نيل الأوطار ط دار الحديث

[نيل الأوطار]
[أَبْوَابُ الْجُمُعَة] [بَابُ التَّغْلِيظ فِي تَرْكهَا]
حَدِيثُ أَبِي الْجَعْدِ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وَأَبُو الْجَعْدِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ: لَا أَعْرِف اسْمَهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَذَكَرَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ مُعْجَمِهِ، وَقِيلَ: اسْمه أَدْرَعُ، وَقِيلَ جُنَادَةُ، وَقِيلَ: عَمْرُو. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ: عَنْ أَبِي الْجَعْدِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ وَهْم، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَلِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ حَسَن وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إنَّهُ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْجَعْدِ.
وَلِجَابِرٍ حَدِيثٌ آخَر بِلَفْظِ: «إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَمَنْ تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِهَا وَتَهَاوُنًا أَلَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، أَلَا وَلَا بَارَكَ اللَّهُ لَهُ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَاده عَبْدُ اللَّه الْبَلَوِيُّ وَهُوَ وَاهِي الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْه آخَر وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إنَّ الطَّرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا غَيْر ثَابِت. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَاهِي الْإِسْنَاد انْتَهَى وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ آخَر غَيْر مَا ذَكَر الْمُصَنِّف عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ: إنَّ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا عَسَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الضِّبْنَةَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى رَأْسِ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ تَأْتِي الْجُمُعَةُ فَلَا يَشْهَدُهَا ثَلَاثًا فَيَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» وَسَيَأْتِي نَحْوه فِي الْبَاب الَّذِي بَعَدَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالضِّبْنَة الضَّاد الْمُعْجَمَة ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَة سَاكِنَة ثُمَّ نُون: هِيَ مَا تَحْت يَدك مِنْ مَال أَوْ عِيَال. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيث آخَر غَيْر الَّذِي ذَكَره الْمُصَنِّف عِنْد أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» هَكَذَا ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَلَهُ حُكْم الرَّفْع، لِأَنَّ مِثْله لَا يُقَال مِنْ قِبَل الرَّأْي كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ.
وَعَنْ سَمُرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفَ دِينَارٍ» .
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ» وَفِي إسْنَاده جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُور.
وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مُتَوَالِيَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَأْتِهَا ثُمَّ سَمِعَ النِّدَاءَ وَلَمْ يَأْتِهَا ثَلَاثًا طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَجُعِلَ قَلْبَ مُنَافِقٍ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّد.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ

(3/264)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
عِنْدَ أَحْمَدَ فِي حَدِيث طَوِيل فِيهِ «أُنَاسٌ يُحِبُّونَ اللَّبَنَ وَيَخْرُجُونَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ وَيَدَعُونَ الْجُمُعَاتِ» وَفِي إسْنَاده ابْنُ لَهِيعَةَ.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِنَحْوِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّل. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُور فِي الْبَابِ
قَوْلُهُ: (يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ) قَالَ فِي الْفَتْح: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ الْيَوْمِ بِالْجُمُعَةِ مَعَ الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّة: الْعَرُوبَة، بِفَتْحِ الْعَيْن وَضَمّ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْخَلْق جُمِعَ فِيهِ ذَكَرَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقِيلَ: لِأَنَّ خَلْق آدَمَ جُمِعَ فِيهِ. وَرُدَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ. عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرهمَا، وَلَهُ شَاهِد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَره ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ قَوِيّ، وَأَحْمَدُ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيف، وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَال. وَيَلِيهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ فِي قِصَّة تَجْمِيع الْأَنْصَارِ مَعَ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ يَوْم الْعَرُوبَة، فَصَلَّى بِهِمْ وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ الْجُمُعَة حِين اجْتَمَعُوا إلَيْهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ كَانَ يَجْمَع قَوْمه فِيهِ وَيُذَكِّرهُمْ وَيَأْمُرهُمْ بِتَعْظِيمِ الْحَرَمِ، وَيُخْبِرهُمْ بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ مِنْهُ نَبِيّ. رَوَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ فِي كِتَابِ النَّسَب عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَقْطُوعًا، وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَغَيْره. وَقِيلَ: إنَّ قُصَيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْمَعهُمْ، ذَكَره ثَعْلَبٌ فِي أَمَالِيهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاس لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ.: إنَّهُ اسْم إسْلَامِيّ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَاهِلِيَّة وَأَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى: يَوْم الْعَرُوبَة. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَر، فَقَدْ قَالَ أَهْل اللُّغَة: إنَّ الْعَرُوبَة اسْم قَدِيم كَانَ لِلْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالُوا فِي الْجُمُعَة: هُوَ يَوْم الْعَرُوبَة فَالظَّاهِر أَنَّهُمْ غَيَّرُوا أَسْمَاءَ الْأَيَّام السَّبْعَة بَعَدَ أَنْ كَانَتْ تُسَمَّى: أَوَّل أَهْوَن. جُبَار. دُبَار. مُؤْنِس. عَرُوبَة. شِبَار. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ: أَهْوَن، فِي أَسْمَائِهِمْ الْقَدِيمَة، وَهَذَا يُشْعِر بِأَنَّهُمْ أَحْدَثُوا لَهَا اسْمًا وَهِيَ هَذِهِ الْمُتَعَارَفَةُ كَالسَّبْتِ وَالْأَحَد. . . إلَخْ. وَقِيلَ: إنَّ أَوَّل مَنْ سَمَّى الْجُمُعَة الْعَرُوبَة كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَبِهِ جَزَمَ بَعْض أَهْل اللُّغَة. وَالْجُمُعَة بِضَمِّ الْمِيم عَلَى الْمَشْهُور وَقَدْ تُسَكَّن، وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فَتْحهَا، وَحَكَى الزَّجَّاجُ كَسْرهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَوَجَّهُوا الْفَتْحَ بِأَنَّهَا تَجْمَع النَّاس وَيَكْثُرُونَ فِيهَا كَمَا يُقَال: هُمَزَة وَلُمَزَة، لِكَثِيرِ الْهَمْز وَاللَّمْز وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ هَمَمْت. . . إلَخْ) قَدْ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ قَدَّمْنَا ذِكْرهَا فِي أَبْوَابِ الْجَمَاعَة، وَسَيَأْتِي بَيَان مَا هُوَ الْحَقّ. قَوْلُهُ: (وَدْعِهِمْ) أَيْ تَرْكِهِمْ. قَوْلُهُ: (أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى) .
الْخَتْم: الطَّبْع وَالتَّغْطِيَة. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا اخْتِلَافَا كَثِيرًا، فَقِيلَ: هُوَ إعْدَام اللُّطْف وَأَسْبَابُ الْخَيْر. وَقِيلَ: هُوَ خَلْق الْكُفْر فِي صُدُورهمْ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَر مُتَكَلِّمِي أَهْل السُّنَّة، يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّةَ. وَقَالَ غَيْرهمْ: هُوَ

(3/265)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الشَّهَادَة عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَامَة جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى فِي قُلُوبهمْ لِيَعْرِف بِهَا الْمَلَائِكَة مَنْ يَمْدَحُ وَمَنْ يَذُمّ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالطَّبْعِ عَلَى قَلْبه أَنَّهُ يَصِير قَلْبه قَلْبَ مُنَافِق، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقّ الْمُنَافِقِينَ: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] . قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ جُمَع) يُحْتَمَل أَنْ يُرَاد حُصُول التَّرْك مُطْلَقًا سَوَاء تَوَالَتْ الْجُمُعَات أَوْ تَفَرَّقَتْ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ فِي كُلّ سَنَة جُمُعَة لَطَبَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى قَلْبه بَعْد الثَّالِثَة وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيثِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد ثَلَاثُ جُمَع مُتَوَالِيَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، لِأَنَّ مُوَالَاة الذَّنْب وَمُتَابَعَته مُشْعِرَة بِقِلَّةِ الْمُبَالَاة.
قَوْلُهُ: (تَهَاوُنًا) فِيهِ أَنَّ الطَّبْع الْمَذْكُور إنَّمَا يَكُون عَلَى قَلْبِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَهَاوُنًا، فَيَنْبَغِي حَمْل الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُقَيَّد بِالتَّهَاوُنِ، وَكَذَلِكَ تُحْمَل الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة عَلَى الْمُقَيَّدَة بِعَدَمِ الْعُذْر كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فُرُوض الْأَعْيَان. وَقَدْ حَكَى ابْنِ الْمُنْذِر الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهَا فَرْض عَيْن. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْجُمُعَة فَرْض بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة.
وَقَالَ ابْنُ قَدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَة. وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيِّ الْخِلَاف فِي أَنَّهَا مِنْ فُرُوض الْأَعْيَان أَوْ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات، وَقَالَ: قَالَ أَكْثَر الْفُقَهَاءِ: هِيَ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات، وَذَكَرَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْل لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمَرْعَشِيُّ عَنْ قَوْلُهُ الْقَدِيم، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَغَلَّطُوا حَاكِيَهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَجُوز حِكَايَة هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ حِكَايَة بَعْضهمْ وَغَلَّطَهُ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: نَعَمْ هُوَ وَجْه لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ. قَالَ: وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ الْخَطَّابِيِّ مِنْ أَنَّ أَكْثَر الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إنَّ الْجُمُعَة فَرْض عَلَى الْكِفَايَة فَفِيهِ نَظَر، فَإِنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة مُتَّفِقَة عَلَى أَنَّهَا فَرْض عَيْن لَكِنْ بِشُرُوطٍ يَشْتَرِطهَا أَهْل كُلّ مَذْهَبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شُهُودهَا سُنَّة، ثُمَّ قَالَ: قُلْنَا: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّ مَالِكًا يُطْلِق السُّنَّة عَلَى الْفَرْض.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّة عَلَى صِفَتهَا لَا يُشَارِكهَا فِيهِ سَائِر الصَّلَوَات حَسَب مَا شَرَعَهُ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: " عَزِيمَة الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ " انْتَهَى. وَمِنْ جُمْلَة الْأَدِلَّة الدَّالَّة عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] . وَمِنْهَا حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعَدَ هَذَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ حَفْصَةَ الْآتِي أَيْضًا. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ فَرْضِيَّة صَلَاة الْجُمُعَة وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابَ فَرْض الْجُمُعَة، وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ وَالْحَافِظُ بِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَى الْفَرْضِيَّة،

(3/266)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
قَالَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَهَدَانَا لَهُ» فَإِنَّ التَّقْدِير: فَرَضَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا، فَضَلُّوا وَهُدِينَا.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَة سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: " كُتِبَ عَلَيْنَا " وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّة مَنْ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهَا فَرْض عَيْن بِأَجْوِبَةٍ: إمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَمَاعَةِ. وَإِمَّا عَنْ سَائِر الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَمِلَة عَلَى الْوَعِيد، فَبِصَرْفِهَا إلَى مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَة تَهَاوُنًا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد، وَلَا نِزَاع فِي أَنَّ التَّارِك لَهَا تَهَاوُنَا مُسْتَحِقّ لِلْوَعِيدِ الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا النِّزَاع فِيمَنْ تَرَكَهَا غَيْر مُتَهَاوِن
وَأَمَّا عَنْ الْآيَة فَمَا يَقْضِي بِهِ آخِرهَا، أَعْنِي قَوْلَهُ: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9] . مِنْ عَدَم فَرْضِيَّة الْعَيْن. وَأَمَّا عَنْ حَدِيثِ طَارِقٍ فَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الْإِرْسَال وَسَيَأْتِي. وَأَمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآخَر فَبِمَنْعِ اسْتِلْزَام افْتِرَاضِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا افْتِرَاضه عَلَيْنَا. وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهِ افْتِرَاض صَلَاة الْجُمُعَة عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَيْنَا.
وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الْأَجْوِبَة بِرُدُودٍ. وَالْحَقّ أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان عَلَى سَامِع النِّدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ إلَّا حَدِيثَ طَارِقٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ الْآتِيَيْنِ لَكَانَا مِمَّا تَقُوم بِهِ الْحُجَّة عَلَى الْخَصْم. وَالِاعْتِذَار عَنْ حَدِيثِ طَارِقٍ بِالْإِرْسَالِ سَتَعْرِفُ انْدِفَاعَهُ. وَكَذَلِكَ الِاعْتِذَار بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ صَغِيرَا لَا يَتَّسِع هُوَ وَرَحَبَته لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَتْ تُقَام الْجُمُعَة فِي عَهْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِهِ إلَّا فِي مَسْجِده، وَقَبَائِل الْعَرَبِ كَانُوا مُقِيمِينَ فِي نَوَاحِي الْمَدِينَة مُسْلِمِينَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْحُضُورِ مَدْفُوع بِأَنَّ تَخَلُّف الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْحُضُور بَعَدَ أَمْر اللَّه تَعَالَى بِهِ وَأَمْر رَسُوله وَالتَّوَعُّد الشَّدِيد لِمَنْ لَمْ يَحْضُر لَا يَكُون حُجَّة إلَّا عَلَى فَرْض تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَلَى تَخَلُّفهمْ وَاخْتِصَاص الْأَوَامِر بِمَنْ حَضَرَ جُمُعَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكِلَاهُمَا بَاطِل.
أَمَّا الْأَوَّل: فَلَا يَصِحّ نِسْبَة التَّقْرِير إلَيْهِ بَعَدَ هَمّه بِإِحْرَاقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجُمُعَة وَإِخْبَاره بِالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبهمْ وَجَعْلهَا كَقُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَعَ كَوْنه قَصْرًا لِلْخِطَابَاتِ الْعَامَّة بِدُونِ بُرْهَان، تَرُدّهُ أَيْضًا تِلْكَ التَّوَعُّدَات لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَوَعُّدِ الْحَاضِرِينَ وَلِتَصْرِيحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيد لِلْمُتَخَلِّفِينَ، وَضِيق مَسْجِده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدُلّ عَلَى عَدَم الْفَرْضِيَّة إلَّا عَلَى فَرْض أَنَّ الطَّلَبَ مَقْصُور عَلَى مِقْدَار مَا يَتَّسِع لَهُ مِنْ النَّاس أَوْ عَدَم إمْكَان إقَامَتهَا فِي الْبِقَاع الَّتِي خَارِجه وَفِي سَائِر الْبِقَاع، وَكِلَاهُمَا بَاطِل.
أَمَّا الْأَوَّل فَظَاهِر، وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِإِمْكَانِ إقَامَتهَا فِي تِلْكَ الْبِقَاع عَقْلًا وَشَرْعًا. لَا يُقَال عَدَم أَمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِقَامَتِهَا فِي غَيْر مَسْجِده يَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوبِ. لِأَنَّا نَقُول: الطَّلَبُ الْعَامّ يَقْتَضِي وُجُوبَ صَلَاة الْجُمُعَة عَلَى كُلّ فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَا يُمْكِنهُ إقَامَتهَا فِي مَسْجِده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُمْكِنهُ الْوَفَاءُ بِمَا طَلَبه الشَّارِعُ إلَّا بِإِقَامَتِهَا فِي غَيْره، وَمَا لَا يَتِمّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِب كَوُجُوبِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول.

(3/267)


بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ
1182 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ: «إنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِب]
الْحَدِيثُ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ: رَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ سُفْيَانَ مَقْصُورًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَرْفَعُوهُ وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ انْتَهَى.
وَفِي إسْنَاده مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّائِفِيِّ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِيهِ مَقَال. وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوق. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُد: هُوَ ثِقَة، قَالَ: وَهَذِهِ سُنَّة تَفَرَّدَ بِهَا أَهْل الطَّائِفِ انْتَهَى وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شَيْخه أَبِي سَلَمَةَ، وَتَفَرَّدَ بِهِ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ شَيْخه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ وَجْه آخَر أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ رِوَايَة الْوَلِيدِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه مَرْفُوعًا، وَالْوَلِيدُ وَزُهَيْرٌ كِلَاهُمَا مِنْ رِجَال الصَّحِيحِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَكِنَّ زُهَيْرًا رَوَى عَنْ أَهْل الشَّامِ مَنَاكِير مِنْهُمْ الْوَلِيدُ، وَالْوَلِيدُ مُدَلِّس وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعَنْعَنَةِ فَلَا يَصِحّ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَة مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ضَعِيف جِدَّا، وَالْحَجَّاجُ هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، وَهُوَ مُدَلِّس مُخْتَلَف فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه مَرْفُوعًا. وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَاوِي الْحَدِيثِ.
وَحَدِيثُ الْبَابِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَال الْمُتَقَدِّم فَيَشْهَد لِصِحَّتِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الْآيَة. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَة: إنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: لَهُ شَاهِد، فَذَكَره بِإِسْنَادٍ جَيِّد. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَفِيهِ نَظَر. قَالَ: وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْره قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ» وَرَوَى نَحْوه أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مُطْلَق الْجَمَاعَة فَالْقَوْل بِهِ فِي خُصُوصِيَّة الْجُمُعَة أَوْلَى وَالْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الْمَذْكُور فِي الْحَدِيثِ هُوَ النِّدَاءُ الْوَاقِع بَيْن يَدَيْ الْإِمَام فِي الْمَسْجِد لِأَنَّهُ

(3/268)


1183 - (وَعَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الَّذِي كَانَ فِي زَمَن النُّبُوَّة لَا الْوَاقِع عَلَى الْمَنَارَات فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَظَاهِره عَدَم وُجُوبِ الْجُمُعَة عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَع النِّدَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَلَد الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة أَوْ خَارِجه. وَقَدْ ادَّعَى فِي الْبَحْر الْإِجْمَاع عَلَى عَدَم اعْتِبَار سَمَاع النِّدَاءِ فِي مَوْضِعهَا وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إذَا لَمْ تَعْتَبِرهُ الْآيَة، وَأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ الْآيَة قَدْ قُيِّدَ الْأَمْر بِالسَّعْيِ فِيهَا بِالنِّدَاءِ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْد أَئِمَّة الْبَيَان مِنْ أَنَّ الشَّرْط قَيْد لِحُكْمِ الْجَزَاءِ، وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُور فِيهَا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ فِي الْمِصْر الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَمَنْ خَارِجه، نَعَمْ إنْ صَحَّ الْإِجْمَاع كَانَ هُوَ الدَّلِيل عَلَى عَدَم اعْتِبَار سَمَاع النِّدَاءِ لِمَنْ فِي مَوْضِع إقَامَة الْجُمُعَة عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاع.
وَقَدْ حَكَى الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْجُمُعَة عَلَى أَهْل الْمِصْر وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النِّدَاء. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِيمَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْبَلَدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَنَافِعٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْإِمَامُ يَحْيَى إنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يُؤْوِيهِ اللَّيْل إلَى أَهْله، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ مَعَ الْإِمَام أَمْكَنَهُ الْعَوْدُ إلَى أَهْله آخِر النَّهَار وَأَوَّل اللَّيْل.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أَهْلِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا إسْنَاد ضَعِيف إنَّمَا يُرْوَى مِنْ حَدِيث مُعَارِكِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَضَعَّفَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: إنَّهُ غَيْر صَحِيح فَلَا حُجَّة فِيهِ. وَذَهَبَ الْهَادِي وَالنَّاصِرُ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ بِصَوْتِ الصِّيتِ مِنْ سُور الْبَلَد.
وَقَالَ عَطَاءٌ: تَلْزَم مَنْ عَلَى عَشَرَة أَمْيَال. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ عَلَى سِتَّة أَمْيَال. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مَنْ عَلَى أَرْبَعَة، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: ثَلَاثَة.
وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: فَرْسَخٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَصْحَابِ الرَّأْي.
وَرُوِيَ فِي الْبَحْر عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْبَاقِرِ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابه أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجِ الْبَلَد.
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ حَتَّى قَالَ فِي ضَوْءِ النَّهَار: إنَّهُ يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ بِلَا شَكّ وَلَا شُبْهَة. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهَا مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان عَلَى سَامِع النِّدَاءِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا فَرْض كِفَايَة عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَع، بَلْ مَفْهُومه يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَا عَيْنَا وَلَا كِفَايَة.

(3/269)


(وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْمَع مِنْهُ شَيْئًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّل رِجَال إسْنَاده رِجَال الصَّحِيحِ إلَّا عَيَّاشَ بْنَ عَيَّاشٍ وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيّ. وَالْحَدِيثُ الْآخَر أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ طَارِقٍ هَذَا عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ الْحَافِظُ: وَصَحَّحَهُ غَيْر وَاحِد. وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: لَيْسَ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيث بِذَاكَ، وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ لَا يَصِحّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلَّا أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ النَّبِيَّ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: فَإِذَا قَدْ ثَبَتَتْ صِحَّته، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَغَايَته أَنْ يَكُون مُرْسَل صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّة عِنْدَ الْجُمْهُور، إنَّمَا خَالَفَ فِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، بَلْ ادَّعَى بَعْض الْحَنَفِيَّةِ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ اهـ عَلَى أَنَّهُ قَدْ انْدَفَعَ الْإِعْلَال بِالْإِرْسَالِ بِمَا فِي رِوَايَة الْحَاكِمِ مِنْ ذِكْر أَبِي مُوسَى. وَقَدْ شَدَّ مِنْ عَضُد هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ حَفْصَةَ الْمَذْكُور فِي الْبَابِ. وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، إلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مَرِيضًا» وَفِي إسْنَاده ابْنُ لَهِيعَةَ وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عِنْدَ الْعُقَيْلِيِّ وَالْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ وَفِيهِ أَرْبَعَة ضُعَفَاءُ عَلَى الْوَلَاءِ قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْد الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ. وَعَنْ مَوْلًى لِآلِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَذَكَرَهُ صَاحِبُ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ، وَقَالَ: فِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ بِلَفْظِ «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاع الْجَنَائِز وَلَا جُمُعَة عَلَيْنَا» أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (عَبْد مَمْلُوك) فِيهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْعَبْدِ. وَقَالَ دَاوُد: إنَّهَا وَاجِبَة عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ تَحْتِ عُمُوم الْخِطَابِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ امْرَأَة) فِيهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ، أَمَّا غَيْر الْعَجَائِز فَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعَجَائِز فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحَبّ لَهُنَّ حُضُورهَا. قَوْلُهُ: (أَوْ صَبِيّ) فِيهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الصِّبْيَانِ وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (أَوْ مَرِيض) فِيهِ أَنَّ الْمَرِيضَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ الْحُضُورُ يَجْلِبُ عَلَيْهِ مَشَقَّةً. وَقَدْ أَلْحَقَ بِهِ الْإِمَامُ يَحْيَى وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْأَعْمَى وَإِنْ وَجَدَ قَائِدَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ: إنَّهُ غَيْر مَعْذُور عَنْ الْحُضُور إنْ وَجَدَ قَائِدَا. وَظَاهِر حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ

(3/270)


1185 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْكَلَأُ فَيَرْتَفِعُ، ثُمَّ تَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلَا يَجِيءُ وَلَا يَشْهَدُهَا، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلَا يَشْهَدُهَا، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلَا يَشْهَدُهَا، حَتَّى يَطْبَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلْبِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي أَوَّل هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ غَيْر مَعْذُور مَعَ سَمَاعه لِلنِّدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَجِد قَائِدًا لِعَدَمِ الْفَرْق بَيْن الْجُمُعَة وَغَيْرهَا مِنْ الصَّلَوَات. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى الْحَدِيثَيْنِ فِي أَوَّل أَبْوَابِ الْجَمَاعَة.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ نَازِلًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْفُقَهَاءُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ وَالْبَاقِرُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى: إنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ نَازِلَا وَقْت إقَامَتهَا. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ اسْتِثْنَاءِ الْمُسَافِر، وَكَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمُسَافِر فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ. وَقَالَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَأَبُو الْعَبَّاسِ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيِّ: إنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِر إذَا كَانَ نَازِلَا وَقْت إقَامَتهَا، لَا إذَا كَانَ سَائِرَا.
وَمَحَلّ الْخِلَاف هَلْ يُطْلَق اسْم الْمُسَافِر عَلَى مَنْ كَانَ نَازِلَا أَوْ يَخْتَصّ بِالسَّائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ صَلَاة السَّفَر.

الْحَدِيث هُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ كَمَا ذَكَر الْمُصَنِّف مِنْ رِوَايَة مُحَمَّد بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَفِي إسْنَاده مَعْدِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ مَقَال. وَرَوَى نَحْوه الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ. وَرَوَى أَيْضًا نَحْوه الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: (أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ) بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة وَبَعْدهَا بَاءٌ مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُنَّ مِنْ الْعِشْرِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ ضَأْنًا، وَقِيلَ: مَعْزًا خَاصَّة، وَقِيلَ: مَا بَيْن السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ، وَلَفْظ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " أَنْ يَتَّخِذ الضِّبْنَة " قَالَ الْعِرَاقِيُّ: بِكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَة سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُون: هِيَ مَا تَحْت يَدك مِنْ مَال أَوْ عِيَال اهـ.
وَفِي الْقَامُوسِ فِي فَصْل الصَّاد الْمُهْمَلَة مِنْ بَابِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَة مَا لَفْظه: وَالصُّبَّة بِالضَّمِّ: مَا صُبَّ مِنْ طَعَام وَغَيْره، ثُمَّ قَالَ: وَالسُّرْبَة مِنْ الْخَيْل وَالْإِبِل وَالْغَنَم، أَوْ مَا بَيْن الْعَشَرَة إلَى الْأَرْبَعِينَ أَوْ مِنْ الْإِبِل مَا دُون الْمِائَة. وَقَالَ فِي فَصْل الضَّاد الْمُعْجَمَة مِنْ حَرْف النُّون: الضِّبْنَة مُثَلَّثَة وَكَفَرْحَةٍ الْعِيَال وَمَنْ لَا غَنَاء فِيهِ وَلَا كِفَايَة مِنْ الرُّفَقَاءِ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالتَّوَعُّدُ عَلَى التَّشَاغُلِ عَنْهَا بِالْمَالِ.
وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تَسْقُط عَمَّنْ كَانَ خَارِجَا عَنْ بَلَد إقَامَتهَا وَإِنَّ طَلَبَ الْكَلَأ وَنَحْوه لَا يَكُون عُذْرَا فِي تَرْكهَا.

(3/271)


1186 - (وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ فَأُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ رَآهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَتَهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَع الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ إلَّا خَمْسَة أَحَادِيثَ وَعَدَّهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا عَدَّهُ) .

1187 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَيْهِ هَيْئَةُ السَّفَرِ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ جُمُعَةٍ لَخَرَجْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: اُخْرُجْ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَحْبِسُ عَنْ سَفَرٍ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّهُ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه، ثُمَّ قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ شُعْبَةُ: وَذَكَرَ الْكَلَام الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّف، وَفِي إسْنَاده الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: انْفَرَدَ بِهِ الْحَجَّاجُ وَهُوَ ضَعِيف. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيِّ: ضَعَّفَهُ الْجُمْهُور وَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إلَى تَصْحِيحِ الْحَدِيث وَقَالَ: مَا قَالَهُ شُعْبَةُ لَا يُؤَثِّر فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ: هُوَ صَحِيحُ السَّنَد صَحِيحُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْغَزْو أَفْضَل مِنْ الْجَمَاعَة فِي الْجُمُعَة وَغَيَّرَهَا، وَطَاعَة النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَزْو أَفْضَل مِنْ طَاعَته فِي صَلَاة الْجَمَاعَة. وَتَعَقَّبَهُ الْعِرَاقِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْكَلَام لَيْسَ جَارِيَا عَلَى قَوَاعِد أَهْل الْحَدِيثِ. وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الْمَعْنَى صَحِيحَا أَنْ يَكُون السَّنَد صَحِيحَا، فَإِنَّ شَرْطَ صِحَّة الْإِسْنَاد اتِّصَالُهُ، فَالْمُنْقَطِع لَيْسَ مِنْ أَقْسَام الصَّحِيحِ عِنْدَ عَامَّة الْعُلَمَاءِ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ فَكُلّ مَنْ لَا يَحْتَجّ بِالْمُرْسَلِ لَا يَحْتَجّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ، بَلْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْح الْمُهَذَّبِ وَغَيْره اتِّفَاق الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّس مَعَ احْتِمَال الِاتِّصَال، فَكَيْف مَعَ تَصْرِيحِ شُعْبَةَ وَهُوَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيث بِأَنَّ الْحَكَمَ لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ مِقْسَمٍ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيث لَكَانَ حُجَّة وَاضِحَة، وَإِذَا لَمْ يَثْبُت فَالْحُجَّة قَائِمَة بِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَارُض الْوَاجِبَات وَأَنَّهُ يُقَدَّم أَهَمّهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَزْو أَهَمّ مِنْ صَلَاة الْجُمُعَة، إذْ الْجُمُعَةُ لَهَا خَلَفٌ عِنْدَ فَوْتهَا، بِخِلَافِ الْغَزْو خُصُوصًا إذَا تَعَيَّنَ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمه، وَأَيْضًا فَالْجُمُعَة لَمْ تَجِبْ قَبْلَ الزَّوَال، وَإِنْ وَجَبَ السَّعْي إلَيْهَا قَبْله فِي حَقّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَلَا يُمْكِنهُ إدْرَاكهَا إلَّا بِالسَّعْيِ إلَيْهَا قَبْله، وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ يُمْكِن

(3/272)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَنْ يَكُون حُكْمه عِنْدَ ذَلِكَ حُكْم مَا بَعْد الزَّوَال اهـ.
وَأَمَّا الْأَثَر الْمَرْوِيّ عَنْ عُمَرَ فَذَكَره الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَلَمْ يَتَكَلَّم عَلَيْهِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ سَافَرَ يَوْم الْجُمُعَة وَلَمْ يَنْتَظِرْ الصَّلَاةَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُسَافِر يَوْم الْجُمُعَة ضَحْوَة، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ يَوْم الْجُمُعَة وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْإِفْرَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «مَنْ سَافَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يُصْحَبَ فِي سَفَره» وَفِي إسْنَاده ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ مُخْتَلَف فِيهِ، وَمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَة الْحُسَيْنِ بْنِ عَلْوَانَ عَنْهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَافَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَا عَلَيْهِ مَلَكَاهُ أَنْ لَا يُصَاحَبَ فِي سَفَرِهِ وَلَا تُقْضَى لَهُ حَاجَةٌ» ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: الْحُسَيْنُ بْنُ عَلْوَانَ غَيْره أَثْبَت مِنْهُ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: قَدْ أَلَانَ الْخَطِيبُ الْكَلَام فِي الْحُسَيْنِ، هَذَا وَقَدْ كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ حِبَّانَ إلَى الْوَضْع، وَذَكَرَ لَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ مِمَّا كَذَبَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَاز السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الزَّوَالِ عَلَى خَمْسَة أَقْوَال: الْأَوَّل: الْجَوَاز، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاءِ. فَمِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَابْنُ عُمَرَ. وَمِنْ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ. وَمِنْ الْأَئِمَّة أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة عَنْهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة عَنْهُ وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيم لِلشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الْمَنْع مِنْهُ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيد وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْ مَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: جَوَازه لِسَفَرِ الْجِهَاد دُون غَيْره وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَات عَنْ أَحْمَدَ. وَالرَّابِع: جَوَازه لِلسَّفَرِ الْوَاجِبِ دُون غَيْره، وَهُوَ اخْتِيَار أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّة. وَمَالَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَالْخَامِس: جَوَازه لِسَفَرِ الطَّاعَة وَاجِبَا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا وَهُوَ قَوْل كَثِير مِنْ الشَّافِعِيَّة وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيّ.
وَأَمَّا بَعْد الزَّوَال مِنْ يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: قَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاق عَلَى عَدَم جَوَازه وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى جَوَازه كَسَائِرِ الصَّلَوَات، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَامَّة الْعُلَمَاء، وَفَرَّقُوا بَيْن الْجُمُعَة وَغَيْرهَا مِنْ الصَّلَوَات بِوُجُوبِ الْجَمَاعَة فِي الْجُمُعَة دُون غَيْرهَا، وَالظَّاهِر جَوَاز السَّفَر قَبْلَ دُخُول وَقْت الْجُمُعَة وَبَعَدَ دُخُوله لِعَدَمِ الْمَانِع مِنْ ذَلِكَ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَا يَصْلُحَانِ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِمَا عَلَى الْمَنْع لِمَا عَرَفْت مِنْ ضَعْفهمَا وَمُعَارَضَة مَا هُوَ أَنْهَض مِنْهُمَا وَمُخَالَفَتهمَا لِمَا هُوَ الْأَصْل فَلَا يَنْتَقِل عَنْهُ إلَّا بِنَاقِلٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يُوجَد. وَأَمَّا وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَالظَّاهِر عَدَم الْجَوَاز لِمَنْ قَدْ وَجَبَ وَعَلَيْهِ الْحُضُور إلَّا أَنْ يَخْشَى حُصُول مَضَرَّة مِنْ تَخَلُّفه لِلْجُمُعَةِ كَالِانْقِطَاعِ

(3/273)


بَابُ انْعِقَاد الْجُمُعَة بِأَرْبَعِينَ وَإِقَامَتهَا فِي الْقُرَى
1188 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إذَا سَمِعْت النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَال لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قُلْت: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
عَنْ الرُّفْقَة الَّتِي لَا يَتَمَكَّن مِنْ السَّفَر إلَّا مَعَهُمْ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَار، وَقَدْ أَجَازَ الشَّارِعُ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ لِعُذْرِ الْمَطَر فَجَوَازه لِمَا كَانَ أَدْخَل فِي الْمَشَقَّة مِنْهُ أَوْلَى.

[بَابُ انْعِقَاد الْجُمُعَة بِأَرْبَعِينَ وَإِقَامَتهَا فِي الْقُرَى]
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَاده حَسَن اهـ، وَفِي إسْنَاده مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَفِيهِ مَقَال مَشْهُور. قَوْلُهُ: (هَزْم النَّبِيتِ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَسُكُون الزَّاي: الْمُطْمَئِنّ مِنْ الْأَرْض، وَالنَّبِيتَ بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْيَاءِ التَّحْتِيَّة وَبَعْدهَا تَاءٌ فَوْقِيَّة. قَالَ فِي الْقَامُوس: هُوَ أَبُو حَيٍّ بِالْيَمَنِ اسْمه عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ اهـ. وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا مَوْضِع مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، وَهِيَ قَرْيَة عَلَى مِيل مِنْ الْمَدِينَةِ. وَبَنُو بَيَاضَةَ بَطْن مِنْ الْأَنْصَار.
قَوْلُهُ: (فِي نَقِيع) هُوَ بِالنُّونِ ثُمَّ الْقَاف ثُمَّ الْيَاءُ التَّحْتِيَّة بَعْدهَا عَيْن مُهْمَلَة. قَوْلُهُ: (الْخَضِمَاتِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة مَوْضِع مَعْرُوف. قَوْلُهُ: (أَرْبَعُونَ رَجُلًا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَوَجْه الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْأُمَّة أَجْمَعَتْ عَلَى اشْتِرَاط الْعَدَد، وَالْأَصْل الظُّهْر، فَلَا تَصِحّ الْجُمُعَة إلَّا بِعَدَدٍ أُثْبِت بِدَلِيلٍ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازهَا بِأَرْبَعِينَ فَلَا يَجُوز بِأَقَلّ مِنْهُ، إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» قَالُوا: وَلَمْ تَثْبُت صَلَاته لَهَا بِأَقَلّ مِنْ أَرْبَعِينَ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ لَا دَلَالَة فِي الْحَدِيث عَلَى اشْتِرَاط الْأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَة عَيْن. وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمُعَة فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَة كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ إقَامَته هُنَالِكَ مِنْ أَجَل الْكُفَّار، فَلَمَّا هَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابه إلَى الْمَدِينَةِ كَتَبَ إلَيْهِمْ يَأْمُرهُمْ أَنْ يُجَمِّعُوا فَجَمَّعُوا، وَاتُّفِقَ أَنَّ عُدَّتهمْ إذَنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُون الْأَرْبَعِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ

(3/274)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْجُمُعَة.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ وَقَائِع الْأَعْيَان لَا يُحْتَجّ بِهَا عَلَى الْعُمُوم. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ، قَالَتْ الْأَنْصَارُ: لِلْيَهُودِ يَوْمٌ يُجَمِّعُونَ فِيهِ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَلِلنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، فَهَلُمَّ فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نُجَمِّعُ فِيهِ فَنَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَشْكُرُهُ، فَجَعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَاجْتَمَعُوا إلَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْا الْجُمُعَةَ حِينَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَتَغَدَّوْا وَتَعَشَّوْا مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بَعْدَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الْآيَة.
قَالَ الْحَافِظُ: وَرِجَاله ثِقَات إلَّا أَنَّهُ مُرْسَل. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَثْبُت أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْجُمُعَة بِأَقَلّ مِنْ أَرْبَعِينَ، يَرُدّهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْآتِي فِي بَابِ انْفِضَاض الْعَدَد لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا اثْنَا عَشَر رَجُلًا. وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَوَّل مَنْ جَمَّعَ بِهَا يَوْم الْجُمُعَة قَبْلَ أَنْ يَقْدَم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ اثْنَا عَشَر رَجُلًا، وَفِي إسْنَاده صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَر وَهُوَ ضَعِيف قَالَ الْحَافِظُ: وَيُجْمَع بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ أَسْعَدَ كَانَ أَمِيرًا وَمُصْعَبًا كَانَ إمَامًا.
وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ مَرْفُوعًا: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا إمَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا أَرْبَعَةً» وَفِي رِوَايَة: «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ الْإِمَامُ» وَقَدْ ضَعَّفَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَفِيهِ مَتْرُوكٌ. قَالَ فِي التَّلْخِيص: وَهُوَ مُنْقَطِع وَأَمَّا احْتِجَاجهمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقهَا جُمُعَةٌ وَأَضْحَى وَفِطْرٌ» فَفِي إسْنَاده بَعَدَ تَسْلِيم أَنَّهُ مَرْفُوع عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ أَحْمَدُ: اضْرِبْ عَلَى أَحَادِيثه فَإِنَّهَا كَذِبٌ أَوْ مَوْضُوعَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُنْكَر الْحَدِيثِ. وَكَانَ ابْنُ حِبَّانَ لَا يُجَوِّز الِاحْتِجَاج بِهِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُحْتَجّ بِمِثْلِهِ. وَمِنْ الْغَرَائِبِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى اعْتِبَار الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: «جَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْتُ آخِرَ مَنْ أَتَاهُ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: إنَّكُمْ مُصِيبُونَ وَمَنْصُورُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ» فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَة قَصَدَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْمَع أَصْحَابه لِيُبَشِّرهُمْ، فَاتُّفِقَ أَنْ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْهُمْ هَذَا الْعَدَد.
قَالَ السُّيُوطِيّ: وَإِيرَاد الْبَيْهَقِيّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِد مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلّ لِلْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَاف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُنْتَشِر جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي خَمْسَة عَشَر مَذْهَبًا، فَقَالَ: وَجُمْلَة مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خَمْسَة عَشْر قَوْلًا: أَحَدهَا: تَصِحّ مِنْ الْوَاحِد نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ. قُلْت: وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ وَصَاحِبِ الْبَحْر عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
الثَّانِي: اثْنَانِ كَالْجَمَاعَةِ، هُوَ قَوْل النَّخَعِيّ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى. الثَّالِثُ:

(3/275)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
اثْنَانِ مَعَ الْإِمَام عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. قُلْت: وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ وَتَحْصِيله لِلْهَادِي وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
الرَّابِع: ثَلَاثَة مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْت: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ وَالسُّيُوطِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثُ. الْخَامِس: سَبْعَة، حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. السَّادِس: تِسْعَة، عِنْدَ رَبِيعَةَ. السَّابِع: اثْنَا عَشَر، عَنْهُ فِي رِوَايَة. قُلْت: وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُتَوَلِّي وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
الثَّامِن: مِثْله، غَيْر الْإِمَام، عِنْدَ إِسْحَاقَ. التَّاسِع: عِشْرُونَ، فِي رِوَايَة ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ. الْعَاشِر: ثَلَاثُونَ، فِي رِوَايَته أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَرْبَعُونَ بِالْإِمَامِ، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. قُلْت: وَمَعَهُ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرهمْ كَمَا حَكَى ذَلِكَ السُّيُوطِيّ.
الثَّانِي عَشَر: أَرْبَعُونَ غَيْر الْإِمَام، رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَائِفَة. الثَّالِثَ عَشَر: خَمْسُونَ، عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَة كُلَيْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الرَّابِع عَشَر: ثَمَانُونَ، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ. الْخَامِس عَشَر: جَمْعٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَيْد. قُلْت: حَكَاهُ السُّيُوطِيّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْحَافِظُ: وَلَعَلَّ هَذَا الْأَخِير أَرْجَحهَا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيل
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَد لِاشْتِرَاطِ ثَمَانِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ تِسْعَة أَوْ سَبْعَة، كَمَا أَنَّهُ لَا مُسْتَنَد لِصِحَّتِهَا مِنْ الْوَاحِد الْمُنْفَرِد. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا تَصِحّ بِاثْنَيْنِ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعَدَد وَاجِبٌ بِالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاع، وَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت دَلِيل عَلَى اشْتِرَاط عَدَد مَخْصُوص، وَقَدْ صَحَّتْ الْجَمَاعَة فِي سَائِر الصَّلَوَات بِاثْنَيْنِ، وَلَا فَرْق بَيْنَهَا وَبَيْن الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْجُمُعَة لَا تَنْعَقِد إلَّا بِكَذَا، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِثَلَاثَةٍ فَرَأَى الْعَدَد وَاجِبًا فِي الْجُمُعَة كَالصَّلَاةِ، فَشَرْط الْعَدَد فِي الْمَأْمُومِينَ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْخُطْبَةِ.
وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِأَرْبَعَةٍ فَمُسْتَنَده حَدِيثُ أُمّ عَبْد اللَّه الدَّوْسِيَّةِ الْمُتَقَدِّم، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَلَهُ طَرِيق أُخْرَى عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِيهَا مَتْرُوكُونَ. وَلَهُ طَرِيق ثَالِثَة عِنْده أَيْضًا وَفِيهَا مَتْرُوك. قَالَ السُّيُوطِيّ: قَدْ حَصَلَ مِنْ اجْتِمَاع هَذِهِ الطُّرُق نَوْع قُوَّة لِلْحَدِيثِ وَفِيهِ أَنَّ الطُّرُق الَّتِي لَا تَخْلُو كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا مِنْ مَتْرُوك لَا تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ وَإِنْ كَثُرَتْ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِاثْنَيْ عَشَر فَمُسْتَنَده حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الِانْفِضَاض وَسَيَأْتِي.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَدُلّ عَلَى صِحَّتهَا بِهَذَا الْمِقْدَار، وَأَمَّا أَنَّهَا لَا تَصِحّ إلَّا بِهِمْ فَصَاعِدًا إلَّا بِمَا دُونهمْ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الْخَمْسِينَ فَمُسْتَنَده مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجُمُعَةُ عَلَى الْخَمْسِينَ رَجُلًا، وَلَيْسَ عَلَى مَا دُونَ الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ» قَالَ السُّيُوطِيّ: لَكِنَّهُ

(3/276)


1189 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: بِجُوَاثَى: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
ضَعِيف وَمَعَ ضَعْفه فَهُوَ مُحْتَمِل لِلتَّأْوِيلِ، لِأَنَّ ظَاهِره أَنَّ هَذَا الْعَدَد شَرْط لِلْوُجُوبِ لَا شَرْط لِلصِّحَّةِ فَلَا يَلْزَم مِنْ عَدَم وُجُوبهَا عَلَى مَا دُون الْخَمْسِينَ عَدَم صِحَّتهَا مِنْهُمْ.
وَأَمَّا اشْتِرَاط جَمْع كَثِير مِنْ دُون تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوص فَمُسْتَنَده أَنَّ الْجُمُعَة شِعَار وَهُوَ لَا يَحْصُل إلَّا بِكَثْرَةٍ تَغِيظ أَعْدَاء الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِيهِ أَنَّ كَوْنهَا شِعَارًا لَا يَسْتَلْزِم أَنْ يَنْتَفِي وُجُوبهَا بِانْتِفَاءِ الْعَدَد الَّذِي يَحْصُل بِهِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الطَّلَب لَهَا مِنْ الْعِبَاد كِتَابًا وَسُنَّة مُطْلَق عَلَى اعْتِبَار الشِّعَار فَمَا الدَّلِيل عَلَى اعْتِبَاره، «وَكَتْبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنْ يَنْظُر الْيَوْم الَّذِي يَجْهَر فِيهِ الْيَهُود بِالزَّبُورِ فَيَجْمَع النِّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، فَإِذَا مَالَ النَّهَار عَنْ شَطْره عِنْدَ الزَّوَال مِنْ يَوْم الْجُمُعَة تَقَرَّبُوا إلَى اللَّه تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ» ، كَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، غَايَة مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ أَصْل الْمَشْرُوعِيَّة، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ مُعْتَبَر الْوُجُوبِ فَلَا يَصْلُح لِلتَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى اعْتِبَار عَدَد يَحْصُل بِهِ الشِّعَار وَإِلَّا لَزِمَ قَصْر مَشْرُوعِيَّة الْجُمُعَة عَلَى بَلَد تُشَارِك الْمُسْلِمِينَ فِي سُكُونه الْيَهُودُ وَأَنَّهُ بَاطِل عَلَى أَنَّهُ يُعَارِض حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُور مَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِي بَيَان السَّبَبِ فِي افْتِرَاض الْجُمُعَة وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ اجْتِمَاعهمْ لِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَشُكْره، وَهُوَ حَاصِل مِنْ الْقَلِيل وَالْكَثِير بَلْ مِنْ الْوَاحِد لَوْلَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْجُمُعَة يُعْتَبَر فِيهَا الِاجْتِمَاع وَهُوَ لَا يَحْصُل بِوَاحِدٍ.
وَأَمَّا الِاثْنَانِ فَبِانْضِمَامِ أَحَدهمَا إلَى الْآخَر يَحْصُل الِاجْتِمَاع وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّارِع اسْم الْجَمَاعَة عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقهمَا جَمَاعَة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَاب الْجَمَاعَة، وَقَدْ انْعَقَدَتْ سَائِر الصَّلَوَات بِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَالْجُمُعَة صَلَاة فَلَا تَخْتَصّ بِحُكْمٍ يُخَالِف غَيْرهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيل عَلَى اعْتِبَار عَدَد فِيهَا زَائِد عَلَى الْمُعْتَبَر فِي غَيْرهَا. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ إنَّهُ لَا يَثْبُت فِي عَدَد الْجُمُعَة حَدِيثٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ السُّيُوطِيّ: لَمْ يَثْبُت فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيث تَعْيِين عَدَد مَخْصُوص.

قَوْلُهُ: (أَوَّلُ جُمُعَة جُمِّعَتْ) زَادَ أَبُو دَاوُد: " فِي الْإِسْلَامِ " قَوْلُهُ: (فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَقَعَ فِي رِوَايَة: " بِمَكَّةَ " قَالَ فِي الْفَتْح: وَهُوَ خَطَأٌ بِلَا مِرْيَة قَوْلُهُ: (بِجُوَاثَى) بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْوَاو وَقَدْ تُهْمَز ثُمَّ مُثَلَّثَة خَفِيفَة قَوْلُهُ: (مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ) فِيهِ جَوَاز إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى، لِأَنَّ الظَّاهِر أَنَّ عَبْدَ الْقَيْسِ لَمْ يُجَمِّعُوا إلَّا بِأَمْرِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَة الصَّحَابَةِ مِنْ عَدَم الِاسْتِبْدَاد بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فِي زَمَن نُزُول الْوَحْي،

(3/277)


بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّجَمُّلِ لِلْجُمُعَةِ وَقَصْدِهَا بِسَكِينَةٍ وَالتَّبْكِيرِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَام
1190 - (عَنْ ابْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد) .

1191 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَلْبَسُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ مَسَّ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوز لَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآن كَمَا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي جَوَاز الْعَزْل بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا وَالْقُرْآن يَنْزِل فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ.
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ: أَنَّ جُوَاثَى اسْم حِصْن الْبَحْرَيْنِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنهَا قَرْيَة. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ أَبِي الْحَسَن اللَّخْمِيِّ أَنَّهَا مَدِينَة، وَمَا ثَبَتَ فِي نَفْس الْحَدِيثِ مِنْ كَوْنهَا قَرْيَة أَصَحّ مَعَ احْتِمَال أَنْ تَكُون فِي أَوَّل الْأَمْر قَرْيَة ثُمَّ صَارَتْ مَدِينَة.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابه، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْبَاقِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ، وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرهمَا أَنَّ الْجُمُعَة لَا تُقَام إلَّا فِي الْمُدُن دُون الْقُرَى. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرْفُوعًا: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ رَفْعَهُ وَصَحَّحَ ابْنُ حَزْمٍ وَقْفَهُ، وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسْرَحٌ فَلَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْل الْبَحْرَيْنِ أَنْ جَمِّعُوا حَيْثُ مَا كُنْتُمْ. وَهَذَا يَشْمَل الْمُدُن وَالْقُرَى، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ أَهْل مِصْرَ وَسَوَاحِلهَا كَانُوا يُجَمِّعُونَ عَلَى عَهْد عُمَرَ وَعُثْمَانَ بِأَمْرِهِمَا وَفِيهَا رِجَال مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَهْل الْمِيَاه بَيْن مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يُجَمِّعُونَ فَلَا يَعْتِبُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ وَجَبَ الرُّجُوع إلَى الْمَرْفُوع.
وَيُؤَيِّد عَدَم اشْتِرَاط الْمِصْر حَدِيثُ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ الْمُتَقَدِّم. وَذَهَبَ الْهَادِي إلَى اشْتِرَاط الْمَسْجِد، قَالَ: لِأَنَّهَا لَمْ تُقَمْ إلَّا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَسَائِر الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ غَيْر شَرْط، قَالُوا: إذْ لَمْ يُفَصِّلْ دَلِيلهَا. قَالَ فِي الْبَحْرِ: قُلْت: وَهُوَ قَوِيّ إنْ صَحَّتْ صَلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَطْن الْوَادِي اهـ.
وَقَدْ رَوَى صَلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَطْن الْوَادِي ابْنُ سَعْدٍ وَأَهْل السِّيَر، وَلَوْ سَلِمَ عَدَم صِحَّة ذَلِكَ لَمْ يَدُلّ فِعْلهَا فِي الْمَسْجِد عَلَى اشْتِرَاطه.

(3/278)


1192 - (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَرُوحُ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّل لَهُ طُرُق عِنْدَ أَبِي دَاوُد: مِنْهَا عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ عَنْ يُوسُف بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلِيُوسُفَ صُحْبَةٌ، وَذَكَر غَيْره أَنَّ لَهُ رِوَايَة. وَمِنْهَا عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَاغًا، وَوَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيق يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِي إسْنَاده نَظَر. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِم وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَمَّا الْغُسْل فَأَشْهَد أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِاسْتِنَان وَالطِّيب فَاَللَّه أَعْلَم: أَوَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ.
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّل يَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لِبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَة يَوْم الْجُمُعَة وَتَخْصِيصه بِمَلْبُوسٍ غَيْر مَلْبُوس سَائِر الْأَيَّام. وَحَدِيث أَبِي سَعِيدٍ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاللُّبْسِ مِنْ صَالِحِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى الْغُسْل فِي أَبْوَابه. وَأَمَّا لُبْس صَالِحِ الثِّيَاب وَالتَّطَيُّبُ فَلَا خِلَاف فِي اسْتِحْبَاب ذَلِكَ.
وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاع عَلَى عَدَم وُجُوبِ الطِّيب وَجَعْل ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَم وُجُوب الْغُسْل. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إنَّهُ كَانَ يُوجِب الطِّيبَ يَوْم الْجُمُعَة، وَبِهِ قَالَ بَعْض أَهْل الظَّاهِر، وَبِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِع عَطْف مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْط الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْغُسْل.

قَوْلُهُ: (وَيَتَطَهَّرُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْر) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيُّ " مِنْ طُهْره " وَالْمُرَاد الْمُبَالَغَة فِي التَّنْظِيف، وَيُؤْخَذ مِنْ عَطْفه عَلَى (يَغْتَسِلُ) أَنَّ إفَاضَةَ الْمَاءِ تَكْفِي فِي حُصُولِ الْغُسْلِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: الْمُرَاد بِالْغُسْلِ غَسْل الْجَسَد، بِالتَّطَهُّرِ غَسْل الرَّأْس قَوْلُهُ:

(3/279)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَيَدَّهِن) الْمُرَاد بِهِ إزَالَة شَعَث الشَّعْر بِهِ وَفِيهِ إشَارَة إلَى التَّزَيُّن يَوْم الْجُمُعَة قَوْلُهُ: (أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيب بَيْته) أَيْ إنْ لَمْ يَجِد دُهْنًا. قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون أَوْ بِمَعْنَى الْوَاو، وَإِضَافَته إلَى الْبَيْت تُؤْذِن بِأَنَّ السُّنَّة أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ طِيبًا وَيَجْعَلَ اسْتِعْمَالَهُ لَهُ عَادَةً فَيَدَّخِرَهُ فِي الْبَيْتِ، وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْبَيْتِ حَقِيقَته لَكِنْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد " أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ " وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّخِذ لِنَفْسِهِ طِيبًا فَلْيَسْتَعْمِلْ مِنْ طِيبِ امْرَأَته.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ " وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَة " وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَاد بِالْبَيْتِ فِي الْحَدِيثِ امْرَأَة الرَّجُل قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرُوحُ إلَى الْمَسْجِد) فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ " ثُمَّ يَخْرُجُ " وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَدَ " ثُمَّ يَمْشِي وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ " زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ " إلَى الْمَسْجِد ". قَوْلُهُ: (وَلَا يُفَرِّق بَيْن اثْنَيْنِ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ " ثُمَّ لَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ " وَلَمْ يَتَخَطَّ أَحَدًا وَلَمْ يُؤْذِهِ " وَفِيهِ كَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ وَتَخَطِّي الرِّقَابِ وَأَذِيَّة الْمُصَلِّينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْرَه التَّخَطِّي إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِد السَّبِيل إلَى الْمُصَلَّى إلَّا بِذَلِكَ انْتَهَى. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الْإِمَام، وَمَنْ يُرِيدُ وَصْل الصَّفّ الْمُنْقَطِع إنْ أَبَى السَّابِق مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ يُرِيد الرُّجُوع إلَى مَوْضِعه الَّذِي قَامَ مِنْهُ لِضَرُورَةٍ. وَاسْتَثْنَى الْمُتَوَلِّي مِنْ الشَّافِعِيَّة مَنْ يَكُون مُعَظَّمًا لِدِينِهِ وَعِلْمه إذَا أَلِفَ مَكَانًا يَجْلِس فِيهِ، وَهُوَ تَخْصِيص بِدُونِ مُخَصِّص.
وَيُمْكِن أَنْ يُسْتَدَلّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» إذَا كَانَ الْمَقْصُود مِنْ التَّخَطِّي هُوَ الْوُصُول إلَى الصَّفّ الَّذِي يَلِي الْإِمَام فِي حَقِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُول: لَا يُكْرَه التَّخَطِّي إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر وَلَا دَلِيل عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّة الْكَلَام عَلَى التَّخَطِّي فِي بَابِ: الرَّجُل أَحَقّ بِمَجْلِسِهِ قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ) فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ " ثُمَّ يَرْكَع مَا قُضِيَ لَهُ ".
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ) فِيهِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ حَالَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ لَمْ يَحْصُل لَهُ مِنْ الْأَجْر مَا فِي الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (غُفِرَ لَهُ مَا بَيْن الْجُمُعَة إلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى) فِي رِوَايَة " مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَة الْأُخْرَى " وَفِي رِوَايَة " ذُنُوبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْن الْجُمُعَة وَالْأُخْرَى " وَالْمُرَاد بِالْأُخْرَى: الَّتِي مَضَتْ، بَيَّنَهُ اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ فِي رِوَايَته عِنْد ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَلَفْظه " غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَة الَّتِي قَبْلهَا " وَلِابْنِ حِبَّانَ " غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَزِيَادَة ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا " وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " مَا لَمْ يَغْشَ الْكَبَائِرَ " وَنَحْو ذَلِكَ لِمُسْلِمٍ.
وَظَاهِر الْحَدِيثِ أَنَّ تَكْفِير الذُّنُوبِ مِنْ الْجُمُعَة إلَى الْجُمُعَة مَشْرُوط بِوُجُودِ جَمِيع مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْغُسْل وَالتَّنْظِيف وَالتَّطَيُّبِ أَوْ الدُّهْن وَتَرْك التَّفْرِقَة وَالتَّخَطِّي وَالْأَذِيَّة وَالتَّنَفُّل وَالْإِنْصَات، وَكَذَلِكَ لُبْس أَحْسَن الثِّيَابِ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات،

(3/280)


1193 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إذَا خَرَجَ إمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَة الْأُخْرَى» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَالْمَشْي بِالسَّكِينَةِ كَمَا وَقَعَ فِي أُخْرَى، وَتَرْك الْكَبَائِر كَمَا فِي رِوَايَة أَيْضًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْد أَنْ سَاقَ حَدِيثَ الْبَابِ: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْكَلَامِ قَبْلَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ انْتَهَى.

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي أَبْوَابِ الْغُسْلِ: مِنْهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْمَسِيرِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، فَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ الصَّلَاةِ أُجِيزَ بِعَمَلِ مِائَتَيْ سَنَةٍ» وَفِي إسْنَادِهِ الضَّحَّاكُ بْنُ حَمْزَةَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ وَتَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ طَهُورَهُ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يَلْغُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ مَسَّ مِنْ أَطْيَبِ طِيبِهِ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ثُمَّ رَاحَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ وَزِيَادَةٌ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ دَنَا حَيْثُ يَسْمَعُ خُطْبَةَ الْإِمَامِ فَإِذَا خَرَجَ اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَنَى يُصَلِّيهَا مَعَهُ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا عِبَادَةُ سُنَّةٍ قِيَامُهَا وَصِيَامُهَا» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ لَهَا، وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ وَلَمْ يَلْغُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَمَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا» وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ وَعَنْ نُبَيْشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ

(3/281)


1194 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
لَا يُؤْذِي أَحَدًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ خَرَجَ جَلَسَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ كَفَّارَةٌ لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغْتَسَلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَهُ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَلِأَبِي أُمَامَةَ حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ وَغَدَا وَابْتَكَرَ وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ فِي يَوْمِ جُمُعَتِهِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا إلَى الْمَسْجِدِ صِيَامَ سَنَةٍ وَقِيَامَهَا» وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ فِي طَهَارَةٍ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ أَبَدًا: الْوِتْرُ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخَرُ، وَشَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ اغْتَسَلَ) يَعُمّ كُلّ مَنْ يَصِحّ مِنْهُ الْغُسْل مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى وَحُرّ وَعَبْد. قَوْلُهُ: (غُسْلَ الْجَنَابَة) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف: أَيْ غُسْلًا كَغُسْلِ الْجَنَابَة.
وَفِي رِوَايَة لَعَبْدِ الرَّزَّاقِ " فَاغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ كَمَا يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَة " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَظَاهِره أَنَّ التَّشْبِيه لِلْكَيْفِيَّةِ لَا لِلْحُكْمِ وَهُوَ قَوْل الْأَكْثَر، وَقِيلَ: فِيهِ إشَارَة إلَى الْجِمَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَغْتَسِل فِيهِ مِنْ الْجَنَابَة. وَالْحِكْمَة فِيهِ أَنْ تَسْكُن النَّفْس فِي الرَّوَاحِ إلَى الصَّلَاة وَلَا تَمْتَدّ عَيْنه إلَى شَيْءٍ يَرَاهُ.
وَفِيهِ حَمْل الْمَرْأَة أَيْضًا عَلَى الِاغْتِسَال كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ فِي أَبْوَابِ الْغُسْل. قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ بَعْض أَصْحَابنَا إلَى هَذَا وَهُوَ ضَعِيف أَوْ بَاطِل.

(3/282)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
قَالَ الْحَافِظُ: قَدْ حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّهُ أَنْسَبُ الْأَقْوَال فَلَا وَجْه لِادِّعَاءِ بُطْلَانه وَإِنْ كَانَ الْأَوَّل أَرْجَحُ، وَلَعَلَّه عَنَى أَنَّهُ بَاطِل فِي الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَاحَ) زَادَ أَصْحَابُ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ " فِي السَّاعَة الْأُولَى " قَوْلَهُ: (فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً) أَيْ تَصَدَّقَ بِهَا مُتَقَرِّبَا إلَى اللَّه تَعَالَى. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ إلَّا بَيَان تَفَاوُتِ الْمُبَادِرِينَ إلَى الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ نِسْبَة الثَّانِي مِنْ الْأَوَّل نِسْبَة الْبَقَرَة إلَى الْبَدَنَة فِي الْقِيمَة مِثْلًا. وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي مُرْسَل طَاوُسٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ " كَفَضْلِ صَاحِبِ الْجَزُورِ عَلَى صَاحِبِ الْبَقَرَةِ " وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر، وَقَدْ قِيلَ غَيْر ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة) قَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث مَا الْمُرَاد بِهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا مَا يَتَبَادَر إلَى الذِّهْن مِنْ الْعُرْف فِيهَا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِيهِ نَظَر، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَاد لَاخْتَلَفَ الْأَمْر فِي الْيَوْم الشَّاتِي وَالصَّائِف، لِأَنَّ النَّهَار يَنْتَهِي فِي الْقِصَر إلَى عَشْر سَاعَات، وَفِي الطُّول إلَى أَرْبَع عَشْرَة سَاعَة، وَهَذَا الْإِشْكَال لِلْقَفَّالِ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ مَا لَا يَخْتَلِف عَدَده بِالطُّولِ وَالْقِصَر، فَالنَّهَار ثِنْتَا عَشْرَة سَاعَة، لَكِنْ يَزِيد كُلّ مِنْهَا وَيَنْقُص وَاللَّيْل كَذَلِكَ، وَهَذِهِ تُسَمَّى السَّاعَات الْآفَاقِيَّة عِنْدَ أَهْل الْمِيقَات، وَتِلْكَ التَّعْدِيلِيَّة.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً» قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ التَّبْكِير فَيُسْتَأْنَس بِهِ فِي الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ بَيَان مَرَاتِب التَّبْكِير مِنْ أَوَّل النَّهَار إلَى الزَّوَال، وَأَنَّهَا تَنْقَسِم إلَى خَمْس، وَتَجَاسَرَ الْغَزَالِيُّ فَقَسَّمَهَا بِرَأْيِهِ فَقَالَ: الْأُولَى: مِنْ طُلُوع الْفَجْر إلَى طُلُوع الشَّمْس، وَالثَّانِيَة: إلَى ارْتِفَاعهَا، وَالثَّالِثَة: إلَى انْبِسَاطهَا، وَالرَّابِعَة: إلَى أَنْ تَرْمُض الْأَقْدَام، وَالْخَامِسَة: إلَى الزَّوَال. وَاعْتَرَضَهُ ابْنِ دَقِيق الْعِيد بِأَنَّ الرَّدّ إلَى السَّاعَات الْمَعْرُوفَة أَوْلَى وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَد بِالذِّكْرِ مَعْنًى، لِأَنَّ الْمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَة جِدَّا.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ: خَمْس لَحَظَات لَطِيفَة: أَوَّلهَا زَوَال الشَّمْس وَآخِرهَا قُعُود الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَر، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمَالِكِيَّة.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ السَّاعَة تُطْلَق عَلَى جُزْءٍ مِنْ الزَّمَان غَيْر مَحْدُود، وَقَالُوا: الرَّوَاحُ لَا يَكُون إلَّا مِنْ بَعَدَ الزَّوَال. وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَزْهَرِيُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّوَاحَ لَا يَكُون إلَّا مِنْ بَعْد الزَّوَال، وَنَقَلَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُول: رَاحَ فِي جَمِيع الْأَوْقَات بِمَعْنَى ذَهَبَ، قَالَ: وَهِيَ لُغَة أَهْل الْحِجَازِ، وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبَيْنِ نَحْوه.
وَفِيهِ رَدّ عَلَى الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ حَيْثُ أَطْلَقَ أَنَّ الرَّوَاحَ لَا يُسْتَعْمَل فِي الْمُضِيّ فِي أَوَّل النَّهَار بِوَجْهٍ، وَحَيْثُ قَالَ: إنَّ اسْتِعْمَال الرَّوَاحِ بِمَعْنَى الْغَدِ، وَلَمْ يُسْمَع وَلَا ثَبَتَ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " غَدَا " مَكَان " رَاحَ " وَبِلَفْظِ " الْمُتَعَجِّل إلَى الْجُمُعَة " قَالَ الْحَافِظُ: وَمَجْمُوع الرِّوَايَات يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالرَّوَاحِ

(3/283)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الذَّهَابُ، وَمَا ذَكَرَتْهُ الْمَالِكِيَّة أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، لِأَنَّ السَّاعَة فِي لِسَانِ الشَّارِعِ وَأَهْل اللُّغَة الْجُزْءُ مِنْ أَجْزَاء الزَّمَان كَمَا فِي كُتُبِ اللُّغَة.
وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى الْجُمُعَة قَبْلَ طُلُوع الشَّمْس أَوْ عِنْدَ انْبِسَاطهَا، وَلَوْ كَانَتْ السَّاعَة هِيَ الْمَعْرُوفَة عِنْدَ أَهْل الْفَلَك لَمَا تَرَكَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْر الْقُرُون وَأَسْرَع النَّاس إلَى مُوجِبَات الْأُجُور الذَّهَابُ إلَى الْجُمُعَة فِي السَّاعَة الْأُولَى مِنْ أَوَّل النَّهَار أَوْ الثَّانِيَة أَوْ الثَّالِثَة، فَالْوَاجِبُ حَمْل كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى لِسَانِ قَوْمه إلَّا أَنْ يَثْبُت لَهُ اصْطِلَاحٌ يُخَالِفهُمْ، وَلَا يَجُوز حَمْله عَلَى الْمُتَعَارَف فِي لِسَان الْمُتَشَرِّعَةِ، الْحَادِثِ بَعَدَ عَصْره، إلَّا أَنَّهُ يُعَكِّر عَلَى هَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُصَرَّحُ بِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ السَّاعَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَيُمْكِنُ التَّقَصِّي عَنْهُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ جَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا لَهُ تَجْرِي عَلَيْهِ خِطَابَاتُهُ. وَمِمَّا يُشْكِلُ عَلَى اعْتِبَارَاتِ السَّاعَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَحَمْلِ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَيْهَا اسْتِلْزَامه صِحَّة صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَوَجْه ذَلِكَ أَنَّ تَقْسِيم السَّاعَات إلَى خَمْس ثُمَّ تَعْقِيبهَا بِخُرُوجِ الْإِمَام وَخُرُوجه عِنْدَ أَوَّل وَقْت الْجُمُعَة يَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي أَوَّل السَّاعَة السَّادِسَة وَهِيَ قَبْلَ الزَّوَال.
وَقَدْ أَجَابَ صَاحِبُ الْفَتْحِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَال فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُق الْحَدِيثِ ذِكْر الْإِتْيَان أَوَّل النَّهَار، فَلَعَلَّ السَّاعَة الْأُولَى مِنْهُ جُعِلَتْ لِلتَّأَهُّبِ بِالِاغْتِسَالِ وَغَيْره، وَيَكُون مُبْتَدَأُ الْمَجِيءِ مِنْ أَوَّل الثَّانِيَة، فَهِيَ أَوْلَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجِيءِ ثَانِيَة بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّهَار. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَآخِر الْخَامِسَة أَوَّل الزَّوَال فَيَرْتَفِع الْإِشْكَال، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الصَّيْدَلَانِيُّ فَقَالَ: إنَّ أَوَّل التَّبْكِير يَكُون مِنْ ارْتِفَاع النَّهَار وَهُوَ أَوَّل الضُّحَى وَهُوَ أَوَّل الْهَاجِرَة، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ الْحَثّ عَلَى التَّهْجِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ
وَلِغَيْرِهِ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدهَا: أَنَّ أَوَّل التَّبْكِير طُلُوع الشَّمْس، وَالثَّانِي: طُلُوع الْفَجْر قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذِكْر السَّاعَة السَّادِسَة ثَابِتًا كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَة ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سُمَيٌّ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيق اللَّيْثِ عَنْهُ، بِزِيَادَةٍ مُرَتَّبَة بَيْن الدَّجَاجَة وَالْبَيْضَة وَهِيَ الْعُصْفُور. وَتَابَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، أَخْرَجَهُ حُمَيْدٍ بْنِ زَنْجُوَيْهِ فِي التَّرْغِيبِ لَهُ بِلَفْظِ " فَكَمُهْدِي الْبَدَنَة إلَى الْبَقَرَة إلَى الشَّاة إلَى الطَّيْر إلَى الْعُصْفُور " الْحَدِيث وَنَحْوه فِي مُرْسَل طَاوُسٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ. وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ رِوَايَة عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ زِيَادَة " الْبَطَّة " بَيْن الْكَبْش وَالدَّجَاجَة، لَكِنْ خَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَهُوَ أَثْبَت مِنْهُ فِي مَعْمَرٍ، وَعَلَى هَذَا فَخُرُوج الْإِمَام يَكُون عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّادِسَة قَوْلُهُ: (دَجَاجَة) بِالْفَتْحِ وَيَجُوز الْكَسْر، وَحَكَى بَعْضُهُمْ جَوَاز الضَّمّ
وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الِاغْتِسَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَيْهِ وَعَلَى فَضِيلَة التَّبْكِير إلَيْهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ

(3/284)


1195 - (وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُحْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوَا مِنْ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد) .

بَابُ فَضْل يَوْم الْجُمُعَة وَذِكْر سَاعَة الْإِجَابَة وَفَضْل الصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ
1196 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

1197 - (وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى، وَفِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ آدَمَ وَأَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ آدَمَ إلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إلَّا هُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَفْضَل الْهَدْيِ الْإِبِل ثُمَّ الْبَقَر ثُمَّ الْغَنَم، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْجُمُعَة فِي السَّادِسَة، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ إهْدَاءُ أَيِّ مَالٍ كَانَ انْتَهَى.

الْحَدِيث قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: فِي إسْنَاده انْقِطَاع، وَهُوَ يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة حُضُورِ الْخُطْبَةِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَامِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ الْحَضّ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّرْغِيبِ إلَيْهِ.
وَفِيهِ أَنَّ التَّأَخُّرَ عَنْ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأَخُّرِ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي دُخُولهَا.

(3/285)


وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ، وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَة، إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد لَمْ يَذْكُرَا الْقِيَامَ وَلَا يُقَلِّلُهَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّل أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ الْعِرَاقِيُّ: إسْنَاده حَسَن. وَالْحَدِيثُ الثَّالِث زَادَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ " كَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ " هِيَ بَعْدُ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ " قَوْلُهُ: (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ) فِيهِ أَنَّ أَفْضَل الْأَيَّام يَوْم الْجُمُعَة، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيّ.
وَيُشْكِل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ» وَسَيَأْتِي فِي آخِر أَبْوَاب الضَّحَايَا، وَيَأْتِي الْجَمْع بَيْنَهُ وَبَيْن مَا أَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» .
وَقَدْ جَمَعَ الْعِرَاقِيُّ فَقَالَ: الْمُرَاد بِتَفْضِيلِ الْجُمُعَة بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام الْجُمُعَة، وَتَفْضِيل يَوْم عَرَفَةَ أَوْ يَوْم النَّحْر بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام السَّنَة، وَصَرَّحَ بِأَنَّ حَدِيثَ أَفْضَلِيَّة يَوْم الْجُمُعَة أَصَحّ. قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ: صِيغَة خَيْر وَشَرّ يُسْتَعْمَلَانِ لِلْمُفَاضَلَةِ وَلِغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَتْ الْمُفَاضَلَة فَأَصْلهَا أَخْيَر وَأَشْرَرْ عَلَى وَزْن أَفْعَل، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونَا لِلْمُفَاضَلَةِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَة الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] ، وَقَالَ {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] قَالَ: وَهِيَ فِي حَدِيث الْبَابِ لِلْمُفَاضَلَةِ وَمَعْنَاهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ يَوْم الْجُمُعَة أَفْضَل مِنْ كُلّ يَوْم طَلَعَتْ شَمْسه.
وَظَاهِر قَوْلُهُ: " طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ " أَنَّ يَوْم الْجُمُعَة لَا يَكُون أَفْضَل أَيَّام الْجَنَّة. وَيُمْكِن أَنْ لَا يُعْتَبَر هَذَا الْقَيْد وَيَكُون يَوْم الْجُمُعَة أَفْضَل أَيَّام الْجَنَّة كَمَا أَنَّهُ أَفْضَل أَيَّام الدُّنْيَا، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَهْل الْجَنَّة يَزُورُونَ رَبّهمْ فِيهِ. وَيُجَابُ بِأَنَّا لَا نَعْلَم أَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْجَنَّة يَوْم الْجُمُعَة، وَاَلَّذِي وَرَدَ أَنَّهُمْ يَزُورُونَ رَبّهمْ بَعَدَ مُضِيّ جُمُعَة كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ قَالَ: " أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ

(3/286)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّام الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ» الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ خُلِقَ آدَم) فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَق فِي الْجَنَّة بَلْ خُلِقَ خَارِجهَا ثُمَّ أُدْخِلَ إلَيْهَا قَوْلُهُ: (وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَل الْعَبْدُ فِيهَا. . . إلَخْ) قَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي تَعْيِين هَذِهِ السَّاعَة، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ أَقْوَال الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة بَعْدهمْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ فِي هَذِهِ السَّاعَة: هَلْ هِيَ بَاقِيَة أَوْ قَدْ رُفِعَتْ؟ وَعَلَى الْبَقَاءِ: هَلْ هِيَ فِي كُلّ جُمُعَة أَوْ فِي جُمُعَة وَاحِدَة مِنْ كُلّ سَنَة؟ وَعَلَى الْأَوَّل: هَلْ هِيَ وَقْت مِنْ الْيَوْم مُعَيَّن أَوْ مُبْهَم؟ وَعَلَى التَّعْيِين: هَلْ تَسْتَوْعِب الْوَقْت أَوْ تُبْهَم فِيهِ؟ وَعَلَى الْإِبْهَام: مَا ابْتِدَاؤُهُ وَمَا انْتِهَاؤُهُ؟ وَعَلَى كُلّ ذَلِكَ: هَلْ تَسْتَمِرّ أَوْ تَنْتَقِل؟ وَعَلَى الِانْتِقَال: هَلْ تَسْتَغْرِق الْيَوْم أَوْ بَعْضه؟ ، وَذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْأَقْوَال فِيهَا مَا لَمْ يَذْكُرهُ غَيْره، وَهَا أَنَا أُشِير إلَى بَسْطه مُخْتَصِرًا.
الْقَوْل الْأَوَّل: أَنَّهَا قَدْ رُفِعَتْ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ قَوْمه وَزَيَّفَهُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَذَبَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: إنَّ قَائِله إنْ أَرَادَ أَنَّهَا صَارَتْ مُبْهَمَة بَعَدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَة اُحْتُمِلَ إنْ أَرَادَ حَقِيقَة الرَّفْع فَهُوَ مَرْدُود.
الثَّانِي: أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي جُمُعَة وَاحِدَة مِنْ السَّنَة، رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَخْفِيَّة فِي جَمِيع الْيَوْم كَمَا أُخْفِيَتْ لَيْلَة الْقَدْر، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ: قَدْ عُلِّمْتُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا كَمَا أُنْسِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا جَمْع مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي.
الرَّابِع: أَنَّهَا تَنْتَقِل فِي يَوْم الْجُمُعَة وَلَا تَلْزَم سَاعَة مُعَيَّنَة، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ.
الْخَامِس: إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِصَلَاةِ الْغَدَاة، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ
السَّادِس: مِنْ طُلُوع الْفَجْر إلَى طُلُوع الشَّمْس، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
السَّابِع: مِثْله وَزَادَ: " وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي إسْنَاده لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ.
الثَّامِن: مِثْله وَزَادَ: " وَمَا بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ مِنْ الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ " رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ زَنْجُوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
التَّاسِع: أَنَّهَا أَوَّل سَاعَة بَعَدَ طُلُوع الشَّمْس، حَكَاهُ الْجِيلِيُّ فِي شَرْح التَّنْبِيهِ وَتَبِعَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحه.
الْعَاشِر: عِنْدَ طُلُوع الشَّمْس، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَعَزَاهُ ابْنُ الْمُنِيرِ إلَى أَبِي ذَرٍّ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا آخِرُ السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْ النَّهَار، حَكَاهُ صَاحِب الْمُغْنِي وَهُوَ فِي مُسْنَد أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ: وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهُ سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَفِي إسْنَاده فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ وَهُوَ ضَعِيف
الثَّانِي عَشَر: مِنْ الزَّوَال إلَى أَنْ يَصِير الظِّلّ نِصْف ذِرَاع، حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَالْمُنْذِرِيُّ.
الثَّالِثَ عَشَر: مِثْله، لَكِنْ زَادَ: إلَى أَنْ يَصِير الظِّلّ ذِرَاعًا، حَكَاهُ عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ.
الرَّابِع عَشَر بَعْد زَوَال الشَّمْس بِشِبْرٍ إلَى

(3/287)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
ذِرَاع، رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
الْخَامِس عَشَر: إذَا زَالَتْ الشَّمْس، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ السَّاعَةَ الْمُسْتَجَابَ فِيهَا الدُّعَاءُ إذَا زَالَتْ الشَّمْس.
السَّادِس عَشَر: إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّن لِصَلَاةِ الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ.
السَّابِعَ عَشَر: مِنْ الزَّوَال إلَى أَنْ يَدْخُل الرَّجُل فِي الصَّلَاة، ذَكَرَهُ ابْن الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ.
الثَّامِن عَشَر: مِنْ الزَّوَال إلَى خُرُوجِ الْإِمَام، حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ.
التَّاسِع عَشَر: مِنْ الزَّوَال إلَى غُرُوب الشَّمْس، حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَزْمَارِيِّ، بِسُكُونِ الزَّاي وَقَبْلَ يَاءِ النِّسْبَة رَاءٌ مُهْمَلَة، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ. الْعِشْرُونَ: مَا بَيْن خُرُوجِ الْإِمَام إلَى أَنْ تُقَام الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ وَرَوَاهُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَام، رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ زَنْجُوَيْهِ عَنْ الْحَسَنِ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْن خُرُوجِ الْإِمَام إلَى أَنْ تَنْقَضِي الصَّلَاة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عُمَرَ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْن أَنْ يُحَرَّم الْبَيْع إلَى أَنْ يَحِلَّ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ.
الرَّابِع وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْن الْأَذَان إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاة، رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ زَنْجُوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْخَامِس وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْن أَنْ يَجْلِس الْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر إلَى أَنْ تَنْقَضِي الصَّلَاة، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مُوسَى وَسَيَأْتِي، وَهَذَا يُمْكِن أَنْ يَتَّحِد مَعَ الَّذِي قَبْله.
السَّادِس وَالْعِشْرُونَ: عِنْدَ التَّأْذِين وَعِنْدَ تَذْكِير الْإِمَام وَعِنْدَ الْإِقَامَة، رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ زَنْجُوَيْهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ.
السَّابِع وَالْعِشْرُونَ: مِثْله لَكِنْ قَالَ: إذَا أُذِّنَ وَإِذَا رَقَى الْمِنْبَرَ وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الصَّحَابِيِّ.
الثَّامِن وَالْعِشْرُونَ: مِنْ حِين يَفْتَتِحُ الْإِمَام الْخُطْبَة حَتَّى يَفْرُغهَا، رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيف.
التَّاسِع وَالْعِشْرُونَ: إذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَر وَأَخَذَ فِي الْخُطْبَة، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ.
الثَّلَاثُونَ: عِنْدَ الْجُلُوس بَيْن الْخُطْبَتَيْنِ حَكَاهُ الطِّيبِيُّ عَنْ بَعْض شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: عِنْدَ نُزُول الْإِمَام مِنْ الْمِنْبَر، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: حِين تُقَام الصَّلَاة حَتَّى يَقُوم الْإِمَام فِي مَقَامه، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ نَحْوه بِإِسْنَادٍ ضَعِيف.
الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ إقَامَة الصَّلَاة إلَى تَمَام الصَّلَاة، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ: «قَالُوا: أَيَّةُ سَاعَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَاف» وَسَيَأْتِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: هِيَ السَّاعَة الَّتِي كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا

(3/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
يُغَايِر الَّذِي قَبْله مِنْ جِهَة إطْلَاق ذَلِكَ وَتَقْيِيد هَذَا.
الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ صَلَاة الْعَصْر إلَى غُرُوبِ الشَّمْس، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْده بِلَفْظِ: «فَالْتَمِسُوهَا بَعْدَ الْعَصْرِ» وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَالْتَمِسُوهَا " إلَى آخِره مُدْرَجٌ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْس " وَإِسْنَاده ضَعِيف.
السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ: فِي صَلَاة الْعَصْر، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا.
السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بَعْد الْعَصْر إلَى آخِر وَقْت الِاخْتِيَار، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ.
الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ: بَعَدَ الْعَصْر مُطْلَقًا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ " وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْله.
قَالَ: وَسَمِعْته عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ طَاوُسٍ.
التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ وَسَط النَّهَار إلَى قُرْبِ آخِر النَّهَار، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ.
الْأَرْبَعُونَ: مِنْ حِين تَصْفَر الشَّمْس إلَى أَنْ تَغِيبَ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ طَاوُسٍ.
الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: آخِر سَاعَة بَعَدَ الْعَصْر، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْآتِي، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ قَوْلُهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْله.
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: مِنْ حِين يَغْرُبُ قُرْص الشَّمْس، أَوْ مِنْ حِين يُدْلَى قُرْص الشَّمْس لِلْغُرُوبِ إلَى أَنْ يَتَكَامَل غُرُوبهَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ مَرْجَانَةَ مَوْلَاة فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: إذَا تَدَلَّى نِصْفُ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَرْسَلَتْ غُلَامًا لَهَا يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ يَنْظُرُ لَهَا الشَّمْسَ، فَإِذَا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا تَدَلَّتْ لِلْغُرُوبِ أَقْبَلَتْ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى أَنْ تَغِيبَ» قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي إسْنَاده اخْتِلَاف عَلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفِي بَعْض رُوَاته مَنْ لَا يُعْرَف حَاله. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَلَمْ يَذْكُر مَرْجَانَةَ.
الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا وَقْت قِرَاءَة الْإِمَام الْفَاتِحَة فِي الْجُمُعَة إلَى أَنْ يَقُول: آمِينَ، قَالَهُ الْجَزَرِيُّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى الْحِصْنُ الْحَصِينُ فِي الْأَدْعِيَةِ وَرَجَّحَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَفُوت عَلَى الدَّاعِي الْإِنْصَات لِقِرَاءَةِ الْإِمَام كَمَا قَالَ الْحَافِظُ. قَالَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَال لَيْسَتْ كُلّهَا مُتَغَايِرَة مِنْ كُلّ وَجْه، بَلْ كَثِير مِنْهَا يُمْكِن أَنْ يَتَّحِد مَعَ غَيْره. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَصَحّ الْأَحَادِيثِ فِي تَعْيِين السَّاعَة حَدِيث أَبِي مُوسَى وَسَيَأْتِي، وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ بِذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَة وَالْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَر الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ أَثْبَتُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيُؤَيِّدهُ مَا سَيَأْتِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(3/289)


1199 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَر إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مِنْ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَرَجَّحَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْحَاصِل أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّم ظَاهِره يُخَالِف الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَة فِي كَوْنهَا بَعَدَ الْعَصْر، لِأَنَّ الصَّلَاة بَعَدَ الْعَصْر مَنْهِيّ عَنْهَا، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: " لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي " وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ بِأَنَّ مُنْتَظِر الصَّلَاة فِي صَلَاة، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي، وَلَكِنَّهُ يُشْكِل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: " قَائِم " وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد الْقِيَام الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الِاهْتِمَام بِالْأَمْرِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَان قَامَ فِي الْأَمْر الْفُلَانِيّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] وَلَيْسَ بَيْن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْآتِي تَعَارُض وَلَا اخْتِلَاف، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف بَيْن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبَيْن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَوْنهَا بَعَدَ الْعَصْر أَوْ آخِر سَاعَة مِنْ الْيَوْم وَسَيَأْتِي. فَأَمَّا الْجَمْع فَإِنَّمَا يُمْكِن بِأَنْ يُصَارَ إلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا تَنْتَقِل فَيُحْمَل حَدِيثُ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ جُمُعَة خَاصَّة، وَتُحْمَل الْأَحَادِيث الْأُخَر عَلَى جُمُعَةٍ أُخْرَى.
فَإِنْ قِيلَ بِتَنَقُّلِهَا فَذَاكَ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهَا فِي وَقْت وَاحِد، لَا تَنْتَقِل، فَيُصَار حِينَئِذٍ إلَى التَّرْجِيحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَة فِي كَوْنهَا بَعَدَ الْعَصْر أَرْجَح لِكَثْرَتِهَا وَاتِّصَالهَا بِالسَّمَاعِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِف فِي رَفْعهَا وَالِاعْتِضَاد بِكَوْنِهِ قَوْل أَكْثَر الصَّحَابَةِ، فَفِيهَا أَرْبَعَة مُرَجِّحَات.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مُرَجِّحٌ وَاحِد وَهُوَ كَوْنه فِي أَحَد الصَّحِيحَيْنِ دُون بَقِيَّة الْأَحَادِيثِ، وَلَكِنْ عَارَضَ كَوْنه فِي أَحَد الصَّحِيحَيْنِ أَمْرَانِ وَسَيَأْتِي ذِكْرهمَا فِي شَرْحه.
وَسَلَكَ صَاحِبُ الْهَدْيِ مَسْلَكًا آخَر، وَاخْتَارَ أَنَّ سَاعَة الْإِجَابَة مُنْحَصِرَة فِي أَحَد الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَنَّ أَحَدهمَا لَا يُعَارِض الْآخِر لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عَلَى أَحَدهمَا فِي وَقْت وَعَلَى الْآخَر فِي وَقْت آخَر، وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ يَنْبَغِي الِاجْتِهَاد فِي الدُّعَاءِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَسَبَقَ إلَى تَجْوِيز ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إذَا عُلِمَ أَنَّ فَائِدَة الْإِبْهَام لِهَذِهِ السَّاعَة وَلِلَيْلَةِ الْقَدْر بَعْثَ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِكْثَار مِنْ الصَّلَاة وَالدُّعَاءِ، وَلَوْ وَقَعَ الْبَيَان لَهَا لَاتَّكَلَ النَّاس عَلَى ذَلِكَ وَتَرَكُوا مَا عَدَاهَا، فَالْعَجَب بَعَدَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَّكِل فِي طَلَب تَحْدِيدهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر: يَحْسُن جَمْع الْأَقْوَال فَتَكُون سَاعَة الْإِجَابَة وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَيْنِهَا، فَيُصَادِفهَا مَنْ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاء فِي جَمِيعهَا.

(3/290)


وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّل مَعَ كَوْنه فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَدْ أُعِلَّ بِالِانْقِطَاعِ وَالِاضْطِرَابِ. أَمَّا الِانْقِطَاع فَلِأَنَّ مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْر رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَهُوَ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِيهِ، قَالَهُ أَحْمَدُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ نَفْسه.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمِ: سَمِعْت خَالِي مُوسَى بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: أَتَيْت مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْر فَسَأَلْته أَنْ يُحَدِّثنِي عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَا سَمِعْت مِنْ أَبِي شَيْئًا إنَّمَا هَذِهِ كُتُبٌ وَجَدْنَاهَا عِنْدنَا عَنْهُ مَا أَدْرَكْت أَبِي إلَّا وَأَنَا غُلَام.
وَفِي لَفْظ: لَمْ أَسْمَع مِنْ أَبِي وَهَذِهِ كُتُبه وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْت مَعْنًا يَقُول: مَخْرَمَةُ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَلَمْ أَجِد أَحَدَا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِر عَنْ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي شَيْءٍ: سَمِعْت أَبِي، قَالَ عَلِيٌّ: وَمَخْرَمَةُ ثِقَة. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، يُخْبِر عَنْ مَخْرَمَةَ: مَخْرَمَةُ ضَعِيف الْحَدِيثِ لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْءٍ.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا يُقَال: مُسْلِمٌ يَكْتَفِي فِي الْمُعَنْعَنِ بِإِمْكَانِ اللِّقَاءِ مَعَ الْمُعَاصَرَة، وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّا نَقُول: وُجُودُ التَّصْرِيحِ مِنْ مَخْرَمَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِيهِ كَافٍ فِي دَعْوَى الِانْقِطَاع اهـ. وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: إنَّ أَكْثَر الرُّوَاة جَعَلُوهُ مِنْ قَوْل أَبِي بُرْدَةَ مَقْطُوعًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعهُ غَيْر مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَالَ: لَمْ يُسْنِدهُ غَيْر مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: وَرَوَاهُ حَمَّادُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَ بِهِ أَبَا مُوسَى وَلَمْ يَرْفَعهُ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ قَوْل أَبِي بُرْدَةَ، وَتَابَعَهُ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ وَمُجَالِدٌ، رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوف، وَلَا يَثْبُت قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ.
انْتَهَى كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي اسْتَدْرَكَهُ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة، وَلِأَكْثَر الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ فِي رِوَايَة الْحَدِيثِ وَقْف وَرَفْع أَوْ إرْسَال وَاتِّصَال حَكَمُوا بِالْوَقْفِ وَالْإِرْسَال وَهِيَ قَاعِدَة ضَعِيفَة مَمْنُوعَة. قَالَ: وَالصَّحِيحُ طَرِيقَةُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَمُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُحْكَم بِالرَّفْعِ وَالِاتِّصَال لِأَنَّهَا زِيَادَة ثِقَة انْتَهَى وَالْحَدِيث الثَّانِي الْمَذْكُور فِي الْبَابِ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إسْنَاده كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّة الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل عَلَى ضَعْفه، وَالتِّرْمِذِيُّ قَدْ شَرَطَ فِي حَدّ الْحَسَن أَنْ لَا يَكُون فِي إسْنَاده مَنْ يُتَّهَم

(3/291)


1201 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ: إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَشَارَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَار، قُلْتُ: إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ؟ قَالَ: بَلَى إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1202 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1203 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، مِنْهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ، وَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
بِالْكَذِبِ، وَكَثِيرٌ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ وَأَبُو دَاوُد: إنَّهُ رُكْن مِنْ أَرْكَان الْكَذِبِ، وَقَدْ حَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ هَذَا عِدَّة أَحَادِيثَ وَصَحَّحَ لَهُ حَدِيثَ «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَان: فَلِهَذَا لَا يَعْتَمِد الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَا يُقْبَل هَذَا الطَّعْن مِنْهُ فِي حَقّ التِّرْمِذِيِّ، وَإِنَّمَا جَهَّلَ التِّرْمِذِيَّ مَنْ لَا يَعْرِفهُ كَابْنِ حَزْمٍ وَإِلَّا فَهُوَ إمَام مُعْتَمَد عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يُخَالِف اجْتِهَاده اجْتِهَاد غَيْره فِي بَعْض الرِّجَال، وَكَأَنَّهُ رَأَى مَا رَآهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه فِي تَكْبِير الْعِيدَيْنِ: إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَن، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ الشَّوَاهِد، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُور فِي الْبَابِ، فَارْتَفَعَ بِوُجُودِ حَدِيثٍ شَاهِد لَهُ إلَى دَرَجَة الْحُسْن وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيق مُغِيرَةَ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَإِسْنَاده قَوِيّ.
وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ هِيَ وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ عِنْدَ صُعُود الْإِمَام الْمِنْبَر أَوْ مِنْ عِنْد الْإِقَامَة إلَى الِانْصِرَاف مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَحَادِيث الْمُصَرِّحَة بِأَنَّهَا بَعَدَ الْعَصْر أَرْجَحُ وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا.

(3/292)


وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَكْثَر الْأَحَادِيثِ فِي السَّاعَة الَّتِي يُرْجَى فِيهَا إجَابَةُ الدُّعَاءِ أَنَّهَا بَعْد صَلَاة الْعَصْر، وَيُرْجَى بَعَدَ زَوَال الشَّمْس) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيث الْأَوَّل رَفَعَهُ ابْنُ مَاجَهْ كَمَا ذَكَر الْمُصَنِّف، وَهُوَ مِنْ طَرِيق أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: " قُلْت وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ " الْحَدِيث. وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَصْحَاب السُّنَن وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي رَوَاهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ عَنْهُمَا بِإِسْنَادٍ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: صَحِيحٌ. وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَرِجَالهمَا رِجَال الصَّحِيحِ وَالْحَدِيث الثَّالِثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكه وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِمٍ، وَحَسَّنَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْح إسْنَاده. وَالْأَثَر الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إسْنَاده صَحِيحٌ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْس» وَفِي إسْنَاده مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيف، وَقَدْ تَابَعَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل الْبَاب. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عِنْد ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ سَلْمَانَ أَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ.
وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب تَدُلّ عَلَى أَنَّ السَّاعَة الَّتِي تَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي تَعْيِينهَا هِيَ آخِر سَاعَة مِنْ يَوْم الْجُمُعَة، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْط الْخِلَاف فِي ذَلِكَ وَبَيَان الْجَمْع بَيْن بَعْض الْأَحَادِيثِ وَالتَّرْجِيحُ بَيْن بَعْضٍ آخَر
وَالْقَوْل بِأَنَّهَا آخِر سَاعَة مِنْ الْيَوْم هُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَال، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة، وَلَا يُعَارِض ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَة بِأَنَّهَا بَعْد الْعَصْر بِدُونِ تَعْيِين آخِر سَاعَة، لِأَنَّهَا تُحْمَل عَلَى الْأَحَادِيث الْمُقَيَّدَة بِأَنَّهَا آخِر سَاعَة، وَحَمْل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد مُتَعَيَّن كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَة بِأَنَّهَا وَقْت الصَّلَاة فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا مَرْجُوحَة، وَيَبْقَى الْكَلَام فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ: قَدْ عُلِّمْتُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا كَمَا أُنْسِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرِجَاله رِجَال الصَّحِيحِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ نِسْيَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا لَا يَقْدَحُ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْوَارِدَة بِتَعْيِينِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّعْيِين قَبْلَ النِّسْيَان كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ بَلَغَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْيِين وَقْتهَا، فَلَا يَكُون إنْسَاؤُهُ نَاسِخًا لِلتَّعْيِينِ الْمُتَقَدِّم.

(3/293)


1205 - (وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ: فِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْف تُعْرَضُ عَلَيْك صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ) .

1206 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ إلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1207 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه) .

1208 - (وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده، وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْله مُرْسَلَانِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّل أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَذَكَره ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ، وَحَكَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَر، لِأَنَّ فِي إسْنَاده عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ وَهُوَ مُنْكَر الْحَدِيثِ.
وَذَكَر الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخه أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ تَمِيمٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ الْحَدِيث لَمْ يَثْبُت وَالْحَدِيثُ الثَّانِي، قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: رِجَاله ثِقَات إلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا لِأَنَّ فِي إسْنَاده زَيْدُ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: زَيْدُ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ مُرْسَل. وَالْحَدِيثُ الثَّالِث وَالرَّابِع مُرْسَلَانِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّف، لِأَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانُ وَصَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ لَمْ يُدْرِكَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَفِي الْبَابِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة» بِنَحْوِ

(3/294)


بَابُ الرَّجُل أَحَقّ بِمَجْلِسِهِ وَآدَابُ الْجُلُوس النَّهْي عَنْ التَّخَطِّي إلَّا لِحَاجَةٍ.

1209 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقِيمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ فِي الصَّلَاة وَوَقَعَ عِنْده فِي الْجَنَائِز أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ: حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُصَلِّي عَلَيَّ أَحَدٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي الْحَاكِمَ: أَبُو رَافِعٍ هَذَا، يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي السَّنَدِ، هُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَثَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْه وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَن أَيْضًا حَدِيثًا آخَرَ بِلَفْظِ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَرِمْتَ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَة وَرَاءٍ مَكْسُورَة وَمِيم سَاكِنَة بَعْدهَا تَاءُ الْمُخَاطَبِ الْمَفْتُوحَة. وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة الْإِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّد أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» وَفِي رِوَايَة لِلطَّبَرَانِيِّ «لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إلَّا بَلَغَنِي صَلَاتُهُ، قُلْنَا: وَبَعْدَ وَفَاتِك؟ قَالَ: وَبَعْدَ وَفَاتِي، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيّ بَعَدَ وَفَاته، وَأَنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَاتِ أُمَّته، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُبْلَوْنَ، مَعَ أَنَّ مُطْلَق الْإِدْرَاك كَالْعِلْمِ وَالسَّمَاع ثَابِت لِسَائِرِ الْمَوْتَى.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِن وَفِي رِوَايَة: بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ» وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «إذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ رَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ رَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» وَصَحَّ «أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ إلَى الْبَقِيعِ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ»
وَوَرَدَ النَّصّ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي حَقّ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاء يُرْزَقُونَ وَأَنَّ الْحَيَاة فِيهِمْ مُتَعَلِّقَة بِالْجَسَدِ فَكَيْف بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ» رَوَاهُ الْمُنْذِرِيُّ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِمُوسَى عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» .

(3/295)


أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ إلَى مَقْعَدِهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ افْسَحُوا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ) .

1210 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى: أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» . مُتَّفَق عَلَيْهِ) .

1211 - (وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ) .

1212 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ) .

1213 - (وَعَنْ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
قَوْلُهُ: (لَا يُقِيم) بِصِيغَةِ الْخَبَر، وَالْمُرَاد النَّهْي. وَفِي لَفْظ لِمُسْلِمٍ: «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ» بِصِيغَةِ النَّهْي الْمُؤَكَّد. قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَة) فِيهِ التَّقْيِيد بِيَوْمِ الْجُمُعَة.
وَفِي لَفْظ مِنْ طَرِيق أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفُ إلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدُ فِيهِ» وَقَدْ بَوَّبَ لِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ لَا يُقِيم الرَّجُل أَخَاهُ يَوْم الْجُمُعَة وَيَقْعُد فِي مَكَانه.
وَذَكَر يَوْم الْجُمُعَة فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ بَاب التَّنْصِيص عَلَى بَعْض أَفْرَاد الْعَامّ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيد لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة، وَلَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيص لِلْعُمُومَاتِ، فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِع مُبَاح سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْره فِي يَوْم جُمُعَة أَوْ غَيْرهَا لِصَلَاةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَات فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إقَامَته مِنْهُ وَالْقُعُود فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ: الْمَوْضِع الَّذِي قَدْ سَبَقَ لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقّ، كَأَنْ يَقْعُدَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ يَقُومُ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ الْحَاجَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَحَقّ بِهِ مِمَّنْ قَعَدَ فِيهِ بَعَدَ قِيَامه لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْبَابِ، وَظَاهِرهمَا عَدَم الْفَرْق بَيْن الْمَسْجِد وَغَيْره، وَيَجُوز لَهُ إقَامَة مَنْ قَعَدَ فِيهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْهَادَوِيَّةُ.

(3/296)


1214 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَمِثْل ذَلِكَ الْأَمَاكِن الَّتِي يَقْعُد النَّاس فِيهَا لِتِجَارَةٍ أَوْ نَحْوهَا، فَإِنَّ الْمُعْتَاد لِلْقُعُودِ فِي مَكَان يَكُون أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْره إلَّا إذَا طَالَتْ مُفَارَقَته لَهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِع مُعَامِلُوهُ، ذَكَره النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ فِي الْغَيْثِ: يَكُون أَحَقّ بِهِ إلَى الْعَشِيّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَكُون أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ يَضْرِبْ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْه النَّدْبِ لَا عَلَى وَجْه الْوُجُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا فَرْق فِي الْمَسْجِد بَيْن مَنْ قَامَ وَتَرَكَ لَهُ سَجَّادَة فِيهِ وَنَحْوهَا، وَبَيْن مَنْ لَمْ يَتْرُك. قَالُوا: وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاة وَحْدهَا دُون غَيْرهَا
وَظَاهِر الْحَدِيثَيْنِ عَدَم الْفَرْق، وَظَاهِر حَدِيثِ جَابِرٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْعُد فِي مَكَان غَيْره إذَا أَقْعَدَهُ بِرِضَاهُ. وَلَعَلَّ امْتِنَاع ابْنِ عُمَرَ عَنْ الْجُلُوس فِي مَجْلِس مَنْ قَامَ لَهُ بِرِضَاهُ كَانَ تَوَرُّعًا مِنْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحْيَا مِنْهُ إنْسَانٌ فَقَامَ لَهُ بِدُونِ طِيبَة مِنْ نَفْسه، وَلَكِنْ الظَّاهِر أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَدْ أَسْقَطَ حَقّ نَفْسه، وَتَجْوِيز عَدَم طِيبَة نَفْسه بِذَلِكَ خِلَاف الظَّاهِر.
وَيُكْرَه الْإِيثَارُ بِمَحِلِّ الْفَضِيلَةِ كَالْقِيَامِ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الْإِيثَار وَسُلُوك طَرَائِق الْآدَابِ لَا يَلِيق أَنْ يَكُون فِي الْعِبَادَات وَالْفَضَائِل، بَلْ الْمَعْهُود أَنَّهُ فِي حُظُوظ النَّفْس وَأُمُور الدُّنْيَا، فَمَنْ آثَرَ بِحَظِّهِ فِي أَمْر مِنْ أُمُور الْآخِرَة فَهُوَ مِنْ الزَّاهِدِينَ فِي الثَّوَابِ.

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد عَنْ هَنَّادٍ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَفِي إسْنَاده مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّس وَقَدْ عَنْعَنَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه مُعَنْعَنًا. وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَمَالَ إلَى ضَعْف الْحَدِيثِ لِذَلِكَ.
وَفِي الْبَاب عَنْ سُمْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى مَكَانِ صَاحِبِهِ وَيَتَحَوَّلْ صَاحِبُهُ إلَى مَكَانِهِ» وَهُوَ مِنْ رِوَايَة إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ الْبَزَّارُ: إسْمَاعِيلُ لَا يُتَابَع عَلَى حَدِيثه انْتَهَى.
وَفِي سَمَاع الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ خِلَاف قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْره. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق أُخْرَى عِنْدَ الْبَزَّارِ وَفِيهَا خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ السَّمْتِيُّ وَهُوَ ضَعِيف.
وَفِيهَا أَيْضًا أَبُو يُوسُفَ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ هَالِك، وَبَقِيَّة السَّنَد مَجْهُولُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: وَبِكُلِّ حَالَ هَذَا إسْنَادٌ مُظْلِم قَوْلُهُ: (إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة) لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ جَمِيع الْيَوْم، بَلْ الْمُرَاد بِهِ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِد يَنْتَظِر صَلَاة الْجُمُعَة

(3/297)


1215 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حَسَن) .

1216 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَجَمَعَ بِنَا، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
كَمَا فِي رِوَايَة أَحْمَدَ فِي مُسْنَده بِلَفْظِ: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وَسَوَاءٌ فِيهِ حَالَ الْخُطْبَة أَوْ قَبْلهَا، لَكِنْ حَالَ الْخُطْبَة أَكْثَر قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَة) يُحْتَمَل أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ لِطُولِ مُكْثِ النَّاس فِي الْمَسْجِد لِلتَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَة وَاسْتِمَاع الْخُطْبَة، وَأَنَّ الْمُرَاد انْتِظَار الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد فِي الْجُمُعَة وَغَيْرهَا كَمَا فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ» فَيَكُون ذِكْر يَوْم الْجُمُعَة مِنْ التَّنْصِيص بَعْض أَفْرَاد الْعَام.
وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد يَوْم الْجُمُعَة فَقَطْ لِلِاعْتِنَاءِ بِسَمَاعِ الْخُطْبَة فِيهِ.
وَالْحِكْمَة فِي الْأَمْر بِالتَّحَوُّلِ: أَنَّ الْحَرَكَة تُذْهِبُ النُّعَاس. وَيُحْتَمَل أَنَّ الْحِكْمَة فِيهِ انْتِقَاله مِنْ الْمَكَان الَّذِي أَصَابَتْهُ فِيهِ الْغَفْلَة بِنَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ النَّائِم لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاة الصُّبْحِ فِي الْوَادِي بِالِانْتِقَالِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا مَنْ جَلَسَ يَنْتَظِر الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة، وَالنُّعَاس فِي الصَّلَاة مِنْ الشَّيْطَان، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَمْر بِالتَّحَوُّلِ لِإِذْهَابِ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْطَان مِنْ حَيْثُ غَفْلَة الْجَالِس فِي الْمَسْجِد عَنْ الذِّكْر، أَوْ سَمَاع الْخُطْبَة أَوْ مَا فِيهِ مَنْفَعَة.

حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ هُوَ مِنْ رِوَايَة ابْنه سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْر وَاحِد، وَفِي إسْنَاده أَيْضًا أَبُو مَرْحُومٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مَيْمُونٍ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: لَا يُحْتَجّ بِهِ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَة يَعْنِي وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» ، وَفِي إسْنَاده بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ مُدَلِّس، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ شَيْخه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَعَلَّهُ مِنْ شُيُوخه الْمَجْهُولِينَ. وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» وَفِي إسْنَاده

(3/298)


1217 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، وَزَادَ " وَآنَيْتَ ") .

1218 - (وَعَنْ أَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، وَهُوَ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالْأَثَر الَّذِي رَوَاهُ يَعْلَى بْنُ شَدَّادٍ عَنْ الصَّحَابَةِ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَفِي إسْنَاده سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبْرِقَانِ، وَفِيهِ لِين، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَبِي وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشُرَيْحٌ وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَمَكْحُولٌ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ وَنُعَيْمُ بْنُ سَلَامَةَ قَالَ: لَا بَأْس بِهَا قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَبْلُغنِي أَنَّ أَحَدًا كَرِهَهَا إلَّا عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ قَوْلُهُ: (عَنْ الْحِبْوَة) هِيَ أَنْ يُقِيم الْجَالِس رُكْبَتَيْهِ وَيُقِيم رِجْلَيْهِ إلَى بَطْنه بِثَوْبٍ يَجْمَعهُمَا بِهِ مَعَ ظَهْره وَيَشُدّ عَلَيْهِمَا وَيَكُون أَلْيَتَاهُ عَلَى الْأَرْض وَقَدْ يَكُون الِاحْتِبَاءُ بِالْيَدَيْنِ عِوَض الثَّوْب. يُقَال: احْتَبَى يَحْتَبِي احْتِبَاءً وَالِاسْم الْحِبْوَة بِالضَّمِّ وَالْكَسْر مَعًا، وَالْجَمْع حُبًى وَحِبًى بِالضَّمِّ وَالْكَسْر. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الِاحْتِبَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْم وَيُعَرِّض طَهَارَته لِلِانْتِقَاضِ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْي عَنْ الِاحْتِبَاء مُطْلَق غَيْر مُقَيَّد بِحَالِ الْخُطْبَة وَلَا بِيَوْمِ الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ مَظِنَّة انْكِشَاف عَوْرَة مَنْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِد. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ بِالْكَرَاهَةِ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، مِنْهُمْ عُبَادَةَ بْنُ نُسَيٍّ الْمُتَقَدِّم. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرَدَ عَنْ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَحْتَبُوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْم الْجُمُعَة.
رَوَاهُ ابْنِ أَبِي شَيْبَة فِي الْمُصَنَّف. قَالَ: وَلَكِنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ عَنْ الثَّلَاثَة فَنَقَلَ عَنْهُمْ الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ وَنَقَلَ عَنْهُمْ عَدَمهَا. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْبَابِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَاهُ وَهِيَ تُقَوِّي بَعْضهَا بَعْضًا. وَذَهَبَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ إلَى عَدَم الْكَرَاهَة مِنْهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْره فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُد. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْره. قَالَ: وَبِهِ يَقُول أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهَا كُلّهَا ضَعِيفَة وَإِنْ كَانَ التِّرْمِذِيُّ قَدْ حَسَّنَ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد فَإِنَّ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْره.

(3/299)


قَالَ: «الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاس يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، كَالْجَارِّ قُصْبَهُ فِي النَّار» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1219 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ كَانَ عِنْدنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْره، وَهُوَ مِنْ رِوَايَة أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ أَرْقَمَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِي إسْنَاده هِشَامُ بْنُ زِيَادٍ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرهمْ. وَقَدْ اضْطَرَبَ فِيهِ، فَرَوَاهُ مَرَّة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ عَنْ أَبِيهِ، وَمَرَّة عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَزْرَقِ كَمَا سَيَأْتِي وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ» وَهُوَ مِنْ رِوَايَة سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَهْل فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْل هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَفِيهِ أَيْضًا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ وَفِيهِ مَقَال وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاس، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت وَآنَيْت» وَفِي إسْنَاده إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ ضَعِيف، وَقَدْ رَوَاهُ بِأَطْوَل مِنْ هَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّف. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَزْرَقِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِير بِنَحْوِ حَدِيث أَرْقَمَ الْمَذْكُور فِي الْبَابِ، وَفِي إسْنَاده هِشَامُ بْنُ زِيَادٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ضَعِيف وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ أَرْطَاةُ انْتَهَى، وَفِي إسْنَاده أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُرَيْقٍ، قَالَ الْأَزْدِيُّ: لَمْ يَصِحّ حَدِيثه. وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ: قَدْ رَأَيْتُك تَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ. وَتُؤْذِيهِمْ، مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَفِي إسْنَاده مُوسَى بْنُ خَلَفٍ الْعِجْلِيّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُطَيَّبٍ الْعِجْلِيّ ضَعَّفَهُمَا ابْنُ حِبَّانَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ فِي مُوسَى، فَقَالَ مَرَّة: ضَعِيف، وَمَرَّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ

(3/300)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
غَيْر هَذِهِ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضهَا فِي بَابِ التَّنْظِيف قَوْلُهُ: (يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاس) قَدْ فَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْن التَّخَطِّي وَالتَّفْرِيق بَيْن الِاثْنَيْنِ، وَجَعَلَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي التَّخَطِّيَ هُوَ التَّفْرِيق
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالظَّاهِر الْأَوَّل، لِأَنَّ التَّفْرِيق يَحْصُل بِالْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَخَطَّ قَوْلُهُ: (وَآنَيْت) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة: أَيْ أَبْطَأْت وَتَأَخَّرْت قَوْلُهُ: (قُصْبَهُ فِي النَّار) بِضَمِّ الْقَاف وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَة وَاحِد الْأَقْصَابِ وَهِيَ الْمِعَى كَمَا فِي الْقَامُوس وَغَيْره. قَوْلُهُ: (فَفَزِعَ النَّاسُ) أَيْ خَافُوا وَكَانَتْ تِلْكَ عَادَتْهُمْ إذَا رَأَوْا مِنْهُ مَا لَا يَعْهَدُونَ خَشْيَة أَنْ يَنْزِل فِيهِمْ شَيْءٌ يَسُوؤُهُمْ قَوْلُهُ: (مِنْ تِبْر) بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاة وَسُكُون الْمُوَحَّدَة: الذَّهَبُ الَّذِي لَمْ يُصَفّ وَلَمْ يُضْرَبْ قَوْلُهُ: (فَكَرِهْت أَنْ يَحْبِسنِي) أَيْ يَشْغَلنِي التَّفَكُّر فِيهِ عَنْ التَّوَجُّه وَالْإِقْبَال عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا قَالَ الْحَافِظُ، وَفَهِمَ مِنْهُ ابْنِ بَطَّالٍ مَعْنًى آخَر فَقَالَ فِيهِ: إنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَأْخِير الصَّدَقَة يَحْبِس صَاحِبهَا يَوْم الْقِيَامَة قَوْلُهُ: (فَأَمَرْت بِقِسْمَتِهِ) فِي رِوَايَة " فَقَسَمْته "
وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلّ عَلَى كَرَاهَة التَّخَطِّي يَوْمَ الْجُمُعَة، وَظَاهِر التَّقْيِيد بِيَوْمِ الْجُمُعَة أَنَّ الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِهِ. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون التَّقْيِيد خَرَجَ مَخْرَج الْغَالِبِ لِاخْتِصَاصِ الْجُمُعَة بِكَثْرَةِ النَّاس، بِخِلَافِ سَائِر الصَّلَوَات فَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ، بَلْ يَكُون حُكْم سَائِر الصَّلَوَات حُكْمهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْلِيل بِالْأَذِيَّةِ، وَظَاهِر هَذَا التَّعْلِيل أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي مَجَالِس الْعِلْم وَغَيْرهَا، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَخَطَّى حَلَقَ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَهُوَ عَاصِ» وَلَكِنْ فِي إسْنَاده جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ شُعْبَة وَتَرَكَهُ النَّاس.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي حُكْم التَّخَطِّي يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَاكِيًا عَنْ أَهْل الْعِلْم إنَّهُمْ كَرِهُوا تَخَطِّي الرِّقَابِ يَوْم الْجُمُعَة وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ التَّصْرِيحَ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ: إنَّ الْمُخْتَارَ تَحْرِيمه لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة. وَاقْتَصَرَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ عَلَى الْكَرَاهَة فَقَطْ.
وَرَوَى الْعِرَاقِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَدَع الْجُمُعَة أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى الرِّقَابَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: لَأَنْ أُصَلِّيَ الْجُمُعَة بِالْحَرَّةِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ التَّخَطِّي.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوه، وَلَا يَصِحّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة صَالِحِ مَوْلَى التَّوْأَمَة عَنْهُ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ التَّحْرِيم أَوْ الْكَرَاهَة الْإِمَام أَوْ مَنْ كَانَ بَيْن يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يَصِل إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي، وَهَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ: إذَا لَمْ يَجِد طَرِيقًا إلَى الْمِنْبَر أَوْ الْمِحْرَابِ إلَّا بِالتَّخَطِّي لَمْ يُكْرَه لِأَنَّهُ ضَرُورَة.
وَرُوِيَ نَحْو ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُور فِي الْبَابِ يَدُلّ عَلَى جَوَاز التَّخَطِّي لِلْحَاجَةِ فِي غَيْر الْجُمُعَة، فَمَنْ خَصَّصَ الْكَرَاهَة بِصَلَاةِ الْجُمُعَة فَلَا مُعَارَضَة بَيْنَهُ وَبَيْن أَحَادِيث الْبَابِ عِنْده، وَمَنْ عَمَّمَ الْكَرَاهَة لِوُجُودِ الْعِلَّة الْمَذْكُورَة سَابِقًا فِي الْجُمُعَة

(3/301)


بَابُ التَّنَفُّل قَبْل الْجُمُعَة مَا لَمْ يَخْرُجْ الْإِمَام وَأَنَّ انْقِطَاعه بِخُرُوجِهِ إلَّا تَحِيَّة الْمَسْجِد
1220 - (عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ خَرَجَ جَلَسَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ، إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَغَيْرهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الِاعْتِذَار عَنْهُ، وَقَدْ خَصَّ الْكَرَاهَة بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ مَنْ يَتَبَرَّك النَّاس بِمُرُورِهِ، وَيَسُرّهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ لِزَوَالِ عِلَّة الْكَرَاهَة الَّتِي هِيَ التَّأَذِّي.

الْحَدِيثِ فِي إسْنَاده عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَفِيهِ مَقَال، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْجُمْهُور وَلَكِنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَع مِنْ نُبَيْشَةَ.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الْأَذِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَسَيَأْتِي الْبَحْث عَنْهُمَا.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالْكَفِّ عَنْهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَبْلَهَا أَوْ لَا؟ فَأَنْكَرَ جَمَاعَة أَنَّ لَهَا سُنَّة قَبْلهَا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّن لِلْجُمُعَةِ إلَّا بَيْن يَدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْإِمَام انْقَطَعَتْ الصَّلَاة. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة أَنَّهُ لَا يُصَلِّي قَبْل الْجُمُعَة. وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُصَلِّي قَبْلهَا. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ الْحَنَفِيَّة إنَّمَا يَمْنَعُونَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَة فِي وَقْت الِاسْتِوَاءِ لَا بَعْده، وَبِأَنَّ الشَّافِعِيَّة تَجُوز الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة بَعْد الِاسْتِوَاءِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ وَقْت سُنَّة الْجُمُعَة الَّتِي قَبْلهَا يَدْخُل بَعَدَ الزَّوَال، وَبِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَدْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ شَأْن النَّاس التَّهْجِير إلَى الْجُمُعَة وَالصَّلَاة إلَى خُرُوجِ الْإِمَام. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَة: هَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مَوْجُود فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَغِبَ فِي التَّبْكِير إلَى الْجُمُعَة وَالصَّلَاة إلَى خُرُوج الْإِمَام، فَمِنْ الْأَحَادِيث الدَّالَّة عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْبَاب وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ» وَقَدْ ضَعَّفَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ رِجَال إسْنَاده وَقَالَ: إنَّ مُيَسَّرَ بْنَ عُبَيْدٍ أَحَد رِجَال إسْنَاده وَضَّاع صَاحِب أَبَاطِيل. وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ

(3/302)


1221 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ «كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَيُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) .

1222 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ السِّتَّة بِلَفْظِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ إلَّا وَبَيْنَ يَدَيْهَا رَكْعَتَانِ» وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْله تَدْخُل فِيهِمَا الْجُمُعَة وَغَيْرهَا. وَمِنْهَا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَة فِي مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة بَعَدَ الزَّوَال وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَالْجُمُعَة كَغَيْرِهَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ اسْتِثْنَاءِ يَوْم الْجُمُعَة مِنْ كَرَاهَة الصَّلَاة حَالَ الزَّوَال وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ يُنْقَل عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَيْهَا فَيُؤَذَّن بَيْن يَدَيْهِ ثُمَّ يَخْطُبُ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى تَرْك التَّحِيَّة بَعَدَ خُرُوج الْإِمَام فَقَالَ: وَفِيهِ حُجَّة بِتَرْكِ التَّحِيَّة كَغَيْرِهَا اهـ. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذَا.

حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: إسْنَاده صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ بِدُونِ قَوْلُهُ: يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَة " قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْه آخَر بِمَعْنَاهُ اهـ. وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَتَمَسَّك الْمَانِع مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحَدِيثِ النَّهْي عَنْ الصَّلَاة وَقْت الزَّوَال، وَهُوَ مَعَ كَوْن عُمُومه مُخَصَّصًا بِيَوْمِ الْجُمُعَة كَمَا تَقَدَّمَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة عَلَى الْإِطْلَاق، وَغَايَة مَا فِيهِ الْمَنْع فِي وَقْت الزَّوَال وَهُوَ غَيْر مَحِلّ النِّزَاع.
وَالْحَاصِل أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة مُرَغَّبٌ فِيهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَالدَّلِيل عَلَى مُدَّعِي الْكَرَاهَة عَلَى الْإِطْلَاق قَوْلُهُ: (فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ) فِيهِ أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة لَا حَدّ لَهَا قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَنْصَتَ) فِي رِوَايَة " ثُمَّ انْتَصَتَ " بِزِيَادَةِ تَاءٍ فَوْقِيَّة قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهْم. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ هُوَ وَهْمًا بَلْ هِيَ لُغَة صَحِيحَة.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ فِي الْأُصُول بِدُونِ ذِكْر الْإِمَام وَعَادَ الضَّمِير إلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ. لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا قَوْلُهُ: (وَفَضْلَ ثَلَاثَة أَيَّام) هُوَ بِنَصْبِ فَضْل عَلَى الظَّرْف كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْمَغْفِرَة لَهُ مَا بَيْن

(3/303)


1223 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.» رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا أَبَا دَاوُد، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظه: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ» . قُلْتُ: وَهَذَا يُصَرِّحُ بِضَعْفِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ) .

1224 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَقَالَ: صَلَّيْت؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَة.
وَفِي رِوَايَة: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
وَفِي رِوَايَة: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَق عَلَيْهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْجُمُعَتَيْنِ وَثَلَاثَة أَيَّام: أَنَّ الْحَسَنَة الَّتِي تُجْعَل بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، وَصَارَ يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي فَعَلَ فِيهِ هَذِهِ الْأَفْعَال الْجَمِيلَة فِي مَعْنَى الْحَسَنَة الَّتِي تُجْعَل بِعَشْرِ أَمْثَالهَا.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاءِ: وَالْمُرَاد بِمَا بَيْن الْجُمُعَتَيْنِ: مِنْ صَلَاة الْجُمُعَة وَخُطْبَتهَا إلَى مِثْل ذَلِكَ الْوَقْت حَتَّى يَكُونُ سَبْعَة أَيَّام بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان، وَيُضَمّ إلَيْهَا ثَلَاثَة فَتَصِير عَشْرَة.

وَفِي الْبَابِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَئِمَّة السِّتَّة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَمْسَكَ مِنْ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَسْنَدَهُ عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْدِيُّ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَوَهِمَ فِيهِ، وَالصَّوَابُ: عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ أَبِيهِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْره عَنْ مُعْتَمِرٍ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيق أَحْمَدَ مُرْسَلًا. وَعُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ هَذَا رَوَى عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيّ بِالْوَهْمِ لِمُخَالَفَتِهِ مَنْ هُوَ أَحْفَظ مِنْهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْره، وَهَذَا الْحَدِيث هُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّف
وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ سُلَيْكٌ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ

(3/304)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " دَخَلَ رَجُلٌ " هُوَ سُلَيْكٌ، بِمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرًا، ابْنُ هَدِيَّةٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيُّ، وَقَعَ مُسَمًّى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقِيلَ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ الْأَعْمَشِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: وَهِمَ فِيهِ مَنْصُورٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ " أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ: صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ " الْحَدِيثَ، وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، كَذَا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ " جَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ الْمَسْجِدَ " فَذَكَر نَحْو قِصَّةَ سُلَيْكٌ. قَالَ الْحَافِظُ: لَا يُخَالِفُ كَوْنَهُ سُلَيْكًا، فَإِنَّ غَطَفَانَ مِنْ قَيْسٍ قَوْلُهُ: (صَلَّيْتُ) قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَمَكْحُولٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ فُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّيهِمَا حَالَ الْخُطْبَةِ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَحَكَاهُ الْعِرَاقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ. وَأَجَابُوا عَنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُلَيْكٍ بِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهَا بِسُلَيْكٍ.
قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: صَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَهُوَ قَائِمٌ فَيَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ» . وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَخَلَ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَفْطِنَ لَهُ رَجُلٌ فَيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ " وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُلَيْكٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " لَا تَعُودَنَّ لِمِثْلِ هَذَا " أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَرُدَّ هَذَا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ، وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّحِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَانِعِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِعِلَّةِ التَّصَدُّقِ، وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَمِمَّا يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا فِي الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. . . إلَخْ " فَإِنَّ هَذَا نَصٌّ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّأْوِيلُ
قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا أَظُنُّ عَالِمًا يَبْلُغهُ هَذَا اللَّفْظُ صَحِيحًا

(3/305)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
فَيُخَالِفُهُ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْحَامِلُ لِلْمَانِعِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالُوا: فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَمْرُ اللَّاغِي بِالْإِنْصَاتِ فَمَنْعَ التَّشَاغُلِ بِالتَّحِيَّةِ مَعَ طُولِ زَمَنِهَا أَوْلَى. وَعَارَضُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَهُوَ يَخْطُبُ: " قَدْ آذَيْتَ " وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ وَلَمْ يَأْمُرُهُ بِالتَّحِيَّةِ. وَبِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ " وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى إسْقَاطِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ: أَمَّا فِي الْآيَةِ فَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ قُرْآنًا، وَمَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ الْآمِرِ بِالْإِنْصَاتِ حَالَ قِرَاءَتِهِ عَامٌّ مُخَصَّصٌ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ. وَأَمَّا حَدِيثَ " إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ " فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُكَالَمَةِ لِلْغَيْرِ، وَلَا مُكَالَمَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَلَامٍ حَتَّى الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ عُمُومًا مُخَصَّصًا بِأَحَادِيثِ الْبَابِ
قَالَ الْحَافِظُ: وَأَيْضًا فَمُصَلِّي التَّحِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنْصِتٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّم أَنَّهُ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ سُكُوتُك بَيْنَ التَّكْبِيرَةِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ " فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَوْلِ سِرًّا السُّكُوتَ. وَأَمَّا أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ دَخَلَ يَتَخَطَّى الرِّقَابَ بِالْجُلُوسِ فَذَلِكَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَلَا عُمُومَ لَهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ قَبْل مَشْرُوعِيَّتِهَا، أَوْ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ فِعْلُ التَّحِيَّةِ وَقَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ تَرَكَ أَمْرَهُ بِالتَّحِيَّةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِكَوْنِ دُخُولِهِ وَقَعَ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ التَّحِيَّةِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ لَا تُعَارَضُ بِمِثْلِهِ. وَقَدْ أَجَابَ الْمَانِعُونَ عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى عَشَرَة أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، بَعْضَهَا سَاقِطٌ لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ، وَبَعْضَهَا لَا يَنْبَغِي إهْمَالَهُ. فَمِنْ الْبَعْضِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إهْمَالَهُ قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ سُلَيْكٌ مِنْ صَلَاتِهِ " قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّم وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ قَالَ: إنَّهُ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ. وَأَيْضًا يُعَارِضهُ اللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَهُمْ الِاعْتِذَارُ عَنْ حَدِيثِ سُلَيْكٌ بِمِثْلِ هَذَا لَمَا تَمَّ لَهُمْ الِاعْتِذَارُ بِمِثْلِهِ عَنْ بَقِيَّةِ أَحَادِيثِ الْبَابِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَمْرِ كُلّ أَحَدٍ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْ يُوَقِّعَ الصَّلَاةَ، حَالَ الْخُطْبَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا تَشَاغَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُخَاطَبَةِ سُلَيْكٌ سَقَطَ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ، إذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَةٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَقَدْ ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذَا أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ أَضْعَفُهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ لَمَّا انْقَضَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى

(3/306)


بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّجْمِيعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ
1225 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
خُطْبَتِهِ وَتَشَاغَلَ سُلَيْكٌ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى حَالَ الْخُطْبَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّحِيَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ، فَسُقُوطُهَا عَنْ الْمَأْمُومِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَمِنْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى عَهْدِ مَالِكٍ أَنَّ التَّنَفُّلَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا.
قَالَ الْحَافِظُ: وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِعْلُ التَّحِيَّةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاهُ وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحَمَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ صَرِيحًا مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمَنْعِ مُطْلَقًا، فَاعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ عَنْهُمْ فِيهَا احْتِمَالٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي فِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ (وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّخْفِيفِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ لِيَتَفَرَّغَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا تُشَرِّعُ صَلَاةَ التَّحِيَّةِ حَالَ الْخُطْبَةِ قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمَفْهُومُهُ يَمْنَعُ مِنْ تَجَاوُزِ الرَّكْعَتَيْنِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟ قَالَ لَا، قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. وَقَوْلُهُ: " قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ لِلْجُمُعَةِ قَبْلهَا وَلَيْسَتَا تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ اهـ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ هَذَا هُوَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ الْعِرَاقِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مِثْل مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: إنْ كَانَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ فَلَا يُصَلِّيَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ لَا يُجِيزُ التَّنَفُّلَ حَالَ الْخُطْبَةِ مُطْلَقًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ: أَيْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ.
وَفَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّة الَّذِي تَخَطَّى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ " بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ لِلْعَهْدِ، وَلَا عَهْدَ هُنَاكَ أَقْرَبَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

(3/307)


تَمِيلُ الشَّمْسُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ) .

1226 - (وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ) .

1227 - (وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا) .

1228 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ» أَخْرَجَاهُ) .

1229 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَزَادَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ: فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .

1230 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، يَعْنِي النَّوَاضِحَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ) .

1231 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ السُّلَمِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّ بِهِ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ: أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّجْمِيعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ]
أَثَرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِيلَانَ السُّلَمِيُّ فِيهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: لَا يُتَابَع عَلَى حَدِيثِهِ. وَحَكَى فِي الْمِيزَانِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ قَوْلُهُ: (حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) فِيهِ إشْعَارٌ بِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَوْلُهُ: (كُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَة مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ) وَفِي لَفْظ لِلْبُخَارِيِّ: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَكُونُ الْقَائِلَةُ»

(3/308)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بَاكِرَ النَّهَارِ.
قَالَ الْحَافِظُ: لَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى التَّعَارُضِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّبْكِيرَ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْقَيْلُولَةِ، بِخِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْإِبْرَادِ اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَائِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ: نَوْمَ نِصْفِ النَّهَارِ قَوْلُهُ: (إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا قَوْلُهُ: (وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " يَعْنِي الْجُمُعَةَ " مِنْ كَلَامِ التَّابِعِيِّ أَوْ مَنْ دُونِهِ، أَخَذَهُ قَائِلُهُ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ عِنْدَ أَنَسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: " يَعْنِي الْجُمُعَةَ " قَوْلُهُ: (نُجَمِّع) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ قَوْلُهُ: (نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيْءٌ يَسِيرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّبْكِيرِ وَقَصْرِ حِيطَانِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " وَمَا نَجِدُ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ " وَالْمُرَادُ نَفْيَ الظِّلِّ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ، لَا نَفْيَ أَصْلِ الظِّلِّ كَمَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إلَى الْقُيُودِ الزَّائِدَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: «ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ» قِيلَ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُدْرَانَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ قَصِيرَةٌ لَا يُسْتَظَلُّ بِظِلِّهَا إلَّا بَعْدَ تَوَسُّطِ الْوَقْتِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الزَّوَالِ قَوْلُهُ: (مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ هَلْ هُوَ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ أَوْ الْخَامِسَةُ أَوْ وَقْتِ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْغَدَاءَ وَالْقَيْلُولَةَ مَحَلُّهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ. وَحَكَوْا عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَمَّى غَدَاءً وَلَا قَائِلَةً بَعْدَ الزَّوَالِ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ أُخْتِ عَمْرَةَ بِنْت عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا حَفِظْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى الْمِنْبَرِ كُلَّ جُمُعَةٍ» .
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَبَارَكَ وَهُوَ قَائِمٌ يُذَكِّرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَكَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ» كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ كَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمَا انْصَرَفَ مِنْهَا إلَّا وَقَدْ صَارَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ وَقَدْ خَرَجَ وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْقَائِلَةِ.
وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى جِمَالِهِمْ فَيُرِيحُونَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَلَا مُلْجِئَ إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسِّفَةِ

(3/309)


بَابُ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ إذَا رَقَى الْمِنْبَرَ وَالتَّأْذِين إذَا جَلَسَ عَلَيْهِ وَاسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ لَهُ
1232 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ لِلْأَثْرَمِ فِي سُنَنِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الَّتِي ارْتَكَبَهَا الْجُمْهُورُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْفِي الْجَوَازَ قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدُ وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّهُ قَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلَ قَوْلِ أَحْمَدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْجُمُعَةَ ضُحًى وَقَالَ: خَشِيتُ عَلَيْكُمْ الْحَرَّ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْد قَالَ: صَلَّى بِنَا مُعَاوِيَةُ الْجُمُعَةَ ضُحًى. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّف وَرَوَى مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ السُّلَمِيُّ) أَخْرَجَ هَذَا الْأَثَر أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سِيلَانَ فَإِنَّهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يُشْبِهُ الْمَجْهُولَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِين تَزُولُ الشَّمْسُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. .

[بَابُ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ إذَا رَقَى الْمِنْبَرَ وَالتَّأْذِين إذَا جَلَسَ عَلَيْهِ وَاسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ لَهُ]
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، وَإِسْنَادُ ابْنُ مَاجَهْ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ ضَعِيفٌ
وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَنَا مِنْ الْمِنْبَرِ سَلَّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ صَعِدَ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ سَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إسْنَادِهِ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، كَذَا قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ

(3/310)


1233 - (وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا جَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُقِيمُ إذَا نَزَلَ» )

1234 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَتَيْنِ وَجَلَسَ جَلْسَتَيْنِ» وَحَكَى الَّذِي حَدَّثَنِي قَالَ: «اسْتَوَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَائِمًا، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْمُسْتَرَاحِ حَتَّى فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الثَّانِيَةَ» .
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْلِيمِ مِنْ الْخَطِيبِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يَرْقَى الْمِنْبَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ. وَقَالَ فِي الِانْتِصَارِ بَعْد فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ قَالَا: لِأَنَّ سَلَامَهُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مُغْنٍ عَنْ الْإِعَادَةِ. .

حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، قَالَ: وَوَالِدُ عَدِيٍّ لَا صُحْبَةَ لَهُ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِأَبِيهِ جَدَّهُ أَبُو أَبِيهِ فَلَهُ صُحْبَةٌ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا» وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ اهـ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ» بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابَ اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ. وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ مُطِيعِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا» وَمُطِيعٌ هَذَا مَجْهُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَقْبِلُ النَّاسَ بِوَجْهِهِ» قَوْلُهُ: (كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ كَانَ ابْتِدَاءُ النِّدَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى

(3/311)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ: «كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وَفَسَّرَ الْأَذَانَيْنِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، يَعْنِي تَغْلِيبًا.
قَوْلُهُ: (إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْأَذَانِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِيَعْرِفَ النَّاسُ جُلُوسَ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُنْصِتُونَ لَهُ إذَا خَطَبَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ» فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لِمُطْلَقِ الْإِعْلَامِ لَا لِخُصُوصِ الْإِنْصَاتِ، نَعَمْ لَمَّا زِيدَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ كَانَ لِلْإِعْلَامِ، وَكَانَ الَّذِي بَيْن يَدَيْ الْخَطِيبِ لِلْإِنْصَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ) أَيْ خَلِيفَةً قَوْلُهُ: (وَكَثُرَ النَّاسُ) أَيْ بِالْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ بَعَدَ مُضِيّ مُدَّةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ كَمَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ قَوْلُهُ: (زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ) فِي رِوَايَةٍ " فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ " وَفِي رِوَايَةٍ " التَّأْذِينُ الثَّانِي أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ " وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ ثَالِثً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَزِيدًا، وَأَوَّلًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ فِعْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْأَذَانِ الْحَقِيقِيّ لَا الْإِقَامَةَ قَوْلُهُ (عَلَى الزَّوْرَاءِ) بِفَتْحِ الزَّاي وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدهَا رَاءٌ مَمْدُودَةٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: هِيَ مَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ حَجَرٌ كَبِيرٌ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ. وَرُدَّ بِمَا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا دَارٌ بِالسُّوقِ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى دَارٍ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ فَكَانَ يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ الْأَوَّلَ، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ الصَّلَاةَ " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِفِعْلِ عُثْمَانَ فِي جَمِيع الْبِلَادِ إذْ ذَاكَ لِكَوْنِهِ خَلِيفَةٌ مُطَاعُ الْأَمْرِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْفَاكِهَانِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ بِمَكَّةَ الْحَجَّاجُ وَبِالْبَصْرَةِ زِيَادٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الْغَرْبِ الْأَدْنَى الْآنَ لَا تَأْذِينَ عِنْدَهُمْ سِوَى مَرَّةٍ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْأَذَانُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ يُسَمَّى بِدْعَةً، وَتَبَيَّنَ بِمَا مَضَى أَنَّ عُثْمَانَ أَحْدَثَهُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَأَلْحَقَ الْجُمُعَةَ بِهَا وَأَبْقَى خُصُوصِيَّتَهَا بِالْأَذَانِ بَيْن يَدَيْ الْخَطِيبِ.
وَأَمَّا مَا أَحْدَثَ النَّاسُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ مِنْ الدُّعَاءِ إلَيْهَا بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُون بَعْضٍ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْلَى، كَذَا فِي الْفَتْحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ ذَلِكَ وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَمُعَاذٌ أَيْضًا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الشَّامِ فِي أَوَّلِ غَزْوِ الشَّامِ، وَاسْتَمَرَّ فِي الشَّامِ إلَى أَنْ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ. قَوْلُهُ: (غَيْرَ مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ) فِيهِ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ مِنْهُمْ بِلَالُ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَسَعْدُ الْقَرَظِ وَأَبُو مَحْذُورَةَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْجُمُعَةِ وَفِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ ابْنَ

(3/312)


بَابُ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَوْعِظَةِ وَالْقِرَاءَةِ
1235 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْخُطْبَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: " تَشَهُّدٌ " بَدَل " شَهَادَةٌ ") .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَلْ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَالٌ، وَأَبُو مَحْذُورَة جَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنًا بِمَكَّةَ، وَسَعْدٌ جَعَلَهُ بِقَبَّاء قَوْلُهُ: (اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ اسْتِقْبَالِ النَّاسِ لِلْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُ بَالِغَةٌ إلَى دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَدَّ عَضُدَهَا عَمَلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ يَسْتَحِبُّونَ اسْتِقْبَالَ الْإِمَامِ إذَا خَطَبَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَغَيْرُهُمْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَشُرَيْحٌ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ جَابِرٍ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَنْحَرِفَانِ إلَيْهِ، وَهَلْ الْمُرَادُ بِاسْتِقْبَالِ السَّامِعِينَ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَسْتَقْبِلهُ مَنْ يُوَاجِهَهُ أَوْ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَإِنْ طَالَتْ الصُّفُوفُ يَنْحَرِفُونَ بِأَبْدَانِهِمْ أَوْ بِوُجُوهِهِمْ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ دُونَ مَنْ بَعْد فَلَمْ يَسْمَعْ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ أَوْلَى بِهِ مِنْ تَوَجُّهِهِ لِجِهَةِ الْخُطْبَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ شَرَفِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ الْمُوَاجَهَةَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَوْجَبَ الِاسْتِقْبَالَ الْمَذْكُورَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَعْلِيقِهِ. .

[بَابُ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْقِرَاءَةِ]
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو عَوَانَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، فَرَجَّحَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ الْإِرْسَالَ، وَاللَّفْظُ الْآخَرُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعَسْكَرِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْطَعُ.» .
وَفِي الْبَابِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ وَالرَّهَاوِيِّ مَرْفُوعًا: «كُلُّ أَمْرِ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ أَقْطَعُ» قَوْلُهُ: (أَجْذَمُ) رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ بِالذَّالِ

(3/313)


1236 - (وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْن يَدَيْ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا» ) .

1237 - (وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَشَهُّدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْمُعْجَمَةِ، وَالْأَوَّلُ: مِنْ الْحَذْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ. شَبَّهَ الْكَلَامَ الَّذِي لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِنْسَانٍ مَجْذُومٍ تَنْفِيرًا عَنْهُ وَإِرْشَادًا إلَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ بِالْحَمْدِ قَوْلُهُ: (لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ) أَيْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَمْدِ لِلَّهِ فِي الْخُطْبَةِ، لِأَنَّهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى دَاخِلَةٌ تَحْتِ عُمُومِ الْكَلَامِ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَبَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي إسْنَادِهِ عِمْرَانُ بْنُ دَوَارٍ أَبُو الْعَوَّامِ الْبَصْرِيُّ. قَالَ عَفَّانَ: كَانَ ثِقَةً وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: كَانَ عِمْرَانُ حَرُورِيًّا، وَكَانَ يَرَى السَّيْفَ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ صَحَّحَ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مُرْسَلٌ قَوْلُهُ: (فَقَدْ رَشَدَ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَعْصِهِمَا) فِيهِ جَوَازُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ: «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ خَيْبَرَ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» .
وَأَمَّا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَأْنُهَا الْبَسْطُ وَالْإِيضَاحُ وَاجْتِنَابُ الْإِشَارَاتِ وَالرُّمُوزِ.
قَالَ: وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ

(3/314)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ قَالَ: وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ، " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا " لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ حُكْمٍ، فَكُلُّ مَا قَلَّ لَفْظُهُ كَانَ أَقْرَبُ إلَى حِفْظِهِ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا وَإِنَّمَا يُرَادُ الِاتِّعَاظُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَمْعُ بَيْن الضَّمِيرَيْنِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي تَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْخَطِيبِ تَشْرِيكَهُ فِي الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ مَا شَاءَ فُلَانٌ» وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَمْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن ضَمِيرِ اللَّهِ وَضَمِيرِهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبِ التَّشْرِيكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ فَنَبَّهَهُ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْمِ رَسُولِهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ فَسَادَ مَا اعْتَقَدَهُ قَوْلُهُ: (فَقَدْ غَوَى) بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرهَا، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مِنْ الْغَيّ، وَهُوَ الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرّ.
1 -
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْم فِي حُكْمِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ثُبُوتًا مُسْتَمِرًّا، أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ فِي كُلّ جُمُعَةٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ لَا يُفِيدُ الْوُجُوبِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ يُوقِعُهَا عَلَيْهَا، وَالْخُطْبَةُ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَفِعْلُهُ الْخُطْبَةَ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ، وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ. . وَرُدَّ بِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْأَمْرِ هُوَ السَّعْيُ فَقَطْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الذِّكْرُ.
وَيُتَعَقَّبُ هَذَا التَّعَقُّبِ بِأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِالسَّعْيِ إلَيْهِ هُوَ الصَّلَاةُ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالنِّزَاعِ فِي وُجُوبِ الْخُطْبَةِ فَلَا يَنْتَهِضُ هَذَا الدَّلِيلُ لِلْوُجُوبِ، فَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَالْجُوَيْنِيُّ مِنْ أَنَّ الْخُطْبَةَ مَنْدُوبَةٌ فَقَطْ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مَرْفُوعًا حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ: «وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّك عَبْدِي وَرَسُولِي» فَوَهْمٌ، لِأَنَّ غَايَةَ الْأَوَّلِ عَدَمُ قَبُولِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا حَمْدَ فِيهَا، وَغَايَةُ الثَّانِي عَدَمُ جَوَازِ خُطْبَةٍ لَا شَهَادَةَ فِيهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَبُولُ وَالْجَوَازُ وَعَدَمَهُمَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُجُوبِ قَطْعًا.

(3/315)


1238 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ.» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ)
1239 - (وَعَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) . الْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَهُوَ مِنْ رِوَايَة شَيْبَانُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيِّ عَنْ سِمَاكٍ، وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَعْظَ فِي الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، وَأَنَّ إقْصَارَ الْخُطْبَةِ أَوْلَى مِنْ إطَالَتِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.

1240 - (وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
قَوْلُهُ: (يَخْطُبُ قَائِمًا) فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي حُكْمِهِ قَوْلُهُ: (وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ.
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ يَحْيَى إلَى وُجُوبِهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِإِثْبَاتِ الْوُجُوبِ. قَوْلُهُ: (بَيْن الْخُطْبَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ خُطْبَتَانِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِهِمَا الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ. وَحَكَى الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِر وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَة: أَنَّ الْوَاجِبَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ مَعَ قَوْلِهِ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي " الْحَدِيثَ.
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ لِإِثْبَاتِ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ: (وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ فِي الْخُطْبَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُوبِ الْوَعْظِ وَقِرَاءَة آيَة، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَلَكِنَّهُ قَالَ: تَجِب قِرَاءَةِ سُورَةٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْحَقُّ.
1239 - (وَعَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) . الْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَهُوَ مِنْ رِوَايَة شَيْبَانُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيِّ عَنْ سِمَاكٍ، وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَعْظَ فِي الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، وَأَنَّ إقْصَارَ الْخُطْبَةِ أَوْلَى مِنْ إطَالَتِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
1240 - (وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد)

(3/316)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَفِي الْبَابِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] » .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ قَالَ: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ جُمُعَةٍ فَذَكَرَ سُورَةً» وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ قَالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة» وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَبَارَكَ وَهُوَ قَائِمٌ يُذَكِّرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى» وَهُوَ مِنْ رِوَايَة عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُبَيٍّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آخِرَ الزُّمَرِ، فَتَحَرَّكَ الْمِنْبَرُ مَرَّتَيْنِ» وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو بَحْرٍ الْبَكْرَاوِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَقَدْ طَرَحَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: صَالِحٌ، وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمُنْقِرِيُّ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِلَفْظِ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي إسْنَادِهِ عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] الْآيَةَ» وَفِي إسْنَادِهِ الْمُنْكَدِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » وَفِي إسْنَادِهِ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يُحْتَجُّ بِهِ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة الْمُتَقَدِّمِ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الِاسْتِحْبَابِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: فِي إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ. وَالثَّانِي: فِي الْأَوَّل وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ سُورَةً ثُمَّ يَجْلِس ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ثُمَّ يَنْزِلُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ يَفْعَلَانِهِ» .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَشْرُوعَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ

(3/317)


بَابُ هَيْئَات الْخُطْبَتَيْنِ وَآدَابِهِمَا
1241 - (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) .

1242 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ. وَالرَّابِعُ: فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، حَكَاهُ الْعِمْرَانِيُّ، وَيَدُلّ لَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. .
وَأُجِيب عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: " يَقْرَأُ " مَعْطُوفُ عَلَى قَوْلِهِ: " يَخْطُبُ " لَا عَلَى قَوْلِهِ: " يَقُومُ ". وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يُلَازِمُ قِرَاءَةَ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الْخُطْبَةِ، بَلْ كَانَ يَقْرَأُ مَرَّةً هَذِهِ السُّورَة وَمَرَّةً هَذِهِ، وَمَرَّةً هَذِهِ الْآيَةَ وَمَرَّةً هَذِهِ. .

[بَابُ هَيْئَات الْخُطْبَتَيْنِ وَآدَابِهِمَا]
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا) فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَار اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْوُجُوبِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَامَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْوُجُوبِ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ مُعَاوِيَةُ» .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لَمَّا كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَلَحْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ الْقِيَامُ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَلَكِنْ الْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ كَمَا عَرَفْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَجْلِسُ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي حُكْمِهِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَخْطُبُ) رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد: " فَمَنْ حَدَّثَك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ ".
وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ: " فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ ".
قَوْلُهُ: (أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَا الْجُمُعَةَ اهـ. وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا

(3/318)


1243 - (وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمْتُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، أَوْ قَالَ عَلَى عَصَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَنْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تُطِيقُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد) .

1244 - (وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَالْمَئِنَّةُ: الْعَلَامَةُ وَالْمَظِنَّةُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
لِأَنَّ الْجُمَعَ الَّتِي صَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِ افْتِرَاضِ صَلَاة الْجُمُعَةِ إلَى عِنْدِ مَوْتِهِ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ وَلَا نِصْفَهُ. .

الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ أَبُو الصَّلْتِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: ثِقَةٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَكَانَ مِمَّنْ يُخْطِئُ كَثِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَنْ الِاعْتِدَادِ بِهِ قَالَ الْحَافِظُ: وَالْأَكْثَرُ وَثَّقُوهُ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ السَّكَنِ، وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ الْحَافِظُ، قَالَ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُعْطِيَ يَوْمَ الْعِيدِ قَوْسًا فَخَطَبَ عَلَيْهِ» وَطَوَّلَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَطَبَ يَعْتَمِدُ عَلَى عَنَزَتِهِ اعْتِمَادًا» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الِاعْتِمَادِ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا حَالَ الْخُطْبَةِ. قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِغَالَ عَنْ الْعَبَثِ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ.
وَفِيهِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّةُ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ وَالْوَعْظِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْوَعْظِ وَأَمَّا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْخُطْبَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْإِمَامِ يَحْيَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخُطْبَتَيْنِ مِنْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ إجْمَاعًا. .

(3/319)


وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد) .

1246 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيَقْصُرُ الْخُطْبَةَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ قِصَرَ الْخُطْبَةِ وَطُولَ الصَّلَاةِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، فَطَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطَبَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُطِيلُونَ الْخُطَبَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ» وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِاتِّفَاقِ سُفْيَانَ وَزَائِدَةَ عَلَى ذَلِكَ وَانْفِرَادُ قَيْسٍ بِرَفْعِهِ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا قَالَ: اُقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَأَقْلِلْ الْكَلَامَ، فَإِنَّ مِنْ الْكَلَامِ سِحْرًا» وَفِي إسْنَادِهِ جَمِيعُ بِالْفَتْحِ، وَيُقَالُ بِالضَّمِّ مُصَغَّرًا ابْنُ ثَوْبٍ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَة وَفَتْحِ الْوَاو بَعْدَهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: إنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ.
(مَئِنَّةٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ مُشَدَّدَةٍ: أَيْ عَلَامَةٌ. قَالَ: وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: الْمِيمُ فِيهَا زَائِدَةٌ وَهِيَ مِفْعَلَةٌ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: غَلِطَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي جَعْلِ الْمِيمِ أَصْلِيَّةٍ، وَرَدَّهُ الْخَطَّابِيِّ وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ فَعِيلَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ سِرَاجٍ: هِيَ أَصْلِيَّةٌ انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَانَ إقْصَارُ الْخُطْبَةِ عَلَامَةً مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى جَوَامِعِ الْأَلْفَاظِ، فَيَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ عَنْ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ قَوْلُهُ: «فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» قَالَ النَّوَوِيُّ: الْهَمْزَةُ فِي اُقْصُرْ هَمْزَةُ وَصْلٍ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُخَالَفَةُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ: «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا مُخَالَفَةَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ بِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُطْبَةِ لَا التَّطْوِيلَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُؤْتَمِّينَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَوْ حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى التَّطْوِيلِ لِإِدْرَاكِ بَعْضِ مَنْ تَخَلَّفَ. قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ يَكُونُ. الْأَخْذُ فِي حَقِّنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ، لَا بِفِعْلِهِ لِاحْتِمَالِ التَّخْصِيص انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعَارِضُ الْقَوْلَ الْخَاصَّ بِالْأُمَّةِ مَعَ عَدَمِ وِجْدَانِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي فِي

(3/320)


1247 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1248 - (وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ إلَى جَنْبِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، وَبِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَخْطُبُنَا، فَلَمَّا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَارَةُ: يَعْنِي قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذَا دَعَا يَقُولُ هَكَذَا، فَرَفَعَ السَّبَّابَةَ وَحْدَهَا.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ) .

1249 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِرًا يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ، مَا كَانَ يَدْعُو إلَّا يَضَعُ يَدَهُ حَذْوَ مَنْكِبِهِ وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إشَارَةً» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: لَكِنْ رَأَيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَعَقَدَ الْوُسْطَى بِالْإِبْهَامِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
ذَلِكَ الْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ وَهَذَا مِنْهُ قَوْلُهُ: (قَصْدًا) . الْقَصْدُ فِي الشَّيْءِ هُوَ الِاقْتِصَادُ فِيهِ وَتَرْكُ التَّطْوِيلِ. . وَإِنَّمَا كَانَتْ صَلَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُطْبَتُهُ كَذَلِكَ لِئَلَّا يَمَلّ النَّاسُ.
وَأَحَادِيثُ الْبَابِ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ إقْصَارِ الْخُطْبَةِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ عَلَى أَقْوَالٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

الْحَدِيثُ تَمَامُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» قَوْلُهُ: (إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّمَ أَمْرَ الْخُطْبَةِ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُجْزِلَ كَلَامَهُ وَيُظْهِرَ غَايَةَ الْغَضَبِ وَالْفَزَعِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اشْتِدَادِهِمَا قَوْلُهُ: (يَقُولُ) أَيْ مُنْذِرُ الْجَيْش قَوْلُهُ: (صَبَّحَكُمْ) فَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إلَى الْعَدُوِّ الْمُنْذَرِ مِنْهُ، وَمَفْعُولُهُ يَعُودُ إلَى الْمُنْذَرِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " وَمَسَّاكُمْ " أَيْ أَتَاكُمْ الْعَدُوُّ وَقْتَ الصَّبَاحِ أَوْ وَقْتَ الْمَسَاءِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ

(3/321)


بَابُ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَالرُّخْصَةِ فِي تَكَلُّمِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمَصْلَحَةٍ وَفِي الْكَلَامِ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ إتْمَامِهَا
1250 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ) .

1251 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: «مَنْ دَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَلَغَا وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُنْصِتُ كَانَ عَلَيْهِ كِفْلٌ مِنْ الْوِزْرِ، وَمَنْ قَالَ: صَهٍ، فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْت نَبِيَّكُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد) .

1252 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَيُقَالُ لَهُ عَبَّادُ بْنُ إِسْحَاقَ وَفِيهِ مَقَالٌ، كَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ الثُّمَالِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ قَالَ: " بَعَثَ إلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ إنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى أَمْرَيْنِ، فَقَالَ: وَمَا هُمَا؟ فَقَالَ: رَفْعُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْقَصَصِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَقَالَ: أَمَا إنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدْعَتِكُمْ عِنْدِي وَلَسْت بِمُجِيبِكُمْ إلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا، قَالَ لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا رُفِعَ مِثْلُهَا مِنْ السُّنَّةِ» ، فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إحْدَاثِ بِدْعَةٍ " وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَبَقِيَّةُ وَهُوَ مُدَلِّسٌ. قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَارَةُ يَعْنِي) لَفْظُ يَعْنِي لَيْسَ فِي مُسْلِمٍ وَلَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَلَا التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: (قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ: " الْقَصِيرَتَيْنِ ".
وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ» وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنَ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى.
قَالَ: وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ حَدِيثَيْ الْبَابِ أَنَّهَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

(3/322)


وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1253 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَتَلَا آيَةً، وَإِلَى جَنْبِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أُبَيّ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: أُبَيّ، مَا لَكَ مِنْ جُمُعَتِكَ إلَّا مَا لَغَيْتَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ أُبَيٌّ، فَإِذَا سَمِعْت إمَامَكَ يَتَكَلَّمُ فَأَنْصِتْ حَتَّى يَفْرُغَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ]
حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي إسْنَاده رَجُل مَجْهُول، لِأَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَوْلَى امْرَأَتِهِ أُمِّ عُثْمَانَ قَالَتْ: " سَمِعْت عَلِيًّا " الْحَدِيثَ. وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِي إسْنَادِهِ مَجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: لَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ.
وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ حَرْبِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَرِجَالُ أَحْمَدُ ثِقَاتٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِهِ أُبَيٌّ» فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِنَحْوِ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ.
وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ سَلِمَ مِنْهُنَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى: مِنْ أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا، يَعْنِي أَذًى، أَوْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ أَنْ يَقُولَ: صَهٍ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَل الرَّأْيِ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَلِابْنِ أَبِي أَوْفَى حَدِيثٌ آخَرُ مَرْفُوعٌ عِنْدَ النَّسَائِيّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيَقْصُرُ الْخُطْبَةَ» . وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا فِي الْمُصَنَّفِ قَالَ: «قَالَ سَعْدٌ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: لَا جُمُعَةَ لَكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: لِمَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَأَنْتَ تَخْطُبُ، قَالَ: صَدَقَ سَعْدٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ» وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ، وَفِي إسْنَادِهِ مُجَالِدُ بْنُ

(3/323)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
سَعِيدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: فَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو فَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: «كَفَى لَغْوًا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِك: أَنْصِتْ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَل الرَّأْيِ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ. قَوْلُهُ: (أَنْصِتْ) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَانْتَصَتَ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: وَالْمُرَادُ بِالْإِنْصَاتِ: السُّكُوتُ عَنْ مُكَالَمَةِ النَّاسِ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، قَالَهُ فِي الْفَتْحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ كَصَلَاةِ التَّحِيَّةِ، نَعَمْ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذِكْرِهِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ يَعُمُّ كُلَّ كَلَامٍ، فَيَتَعَارَضُ الْعُمُومَانِ وَلَكِنَّهُ يُرَجَّحُ مَشْرُوعِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذِكْرِهِ حَالَ الْخُطْبَةِ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ، لَوْلَا مَا سَيَأْتِي مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِالتَّعْمِيمِ قَوْلُهُ: (وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِحَالِ الْخُطْبَةِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ الْإِنْصَاتَ مِنْ خُرُوجِ الْإِمَامِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِنْصَاتَ فِي خُطْبَةِ غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يَجِبُ. قَوْلُهُ: (فَقَدْ لَغَوْتَ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْأَخْفَشُ.
اللَّغْوُ: الْكَلَامُ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَشِبْهِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: اللَّغْوُ: السَّقَطُ مِنْ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْمَيْلُ عَنْ الصَّوَابِ. وَقِيلَ: اللَّغْوُ: الْإِثْمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] . وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَلَامِ. وَأَغْرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ فَقَالَ: مَعْنَى لَغَا: تَكَلَّمَ، وَالصَّوَابُ: التَّقْيِيدُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَعْنَى لَغَوْتَ: خِبْت مِنْ الْأَجْرِ. وَقِيلَ: بَطَلَتْ فَضِيلَةُ جُمُعَتِكِ. وَقِيلَ: صَارَتْ جُمُعَتُكَ ظُهْرًا. قُلْتُ: أَقْوَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى انْتَهَى كَلَامُ الْفَتْحِ.
وَفِي الْقَامُوسِ: اللَّغْوُ: السَّقَطُ وَمَا لَا يُعْتَدّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ غَيْره انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّغْوَ صَيْرُورَةُ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا، مَا عِنْد أَبِي دَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «مَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا» قَوْلُهُ: (فَلَا جُمُعَة لَهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ: لَا جُمُعَة لَهُ كَامِلَة لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إسْقَاط فَرْض الْوَقْت عَنْهُ قَوْلُهُ: فَهُوَ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] شَبَّهَ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ عَنْ الْكَلَامِ بِالْحِمَارِ الْحَامِلِ لِلْأَسْفَارِ

(3/324)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
بِجَامِعِ عَدَم الِانْتِفَاعِ.
وَظَاهِر قَوْلِهِ " مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَة "، الْمَنْعُ مِنْ جَمِيع أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُبَيٍّ لِإِطْلَاقِ الْكَلَامِ فِيهِمَا. وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ قَوْلَهُ: " أَنْصِتْ " مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ لَغْوًا، فَغَيْرُهُ مِنْ الْكَلَامِ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى لَغْوًا. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ بَعَدَ قَوْلِهِ: " فَقَدْ لَغَوْتَ عَلَيْكَ بِنَفْسِك " وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْمِيَةِ السُّؤَالِ عَنْ نُزُولِ الْآيَةِ لَغْوًا.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ كُلِّ كَلَامٍ حَالَ الْخُطْبَةِ الْجُمْهُورُ وَلَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِالسَّامِعِ لِلْخُطْبَةِ، وَالْأَكْثَرُ لَمْ يُقَيِّدُوا. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيَجْعَلْهُ بِالْإِشَارَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا إلَّا عَنْ قَلِيلٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ لِأَحْمَدَ.
وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَيْضًا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَلِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِنْصَاتُ، وَبَيْن مَنْ زَادَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجِبُ. وَقَدْ حَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْقَاسِمِ وَابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ وَالْمُرْتَضَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَلَامُ الْخَفِيفُ حَالَ الْخُطْبَةِ.
، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ السَّاعَةِ، وَلِمَنْ سَأَلَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ مُخَصَّصًا بِالسُّؤَالِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ فِي الْخُطْبَةِ كَتَحْذِيرِ الضَّرِير مِنْ الْبِئْرِ وَنَحْوِهِ. وَخَصَّصَ بَعْضُهُمْ رَدَّ السَّلَامِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ، فَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ تَحَكُّمٌ، وَمِثْلُهُ تَشْمِيت الْعَاطِسِ.
وَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ التَّرْخِيصَ فِي رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ خِلَافَ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ بِالْجَوَازِ فَقَالَ: وَلَوْ عَطَسَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَشَمَّتَهُ رَجُلُ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعهُ، لِأَنَّ التَّشْمِيتَ سُنَّةٌ، وَلَوْ سَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ وَرَأَيْتُ أَنْ يَرُدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدَّهُ فَرْضٌ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَة مَا إذَا انْتَهَى الْخَطِيبُ إلَى كَلَامٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ مِثْلِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلسُّلْطَانِ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ إذَا جَاوَزَ، وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ مَطْلُوبٌ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَمَحَلُّ التَّرْكِ إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّرَرَ، وَإِلَّا فَيُبَاحُ لِلْخَطِيبِ إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلُهُ: (إلَّا مَا لَغِيت) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لُغَةٌ فِي لَغَوْتَ.

(3/325)


1254 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْن يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، نَظَرْتُ إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِر حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ) .

1255 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ وَيُكَلِّمُهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى مُصَلَّاهُ فَيُصَلِّي.» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ) .

1256 - (وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ عُمَرُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ حَتَّى يَقْضِيَ الْخُطْبَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَنَزَلَ عُمَرُ تَكَلَّمُوا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَسَنَذْكُرُ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِسْقَاءَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثُ بُرَيْدَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ إنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ انْتَهَى. وَالْحُسَيْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عَلِيٍّ قَاضِي مَرْوَ، احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ثِقَةٌ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَسَمِعْت مُحَمَّدًا، يَعْنِي الْبُخَارِيُّ يَقُول: وَهِمَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَأَخَذَ رَجُلٌ بِيَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَا زَالَ يُكَلِّمُهُ حَتَّى نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْم» قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْحَدِيثُ هُوَ هَذَا، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ رُبَّمَا يَهِمُ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ صَدُوقٌ، انْتَهَى كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَهُوَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: مَا أَعَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد الْحَدِيثَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ كَلَامُ الرَّجُل لَهُ بَعَدَ مَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، بَلْ الْجَمْع بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ إقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ، فَلَيْسَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرًا

(3/326)


بَابُ مَا يُقْرَأُ بِهِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِي صُبْحِ يَوْمِهَا
1257 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فَقُلْتُ لَهُ حِينَ انْصَرَفَ: إنَّك قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْكُوفَةِ، فَقَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ.» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
كَيْفَ؟ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْمُخْرَجِ لَهُمْ فِي الصَّحِيحِ فَلَا تَضُرُّ زِيَادَتُهُ فِي كَلَامِ الرَّجُلِ لَهُ أَنَّهُ كَانَ بَعَدَ نُزُولِهِ عَنْ الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ لِلْأَمْرِ يَحْدُثُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إذَا تَكَلَّمَ أَعَادَ الْخُطْبَة، قَالَ الْخَطَّابِيِّ: وَالسُّنَّةُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ. قَوْلُهُ: (فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ وَيُكَلِّمُهُ) فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْس بِالْكَلَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَطِيبِ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُم وَلَا يُكْرَهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَمُحَمَّدٍ قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ انْتَهَى. .
وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَى أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَرَّد لِلذِّكْرِ وَالتَّضَرُّع. وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ إنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ ". وَمِمَّا يُرَجِّحُ تَرْكَ الْكَلَامِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْإِنْصَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بِلَفْظِ: «فَيُنْصِت حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ» وَأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْشَةَ بِلَفْظِ: " فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ " وَقَدْ تَقَدَّمَا.
وَيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْجَائِزَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ هُوَ كَلَامُ الْإِمَامِ لِحَاجَةٍ، أَوْ كَلَامُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِحَاجَةِ. قَوْلُهُ (: وَعُمَرُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ) فِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ حَالَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْخُطْبَةِ، لِأَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنْ دُونِ نَكِيرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ لَهُمْ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: صَحِيحٌ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْمُؤَذِّن يُقِيمُ يَسْتَخْبِرُ النَّاسَ عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَأَسْعَارِهِمْ قَوْلُهُ: (وَسَنَذْكُرُ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ. . . إلَخْ) سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ. .

(3/327)


وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَسَأَلَهُ الضَّحَّاكُ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَثَرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ) .

1259 - (وَعَنْ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] . قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ.» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ) .

1260 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ: بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد) . حَدِيثُ سَمُرَةَ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَا يُقْرَأُ بِهِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِي صُبْحِ يَوْمِهَا]
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَة بَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » وَفِي إسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي.
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَة فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ، أَوْ فِي الْأُولَى بَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] . أَوْ فِي الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] . قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالْأَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّات قِرَاءَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْأُولَى، ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الثَّانِيَة، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الرَّبِيعُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فَلَا وَجْهَ لِتَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، إلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ: " كَانَ " مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ أَدْرَكَ النَّاسَ يَقْرَءُونَ فِي الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ وَالثَّانِيَة بِسَبِّحْ، وَلَمْ يَثْبُت ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالنَّاصِرُ: إنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْجُمُعَة

(3/328)


1261 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ الم تَنْزِيلُ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ) .

1262 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم تَنْزِيلُ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ.» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد، لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مَعَ الْفَاتِحَةِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْأُولَى وَالْمُنَافِقِينَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ سَبِّحْ وَالْغَاشِيَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فِي الْأُولَى السَّجْدَةُ وَفِي الثَّانِيَةِ الدَّهْرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنِّفِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنَّهُ يَقْرَأُ الْإِمَامُ بِمَا شَاءَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْقِرَاءَةَ فِي الْجُمُعَةِ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهَا وَلَيْسَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ قَرَأَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِالْبَقَرَةِ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، وَخَالَفَهُمْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَالْحِكْمَة فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْجُمُعَةِ فَيُحَرِّضُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فَيُفْزِعُ الْمُنَافِقِينَ» قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْكَشْفِ عَنْهُ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ إلَّا مَنْصُورٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَنْصُورٍ فَرَفَعَهُ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَخَالَفَهُ فِي إسْنَادِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَأَعْضَلَهُ فَرَوَاهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] ، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] » وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي

(3/329)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْكَامِلِ، وَفِي إسْنَادِهِ الْحَارِثُ بْنُ شِهَابٍ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] ، وَهَلْ أَتَى» وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمَيْهِ الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ بِنَحْوِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي إسْنَادِهِ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْغَاضِرِيُّ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ قِرَاءَةِ تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَمِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنْ التَّابِعِينَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَآخَرُونَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ طُرُقٍ. وَاعْتَذَرَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَرْدُودٌ. أَمَّا أَوَّلًا: فَبِأَنَّ سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ قَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَوْثِيقِهِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَلَمْ أَرَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ تَضْعِيفَهُ غَيْرَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَوْقَعهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَمَّا امْتِنَاعُ مَالِكٍ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْ سَعْدٍ فَلِكَوْنِهِ طَعْنٌ فِي نَسَبِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَغَايَةُ هَذَا الِاعْتِذَارِ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دُونَ بَقِيَّةِ أَحَادِيثَ الْبَابِ. قَالَ الْحَافِظُ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّرُقِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ تَنْزِيلِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ إلَّا فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ لِابْنِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «غَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ» الْحَدِيثُ.
وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ» لَكِنَّ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ انْتَهَى. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: قَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ كَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ مِنْ التَّابِعِينَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنَعَتْهُ الْهَادَوِيَّةُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ حُجَجِ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ قِرَاءَة {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ بَدَلهَا سُورَةً أُخْرَى فِيهَا سَجْدَةٌ فَيَسْجُدَ فِيهَا أَوْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؟ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا. .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ فِيهِمَا سَجْدَةٌ لِغَرَضِ السُّجُودِ فَقَطْ لَمْ أَرَ فِيهِ كَلَامًا لِأَصْحَابِنَا. قَالَ: وَفِي كَرَاهَته خِلَاف لِلسَّلَفِ. وَأَفْتَى الشَّيْخُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ كَرَاهَةَ اخْتِصَارِ السُّجُودِ، زَادَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانُوا يَكْرَهُونَ

(3/330)


بَابُ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُطْبَةِ
1263 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
إذَا أَتَوْا عَلَى السَّجْدَةِ أَنْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَسْجُدُوا، وَكَرِهَ اخْتِصَارَ السُّجُودِ ابْنُ سِيرِينَ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ تُخْتَصَر السَّجْدَةُ. وَعَنْ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ اخْتِصَارَ السُّجُودِ مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السُّجُودِ، فَيَقْرَؤُهَا وَيَسْجُدُ فِيهَا. وَقِيلَ: اخْتِصَارُ السُّجُودِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ إلَّا آيَاتِ السُّجُودِ، فَيَحْذِفُهَا، وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ السَّلَفِ. .

[بَابُ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُطْبَةِ]
قَوْلُهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا» ) ظَاهِره أَنَّ الِانْفِضَاضَ وَقَعَ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَظَاهِر قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنَّ الِانْفِضَاض وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مَا عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَامّ. وَعِنْدَ ابْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ " يَخْطُبُ " وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ. ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ. وَفِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ " نُصَلِّي " أَيْ نَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ " بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ " كَمَا وَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِي الصَّلَاةِ: أَيْ فِي الْخُطْبَةِ، وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يُقَارِنُهُ. وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُؤَيِّدهُ اسْتِدْلَالُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ) الْعِيرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْإِبِلِ الَّتِي تَحْمِلُ التِّجَارَةَ طَعَامًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَة لَا وَاحِدَ لَهَا

(3/331)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مِنْ لَفْظهَا وَلِابْنِ مَرْدُوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " جَاءَتْ عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ". وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهَا مِنْ الشَّامِ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَجُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ التِّجَارَة كَانَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ دِحْيَةُ السَّفِيرُ فِيهَا، أَوْ كَانَ مُقَارِضًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهَا كَانَتْ لِوَبَرَةَ الْكَلْبِيِّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ رَفِيقُ دِحْيَةَ قَوْلُهُ: (فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " فَانْفَضَّ النَّاسُ إلَيْهَا " وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " فَالْتَفَتُوا إلَيْهَا " وَالْمُرَادُ بِالِانْفِتَالِ وَالِالْتِفَات: الِانْصِرَاف، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ " فَانْفَضَّ " وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الِالْتِفَاتَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَالَ: لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْصِرَافُ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَطْعِهَا، وَإِنَّمَا يُفْهَم مِنْهُ الْتِفَاتهمْ بِوُجُوهِهِمْ أَوْ بِقُلُوبِهِمْ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الِالْتِفَاتُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الِاسْتِمَاعَ لِلْخُطْبَةِ.
قَوْلُهُ: (إلَّا اثْنَا عَشَر رَجُلًا) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغًا فَيَجِبُ رَفْعُهُ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَمِيرِ " لَمْ يَبْقَ الْعَائِدُ " إلَى النَّاسِ فَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ. قَالَ: وَثَبَتَ الرَّفْعُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " إلَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا ". وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحِفْظِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ حُصَيْنٍ كُلُّهُمْ.
وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدُوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَسَبْعَ نِسْوَةٍ " بَعَدَ قَوْله: " إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ".
وَفِي تَفْسِيرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ الشَّامِيِّ " وَامْرَأَتَانِ " وَقَدْ سُمِّيَ مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ لَمْ يَنْفُضُوا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ جَابِرًا قَالَ: أَنَا فِيهِمْ.
وَفِي تَفْسِيرِ الشَّامِيِّ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُمْ وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْهُمْ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ.
وَرَوَى السُّهَيْلِيُّ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ: إنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ هُمْ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ وَبِلَالٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةٌ: عَمَّارٌ بَدَل ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَرِوَايَةُ الْعُقَيْلِيِّ أَقْوَى وَأَشْبَهُ قَوْلُهُ: (فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قُدُومِ الْعِيرِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِاللَّهْوِ عَلَى هَذَا مَا يَنْشَأُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَادِمِينَ وَمَا مَعَهُمْ. وَوَقَعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَانَ لَهُمْ سُوقٌ كَانَتْ بَنُو سُلَيْمٍ يَجْلِبُونَ إلَيْهِ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالسَّمْنَ، فَقَدِمُوا فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّاسُ وَتَرَكُوهُ قَائِمًا وَكَانَ لَهُمْ لَهْوٌ يَضْرِبُونَهُ فَنَزَلَتْ» ، وَوَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ قَوْلُهُ: (انْفَضُّوا إلَيْهَا) قِيلَ النُّكْتَةُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى التِّجَارَةِ دُونَ اللَّهْوِ أَنَّ اللَّهْوَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلتِّجَارَةِ.
وَقِيلَ: حُذِفَ ضَمِيرُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعِيد الضَّمِيرُ إلَى الْمَعْنَى: أَيْ انْفَضُّوا إلَى الرُّؤْيَةِ. وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ عَدَدَ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ. .
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْأَصِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ

(3/332)


بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
1264 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ) .

1265 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ.» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) .

1266 - ( «وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ النُّورِ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهَا فِي الصَّحَابَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُمْ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجُمُعَةِ وَفَهِمُوا مِنْهَا ذَمّ ذَلِكَ اجْتَنِبُوهُ، فَوُصِفُوا بَعَدَ ذَلِكَ بِمَا فِي آيَةِ النُّورِ.

[بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ]
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآخَرَ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعَدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا» وَفِي إسْنَادِهِ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَفِي السَّنَدِ ضُعَفَاءُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا» قَوْلُهُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا» . . . إلَخْ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَهُوَ أَحَدُ أَلْفَاظِ مُسْلِمٍ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا " عَلَى أَنَّهَا سُنَّةً لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَذَكَر الْأَرْبَعُ لِفَضْلِهَا، وَفَعَلَ

(3/333)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الرَّكْعَتَيْنِ فِي أَوْقَاتٍ بَيَانًا لِأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ. قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِنَّ وَحَثَّنَا عَلَيْهِنَّ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَمَا ادَّعَى مِنْ أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ، لِأَنَّ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَمَرَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ، " وَكَوْنُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى بَعْدهَا رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ " فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا ظَنٌّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ بِمَكَّةَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ رَفْعَ فِعْلِهِ بِالْمَدِينَةِ فَحَسْبُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ بِمَكَّةَ مِنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ بَلْ نَادِرًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ الْخَصَائِص فِي حَقّه بِالتَّخْفِيفِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: «فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ» الْحَدِيثَ. فَرُبَّمَا لَحِقَهُ تَعَبٌ مِنْ ذَلِكَ فَاقْتَصَرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ يُطِيلُهُمَا كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: «وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ الْقِيَامِ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ خِفَافٍ أَوْ مُتَوَسِّطَاتٍ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْأُمَّةَ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِهِمْ بِصَلَاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بَعَدَ الْجُمُعَةِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا فِي الْبَيْت، وَاقْتِصَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّةَ الْأَرْبَعِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ عَدَم الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ الْخَاصِّ بِالْأُمَّةِ وَفِعْلِهِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ لِلْأُمَّةِ بِالْأَمْرِ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِأَدِلَّةِ التَّأَسِّي الْعَامَّةِ قَوْلُهُ: (رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ.
وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِذَلِكَ إلَّا بَيَانَ أَقَلَّ مَا يُسْتَحَبُّ، وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَحَبَّا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَإِنْ شَاءَ سِتًّا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَرَوْنَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدهَا أَرْبَعًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَبِي مُوسَى وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَحُمَيْدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ يُصَلِّي سِتَّا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ هَلْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِتَسْلِيمٍ فِي آخِرِهَا أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمٍ؟ فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ: أَهْلُ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَهَبَ إلَى الثَّانِي الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ النَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ دَلِيلَهُ خَاصٌّ، وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ

(3/334)


بَابُ مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَة
1267 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا؟ قَالَ نَعَمْ، صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ) .

1268 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ) .

1269 - (وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ، لَكِنْ مِنْ رِوَايَة عَطَاءٍ وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
عَامٌّ، وَبِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَاجِبٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ يُصَلِّي بَعَدَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعٍ لِئَلَّا يَخْطِرَ عَلَى بَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِتَكْمِلَةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ أَهْلُ الْبِدَعِ إلَى صَلَاتِهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا: هَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ»
وَأَمَّا صَلَاةُ ابْنِ عُمَرَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ فَقِيلَ: لَعَلَّهُ كَانَ يُرِيد التَّأَخُّرَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ لِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَيَكْرَهُ أَنْ يَفُوتَهُ بِمُضِيِّهِ إلَى مَنْزِله لِصَلَاةِ سُنَّة الْجُمُعَةِ، أَوْ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الذَّهَابُ إلَى مَنْزِلِهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَى الْمَسْجِدِ لِلطَّوَافِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى النَّوَافِلَ تُضَاعَفُ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ دُونَ بَقِيَّةِ مَكَّةَ، أَوْ كَانَ لَهُ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.

[بَابُ مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَة]
حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَفِي

(3/335)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
إسْنَادِهِ إيَاسُ بْنُ أَبِي رَمْلَة وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَفِي إسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَدْ صَحَّحَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ إرْسَالُهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا مُقَيَّدًا بِأَهْلِ الْعَوَالِي وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَصَابَ السُّنَّةَ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَحَدِيثُ عَطَاءٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ نَبَّهَ عَلَيْهِ هُوَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُثْمَانَ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْخَطَّابِ كَذَا قَالَ الْحَافِظُ قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ. . . إلَخْ) فِيهِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ يَجُوزُ تَرْكُهَا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " لِمَنْ شَاءَ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ تَعُمّ كُلَّ أَحَدٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْهَادِي وَالنَّاصِرُ وَالْأَخَوَانِ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تَكُونُ رُخْصَةً لِغَيْرِ الْإِمَامِ وَثَلَاثَةٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ " وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى، أَعْنِي الْوُجُوبَ. وَيَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوبِ وَأَنَّ التَّرْخِيصَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ تَرْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ الْإِمَامُ إذْ ذَاكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَصَابَ السُّنَّةَ، رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْبَعْضِ لَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَهُوَ خِلَافُ مَعْنَى الرُّخْصَةِ. وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تَرْخِيصَ، لِأَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِهَا لَمْ يُفَصَّلْ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّ التَّرْخِيصَ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ. وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِقَوْلِ عُثْمَانُ: مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْل الْعَوَالِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَنَا الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَفْعَلْ وَرَدَّهُ بِأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لَا يُخَصِّصُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ: (لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ، وَفِيهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا سَقَطَتْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُسَوِّغَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْبَحْرِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْجُمُعَةَ الْأَصْلُ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَإِيجَابُ صَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا أَعْلَمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعَدَ أَنْ سَاقَ الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ إنَّمَا وَجْه هَذَا أَنَّهُ رَأَى تَقْدِمَةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدَّمَهَا وَاجْتَزَأَ بِهَا عَنْ الْعِيدِ انْتَهَى. لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّعَسُّفِ.

(3/336)


كِتَابُ الْعِيدَيْنِ

بَابُ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ وَكَرَاهَةُ حَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ إلَّا لِحَاجَةٍ
1270 - (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ، فَقَالَ: إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1271 - (وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ بُرُدَ حِبَرَةٍ فِي كُلِّ عِيدٍ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) .

1272 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَاءَ يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنْ السِّلَاحُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ