نيل الأوطار ط دار الحديث

[أَبْوَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]
[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِلصَّلَاةِ]
هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ حَدِيثُ الْمُسِيءِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَلُزُومِ الطُّمَأْنِينَةِ وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْحُهُ هُنَالِكَ، وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ أَوْ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: إنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ عَرَّفْنَاك فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْأَوَامِرَ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ
وَلَكِنْ هَهُنَا مَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ وَهُوَ خَبَرُ السَّرِيَّةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةَ وَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ عَلَى خَيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » فَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَوَجَبَتْ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُؤْثَرُ عَدَمُهُ فِي الْعَدَمِ مَعَ أَنَّ الْهَادَوِيَّةَ يُوَافِقُونَنَا فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: إنَّ الِاسْتِقْبَالَ شَرْطٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَلَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ تُقَوِّيه: مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظِ «صَلَّيْنَا لَيْلَةً فِي غَيْمٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا نَظَرْنَا فَإِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نُعِيدَ» وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ بِنَحْوِ هَذِهِ وَفِيهَا أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَجْزَأَتْ صَلَاتُكُمْ» وَلَكِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَكَذَا قَالَ

(2/193)


655 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

656 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] . فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى: أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ عَطَاءٍ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِنَحْوِ مَا هُنَا وَقَالَ: وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ إسْنَادًا صَحِيحًا قَوِيًّا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ «صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ غَيْمٍ فِي السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَسَلَّمَ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ: قَدْ رُفِعَتْ صَلَاتُكُمْ بِحَقِّهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو عَبْلَةَ وَاسْمُهُ شِمْرُ بْن عَطَاءٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِيَّةِ وَفِيهَا أَيْضًا رَدٌّ لِمَذْهَبِ مَنْ فَرَّقَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ بَيْنَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَعَدَمِهِ. .

وَفِي الْبَابِ عَنْ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَوْسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى فِي الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا. وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا. وَعَنْ تَوِيلَةَ بِنْتِ أَسْلَمَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا
قَوْلُهُ: (فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ) هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ " وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ " وَكَذَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ «فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّونَ

(2/194)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
صَلَاةَ الْغَدَاةِ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ «فَصَلَّى رَجُلٌ مَعَهُ الْعَصْرَ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَلَيْسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَفِي حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْكَعْبَةِ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَارَةَ بْن رُوَيْبَةَ وَحَدِيثِ تَوِيلَةَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنَّهَا الظُّهْرُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مَنْ قَالَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ شَكَّ هَلْ هِيَ الظُّهْرُ أَوْ الْعَصْرُ؟ وَلَيْسَ مَنْ شَكَّ حُجَّةً عَلَى مَنْ جَزَمَ، فَنَظَرْنَا فِيمَنْ جَزَمَ فَوَجَدْنَا بَعْضَهُمْ قَالَ الظُّهْرُ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ الْعَصْرُ، وَوَجَدْنَا رِوَايَةَ الْعَصْرِ أَصَحَّ لِثِقَةِ رِجَالِهَا وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ لَهَا فِي صَحِيحِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ كَوْنِهَا الظُّهْرَ فَفِي إسْنَادِهَا مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَبْطَأَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ حَاكِيًا عَنْ بَعْضِهِمْ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: وَيُقَالُ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَاسْتَدَارَ إلَيْهِ وَكَانَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ» وَيَكُونُ الْمَعْنَى بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا الْعَصْرُ: أَيْ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا إلَى الْكَعْبَةِ كَامِلَةً صَلَاةُ الْعَصْرِ.
قَوْلُهُ: (إذْ جَاءَهُمْ آتٍ) قِيلَ هُوَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَقِيلَ عَبَّادُ بْنُ نَهِيكٍ وَقِيلَ غَيْرُهُمَا. قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْبَلُوهَا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ لِلْأَكْثَرِ: أَيْ فَتَحَوَّلُوا إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَفَاعِلُ اسْتَقْبَلُوهَا الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ أَهْلُ قُبَاءَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُ فَاعِلُ اسْتَقْبَلُوهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بِصِغَةِ الْأَمْرِ وَيُؤَيِّدُ الْكَسْرَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ " أَلَا فَاسْتَقْبِلُوهَا "
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ) هُوَ تَفْسِيرٌ مِنْ الرَّاوِي لِلتَّحَوُّلِ الْمَذْكُورِ وَالضَّمِيرُ فِي وُجُوهِهِمْ فِيهِ الِاحْتِمَالَانِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّحَوُّلِ فِي خَبَرِ تَوِيلَةَ قَالَتْ: " فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ ". قَالَ الْحَافِظُ: وَتَصْوِيرُهُ أَنَّ الْإِمَامَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ إلَى مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ مِنْ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ اسْتَدْبَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُوَ لَوْ دَارَ فِي مَكَانِهِ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ مَكَانٌ يَسَعُ الصُّفُوفَ. وَلَمَّا تَحَوَّلَ الْإِمَامُ تَحَوَّلَتْ الرِّجَالُ حَتَّى صَارُوا خَلْفَهُ، وَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ حَتَّى صِرْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَهَذَا يَسْتَدْعِي عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَمَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اُغْتُفِرَ الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ وَقَعَتْ الْخُطُوَاتُ غَيْرَ مُتَوَالِيَةٍ عِنْدَ التَّحَوُّلِ بَلْ وَقَعَتْ مُفَرَّقَةً.
وَلِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ. وَمِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ الْأَنْصَارَ تَحَوَّلُوا إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَنَظَرَهُ الْحَافِظُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ

(2/195)


بَابُ حُجَّةِ مَنْ رَأَى فَرْضَ الْبَعِيدِ إصَابَةَ الْجِهَةِ لَا الْعَيْنِ

657 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: «وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غُرِّبُوا» . يُعَضِّدُ ذَلِكَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
بِذَلِكَ نَصٌّ سَابِقٌ
وَمِنْهَا جَوَازُ تَعْلِيمِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ فِيهَا
وَمِنْهَا جَوَازُ نَسْخِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقَطْعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ عَمَلَهُمْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ اُحْتُفَّ بِالْقَرَائِنِ وَالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَفَادَتْ الْقَطْعَ لِكَوْنِهِ فِي زَمَنِ تَقَلُّبِ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ لِيُحَوَّلَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ عَرَفَتْ مِنْهُ الْأَنْصَارُ ذَلِكَ بِمُلَازَمَتِهِمْ لَهُ فَكَانُوا يَتَوَقَّعُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَمَّا فَجَأَهُمْ الْخَبَرُ عَنْ ذَلِكَ أَفَادَهُمْ الْعِلْمُ لِمَا كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ حُدُوثَهُ. وَأَجَابَ الْعِرَاقِيُّ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ: مِنْهَا أَنَّ النَّسْخَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ جَائِزًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْدَهُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ تَلَا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ النَّسْخِ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِإِطَالَتِهِ وَإِيجَازِهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِوُجُوهِ إعْجَازِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَقْطُوعٌ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ النَّسْخَ لِلْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ كَنَسْخِ نَصِّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَانِهِ، وَلَكِنْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَنْعِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ فَلَا مُخَالِفَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَجْوِيزِهِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ: وَهُوَ حُحَّةٌ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ انْتَهَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الَّذِينَ بُلِّغَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ رَوَى الطَّبَرَانِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ تَوِيلَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِمْ «أُولَئِكَ رِجَالٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ»

[بَابُ حُجَّةِ مَنْ رَأَى فَرْضَ الْبَعِيدِ فِي الْقِبْلَةِ إصَابَةَ الْجِهَةِ لَا الْعَيْنِ]
الْحَدِيثُ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، وَقَدْ تَابَعَ أَبَا مَعْشَرٍ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ قَاضِي حَلَبَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ يَرْوِيه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ وَأَبِي مَعْشَرٍ، وَهُوَ بِأَبِي مَعْشَرٍ أَشْهَرُ مِنْهُ بِعَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ. قَالَ: وَلَعَلَّ عَلِيَّ بْنَ ظَبْيَانَ سَرَقَهُ مِنْهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَوْلُ النَّسَائِيّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَبُو جَعْفَرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ:

(2/196)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَقَالَ الْعَلَابِسِيُّ: سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ: هَذَا إسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَنَظَرْنَا فِي الْإِسْنَادِ فَوَجَدْنَا عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إنَّهُ رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ حِبَّانَ، فَكَانَ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: أَعْنِي حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ التَّخَلِّي.
وَفِي الْبَابَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ.
وَفِي الْبَابِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْمُوَطَّأِ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ. وَمِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَمِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ عِنْد ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى مَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ الْجِهَةُ لَا الْعَيْنُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: إنَّ شَطْرَ الْبَيْتِ وَتِلْقَاءَهُ وَجِهَتَهُ وَاحِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ «الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ: وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ ضَعِيفٍ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ. وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ إلَى أَنَّ فَرْضَ مَنْ بَعُدَ الْعَيْنُ وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالظَّنِّ لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ عَرَفْت مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ تَرْجِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَيْسَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَمَا وَافَقَ قِبْلَتَهَا، وَهَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَهَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ خَالَوَيْهِ الْوَهْبِيُّ. قَالَ: وَلِسَائِرِ الْبُلْدَانِ مِنْ السِّعَةِ فِي الْقِبْلَةِ مِثْلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْجَنُوبِ وَالشِّمَالِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا مَدْفَعَ لَهُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ إلَّا بِمَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ إنْ زَالَ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ فَقَدْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْمَشْرِقُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَهَذَا الْمَغْرِبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَمَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ، قُلْت لَهُ: فَصَلَاةُ مَنْ صَلَّى بَيْنَهُمَا جَائِزٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى الْوَسَطَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَفْسِيرُ قَوْلِ أَحْمَدَ هَذَا فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ

(2/197)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
يُرِيدُ أَنَّ الْبُلْدَانَ كُلَّهَا لِأَهْلِهَا فِي قِبْلَتِهِمْ مِثْلُ مَا لِمَنْ كَانَتْ قِبْلَتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ الْجَنُوبِ الَّتِي يَقَعُ لَهُمْ فِيهَا الْكَعْبَةُ فَيَسْتَقْبِلُونَ جِهَتَهَا وَيَتَّسِعُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فِيهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، يَجْعَلُونَ الْمَغْرِبَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَالْمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ السِّعَةِ فِي قِبْلَتِهِمْ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إذَا تَوَجَّهُوا أَيْضًا قِبَلَ الْقِبْلَةِ، إلَّا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَشْرِقَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَالْمَغْرِبَ عَنْ يَسَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لَهُمْ مِنْ السَّعَةِ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَا بَيْنَ الْجَنُوبِ وَالشِّمَالِ مِثْلُ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ السَّعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَكَذَلِكَ ضِدُّ الْعِرَاقِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنَّمَا تَضِيقُ الْقِبْلَةُ كُلَّ الضِّيقِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَوْسَعُ قَلِيلًا ثُمَّ هِيَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَوْسَعُ قَلِيلًا ثُمَّ لِأَهْلِ الْآفَاقِ مِنْ السَّعَةِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ اهـ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إذَا جَعَلْت الْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِك وَالْمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِك فَمَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ إذَا اسْتَقْبَلْت الْقِبْلَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ، هَذَا لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُبَارَكِ التَّيَاسُرَ لِأَهْلِ مَرْوَ اهـ. وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَشْرِقِ إنَّمَا يَكُونُ قِبْلَتُهُ الْمَغْرِبَ، فَإِنَّ مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَشْرِقِ الْبِلَادَ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَشْرِقِ كَالْعِرَاقِ مَثَلًا، فَإِنَّ قِبْلَتَهُمْ أَيْضًا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَعَلْت الْمَغْرِبَ مِنْ يَمِينِك وَالْمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِك فَمَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ عَلَى حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ: بَابُ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقُ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلَا الْمَغْرِبُ قِبْلَةٌ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: يَعْنِي وَقِبْلَةُ مَشْرِقِ الْأَرْضِ كُلِّهَا إلَّا مَا قَابَلَ مَشْرِقَ مَكَّةَ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي تَكُونُ تَحْتَ الْخَطِّ الْمَارِّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، فَحُكْمُ مَشْرِقِ الْأَرْضِ كُلِّهَا كَحُكْمِ مَشْرِقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ فِي الْأَمْرِ بِالِانْحِرَافِ عِنْدَ الْغَائِطِ، لِأَنَّهُمْ إذَا شَرَّقُوا أَوْ غَرَّبُوا لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَمْ يَسْتَدْبِرُوهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا قَابَلَ مَشْرِقَ مَكَّةَ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي تَكُونُ تَحْتِ الْخَطِّ الْمَارِّ عَلَيْهَا مِنْ شَرْقِهَا إلَى مَغْرِبِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ أَنْ يُشَرِّقُوا وَلَا أَنْ يُغَرِّبُوا، لِأَنَّهُمْ إذَا شَرَّقُوا اسْتَدْبَرُوا الْقِبْلَةَ وَاذَا غَرَّبُوا اسْتَقْبَلُوهَا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُوَازِيًا بِالْمَغْرِبِ مَكَّةَ، إذْ الْعِلَّةُ فِيهِ مُشْتَرَكَةٌ مَعَ الْمَشْرِقِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ عَنْ الْمَغْرِبِ، لِأَنَّ الْمَشْرِقَ أَكْثَرُ الْأَرْضِ الْمَعْمُورَةِ وَبِلَادُ الْإِسْلَامِ فِي جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ قَلِيلٌ.
قَالَ: وَتَقْدِيرُ التَّرْجَمَةِ بِأَنَّ قِبْلَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي التَّشْرِيقِ وَلَا فِي التَّغْرِيبِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ عِنْدَ الِانْحِرَافِ لِلتَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ لَيْسُوا بِمُوَاجِهِينَ لِلْقِبْلَةِ وَلَا مُسْتَدْبِرِينَ لَهَا، وَالْعَرَبُ

(2/198)


بَابُ تَرْكِ الْقِبْلَةِ لِعُذْرِ الْخَوْفِ

658 - (عَنْ نَافِعٍ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: وَلَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

بَابُ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ عَلَى مَرْكُوبِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ

659 - (عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَبِّحُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ: «كَانَ يُصَلِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
تُطْلِقُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِمَعْنَى التَّغْرِيبِ وَالتَّشْرِيقِ وَأَنْشَدَ ثَعْلَبُ فِي الْمَجَالِسِ.
أَبْعَدُ مَغْرِبِهِمْ نَجْدًا وَسَاحَتُهَا
قَالَ ثَعْلَبُ: مَعْنَاهُ أَبْعَدُ تَغْرِيبِهِمْ انْتَهَى. وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ ويستشكلونه لَا سِيَّمَا مَعَ زِيَادَةِ لَفْظِ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ.

[بَابُ تَرْكِ الْقِبْلَةِ لِعُذْرِ الْخَوْفِ]
الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَصَرَّحَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هُوَ بَيَانُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِلَفْظِ: وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا» . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ تَجُوزُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ فَيَنْتَقِلُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ، وَعَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ، وَيَجُوزُ تَرْكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ. وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، لَكِنْ قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ لَا يَصْنَعُونَ ذَلِكَ إلَّا إذَا خُشِيَ فَوَاتُ الْوَقْتِ وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ نَحْوُ مَا هُنَا وَيَأْتِي. شَرْحُهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

(2/199)


عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَفِيهِ نَزَلَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

660 - (وَعَنْ «جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَلَكِنْ يَخْفِضُ السُّجُودَ مِنْ الرُّكُوعِ وَيُومِئُ إيمَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظِ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)
661 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ عَلَى مَرْكُوبِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ]
الْحَدِيثُ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَالْكَلَامُ عَلَى فِقْهِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ هُنَالِكَ بِنَحْوِ مَا هُنَا مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ الْآخِرَةِ فِي التِّرْمِذِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى بَعِيرِهِ أَوْ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: (حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ) قَيَّدَتْ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدِيثَ بِالْمَذْهَبِ فَقَالَتْ: إذَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نَحْوَ مَقْصِدِهِ وَأَمَّا إذَا تَوَجَّهَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ مَقْصِدِهِ فَإِنْ كَانَ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ كَانَ إلَى غَيْرِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الِاسْتِقْبَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ.
660 - (وَعَنْ «جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَلَكِنْ يَخْفِضُ السُّجُودَ مِنْ الرُّكُوعِ وَيُومِئُ إيمَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظِ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ وَلَكِنْ بِلَفْظِ: «كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ» وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَيْهَا لِلْمُسَافِرِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ وَفِي جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَ مَنْ صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ يَكُونُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى السَّرْجِ وَلَا بَذْلُ. غَايَةِ الْوُسْعِ فِي الِانْحِنَاءِ بَلْ يَخْفِضُ سُجُودَهُ بِمِقْدَارٍ يَفْتَرِقُ بِهِ السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ
661 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الشَّيْخَانِ بِنَحْوِ مَا هُنَا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ

(2/200)


أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
بَابُ افْتِرَاضِ افْتِتَاحِهَا بِالتَّكْبِيرِ

662 - (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» : رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ الصَّوَابُ مَوْقُوفٌ. وَأَمَّا أَبُو دَاوُد فَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْجَارُودِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ أَنَسٍ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ حَالَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ كَمَا أَسْلَفْنَا.