الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبد العزيز:
إلى السرة. وقال الإمام يحيى: إلى
الثدي. وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع.
وقال مالك: لا حد لإعماقه. وأخرج ابن أبي
شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال:
أعمقوا القبر إلى قدر قامة وبسطة.
قوله: "وادفنوا
الاثنين" الخ فيه جواز الجمع بين جماعة في
قبر واحد ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كما في
مثل هذه الواقعة وإلا كان مكروهًا كما ذهب
إليه الهادي والقاسم وأبو حنيفة والشافعي.
قال المهدي في البحر: أو تبركًا كقبر فاطمة
فيه خمسة يعني فاطمة والحسن بن علي وعلي بن
الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر
وولده جعفر بن محمد الصادق وهذا من المجاورة
لا من الجمع بين جماعة في قبر واحد الذي هو
المدعى. وقد قدمنا في باب ترك غسل الشهيد
طرفًا من الكلام على دفن الجماعة
ج / 4 ص -79-
في قبر.
قوله: "قدموا أكثرهم
قرآنًا" فيه دليل على أنه يقدم في اللحد من
كان أكثرهم أخذًا للقرآن ويلحق بذلك سائر
المزايا الدينية لعدم الفارق.
3 - وعن عامر بن سعد
قال: "قال سعد: ألحدوا لي لحدًا وانصبوا
عليَّ اللبن نصبًا كما صنع برسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم". رواه أحمد ومسلم
والنسائي وابن ماجه.
4 - وعن أنس قال:
"لما توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا نستخير
ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل
إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا له".
رواه أحمد وابن ماجه.
ولابن ماجه هذا المعنى من حديث ابن عباس
وفيه: "إن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح
وإن أبا طلحة كان يلحد".
5 - وعن ابن عباس قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
اللحد لنا والشق لغيرنا".
رواه الخمسة. قال الترمذي: غريب لا نعرفه
إلا من هذا الوجه.
حديث أنس قال الحافظ:
إسناده حسن. وحديث ابن عباس الأول قال
الحافظ أيضًا: في إسناده ضعف وحديثه الثاني
أخرجه من ذكره المصنف عن سعيد بن جبير عنه
قال: "قال النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم" وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي كما
وجدنا ذلك في بعض النسخ الصحيحة من جامعه.
وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف.
ـ وفي الباب ـ عن جرير
بن عبد اللَّه عند أحمد والبزار وابن ماجه
بنحو حديث ابن عباس الثاني وفيه عثمان بن عمير
وهو ضعيف وزاد أحمد بعد قوله لغيرنا أهل
الكتاب. وعن ابن عمر عند أحمد وفيه عبد
اللَّه العمري بلفظ: "أنهم ألحدوا للنبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم لحدًا" وأخرجه
ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "ألحدوا للنبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ولأبي بكر وعمر" وعن
جابر عند ابن شاهين بنحو حديث سعد بن أبي
وقاص. وعن بريدة عند ابن عدي في الكامل وعن
عائشة عند ابن ماجه بنحو حديث أنس وإسناده
ضعيف وله طريق أخرى عند ابن أبي حاتم في العلل
وقال: إنها خطأ والصواب المحفوظ مرسل وكذا
رجح الدارقطني المرسل.
قوله: "ألحدوا"
قال النووي في شرح مسلم: هو بوصل الهمزة
وفتح الحاء ويجوز بقطع الهمزة وكسر الحاء يقال
لحد يلحد كذهب يذهب وألحد يلحد إذا حفر القبر
واللحد بفتح اللام وضمها معروف وهو الشق تحت
الجانب القبلي من القبر انتهى. قال
الفراء: الرباعي أجود وقال غيره: الثلاثي
أكثر ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فأرسلوا إلى الشقاق
واللاحد. وسمي اللحد لحدًا لأنه شق يعمل في
جانب القبر فيميل عن وسطه والإلحاد في أصل
اللغة الميل والعدول. ومنه قيل للمائل عن
ج / 4 ص -80-
الدين ملحد.
قوله: "وانصبوا على
اللبن نصبًا" فيه استحباب نصب اللبن لأنه
الذي صنع برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم باتفاق الصحابة. قال النووي: وقد
نقلوا أن عدد لبناته صلى اللَّه عليه وآله
وسلم تسع.
قوله: "كان يضرح"
أي يشق في وسط القبر. قال الجوهري: الضرح
الشق.
والأحاديث المذكورة في
الباب تدل على استحباب اللحد وأنه أولى من
الضرح وإلى ذلك ذهب الأكثر كما قال النووي
وحكى في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز
اللحد والشق انتهى. ووجه ذلك أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قرر من كان يضرح ولم
يمنعه. ولا يقدح في صحة حديث ابن عباس
الثاني وما في معناه تحير الصحابة عند موته
صلى اللَّه عليه وآله وسلم هل يلحدون له أو
يضرحون بأن يقال لو كان عندهم علم بذلك لم
يتحيروا لأنه يمكن أن يكون من سمع منه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ذلك لم يحضر عند
موته.
باب من أين يدخل
الميت قبره وما يقال عند ذلك والحثي في القبر
1 - عن أبي إسحاق قال:
"أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد اللَّه بن
يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي
القبر وقال: هذا من السنة". رواه أبو
داود وسعيد في سننه وزاد ثم قال: "أنشطوا
الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء".
2 - وعن ابن عمر:
"عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
كان إذا وضع الميت في القبر قال
بسم اللَّه وعلى ملة رسول اللَّه"
وفي لفظ: "وعلى سنة رسول اللَّه". رواه الخمسة إلا النسائي.
3 - وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى
على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل
رأسه ثلاثًا". رواه ابن ماجه.
الحديث الأول سكت عنه
أبو داود المنذري والحافظ في التلخيص ورجال
إسناده رجال الصحيح. ـ وفي الباب ـ عن ابن
عباس عند الشافعي: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم سل من قبل رأسه سلا" وعن ابن
عمر عند أبي بكر النجاد مثله. وعن أبي رافع
عند ابن ماجه قال: "سل رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم سعد بن معاذ سلا ورش
على قبره الماء" وأما الزيادة التي زادها
سعيد فسيأتي الكلام فيها.
والحديث الثاني أخرجه
أيضًا ابن حبان والحاكم ـ وفي الباب ـ عن ابن
عمر عند النسائي والحاكم وغيرهما وفيه الأمر
به وقد اختلف في رفعه ووقفه ورجح الدارقطني
والنسائي الوقف ورجح غيرهما الرفع وقد رواه
ابن حبان من طريق سعيد عن قتادة مرفوعًا وروى
البزار والطبراني عن ابن عمر نحوه وابن ماجه
عنه مرفوعًا وفي إسناده حماد بن عبد الرحمن
الكلبي وهو مجهول. وعن عبد الرحمن بن العلاء
بن اللجلاج عن أبيه عند الطبراني قال: قال
لي اللجلاج: يا بني إذا أنا مت فألحدني فإذا
وضعتني في لحدي فقل بسم اللَّه وعلى ملة رسول
اللَّه ثم شن عليَّ التراب شنًا ثم اقرأ عند
ج / 4 ص -81-
رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول ذلك.
واللجلاج بجيمين وفتح اللام الأولى. وعن أبي
حازم مولى الغفاري حدثني البياضي وهو صحابي
كما في الكاشف وغيره عند الحاكم يرفعه بلفظ:
"الميت إذا وضع في قبره فليقل الذين يضعونه
حين يوضع في اللحد بسم اللَّه وباللَّه وعلى
ملة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم"
وعن أبي أمامة عند الحاكم والبيهقي بلفظ:
"لما وضعت أم كلثوم بنت رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم في القبر قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} بسم اللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملة رسول اللَّه" الحديث وسنده ضعيف كما قال الحافظ. والحديث الثالث قال أبو حاتم
في العلل: هذا حديث باطل وقال الحافظ:
إسناده ظاهر الصحة قال ابن ماجه: حدثنا
العباس بن الوليد حدثنا يحيى بن صالح حدثنا
سلمة بن كلثوم حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره ورجاله
ثقات وقد رواه ابن أبي داود من هذا الوجه
وصححه. قال الحافظ: لكن أبو حاتم إمام لم
يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له وأظن
العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه وهذا
كله إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ
البخاري.
ـ وفي الباب ـ عن عامر
بن ربيعة عند البزار والدارقطني قال:
"رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين
دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعًا
وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو
قائم عند رأسه" وزاد البزار: "فأمر فرش
عليه الماء" قال البيهقي: وله شاهد من
حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا رواه
الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر. وعن
أبي المنذر عند أبي داود في المراسيل: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم حثى في قبر
ثلاثًا" قال أبو حاتم في العلل: أبو
المنذر مجهول. وعن أبي أمامة عند البيهقي
قال: توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا ثلاث
حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه. وعن
أبي هريرة غير حديث الباب عند أبي الشيخ
مرفوعًا:
"من حثى على مسلم احتسابًا كتب له بكل ثراة
حسنة"
قال الحافظ: إسناده ضعيف.
قوله: "وقال هذا من
السنة" فيه وفيما قدمنا دليل على أنه يستحب
أن يدخل الميت من قبل رجلي القبر أو موضع رجلي
الميت منه عند وضعه فيه وإلى ذلك ذهب الشافعي
وأحمد والهادي والناصر والمؤيد باللَّه وقال
أبو حنيفة: أنه يدخل القبر من جهة القبلة
معرضًا إذ هو أيسر وإتباع السنة أولى من
الرأي.
وقد استدل لأبي حنيفة
بما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود
وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم من جهة القبلة ويجاب بأن البيهقي
ضعفها. وقد روى عن الترمذي تحسين حديث ابن
عباس منها وأنكر ذلك عليه لأن مداره على
الحجاج بن أرطأة قال في ضوء النهار: على أنه
لا حاجة إلى التضعيف بذلك لأن قبر النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كان عن يمين الداخل إلى
البيت لاصقًا بالجدار والجدار الذي ألحد تحته
هو القبلة فهو مانع من إدخال النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم من جهة القبلة ضرورة انتهى.
قال في البدر المنير بعد أن ذكر أنه أدخل صلى
اللَّه عليه وآله وسلم من جهة القبلة: وهو
غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في
الشناعة على من يقول ذلك ونسبه إلى الجهالة
ومكابرة الحس انتهى.
قوله: "ثم قال
أنشطوا الثوب" بهمزة فنون فشين
ج / 4 ص -82-
معجمة فطاء مهملة أي اختلسوه ذكر معناه في
القاموس وقد أخرج نحو هذه الزيادة يوسف القاضي
بإسناد له عن رجل عن علي: "أنه أتاهم وهم
يدفنون قيسًا وقد بسط الثوب على قبره فجذبه
وقال: إنما يصنع هذا بالنساء" والطبراني
عن أبي إسحاق أيضًا أن عبد اللَّه بن يزيد صلى
على الحارث الأعور وفيه ثم لم يدعهم يمدون
ثوبًا على القبر وقال هكذا السنة وقد رواه ابن
أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق بلفظ:
"شهدت جنازة الحارث فمدوا على قبره ثوبًا
فجذبه عبد اللَّه بن يزيد وقال: إنما هو
رجل" ورواه البيهقي بإسناد صحيح إلى أبي
إسحاق السبيعي أنه حضر جنازة الحارث الأعور
فأمر عبد اللَّه بن يزيد أن يبسطوا عليه
ثوبًا. قال الحافظ: لعل الحديث كان فيه
فأمر أن لا يبسطوا فسقطت لا أو كان فيه فأبى
بدل فأمر. وروى البيهقي من حديث ابن عباس
قال: "جلل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قبر سعد بثوبه قال البيهقي: لا
أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن أبي
العيزار وهو ضعيف. وروى عبد الرزاق عن
الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك قال: أمر رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فستر على
القبر حتى دفن سعد بن معاذ فيه فكنت ممن أمسك
الثوب وفي إسناده هذا المبهم. وقد أوله
القائلون باختصاص ذلك بالمرأة على أنه إنما
فعل صلى اللَّه عليه وآله وسلم ذلك بقبر سعد
لأنه كان مجروحًا وكان جرحه قد تغير.
قوله: "قال بسم
اللَّه" الخ فيه استحباب هذا الذكر عند وضع
الميت في قبره.
قوله: "من قبل
رأسه" فيه دليل على أن المشروع أن يحثى على
الميت من جهة رأسه ويستحب أن يقول عند ذلك
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى }
ذكره أصحاب الشافعي. وقال الهادي: بلغنا
عن أمير المؤمنين كرم اللَّه وجهه أنه كان إذا
حثى على ميت قال اللَّهم إيمانًا بك وتصديقًا
برسلك وإيقانًا ببعثك هذا ما وعد اللَّه
ورسوله وصدق اللَّه ورسوله ثم قال من فعل ذلك
كان له بكل ذرة حسنة.
باب تسليم القبر
ورشه بالماء وتعليمه ليعرف وكراهة البناء
والكتابة عليه
1 - عن سفيان التمار
أنه: "رأى قبر النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم مسنمًا". رواه البخاري في صحيحه.
2 - وعن القاسم قال:
"دخلت على عائشة فقلت: يا أمة باللَّه
اكشفي لي عن قبر النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة
ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء".
رواه أبو داود.
الرواية الأولى أخرجها
أيضًا ابن أبي شيبة من طريق سفيان المذكور
وزاد وقبر أبي بكر وقبر عمر كذلك. وكذلك
أخرجه أبو نعيم وذكر هذه الزيادة التي ذكرها
ابن أبي شيبة. والرواية الثانية أخرجها
أيضًا الحاكم من هذا الوجه وزاد: "ورأيت
قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
مقدمًا وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم وعمر رأسه عند رجل
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم".
ـ وفي الباب ـ عن
ج / 4 ص -83-
صالح بن أبي صالح عند أبي داود في المراسيل
قال: "رأيت قبر النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم شبرًا أو نحو شبر" وعن عثيم بن
بسطام المديني عند أبي بكر الآجري في كتاب صفة
قبر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
"رأيت قبره صلى اللَّه عليه وآله وسلم في
إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعًا نحوًا
من أربع أصابع ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره
ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل
منه".
قوله: "مسنمًا" أي
مرتفعًا. قال في القاموس: التسنيم ضد
التسطيح وقال سطحه كمنعه وبسطه.
قوله: "ولا لاطئة"
أي ولا لازقة بالأرض.
وقد اختلف أهل العلم في
الأفضل من التسنيم والتسطيح بعد الاتفاق على
جواز الكل. فذهب الشافعي وبعض أصحابه
والهادي والقاسم والمؤيد باللَّه إلى أن
التسطيح أفضل واستدلوا برواية القاسم بن محمد
بن أبي بكر المذكورة وما وافقها قالوا وقول
سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي
لاحتمال أن قبره صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم
يكن في الأول مسنمًا بل كان في أول الأمر
مسطحًا ثم لما بُنِيَ جدار القبر في إمارة عمر
بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن
عبد الملك صيروها مرتفعة وبهذا يجمع بين
الروايات ويرجح التسطيح ما سيأتي من أمره صلى
اللَّه عليه وآله وسلم عليًا أن لا يدع قبرًا
مشرفًا إلا سواه. وذهب أبو حنيفة ومالك
وأحمد والمزني وكثير من الشافعية وادعى القاضي
حسين اتفاق أصحاب الشافعي عليه ونقله القاضي
عياض عن أكثر العلماء أن التسنيم أفضل وتمسكوا
بقول سفيان التمار والأرجح أن الأفضل التسطيح
لما سلف.
3 - وعن أبي الهياج
الأسدي عن علي قال: "أبعثك على ما بعثني
عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا
سويته". رواه الجماعة إلا البخاري وابن
ماجه.
قوله: "عن ابن
الهياج" هو بفتح الهاء وتشديد الياء واسمه
حيان بن حصين.
قوله: "لا تدع
تمثالا إلا طمسته" فيه أمر بتغيير صور ذوات
الأرواح.
قوله: "ولا قبرًا
مشرفًا إلا سويته" فيه أن السنة أن القبر لا
يرفع رفعًا كثيرًا من غير فرق بين من كان
فاضلًا ومن كان غير فاضل. والظاهر أن رفع
القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم وقد
صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي
ومالك والقول بأنه غير محظور لوقوعه من السلف
والخلف بلا نكير كما قال الإمام يحيى والمهدي
في الغيث لا يصح لأن غاية ما فيه أنهم سكتوا
عن ذلك والسكوت لا يكون دليلًا إذا كان في
الأمور الظنية وتحريم رفع القبور ظني ومن رفع
القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوليًا القبب
والمشاهد المعمورة على القبور وأيضًا هو من
اتخاذ القبور مساجد وقد لعن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فاعل ذلك كما سيأتي وكم قد سرى
عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي
لها الإسلام منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على
جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدًا لطلب
قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب وسألوا منها
ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال
وتمسحوا بها واستغاثوا وبالجملة إنهم لم يدعوا
شيئًا مما كانت الجاهلية
ج / 4 ص -84-
تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا للَّه وإنا
إليه راجعون ومع هذا المنكر الشنيع والكفر
الفظيع لا نجد من يغضب للَّه ويغار حمية للدين
الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا
وزيرًا ولا ملكًا وقد توارد إلينا من الأخبار
ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء المقبوريين
أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه
حلف باللَّه فاجرًا فإذا قيل له بعد ذلك احلف
بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى
واعترف بالحق وهذا من أبين الأدلة الدالة على
أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى
ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة فيا علماء الدين ويا
ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من الكفر
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير
اللَّه وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه
المصيبة وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن هذا
الشرك البين واجبًا:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا
* ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها
أضاءت * ولكن أنت تنفخ في الرماد
4 - وعن جعفر بن محمد عن
أبيه: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه
حصباء". رواه الشافعي.
5 - وعن أنس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أعلم قبر
عثمان بن مظعون بصخرة". رواه ابن ماجه.
الحديث الأول مرسل
وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور والبيهقي من هذا
الوجه مرسلا بهذا اللفظ وزادا: ورفع قبره
قدر شبر.
ـ وفي الباب ـ عن جابر
عند البيهقي قال: "رش على قبر النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بالماء رشًا فكان الذي
رش على قبره بلال بن رباح بدأ من قبل رأسه من
شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه" وفي إسناده
الواقدي والكلام فيه معروف.
ـ وفي الباب ـ عن عامر
بن ربيعة تقدم في الباب الأول وروى سعيد بن
منصور أن الرش على القبر كان على عهد رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإلى
مشروعية الرش على القبر ذهب الشافعي وأبو
حنيفة والقاسمية. والحديث الثاني أخرجه
أيضًا ابن عدي قال أبو زرعة: هذا خطأ
والصواب رواية من روى عن المطلب بن حنطب
وسيأتي. وقد رواه الطبراني في الأوسط من
حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف ورواه الحاكم في
المستدرك في ترجمة عثمان بن مظعون بإسناد آخر
فيه الواقدي من حديث أبي رافع فذكر معناه.
وروى أبو داود من حديث
المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: "لما
مات عثمان بن مظعون خرج بجنازته فدفن فأمر
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجلا أن يأتي
بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه قال
المطلب: قال الذي أخبرني كأني أنظر إلى بياض
ذراعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
حين حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه
وقال: أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات
من أهلي" قال الحافظ: وإسناده حسن ليس فيه
إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب وهو
ج / 4 ص -85-
صدوق انتهى. والمطلب ليس صحابيًا ولكنه
بين أن مخبرًا أخبره ولم يسمه وإبهام الصحابي
لا يضر. ـ وفيه دليل ـ على جعل علامة على
قبر الميت كنصب حجر أو نحوه. قال الإمام
يحيى: فأما نصب حجرين على المرأة وواحدة على
الرجل فبدعة قال في البحر: قلت لا باس به
لقصد التمييز لنصبه على قبر ابن مظعون.
6 - وعن جابر قال:
"نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن
يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه".
رواه أحمد ومسلم
والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه:
"نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن
يبنى عليها وأن توطأ" وفي لفظ النسائي:
"نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو
يجصص أو يكتب عليه".
الحديث أخرجه أيضًا ابن
ماجه وابن حبان والحاكم وقال الحاكم:
الكتابة وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه وهي
صحيحة غريبة. وقال أهل العلم من أئمة
المسلمين من المشرق إلى المغرب على خلاف
ذلك.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
مسعود ذكره صاحب مسند الفردوس عن الحاكم
مرفوعًا: "لا يزال الميت يسمع الآذان ما لم يطين عليه" قال الحافظ: وإسناده باطل فإنه من رواية
محمد بن القاسم الطايكاني وقد رموه بالوضع.
قوله: "أن يجصص
القبر" في رواية لمسلم: "عن تقصيص
القبور" والتقصيص بالقاف وصادين مهملتين هو
التجصيص. والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد
المهملة هي الجص وفيه تحريم تجصيص القبور.
وأما التطيين فقال الترمذي: وقد رخص قوم من
أهل العلم في تطيين القبور منهم الحسن البصري
والشافعي. وقد روى أبو بكر النجاد من طريق
جعفر بن محمد عن أبيه: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم رفع قبره من الأرض
شبرًا وطين بطين أحمر من العرصة" وحكى في
البحر عن الهادي والقاسم أنه لا بأس بالتطيين
لئلا ينطمس. وقال الإمام يحيى وأبو حنيفة:
يكره.
قوله: "وأن يقعد
عليه" فيه دليل على تحريم القعود على القبر
وإليه ذهب الجمهور وقال مالك في الموطأ:
المراد بالقعود الحدث. قال النووي: وهذا
تأويل ضعيف أو باطل والصواب أن المراد بالقعود
الجلوس ومما يوضحه الرواية الواردة بلفظ:
"لا تجلسوا على القبور"
كما سيأتي.
قوله: "وأن يبنى
عليه" فيه دليل على تحريم البناء على القبر
وفصل الشافعي وأصحابه فقالوا: إن كان البناء
في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة
فحرام ولا دليل على هذا التفصيل وقد قال
الشافعي: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما
يبنى ويدل على الهدم حديث علي المتقدم.
قوله: "وأن يكتب
عليها" فيه تحريم الكتابة على القبور وظاهره
عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر
وغيرها وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزوه
لا على وجه الزخرفة قياسًا على وضعه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم الحجر على قبر عثمان
كما تقدم وهو من التخصيص بالقياس وقد قال به
الجمهور لا أنه قياس في مقابلة النص كما قال
في ضوء النهار ولكن الشأن في
ج / 4 ص -86-
صحة هذا القياس.
قوله: "وأن توطأ"
فيه دليل على تحريم وطء القبر والكلام فيه
كالكلام في القعود عليه ولعل مالكًا لا يخالف
هنا.
قوله: "أو يزاد
عليه" بوب على هذه الزيادة البيهقي باب لا
يزاد عليه القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع.
وظاهره أن المراد بالزيادة عليه الزيادة على
ترابه وقيل المراد بالزيادة عليه أن يقبر ميت
على قبر ميت آخر.
باب من يستحب أن
يدفن المرأة
1 - عن أنس قال:
"شهدت بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم تدفن وهو جالس على القبر فرأيت عيناه
تدمعان فقال:
هل فيكم أحد لم يقارف الليلة
فقال أبو طلحة: أنا قال:
فانزل في قبرها
فنزل في قبرها".
رواه أحمد والبخاري.
ولأحمد عن أنس: "أن رقية لما ماتت قال
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله
فلم يدخل عثمان بن عفان القبر".
قوله: "بنت رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم" هي أم
كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن طليح بن
سليمان وبهذا الإسناد أخرجه ابن سعد في
الطبقات في ترجمة أم كلثوم وكذا الدولابي في
الذرية الطاهرة والطبري والطحاوي من هذا الوجه
ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها
رقية كما ذكره المصنف عن أحمد وكذلك أخرجه
البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في
المستدرك. قال البخاري: ما أدرى ما هذا
فإن رقية ماتت والنبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم ببدر لم يشهدها. قال الحافظ: وهم
حماد في تسميتها فقط ويؤيد أنها أم كلثوم ما
رواه ابن سعد أيضًا في ترجمة أم كلثوم من طريق
عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها
أبو طلحة وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت
كانت لبعض بنات النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فنسبت إليه.
قوله: "لم يقارف"
بقاف وفاء زاد ابن المبارك عن فليح أراه يعني
الذنب ذكره البخاري في باب من يدخل قبر المرأة
تعليقًا ووصله الإسماعيلي وكذا قال شريح بن
النعمان عن فليح أخرجه أحمد عنه. وقيل معناه
لم يجامع تلك الليلة وبه جزم ابن حزم قال:
معاذ اللَّه أن يتبجح أبو طلحة عند رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأنه لم
يذنب تلك الليلة انتهى. ويقويه أن في رواية
ثابت المذكور بلفظ: "لا
يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة فتنحى
عثمان"
وقد استبعد أن يكون عثمان جامع في تلك الليلة
التي حدث فيها موت زوجته لحرصه على مراعاة
الخاطر الشريف وأجيب عنه باحتمال أن يكون مرض
المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع ولم يكن
يظن موتها تلك الليلة وليس في الخبر ما يقتضي
أنه واقع بعد موتها بل ولا حين احتضارها.
"والحديث" يدل على
أنه يجوز أن يدخل المرأة في قبرها الرجال دون
النساء لكونهم أقوى على ذلك وأنه يقدم الرجال
الأجانب الذين بعد عهدهم بالملاذ في المواراة
على الأقارب الذين قرب عهدهم بذلك كالأب
والزوج وعلل بعضهم تقدم من لم يقارف بأنه
حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه
ج / 4 ص -87-
تلك الليلة وحكى عن ابن حبيب أن السر في
إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد
جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطف صلى
اللَّه عليه وآله وسلم في منعه في النزول قبر
زوجته بغير تصريح. ووقع في رواية حماد
المذكورة فلم يدخل عثمان القبر.
ـ وفي الحديث ـ أيضًا
جواز الجلوس على شفير القبر وجواز البكاء بعد
الموت. وحكى ابن قدامة عن الشافعي أنه يكره
لخبر:
"فإذا وجب فلا تبكين باكية" يعني إذا مات وهو محمول على الأولوية. والمراد لا ترفع صوتها
بالبكاء ويمكن الفرق بين النساء والرجال في
ذلك لأن بكاء النساء قد يفضي إلى ما لا يحل من
النوح لقلة صبرهن.
باب آداب الجلوس
في المقبرة والمشي فيها
1 - عن البراء بن عازب
قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار
فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد فجلس رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مستقبل
القبلة وجلسنا معه". رواه أبو داود.
2 - وعن أبي هريرة
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص
إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر".
رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
3 - وعن عمرو بن حزم
قال: "رآني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم متكئًا على قبر فقال:
لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه".
رواه أحمد.
4 - وعن بشير بن
الخصاصية: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين
القبور فقال:
يا صاحب السبتيتين ألقهما".
رواه الخمسة إلا الترمذي.
حديث البراء سكت عنه أبو
داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح على
كلام في المنهال بن عمرو وشيخه زاذان. وقد
أخرجه من هذه الطريق النسائي وابن ماجه.
وحديث عمرو بن حزم قال الحافظ في الفتح:
إسناده صحيح. وحديث بشير سكت عنه أبو داود
والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا خالد بن نمير
فإنه يهم. وأخرجه أيضًا الحاكم وصححه.
قوله: "مستقبل
القبلة" فيه دليل على استحباب الاستقبال في
الجلوس لمن كان منتظرًا دفن الجنازة.
قوله: "لأن يجلس
أحدكم" الخ فيه دليل على أنه لا يجوز الجلوس
على القبر وقد تقدم النهي عن ذلك وذهاب
الجمهور إلى التحريم والمراد بالجلوس القعود
وروى الطحاوي من حديث محمد بن كعب قال: إنما
قال أبو هريرة: "من جلس على قبر يبول عليه
أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة" قال في
الفتح: لكن إسناده ضعيف وقال نافع: كان
ابن عمر يجلس على القبور. ومخالفة الصحابي
لما روي لا تعارض المروي.
قوله: "لا تؤذ صاحب
القبر" هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن
المراد بالجلوس القعود
ج / 4 ص -88-
وفيه بيان علة المنع من الجلوس أعني
التأذي.
قوله: "السبتيتين"
قد تقدم تفسير ذلك في باب تغير الشيب والمراد
بها جلود البقر وكل جلد مدبوغ وإنما قيل لها
السبتية أخذًا من السبت وهو الحلق لأن شعرها
قد حلق عنها. وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز
المشي بين القبور بالنعلين ولا يختص عدم
الجواز بكون النعلين سبتيتين لعدم الفارق
بينها وبين غيرها. وقال ابن حزم: يجوز وطء
القبور بالنعال التي ليست سبتية لحديث: "إن الميت يسمع خفق نعالهم" وخص المنع بالسبتية وجعل هذا جمعًا بين الحديثين وهو وهم لأن سماع
الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي
على قبر أو بين القبور فلا معارضة. وقال
الخطابي: إن النهي عن السبتية لما فيها من
الخيلاء ورد بأن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كان يلبسها كما تقدم في باب تغيير الشيب
باب الدفن ليلا
1 - عن ابن عباس قال:
"مات إنسان كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلا فلما
أصبح أخبروه فقال: ما منعكم أن تعلموني
قالوا: كان الليل فكرهنا وكانت ظلمة أن نشق
عليك فأتى قبره فصلى عليه". رواه البخاري
وابن ماجه. قال البخاري: ودفن أبو بكر
ليلًا.
2 - وعن عائشة قالت:
"ما علمنا بدفن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل
ليلة الأربعاء" قال محمد بن إسحاق:
والمساحي المرور. رواه أحمد.
3 - وعن جابر قال:
"رأى ناس نارًا في المقبرة فأتوها فإذا رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في القبر
يقول:
ناولوني صاحبكم
وإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر". رواه
أبو داود.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضًا مسلم وقد روى نحوه عن جماعة من الصحابة
قدمنا ذكرهم في باب الصلاة على الغائب وقدمنا
شرح هذا الحديث والاختلاف في اسم هذا الإنسان
المبهم هنالك. ودفن أبي بكر بالليل ذكره
البخاري تعليقًا في باب الدفن في الليل ووصله
في آخر كتاب الجنائز في باب موت يوم الاثنين
من حديث عائشة. ولابن أبي شيبة من حديث
القاسم بن محمد قال: دفن أبو بكر ليلا.
ومن حديث عبيد بن السباق أن عمر دفن أبا بكر
بعد العشاء الأخيرة قال الحافظ في الفتح:
وصح أن عليًا دفن فاطمة ليلا. وحديث جابر
سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات
إلا محمد بن مسلم الطائفي ففيه مقال.
وأخرج الترمذي من حديث
ابن عباس نحوه ولفظه: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم دخل قبرًا ليلا فأسرج
له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال:
ج / 4 ص -89-
رحمك اللَّه إن كنت لأواهًا تلاءً للقرآن"
قال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن.
قوله: "صوت
المساحي" هي جمع مسحاة والمسحاة آلة من حديد
يجرف بها الطين مشتقة من السحو وهو كشف وجه
الأرض والميم فيها زائدة.
قوله: "المرور"
جمع مر بفتح الميم بعدها راء مهملة وهو
المسحاة على ما في القاموس. وقيل صوت
المسحاة على الأرض.
"والأحاديث"
المذكورة في الباب تدل على جواز الدفن بالليل
وبه قال الجمهور وكرهه الحسن البصري واستدل
بحديث أبي قتادة المتقدم في باب استحباب إحسان
الكفن وفيه: "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى
عليه" وأجيب عنه أن الزجر منه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم إنما كان لترك الصلاة لا للدفن
بالليل أو لأجل أنهم كانوا يدفنون بالليل
لرداءة الكفن فالزجر إنما هو لما كان الدفن
بالليل مظنة إساءة الكفن كما تقدم فإذا لم يقع
تقصير في الصلاة على الميت وتكفينه فلا بأس
بالدفن ليلًا. وقد قيل في تعليل كراهة الدفن
بالليل أن ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل
ولم يصح ما يدل على ذلك.
باب الدعاء
للميت بعد دفنه
1 - عن عثمان قال:
"كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا
فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال:
استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن
يسئل".
رواه أبو داود.
2 - وعن راشد بن سعد
وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالوا: "إذا
سوى على الميت قبره وانصرف الناس عنه كانوا
يستحبون أن يقال للميت عند قبره يا فلان قل لا
إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه
ثلاث مرات يا فلان قل ربي اللَّه وديني
الإسلام ونبي محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم
ثم ينصرف". رواه سعيد في سننه.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا الحاكم وصححه والبزار وقال: لا يروى
عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا من
هذا الوجه. والأثر المروي عن راشد وضمرة
وحكيم ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه وراشد
المذكور شهد صفين مع معاوية ضعفه ابن حزم وقال
الدارقطني: يعتبر به. والثلاثة كلهم من
قدماء التابعين حمصيون. وقد روى نحوه
مرفوعًا من حديث أبي أمامة عند الطبراني وعبد
العزيز الحنبلي في الشافي أنه قال: "إذا
أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن نصنع بموتانا أمرنا
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فقال:
إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على
قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا
فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول يا
فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدًا ثم يقول يا
فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك اللَّه
ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من
الدنيا شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا
عبده ورسوله وأنك رضيت باللَّه ربًا وبالإسلام
دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا فإن
منكرًا ونكيرًا يأخذ
ج / 4 ص -90-
كل واحد بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما يقعدنا
عند من لقن حجته
فقال رجل: يا رسول اللَّه فإن لم يعرف أمه
قال:
ينسبه إلى أمه حواء يا فلان بن حواء"
قال الحافظ في التلخيص: وإسناده صالح وقد
قواه الضياء في أحكامه. وفي إسناده سعيد
الأزدي بيض له أبو حاتم وقال الهيثمي بعد أن
ساقه: في إسناده جماعة لم أعرفهم انتهى.
وفي إسناده أيضًا عاصم بن عبد اللَّه وهو
ضعيف. قال الأثرم: قلت لأحمد هذا الذي
يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا
فلان بن فلانة قال: ما رأيت أحدًا يفعله إلا
أهل الشام حين مات أبو المغيرة روى فيه عن أبي
بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا
يفعلونه وكان إسماعيل ابن عياش يرويه يشير إلى
حديث أبي أمامة انتهى. وقد استشهد في
التلخيص لحديث أبي أمامة بالأثر الذي رواه
سعيد بن منصور وذكر له شواهد أخر خارجة عن
البحث لا حاجة إلى ذكرها.
قوله: "إذا فرغ من
دفن الميت" الخ فيه مشروعية الاستغفار للميت
عند الفراغ من دفنه وسؤال التثبيت له لأنه
يسئل في تلك الحال وفيه دليل على ثبوت حياة
القبر وقد وردت بذلك أحاديث كثيرة بلغت حد
التواتر وفيه أيضًا دليل على أن الميت يسئل في
قبره وقد وردت به أيضًا أحاديث صحيحة في
الصحيحين وغيرهما وورد أيضًا ما يدل على أن
السؤال في القبر مختص بهذه الأمة كما في حديث
زيد بن ثابت عن مسلم إن هذه الأمة تبتلى في
قبورها وبدلك جزم الحكيم الترمذي. وقال ابن
القيم: السؤال عام للأمة وغيرها وليس في
الأحاديث ما يدل على الاختصاص.
قوله: "وعن راشد
وضمرة" هما تابعيان قديمان وكذلك حكيم ابن
عمير وكل الثلاثة من حمص.
قوله: "كانوا
يستحبون" ظاهره إن المستحب لذلك الصحابة
الذين أدركوهم وقد ذهب إلى استحباب ذلك أصحاب
الشافعي.
باب النهي عن
اتخاذ المساجد والسرج في المقبرة
1 - عن أبي هريرة:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال:
قاتل اللَّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد".
متفق عليه.
2 - وعن ابن عباس قال:
"لعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج". رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
الحديث الثاني حسنه
الترمذي وفي إسناده أبو صالح باذام ويقال
باذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب وهو صاحب
الكلبي. وقي قيل إنه لم يسمع من ابن عباس
وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة قال ابن عدي:
ولا أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه. وقد روي
عن يحيى بن سعيد أنه كان يحسن أمره.
قوله: "قاتل اللَّه
اليهود" زاد مسلم والنصارى ومعنى قاتل قتل
وقيل لعن فإنه قد ورد بلفظ اللعن.
قوله: "اتخذوا"
جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب المقاتلة
كأنه قيل ما سبب مقاتلتهم فأجيب بقوله
اتخذوا. قوله: "مساجد" ظاهره أنهم
كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها وقيل هو أعم
من الصلاة عليها وفيها وقد أخرج مسلم:
"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو
عليها" وروى مسلم أيضًا: "
ج / 4 ص -91-
أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال ذلك
في مرضه الذي مات منه قبل موته بخمس وزاد فيه
فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن
ذلك" وفيه دليل على تحريم اتخاذ القبور
مساجد وقد زعم بعضهم إن ذلك إنما كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان ورده ابن
دقيق العيد.
قوله: "لعن اللَّه
زائرات القبور" فيه تحريم زيارة القبور
للنساء وسيأتي الكلام على ذلك.
قوله: "والسرج"
فيه دليل على تحريم اتخاذ السرج على المقابر
لما يفضي إليه ذلك من الاعتقادات الفاسدة كما
عرفت مما تقدم.
باب وصول ثواب
القرب المهداة إلى الموتى
1 - عن عبد اللَّه بن
عمرو: "أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية
أن ينحر مائة بدنة وأن هشام بن العاص نحر حصته
خمسين وأن عمرًا سأل النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم عن ذلك فقال: أما أبوك فلو أقر
بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك". رواه
أحمد.
2 - وعن أبي هريرة:
"أن رجلا قال للنبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم: إن أبي مات ولم يوص أفينفعه أن أتصدق
عنه قال:
نعم".
رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
3 - وعن عائشة: "أن
رجلا قال للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت
فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال:
نعم".
متفق عليه.
4 - وعن ابن عباس:
"أن رجلا قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم: إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت
عنها قال: نعم
قال: فإن لي مخرفًا فأنا أشهدك أني قد تصدقت
به عنها". رواه البخاري والترمذي وأبو
داود والنسائي.
5 - وعن الحسن عن سعد بن
عبادة: "أن أمه ماتت فقال: يا رسول
اللَّه إن أمي ماتت فأتصدق عنها قال:
نعم قلت: فأي الصدقة أفضل قال:
سقي الماء قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة". رواه أحمد
والنسائي.
حديث سعد رجال إسناده
عند النسائي ثقات ولكن الحسن لم يدرك سعدًا
وقد أخرجه أيضًا أبو داود وابن ماجه.
قوله: "نحر حصته
خمسين" إنما كانت حصته خمسين لأن العاص بن
وائل خلف ابنين هشامًا وعمرًا فأراد هشام أن
يفي بنذر أبيه فنحر حصته من المائة التي نذرها
وحصته
ج / 4 ص -92-
خمسون وأراد عمرو أن يفعل كفعل أخيه فسأل
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخبره
أن موت أبيه على الكفر مانع من وصول نفع ذلك
إليه وأنه لو أقر بالتوحيد لأجزأ ذلك عنه
ولحقه ثوابه "وفيه
دليل" على أن نذر الكافر بما هو قربة لا
يلزم إذا مات على كفره وأما إذا أسلم وقد وقع
منه نذر في الجاهلية ففيه خلاف والظاهر أنه
يلزمه الوفاء بنذره لما أخرجه الشيخان من حديث
ابن عمر: "أن عمر قال: يا رسول اللَّه
إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد
الحرام فقال له صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
أوف بنذرك"
وفي ذلك أحاديث يأتي ذكرها في باب من نذر وهو
مشرك من كتاب النذور.
قوله: "نفعه ذلك"
فيه دليل على أن ما فعله الولد لأبيه المسلم
من الصوم والصدقة يلحقه ثوابه.
قوله: "افتلتت"
بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وبعدها لام
مكسورة على صيغة المجهول ماتت فجأة كذا في
القاموس.
وقوله: "نفسها"
بالضم على الأشهر نائب مناب الفاعل.
قوله: "وأراها"
بضم الهمزة بمعنى أظنها.
قوله: "فإن لي
مخرفًا" في رواية مخراف والمخرف والمخراف
الحديقة من النخل أو العنب أو غيرهما.
قوله: "قال سقي
الماء" فيه دليل على أن سقي الماء أفضل
الصدقة. ولفظ أبي داود: "فأي الصدقة
أفضل قال:
الماء فحفروا بئرا
وقال هذه لأم سعد" [ص 142] وأخرج هذا
الحديث الدارقطني في غرائب مالك. وقد أخرج
الموطأ من حديث سعيد بن سعد بن عبادة:
"أنه خرج سعد مع النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم في بعض مغازيه وحضرت أمه الوفاة بالمدينة
فقيل لها أوصي فقالت فيما أوصي والمال مال سعد
فتوفيت قبل أن يقدم سعد" فذكر الحديث. وقد
قيل أن الرجل المبهم في حديث عائشة وفي حديث
ابن عباس هو سعد بن عبادة ويدل على ذلك أن
البخاري أورد بعد حديث عائشة حديث ابن عباس
بلفظ: "أن سعد بن عبادة قال: إن أمي
ماتت وعليها نذر" وكأنه رمز إلى أن المبهم
في حديث عائشة هو سعد.
وأحاديث الباب تدل على
أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما
بدون وصية منهما ويصل إليهما ثوابها فيخصص
بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد وقد ثبت أن ولد
الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص
وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات
القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف
عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها. وقد
اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل يصل إلى
الميت فذهبت المعتزلة إلى أنه لا يصل إليه شيء
واستدلوا بعموم الآية. وقال في شرح الكنز:
إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان
أو صومًا أو حجًا أو صدقة أو قراءة قرآن أو
غير ذلك من جميع أنواع البر ويصل ذلك إلى
الميت وينفعه عند أهل السنة انتهى. والمشهور
من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل
إلى الميت ثواب قراءة القرآن وذهب أحمد بن
حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب
الشافعي أنه يصل كذا ذكره النووي في
الأذكار. وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا
يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور
والمختار الوصول إذا سأل اللَّه إيصال ثواب
قراءته وينبغي الجزم به لأنه دعاء فإذا جاز
الدعاء للميت بما ليس للداعي فلأن يجوز بما هو
له أولى ويبقى الأمر فيه موقوفًا على استجابة
الدعاء وهذا
ج / 4 ص -93-
المعنى
لا يختص بالقراءة بل يجري على سائر الأعمال
والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت
والحي القريب والبعيد بوصية وغيرها. وعلى
ذلك أحاديث كثيرة بل كان أفضل الدعاء أن يدعو
لأخيه بظهر الغيب انتهى.
وقد حكى النووي في شرح مسلم الإجماع على وصول
الدعاء إلى الميت وكذا حكى الإجماع أيضًا على
أن الصدقة نقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد
ذلك بالولد. وحكى أيضًا الإجماع على لحوق
قضاء الدين والحق أنه يخصص عموم الآية بالصدقة
من الولد كما في أحاديث الباب وبالحج من الولد
كما في خبر الخثعمية ومن غير الولد أيضًا كما
في حديث المحرم عن أخيه شبرمة ولم يستفصله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم هل أوصى شبرمة أم لا
وبالعتق من الولد كما وقع في البخاري في حديث
سعد خلافًا للمالكية على المشهور عندهم
وبالصلاة من الولد أيضًا لما روى الدارقطني:
"أن رجلا قال: يا رسول اللَّه إنه كان لي
أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما
بعد موتهما فقال صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك" وبالصيام
من الولد لهذا الحديث. ولحديث عبد اللَّه بن
عمرو المذكور في الباب. ولحديث ابن عباس عند
البخاري ومسلم: "أن امرأة قالت: يا رسول
اللَّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فقال:
أرأيت لو كان
على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها
قالت: نعم قال:
فصومي عن أمك"
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث
بريدة: "أن امرأة قالت: إنه كان على أمي
صوم شهر أفأصوم عنها قال:
صومي عنها" ومن غير
الولد أيضًا لحديث: "من مات وعليه صيام صام
عنه وليه" متفق عليه من حديث عائشة وبقراءة يس من الولد وغيره لحديث:
"اقرؤوا على موتاكم يس" وقد تقدم وبالدعاء من الولد لحديث:
"أو ولد صالح يدعو له" ومن غيره لحديث:
"استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه
الآن يسئل" وقد تقدم. ولحديث: "فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب" ولقوله
تعالى {وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ } ولما ثبت من الدعاء للميت عند الزيارة كحديث بريدة عند مسلم وأحمد
وابن ماجه قال: "كان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى
المقابر أن يقولوا قائلهم السلام عليكم أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء
اللَّه بكم لاحقون نسأل اللَّه لنا ولكم
العافية" وبجميع ما يفعله الولد لوالديه من
أعمال البر لحديث:
"ولد الإنسان من سعيه" وكما تخصص هذه الأحاديث الآية المتقدمة كذلك يخصص حديث أبي هريرة
عند مسلم وأهل السنن قال: "قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
إذا مات الإنسان انقطع عمله
إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو
ولد صالح يدعو له" فإن ظاهره أنه لا ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاثة كائنًا من كان.
وقد قيل إنه يقاس على هذه المواضع التي وردت
بها الأدلة غيرها فيلحق الميت كل شيء فعله
غيره. وقال في شرح الكنز: إن الآية منسوخة
بقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ } وقيل الإنسان أريد به الكافر وأما المؤمن فله ما سعى إخوانه.
وقيل ليس له من طريق العدل وهو له من طريق
الفضل وقيل اللام بمعنى على كما في قوله تعالى
{وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ } أي وعليهم انتهى.
ج / 4 ص -94-
باب تعزية المصاب وثواب صبره وأمره به وما
يقول لذلك.
1 - عن عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن
حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
"ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه اللَّه عز وجل من حلل الكرامة
يوم القيامة".
رواه ابن ماجه.
2 - وعن الأسود عن عبد
اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال: "من
عزى مصابًا فله مثل أجره".
رواه ابن ماجه
والترمذي.
3 - وعن الحسين بن علي
عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
"ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن قدم
عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدد اللَّه
تبارك وتعالى له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم
أصيب".
رواه أحمد وابن ماجه.
حديث عمرو بن حزم رواه
ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا
خالد بن مخلد حدثني قيس أبو عمارة مولى
الأنصار قال: سمعت عبد اللَّه بن أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم فساقه وهؤلاء كلهم ثقات
إلا قيسًا أبا عمارة ففيه لين وقد ذكره الحافظ
في التلخيص وسكت عنه. وحديث ابن مسعود أخرجه
أيضًا الحاكم وقال الترمذي: غريب لا نعرفه
إلا من حديث علي بن عاصم. ورواه بعضهم عن
محمد ابن سوقة بهذا الإسناد مثله موقوفًا ولم
يرفعه ويقال أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا
الحديث نقموه عليه انتهى. قال البيهقي:
تفرد به علي بن عاصم وقال ابن عدي: قد رواه
مع علي بن عاصم محمد بن الفضل بن عطية وعبد
الرحمن بن مالك بن مغول. وروي عن إسرائيل
وقيس بن الربيع والثوري وغيرهم. وروى ابن
الجوزي في الموضوعات من طريق نصر بن حماد عن
شعبة نحوه. وقال الخطيب: رواه عبد الحكم
بن منصور والحارث بن عمران الجعفري وجماعة مع
علي بن عاصم وليس شيء منها ثابتًا ويحكى عن
أبي داود قال: عاتب يحيى بن سعيد القطان علي
بن عاصم في وصل هذا الحديث وإنما هو عندهم
منقطع وقال: إن أصحابك الذين سمعوه معك لا
يسندونه فأبى أن يرجع قال الحافظ: ورواية
الثوري مدارها على حماد بن الوليد وهو ضعيف
جدًا وكل المتابعين لعلي بن عاصم أضعف منه
بكثير وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا
طريق إسرائيل فقد ذكرها صاحب الكمال من طريق
وكيع عنه ولم أقف على إسنادها بعد. قال في
التلخيص: وله شاهد أضعف منه من طريق محمد بن
عبد اللَّه العرزمي عن أبي الزبير عن جابر
ساقه ابن الجوزي في الموضوعات وله أيضًا شاهد
آخر من حديث أبي برزة مرفوعًا: "من عزى ثكلى كُسِيَ بردًا في الجنة" قال الترمذي: غريب. ومن شواهده حديث
عمرو بن حزم الذي قبله
ج / 4 ص -95-
قال السيوطي في التعقبات: وأخرج البيهقي
في الشعب عن محمد بن هارون الفأفاء وكان ثقة
صدوقًا قال: "رأيت في المنام النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم حديث علي بن عاصم
الذي يرويه عن ابن سوقة: "من عزى مصابًا
هو عنك قال: نعم"
فكان محمد بن هارون كلما حدث بهذا الحديث
بكى. وقال الذهبي: أبلغ ما شنع به على علي
بن عاصم هذا الحديث وهو مع ضعفه صدوق في نفسه
وله صورة كبيرة في زمانه وقد وثقه جماعة قال
يعقوب بن شيبة: كان من أهل الدين والصلاح
والخير والتاريخ وكان شديد التوقي أنكر عليه
كثرة الغلط مع تماديه على ذلك. وقال وكيع:
ما زلنا نعرفه بالخير فخذوا الصحاح من حديثه
ودعوا الغلط. وقال أحمد: أما أنا فأحدث
عنه كان فيه لجاج ولم يكن متهما. وقال
الفلاس: صدوق. وحديث الحسين في إسناده
هشام بن زياد وفيه ضعف عن أمه وهي لا تعرف.
قوله: "من عزى
مصابًا" فيه دليل على أن تعزية المصاب من
موجبات الكسوة من اللَّه تعالى لمن فعل ذلك من
حلل كرامته.
قوله: "فله مثل
أجره" فيه دليل على أنه يحصل للمعزي بمجرد
التعزية مثل أجر المصاب وقد يستشكل ذلك
باعتبار أن المشقة مختلفة ويجاب عنه بجوابات
ليس هذا محل بسطها. وثمرة التعزية الحث على
الرجوع إلى اللَّه تعالى ليحصل الأجر. قال
في البحر: والمشروع مرة واحدة لقوله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم: "التعزية
مرة" انتهى. قال الهادي والقاسم والشافعي: وهي بعد الدفن أفضل لعظم
المصاب بالمفارقة. وقال أبو حنيفة
والثوري: إنما هي قبله لقوله صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
"فإذا وجب فلا تبكين باكية"
أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي
وابن حبان والحاكم والمراد بالوجوب دخول القبر
كما وقع في رواية لأحمد ولأن وقت الموت حال
الصدمة الأولى كما سيأتي والتعزية تسلية
فينبغي أن يكون وقت الصدمة التي يشرع الصبر
عندها.
قوله: "فأعطاه مثل
أجرها يوم أصيب" فيه دليل على أن استرجاع
المصاب عند ذكر المصيبة يكون سببًا لاستحقاقه
لمثل الأجر الذي كتبه اللَّه له في الوقت الذي
أصيب فيه بتلك المصيبة وإن تقادم عهدها ومضت
عليها أيام طويلة والاسترجاع هو قول القائل
إنا للَّه وإنا إليه راجعون.
4 - وعن أنس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
إنما الصبر عند الصدمة الأولى". رواه الجماعة.
5 - وعن جعفر بن محمد عن
أبيه عن جده قال: "لما توفي رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم وجاءت التعزية
سمعوا قائلا يقول: إن في اللَّه عزاء من كل
مصيبة وخلفًا من كل هالك ودركًا من كل فائت
فباللَّه فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من
حرم الثواب". رواه الشافعي.
6 - وعن أم سلمة قالت:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يقول:
ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا للَّه وإنا
إليه راجعون اللَّهم أجرني في مصيبتي
ج / 4 ص -96-
وأخلف لي خيرًا منها إلا أجره اللَّه في مصيبته
وأخلف له خيرًا منها
قالت: فلما توفي أبو سلمة قالت: من خير من
أبي سلمة صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قالت: ثم عزم اللَّه لي فقلتها
اللَّهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها
قالت: فتزوجت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
حديث جعفر بن محمد في
إسناده القاسم بن عبد اللَّه بن عمر وهو متروك
وقد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال
أحمد أيضًا: كان يضع الحديث ورواه الحاكم عن
أنس في مستدركه وصححه وفي إسناده عباد بن عبد
الصمد وهو ضعيف جدًا وزاد: فقال أبو بكر
وعمر هذا الخضر.
قوله: "إنما
الصبر عند الصدمة الأولى"
في رواية للبخاري:
"عند أول صدمة"
ونحوها لمسلم. والمعنى إذا وقع الثبات أول
شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو
الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر وأصل
الصدمة ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة
الواردة على القلب. وقال الخطابي: المعنى
إن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند
مفاجأة المصيبة بخلاف ما بعد ذلك. وقال
غيره: إن المراد لا يؤجر على المصيبة لأنها
ليست من صنعه وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل
صبره. وأول الحديث: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر
فقال:
اتقي اللَّه واصبري فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأتت باب
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلم تجد عنده
بوابين فقالت: لم أعرفك يا رسول اللَّه
فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
قوله: "إن في اللَّه
عزاء من كل مصيبة" الخ فيه دليل على أنه
تستحب التعزية لأهل الميت بتعزية الخضر عليه
السلام وأصل العزاء في اللغة الصبر الحسن
والتعزية التصبر وعزاه صبره فكل ما يجلب
للمصاب صبرًا يقال له تعزية بأي لفظ كان ويحصل
به للمعزي الأجر المذكور في الأحاديث السابقة
وأحسن ما يعزى به ما أخرجه البخاري ومسلم من
حديث أسامة بن زيد قال: "كنا عند النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى
بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها أو ابنًا لها
في الموت فقال للرسول: ارجع إليها وأخبرها
إن للَّه ما أخذ وللَّه ما أعطى وكل شيء عنده
بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب" الحديث
وسيأتي وهذا لا يختص بالصغير باعتبار السبب
لأن كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك ولو سلم
أن أول الحديث يختص بمن مات له صغير كان الأمر
بالصبر والاحتساب المذكور آخر الحديث غير مختص
به.
قوله: "اللَّهم
أجرني" قال القاضي: يقال أجرني بالقصر
والمد حكاهما صاحب الأفعال. قال الأصمعي:
وأكثر أهل اللغة قالوا هو مقصور لا يمد ومعنى
أجره اللَّه أعطاه أجره وجزاه صبره وهمه في
مصيبته.
قوله: "وأخلف لي"
قال النووي: هو بقطع الهمزة وكسر اللام.
قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد
أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف اللَّه
عليك أي رد عليك مثله فإن ذهب مالًا يتوقع
مثله بأن ذهب والد أو عم قيل له خلف
ج / 4 ص -97-
اللَّه عليك بغير ألف أي كان اللَّه خليفة
منه عليك.
قوله: "إلا أجره
اللَّه" قال النووي: هو بقصر الهمزة ومدها
والقصر أفصح وأشهر كما سبق.
قوله "ثم عزم اللَّه
لي فقلتها" أي خلق فيَّ عزمًا.
باب صنع الطعام
لأهل الميت وكراهته منهم للناس
1 - عن عبد اللَّه بن
جعفر قال: "لما جاء نعي جعفر حين قتل قال
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم".
رواه الخمسة إلا النسائي.
2 - وعن جرير بن عبد
اللَّه البجلي قال: "كنا نعد الاجتماع إلى
أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من
النياحة".
رواه أحمد.
3 - وعن أنس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا عقر في الإسلام". رواه أحمد وأبو داود. وقال: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون
عند القبر بقرة أو شاة في الجاهلية.
حديث عبد اللَّه بن جعفر
أخرجه أيضًا الشافعي وصححه ابن السكن وحسنه
الترمذي وأخرجه أيضًا أحمد والطبراني وابن
ماجه من حديث أسماء بنت عميس وهي والدة عبد
اللَّه بن جعفر وحديث جرير أخرجه أيضًا ابن
ماجه وإسناده صحيح وحديث أنس سكت عنه أبو داود
والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح.
قوله: "اصنعوا لآل
جعفر" فيه مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت
مما يحتاجون إليه من الطعام لاشتغالهم عن
أنفسهم بما دهمهم من المصيبة قال الترمذي:
وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل
الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة وهو قول الشافعي
انتهى.
قوله: "كنا نعد
الاجتماع إلى أهل الميت" الخ يعني أنهم
كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه
وأكل الطعام عندهم نوعًا من النياحة لما في
ذلك من التثقيل عليهم وشغلتهم مع ما هم فيه من
شغلة الخاطر بموت الميت وما فيه من مخالفة
السنة لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت
طعامًا فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام
لغيرهم.
قوله: "لا عقر في
الإسلام" فيه دليل على عدم جواز العقر في
الإسلام كما كان في الجاهلية قال الخطابي:
كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل
الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان
يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف فنحن نعقرها
عند قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون
مطعمًا بعد مماته كما كان مطعمًا في حياته
قال: ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا
عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبًا
ومن لم يعقر عنده حشر راجلًا انتهى. وهذا
إنما يتم على فرض أنهم كانوا يعقرون الإبل فقط
لا على ما نقله أبو داود عن عبد الرزاق أنهم
كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة.
ج / 4 ص -98-
باب ما جاء في البكاء على الميت وبيان المكروه
منه
1 - عن جابر قال:
"أصيب أبي يوم أُحد فجعلت أبكي فجعلوا
ينهوني ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
تبكين أولا تبكين ما زالت الملائكة تظله
بأجنحتها حتى رفعتموه".
متفق عليه.
2 - وعن ابن عباس قال:
"ماتت زينب بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه
فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
بيده وقال:
مهلا يا عمر ثم قال:
إياكن ونعيق الشيطان ثم قال:
إنه مهما كان من العين والقلب فمن اللَّه عز
وجل ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن
الشيطان".
رواه أحمد.
حديث ابن عباس فيه علي
بن زيد وفيه كلام وهو ثقة وقد أشار إلى الحديث
الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
قوله: "فجعلت
أبكي" في لفظ للبخاري: "فجعلت أكشف
الثوب عن وجهه أبكي" وفي لفظ آخر له:
"فذهبت أريد أن أكشف عنه فنهاني قومي ثم
ذهبت أكشف عنه فنهاني قومي".
قوله: "ينهوني" في
رواية للبخاري: "وينهوني".
قوله: "ورسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا ينهاني" فيه
دليل على جواز البكاء الذي لا صوت معه وسيأتي
تحقيق ذلك.
قوله: "فجعلت عمتي
فاطمة تبكي" قال في الفتح: هي شقيقة أبيه
عبد اللَّه بن عمرو. وفي لفظ للبخاري:
"فسمع صوت نائحة فقال: من هذه فقالوا:
بنت عمرو أو أخت عمرو" والشك من سفيان
والصواب بنت عمرو ووقع في الإكليل للحاكم
تسميتها هند بنت عمرو فلعل لها اسمين أو
أحدهما اسمها والآخر لقبها أو كانتا جميعًا
حاضرتين.
قوله: "تبكين أو لا
تبكين" قيل هذا شك من الراوي هل استفهم أو
نهي والظاهر أنه ليس بشك وإنما المراد به
التخيير والمعنى أنه مكرم بصنيع الملائكة
وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه ومن كان بهذه
المثابة تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن
يبكى عليه بل يفرح بما صار إليه. وفيه إذن
بالبكاء المجرد مع الإرشاد إلى أولوية الترك
لمن كان بهذه المنزلة.
قوله: "إياكن ونعيق
الشيطان" هو النواح والصراخ المنهي عنه
بالأحاديث الآتية.
قوله: "إنه مهما كان
من العين والقلب" الخ فيه دليل على جواز
البكاء المجرد عما لا يجوز من فعل اليد كشق
الجيب واللطم ومن فعل اللسان كالصراخ ودعوى
الويل والثبور ونحو ذلك.
3 - وعن ابن عمر قال:
"اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعوده مع عبد
الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه
بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال:
قد قضى
ج / 4 ص -99-
فقالوا: لا يا رسول اللَّه فبكى رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلما رأى
القوم بكاءه بكوا قال: ألا تسمعون أن اللَّه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب
بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم".
4 - وعن أسامة بن زيد
قال: "كنا عند النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن
صبيًا لها في الموت فقال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
ارجع إليها فأخبرها أن للَّه ما أخذ وله ما
أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر
ولتحتسب فعاد الرسول فقال: إنها أقسمت لتأتينها قال: فقام النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وقام معه سعد بن عبادة
ومعاذ بن جبل قال: فانطلقت معهم فرفع إليه
الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه
فقال سعد: ما هذا يا رسول اللَّه قال:
هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده وإنما
يرحم اللَّه من عباده الرحماء".
متفق عليهما.
قوله "اشتكى" أي ضعف
وشكوى بغير تنوين.
قوله: "فلما دخل
عليه" زاد مسلم: "فاستأخر قومه من حوله
حتى دنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وأصحابه الذين معه".
قوله: "وجده في
غشية" قال النووي: بفتح الغين وكسر الشين
المعجمتين وتشديد الياء قال القاضي: هكذا
رواية الأكثرين قال: وضبطه بعضهم بإسكان
الشين وتخفيف الياء. وفي رواية البخاري:
"في غاشية" وكله صحيح وفيه قولان أحدهما
من يغشاه من أهله والثاني ما يغشاه من كرب
الموت.
قوله: "فلما رأى
القوم بكاءه بكوا" هذا فيه إشعار بأن هذه
القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لأن عبد الرحمن بن عوف
كان معهم في هذه ولم يعترض بمثل ما اعترض به
هناك فدل على أنه تقرر عندهم العلم بأن مجرد
البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا
يضر.
قوله: "ألا
تسمعون" لا يحتاج إلى مفعول لأنه جعل كالفعل
اللازم أي لا توجدون السماع وفيه إشارة إلا
أنه فهم من بعضهم الإنكار فبين لهم الفرق بين
الحالتين.
قوله: "إن اللَّه"
بكسر الهمزة لأنه ابتداء كلام وفيه دليل على
جواز البكاء والحزن اللذين لا قدرة للمصاب على
دفعهما.
قوله: "ولكن يعذب
بهذا" أي إن قال سوءًا أو يرحم إن قال خيرًا
ويحتمل أن يكون معنى قوله ويرحم أي إن لم ينفذ
الوعيد.
قوله: "إحدى
بناته" هي زينب كما وقع عند ابن أبي شيبة.
قوله: "إن صبيًا
لها" قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع وهو
من زينب وفيه نظر لأن الزبير بن بكار وغيره من
أهل العلم بالأخبار ذكروا أن عليًا المذكور
عاش حتى ناهز الحلم وأن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة وهذا
لا يقال في حقه صبيًا عرفًا وإن جاز من حيث
اللغة. وفي الأنساب للبلازري أن عبد اللَّه
بن عثمان بن عفان
ج / 4 ص -100-
من رقية بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم لما مات وضعه النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم في حجره وقال:
"إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء". وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال: ثقل ابن لفاطمة فبعثت
إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فذكر نحو
حديث الباب وفيه مراجعة سعد بن عبادة في
البكاء فعلى هذا الابن المذكور محسن ابن علي
وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرًا
في حياة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فهذا
أولى إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن
المرسلة زينب لكن الصواب في حديث الباب أن
المراسلة زينب كما قال الحافظ وأن الولد صبية
كما في مسند أحمد وكذا أخرجه أبو سعيد ابن
الأعرابي في معجمه. ويدل على ذلك ما عند أبي
داود بلفظ: "إن ابنتي أو ابني"
وفي رواية:
"إن ابنتي قد حضرت".
قوله: "إن للَّه ما
أخذ" قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان
متأخرًا في الواقع لما يقتضيه المقام والمعنى
أن الذي أراد اللَّه أن يأخذ هو الذي كان
أعطاه فإن أخذه أخذ ما هو له فلا ينبغي الجزع
لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا
استعيدت منه ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء
إعطاء الحياة لمن بقي بعد الموت أو ثوابهم على
المصيبة أو ما هو أعم من ذلك. وما في
الموضعين مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والعائد
محذوف.
قوله: "وكل شيء عنده
بأجل مسمى" أي كل من الأخذ والإعطاء أو من
الأنفس أو ما هو أعم من ذلك وهي جملة ابتدائية
معطوفة على الجمل المذكورة ويجوز في كل النصب
عطفًا على اسم أن فينسحب التأكيد عليه ومعنى
العندية العلم فهو من مجاز الملازمة والأجل
يطلق على الحد الأخير وعلى مطلق العمر.
قوله: "مسمى" أي
معلوم أو مقدر أو نحو ذلك.
قوله: "ولتحتسب"
أي تنو بصبرها طلب الثواب من ربها.
قوله: "ونفسه
تقعقع" بفتح التاء والقافين والقعقعة حكاية
صوت الشن اليابس إذا حرك.
قوله: "كأنها في
شنة" بفتح الشين وتشديد النون القربة الخلقة
اليابسة شبه البدن بالجلد اليابس وحركة الروح
فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها.
قوله: "ففاضت
عيناه" أي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
وقد صرح به في رواية شعبة.
قوله: "هذه رحمة"
أي الدمعة أثر رحمة وفيه دليل على جواز ذلك
وإنما المنهي عنه الجزع وعدم البصر.
قوله: "وإنما يرحم
اللَّه من عباده الرحماء" الرحماء جمع رحيم
وهو من صيغ المبالغة ومقتضاه أن رحمة اللَّه
تعالى تختص لمن اتصف بالرحمة وتحقق بها بخلاف
من فيه أدنى رحمة لكن ثبت عند أبي داود وغيره
من حديث عبد اللَّه بن عمرو: "الراحمون
يرحمهم الرحمن" والراحمون جمع راحم فيدخل
فيه من فيه أدنى رحمة. ومن في قوله من عباده
بيانية وهي حال من المفعول قدمت ليكون أوقع.
5 - وعن عائشة: "أن
سعد بن معاذ لما مات حضره رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر قالت:
فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من
بكاء عمر وأنا في حجرتي". رواه أحمد.
6 - وعن ابن عمر:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لما قدم من أُحد سمع
ج / 4 ص -101-
نساء من عبد الأشهل يبكين على هلكاهن
فقال: لكن حمزة لا بواكي له فجئن نساء
الأنصار فبكين على حمزة عنده فاستيقظ رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال:
ويحهن أيتن ههنا يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن
ولا يبكين على هالك بعد اليوم".
رواه أحمد وابن ماجه.
7 - وعن جابر بن عتيك:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
جاء يعود عبد اللَّه بن ثابت فوجده قد غلب
فصاح به فلم يجبه فاسترجع فقال: غلبنا عليك
يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن
عتيك يسكتهن فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية
قالوا: وما الوجوب يا رسول اللَّه قال:
الموت".
رواه أبو داود
والنسائي.
حديث عائشة وابن عمر
أشار إليهما الحافظ في التلخيص وسكت عنهما
ورجال إسناد حديث ابن عمر ثقات إلا أسامة بن
زيد الليثي ففيه مقال. وقد أخرج له مسلم
وحديث جابر بن عتيك أخرجه أيضًا أحمد وابن
حبان والحاكم.
قوله: "وأبو بكر
وعمر" الخ محل الحجة من هذا الحديث تقرير
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهما على
البكاء وعدم إنكاره عليهما مع أنه قد حصل
منهما زيادة على مجرد دمع العين ولهذا فرقت
عائشة وهي في حجرتها بين بكاء أبي بكر وعمر
ولعل الواقع منهما مما لا يمكن دفعه ولا يقدر
على كتمه ولم يبلغ إلى الحد المنهي عنه.
قوله: "ولكن حمزة لا
بواكي له" هذه المقالة منه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم مع عدم إنكاره للبكاء الواقع من
نساء عبد الأشهل على هلكاهن تدل على جواز مجرد
البكاء. وقوله: "ولا يبكين على هالك بعد
اليوم" ظاهره المنع من مطلق البكاء وكذلك
قوله في حديث جابر بن عتيك: "فإذا وجب فلا تبكين باكية" وذلك يعارض ما في الأحاديث المذكورة في الباب من الإذن بمطلق
البكاء بعد الموت ويعارض أيضًا سائر الأحاديث
الواردة في الإذن بمطلق البكاء مما لم يذكره
المصنف كحديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون عند
أبي داود والترمذي وحديث أبي هريرة عند
النسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ: "مر
على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بجنازة
فانتهرهن عمر فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
دعهن يا ابن الخطاب فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب" وحديث بريدة عند مسلم في زيارته صلى اللَّه عليه وآله وسلم قبر أمه
وسيأتي. وحديث أنس عند الشيخين: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ذرفت عيناه
لما جعل ابنه إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه
فقيل له في ذلك فقال:
إنها رحمة
ثم قال: العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" وهو عند الترمذي من حديث جابر بلفظ: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف
فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه
فأخذه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فوضعه
في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن: أتبكي أو
لم تكن نهيت عن البكاء فقال: لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب
ورنة شيطان"
الحديث
ج / 4 ص -102-
قال الترمذي: حسن. فيجمع بين الأحاديث
بحمل النهي عن البكاء مطلقًا ومقيدًا ببعد
الموت على البكاء المفضي إلى ما لا يجوز من
النوح والصراخ وغير ذلك والإذن به على مجرد
البكاء الذي هو دمع العين وما لا يمكن دفعه من
الصوت وقد أرشد إلى هذا الجمع قوله: "ولكن
نهيت عن صوتين" الخ وقوله في حديث ابن عباس
المتقدم:
"إنه مهما كان من العين والقلب فمن اللَّه عز وجل ومن الرحمة"
وقوله في حديث ابن عمر السابق:
"إن اللَّه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن
القلب"
فيكون معنى قوله: "لا يبكين على هالك بعد اليوم" وقوله:
"فإذا وجب فلا تبكين باكية" النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرمه
الشارع. وقيل إنه يجمع بأن الأذن بالبكاء
قبل الموت والنهي عنه بعده ويرد بحديث أبي
هريرة المذكور قريبًا وبحديث عائشة الذي ذكره
المصنف. وبحديث بريدة في قصة زيارته صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لأمه. وبحديث جابر
وابن عباس المذكورين في أول الباب وقيل إنه
يجمع بحمل أحاديث النهي عن البكاء بعد الموت
على الكراهية وقد تمسك بذلك الشافعي فحكي عنه
كراهة البكاء بعد الموت والجمع الذي ذكرناه
أولا هو الراجح.
قوله: "قالوا وما
الوجوب" الخ في رواية لأحمد أن بعض رواة
الحديث قالوا الوجوب إذا دخل قبره والتفسير
المرفوع أصح وأرجح.
باب النهي عن
النياحة والندب وخمش الوجوه ونشر الشعر ونحوه
والرخصة في يسير الكلام من صفة الميت
1 - عن ابن مسعود:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوة
الجاهلية".
2 - وعن أبي بردة قال: "وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه
ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من
أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق
قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فإن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم برئ من الصالقة
والحالقة والشاقة".
3 - وعن المغيرة بن شعبة
قال: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
إنه من نيح عليه يعذب بما نيح عليه".
4 - وعن عمر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي" وفي رواية: "ببعض
بكاء أهله عليه".
5 - وعن ابن عمر: "عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله".
6 - وعن عائشة قالت:
"إنما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
إن اللَّه ليزيد
ج / 4 ص -103-
الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه". متفق على هذه الأحاديث. ولأحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
"الميت يعذب في قبره بما نيح عليه".
قوله: "ليس منا"
أي من أهل سنتنا وطريقتنا وليس المراد به
إخراجه من الدين وفائدة إيراد هذا اللفظ
المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما
يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست
مني أي ما أنت على طريقتي. وحكى عن سفيان
أنه كان يكره الخوض في تأويل هذه اللفظة ويقول
ينبغي أن نمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس
وأبلغ في الزجر وقيل المعنى ليس على ديننا
الكامل أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن
كان معه أصله حكاه ابن العربي قال الحافظ:
ويظهر لي إن هذا النفي يفسره التبرء الذي في
حديث أبي موسى وأصل البراءة الانفصال من الشيء
وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا.
قوله: "من ضرب
الخدود" خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا
فضرب بقية الوجه مثله.
قوله: "وشق
الجيوب" جمع جيب بالجيم وهو ما يفتح من
الثوب ليدخل فيه الرأس والمراد بشقه إكمال
فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط.
قوله: "ودعا بدعوة
الجاهلية" أي من النياحة ونحوها وكذا الندبة
كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور
كما سيأتي.
قوله: "وجع" بكسر
الجيم.
قوله: "في جحر امرأة
من أهله" الخ في رواية لمسلم: "أغمي على
أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد اللَّه تصيح
برنة" ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم:
"أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي
دومة" وذلك يدل على أن الصائحة أم عبد
اللَّه بنت أبي دومة واسمها صفية قاله عمر بن
شبة في تاريخ البصرة.
قوله: "أنا بريء"
قال المهلب: أي ممن فعل ذلك الفعل ولم يرد
نفيه عن الإسلام والبراءة الانفصال كما
تقدم.
قوله: "الصالقة"
بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها
بالبكاء ويقال فيه بالسين بدل الصاد ومنه قوله
تعالى {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وعن ابن الأعرابي الصلق ضرب الوجه والأول أشهر.
قوله: "والحالقة"
هي التي تحلق شعرها عند المصيبة.
قوله: "والشاقة"
هي التي تشق ثوبها. ولفظ مسلم:
"أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق" أي حلق شعره وصلق صوته أي رفعه وخرق ثوبه.
والحديثان يدلان على
تحريم هذه الأفعال لأنها مشعرة بعدم الرضا
بالقضاء.
قوله: "من نيح عليه
يعذب بما نيح عليه" ظاهره وظاهر حديث عمر
وابنه المذكورين بعده إن الميت يعذب ببكاء
أهله عليه وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر هذه
الأحاديث جماعة من السلف منهم عمر وابنه.
وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الأحاديث
وعارضها بقوله
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وروى عنه أبو يعلى أنه قال: تاللَّه لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل
اللَّه فاستشهد فعمدت امرأته سفهًا وجهلًا
فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه
السفيهة. وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية
منهم الشيخ أبو حامد وغيره.
وذهب جمهور العلماء إلى
تأويل هذه الأحاديث لمخالفتها للعمومات
القرآنية وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له
واختلفوا في التأويل فذهب جمهورهم كما قال
النووي
ج / 4 ص -104-
إلى تأويلها بمن أوصى بأن يبكى عليه لأنه
بسببه ومنسوب إليه قالوا وقد كان ذلك من عادة
العرب كما قال طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا
أهله * وشقي عليَّ الجيب يا أم معبد
قال في الفتح: واعترض
بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور
الوصية والحديث دال على أنه إنما يقع عند
الامتثال والجواب أنه ليس في السياق حصر فلا
يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم
يمتثلوا مثلًا انتهى. ومن التأويلات ما حكاه
الخطابي أن المراد أن مبدأ عذاب الميت يقع عند
بكاء أهله عليه وذلك أن شدة بكائهم غالبًا
إنما تقع عند دفنه وفي تلك الحال يسئل ويبتدأ
به عذاب القبر فيكون معنى الحديث على هذا أن
الميت يعذب حال بكاء أهله عليه ولا يلزم من
ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه. قال
الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف ولعل
قائله أخذه من قول عائشة: "إنما قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنه ليعذب
بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه
الآن" أخرجه مسلم. ومنها ما جزم به القاضي
أبو بكر بن الباقلاني وغيره أن الراوي سمع بعض
الحديث ولم يسمع بعضه وإن اللام في الميت
لمعهود معين واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث
عائشة أنها قالت: "يغفر اللَّه لأبي عبد
الرحمن أما إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما
مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على
يهودية" فذكرت الحديث. وأخرج البخاري نحوه
عنها. ومنها أن ذلك يختص بالكافر دون المؤمن
واستدل لذلك بحديث عائشة المذكور في الباب قال
في الفتح: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة
وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل
بما استشعرت من معارضة القرآن. وقال
القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي
بالتخطئة والنسيان وعلى أنه سمع بعضًا أو لم
يسمع بعضًا بعيد لأن الرواة لهذا المعنى من
الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع
إمكان حمله على محمل صحيح. ومنها أن ذلك يقع
لمن أهمل نهي أهله عن ذلك وهو قول داود
وطائفة. قال ابن المرابط: إذا علم المرء
ما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من
شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا
زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل
نفسه لا بفعل غيره بمجرده. ومنها أنه يعذب
بسبب الأمور التي يبكيه أهله بها ويندبونه لها
فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه وذلك
كالشجاعة فيما لا يحل والرياسة المحرمة وهذا
اختيار ابن حزم وطائفة واستدل بحديث ابن عمر
المتقدم بلفظ:
"ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه" وقد رجح هذا الإسماعيلي وقال: قد كثر كلام العلماء في هذه
المسألة وقال كل فيها باجتهاده على حسب ما قدر
له ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه وهو
أنهم كانوا في الجاهلية يغزون ويسبون ويقتلون
وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال
المحرمة فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي
يبكي عليه أهله به لأن الميت يندب بأحسن
أفعاله وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر وهي زيادة
ذنب في ذنوبه يستحق عليها العقاب. ومنها أن
معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله
ويدل على ذلك حديث أبي موسى وحديث النعمان بن
بشير الآتيان. ومنها أن معنى التعذيب تألم
ج / 4 ص -105-
الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها
وهذا اختيار أبي جعفر الطبري ورجحه ابن
المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية
وجماعة من المتأخرين واستدلوا لذلك بما أخرجه
ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم
من حديث قيلة بفتح القاف وسكون الباء التحتية
وفيه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
"فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي
فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد اللَّه لا
تعذبوا موتاكم"
قال الحافظ: وهو حسن الإسناد. وأخرج أبو
داود والترمذي أطرافًا منه. قال الطبري:
ويؤيد ما قال أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض
على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح
وقد وهم المغربي في شرح بلوغ المرام فجعل قول
أبي هريرة هذا حديثًا وصحف الطبري
بالطبراني. ومن أدلة هذا التأويل حديث
النعمان بن بشير الآتي وكذلك حديث أبي موسى
لما فيهما من أن ذلك يبلغ الميت.
قال ابن المرابط: حديث
قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه. واعترضه
ابن رشيد فقال: ليس نصًا وإنما هو محتمل فإن
قوله يستعبر إليه صويحبه ليس نصًا في أن
المراد به الميت بل يحتمل أن يراد به صاحبه
الحي وأن الميت حينئذ يعذب ببكاء الجماعة
عليه. قال في الفتح: ويحتمل أن يجمع بين
هذه التأويلات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن
يقال مثلا من كان طريقته النوح فمشى أهله على
طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنيعه ومن
كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب
به ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم
عنها فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول وإن
كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي ومن
سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية
ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما
يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية
ربهم عز وجل. قال: وحكى الكرماني تفصيلًا
آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال
يوم القيامة فيحمل قوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } على يوم القيامة وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ انتهى. وأنت
خبير بأن الآية عامة لأن الوزر المذكور فيها
واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في
الباب مشتملة على وزر خاص وتخصيص العمومات
القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب
المشهور الذي عليه الجمهور فلا وجه لما وقع من
رد الأحاديث بهذا العموم ولا ملجئ إلى تجشم
المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار
الآية. وأما ما روته عائشة عن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال ذلك في الكافر
أو في يهودية معينة فهو غير مناف لرواية غيرها
من الصحابة لأن روايتهم مشتملة على زيادة
والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي
الحكم عن بقية الأفراد لما تقرر في الأصول من
عدم صحة التخصيص بموافق العام والأحاديث التي
ذكر فيها تعذيب مختص بالبرزخ أو بالتألم أو
بالاستعبار كما في حديث قيلة لا تدل على
اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع منها
لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر
بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره فلا إشكال
من هذه الحيثية وإنما الإشكال في التعذيب بلا
ذنب وهو مخالف لعدل اللَّه وحكمته على فرض عدم
حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى
الحكمة كالوصية من الميت بالنوح
ج / 4 ص -106-
وإهمال نهيهم عنه والرضا به وهذا يؤل إلى
مسألة التحسين والتقبيح والخلاف فيها بين
طوائف المتكلمين معروف ونقول ثبت عن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن الميت
يعذب ببكاء أهله عليه فسمعنا وأطعنا ولا نزيد
على هذا.
واعلم أن النووي حكى
إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد
بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت
ونياحة لا بمجرد دمع العين.
7 - وعن أبي مالك
الأشعري: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن
الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء
بالنجوم والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب
قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من
قطران ودرع من جرب".
رواه أحمد ومسلم.
8 - وعن أبي موسى:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة
واعضداه واناصراه واكاسباه جبذ الميت وقيل له
أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسبها".
رواه أحمد. وفي لفظ:
"ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول واجبلاه
واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه
أهكذا كنت"
رواه الترمذي.
9 - وعن النعمان بن بشير
قال: "أغمي على عبد اللَّه بن رواحة فجعلت
أخته عمرة تبكي واجبلاه وا كذا وا كذا تعدد
عليه فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل
لي أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه". رواه
البخاري.
حديث أبي موسى رواه
أيضًا الحاكم وصححه وحسنه الترمذي. وحديث
النعمان أخرجه البخاري في المغازي من صحيحه
وأخرجه أيضًا مسلم.
قوله: "والطعن في
الأنساب" هو من المعاصي التي يتساهل فيها
العصاة. وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب
والنياحة على الميت" وقد اختلف في توجيه إطلاق الكفر على من فعل هاتين الخصلتين. قال
النووي: فيه أقوال أصحها أن معناهما من
أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية. والثاني أنه
يؤدي إلى الكفر. والثالث كفر النعمة
والإحسان. والرابع أن ذلك في المستحل
انتهى.
قوله: "والاستسقاء
بالنجوم" هو قول القائل مطرنا
ج / 4 ص -107-
بنوء كذا أو سؤال المطر من الأنواء فإن كان
ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول
المطر فهو كفر. وقد ثبت في الصحيح من حديث
ابن عباس: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال: يقول اللَّه أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل
اللَّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما
من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن
بالكوكب"
وإخبار النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأن
هذه الأربع لا تتركها أمته من علامات نبوته
فإنها باقية فيهم على تعاقب العصور وكرور
الدهور لا يتركها من الناس إلا النادر
القليل".
قوله: "الميت يعذب
ببكاء الحي" قد تقدم الكلام عليه.
قوله: "واعضداه"
الخ أي أنه كان لها كالعضد وكان لها ناصرًا
وكاسبًا وكان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق
الحوادث فتعتصم به ومستندًا تستند إليه في
أمورها.
قوله: "يلهزانه"
أن يلكزانه.
وهذه الأحاديث تدل على
تحريم النياحة وهو مذهب العلماء كافة كما قال
النووي إلا ما يروى عن بعض المالكية فإنه
قال: النياحة ليست بحرام واستدل بما أخرجه
مسلم عن أم عطية قالت: "لما نزلت هذه
الآية
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }
قالت: كان منه النياحة قالت: فقلت يا رسول
اللَّه إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في
الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: إلا آل فلان"
وغاية ما فيه الترخيص لأم عطية في آل فلان
خاصة فما الدليل على حل ذلك لغيرها في غير آل
فلان. وللشارع أن يخص من العموم ما شاء وقد
استشكل القاضي عياض هذا الحديث ولا مقتضى لذلك
فإن للشارع أن يخص من شاء بما شاء. وقد ورد
لعن النائحة والمستمعة من حديث أبي سعيد عند
أحمد ومن حديث ابن عمر عند الطبراني والبيهقي
ومن حديث أبي هريرة عند ابن عدي. قال الحافظ
في التلخيص: وكلها ضعيفة. وأخرج مسلم من
حديث أم عطية أيضًا قالت: "أخذ علينا رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مع البيعة
أن لا ننوح فما وفت منا امرأة إلا خمس فذكرت
منهن أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة
وامرأة معاذ وثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم أنه أمر رجلًا أنه ينهى نساء جعفر عن
البكاء كما في البخاري ومسلم والمراد بالبكاء
ههنا النوح كما تقدم.
10 - وعن أنس قال:
"لما ثقل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة: واكرب أبتاه
فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم
فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه يا
أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل
ننعاه فلما دفن قالت فاطمة: أطابت أنفسكم أن
تحثوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم التراب".
رواه البخاري.
11 - وعن أنس: "أن
أبا بكر دخل على النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه
على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه
واصفياه". رواه أحمد.
قوله في حديث أنس
الأول: "واكرب أبتاه" قال في الفتح:
في هذا نظر وقد رواه مبارك بن فضالة عن ثابت
بلفظ: "واكرباه".
قوله: "أطابت
أنفسكم" قال في الفتح: ولسان حال أنس لم
تطب أنفسنا لكن قهرناها امتثالا لأمره. وقد
قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى
أنكرنا قلوبنا. ومثله عن أنس يريد أن تغيرت
عما عهدنا من الألفة والصفاء والرقة لفقدان ما
كان يمدهم به من
ج / 4 ص -108-
التعليم. ويؤخذ من قول فاطمة الخ جواز ذكر
الميت بما هو متصف به إن كان معلومًا. قال
الكرماني: وليس هذا من نوح الجاهلية من
الكذب ورفع الصوت وغيره إنما هو ندبة مباحة
انتهى. وعلى فرض صدق اسم النوح في لسان
الشارع على مثل هذا فليس في فعل فاطمة وأبي
بكر دليل على جواز ذلك لأن الصحابي لا يصلح
للحجية كما تقرر في الأصول. ويحمل ما وقع
منهما على أنهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن
ذلك الفعل ولم ينقل أن ذلك وقع منهما بمحضر
جميع الصحابة حتى يكون كالإجماع منهم على
الجواز لسكوتهم عن الإنكار والأصل أيضًا عدم
ذلك.
باب الكف عن ذكر
مساوي الأموات
1 - عن عائشة قالت:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما
قدموا".
رواه أحمد والبخاري والنسائي.
2 - وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا". رواه أحمد والنسائي. حديث ابن عباس أخرجه عنه بمعناه
الطبراني في الأوسط بإسناد فيه صالح بن نبهان
وهو ضعيف وأخرج نحوه الطبراني في الكبير
والأوسط من حديث سهل بن سعد والمغيرة.
قوله: "لا تسبوا
الأموات" ظاهره النهي عن سب الأموات على
العموم وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث
أنس وغيره أنه قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم
عند ثنائهم بالخير والشر:
"وجبت أنتم شهداء اللَّه في أرضه" ولم ينكر عليهم. وقيل أن اللام في الأموات عهدية والمراد بهم
المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى اللَّه عز
وجل بسبهم ويدل على ذلك قوله في حديث ابن عباس
المذكور:
"لا تسبوا أمواتنا"
وقال القرطبي في الكلام على حديث وجبت: إنه
يحتمل أجوبة: الأول أن الذي كان يحدث عنه
بالسر مستظهرًا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق
أو كان منافقًا أو يحمل النهي على ما بعد
الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه
أو يكون هذا النهي العام متأخرًا فيكون
ناسخًا. قال الحافظ: وهذا ضعيف. وقال
ابن رشيد ما محصله: إن السب يكون في حق
الكافر وفي حق المسلم أما في حق الكافر فيمتنع
إذا تأذى به الحي المسلم وأما المسلم فحيث
تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل
الشهادة عليه وقد يجب في بعض المواضع وقد تكون
مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ مالًا بشهادة زور
ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن
من بيده المال يرده إلى صاحبه والثناء على
الميت بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب
السب انتهى. والوجه تبقية الحديث على عمومه
إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر وجرح
المجروحين من الرواة أحياءً وأمواتًا لإجماع
العلماء على جواز ذلك وذكر ذلك مساوي الكفار
والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. قال
ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن
كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه
الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقًا
معلنًا فلا غيبة له وكذلك الميت انتهى.
ويتعقب
ج / 4 ص -109-
بأن ذكر الرجل بما فيه حال حياته قد يكون
لقصد زجره وردعه عن المعصية أو لقصد تحذير
الناس منه وتنفيرهم وبعد موته قد أفضى إلى ما
قدم فلا سواء وقد عملت عائشة رواية هذا الحديث
بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه
وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما
روى ذلك عنها عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة
ورواه ابن حبان من وجه آخر وصححه والمتحري
لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن نشر
مثالب الأموات وسب من لا يدري كيف حاله عند
بارئ البريات ولا ريب أن تمزيق عرض من قدم على
من قدم وجثا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر
أعلم مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه
أحموقة لا تقع لمتيقظ ولا يصاب بمثلها متدين
بمذهب ونسأل اللَّه السلامة بالحسنات ويتضاعف
عند وبيل عقابها الحسرات. اللَّهم اغفر لنا
تفلتات اللسان والقلم في هذه الشعاب والهضاب
وجنبنا عن سلوك هذه المسالك التي هي في
الحقيقة مهالك ذوي الألباب.
قوله: "فإنهم قد
أفضوا إلى ما قدموا" أي وصلوا إلى ما عملوا
من خير وشر والربط بهذه العلة من مقتضيات
الحمل على العموم.
قوله: "فتؤذوا
الأحياء" أي فيتسبب عن سبهم أذية الأحياء من
قرابتهم ولا يدل هذا على جواز سب الأموات عند
عدم تأذي الأحياء كمن لا قرابة له أو كانوا لا
يبلغهم ذلك لأن سب الأموات منهي عنه للعلة
المتقدمة ولكونه من الغيبة التي وردت الأحاديث
بتحريمها فإن كان سببًا لأذية الأحياء فيكون
محرمًا من جهتين وإلا كان محرمًا من جهة.
وقد أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
اذكروا محاسن أمواتكم وكفوا عن مساويهم" وفي إسناده عمران بن أنس المكي وهو منكر الحديث كما قال
البخاري. وقال العقيلي: لا يتابع على
حديثه. وقال الكرابيسي: حديثه ليس
بالمعروف. وأخرج أبو داود عن عائشة قالت:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه"
وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على هذا
الحديث.
باب استحباب
زيارة القبور للرجال دون النساء وما يقال عند
دخولها
1 - عن بريدة قال: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد
بزيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر
الآخرة".
رواه الترمذي وصححه.
2 - وعن أبي هريرة
قال: "زار النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال:
استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي
واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا
القبور فإنها تذكر الموت".
رواه الجماعة.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا مسلم وأبو داود وابن حبان والحاكم
والحديث الثاني عزاه المصنف إلى الجماعة بدون
استثناء ولم أجده في البخاري ولا عزاه غيره
إليه فينظر. وقد أخرجه
ج / 4 ص -110-
أيضًا الحاكم.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
مسعود عند ابن ماجه والحاكم وفي إسناده أيوب
بن هانئ مختلف فيه. وعن أبي سعيد الخدري عند
الشافعي وأحمد والحاكم. وعن أبي ذر عند
الحاكم وسنده ضعيف. وعن علي بن أبي طالب
عليه السلام عند أحمد. وعن عائشة عند ابن
ماجه.
وهذه الأحاديث فيها
مشروعية زيارة القبور وقد حكى الحازمي [عقد
الحازمي في كتابه الاعتبار لذلك بابًا قال باب
النهي عن زيارة القبور ثم الرخصة فيها وذكر
الأحاديث الواردة في الباب ثم قال في آخر
الباب: وزيارة القبور مأذون فيها للرجال
اتفق على ذلك أهل العلم قاطبة اهـ.]
والعبدري والنووي اتفاق أهل العلم على أن
زيارة القبور للرجال جائزة. قال الحافظ:
كذا أطلقوه وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره
رووا عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي
أنهم كرهوا ذلك مطلقًا حتى قال الشعبي: لولا
نهي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لزرت قبر
ابنتي فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر
عليه الأمر بعد هؤلاء وكأن هؤلاء لم يبلغهم
الناسخ واللَّه أعلم. وذهب ابن حزم إلى أن
زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر
لورود الأمر به وهذا يتنزل على الخلاف في
الأمر بعد النهي هل يفيد الوجوب أو مجرد
الإباحة فقط والكلام في ذلك مستوفى في
الأصول.
قوله: "فقد أذن
لمحمد" الخ فيه دليل على جواز زيارة قبر
القريب الذي لم يدرك الإسلام. قال القاضي
عياض: سبب زيارته صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة
قبرها. ويؤيده قوله صلى اللَّه عليه وآله
وسلم في آخر الحديث:
"فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت".
قوله: "فلم يؤذن لي" فيه دليل على عدم جواز الاستغفار
لمن مات على غير ملة الإسلام.
3 - وعن أبي هريرة:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لعن زوارات القبور". رواه أحمد وابن ماجه
والترمذي وصححه.
4 - وعن عبد اللَّه بن
أبي مليكة: "أن عائشة أقبلت ذات يوم من
المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين
أقبلت قالت: من قبر أخي عبد الرحمن فقلت
لها: أليس كان نهى رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم عن زيارة القبور قالت: نعم
كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر
بزيارتها". رواه الأثرم في سننه.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا ابن حبان في صحيحه. والحديث الثاني
أخرجه أيضًا الحاكم وأخرجه أيضًا ابن ماجه عن
عائشة مختصرًا: "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم رخص في زيارة القبور".
ـ وفي الباب ـ عن حسان
عند أحمد وابن ماجه والحاكم. وعن ابن عباس
عند أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان
والحاكم وفي إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وهو
ضعيف.
ـ وفي الباب ـ أيضًا
أحاديث تدل على تحريم إتباع الجنائز للنساء
فتحريم زيارة القبور تؤخذ منها بفحوى الخطاب
منها عن ابن عمرو عند أبي داود والحاكم:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رأى
فاطمة ابنته فقال:
ما أخرجك من بيتك
فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم
فقال لها:
فلعلك بلغت معهم الكدى قالت: معاذ اللَّه وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر
فقال: لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديدًا في ذلك فسألت
ج / 4 ص -111-
ربيعة: ما الكدى فقال: القبور فيما
أحسب" وفي رواية: "لو
بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد
أبيك"
قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم
يخرجاه. قال ابن دقيق العيد: وفيما قاله
الحاكم عندي نظر فإن رواية ربيعة بن سيف لم
يخرج له الشيخان في الصحيح شيئًا فيما أعلم.
وعن أم عطية عند الشيخين قالت: "نهينا عن
إتباع الجنائز ولم يعزم علينا" وعنها أيضًا
عند الطبراني وفيه: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم نهاهن أن يخرجن في جنازة"
وقد ذهب إلى كراهة الزيارة للنساء جماعة من
أهل العلم وتمسكوا بأحاديث الباب واختلفوا في
الكراهة هل هي كراهة تحريم أو تنزيه وذهب
الأكثر إلى الجواز إذا أمنت الفتنة واستدلوا
بأدلة منها دخولهن تحت الإذن العام بالزيارة
ويجاب عنه بأن الإذن العام مخصص بهذا النهي
الخاص المستفاد من اللعن أما على مذهب الجمهور
فمن غير فرق بين تقدم العام وتأخره ومقارنته
وهو الحق. وأما على مذهب البعض القائلين بأن
العام المتأخر ناسخ فلا يتم الاستدلال به إلا
بعد معرفة تأخره. ومنها ما رواه مسلم عن
عائشة قالت: "كيف أقول يا رسول اللَّه إذا
زرت القبور قال:
قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين"
الحديث. ومنها ما أخرجه البخاري: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مر بامرأة
تبكي عند قبر فقال:
اتقي اللَّه واصبري قالت: إليك عني"
الحديث ولم ينكر عليها الزيارة. ومنها ما
رواه الحاكم: "أن فاطمة بنت رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم كانت تزور قبر عمها
حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده" قال
القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو
للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من
المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من
تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح
ونحو ذلك وقد يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع
من الإذن لهن لأن تذكر الموت يحتاج إليه
الرجال والنساء انتهى. وهذا الكلام هو الذي
ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب
المتعارضة في الظاهر.
5 - وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أتى
المقبرة فقال:
السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء
اللَّه بكم لاحقون".
رواه أحمد ومسلم والنسائي. ولأحمد من حديث عائشة مثله
وزاد: "اللَّهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم"
.
6 - وعن بريدة قال:
"كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم
السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء اللَّه بكم
للاحقون نسأل اللَّه لنا ولكم العافية".
رواه أحمد ومسلم وابن
ماجه.
حديث عائشة أخرجه أيضًا
مسلم بلفظ:
"قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه
المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء
اللَّه بكم للاحقون"
ج / 4 ص -112-
وأخرج أيضًا عنها أنها قالت: "كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كلما كان
ليلتها منه يخرج إلى البقيع من آخر الليل
فيقول
السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون
غدًا مؤجلون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون
اللَّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".
قوله: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" دار قوم منصوب على
النداء أي يا أهل فحذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه وقيل منصوب على الاختصاص قال صاحب
المطالع: ويجوز جره على البدل من الضمير في
عليكم. قال الخطابي: إن اسم الدار يقع على
المقابر قال: وهو صحيح فإن الدار في اللغة
تقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير
المأهول.
قوله: "وإنا إن شاء
اللَّه بكم لاحقون" التقييد بالمشيئة على
سبيل التبرك وامتثال قول اللَّه تعالى
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ }
وقيل المشيئة عائدة إلى الكون معهم في تلك
التربة وقيل غير ذلك. والأحاديث فيها دليل
على استحباب التسليم على أهل القبور والدعاء
لهم بالعافية. قال الخطابي وغيره: إن
السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم
السلام على عليكم بخلاف ما كانت الجاهلية عليه
كقولهم.
عليك سلام اللَّه قيس بن
عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما
باب ما جاء في
الميت ينقل أو ينبش لغرض صحيح
1 - عن جابر قال:
"أتى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عبد
اللَّه بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من
ريقه وألبسه قميصه" وفي رواية: "أتى
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عبد
اللَّه بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به
فأخرج فوضعه على ركبتيه فنفث فيه من ريقه
وألبسه قميصه فاللَّه أعلم وكان كسا عباسًا
قميصًا قال سفيان: فيرون النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم ألبس عبد اللَّه قميصه مكافأة
بما صنع". رواهما البخاري.
2 - وعن جابر قال:
"أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
بقتلى أُحد أن يردوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا
إلى المدينة". رواه الخمسة وصححه
الترمذي.
3 - وعن جابر قال:
"دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته
فجعلته في قبر على حدة".
رواه البخاري
والنسائي. ولمالك في الموطأ أنه سمع غير
واحد يقول: إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد
ماتا بالعقيق فحملا إلى المدينة ودفنا بها.
ولسعيد في سننه عن شريح بن عبيد الحضرمي أن
رجالا قبروا صاحبًا لهم لم يغسلوه ولم يجدوا
له كفنًا ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه
ج / 4 ص -113-
فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل
وكفن وحنط ثم صلي عليه.
قوله: "عبد اللَّه
بن أُبيِّ" يعني ابن سلول وهو رأس المنافقين
ورئيسهم.
قوله: "بعد ما
دفن" كان أهل عبد اللَّه بن أُبيِّ بادروا
إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته
فأمر بإخراجه وفيه دليل على جواز إخراج الميت
من قبره إذا كان في ذلك مصلحة له من زيادة
البركة عليه ونحوها.
قوله: "فاللَّه
أعلم" لفظ البخاري واللَّه أعلم بالواو وكأن
جابرًا التبست عليه الحكمة في صنعه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بعبد اللَّه ذلك بعد ما تبين
نفاقه.
قوله: "وكان كسا
عباسًا" يعني ابن عبد المطلب عم النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وذلك يوم بدر لما أتي
بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب
فوجدوا قميص عبد اللَّه بن أُبيِّ فكساه النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم إياه فلذلك ألبسه
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قميصه هكذا
ساقه البخاري في الجهاد فيمكن أن يكون هذا هو
السبب في إلباسه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قميصه ويمكن أن يكون السبب ما أخرجه البخاري
أيضًا في الجنائز أن ابن عبد اللَّه المذكور
قال: "يا رسول اللَّه ألبس أبي قميصك الذي
يلي جلدك" وفي رواية أنه قال: "أعطني
قميصك أكفنه فيه" ويمكن أن يكون السبب هو
المجموع للسؤال والمكافأة ولا مانع من ذلك.
قوله: "وكانوا نقلوا
إلى المدينة" فيه جواز إرجاع الشهيد إلى
الموضع الذي أصيب فيه بعد نقله منه وليس في
هذا أنهم كانوا قد دفنوا بالمدينة ثم أخرجوا
من القبور ونقلوا.
قوله: "فلم تطب
نفسي" فيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر
يتعلق بالحي لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت
آخر معه وقد بين جابر ذلك بقوله فلم تطب نفسي
ولكن هذا إن ثبت إن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم أذن له بذلك أو قرره عليه وإلا فلا
حجة في فعل الصحابي والرجل الذي دفن معه هو
عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري وكان
صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو.
وروى ابن إسحاق في المغازي: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال: اجمعوا بينهما
فإنهما كانا متصادقين في الدنيا".
قوله: "حتى
أخرجته" في لفظ للبخاري: "فاستخرجته بعد
ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هنية في
أذنه" وظاهر هذا يخالف ما في الموطأ عن عبد
الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن
الجموح وعبد اللَّه بن عمرو يعني والد جابر
الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما وكانا في
قبر واحد فحفر عنهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما
ماتا بالأمس وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما
ست وأربعون سنة. وقد جمع ابن عبد البر
بينهما بتعدد القصة. قال في الفتح: وفيه
نظر لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في
قبر وحده بعد ستة أشهر. وفي حديث الموطأ
أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة
فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب
المجاورة أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا
كقبر واحد. وقد أخرج نحو ما ذكره في الموطأ
ابن إسحاق في المغازي وابن سعد من طريق أبي
الزبير عن جابر بإسناد صحيح. ومعنى قوله:
"هنية" أي شيئًا يسيرًا وهي بنون بعدها
تحتانية مصغرًا وهو تصغير
ج / 4 ص -114-
هنة.
قوله: "فحملا إلى
المدينة" فيه جواز نقل الميت من الموطن الذي
مات فيه إلى موطن آخر يدفن فيه والأصل الجواز
فلا يمنع من ذلك إلا بدليل.
قوله: "فأمرهم أن
يخرجوه" الخ فيه أنه يجوز نبش الميت لغسله
وتكفينه والصلاة عليه وهذا وإن كان قول صحابي
ولا حجة فيه ولكن جعل الدفن مسقطًا لما علم من
وجوب غسل الميت أو تكفينه أو الصلاة عليه
محتاج إلى دليل ولا دليل. |