نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الرجعة
والإباحة للزوج الأول
1 - عن ابن عباس:
"في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها
ثلاثاً فنسخ ذلك {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ}
الآية". رواه أبو داود والنسائي.
2 - وعن عروة عن عائشة
قالت: "كان الناس والرجل يطلق
ج / 6 ص -252-
امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا
ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو
أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللّه لا أطلقك
فتبيني مني ولا آويك أبداً قالت: وكيف ذلك
قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك
فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها
فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم حتى نزل القرآن
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ومن لم
يكن طلق". رواه الترمذي ورواه أيضاً عن
عروة مرسلاً وذكر أنه أصح.
حديث ابن عباس في إسناده
علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال. وحديث
عائشة المرفوع من طريق قتيبة عن يعلى بن شبيب
عن هشام بن عروة عن أبيه عنها والموقوف من
طريق أبي كريب عن عبد اللّه بن إدريس عن هشام
بن عروة عن أبيه ولم يذكر فيه عائشة. قال
الترمذي: وهذا أصح من حديث يعلى ابن شبيب.
قوله تعالى: {وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} فسره مجاهد بالحيض والحمل. وأخرج الطبري عن طائفة أن المراد به
الحيض وعن ابن جرير الحمل والمقصود من الآية
أن أمر العدة لما دار على الحيض والطهر
والإطلاع على ذلك يقع من جهة النساء غالباً
جعلت المرأة مؤتمنة على ذلك.
وقال إسماعيل القاضي:
دلت الآية أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها
من الحمل والحيض إلا أن تأتي من ذلك بما يعرف
به كذبها فيه والمنسوخ من هذه الآية هو قوله
تعالى
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فإن ظاهره أن للرجل مراجعة المرأة مطلقاً سواء طلقها ثلاثاً أو
أكثر أو أقل فنسخ من ذلك مراجعة من طلقها
زوجها ثلاثاً فأكثر فإنه لا يحل له مراجعتها
بعد ذلك وأما إذا طلقها واحدة رجعية أو اثنتين
كذلك فهو أحق برجعتها.
قال في الفتح: وقد
أجمعوا على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول
بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحق برجعتها ولو
كرهت المرأة ذلك فإن لم يراجع حتى انقضت العدة
فتصير أجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف ـ
واختلف السلف ـ فيما يكون به الرجل مراجعاً
فقال الأوزاعي إذا جامعها فقد راجعها. ومثله
أيضاً روي عن بعض التابعين وبه قال مالك
وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة وقال الكوفيون
كالأوزاعي وزادوا ولو لمسها لشهوة أو نظر إلى
فرجها لشهوة.
وقال الشافعي: لا تكون
الرجعة إلا بالكلام وحجة الشافعي أن الطلاق
يزيل النكاح وإلى ذلك ذهب الإمام يحيى والظاهر
ما ذهب إليه الأولون لأن العدة مدة خيار
والاختيار يصح بالقول والفعل وأيضاً ظاهر قوله
تعالى
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
"مره فليراجعها"
أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولاً
من فعل ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل
ج / 6 ص -253-
وقد حكى في البحر عن العترة ومالك أن الرجعة
بالوطء ومقدماته محظورة وإن صحت ثم قال قلت إن
لم ينو به الرجعة فنعم لعزمه على قبيح وإلا
فلا لما مر.
وقال أحمد بن حنبل بل
مباح لقوله تعالى {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}
والرجعية زوجة بدليل صحة الإيلاء انتهى.
وحديث عائشة فيه دليل على تحريم الضرار في
الرجعة لأنه منهي عنه بعموم قوله تعالى
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ}
والمنهي عنه فاسد فساداً يرادف البطلان ويدل
على ذلك أيضاً قوله تعالى:
{إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}
فكل رجعة لا يراد بها الإصلاح ليست برجعة
شرعية.
وقد دل الحديثان
المذكوران في الباب على أن الرجل كان يملك من
الطلاق لزوجته في صدر الإسلام الثلاث وما
فوقها إلى ما لا نهاية له ثم نسخ اللّه
الزيادة على الثلاث بالآية المذكورة.
قوله: "من كان
طلق" أي لم يعتد من ذلك الوقت بما قد وقع
منه من الطلاق بل حكمه حكم من لم يطلق أصلاً
فيملك ثلاثاً كما يملكها من لم يقع منه شيء من
الطلاق.
3 - وعن عمران بن
حصين: "أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم
يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها
فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على
طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد". رواه أبو
داود وابن ماجه ولم يقل ولا تعد.
- الأثر أخرجه أيضاً
البيهقي والطبراني وزاد: "واستغفر
اللّه" قال الحافظ في بلوغ المرام: وسنده
صحيح وقد استدل به من قال بوجوب الإشهاد على
الرجعة وقد ذهب إلى عدم رجوع الإشهاد في
الرجعة أبو حنيفة وأصحابه والقاسمية والشافعي
في أحد قوليه. واستدل لهم في البحر بحديث
ابن عمر السالف فإن فيه أنه قال صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"مره فليراجعها"
ولم يذكر الإشهاد وقال مالك والشافعي والناصر
أنه يجب الإشهاد في الرجعة واحتج في نهاية
المجتهد للقائلين بعدم الوجوب بالقياس على
الأمور التي ينشئها الإنسان لنفسه فإنه لا يجب
فيها الإشهاد. ومن الأدلة على عدم الوجوب
أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في
الطلاق كما حكاه الموزعي في تيسير البيان
والرجعة قرينته فلا يجب فيها كما لا يجب فيه
والاحتجاج بالأثر المذكور في الباب لا يصلح
للاحتجاج لأنه قول صحابي في أمر من مسارح
الاجتهاد وما كان كذلك فليس بحجة لولا ما وقع
من قوله طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة.
وأما قوله تعالى
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فهو وارد عقب قوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
الآية وقد عرفت الإجماع على عدم وجوب الإشهاد
على الطلاق والقائلون بعدم الوجوب يقولون
بالاستحباب.
4 - وعن عائشة قالت:
"جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقالت: كنت عند رفاعة
فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن
الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فقال:
أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". رواه الجماعة. لكن
ج / 6 ص -254-
لأبي داود معناه من غير تسمية الزوجين.
5 - وعن عائشة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
العسيلة هي الجماع". رواه أحمد والنسائي.
6 - وعن ابن عمر قال:
"سئل نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
الرجل يطلق امرأته ثلاثاً ويتزوجها آخر فيغلق
الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها
هل تحل للأول قال:
لا حتى يذوق العسيلة".
رواه أحمد والنسائي وقال: "قال:
لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر".
حديث عائشة الثاني أخرجه
أيضاً أبو نعيم في الحلية قال الهيثمي: فيه
أبو عبد الملك لم أعرفه وبقية رجاله رجال
الصحيح. وحديث ابن عمر هو من رواية سفيان
الثوري عن علقمة بن مرئد عن رزين بن سليمان
الأحمري عن ابن عمر وروي أيضاً من طريق شعبة
عن علقمة بن مرئد عن سالم بن رزين عن سالم بن
عبد اللّه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر.
قال النسائي: والطريق الأولى أولى
بالصواب. قال الحافظ: وإنما قال ذلك لأن
الثوري أتقن وأحفظ من شعبة وروايته أولى
بالصواب من وجهين أحدهما أن شيخ علقمة هو رزين
بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن رزين كما
قال شعبة فقد رواه جماعة عن شعبة كذلك منهم
غيلان بن جامع أحد الثقات ثانيهما أن الحديث
لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعاً
لم يخالفه سعيد ويقول بغيره كما سيأتي. -
وفي الباب - عن عائشة غير حديث الباب عند أبي
داود بنحو حديث ابن عمر وعن ابن عباس نحوه عند
النسائي. وعن أبي هريرة عند الطبراني وابن
أبي شيبة بنحوه. وعن أنس عند الطبراني أيضاً
والبيهقي بنحوه أيضاً. وعن عائشة أيضاً حديث
آخر عند الطبراني بإسناد رجاله ثقات: "أن
عمرو بن حزم طلق العميصاء فنكحها رجل فطلقها
قبل أن يمسها فسألت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال: لا حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". قوله: "امرأة رفاعة القرظي" قيل اسمها تميمة وقيل سهيمة
وقيل أميمة. والقرظي بضم القاف وفتح الراء
والظاء المعجمة نسبة إلى بني قريظة. قوله:
"عبد الرحمن بن الزبير" بفتح الزاي من
الزبير. قوله: "هدبة الثوب" بفتح
الهاء وسكون المهملة بعدها باء موحدة مفتوحة
هي طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين
وهو شعر الجفن هكذا في الفتح. وفي القاموس
الهدب بالضم وبضمتين شعر أشفار العين وخمل
الثوب واحدتهما بهاء وكذا في مجمع البحار
نقلاً عن النووي أنها بضم هاء وسكون دال
وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم
الانتشار واستدل به على أن وطء الزوج الثاني
لا يكون محللاً ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا
إذا كان حال وطئه منتشراً فلو لم يكن كذلك أو
كان عنيناً أو طفلاً لم يكفِ على الأصح من
قولي أهل العلم. قوله: "حتى تذوقي
عسيلته ويذوق عسيلتك" العسيلة مصغرة في
الموضعين واختلف في توجيهه فقيل هو تصغير
العسل لأن العسل مؤنث جزم
ج / 6 ص -255-
بذلك القزاز قال: وأحسب التذكير لغة وقال
الأزهري: يذكر ويؤنث وقيل: لأن العرب إذا
حقرت الشيء أدخلت فيه هاء التأنيث. وقيل:
المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة
إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع
تغييب الحشفة في الفرج وقيل معنى العسيلة
النطفة وهذا يوافق قول الحسن البصري وقال
جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن الجماع
وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة. وحديث
عائشة المذكور في الباب يدل على ذلك وزاد
الحسن البصري حصول الإنزال. قال ابن بطال:
شذ الحسن في هذا وخالف سائر الفقهاء وقالوا
يكفي ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال
الصداق ويفسد الحج والصوم. وقال أبو
عبيدة: العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل
شيء تستلذه عسلاً.
وأحاديث الباب تدل على
أنه لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثاً ثم تزوجها
زوج آخر من الوطء فلا تحل للأول إلا بعده.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط
الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن المسيب ثم ساق
بسنده الصحيح عنه ما يدل على ذلك قال ابن
المنذر: وهذا القول لا نعلم أحداًً وافقه
عليه إلا طائفة من الخوارج ولعله لم يبلغه
الحديث فأخذ بظاهر القرآن.
وقد نقل أبو جعفر النحاس
في معاني القرآن وعبد الوهاب المالكي في شرح
الرسالة عن سعيد بن جبير مثل قول سعيد بن
المسيب وكذلك حكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق
في ذلك. قال القرطبي: ويستفاد من الحديث
على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق
عليه الاسم خلافاً لمن قال لا بد من حصول
جميعه واستدل بإطلاق الذوق لهما على اشتراط
علم الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى
عليها لم يكف ذلك ولو أنزل هو. وبالغ ابن
المنذر فنقله عن جميع الفقهاء واستدل بأحاديث
الباب على جواز رجوعها إلى زوجها الأول إذا
حصل الجماع من الثاني ويعقبه الطلاق منه لكن
شرط المالكية ونقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن
لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا
إرادة تحليلها للأول وقال الأكثر إن شرط ذلك
في العقد فسد وإلا فلا وقد قدمنا الكلام على
التحليل ومما يستدل بأحاديث الباب عليه أنه لا
حق للمرأة في الجماع لأن هذه المرأة شكت أن
زوجها لا يطؤها وأن ذكره لا ينتشر وأنه ليس
معه ما يغني عنها ولم يفسخ النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم نكاحها وفي ذلك خلاف معروف. |