نيل
الأوطار ط دار الحديث [نيل الأوطار]
[كِتَابُ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ] [بَابُ افْتِقَارِ
الْهِبَة إلَى الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ]
فِي الْبَابِ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ الْخُزَاعِيَّةِ عِنْدَ
الطَّبَرَانِيِّ قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ
تَكْرَهُ رَدَّ اللَّطَفِ قَالَ: مَا أَقْبَحَهُ لَوْ
أُهْدِيَ إلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْت» قَالَ فِي
الْقَامُوسِ: اللَّطَفُ بِالتَّحْرِيكِ: الْيَسِيرُ مِنْ
الطَّعَامِ قَوْلُهُ: (كِتَابُ الْهِبَةِ) بِكَسْرِ
الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ فِي
الْفَتْحِ: تُطْلَقُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ عَلَى
أَنْوَاعِ الْإِبْرَاءِ وَهُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ
هُوَ عَلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ وَهِيَ هِبَةُ مَا
يَتَمَحَّضُ بِهِ طَلَبُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ،
وَالْهَدِيَّةُ: وَهِيَ مَا يَلْزَمُ لَهُ الْمَوْهُوبُ
لَهُ عِوَضُهُ، وَمَنْ خَصَّهَا بِالْحَيَاةِ أَخْرَجَ
الْوَصِيَّةَ، وَهِيَ تَكُونُ أَيْضًا بِالْأَنْوَاعِ
الثَّلَاثَةِ، وَتُطْلَقُ الْهِبَةُ بِالْمَعْنَى
الْأَخَصِّ عَلَى مَا لَا يُقْصَدُ لَهُ بَدَلٌ،
وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُ مَنْ عَرَّفَ الْهِبَةَ
بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ اهـ
قَوْلُهُ: (وَالْهَدِيَّةُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ
الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ ثُمَّ
تَاءُ تَأْنِيثٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْهَدِيَّةُ
كَغَنِيَّةٍ: مَا أُتْحِفَ بِهِ قَوْلُهُ: (إلَى كُرَاعٍ)
هُوَ مَا دُونَ الْكَعْبِ مِنْ الدَّابَّةِ، وَقِيلَ:
اسْمُ مَكَان، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَثْبُتُ
وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَنَسٍ وَحَدِيثُ أُمِّ حَكِيمٍ
الْمَذْكُورَانِ، وَخَصَّ الْكُرَاعَ وَالذِّرَاعَ
بِالذِّكْرِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقِيرِ وَالْخَطِيرِ؛
لِأَنَّ الذِّرَاعَ كَانَتْ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ
غَيْرِهَا، وَالْكُرَاعُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَفِي
الْمَثَلِ: أَعْطِ الْعَبْدَ كُرَاعًا يَطْلُبْ ذِرَاعًا
هَكَذَا فِي الْفَتْحِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الْحَضُّ عَلَى إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَلَوْ
كَانَتْ إلَى شَيْءٍ حَقِيرٍ كَالْكُرَاعِ وَالذِّرَاعِ،
وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ شَيْئًا
حَقِيرًا مِنْ كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ
الْجَمْعُ بَيْنَ حَقِيرٍ وَخَطِيرٍ، فَإِنَّ الذِّرَاعَ
لَا يُعَدُّ عَلَى الِانْفِرَادِ خَطِيرًا وَلَمْ تَجْرِ
عَادَةٌ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَلَا بِإِهْدَائِهِ،
فَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَقِيرَيْنِ،
وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا أَحْقَرَ مِنْ الْآخَرِ لَا يَقْدَحُ
فِي ذَلِكَ، وَمَحَبَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِلذِّرَاعِ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ
فِي
(5/413)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
نَفْسِهَا خَطِيرَةً، وَلَا سِيَّمَا فِي خُصُوصِ هَذَا
الْمَقَامِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا لَهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَابَلَ الْكُرَاعَ
الَّذِي هُوَ أَحْقَرُ مَا يُهْدَى وَيُدْعَى إلَيْهِ
بِأَخْطَرَ مَا يُهْدَى وَيُدْعَى إلَيْهِ كَالشَّاةِ
وَمَا فَوْقَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّرْغِيبُ فِي إجَابَةِ
الدَّعْوَةِ وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ إلَى
أَمْرٍ حَقِيرٍ وَفِي شَيْءٍ يَسِيرٍ
وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ
فَقَالَ: بَابُ الْقَلِيلِ مِنْ الْهَدِيَّةِ وَفِي
الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ
الْقَبُولِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " لَقَبِلْت " وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي
ذَلِكَ
2468 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ جَاءَهُ
مِنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ وَلَا
مَسْأَلَةٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا
هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
2469 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ:
«كَانَتْ أُخْتِي رُبَّمَا تَبْعَثُنِي بِالشَّيْءِ إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تُطْرِفُهُ إيَّاهُ فَيَقْبَلُهُ مِنِّي وَفِي لَفْظٍ
كَانَتْ تَبْعَثُنِي إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهَدِيَّةِ فَيَقْبَلُهَا»
رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ
الْهَدِيَّةِ بِرِسَالَةِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ كَانَ كَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
2470 - (وَعَنْ «أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ
قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: إنِّي
قَدْ أَهْدَيْت إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ
مِنْ مِسْكٍ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ،
وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إلَّا مَرْدُودَةً، فَإِنْ رُدَّتْ
عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ، قَالَتْ: وَكَانَ كَمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ
مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةَ مِسْكٍ، وَأَعْطَى أُمَّ
سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ» رَوَاهُ
أَحْمَدُ)
(5/414)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ
مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِنْ كِتَابِ
الزَّكَاةِ، وَأَعَادَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا
لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ
تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ لِقَوْلِهِ فِيهِ "
فَلْيَقْبَلْهُ " وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ
أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ
فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَرِجَالُهُمَا يَعْنِي:
أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيُّ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَلَهُ
حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ،
وَفِي إسْنَادِهِ الْحَكَمُ بْنُ الْوَلِيدِ، ذَكَرَهُ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَذَكَرَ لَهُ هَذَا
الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ إلَّا عَنْ الْحَكَمِ هَكَذَا، هَذَا
مَعْنَى كَلَامِهِ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ:
وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
وَحَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا
الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ
الزَّنْجِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ،
وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا أُمُّ
مُوسَى بِنْتُ عُقْبَةَ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ:
لَا أَعْرِفُهَا، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ
الصَّحِيحِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ خَالِدٍ:
(فَلْيَقْبَلْهُ) فِيهِ الْأَمْرُ بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ
وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَخِ فِي الدِّينِ
لِأَخِيهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الرَّدِّ لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ جَلْبِ الْوَحْشَةِ وَتَنَافُرِ الْخَوَاطِرِ،
فَإِنَّ التَّهَادِيَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُورِثَةِ
لِلْمَحَبَّةِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي
الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ طَاهِرٍ
فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ
بُكَيْر عَنْ ضِمَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ
وَرْدَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» قَالَ
الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ
فِيهِ عَلَى ضِمَامٍ فَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَوْرَدَهُ ابْنُ
طَاهِرٍ وَرَوَاهُ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «تَهَادَوْا تَزْدَادُوا حُبًّا»
وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: لَا أَعْرِفُهُ، وَأَوْرَدَهُ
أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ
وَدَاعٍ الْخُزَاعِيَّةِ وَقَالَ: إسْنَادُهُ غَرِيبٌ
وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ رَفَعَهُ «تَصَافَحُوا يَذْهَبْ
الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ
الشَّحْنَاءُ» وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا، وَهَاجِرُوا
تُوَرِّثُوا أَوْلَادَكُمْ مَجْدًا، وَأَقِيلُوا
الْكِرَامَ عَثَرَاتِهِمْ» قَالَ الْحَافِظُ: وَفِي
إسْنَادِهِ نَظَرٌ وَأَخْرَجَ فِي الشِّهَابِ عَنْ
عَائِشَةَ «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ
الضَّغَائِنَ» وَمَدَارُهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
النُّورِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَعْشَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْهَا، وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ:
لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ هِشَامٍ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ بَكَّارَ عَنْ
عَائِذِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «تَهَادَوْا
فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تُذْهِبُ
السَّخِيمَةَ» وَضَعَّفَهُ بِعَائِذٍ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ
تَفَرَّدَ بِهِ عَائِذٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ قَالَ: وَرَوَاهُ
كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا،
وَكَوْثَرُ مَتْرُوكٌ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ
تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو
مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ
وَرَوَاهُ ابْنُ طَاهِرٍ فِي أَحَادِيثِ الشِّهَابِ مِنْ
طَرِيقِ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: «الْهَدِيَّةُ
تُذْهِبُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ» وَرَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
بِلَفْظِ: «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ
الْغِلَّ» رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ غَيْزَغَةَ وَقَالَ: لَا
يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ:
مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ
فِي الذَّيْلِ فِي تَرْجَمَةِ زَعْبَلٍ بِالزَّايِ
وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ
يَرْفَعُهُ «تَزَاوَرُوا وَتَهَادُوا، فَإِنَّ
الزِّيَارَةَ تُثَبِّتُ الْوِدَادَ وَالْهَدِيَّةَ
تُذْهِبُ السَّخِيمَةَ» قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مُرْسَلٌ
وَلَيْسَ لِزَعْبَلٍ صُحْبَةٌ قَوْلُهُ: " فَإِنَّمَا هُوَ
رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْوَاصِلَةَ إلَى الْعِبَادِ عَلَى
أَيْدِي بَعْضِهِمْ هِيَ مِنْ الْأَرْزَاقِ الْإِلَهِيَّةِ
لِمَنْ
(5/415)
2471 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُتِيَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَالٍ
مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: اُنْثُرُوهُ فِي
الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ
جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْت نَفْسِي وَعَقِيلًا، قَالَ:
خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ
يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إلَيَّ؟
قَالَ لَا، قَالَ: ارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ لَا:
فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ
يَرْفَعْهُ، قَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ،
قَالَ لَا، قَالَ: ارْفَعْهُ عَلَيَّ أَنْتَ، قَالَ لَا،
فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ
انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ
عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَمَّ مِنْهَا
دِرْهَمٌ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَصَلَتْ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ جَارِيَةً
عَلَى أَيْدِي الْعِبَادِ لِإِثَابَةِ مَنْ جَعَلَهَا
عَلَى يَدِهِ فَالْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ
هَذَا الْقَبِيلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ:
(يُطْرِفُهُ إيَّاهُ) بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءُ
بَعْدَهَا فَاءٌ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الطُّرْفَةُ بِالضَّمِّ الِاسْمِ
مِنْ الطَّرِيفِ وَالطَّارِفِ وَالْمُطْرِفِ لِلْمَالِ
الْمُسْتَحْدَثِ قَالَ: وَالْغَرِيبُ مِنْ الثَّمَرِ
وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ: (فَيَقْبَلُهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
اعْتِبَارِ الْقَبُولِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا
عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَبَضَ الْهَدِيَّةَ
الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَى النَّجَاشِيِّ بَعْدَ
رُجُوعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا
تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْإِهْدَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ
الْقَبُولِ، وَلَوْ كَانَتْ تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ
لَمَا قَبَضَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛
لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلنَّجَاشِيِّ عِنْدَ
بَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا،
فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَ وُصُولِهَا إلَيْهِ
صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ وَإِلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ فِي
الْهِبَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالنَّاصِرُ
وَالْهَادَوِيَّةُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِ
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ
1 -
(5/416)
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ التَّفْضِيلِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى
وَغَيْرِهِمْ وَتَرْكِ تَخْمِيسِ الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ
مَتَى كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ ذُو رَحِمٍ لِبَعْضِ
الْغَانِمِينَ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ) .
2472 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ
بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا
بُنَيَّةُ إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ
وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ
لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ
فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّإِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ أَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ فَقَالَا فِي الْهَدِيَّةِ الَّتِي مَاتَ مَنْ
أُهْدِيَتْ إلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إنْ كَانَ
حَامِلُهَا رَسُولَ الْمُهْدِي رَجَعَتْ إلَيْهِ،.
وَإِنْ كَانَ حَامِلُهَا رَسُولَ الْمُهْدَى إلَيْهِ
فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ
الْهَدِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ إلَى الْمُهْدَى إلَيْهِ
إلَّا بِأَنْ يَقْبِضَهَا هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ فَهِيَ لِوَرَثَةِ
الْمُهْدَى لَهُ إذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ قَالَ ابْنُ
بَطَّالٍ: وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِ الْحَسَنِ وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ تَفْصِيلًا بَيْنَ
أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ قَدْ انْفَصَلَتْ أَمْ لَا
مَصِيرًا مِنْهُ إلَى أَنَّ قَبْضَ الرَّسُولِ يَقُومُ
مَقَامَ قَبْضِ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَحَدِيثُ أُمِّ
كُلْثُومٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ، وَحَسَّنَ صَاحِبُ الْفَتْحِ إسْنَادَهُ
قَوْلُهُ: (وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ)
قَدْ سَبَقَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَعْلَمَ أَصْحَابَهُ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ عَلَى جِهَةِ
الْجَزْمِ، وَصَلَّى هُوَ وَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ
أَنَّهُ رُفِعَ لَهُ نَعْشُهُ حَتَّى شَاهَدَهُ، وَكُلُّ
ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا وَقَعَ مِنْ تَظَنُّنِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنَ
أَبِي سُفْيَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ
قَوْلُهُ: (بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ) رَوَى ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ مُرْسَلًا
أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفٍ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ
الْعَلَاءُ الْحَضْرَمِيُّ مِنْ خَرَاجِ الْبَحْرَيْنِ،
قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ خَرَاجٍ حُمِلَ إلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَبَعَثَ
أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إلَيْهِمْ، فَقَدِمَ
أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ
بِقُدُومِهِ» الْحَدِيثَ. فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْيِينُ
الْآتِي بِالْمَالِ، لَكِنْ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ
لِلْوَاقِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ الْعَلَاءِ بْنِ
الْحَضْرَمِيِّ بِالْمَالِ هُوَ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ
الثَّقَفِيُّ، فَلَعَلَّهُ كَانَ رَفِيقَ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَأَمَّا حَدِيثُ «جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَوْ قَدْ جَاءَ
مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ» وَفِيهِ «فَلَمْ
يَقْدَمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الْحَدِيثَ، فَهُوَ
صَحِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ فِي
السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالَ
خَرَاجٍ أَوْ جِزْيَةٍ، فَكَانَ يَقْدَمُ فِي كُلِّ سَنَةٍ
قَوْلُهُ: (اُنْثُرُوهُ) أَيْ: صُبُّوهُ قَوْلُهُ:
(وَفَادَيْت عَقِيلًا) أَيْ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ
أُسِرَ مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ،
وَيُقَالُ إنَّهُ أُسِرَ مَعَهُمَا الْحَارِثُ بْنُ
نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
وَأَنَّ الْعَبَّاسَ افْتَدَاهُ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرَ
ابْنُ إِسْحَاقَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَحَثَا
بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَالضَّمِيرُ
فِي ثَوْبِهِ يَعُودُ عَلَى الْعَبَّاسِ قَوْلُهُ:
(يُقِلُّهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ الْإِقْلَالِ: وَهُوَ
الرَّفْعُ وَالْحَمْلُ
قَوْلُهُ: (مُرْ بَعْضَهُمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ
الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ " اُؤْمُرْ " بِالْهَمْزِ
قَوْلُهُ: (يَرْفَعْهُ) بِالْجَزْمِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ
الْأَمْرِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ: أَيْ فَهُوَ يَرْفَعُهُ،
وَالْكَاهِلُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ قَوْلُهُ: (يُتْبِعُهُ)
بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ الْإِتْبَاعِ قَوْلُهُ: (وَثَمَّ
مِنْهَا دِرْهَمٌ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ: أَيْ: هُنَاكَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَرَمِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ
الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَأَنَّ
الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ مَالَ
الْمَصَالِحِ فِي مُسْتَحِقِّيهَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ
(5/417)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَشْتَرِكُ
فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا
وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ
بَعْضِ الْأَصْنَافِ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ الْحَافِظُ:
وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ مِنْ
الزَّكَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْهَا
فَالْعَبَّاسُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ
قِيلَ: إنَّمَا أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ كَمَا
أَشَارَ إلَيْهِ الْكَرْمَانِيُّ فَقَدْ تُعُقِّبَ،
وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَالَ الْمَذْكُورَ كَانَ
مِنْ الْخَرَاجِ أَوْ الْجِزْيَةِ وَهُمَا مِنْ مَالِ
الْمَصَالِحِ انْتَهَى قَوْلُهُ: (لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ)
يُرِيدُ أَنَّ الْعَبَّاسَ وَعَقِيلًا قَدْ كَانَ
غَنِمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمَا رَحِمَانِ
لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَلِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَعْتِقَا،
وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُرَادُ
الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْعِتْقِ
فِي بَابِ مَا جَاءَ فِيمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ،
وَلَا يَظْهَرُ لِذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ وِجْهَةٌ مُنَاسِبَةٌ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ
تَرْجَمَ لِافْتِقَارِ الْهِبَةِ إلَى الْقَبُولِ
وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ،
فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ قَبْضَ الْعَبَّاسِ قَامَ مَقَامَ
الْقَبُولِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ سُؤَالِهِ
يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَذْكُورَ فِي
الْحَدِيثِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ الدَّفْعُ مِنْهُ
إلَى الْعَبَّاسِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الْهِبَةِ،
بَلْ هُوَ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ أَوْ الْجِزْيَةِ كَمَا
عَرَفْتَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَوَلَّى قِسْمَتَهُ بَيْنَ
مَصَارِفِهِ
قَوْلُهُ: (جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا) بِجِيمٍ وَبَعْدَ
الْأَلِفِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ مُشَدَّدَةٌ، أَيْ: أَعْطَاهَا
مَالًا يُجِدُّ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ
يَحْصُلُ مِنْ ثَمَرَتِهِ ذَلِكَ، وَالْجَدُّ: صِرَامُ
النَّخْلِ وَهَذَا الْأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْهِبَةَ إنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِقَوْلِهِ: "
لَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ لَكِ "
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَرَةِ يَكُونُ بِالْجِذَاذِ
وَقَبْضَ الْإِرْثِ بِالْحَرْثِ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ
بَطَّالٍ: اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي
الْهِبَةِ هُوَ غَايَةُ الْقَبُولِ قَالَ الْحَافِظُ:
وَغَفَلَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ الْقَبُولَ فِي الْهِبَةِ
دُونَ الْهَدِيَّةِ
(5/418)
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبُولِ هَدَايَا
الْكُفَّارِ وَالْإِهْدَاءِ لَهُمْ
2473 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
«أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبِلَ مِنْهُ وَأَهْدَى لَهُ
قَيْصَرُ فَقَبِلَ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ
مِنْهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
2474 - (وَفِي حَدِيثٍ عَنْ بِلَالٍ الْمُؤَذِّنِ قَالَ:
«انْطَلَقْت حَتَّى أَتَيْته، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ
مُنَاخَاتٍ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ فَاسْتَأْذَنْت،
فَقَالَ لِي: أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَك اللَّهُ بِقَضَائِك،
قَالَ: أَلَمْ تَرَ الرَّكَائِبَ الْمُنَاخَاتِ
الْأَرْبَعَ؟ فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ: إنَّ لَك
رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ
كِسْوَةً وَطَعَامًا أَهْدَاهُنَّ إلَيَّ عَظِيمُ فَدَكَ
فَاقْبِضْهُنَّ وَاقْضِ دَيْنَك، فَفَعَلْت» . مُخْتَصَرٌ
لِأَبِي دَاوُد)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبُولِ هَدَايَا الْكُفَّارِ
وَالْإِهْدَاءِ لَهُمْ]
حَدِيثُ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ
وَأَوْرَدَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ مَجْمَعِ
الزَّوَائِدِ فِي بَابِ هَدَايَا الْكُفَّارِ، وَقَدْ
حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إسْنَادِهِ نُوَيْرُ بْنُ
أَبِي فَاخِتَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُ بِلَالٍ سَكَتَ
عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُ
إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ أَوْرَدَهُ
أَبُو دَاوُد فِي بَابِ: الْإِمَامُ يَقْبَلُ هَدَايَا
الْمُشْرِكِينَ، مِنْ كِتَابِ الْخَرَاجِ، وَفِيهِ: «أَنَّ
بِلَالًا كَانَ يَتَوَلَّى نَفَقَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ إذَا أَتَى
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إنْسَانٌ مُسْلِمًا عَارِيًّا يَأْمُرُ بِلَالًا أَنْ
يَسْتَقْرِضَ لَهُ الْبُرُدَ حَتَّى لَزِمَتْهُ دُيُونٌ
فَقَضَاهَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَرْبَعِ الرَّكَائِبِ وَمَا
عَلَيْهَا» .
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ
الثَّقَفِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيّ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ
وَفْدُ ثَقِيفٍ قَدِمُوا مَعَهُمْ بِهَدِيَّةٍ، فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّةً
فَإِنَّمَا نَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَاءَ
الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنَّمَا يُبْتَغَى
بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، قَالُوا: لَا، بَلْ هَدِيَّةٌ،
فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ» .
وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: «أَنَّ أُكَيْدِرَ
دَوْمَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةَ سُنْدُسٍ» وَلِأَبِي دَاوُد:
«أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَقَةَ سُنْدُسٍ
فَلَبِسَهَا» الْحَدِيثَ وَالْمُسْتَقَةُ بِضَمِّ
الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِهَا:
(6/5)
2475 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي
بَكْرٍ قَالَتْ: «أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ
قُرَيْشٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا؟ قَالَ:
نَعَمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] وَمَعْنَى رَاغِبَةً: أَيْ
طَامِعَةً تَسْأَلُنِي شَيْئًا) .
2476 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ
الْعُزَّى بْنِ سَعْدٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ
بِهَدَايَا ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ
فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا
وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] إلَى
آخِرِ الْآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا
وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْفَرْوَةُ الطَّوِيلَةُ الْكُمَّيْنِ وَجَمْعُهَا
مَسَاتِقُ
وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد: «أَنَّ مَلِكَ
ذِي يَزِنَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلَاثَةٍ
وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقَبِلَهَا» وَعَنْ عَلِيٍّ
أَيْضًا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: «أَنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ
الْجَنْدَلِ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَ حَرِيرٍ فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا
فَقَالَ: شَقِّقْهُ خُمْرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ» وَعَنْ
أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ:
«غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبُوكَ، وَأَهْدَى ابْنُ
الْعُلَمَاءِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بُرُدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، وَجَاءَ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- رَسُولُ صَاحِبِ أَيْلَةَ بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى إلَيْهِ
بَغْلَةً بَيْضَاءَ» الْحَدِيثُ وَفِي مُسْلِمٍ: «أَهْدَى
فَرْوَةُ الْجُذَامِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةً بَيْضَاءَ
رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٌ» وَعَنْ بُرَيْدَةَ عِنْدَ
إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ
أَبِي عَاصِمٍ: «أَنَّ أَمِيرَ الْقِبْطِ أَهْدَى إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
جَارِيَتَيْنِ وَبَغْلَةً، فَكَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ
بِالْمَدِينَةِ، وَأَخَذَ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ
لِنَفْسِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ وَوَهَبَ
الْأُخْرَى لِحَسَّانَ» وَفِي كِتَابِ الْهَدَايَا
لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ: «أَهْدَى يُوحَنَّا بْنُ
رُؤْبَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ» وَعَنْ أَنَسٍ
أَيْضًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «أَنَّ
يَهُودِيَّةَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا»
الْحَدِيثَ
وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ
عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْكَافِرِ،
وَيُعَارِضُهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْآتِي،
وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ بَيْنهَا وَبَيْنَهُ
2475 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ:
«أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَهِيَ
مُشْرِكَةٌ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:
8] وَمَعْنَى رَاغِبَةً: أَيْ طَامِعَةً تَسْأَلُنِي
شَيْئًا) .
2476 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ
الْعُزَّى بْنِ سَعْدٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ
بِهَدَايَا ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ
فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا
وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] إلَى
آخِرِ الْآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا
وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ) حَدِيثُ
عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ هَكَذَا مُرْسَلًا وَلَمْ يَقُلْ عَنْ
أَبِيهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ
(6/6)
2477 - (وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ:
أَنَّهُ «أَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - هَدِيَّةً أَوْ نَاقَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ:
لَا، قَالَ: إنِّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ»
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
كَأَحْمَدَ، وَفِي إسْنَادِهِمَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ
ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ
حِبَّانَ قَوْلُهُ: (أَتَتْنِي أُمِّي) فِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ مَعَ ابْنِهَا، وَذَكَرَ
الزُّبَيْرُ أَنَّ اسْمَ ابْنِهَا الْمَذْكُورِ الْحَارِثُ
بْنُ مُدْرِكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
قَوْلُهُ: (رَاغِبَةً) اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ،
فَقِيلَ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهَا
رَاغِبَةٌ فِي شَيْءٍ تَأْخُذُهُ مِنْ بِنْتِهَا وَهِيَ
عَلَى شِرْكِهَا وَقِيلَ: رَاغِبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الرَّغْبَةَ لَوْ كَانَتْ فِي
الْإِسْلَامِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى الِاسْتِئْذَانِ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ رَاغِبَةٌ عَنْ دِينِي وَقِيلَ: رَاغِبَةً فِي
الْقُرْبِ مِنِّي وَمُجَاوَرَتِي
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد " رَاغِمَةً "
بِالْمِيمِ: أَيْ كَارِهَةً لِلْإِسْلَامِ، وَلَمْ
تَقْدُمْ مُهَاجِرَةً قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ) فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْهَدِيَّةِ لِلْقَرِيبِ
الْكَافِرِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ الْهَدِيَّةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا مِنْ
الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ وَلَا مُنَافَاةَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ
وَمَا بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]
الْآيَةُ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ
وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ
خَاصَّةٌ بِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَيْضًا الْبِرُّ
وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّحَابَّ
وَالتَّوَادَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَمِنْ الْأَدِلَّةِ
الْقَاضِيَةِ بِالْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَمِنْهَا أَيْضًا: حَدِيثُ ابْنِ
عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسَا
عُمَرَ حُلَّةً فَأَرْسَلَ بِهَا إلَى أَخٍ لَهُ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ»
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. . . إلَخْ) لَا
يُنَافِي هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ
السُّدِّيَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَلْيَنَ جَانِبًا لِلْمُسْلِمِينَ
وَأَحْسَنَ أَخْلَاقًا مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ
السَّبَبَ خَاصٌّ وَاللَّفْظُ عَامٌّ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ
مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى وَالِدَةِ أَسْمَاءَ، كَذَا قَالَ
الْحَافِظُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِأَنَّ مَحِلَّ
الْخِلَافِ تَعْيِينُ سَبَبِ النُّزُولِ وَعُمُومُ
اللَّفْظِ لَا يَرْفَعُهُ وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وُجِدُوا قَوْلُهُ (: قُتَيْلَةُ) بِضَمِّ الْقَافِ
وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ
مُصَغَّرًا وَوَقَعَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارَ
أَنَّ اسْمَهَا قَيْلَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ
التَّحْتِيَّةِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا بِسُكُونِ
الْفَوْقِيَّةِ
قَوْلُهُ: (ضِبَابٍ وَأَقِطٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ
أَحْمَدَ " زَبِيبٍ وَسَمْنٍ وَقَرَظٍ " وَوَقَعَ فِي
نُسْخَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ قَرَظٌ مَكَانَ أَقِطٍ
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا. . .
إلَخْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ هَدِيَّةِ
الْمُشْرِكِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ السَّالِفَةِ،
وَعَلَى جَوَازِ إنْزَالِهِ مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ
2477 - (وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: أَنَّهُ «أَهْدَى
لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هَدِيَّةً أَوْ نَاقَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: لَا،
قَالَ: إنِّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ» رَوَاهُ
أَحْمَدُ
(6/7)
بَابُ الثَّوَابُ عَلَى الْهَدِيَّةِ
وَالْهِبَةِ
2478 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ
الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ) .
2479 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا
وَهَبَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هِبَةً فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) الْحَدِيثُ
صَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ عِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي
«أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الَّذِي يُدْعَى مُلَاعِبُ
الْأَسِنَّةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَهْدَى
لَهُ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ»
الْحَدِيثَ قَالَ فِي الْفَتْحِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا
أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا
يَصِحُّ قَوْلُهُ: (زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ) بِفَتْحِ
الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا دَالٌ. قَالَ
فِي الْفَتْحِ: هُوَ الرِّفْدِ اهـ. يُقَالُ: زَبَدَهُ
يَزْبِدهُ بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا يَزْبُدهُ بِالضَّمِّ:
فَهُوَ إطْعَامُ الزُّبْدِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُشْبِهُ
أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا لِأَنَّهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَبِلَ
هَدِيَّةَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ:
إنَّمَا رَدَّهَا لِيَغِيظَهُ فَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى
الْإِسْلَامِ
وَقِيلَ: رَدَّهَا لِأَنَّ لِلْهَدِيَّةِ مَوْضِعًا مِنْ
الْقَلْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهِ
بِقَلْبِهِ، فَرَدَّهَا قَطْعًا لِسَبَبِ الْمِيلِ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَبُولِ هَدِيَّةِ
النَّجَاشِيِّ وَأُكَيْدِرَ دَوْمَةَ وَالْمُقَوْقِسِ
لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَجَمَعَ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ:
الِامْتِنَاعُ فِيمَا أُهْدِيَ لَهُ خَاصَّةً،
وَالْقَبُولُ فِيمَا أُهْدِيَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ
نَظَرٌ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ
السَّابِقَةِ مَا وَقَعَتْ الْهَدِيَّةُ فِيهِ لَهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَجَمَعَ
غَيْرُهُ بِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ
بِهَدِيَّتِهِ التَّوَدُّدَ وَالْمُوَالَاةَ، وَالْقَبُولُ
فِي حَقِّ مَنْ يُرْجَى بِذَلِكَ تَأْنِيسُهُ
وَتَأْلِيفُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْحَافِظُ:
وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ وَقِيلَ:
يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ،
وَيَجُوزُ لَهُ خَاصَّةً
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ أَحَادِيثَ الْجَوَازِ
مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ
الْخَطَّابِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّسْخَ لَا
يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ
الِاخْتِصَاصُ وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ حَدِيثًا اسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَازَ قَبُولِ
هَدِيَّةَ الْوَثَنِيِّ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ قَبُولِ
الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كِتَابِ الْهِبَةِ
وَالْهَدِيَّةِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِيهِ
فَسَادُ قَوْلِ مَنْ حَمَلَ رَدَّ الْهَدِيَّةِ عَلَى
الْوَثَنِيِّ دُونَ الْكِتَابِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْوَاهِبَ الْمَذْكُورَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَثَنِيٌّ
(6/8)
رَضِيتَ؟ قَالَ: لَا، فَزَادَهُ قَالَ:
أَرَضِيتَ؟ قَالَ: لَا، فَزَادَهُ؛ قَالَ: أَرَضِيتَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَتَّهِبَ
هِبَةً إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ
ثَقَفِيٍّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
بَابُ التَّعْدِيلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ
وَالنَّهْيِ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدٌ فِي عَطِيَّتِهِ إلَّا
الْوَالِدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ الثَّوَابُ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ]
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ
فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رِجَالُ
أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
بِنَحْوِهِ، وَطَوَّلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ الثَّوَابَ
كَانَ سِتَّ بَكَرَاتٍ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: (وَيُثِيبُ
عَلَيْهَا) أَيْ يُعْطِي الْمُهْدِي بَدَلَهَا،
وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ الْمُجَازَاةُ، وَأَقَلُّهُ مَا
يُسَاوِي قِيمَةَ الْهَدِيَّةِ، وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ: " وَيُثِيبُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا " وَقَدْ
أُعِلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ بِالْإِرْسَالِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ تَفَرَّدَ
بِوَصْلِهِ عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ
وَالْبَزَّارُ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى
بْنِ يُونُسَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ
عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُرْسَلٌ
انْتَهَى وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ عَلَى
الْهَدِيَّةِ إذَا أَطْلَقَ الْمُهْدِي، وَكَانَ مِمَّنْ
مِثْلُهُ يَطْلُبُ الثَّوَابَ كَالْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ
بِخِلَافِ مَا يَهَبَهُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَوَجْهُ
الدَّلَالَةِ مِنْهُ مُوَاظَبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ
الَّذِي أَهْدَى قَصَدَ أَنْ يُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا
أَهْدَى فَلَا أَقَلَّ أَنْ يُعَوَّضَ بِنَظِيرِ
هَدِيَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ
وَالْهَادَوِيَّةُ وَيُجَابُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ
لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَوْ وَقَعَتْ
الْمُوَاهَبَةُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ
وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ
أَنَّ الْهِبَةَ لِلثَّوَابِ بَاطِلَةٌ لَا تَنْعَقِدُ
لِأَنَّهَا بَيْعٌ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّ مَوْضِعَ
الْهِبَةِ التَّبَرُّعُ قَوْلُهُ: (إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ.
. . إلَخْ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد: «وَاَيْمُ اللَّهِ لَا
أَقْبَلُ هَدِيَّةً بَعْدَ يَوْمِي هَذَا مِنْ أَحَدٍ
إلَّا أَنْ يَكُونَ مُهَاجِرِيًّا أَوْ قُرَشِيًّا أَوْ
أَنْصَارِيًّا أَوْ دَوْسِيًّا أَوْ ثَقَفِيًّا» وَسَبَبُ
هَمِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ
مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: «أَهْدَى رَجُلٌ مِنْ فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً مِنْ إبِلِهِ
فَعَوَّضَهُ مِنْهَا بَعْضَ الْعِوَضِ فَتَسَخَّطَهُ،
فَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنَّ رِجَالًا
مِنْ الْعَرَبِ يُهْدِي أَحَدُهُمْ الْهَدِيَّةَ
فَأُعَوِّضُهُ عَنْهَا بِقَدْرِ مَا عِنْدِي فَيَظَلُّ
يَسْخَطُ عَلَيَّ» الْحَدِيثَ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ يَمْتَنِعُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ
قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ أَحَدٍ أَصْلًا، لَا مِنْ
صَدِيقٍ وَلَا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ
لِفَسَادِ النِّيَّاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَكَى ذَلِكَ
ابْنُ رَسْلَانَ
(6/9)
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ
أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ» رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ)
2481 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَتْ امْرَأَةُ
بَشِيرٍ: انْحَلْ ابْنِي غُلَامًا وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: إنَّ ابْنَةَ فُلَانٍ سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ
ابْنَهَا غُلَامِي، فَقَالَ: لَهُ إخْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْت مِثْلَ مَا أَعْطَيْته؟
قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، وَإِنِّي لَا
أَشْهَدُ إلَّا عَلَى حَقٍّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَقَالَ فِيهِ: «لَا
تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، إنَّ لِبَنِيك عَلَيْك مِنْ
الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ» )
2482 - (وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَنَّ أَبَاهُ
أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَحَلْت ابْنِي هَذَا غُلَامًا
كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْتَهُ مِثْلَ
هَذَا؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: فَأَرْجِعْهُ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ: «تَصَدَّقَ عَلَيَّ
أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ
رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَانْطَلَقَ أَبِي
إلَيْهِ يُشْهِدُهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ: أَفَعَلْت هَذَا بِوَلَدِك كُلِّهِمْ؟ قَالَ:
لَا، فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي
أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فِي تِلْكَ الصَّدَقَةِ»
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ
الْعَطِيَّةِ لَا بِلَفْظِ: الصَّدَقَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ التَّعْدِيلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ
وَالنَّهْيِ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدٌ فِي عَطِيَّتِهِ إلَّا
الْوَالِدُ]
حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَوَّلُ سَكَتَ
عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُ
إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ إلَّا الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَهُوَ صَدُوقٌ وَفِي الْبَابِ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ
وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِلَفْظِ «سَوُّوا بَيْنَ
أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا
أَحَدًا لَفَضَّلْت النِّسَاءَ» وَفِي إسْنَادِهِ سَعِيدُ
بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي
الْكَامِلِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ لَهُ أَنْكَرَ مِنْ هَذَا،
وَقَدْ حَسَّنَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إسْنَادَهُ
قَوْلُهُ: (اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) تَمَسَّكَ
بِهِ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي
الْعَطِيَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ قَوْلُ
طَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ
هَؤُلَاءِ
(6/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَعَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ وَيَجِبُ أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُ وَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ إنْ كَانَ لَهُ
سَبَبٌ كَأَنْ يَحْتَاجَ الْوَلَدُ لِزَمَانَتِهِ أَوْ
دَيْنِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُونَ الْبَاقِينَ وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ التَّسْوِيَةُ إنْ قَصَدَ
بِالتَّفْضِيلِ الْإِضْرَارَ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى
أَنَّ التَّسْوِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ فَضَّلَ
بَعْضًا صَحَّ وَكُرِهَ، وَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى
النَّدْبِ، وَكَذَلِكَ حَمَلُوا النَّهْيَ الثَّابِتَ فِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: «أَيَسُرُّك أَنْ
يَكُونُوا لَك فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
فَلَا إذْنَ» عَلَى التَّنْزِيهِ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ
النُّعْمَانِ بِأَجْوِبَةٍ عَشَرَةٍ ذَكَرَهَا فِي فَتْحِ
الْبَارِي وَسَنُورِدُهَا هَهُنَا مُخْتَصَرَةً مَعَ
زِيَادَاتٍ مُفِيدَةٍ، فَقَالَ: أَحَدُهَا: أَنَّ
الْمَوْهُوبَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ جَمِيعَ مَالِ
وَالِدِهِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ
مُصَرِّحَةٌ بِالْبَعْضِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ
" أَنَّ الْمَوْهُوبَ كَانَ غُلَامًا " وَكَمَا فِي لَفْظِ
مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي
بِبَعْضِ مَالِهِ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ
الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تُنْجَزْ، وَإِنَّمَا
جَاءَ بَشِيرٌ يَسْتَشِيرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِأَنْ لَا يَفْعَلَ فَتَرَكَ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالِارْتِجَاعِ يُشْعِرُ
بِالتَّنْجِيزِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَمْرَةَ: " لَا أَرْضَى
حَتَّى تُشْهِدَ. . . إلَخْ "
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا
وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْمَوْهُوبَ فَجَازَ لِأَبِيهِ
الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ الْحَافِظُ:
وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ
خُصُوصًا قَوْلُهُ: " أَرْجِعْهُ " فَإِنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى تَقَدُّمِ وُقُوعِ الْقَبْضِ وَاَلَّذِي تَظَافَرَتْ
عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَكَانَ
أَبُوهُ قَابِضًا لَهُ لِصِغَرِهِ، فَأَمَرَهُ بِرَدِّ
الْعَطِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ مَا كَانَتْ فِي
حُكْمِ الْمَقْبُوضِ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: "
أَرْجِعْهُ " دَلِيلُ الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَصِحَّ
الْهِبَةُ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ
بِالرُّجُوعِ لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا
وَهَبَ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَ
ذَلِكَ، لَكِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّسْوِيَةِ رَجَحَ عَلَى
ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ
نَظَرٌ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "
أَرْجِعْهُ " أَيْ لَا تُمْضِ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ،
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ صِحَّةِ الْهِبَةِ.
الْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ " أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي
" إذْنٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْإِمَامَ، وَكَأَنَّهُ
قَالَ: لَا أَشْهَدُ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ
شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ وَإِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ
يَحْكُمَ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَارْتَضَاهُ ابْنُ
الْقَصَّارِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ
كَوْنِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ
أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَلَا مِنْ
أَدَائِهَا إذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَالْإِذْنُ
الْمَذْكُورُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْبِيخُ لِمَا تَدُلُّ
عَلَيْهِ بَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: قَالَ
الْحَافِظُ: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَوْلُهُ " أَشْهِدْ
" صِيغَةُ أَمْرٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْجَوَازِ،
وَهِيَ كَقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ: «اشْتَرِطِي لَهُمْ
الْوَلَاءَ» اهـ وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَسْمِيَتُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ جَوْرًا كَمَا فِي
الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ.
السَّادِسِ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ " أَلَا سَوَّيَتْ
بَيْنَهُمْ؟ " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ
الِاسْتِحْبَابُ وَبِالنَّهْيِ التَّنْزِيهُ قَالَ
(6/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
الْحَافِظُ: وَهَذَا جَيِّدٌ لَوْلَا وُرُودُ تِلْكَ
الْأَلْفَاظِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ،
وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةَ " سَوِّ بَيْنَهُمْ ".
السَّابِعُ: قَالُوا: الْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ
النُّعْمَانِ «قَارِبُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» لَا
سَوُّوا وَتُعُقِّبَ بِأَنَّكُمْ لَا تُوجِبُونَ
الْمُقَارَنَةَ كَمَا لَا تُوجِبُونَ التَّسْوِيَةَ
الثَّامِنُ: فِي التَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ، فِي
التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ مِنْهُمْ فِي
الْبِرِّ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
لِلنَّدْبِ وَرُدَّ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْجَوْرِ عَلَى
عَدَمِ التَّسْوِيَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ التَّفْضِيلِ
يَدُلَّانِ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا تَصْلُحُ تِلْكَ
الْقَرِينَةُ لِصَرْفِهِمَا وَإِنْ صَلَحَتْ لِصَرْفِ
الْأَمْرِ. التَّاسِعُ: مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
مِنْ نَحْلَتِهِ لِعَائِشَةَ وَقَوْلُهُ لَهَا: " فَلَوْ
كُنْت احْتَرَثْتِهِ " كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ
كِتَابِ الْهِبَةِ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ
عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ نَحَلَ ابْنَهُ عَاصِمًا دُونَ
سَائِرِ وَلَدِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّفْضِيلُ غَيْرَ
جَائِزٍ لَمَا وَقَعَ مِنْ الْخَلِيفَتَيْنِ.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجَابَ عُرْوَةُ عَنْ
قِصَّةِ عَائِشَةَ بِأَنَّ إخْوَتَهَا كَانُوا رَاضِينَ
وَيُجَابُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ قِصَّةِ عَاصِمٍ اهـ عَلَى
أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي فِعْلِهِمَا لَا سِيَّمَا إذَا
عَارَضَ الْمَرْفُوعَ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ
انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ مَالَهُ
لِغَيْرِ وَلَدِهِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ
جَمِيعَ وَلَدِهِ مِنْ مَالِهِ لِتَمْلِيكِ الْغَيْرِ
جَازَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ
بِالتَّمْلِيكِ لِبَعْضِهِمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ؛
لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ اهـ.
فَالْحَقُّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ
التَّفْضِيلَ مُحَرَّمٌ وَاخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ فِي
كَيْفِيَّةِ التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعَدْلُ أَنْ
يُعْطَى الذَّكَرُ حَظَّيْنِ كَالْمِيرَاثِ وَاحْتَجُّوا
بِأَنَّ ذَلِكَ حَظُّهُ مِنْ الْمَالِ لَوْ مَاتَ عِنْدَ
الْوَاهِبِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ
بِالتَّسْوِيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْمُتَقَدِّمُ قَوْلُهُ: (وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ
بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ. . . إلَخْ) قَدْ رَوَى هَذَا
الْحَدِيثَ عَنْ النُّعْمَانِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ
التَّابِعِينَ مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عِنْدَ
مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد وَأَبُو الضُّحَى
عِنْدَ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَحْمَدُ
وَالطَّحَاوِيُّ وَالْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ
أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُتْبَةُ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَوْنُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ
وَالشَّعْبِيُّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُد
وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ
حِبَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ
مُسْنَدِ بَشِيرٍ وَالِدِ النُّعْمَانِ فَشَذَّ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (نَحَلْت ابْنِي هَذَا) بِفَتْحِ النُّونِ
وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ أَعْطَيْت، وَالنِّحْلَةُ
بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ: الْعَطِيَّةُ
بِغَيْرِ عِوَضٍ قَوْلُهُ: (غُلَامًا) فِي رِوَايَةٍ
لِابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ:
«أَنَّ النُّعْمَانَ خَطَبَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: إنَّ
وَالِدِي بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ عَمْرَةَ
بِنْتَ رَوَاحَةَ نَفِسَتْ بِغُلَامٍ وَإِنِّي سَمَّيْته
النُّعْمَانَ وَإِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى
جَعَلْت لَهُ حَدِيقَةً مِنْ أَفْضَلِ مَالٍ هُوَ لِي،
وَأَنَّهَا قَالَتْ: أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ
قَوْلُهُ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَجَمَعَ ابْنُ
حِبَّانَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِالْحَمْلِ عَلَى
وَاقِعَتَيْنِ:
(6/12)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
إحْدَاهُمَا: عِنْدَ وِلَادَةِ النُّعْمَانِ وَكَانَتْ
الْعَطِيَّةُ حَدِيقَةً، وَالْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ كَبِرَ
النُّعْمَانُ وَكَانَتْ الْعَطِيَّةُ عَبْدًا
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ جَمْعٌ لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا
أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَنْسَى
بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ جَلَالَتِهِ الْحُكْمَ فِي
الْمَسْأَلَةِ حَتَّى يَعُودَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسْتَشْهِدَهُ عَنْ
الْعَطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ فِي
الْأُولَى: " لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ " وَجَوَّزَ ابْنُ
حِبَّانَ أَنْ يَكُونَ بَشِيرٌ ظَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَمَلَ
الْأَمْرَ الْأَوَّلَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، أَوْ
ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِامْتِنَاعِ فِي
الْحَدِيقَةِ الِامْتِنَاعُ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ
الْحَدِيقَةِ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ
الْعَبْدِ قَالَ الْحَافِظُ: ثُمَّ ظَهَرَ وَجْهٌ آخَرُ
مِنْ الْجَمْعِ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا الْخَدْشِ وَلَا
يَحْتَاجُ إلَى جَوَابِهِ، وَهُوَ أَنَّ عَمْرَةَ لَمَّا
امْتَنَعَتْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ إلَّا أَنْ يَهَبَ لَهُ
شَيْئًا يَخُصُّهُ بِهِ وَهَبَهُ الْحَدِيقَةَ
الْمَذْكُورَةَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ
فَارْتَجَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ
غَيْرُهُ، فَعَاوَدَتْهُ عَمْرَةُ فِي ذَلِكَ فَمَطَلَهَا
سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ
يَهَبَ لَهُ بَدَلَ الْحَدِيقَةِ غُلَامًا وَرَضِيَتْ
عَمْرَةُ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ
يَرْتَجِعَهُ أَيْضًا، فَقَالَتْ لَهُ: أَشْهِدْ عَلَى
ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، تُرِيدُ بِذَلِكَ تَثْبِيتَ الْعَطِيَّةِ
وَأَنْ تَأْمَنَ رُجُوعَهُ فِيهَا وَيَكُونُ مَجِيئُهُ
لِلْإِشْهَادِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْأَخِيرَةُ،
وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا
لَمْ يَحْفَظْ غَيْرَهُ، أَوْ كَانَ النُّعْمَانُ يَقُصُّ
بَعْضَ الْقِصَّةِ تَارَةً وَبَعْضَهَا أُخْرَى، فَسَمِعَ
كُلٌّ مَا رَوَاهُ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَمْعِ مِنْ التَّكَلُّفِ
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ
النُّعْمَانِ قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ
الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، زَادَ مُسْلِمٌ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: " فَالْتَوَى بِهَا
سَنَةً " أَيْ مَطَلَهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ
أَيْضًا: " بَعْدَ حَوْلَيْنِ " وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا
بِأَنَّ الْمُدَّةَ كَانَتْ سَنَةً وَشَيْئًا فَجَبَرَ
الْكَسْرَ تَارَةً وَأَلْغَاهُ أُخْرَى وَفِي رِوَايَةٍ
لَهُ قَالَ: " فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ "
وَلِمُسْلِمٍ: " انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "
وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَمَشَى
مَعَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَحَمَلَهُ فِي بَعْضِهَا
لِصِغَرِ سِنِّهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَرْجِعْهُ) لَفْظُ مُسْلِمٍ: "
اُرْدُدْهُ " وَلَهُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ: " فَرَجَعَ
فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ " وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: " فَرَدَّ
تِلْكَ الصَّدَقَةَ " زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ
حِبَّانَ: " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَمِثْلُهُ
لِمُسْلِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا
وَالطَّبَرَانِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ هَذَا
اللَّفْظَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فِي الشَّهَادَاتِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى:
«لَا تُشْهِدْنِي إذَنْ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى
جَوْرٍ» وَلَهُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى أَيْضًا: «فَإِنِّي
لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»
وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: "
فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ
عَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا: «لَا أَشْهَدُ إلَّا عَلَى
الْحَقِّ، لَا أَشْهَدُ بِهَذِهِ» وَلِلنَّسَائِيِّ
«فَكَرِهَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ
لِمُسْلِمٍ: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي
النَّحْلِ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ
فِي الْبِرِّ» وَلِأَحْمَدَ: «أَيَسُرُّك أَنْ يَكُونُوا
إلَيْك فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ بَلَى، قَالَ:
(6/13)
2483 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ يَعُودُ فِي
قَيْئِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ أَحْمَدُ
وَالْبُخَارِيُّ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ»
وَلِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ قَتَادَةُ: وَلَا
أَعْلَمُ الْقَيْءَ إلَّا حَرَامًا) .
2484 - (وَعَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ
عَبَّاسٍ رَفَعَاهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ
يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدُ
فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الرَّجُلِ يُعْطِي
الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ
أَكَلَ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فِي
قَيْئِهِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
فَلَا إذْنَ» وَلِأَبِي دَاوُد: «إنَّ لَهُمْ عَلَيْك مِنْ
الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا لَك عَلَيْهِمْ
مِنْ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوك» وَلِلنَّسَائِيِّ: " أَلَا
سَوَّيْت بَيْنَهُمْ؟ " وَلَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ: "
سَوِّ بَيْنَهُمْ "
قَالَ الْحَافِظُ: وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ
قَوْلُهُ: (أَفَعَلْت هَذَا بِوَلَدِك كُلِّهِمْ؟) قَالَ
مُسْلِمٌ: أَمَّا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ فَقَالَا: " أَكُلَّ
بَنِيك " وَأَمَّا اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَا:
" أَكُلَّ وَلَدِك " قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا مُنَافَاةَ
بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَشْمَلُ الذُّكُورَ
وَالْإِنَاثَ، وَأَمَّا لَفْظُ الْبَنِينَ فَإِنْ كَانُوا
ذُكُورًا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانُوا إنَاثًا وَذُكُورًا
فَعَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ
حَدِيثُ طَاوُسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ قَوْلُهُ: (الْعَائِدُ فِي
هِبَتِهِ. . . إلَخْ) اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى
تَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ
حَرَامٌ فَالْمُشَبَّهُ بِهِ مِثْلُهُ وَوَقَعَ فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ «كَالْكَلْبِ
يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الْكَلْبَ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ،
فَالْقَيْءُ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ
فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ: " كَمَثَلِ الْكَلْبِ
". . . إلَخْ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ
فِي الزَّجْرِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «فِيمَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ:
فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ»
وَأَيْضًا الرِّوَايَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّحْرِيمِ
غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِلرِّوَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْكَرَاهَةِ عَلَى تَسْلِيمِ دَلَالَتِهَا عَلَى
الْكَرَاهَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى
التَّحْرِيمِ قَدْ دَلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَزِيَادَةٍ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ نَهْيِ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ
يَشْتَرِيَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ
عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الظَّاهِرُ
مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ
الْأَكْثَرَ حَمَلُوهُ عَلَى التَّنْفِيرِ خَاصَّةً
لِكَوْنِ الْقَيْءِ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ، وَيُؤَيِّدُ
الْقَوْلَ بِالتَّحْرِيمِ قَوْلُهُ
(6/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
«لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "
لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَإِلَى
الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ
أَنْ تُقْبَضَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَّا هِبَةَ
الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَسَتَأْتِي
وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْهَادَوِيَّةُ إلَى حِلِّ
الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ دُونَ الصَّدَقَةِ إلَّا إذَا
حَصَلَ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ كَالْهِبَةِ لِذِي رَحِمٍ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ مِنْ الْمَوَانِعِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّ
قَوْلَهُ: " لَا يَحِلُّ " لَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ،
قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِغَنِيٍّ» وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ
حَيْثُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ،
وَأَرَادَ بِذَلِكَ التَّغْلِيظَ فِي الْكَرَاهَةِ قَالَ
الطَّبَرِيُّ: يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ
وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَمَنْ كَانَ وَالِدًا
وَالْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَدَهُ، وَالْهِبَةُ لَمْ تُقْبَضْ
وَاَلَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إلَى الْوَاهِبِ
لِثُبُوتِ الْإِخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يُثِيبُ
الْفَقِيرَ وَنَحْوِ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلَا رُجُوعَ
قَالَ: وَمِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ
يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ اهـ
وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ
وَهَبَ هِبَةً يَرْجُو ثَوَابَهَا فَهِيَ رَدٌّ عَلَى
صَاحِبِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ
الْحَاكِمُ قَالَ الْحَافِظُ: وَالْمَحْفُوظُ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ وَرَوَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى مَرْفُوعًا قِيلَ: وَهُوَ وَهْمٌ
قَالَ الْحَافِظُ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حَزْمٍ
وَرَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا
لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ
سَمُرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ
لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ» وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ
الْحَافِظُ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
أَحَادِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَمُرَةَ
ضَعِيفَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ. وَأَخْرَجَ
الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا: «مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا
حَتَّى يُثَابَ عَلَيْهَا، فَإِنْ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ
فَهُوَ كَاَلَّذِي يَقِيءُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ»
فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَانَتْ مُخَصِّصَةً
لِعُمُومِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي
الْهِبَةِ قَبْلَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهَا وَمَفْهُومُ
حَدِيثِ سَمُرَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي
الْهِبَةِ لِغَيْرِ ذِي الرَّحِمِ قَوْلُهُ: (إلَّا
الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ) اُسْتُدِلَّ بِهِ
عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ
لِابْنِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ
أَحْمَدُ: لَا يَحِلُّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي
هِبَتِهِ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالنَّاصِرِ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ
تَخْرِيجًا لَهُ
وَحُكِيَ فِي الْفَتْحِ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ إذَا كَانَ الِابْنُ
الْمَوْهُوبُ لَهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَقَبَضَهَا،
وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ
الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ
الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْمُقْتَرِنِ
بِمُخَصِّصِهِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ
الْجُمْهُورُ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ فِي الْبَابِ
الَّذِي بَعْدَ هَذَا الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْوَلَدَ
وَمَا مَلَكَ لِأَبِيهِ، فَلَيْسَ رُجُوعُهُ فِي
الْحَقِيقَةِ
(6/15)
بَابُ مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْوَالِدِ
مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
2485 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا
أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ
كَسْبِكُمْ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَفِي لَفْظٍ: «وَلَدُ
الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ، فَكُلُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ هَنِيئًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
2486 - (وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ
أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُك
لِأَبِيك» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
2487 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أَبِي يُرِيدُ
أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُك
لِوَالِدِك، إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ
كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ
فَكُلُوهُ هَنِيئًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد،
وَقَالَ فِيهِ: «إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا
وَوَلَدًا، وَإِنَّ وَالِدِي» الْحَدِيثَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
رُجُوعًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رُجُوعًا فَرُبَّمَا
اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةُ التَّأْدِيبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَاخْتُلِفَ فِي الْأُمِّ هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبِ
فِي الرُّجُوعِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ
إلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ لَفْظَ الْوَالِدِ يَشْمَلُهَا
وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَحْكَامِ وَالْمُؤَيَّدِ
بِاَللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالْإِمَامِ يَحْيَى أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لَهَا الرُّجُوعُ إذْ رُجُوعُ الْأَبِ
مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ
فَقَالُوا: لِلْأُمِّ أَنْ تَرْجِعَ إذَا كَانَ الْأَبُ
حَيًّا دُونَ مَا إذَا مَاتَ، وَقَيَّدُوا رُجُوعَ الْأَبِ
بِمَا إذَا كَانَ الِابْنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ
يَسْتَحْدِثْ دَيْنًا أَوْ يَنْكِحْ، وَبِذَلِكَ قَالَ
إِسْحَاقُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ
الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ
الْأُمُّ إنْ صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْوَالِدِ يَشْمَلُهَا
لُغَةً أَوْ شَرْعًا لِأَنَّهُ خَاصٌّ، وَحَدِيثُ
الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ عَامٌّ فَيُبْنَى الْعَامُّ
عَلَى الْخَاصِّ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: الْوَالِدُ: الْأَبُ، وَجَمْعُهُ
بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَالْوَالِدَةُ: الْأُمُّ،
وَجَمْعُهَا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَالْوَالِدَانِ:
الْأَبُ وَالْأُمُّ لِلتَّغْلِيبِ اهـ وَحَدِيثُ سَمُرَةَ
الْمُتَقَدِّمُ بِلَفْظِ: «إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي
رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ» مُخَصَّصٌ بِحَدِيثِ
الْبَابِ، لِأَنَّ الرَّحِمَ عَلَى فَرْضِ شُمُولِهِ
لِلِابْنِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مُطْلَقًا وَقَدْ
قِيلَ: إنَّ الرَّحِمَ غَلَبَ عَلَى غَيْرِ الْوَلَدِ
فَهُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ لُغَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ،
فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ
(6/16)
بَابٌ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
2488 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ
لِأَهْلِهَا، أَوْ قَالَ: جَائِزَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
2489 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ
أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِمُعَمِّرِهِ مَحْيَاهُ
وَمَمَاتُهُ، لَا تَرْقُبُوا، مَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا
فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرُّقْبَى
جَائِزَةٌ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ
الرُّقْبَى لِلَّذِي أَرْقَبَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ الرُّقْبَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ
وَلَدِهِ]
حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ
أَيْضًا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو
زُرْعَةَ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّهُ عَنْ
عُمَارَةَ عَنْ عَمَّتِهِ وَتَارَةً عَنْ أُمِّهِ
وَكِلْتَاهُمَا لَا يُعْرَفَانِ وَزَعَمَ الْحَاكِمُ فِي
مَوْضِعٍ مِنْ مُسْتَدْرِكِهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ
عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «أَمْوَالُهُمْ
لَكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهَا» أَنَّ الشَّيْخَيْنِ
أَخْرَجَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ
الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْ أَمْوَالِ الْأَوْلَادِ،
وَوُهِمَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخْرِجَاهُ
وَقَالَ أَبُو دَاوُد زِيَادَةً: " إذَا احْتَجْتُمْ
إلَيْهَا " مُنْكَرَةً، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ
عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ حَمَّادُ وَوَهِمَ
فِيهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ:
إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رِجَالُهُ
ثِقَاتٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ عِيسَى
بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَطَرِيقٌ أُخْرَى
عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْبَيْهَقِيِّ
فِي الدَّلَائِلِ فِيهَا قِصَّةٌ مُطَوَّلَةٌ وَحَدِيثُ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ
خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ وَفِي الْبَابِ عَنْ
سَمُرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَعَنْ عُمَرَ عِنْدَ
الْبَزَّارِ أَيْضًا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ
الطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي
يَعْلَى، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَنْتَهِضُ
لِلِاحْتِجَاجِ
فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ مُشَارِكٌ لِوَلَدِهِ فِي
مَالِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ سَوَاءٌ أَذِنَ
الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا
أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ بِمَالِهِ، مَا
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّرَفِ وَالسَّفَهِ
وَقَدْ حُكِيَ فِي الْبَحْرِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ مَئُونَةُ
الْأَبَوَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ قَوْلُهُ: (يُرِيدُ أَنْ
يَجْتَاحَ) بِالْجِيمِ بَعْدَهَا فَوْقِيَّةٌ وَبَعْدَ
الْأَلِفِ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ: وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ
كَالْإِجَاحَةِ، وَمِنْهُ الْجَائِحَةُ لِلشِّدَّةِ
الْمُجْتَاحَةِ لِلْمَالِ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ
قَوْلُهُ: (أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك) قَالَ ابْنُ
رَسْلَانَ: اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ،
فَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ وَزَكَاتَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ
مَوْرُوثٌ عَنْهُ
(6/17)
لِلْوَارِثِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
2490 - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا، وَالرُّقْبَى
جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ)
2491 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُعْمِرُوا
وَلَا تُرْقِبُوا، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ
أُرْقِبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) .
2492 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَى لِمَنْ
وُهِبَتْ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ:
«أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا،
فَمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ حَيًّا
وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ
لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا
عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ
فِيهَا، وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ وَعَقِبِهِ» رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى
لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا
تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لِأَنَّهُ أَعْطَى
عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ: «إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي
أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك فَأَمَّا
إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى
صَاحِبِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْعُمْرَى أَنْ يَهَبَ
الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَلِعَقِبِهِ الْهِبَةَ
وَيَسْتَثْنِيَ إنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ وَلِعَقِبِك فَهِيَ
إلَيَّ وَإِلَى عَقِبِي، إنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا
وَلِعَقِبِهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ) .
2493 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ أَعْطَى أُمَّهُ حَدِيقَةً مِنْ نَخِيلٍ
حَيَاتَهَا فَمَاتَتْ، فَجَاءَ إخْوَتُهُ فَقَالُوا:
نَحْنُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ، قَالَ: فَأَبَى،
فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مِيرَاثًا» رَوَاهُ
أَحْمَدُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابٌ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى]
حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ
مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ
ابْنِ عُمَرَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
عَطَاءٍ
(6/18)
بَابُ مَا جَاءَ فِي مَصْرِفِ الْمَرْأَةِ
فِي مَالِهَا وَمَالِ زَوْجِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْهُ، وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ حَبِيبٍ مِنْ ابْنِ عُمَرَ
فَصَرَّحَ بِهِ النَّسَائِيّ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ
وَحَدِيثُ جَابِرٍ الْآخَرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَقَالَ ابْنُ
رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ مَا لَفْظُهُ: هَذَا
الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ
الصَّحِيحِ اهـ وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ أَحَادِيثُ
الْبَابِ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْمُعْمَرُ
وَالْمُرْقَبُ يَكُونُ أَوْلَى بِالْعَيْنِ فِي حَيَاتِهِ
وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَفِي الْبَابِ عَنْ سَمُرَةَ
عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ
مِنْ سَمَاعِ الْحَسَنِ عَنْهُ وَفِيهِ مَقَالٌ كَمَا
تَقَدَّمَ
قَوْلُهُ: (الْعُمْرَى) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ
وَسُكُونِ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ قَالَ فِي الْفَتْحِ:
وَحُكِيَ ضَمُّ الْمِيمِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ وَحُكِيَ
فَتْحُ أَوَّلِهِ مَعَ السُّكُونِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ
مِنْ الْعُمْرِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي
الرَّجُلُ الرَّجُلَ الدَّارَ وَيَقُولُ لَهُ: أَعْمَرْتُك
إيَّاهَا: أَيْ أَبَحْتُهَا لَك مُدَّةَ عُمْرِكَ
وَحَيَاتِكَ، فَقِيلَ لَهَا عُمْرَى لِذَلِكَ،
وَالرُّقْبَى بِوَزْنِ الْعُمْرَى مَأْخُوذَةٌ مِنْ
الْمُرَاقَبَةِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ
الْآخَرَ مَتَى يَمُوتُ لِتَرْجِعَ إلَيْهِ، وَكَذَا
وَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ هَذَا أَصْلُهَا لُغَةً
قَالَ فِي الْفَتْحِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ
الْعُمْرَى إذَا وَقَعَتْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْآخَرِ وَلَا
تَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ
ذَلِكَ وَإِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ وَحَكَى
الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَالْمَاوَرْدِيِّ عَنْ
دَاوُد وَطَائِفَةٍ وَصَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ
الْفُقَهَاءِ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ثُمَّ
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهَا إلَى مَا
يَتَوَجَّهُ التَّمْلِيكُ، فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ
يَتَوَجَّهُ إلَى الرِّقْبَةِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ حَتَّى
لَوْ كَانَ الْمُعْمَرُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ
لَهُ نَفَذَ بِخِلَافِ الْوَاهِبِ وَقِيلَ: يَتَوَجَّهُ
إلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرُّقْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَهَلْ يُسْلَكُ
بِهَا مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَقْفِ؟
رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ التَّمْلِيكُ فِي الْعُمْرَى يَتَوَجَّهُ
إلَى الرِّقْبَةِ، وَفِي الرِّقْبَةِ إلَى الْمَنْفَعَةِ،
وَعَنْهُمْ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ ثَلَاثَةُ
أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَهَا
وَيُطْلِقُ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لِلْمَوْهُوبِ
لَهُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤَبَّدَةِ لَا تَرْجِعُ
إلَى الْوَاهِبِ، وَبِذَلِكَ قَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالنَّاصِرُ وَمَالِكٌ، لِأَنَّ
الْمُطْلَقَةُ عِنْدَهُمْ حُكْمُهَا حُكْمُ
الْمُؤَبَّدَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وَالْجُمْهُورِ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهَا تَكُونُ
عَارِيَّةً تَرْجِعُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَى الْمَالِكِ
وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمُطْلَقَةَ لِلْمُعْمَرِ
وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ
الْبَابِ الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك مَا
عِشْتَ فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ، فَهَذِهِ
عَارِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُعِيرِ عِنْدَ
مَوْتِ الْمُعْمَرِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ
عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيُلْغَى،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْأَخِيرِ «فَإِنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ
عَلَى الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي أَعْطَى أُمَّهُ
الْحَدِيقَةَ حَيَاتَهَا أَنْ لَا تَرْجِعَ إلَيْهِ بَلْ
تَكُونُ لِوَرَثَتِهَا» وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثَ
الرِّوَايَةُ الَّتِي قَبْلَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْعُمْرَى مَعَ
الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيهَا»
وَيُعَارِضُ ذَلِكَ
(6/19)
2494 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذَا أَنْفَقَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا الْمَذْكُورُ فِي
الْبَابِ بِلَفْظِ: «فَأَمَّا إذَا قُلْتَ: هِيَ لَك مَا
عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا» وَلَكِنَّهُ
قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ وَلَمْ
يَذْكُرْ التَّعْلِيلَ، وَبَيَّنَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ التَّعْلِيلَ مِنْ
قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ
أَوْضَحَتْهُ فِي كِتَابِ الْمُدْرَجِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ
الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى تَكُونُ
لِلْمُعْمَرِ وَالْمُرْقَبِ وَلِعَقِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ
مُقَيَّدَةً بِمُدَّةِ الْعُمْرِ أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ
مُؤَبَّدَةً
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الرِّوَايَتَانِ الْمُتَقَدِّمَتَانِ
فِي دَلِيلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُقَيَّدَةَ بِمُدَّةِ
الْحَيَاةِ لَهَا حُكْمُ الْمُؤَبَّدَةِ، وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ الْقَاضِيَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ الْإِطْلَاقِ
وَالتَّأْبِيدِ مَعْلُولَةٌ بِالْإِدْرَاجِ فَلَا
تَنْتَهِضُ لِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَلَا
لِمُعَارَضَةِ مَا يُخَالِفُهَا. الْحَالُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك أَوْ
يَأْتِي بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّأْبِيدِ، فَهَذِهِ
حُكْمُهَا حُكْمُ الْهِبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَرُوِيَ
عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْوَقْفِ
إذَا انْقَرَضَ الْمُعْمَرُ وَعَقِبُهُ رَجَعَتْ إلَى
الْوَاهِبِ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ الْقَاضِيَةُ بِأَنَّهَا
مِلْكٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَلِعَقِبِهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: (فَهِيَ لِمُعْمَرِهِ) بِضَمِّ الْمِيمِ
الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ مَفْعُولٌ مِنْ أَعْمَرَ
قَوْلُهُ: (مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ:
أَيْ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ قَوْلُهُ: (لَا
تَعْمُرُوا. . . إلَخْ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يَصِحُّ
حَمْلُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ لِصِحَّةِ
الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْجَوَازِ وَقِيلَ: إنَّ
النَّهْيَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّفْظِ الْجَاهِلِيِّ
لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُهَا كَمَا
تَقَدَّمَ وَقِيلَ: النَّهْيُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْحُكْمِ
وَلَا يُنَافِي الصِّحَّةَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَعْنَى
النَّهْيِ حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ الْمُسْتَلْزِمِ
لِلْفَسَادِ الْمُرَادِفِ لِلْبُطْلَانِ إلَّا أَنْ
يُحْمَلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَى
جَائِزَةٌ» قَوْلُهُ: (فَمَنْ أُعْمِرَ) بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ أُرْقِبَهُ) .
قَوْلُهُ: (وَلِعَقِبِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِهَا
لِلتَّخْفِيفِ، وَالْمُرَادُ وَرَثَتُهُ الَّذِينَ
يَأْتُونَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ: (حَدِيقَةً) هِيَ
الْبُسْتَانُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَعِيلَةٌ
بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ أَحْدَقَ
بِهَا: أَيْ أَحَاطَ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا حَتَّى أَطْلَقُوا
الْحَدِيقَةَ عَلَى الْبُسْتَانِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ
حَائِطٍ قَوْلُهُ: (شَرَعَ) بِفَتْحِ الشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ: أَيْ سَوَاءٌ ذُكِرَ مَعْنَى
ذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ
(6/20)
الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ
مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ،
وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ
مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ
شَيْئًا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) .
2495 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا
أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ
أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا فِي الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ
بَيْتِ زَوْجِهَا قَالَ: لَا، إلَّا مِنْ قُوتِهَا
وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ
تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ)
2496 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا
قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا
مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ
أَنْ أُرْضِخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: ارْضِخِي
مَا اسْتَطَعْتِ وَلَا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا: «أَنَّهَا
سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: إنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ شَدِيدٌ وَيَأْتِينِي
الْمِسْكِينُ فَأَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْضِخِي وَلَا تُوعِي
فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَا جَاءَ فِي مَصْرِفِ الْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا
وَمَالِ زَوْجِهَا]
أَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ سَكَتَ
عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ، وَإِسْنَادُهُ لَا
بَأْسَ بِهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَوَّارٍ قَدْ وَثَّقَهُ
ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: يَغْرُبُ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا
بِإِذْنِهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامُ؟
قَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» قَوْلُهُ: (إذَا
أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ. . . إلَخْ) قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا إذَا
تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا،
فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ لَكِنْ فِي الشَّيْءِ
الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُأْبَهُ لَهُ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ
النُّقْصَانُ
، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إذَا أَذِنَ
الزَّوْجُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ
اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ
الْإِفْسَادِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الْمُرَادُ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ
وَالْخَازِنِ: النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ
فِي مَصَالِحِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ يُنْفِقُوا عَلَى
الْغُرَبَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ
بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ فَقَالَ: الْمَرْأَةُ
لَهَا حَقٌّ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَالنَّظَرُ فِي
بَيْتِهَا، فَجَازَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ، بِخِلَافِ
الْخَادِمِ فَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَتَاعِ مَوْلَاهُ
فَيُشْتَرَطُ الْإِذْنُ فِيهِ قَالَ الْحَافِظُ: هُوَ
مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا
فَتَصَدَّقَتْ مِنْهُ فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِهِ، وَإِنْ
تَصَدَّقَتْ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا رَجَعَتْ الْمَسْأَلَةُ
كَمَا كَانَتْ. قَوْلُهُ: (وَلِلْخَازِنِ) فِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى التَّقْيِيدُ
بِكَوْنِ الْخَازِنِ مُسْلِمًا، فَأَخْرَجَ الْكَافِرَ
لِكَوْنِهِ لَا نِيَّةَ لَهُ وَبِكَوْنِهِ أَمِينًا
فَأَخْرَجَ الْخَائِنَ لِأَنَّهُ
(6/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مَأْزُورٌ وَتَكُونُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ طَيِّبَةً لِئَلَّا
تُعْدَمَ النِّيَّةُ فَيَفْقِدَ الْأَجْرَ وَهِيَ قُيُودٌ
لَا بُدَّ مِنْهَا قَوْلُهُ: (مِثْلُ ذَلِكَ) ظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمْ فِي الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ حُصُولَ الْأَجْرِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ الْكَاسِبِ أَوْفَرَ،
لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَلَهُ
نِصْفُ أَجْرِهِ " يُشْعِرُ بِالتَّسَاوِي.
قَوْلُهُ: (لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ. . . إلَخْ)
الْمُرَادُ عَدَمُ الْمُسَاهَمَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي
الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مُسَاوَاةَ
بَعْضِهِمْ بَعْضًا. قَوْلُهُ: (عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ)
ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ
أَنْ تُنْفِقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَيَكُونُ لَهَا أَوْ لَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ عَلَى
اخْتِلَافِ النُّسْخَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَذَلِكَ
ظَاهِرُ رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ
أَسْمَاءَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ
الْأَجْرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ
عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَ أَبِي
هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ، لِأَنَّ أَقْوَالَ
الصَّحَابَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَلَا سِيَّمَا إذَا
عَارَضَتْ الْمَرْفُوعَ وَإِنَّمَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ
أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ
نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ
الزَّوْجِ إلَّا بِإِذْنٍ، وَالنَّهْيُ حَقِيقَةٌ فِي
التَّحْرِيمِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ
عَلَيْهِ ثَوَابًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ
النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ فَقَطْ، وَالْقَرِينَةُ
الصَّارِفَةُ إلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ، وَكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ لَا
تُنَافِي الْجَوَازَ وَلَا تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ
اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ، يَعْنِي
حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ
الَّذِي يَخُصُّهَا إذَا تَصَدَّقَتْ بِهِ بِغَيْرِ
اسْتِئْذَانِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ كَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ
فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا بِطَرِيقِ
الْإِجْمَالِ، لَكِنْ انْتَفَى مَا كَانَ بِطَرِيقِ
التَّفْصِيلِ. قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى
أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَإِلَّا فَحَيْثُ كَانَ
مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا إجْمَالًا وَلَا
تَفْصِيلًا، فَهِيَ مَأْزُورَةٌ بِذَلِكَ لَا مَأْجُورَةٌ،
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ
الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرِهِ اهـ قَوْلُهُ: (فَلَهُ نِصْفُ
أَجْرِهِ) هَكَذَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى " فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ " وَعَلَى
النُّسْخَةِ الْأُولَى يَكُونُ لِلرَّجُلِ الَّذِي
تَصَدَّقَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
نِصْفُ أَجْرِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْإِذْنِ مِنْهُ
لَهَا، وَعَلَى النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ
لِلْمَرْأَةِ الْمُتَصَدِّقَةِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا
نِصْفُ أَجْرِهَا عَلَى تَقْدِيرِ إذْنِهِ لَهَا.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: أَوْ الْمَعْنَى بِالنِّصْفِ أَنَّ
أَجْرَهُ وَأَجْرَهَا إذَا جُمِعَا كَانَ لَهَا النِّصْفُ
مِنْ ذَلِكَ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَجْرٌ كَامِلٌ وَهُمَا
اثْنَانِ فَكَأَنَّهُمَا نِصْفَانِ. قَوْلُهُ: (أَنْ
أُرْضِخَ) بِالضَّادِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ. قَالَ
فِي الْقَامُوسِ: رَضَخَ لَهُ: أَعْطَاهُ عَطَاءً غَيْرَ
كَثِيرٍ. (قَوْلُهُ وَلَا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ
عَلَيْكِ) بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ جَوَابَ النَّهْيِ،
وَالْمَعْنَى لَا تَجْمَعِي فِي الْوِعَاءِ وَتَبْخَلِي
بِالنَّفَقَةِ فَتُجَازِي بِمِثْلِ ذَلِكَ.
2497 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: «لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ قَالَتْ
امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا
وَأَبْنَائِنَا - قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَرَى فِيهِ:
وَأَزْوَاجِنَا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟
قَالَ: الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: الرَّطْبُ: الْخُبْزُ وَالْبَقْلُ
وَالرُّطَبُ) .
2498 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ
وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ،
فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ،
وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى
أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَقَالَ:
تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ،
فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سَطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ
الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ
الْعَشِيرَ؛ قَالَتْ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ
حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ
أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(6/22)
2497 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: «لَمَّا
بَايَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
النِّسَاءَ قَالَتْ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ
نِسَاءِ مُضَرَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى
آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا - قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَرَى
فِيهِ: وَأَزْوَاجِنَا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ
وَتُهْدِينَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: الرَّطْبُ:
الْخُبْزُ وَالْبَقْلُ وَالرُّطَبُ) .
2498 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ
وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ،
فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ،
وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى
أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَقَالَ:
تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ،
فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سَطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ
الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ
الْعَشِيرَ؛ قَالَتْ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ
حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ
أَقْرَطاِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
2499 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ
زَوْجِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو
دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ
فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
حَدِيثُ سَعْدٍ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد
وَالْمُنْذِرِيُّ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ
إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ سَوَّارٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ
حِبَّانَ وَقَالَ: يَغْرُبُ قَوْلُهُ: (قَالَ: الرَّطْبُ)
بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ،
وَالرُّطَبُ الْمَذْكُورُ آخِرًا بِضَمِّ الرَّاءِ
وَفَتْحِ الطَّاءِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّطْبُ:
ضِدُّ الْيَابِسِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِضَمَّةٍ
وَبِضَمَّتَيْنِ: الرَّعْيُ الْأَخْضَرُ مِنْ الْبَقْلِ
وَالشَّجَرِ، قَالَ: وَتَمْرٌ رَطِيبٌ مُرَطَّبٌ
وَأَرْطَبَ النَّخْلُ: حَانَ أَوَانُ رَطْبِهِ وَفِي
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ
أَنْ تَأْكُلَ مِنْ مَالِ ابْنِهَا وَأَبِيهَا وَزَوْجِهَا
بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَتُهَادِي، وَلَكِنَّ ذَلِكَ
مُخْتَصٌّ بِالْأُمُورِ الْمَأْكُولَةِ الَّتِي لَا
تُدَّخَرُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُهَادِيَ
بِالثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحُبُوبِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: (إنَّا كَلٌّ) بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَكَلٌّ بِفَتْحِ
الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ خَبَرُ إنَّ: أَيْ نَحْنُ
عِيَالٌ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَنَا مِنْ الْأَمْوَالِ مَا
نَنْتَفِعُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَتْ امْرَأَةٌ) قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ
أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَّا أَنَّهُ
يَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ
يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الَّتِي تُعْرَفُ بِخَطِيبَةِ
النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا رَوَتْ أَصْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ
فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ
وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى النِّسَاءِ وَأَنَا
مَعَهُنَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ إنَّكُنَّ
أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ، فَنَادَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت عَلَيْهِ
جَرِيئَةً: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ
اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» فَلَا يَبْعُدُ أَنْ
تَكُونَ هِيَ الَّتِي أَجَابَتْهُ فَإِنَّ الْقِصَّةَ
وَاحِدَةٌ.
قَوْلُهُ: (مِنْ سَطَةِ النِّسَاءِ) أَيْ مِنْ
خِيَارِهِنَّ، 6 وَالسَّفْعَاءُ: الَّتِي فِي خَدِّهَا
غَبَرَةٌ وَسَوَادٌ وَالْعَشِيرُ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا
الزَّوْجُ
(6/23)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
وَالْحَدِيثُ فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ هَهُنَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ جَوَازُ صَدَقَةِ
الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى
إذْنِ زَوْجِهَا أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ
مَالِهَا كَالثُّلُثِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ
الْقِصَّةِ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ
أَزْوَاجَهُنَّ كَانُوا حُضُورًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ
يُنْقَلْ، وَلَوْ نُقِلَ فَلَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمُ
أَزْوَاجِهِنَّ لَهُنَّ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ
حَقٌّ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يُصَرِّحَ
بِإِسْقَاطِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْقَوْمَ صَرَّحُوا
بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ دَوَافِعِ الْعَذَابِ
لِأَنَّهُ أَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ ثُمَّ عَلَّلَ
بِأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ لِمَا يَقَعُ
مِنْهُنَّ مِنْ كُفْرَانِ النِّعَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَمِنْهَا: بَذْلُ النَّصِيحَةِ وَالْإِغْلَاطُ بِهَا
لِمَنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَمِنْهَا:
جَوَازُ طَلَبِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ
لِلْمُحْتَاجِينَ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَيْرَ
مُحْتَاجٍ وَمِنْهَا: مَشْرُوعِيَّةُ وَعْظِ النِّسَاءِ
وَتَعْلِيمِهِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَتَذْكِيرِهِنَّ
بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ وَحَثِّهِنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ
وَتَخْصِيصِهِنَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ مُنْفَرِدٍ،
وَمَحِلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا أُمِنَتْ الْفِتْنَةُ
وَالْمَفْسَدَةُ.
2499 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ
زَوْجِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو
دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ
فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ) الْحَدِيثُ سَكَتَ
عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي
إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ، وَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ وَقَدْ
صَحَّحَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ أَحَادِيثَ، وَمِنْ دُونِ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ عِنْدَ
أَبِي دَاوُد وَفِي الْبَابِ عَنْ خَيْرَةَ امْرَأَةِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (أَمْرٌ) أَيْ عَطِيَّةٌ مِنْ الْعَطَايَا،
وَلَعَلَّهُ عَدَلَ عَنْ الْعَطِيَّةِ إلَى الْأَمْرِ
لِمَا بَيْنَ لَفْظِ الْمَرْأَةِ وَالْأَمْرِ مِنْ
الْجِنَاسِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ
الْبَلَاغَةِ.
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ عَطِيَّةً مِنْ
مَالِهَا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ
رَشِيدَةً وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ
اللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مُطْلَقًا لَا فِي
الثُّلُثِ وَلَا فِيمَا دُونَهُ إلَّا فِي الشَّيْءِ
التَّافِهِ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَمَالِكٌ: إنَّهُ يَجُوزُ
لَهَا أَنْ تُعْطِيَ مَالَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي
الثُّلُثِ لَا فِيمَا فَوْقَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا
بِإِذْنِهِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
لَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ الزَّوْجِ إذَا
لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ
يَجُزْ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ انْتَهَى، وَقَدْ
اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ
ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ ذَكَرَهَا فِي بَابِ هِبَةِ
الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا
(6/24)
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَبَرُّعِ الْعَبْدِ
2500 - (عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ:
«كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوْلَايَ
بِشَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا» رَوَاهُ
مُسْلِمٌ) .
2501 - (وَعَنْهُ قَالَ: «أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ
أَقْدِرَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ
مِنْهُ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ،
فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْته؟ فَقَالَ: يُعْطِي
طَعَامِي مِنْ غَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: الْأَجْرُ
بَيْنَكُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَالنَّسَائِيُّ) .
2502 - (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «أَتَيْت
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِطَعَامٍ وَأَنَا مَمْلُوكٌ، فَقُلْت: هَذِهِ صَدَقَةٌ،
فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ
أَتَيْتُهُ بِطَعَامٍ، فَقُلْت: هَذِهِ هَدِيَّةٌ
أَهْدَيْتُهَا لَك أُكْرِمْك بِهَا فَإِنِّي رَأَيْتُك لَا
تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا
وَأَكَلَ مَعَهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ)
2503 - (وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كُنْتُ اسْتَأْذَنْت
مَوْلَايَ فِي ذَلِكَ فَطَيَّبَ لِي، فَاحْتَطَبْت حَطَبًا
فَبِعْتُهُ فَاشْتَرَيْت ذَلِكَ الطَّعَامَ رَوَاهُ
أَحْمَدُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
مِنْ كِتَابِ الْهِبَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ
الْجُمْهُورِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا،
وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ
سَفِيهَةً غَيْرَ رَشِيدَةٍ.
وَحَمَلَ مَالِكٌ أَدِلَّةَ الْجُمْهُورِ عَلَى الشَّيْءِ
الْيَسِيرِ، وَجَعَلَ حَدَّهُ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ
وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ الْأَحَادِيثُ
الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْقَاضِيَةُ
بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ
زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِذَا جَازَ لَهَا ذَلِكَ
فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَبِالْأَوْلَى الْجَوَازُ
فِي مَالِهَا؛ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: يَتَعَيَّنُ
الْأَخْذُ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
وَمَا وَرَدَ مِنْ الْوَاقِعَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ
تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى مَوَارِدِهَا أَوْ مُخَصِّصَةً
لِمِثْلِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ
وَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالَاتِ فَلَيْسَتْ مِمَّا
تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
[بَابُ مَا جَاءَ فِي تَبَرُّعِ الْعَبْدِ]
حَدِيثُ سَلْمَانَ الْأَوَّلُ فِي إسْنَادِهِ ابْنُ
إِسْحَاقَ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ
وَحَدِيثُ سَلْمَانَ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ أَبُو
مُرَّةَ سَلَمَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ فِي مَجْمَعِ
الزَّوَائِدِ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ
(6/25)
كِتَابُ الْوَقْفِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
تَرْجَمَهُ اهـ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ مَا فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ يَسْأَلُ: أَهَدِيَّةٌ
أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ
بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا
الْبَابِ كَثِيرَةٌ
قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا) فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ
يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ وَأَنَّهُ يَكُونُ
شَرِيكًا لِلْمَوْلَى فِي الْأَجْرِ وَقَدْ بَوَّبَ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ: بَابُ مَنْ
أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ نَفْسَهُ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ "
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا
أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ
مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ،
وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ
مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ» .
قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: نَبَّهَ يَعْنِي الْبُخَارِيُّ
بِالتَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُفَسِّرٌ
لَهَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَازِنِ وَالْخَادِمِ
وَالْمَرْأَةِ أَمِينٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا
بِإِذْنِ الْمَالِكِ نَصًّا أَوْ عُرْفًا إجْمَالًا أَوْ
تَفْصِيلًا انْتَهَى وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى
مِنْ الْحَدِيثِ مُشْعِرَةٌ بِأَنْ يُكْتَبَ لِلْعَبْدِ
أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ
سَيِّدِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِأَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ
أَنْ قَالَ لَهُ سَيِّدُ الْعَبْدِ: " إنَّهُ يُعْطِي
طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ ".
قَوْلُهُ: (أَنْ أَقْدِرَ لَحْمًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ
أَجْعَلُهُ فِي الْقِدْرِ، وَالْقَدِيرُ وَالْقَادِرُ: مَا
يُطْبَخُ فِي الْقِدْرِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى
الْقِسْمَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: قَدَرَ الرِّزْقَ:
قَسَمَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: قَدَرْتُهُ أَقْدِرُهُ
قَدَارَةً: هَيَّأْتُ وَوَقَّتُّ، وَآبِي اللَّحْمِ
الْمَذْكُورُ هُوَ بِالْمَدِّ بِزِنَةِ فَاعِلٍ مِنْ
الْإِبَاءِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الشَّرْحِ
التَّنْبِيهَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هَهُنَا
لِكَثْرَةِ الْتِبَاسِهِ.
(6/26)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ
الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ
أَشْيَاءَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ
بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ) .
2505 - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ أَصَابَ
أَرْضًا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا
قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ شِئْتَ
حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا
عُمَرُ عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ وَلَا تُوهَبَ وَلَا
تُورَثَ، فِي الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى
وَالرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ
عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا
بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ وَفِي
لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا» . رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ
فِي صَدَقَةِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى الْوَلِيِّ جُنَاحٌ
أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ
مُتَأَثِّلٍ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي
صَدَقَةَ عُمَرَ، وَيُهْدِي لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ،
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ: أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى
صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ وَوَلَدُهُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِيهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[نيل الأوطار]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
(6/27)
2506 - (وَعَنْ عُثْمَانَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ
وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ،
فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ فِيهَا
دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ
مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ
مَالِي» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِيهِ جَوَازُ انْتِفَاعِ الْوَاقِفِ
بِوَقْفِهِ الْعَامِّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ |