أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْبَاب الثَّالِث فِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم
ثالثهما الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم
منطوقها مَا دلّ يَا فهيم ... عَلَيْهِ لفظ فِي مَحل النُّطْق
أَي ثَالِث الْعشْرَة الْأَبْوَاب الَّتِي رتب عَلَيْهَا
الْكتاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم بِالْمَعْنَى الاصطلاحي لَا
بِمَعْنى مَا يفهمة السَّامع من الْخطاب فَإِنَّهُ شَامِل
لَهما وَقدم الْمَنْطُوق لكَونه أقوى دلَالَة فَقَوله منطوقها
أَي الدّلَالَة وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمَا من أَقسَام
الدّلَالَة كَمَا بنى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه فكلمة
مَا مَصْدَرِيَّة عبارَة عَن الدّلَالَة على هَذَا أَي دلَالَة
اللَّفْظ على الْمَدْلُول حَال كَونه حَاصِلا فِي مَحل
النُّطْق فَالضَّمِير فِي عَلَيْهِ يعود إِلَى الْمَدْلُول
الْمَفْهُوم من الْمقَام وَفِي مَحل النُّطْق ظرف مُسْتَقر
حَال من ضمير الْمَدْلُول وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة أَي مَحل
هُوَ اللَّفْظ الْمَنْطُوق وَالْمرَاد بِكَوْن الْمَعْنى
مدلولا عَلَيْهِ بِمحل النُّطْق أَنَّهَا لَا تتَوَقَّف
استفادته من اللَّفْظ إِلَّا على مُجَرّد النُّطْق لَا على
الِانْتِقَال من معنى آخر إِلَيْهِ فَالْمَعْنى فِيمَا
أَفَادَهُ النّظم أَن الْمَنْطُوق دلَالَة اللَّفْظ على معنى
فِي مَحل النُّطْق وَمحل النُّطْق هُوَ اللَّفْظ
(1/230)
فَلِذَا يفسرونه بِكَوْنِهِ حكما للفظ
وَحَالا من أَحْوَاله وَالْقَوْل بِأَن النُّطْق حَرَكَة
اللِّسَان فاللسان مَحل النُّطْق صَحِيح وَاللَّفْظ أَيْضا
مَحل للمعنى وَلذَا يُقَال الْأَلْفَاظ قوالب الْمعَانِي
فاللسان مَحل النُّطْق والنطق مَحل الْمَعْنى فَهُوَ مَحل ثَان
فَيصح جعله محلا وَيصِح أَن يُقَال النُّطْق بِمَعْنى
الْمَنْطُوق بِهِ وَهُوَ اللَّفْظ وَهُوَ مَحل قطعا ثمَّ
إِنَّهُم أَرَادوا بِالدّلَالَةِ مَا يَشْمَل الْمُطَابقَة
والتضمنية والالتزامية كَمَا ستعرفه وَإِن الْكل من قسم
الْمَنْطُوق وستعرف إِن شَاءَ الله مَا فِيهِ
وَاعْلَم أَن الدّلَالَة المطابقية هِيَ دلَالَة اللَّفْظ على
كل معنى وَذَلِكَ كدلالة لفظ إِنْسَان على الْحَيَوَان
النَّاطِق فَهَذِهِ مطابقية طابق اللَّفْظ فِيهَا الْمَعْنى
أَي ساواه فَلم ينقص اللَّفْظ عَن مَعْنَاهُ وَلَا الْمَعْنى
عَنهُ وَهَذِه دلَالَة اللَّفْظ على حَقِيقَة مَعْنَاهُ وَهِي
المتبادرة عِنْد إِطْلَاق الدّلَالَة وَعند إِطْلَاق اللَّفْظ
وَقد يُرَاد بِهِ الدّلَالَة على جُزْء مَعْنَاهُ كَأَن يُطلق
لفظ إِنْسَان على حَيَوَان فَقَط أَو على نَاطِق فَقَط
فَهَذِهِ هِيَ الدّلَالَة التضمنية دلَالَة اللَّفْظ على جُزْء
مَا وضع لَهُ وَهِي من أَقسَام الْمجَاز لِأَنَّهُ أطلق الْكل
وَهُوَ لفظ إِنْسَان وَأُرِيد بِهِ جزؤه وَهُوَ أحد الجزئين
وَأهل الْأُصُول يجْعَلُونَ دلَالَة التضمن وضعية وَأهل
الْمعَانِي وَالْبَيَان يسمونها عقلية وعَلى كل تَقْدِير
فَهُوَ من الْمجَاز وَلَا بُد لَهُ من العلاقة والقرينة
فالعلاقة قد ذَكرنَاهَا آنِفا وَأما الْقَرِينَة فأنواعها
مَعْرُوفَة وَقد يُرَاد بِاللَّفْظِ الدّلَالَة على لَازم
مَعْنَاهُ كَمَا إِذا أطلق إِنْسَان وَأُرِيد بِهِ ضَاحِك مثلا
فَإِنَّهُ لَازم لَهُ ودلالته عَلَيْهِ عقلية عِنْد
الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ مجَاز أَيْضا من إِطْلَاق الْمَلْزُوم
وَإِرَادَة اللَّازِم وتفاصيل هَذِه الأبحاث فِي علم الْمنطق
وَمَا ذَكرْنَاهُ كَاف لما نَحن بصدد بَيَانه إِن شَاءَ الله
ثمَّ قسم مَا يفِيدهُ اللَّفْظ إِلَى قسمَيْنِ أَشَارَ
إِلَيْهِمَا قَوْله
وخذه قسمَيْنِ على مَا ألقيا
الأول قَوْله
فَإِن أَفَادَ اللَّفْظ معنى وَاحِدًا
لَا غَيره فسمه مساعدا ... نصاله الدّلَالَة القطعية
(1/231)
أَي حد الْمَنْطُوق حَال كَونه قسمَيْنِ
الأول أَن يُقَال إِن أَفَادَ اللَّفْظ فِي دلَالَته معنى
وَاحِدًا لَا يحْتَمل غَيره فسمه نصا لارتفاعه على غَيره من
الدلالات وقوته أخذا من قَوْلهم نصت الظبية جيدها أَي رفعته
وَهَذَا الْمَعْنى للفظ يُقَابله الظَّاهِر الَّذِي هُوَ
الْقسم الثَّانِي وَقد يُطلق النَّص فِي مُقَابل الْإِجْمَاع
وَالْقِيَاس فيراد بِهِ الْكتاب وَالسّنة فَيدْخل تَحْتَهُ
الظَّاهِر فيسمى نصا وَمن ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من تقسم
الْعلَّة إِلَى النَّص وَالْإِجْمَاع والاستنباط وَيُطلق
وَيُرَاد بِهِ مَا دلّ على معنى ظَاهر وَهُوَ غَالب فِي
اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء كَقَوْلِهِم نَص الشَّافِعِي على
كَذَا وَقَوْلهمْ لنا النَّص وَالْقِيَاس وَمِثَال النَّص
الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا الْأَعْلَام الشخصية
نَحْو زيد فِي دلَالَته الذَّات الْمعينَة فِي قَوْلك هَذَا
زيد فَإِنَّهُ لَا يتَحَمَّل معنى غير ذَاته وَإِن قَالَ
النُّحَاة أَنه يُؤَكد بِعَيْنِه وَنَفسه لدفع توهم
التَّجَوُّز فقد يُقَال إِن التَّوَهُّم لَيْسَ بِاحْتِمَال
فَإِن كَونه أُرِيد بِهَذَا زيد هَذَا غُلَام زيد من بَاب
الْحَذف وهم بعيد فَدفع بِعَيْنِه وَنَفسه وَالِاحْتِمَال يكون
أقوى من الْوَهم هَذَا جمع بَين الْقَوْلَيْنِ وَقَوله لَهُ
الدّلَالَة القطعية أَي يحصل بدلالته على مَعْنَاهُ الْقطع
فَلَا يَنْتَفِي بشك وَلَا شُبْهَة وَقَوله ... أَولا فَظَاهر
لَهُ الظنية ...
إِشَارَة إِلَى الْقسم الثَّانِي من قسمي الْمَنْطُوق إِلَى
دلَالَته أَي أَولا يدل على معنى وَاحِد
(1/232)
بل تردد بَين معَان تحمل الْمَقْصُود
وَغَيره فَإِنَّهُ يُسمى الظَّاهِر أَي مَا كَانَ أحد
مَعَانِيه أظهر من غَيره وَلَا يُنَافِي الِاحْتِمَال والتردد
وَهَذَا تسمى دلَالَته ظنية أَي تفِيد الظَّن لدلالته على
الِاحْتِمَال الرَّاجِح من الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح
قيل وَمِنْه الْعَام ثمَّ النَّص
قِسْمَانِ أَيْضا فالصريح نَص
قَالَ قوم من جملَة الظَّاهِر الْعَام فِي دلَالَته على
إِفْرَاده قبل تَخْصِيصه لاحْتِمَاله لَهُ وَيَأْتِي تَحْقِيق
ذَلِك فِي بَحثه ثمَّ إِن أهل الْأُصُول قسموا النَّص إِلَى
قسمَيْنِ صَرِيح وَغَيره قسموه كَمَا قسموا الْمَنْطُوق إِلَى
قسمَيْنِ وَلذَا قُلْنَا أَيْضا وَإِن كَانَ قد بعد فالقرينة
تنادي بالمراد ثمَّ بَين قسمي النَّص بقوله
بِأَنَّهُ مَا وضع اللَّفْظ لَهُ
خَاصّا بِهِ وَغَيره مَا دله ... بِالْتِزَام فالتزم مَا أملي
فَقَوله بِأَنَّهُ مُتَعَلق بِنَصّ وَقَوله بانه أَي الصَّرِيح
فِي دلَالَته مَا وضع اللَّفْظ لَهُ يَعْنِي بالمطابقة والتضمن
كَمَا دلّ لَهُ الْمُقَابلَة بالالتزام وخاصا حَال من اللَّفْظ
أَي حَال كَون اللَّفْظ خَاصّا بِهِ بِمَعْنى أَنه مُسْتَفَاد
من اللَّفْظ لَا من أَمر خارجي فالتقييد بالخاص إِشَارَة إِلَى
أَن دلَالَة اللَّفْظ على جُزْء مَعْنَاهُ وَهِي التضمنية
لفظية فَهَذَا هُوَ الْقسم الأول وَهُوَ الصَّرِيح
وَأما الثَّانِي فقد أَفَادَهُ قَوْله وَغَيره مَا دله أَي مَا
دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ بالالتزام فَهُوَ من بَاب الْحَذف
والإيصال وَفِي عدوله عَن قَوْله مَا وضع لَهُ إِلَى مَا دله
الْإِشَارَة إِلَى أَن دلَالَة اللَّفْظ على لَازم مَعْنَاهُ
عقلية لَا وضعية وَفِيه خلاف إِلَّا أَن أهل الْأُصُول يكتفون
بِمُطلق اللُّزُوم أَي من أَي جِهَة عرف أَو وضع وَأهل الْمنطق
يشترطون اللُّزُوم الْبَين بِحَيْثُ مَتى أطلق اللَّفْظ بعد
(1/233)
الْعلم بِوَضْعِهِ فهم مِنْهُ الْمَعْنى
ثمَّ إِنَّه قسم أَئِمَّة الْأُصُول غير الصَّرِيح وَهُوَ
الدَّال بالالتزام إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع فِي قَوْله ...
وَخذ هُنَا أقسامه من نقلي ...
أَي خُذ أَقسَام الدّلَالَة الالتزامية وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
إِمَّا مَقْصُودَة للمتكلم فَهِيَ قِسْمَانِ لِأَنَّهُ إِمَّا
أَن يقف الصدْق عَلَيْهِ أَو الصِّحَّة عقلا أَو نقلا فَهُوَ
دلَالَة الِاقْتِضَاء أول الثَّلَاثَة المدلولة لقَوْله ...
أَن يقف الصدْق عَلَيْهِ عقلا ... أَو صِحَة فالاقتضا أَو نقلا
...
عقلا ونقلا تَمْيِيز عَن قَوْله أَن يقف الصدْق وَمَعْنَاهُ
أَن الْكَلَام إِذا كَانَ ظَاهره الْكَذِب الَّذِي لَا يجوز
على الشَّارِع عقلا تعين طلب مَا يُخرجهُ إِلَى حيّز الصدْق
وَأَشَارَ إِلَى الْأَمْثِلَة بقوله ... نَحْو رفع عَن أمتِي
وَأعْتق ... عَبدك عني واسألن واصدق ...
اقتباس من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع عَن أمتِي
الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ أخرجه
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ثَوْبَان بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور
وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة
فَلَا بُد فِي صدقه من تَقْدِير الْمُؤَاخَذَة والعقوبة
وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا لِأَنَّهُمَا لم يرفعا أَنَّهُمَا
واقعان من الْأمة فَفِي الْبَيْت اقتباس واكتفاء وَهَذَا
مِثَال مَا توقف الصدْق عَلَيْهِ عقلا وَأما مِثَال
(1/234)
مَا توقف الصِّحَّة عَلَيْهِ عقلا فنحو
قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة} أَي أَهلهَا وَإِلَيْهِ
أَشَارَ قَوْله {وليسألن} إِذْ لَو لم يقدر ذَلِك لما صَحَّ
سُؤال الجماد فَهُوَ من مجَاز الْحَذف وَأما توقف الصِّحَّة
الشَّرْعِيَّة الَّذِي إِلَيْهِ أَشَارَ بقوله أَو نقلا فمثاله
قَول الرجل الآخر اعْتِقْ عَبدك عني أَي مملكا لي فَلَا بُد من
تَقْدِيره لِأَنَّهُ لَا يَصح الْعتْق شرعا إِلَّا من مَالك
فَهَذِهِ دلَالَة الِاقْتِضَاء سميت بذلك لِأَنَّهُ الْحَاجة
إِلَى صون الْكَلَام عَن الْفساد الْعقلِيّ والشرعي اقْتَضَت
ذَلِك فَهِيَ فِي حكم الْمَنْطُوق وَإِن كَانَ محذوفا فَلِذَا
عدوه من أَقسَام الْمَنْطُوق وَالْقسم الثَّانِي مِمَّا هُوَ
أَيْضا مَقْصُود الْمُتَكَلّم وَلم يتَوَقَّف عَلَيْهِ صدق
وَلَا صِحَة عقلية وَلَا شَرْعِيَّة أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا
أَو يقْتَرن بِاللَّفْظِ مَا لَو لم يفد
تَعْلِيله لَكَانَ عَنهُ مبتعد ... كقلوه كفر وَلَيْسَت بِسبع
وَلَو تمضمضت بِمَاء فَاتبع
أَي أَو يقْتَرن بالحكم وصف لَو لم يفد ذَلِك الْوَصْف
تَعْلِيله أَي كَونه عِلّة للْحكم لَكَانَ ذَلِك الاقتران
بَعيدا عَن فصاحة الشَّارِع وَوَضعه للْكَلَام مَوْضِعه وَقد
أَشَرنَا إِلَى الْأَمْثِلَة الْوَاقِعَة فِي كَلَامه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الأول حَدِيث المجامع فِي نَهَار رَمَضَان أَنه
قَالَ يَا رَسُول الله جامعت أَهلِي فِي نَهَار رَمَضَان
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعتق رَقَبَة الحَدِيث فَلَو
لم يكن الْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان عَلَيْهِ إِيجَاب
الْإِعْتَاق لَكَانَ ذَلِك الاقتران بَعيدا عَن فصاحة
الشَّارِع والْحَدِيث تقدم فِي الْقيَاس وَهُوَ مُتَّفق
عَلَيْهِ بَين الشَّيْخَيْنِ
وَإِلَى الْمِثَال الثَّانِي أَشَارَ قَوْله وَلَيْسَت بِسبع
يَعْنِي الْهِرَّة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه
جَوَابا لما قيل لَهُ إِنَّك تدخل بَيت فلَان وَفِيه هرة لما
(1/235)
امْتنع عَن دُخُول بَيت آخر فِيهِ كلب
والْحَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة
قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي دَار فلَان من
الْأَنْصَار دونهم فشق عَلَيْهِم ذَلِك فَقَالُوا يَا رَسُول
الله إِنَّك تَأتي دَار فلَان وَلَا تَأتي دَارنَا فَقَالَ إِن
فِي داركم كَلْبا فَقَالُوا يَا رَسُول الله وَفِي دَارهم سنور
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السنور لَيْسَ بِسبع
وَقَوله وَلَو تمضمضت أَشَارَ إِلَى جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على عمر لما قَالَ لَهُ إِنِّي قبلت فِي رَمَضَان
فَقَالَ أَرَأَيْت لَو تمضمضت فِي مَاء وَقد تقدم فِي الْقيَاس
جَمِيع هَذَا وَالْقسم الأول كَمَا سموهُ دلَالَة الِاقْتِضَاء
فَهَذَا سموهُ بِمَا أَفَادَهُ قَوْله ... واسْمه التَّنْبِيه
والإيماء ...
أَي أَن دلَالَته تسمى دلَالَة التَّنْبِيه والإيماء تفرقه
بَين الْأَقْسَام بالأسماء مَعَ الْمُنَاسبَة فِي تَخْصِيص كل
بِمَا يُسمى بِهِ فَهَذِهِ أَقسَام مَا قَصده الْمُتَكَلّم من
الْقسمَيْنِ وَإِمَّا غير مَقْصُوده أَي دلَالَة اللَّازِم من
كَلَامه أَي لم يعلم قَصده لِأَنَّهُ لَو علم عدم قَصده لم
يعْتَبر فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ
(1/236)
وَإِن يكن لقصده مَا شَاءَ ... فَإِنَّهُ
دلَالَة الإشاره
كناقصات الْعقل فِي العباره
أَي وَإِن يكن غير الصَّرِيح الْمَدْلُول عَلَيْهِ فالالتزام
غير مَقْصُوده للمتكلم فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ دلَالَة
الْإِشَارَة وَأَشَارَ إِلَى مِثَاله فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ
وكل هَذِه الْأَمْثِلَة اقتباس واكتفاء أَو تلميح وَهُوَ
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء ناقصات عقل وَدين
قُلْنَا وَمَا نُقْصَان دينهن قَالَ تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر
دهرها لَا تصلي فقد اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي على أَن أَكثر
الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا مَعَ أَنه غير مَقْصُود لِأَن لفظ
الشّطْر يدل عَلَيْهِ بالالتزام لِأَنَّهُ سبق للْمُبَالَغَة
فِي نُقْصَان دينهم فَيَقْتَضِي أَن أَكثر مَا يتَعَلَّق بِهِ
زمَان الْحيض ذَلِك فَلَو كَانَ زمَان الْحيض أَكثر من ذَلِك
لذكره وَهَذَا الحَدِيث أوردهُ الأصوليون وَأهل الْفُرُوع
بِهَذَا اللَّفْظ وَقَالَ أَئِمَّة الحَدِيث من حفاظه إِنَّه
لَا أصل لَهُ بِهَذَا اللَّفْظ ثمَّ هُوَ لَو صَحَّ بمراحل عَن
الدّلَالَة بِأَن أَكثر الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا لِأَن
الشّطْر على فرض أَنه حَقِيقَة فِي النّصْف لَا يتم
الِاسْتِدْلَال بِهِ حَتَّى يتم الدَّلِيل على أَن أقل
الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا وَلَا دَلِيل لعليه وَالْمرَاد
بَيَان أَن الحَدِيث لَا أصل
(1/237)
لَهُ وَأَنه لَو صَحَّ لما كَانَ دلَالَة
الْإِشَارَة فِي شَيْء وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ النَّاظِم
مُتَابعَة لأهل الْأُصُول نعم الْأَمْثِلَة من الْقُرْآن
كَثِيرَة فِي ذَلِك مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أحل لكم لَيْلَة
الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} فَإِن دلَالَة الْإِشَارَة
فِيهَا فِي موضِعين الأول قَوْله {لَيْلَة الصّيام} فَإِنَّهُ
دَال على صِحَة صَوْم من أصبح جنبا للزومه الْمَقْصُود من حل
جماعهن بِاللَّيْلِ الصَّادِق على آخر جُزْء مِنْهُ
وَالثَّانِي من قَوْله {فَالْآن باشروهن} إِلَى آخر الْآيَة
فَإِنَّهُ دَال على أَن إِبَاحَة الْمُبَاشرَة ممتدة إِلَى
طُلُوع الْفجْر فَيلْزم مِنْهُ جَوَاز الإصباح جنبا
وَاعْلَم أَن جعلهم اللَّازِم فِي دلَالَة الْإِشَارَة غير
مَقْصُود للمتكلم مَحل نظر وَكَيف يحكم على شَيْء يُؤْخَذ من
كَلَام الله أَنه لم يَقْصِدهُ تَعَالَى وَتثبت بِهِ أَحْكَام
شَرْعِيَّة وَمن أَيْن الِاطِّلَاع على مَقَاصِد علام الغيوب
فَإِن أَرَادوا قِيَاس كَلَامه على كَلَام الْعباد فَإِنَّهُ
قد يسْتَلْزم كَلَامهم مَا لَا يريدونه وَلَا يقصدونه وَلَا
يخْطر لَهُم ببال وَلذَا جزم الْمُحَقِّقُونَ بِأَن لَازم
الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب لِأَنَّهُ لَا يقطع بِأَنَّهُ قَصده
قَائِله بل لَا نظن وَكَذَلِكَ التخاريج على كَلَام أَئِمَّة
الْعلم لَا تكون مذهبا لمن خرجوه عَنهُ وَذَلِكَ لقُصُور
الْبشر وَأَنه لَا يُحِيط علمه عِنْد نطقه بلوازم كَلَامه قطعا
وَلَا يَقْصِدهُ بِخِلَاف علام الغيوب فَهُوَ يعلم بلوازم
كَلَام الْعباد وَمَا تطلقه ألسنتهم وَمَا يكنه الْفُؤَاد
فَكيف مَا يتكم عز وَجل بِهِ وَقد ذاكرت بعض شيوخي بِهَذَا
وَمن أتوسم فِيهِ الْإِدْرَاك فَمَا وجدت مَا يشفي مَعَ هَذَا
الِاتِّفَاق من أَئِمَّة الْأُصُول عَلَيْهِ وَقد كنت كتبت على
الفواصل شَيْئا من هَذَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ مؤلفها رَحمَه
الله تَعَالَى
(1/238)
وَاعْلَم أَنهم قسموا الْمَنْطُوق إِلَى
صَرِيح وَغير صَرِيح وَجعلُوا الصَّرِيح مَا دلّ على مَعْنَاهُ
مُطَابقَة أَو جزئه تضمنا وَجعلُوا غير الصَّرِيح مَا دلّ
بالالتزام فاستغرق الْمَنْطُوق الدلالات الثَّلَاث وَقد قسموا
اللَّفْظ الدَّال على مَنْطُوق وَمَفْهُوم فِي أول الْبَحْث
فالمفهوم دَال على معنى لكِنهمْ لم يبقوا من الدّلَالَة قسما
لَهُ
ولنذكر سؤالا وصل إِلَيْنَا عِنْد تأليف هَذَا وَنحن فِي
أَثْنَائِهِ فأجبنا عَلَيْهِ ورأينا نقلهما هُنَا بِاخْتِصَار
لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو كتب الْفَنّ المتداولة كالمختصر
لِابْنِ الْحَاجِب وشروحه والغاية وَشَرحهَا عَن هَذَا
التَّقْسِيم وتبعهم صَاحب أصل النّظم
وَحَاصِل السُّؤَال قد قسم أَئِمَّة الْأُصُول اللَّفْظ
الدَّال إِلَى قسمَيْنِ مَنْطُوق وَمَفْهُوم ثمَّ قسموا
الْمَنْطُوق إِلَى قسمَيْنِ صَرِيح وَهُوَ مَا دلَالَته
مُطَابقَة أَو تضمنا وَغير الصَّرِيح وَهُوَ مادل بالالتزام
وَلَيْسَ لنا فِي الْعُلُوم إِلَّا الدلالات الثَّلَاث وَقد
جعلُوا قسمي الْمَنْطُوق مستغرقة لَهَا ثمَّ قَالُوا فِي
الْمَفْهُوم إِنَّه مَا دلّ لَا فِي مَحل النُّطْق فَأَي
دلَالَة يُرِيدُونَ إِذْ بِأَيّ دلَالَة دلّ اللَّفْظ فَهُوَ
مَنْطُوق فَالْمُرَاد بَيَان الدّلَالَة عِنْد الْقَائِل
بِالْمَفْهُومِ من أَي أَقسَام الدلالات هِيَ
وَحَاصِل الْجَواب قد تنبه سعدالدين فِي حَوَاشِي الْعَضُد
للإشكال هَذَا فَقَالَ الْفرق بَين الْمَفْهُوم وَغير
الصَّرِيح من الْمَنْطُوق مَحل تَأمل لم يزدْ على هَذَا ثمَّ
بحثنا كثيرا من كتب الْأُصُول فَلم نجد مَا يزِيل الْإِشْكَال
وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا دلَالَة الْمَفْهُوم التزامية قيل
لَهُم قد جعلتم مَا دلّ بالالتزام منطوقا غير صَرِيح وَإِن
قُلْتُمْ إِنَّهَا مُطَابقَة أَو تضمنا فقد جعلتموها منطوقا
صَرِيحًا ثمَّ لَا تساعدكم قَوَاعِد الْعُلُوم على أَن دلَالَة
اللَّفْظ على مَفْهُومه من أحد الْقسمَيْنِ ثمَّ رَأَيْت فِي
الْآيَات الْبَينَات مَا يدل أَو فَائِدَة على أَنه لَا جَوَاب
للإشكال على هَذَا التَّقْسِيم فَإِنَّهُ قَالَ إِن هَذَا
التَّقْسِيم اخْتصَّ بِهِ ابْن الْحَاجِب وَلَفظه قد كشفت
كثيرا من كتب الْمُتَقَدِّمين الْمُعْتَبرَة الجامعة كالبرهان
لإِمَام الْحَرَمَيْنِ
(1/239)
والقواطع لِابْنِ السعان وَلم يسمح
الزَّمَان بمثلهما وَلَا نسج عَالم على منوالهما والمستصفى
لحجة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ والمحصول للْإِمَام فَخر الدّين
الرَّازِيّ والمنهاج للعلامة الْبَيْضَاوِيّ وشرحيه للأسنوي
وَالْمُصَنّف يُرِيد بِهِ ابْن السُّبْكِيّ وناهيك بهما
والإحكام للآمدي فَلم أر فِيهَا تعرضا لهَذَا الرَّأْي وَلَا
إِشَارَة إِلَيْهِ يُرِيد رَأْي ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه فِي
تَقْسِيم الْمَنْطُوق إِلَى صَرِيح وَغير صَرِيح ثمَّ قَالَ
إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَان مَا نَصه مَا يُسْتَفَاد
من اللَّفْظ نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا يتلَقَّى من الْمَنْطُوق
بِهِ الْمُصَرّح بِذكرِهِ وَالثَّانِي مَا يُسْتَفَاد من
اللَّفْظ وَهُوَ مسكوت لَا ذكر لَهُ على نصيه التَّصْرِيح ثمَّ
قَالَ وَأما مَا لَيْسَ منطوقا بِهِ وَلَكِن الْمَنْطُوق مشْعر
بِهِ فَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الأصوليون الْمَفْهُوم انْتهى
قَالَ صَاحب الْآيَات فَانْظُر هَذَا التَّصْرِيح من هَذَا
الإِمَام حَيْثُ حصر مَا يُسْتَفَاد من اللَّفْظ فِي
نَوْعَيْنِ الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم وَفسّر الْمَنْطُوق
بِمَا يتلَقَّى من الْمَنْطُوق بِهِ الْمُصَرّح بِذكرِهِ فَإِن
هَذَا التَّفْسِير لَا يَشْمَل إِلَّا الْمَعْنى الْمُصَرّح
بِلَفْظِهِ فَلَيْسَ فِي كَلَامه تعرضا لغير الْمَنْطُوق
الصَّرِيح بل كَلَامه كَالصَّرِيحِ فِي عدم إِثْبَات مَنْطُوق
غير الصَّرِيح وَنقل كَلَام غير غير إِمَام الْحَرَمَيْنِ
بِمثل كَلَامه ثمَّ
(1/240)
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ إِن مَا قَالَه ابْن
الْحَاجِب لَيْسَ من كَلَام الْقَوْم بل هُوَ اصْطِلَاح لَهُ
وَإِن تبعه الْهِنْدِيّ وَأطَال الْمقَال وَقد حصل المُرَاد من
أَن الْإِشْكَال مُتَوَجّه على ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه كصاحب
الْفُصُول وَغَايَة السُّؤَال والكافل ونظمه الْجَامِع لما
فِيهِ ثمَّ لما فرع من أَقسَام الْمَنْطُوق أَخذ فِي أَقسَام
الْمَفْهُوم فَقَالَ
فصل فِي الْمَفْهُوم ... وَإِن يدل لَفظه الْمَعْلُوم ... لَا
فِي مَحل النُّطْق فالمفهوم ...
أَي إِن اللَّفْظ الدَّال على معنى إِمَّا أَن يدل بِمحل
النُّطْق وَقد مضى بأقسامه أَو يدل لَا فِي مَحل النُّطْق
كَمَا عرفت فَإِنَّهُ الْمَعْنى المُرَاد الموسوم
بِالْمَفْهُومِ وَقد قسمه الأصوليون إِلَى قسمَيْنِ افادهما
قَوْله ... وَإنَّهُ نَوْعَانِ فالموافقة ... للْحكم فالمنطوق
والمطابقة ...
أَي الْقسم الأول أَن يُوَافق حكم الْمَفْهُوم الْمَنْطُوق
وَلَا يُخَالِفهُ فَلِذَا سمي بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة وَهُوَ
قِسْمَانِ الأول أرشد إِلَيْهِ قَوْله ... إِن كَانَ مَا يسكت
عَنهُ أَولا ... فَإِنَّهُ الفحوى وَهَذَا الأولى ...
هَذَا هُوَ أول قسمي مَفْهُوم الْمُوَافقَة وَيُسمى فحوى
الْخطاب أَي إِن كَانَ مَا سكت عَنهُ أَي لم يلفظ بِهِ أَولا
بالحكم الَّذِي دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فَهُوَ فحوى الْخطاب
قَالَ الزَّرْكَشِيّ إِن الفحوى مَا يفهم من الْكَلَام بطرِيق
الْقطع وَقد مثلناه بقولنَا
(1/241)
.. كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل} ...
اقتباس من آيَة سُبْحَانَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل
لَهما أُفٍّ} فَإِن الَّذِي سكت عَنهُ هُوَ تَحْرِيم الضَّرْب
أَولا بالحكم وَهُوَ التَّحْرِيم من التأفيف الدَّال عَلَيْهِ
الْمَنْطُوق وكالجزاء بِمَا فَوق مِثْقَال الذّرة من قَوْله
تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل
مِثْقَال ذرة شرا يره} وكعدم تأدية القنطار فِي قَوْله
تَعَالَى {وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك}
وَهَذِه الْأَمْثِلَة من قسم التَّنْبِيه بالأدنى على
الْأَعْلَى وَعَكسه الحكم بتأدية الدِّينَار الْمَفْهُوم من
قَوْله {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك}
فَإِنَّهُ يدل على تأدية الدِّينَار بطرِيق الفحوى وَلذَا
قُلْنَا إِنَّه من التَّنْبِيه بالأعلى على الْأَدْنَى
وَعبارَة النّظم شَامِلَة للأمرين فَإِن الْمَسْكُوت فيهمَا
أولى بالحكم من الْمَنْطُوق أَي أَكثر مُنَاسبَة فِي الحكم
فَإِن الأذية بِالضَّرْبِ أَكثر مُنَاسبَة للتَّحْرِيم مِنْهَا
بالتأفيف وَمثله فِيمَا عداهُ من الْأَمْثِلَة وَالْقسم
الثَّانِي من قسمي مَفْهُوم الْمُوَافقَة أَشَارَ إِلَيْهِ
قَوْله ... وَإِن يكن من غير أولى وَيدل ...
أَي إِن يكن غري أولى بل تساوى مَا دلّ عَلَيْهِ الْمَنْطُوق
فِي الحكم وَمَا أفهمهُ الْمَسْكُوت عَنهُ ... فَإِنَّهُ لحن
الْخطاب اسْما ...
أَي فَإِنَّهُ يُسمى عِنْدهم لحن الْخطاب فاسما منتصب على
التَّمْيِيز من الْجُمْلَة الخبرية وَخص بِهَذَا الِاسْم لِأَن
دون قسميه فِي الدّلَالَة لما فِيهِ من الْخَفي واللحن لُغَة
الْعُدُول بالْكلَام عَن الْوَجْه الْمَعْرُوف إِلَى وَجه لَا
يعرف إِلَّا صَاحبه وَهَذَا اصْطِلَاح للْفرق بَين الْقسمَيْنِ
ومثاله تَحْرِيم إحراق مَال الْيَتِيم وإغراقه الْمَفْهُوم من
قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال
الْيَتَامَى} فَإِن دلّ على تَحْرِيم ذَلِك لمساواته للْأَكْل
فِي الْإِتْلَاف
(1/242)
وَاعْلَم أَنه قد اخْتلف أَئِمَّة
الْأُصُول فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل هُوَ بنوعيه من
الْمَفْهُوم أَو من الْقيَاس أَو لَيْسَ من الْمَفْهُوم إِلَّا
مَا هُوَ مِنْهُ بطرِيق الأولى
فَقيل إِنَّه بنوعيه من الْقيَاس لصدق حَده عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
إِلْحَاق مَعْلُوم بِجَامِع مِنْهُمَا وَهَذَا اخْتَارَهُ
صَاحب الْفُصُول وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور
وَقيل بل هُوَ من الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ يفهم ذَلِك مِنْهُ من
لَا يعرف الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَلذَا قَالَ بِهِ كثير من نفاة
الْقيَاس
وَقيل فِي التَّفْصِيل وَهُوَ أَن الْقسم الأول مِنْهُ وَهُوَ
الأولى من الْمَفْهُوم لَا الْمسَاوِي وَهَذَا مَذْهَب ابْن
الْحَاجِب وَوَافَقَهُ آخَرُونَ قَالُوا للْقطع بفهم هَذِه
الْمعَانِي من هَذِه الصِّيَغ فَإِن الْعَرَب إِنَّمَا
يُرِيدُونَ بِمثل هَذِه الْعبارَات الْمُبَالغَة فِي
التَّأْكِيد للْحكم فِي الْموضع الْمَسْكُوت عَنهُ
فَيَقُولُونَ لَا تعطه مِثْقَال ذرة فَيكون أبلغ من الْمَنْع
عَمَّا فَوْقهَا وَهَذَا يعرفهُ كل من يفهم اللُّغَة من دون
نظر واجتهاد قَالُوا بِخِلَاف الْقسم الثَّانِي وَهُوَ
الْمسَاوِي فلخفائه فِي الدّلَالَة يحْتَاج إِلَى نظر واجتهاد
فِي دلَالَته على حكم الْمَسْكُوت عَنهُ وَالنَّظَر هُوَ
بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ
وَقد قيل الْخلاف لَفْظِي وَإنَّهُ لَا تنَافِي بَين القَوْل
بِأَنَّهُمَا من الْقيَاس أَو من الْمَفْهُوم ثمَّ اخْتلف من
أَي الْأَقْسَام دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة على مدلولها
فَقيل إِنَّه حَقِيقَة عرفية بِمَعْنى أَنه فِي الأَصْل
مَوْضُوع للمذكور لَا غير ذَلِك
(1/243)
لَكِن صَارَت اللَّفْظَة اللَّفْظَة فِي
الْعرف تدل عَلَيْهِ وعَلى الْمَسْكُوت مَعًا وَقيل دلَالَته
عَلَيْهِ مجَاز إِذا فهمت دلَالَته من السِّيَاق والقرائن
فَتكون من إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ وَهُوَ رَأْي
الْغَزالِيّ والآمدي وتحقيقه أَنه أطلق التأفيف وَأُرِيد بِهِ
الأذية الشاملة لَهُ وللضرب وَغَيرهمَا مِمَّا يدْخل تَحْتَهُ
وَأورد عَلَيْهِ بِأَن بَين التأفيف وَالضَّرْب التباين لَا
الْخُصُوص والعموم وَأجِيب بِأَن قرينَة إِرَادَة تَعْظِيم
الْأَبَوَيْنِ مثلا وتكريمهما قرينَة تمنع أَن يُرَاد مُجَرّد
التأفيف بل يُرَاد بِهِ تَحْرِيم الاذية بِأَيّ وَجه كَانَت
وَفِي هَذِه كِفَايَة وَفِي المطولات زيادات لَا تحْتَمل هُنَا
ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقسم الآخر من المفاهيم فَقَالَ ... ثمَّ
خُذ الآخر مِنْهَا قسما ...
وَالْآخر هُوَ مَفْهُوم الْمُخَالفَة وَلذَا قَالَ ... واسْمه
المفهمم للمخالفه ... لِأَنَّهُ باينه وَخَالفهُ ...
بَيَان لوجه التَّسْمِيَة وَهُوَ أَن الْمَفْهُوم باين مَا دلّ
عَلَيْهِ الْمَنْطُوق وَخَالفهُ فَسُمي بِهِ كَمَا يُسمى الأول
بالموافقة لما وَافق مَا دلّ عَلَيْهِ الْمَنْطُوق وَيُسمى
أَيْضا دَلِيل الْخطاب كَمَا قَالَ ... واسْمه الدَّلِيل
للخطاب ...
لِأَن دلَالَته من جنس دلَالَة الْخطاب أَو لِأَن الْخطاب دَال
عَلَيْهِ
وَهُوَ سِتَّة أَقسَام كَمَا دلّ لَهُ قَوْله ... أقسامه
السِّتَّة فِي الْكتاب ...
اللَّام للْعهد الْخَارِجِي أَي الْكتاب الكافل الَّذِي هُوَ
أصل النّظم ثمَّ ذكرهَا وبدا بِمَفْهُوم اللقب ترقيا من الأضعف
إِلَى الْأَقْوَى فَقَالَ
(1/244)
5 - ... أضعفها الْمَفْهُوم للألقاب ...
أهملها جمَاعَة الْأَصْحَاب ...
المُرَاد من اللقب مَا يَشْمَل الْعلم كزيد وَالْجِنْس كغنم
وَقد يعبر عَنهُ بِمَفْهُوم الِاسْم وَأكْثر الْعلمَاء على عدم
الْعَمَل بِهِ وَخَالف فِيهِ جمَاعَة
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ القَوْل باللقب صَار إِلَيْهِ
طوائف من أَصْحَابنَا وَنسب إِلَى احْمَد وَمَالك
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد اللقب لَيْسَ بِحجَّة إِذا لم يُوجد
فِيهِ رَائِحَة من التَّعْلِيل فَإِن وجدت كَانَ حجَّة
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا
اسْتَأْذَنت أحدكُم امْرَأَته إِلَى الْمَسْجِد فَلَا
يمْنَعهَا فَإِنَّهُ يحْتَج بِهِ على أَن للرجل أَن يمْنَعهَا
إِذا أستأذنته إِلَى غير الْمَسْجِد لِأَن تَخْصِيص عدم
الْمَنْع بِالْخرُوجِ إِلَى الْمَسْجِد قد اشْتَمَل على معنى
مُنَاسِب وَهُوَ كَونه محلا لِلْعِبَادَةِ بِخِلَاف غَيره
وَالْأَظْهَر أَن فَائِدَة تَخْصِيص الشَّارِع بِذكر اللقب
هُوَ ربط الحكم وتعليقه بِهِ دون غَيره مِمَّا يفهم مِنْهُ
فَلم يحكم عَلَيْهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات مِثَاله قَوْله
تَعَالَى {اسجدوا لآدَم} تَعْلِيق بِالْأَمر للسُّجُود لآدَم
دَال على أَن غَيره لَيْسَ بمأمور للسُّجُود لَهُ وَلَا
مَنْهِيّ عَنهُ وَهَذَا هُوَ كفائدة تَخْصِيص ذكر الصّفة فِي
القَوْل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة وَيَأْتِي تَحْقِيق
ذَلِك بِأَنَّهُ إِذا لم يظْهر لَهَا فَائِدَة غير تَعْلِيق
الحكم عَلَيْهَا تعيّنت لذَلِك وَلَا ينْهض دَلِيل على غير
هَذَا كَمَا يَأْتِي فِي الِاسْتِدْلَال على الْعَمَل
بِبَقِيَّة المفاهيم إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ أَخذ فِي
ذكر بَقِيَّة المفاهيم فَقَالَ ... فالوصف ثمَّ الشَّرْط ثمَّ
الغايه ... وَالْعد ثمَّ الْحصْر فِي الدِّرَايَة ...
أحَاط النّظم بِخَمْسَة أَنْوَاع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة
فَالْأول الصّفة وَالْمرَاد
(1/245)
هُنَا بهَا لفظ مُقَيّد لآخر غير مُنْفَصِل
عَنهُ يُفِيد نقص الشُّيُوع أَو تقليل الِاشْتِرَاك لَيْسَ
بِشَرْط وَلَا اسْتثِْنَاء وَلَا غَايَة ولاعدد فَيدْخل التقيد
بِطرف الزَّمَان نَحْو {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} {إِذا نُودي
للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} وَالْمَكَان لَا تمنعوا إِمَاء
الله مَسَاجِد الله
وَاعْلَم أَن حَقِيقَة الصّفة مَا وضع ليدل على الذَّات
بِاعْتِبَار معنى ذَلِك الْمَعْنى هُوَ الْمَقْصُود ويقابلها
مَا يكون الْمَقْصُود أَولا وبالذات هُوَ الذَّات وَلَا
يُلَاحظ سواهُ من حَيْثُ كَونهَا مَقْصُودَة وَلَا تخرج الصّفة
عَن هَذَا الْمَعْنى سَوَاء كَانَت بطرِيق التوصيف أَو الحالية
أَو الْإِضَافَة وَهَذَا مُرَاد أهل الْأُصُول من قَوْلهم هِيَ
لفظ مُقَيّد لآخر لِأَن الصّفة قيد من الْقُيُود للمحكوم
عَلَيْهِ والقيود هِيَ الْمعَانِي الَّتِي وضعت لتقييد الذوات
فَالْمُرَاد من قَوْلهم لفظ مُقَيّد لآخر مَا يصلح أَن يكون
قيدا وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا فِيمَا يدل على الذَّات
بِاعْتِبَار معنى هُوَ الْمَقْصُود وَقَوْلهمْ لآخر أَعم من
أَن يكون ذَلِك الآخر ملفوظا أَو مُقَدرا لما علم من أَن
الْمُقدر كالملفوظ مَعَ الْقَرِينَة ولأجلها يحذف الْمَوْصُوف
تَارَة وَالصّفة أُخْرَى كَمَا هُوَ مُقَرر فِي مَوْضِعه
وَإِذا عرفت هَذَا عرفت أَنه لَا فرق بَين قَوْلنَا فِي الْغنم
السَّائِمَة زَكَاة أَو قَوْلنَا فِي سَائِمَة الْغنم زَكَاة
فَإِن مفهومها أَنه لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم وتعرف أَن
تَفْرِقَة ابْن السُّبْكِيّ بَينا لماثلية أَن
(1/246)
الْمُقَيد فِي الْمِثَال الأول الْغنم
بِوَصْف السّوم وَفِي الثَّانِيَة السَّائِمَة بِوَصْف كَونهَا
من الْغنم وَأَن مَفْهُوم الأول عدم وجوب الزَّكَاة فِي الْغنم
العلوفة الَّتِي لَوْلَا التَّقْيِيد بالسوم لشملها لفظ الْغنم
وَمَفْهُوم الثَّانِي عدم الْوُجُوب فِي سَائِمَة غير الْغنم
كالبقر مثلا الَّتِي لَوْلَا تَقْيِيد السَّائِمَة بإضافتها
إِلَى الْغنم لشملها ويزيده وضوحا ان لقولنا فِي الْغنم
السَّائِمَة زَكَاة منطوقا وَمَفْهُوم الصّفة وَمَفْهُوم لقب
وَهُوَ بقولنَا بسائمة الْغنم زَكَاة منطوقا وَمَفْهُوم الصّفة
وَمَفْهُوم لقب منطوقهماواحد هُوَ وجوب الزَّكَاة فِي
السَّائِمَة من الْغنم وَمَفْهُوم الصّفة فيهمَا مُخْتَلف
فمفهوم الأول عدم الْوُجُوب فِي الْغنم المعلوفة وَمَفْهُوم
الثَّانِي عدم الْوُجُوب فِي غير الْغنم وَمَفْهُوم اللقب
فيهمَا مُخْتَلف أَيْضا فَإِن مَفْهُوم الأول عدم الْوُجُوب
فِي غير الْغنم وَمَفْهُوم الثَّانِي عدم الْوُجُوب فِي غير
السَّائِمَة غير صَحِيحَة لِأَن قَوْلنَا فِي السَّائِمَة
زَكَاة مِمَّا حذف فِيهِ الْمَوْصُوف كَمَا عَلَيْهِ
الْجُمْهُور وَأَصله فِي الْغنم السَّائِمَة فَجعل الصّفة فِي
سَائِمَة الْغنم وَلَفظ الْغنم من تقليب المفاهيم وتعكيس
الْكَلَام وَكَذَا جعله للسائمة زَكَاة من مَفْهُوم اللقب
بَاطِل لِأَن الْمَوْصُوف مُقَدّر لِأَن السَّائِمَة فِي
نَفسهَا يتَعَيَّن أَن تكون صفة فَإِن السّوم حَال من أَحْوَال
الْغنم ضَرُورَة لغوية وعقلية وَقد وَقع بحث فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة بَين مُؤَلَّفِي الفواصل رَحِمهم الله تَعَالَى
وَبَين شَيْخه وَأَبَان شَيْخه هَذَا التَّحْقِيق
وَاسْتَحْسنهُ ورد بِهِ على ابْن السُّبْكِيّ وَقد بَسطه فِي
مَوضِع آخر
إِذا تقرر هَذَا فقد اخْتلف فِي كَون مَفْهُوم الصِّحَّة حجَّة
على أَقْوَال
الأول للْأَكْثَر أَنه حجَّة لشرائط ستأتي وَمَعْنَاهُ أَنه
إِذا ورد من الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نَص مُعَلّق بِصفة مَا أَو زمَان مَا أَو بِعَدَد مَا فَإِن
مَا عدا تِلْكَ الصّفة وَمَا عدا ذَلِك الزَّمَان وَمَا عدا
ذَلِك الْعدَد يجب أَن يحكم فِيهِ بِخِلَاف الحكم فِي هَذَا
الْمَنْصُوص فَإِن تَعْلِيق الحكم بالأحوال الْمَذْكُورَة
دَلِيل على أَن مَا عَداهَا مُخَالف لَهَا وَذَلِكَ إِذا ذكرت
الصّفة مَعَ موصوفها لَا إِذا ذكرت مُفْردَة نَحْو فِي
السَّائِمَة زَكَاة فَفِيهِ اخْتِلَاف وَالشّرط فِي الْعَمَل
بهَا أَن لَا يكون لَهَا فَائِدَة سوى نفي الحكم
(1/247)
وَالْقَوْل الثَّانِي لَيْسَ بِحجَّة
وَهُوَ قَول كثير من أَئِمَّة الزيدية
الثَّالِث التَّفْصِيل لِأَنَّهَا إِن كَانَت الصّفة مُنَاسبَة
للْحكم فحجة نَحْو فِي الْغنم السائم زَكَاة لَا إِذا لم تكن
مُنَاسبَة نَحْو فِي الْغنم العفر زَكَاة
الرَّابِع تَفْصِيل أَيْضا هَذَا وَهُوَ أَنه حجَّة فِي صور
ثَلَاث الأولى أَن يرد الْخطاب للْبَيَان الثَّانِيَة أَن يرد
للتعليم أَي ابْتِدَاء حكم لم يسْبق ذكره مُجملا وَلَا مفصلا
الثَّالِثَة ان يكون مَا عدا الصّفة دَاخل تحتهَا بشرائط ستأتي
وَقَالَ بِعَدَمِ حجيته مُطلقًا جمَاعَة من الْأَئِمَّة
وَغَيرهم وَمن أهل الْبَيْت الْمَنْصُور وَالْإِمَام يحيى
قَالَ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الزيدية والجماهير من
الْمُعْتَزلَة ومحققو الأشعرية كالجويني وَالْغَزالِيّ والرازي
والباقلاني وَغَيرهم قَالَ الْأَولونَ لَو لم يعْتَبر لخلي
ذكره عَن الْفَائِدَة وَذَلِكَ يمْتَنع من الْحَكِيم فَهُوَ
أولى بِالِاعْتِبَارِ من دلَالَة التَّنْبِيه وَقد قُلْتُمْ
باعتبارها
ورد بِأَن فَائِدَته تشخيص مناطق الحكم فَهُوَ لتَحْصِيل أصل
الْمَعْنى فَهُوَ كاللقب فَإِن قَوْلك أكْرم زيدا التَّمِيمِي
أوقعت الْأَمر بالإكرام على زيد الْمُقَيد بِكَوْنِهِ تميما
وَلَيْسَ على زيد فَقَط وللموصوف بِالصّفةِ فَهِيَ دَاخِلَة
فِي مَفْهُومه فَلَا يلْزم من إِيقَاع الْأَمر عَلَيْهِ
اخْتِصَاصه بِهِ كَمَا هُوَ الْمُدَّعِي بل غَايَته
(1/248)
بَقَاء غير الْمَذْكُور فِي حيّز
الِاحْتِمَال فَإِن كل قَضِيَّة وخطاب فَإِنَّمَا يعطيك مَا
فِيهِ من حكم فَقَط وَلَا يعطيك حكما فِي غَيره بِأَنَّهُ
مُوَافق لَهُ أَو مُخَالف بل ذَلِك مَوْقُوف على دليليه
فَقَوْل الْجُمْهُور إِذا لم يعْتَبر الْمَفْهُوم لم يكن
لتخصيص مَحل النُّطْق بِالذكر فَائِدَة بَاطِل إِذْ فَائِدَة
ذكر الصّفة تعْيين من أُرِيد بِالْأَمر بإكرامه فِي الْمِثَال
الَّذِي ذكرنَا وَكَيف تطلب فَائِدَة زَائِدَة على فَائِدَة
الْوَضع أَلا ترى أَن زيد الْقَيْسِي مثلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
مثالنا يحْتَمل ثَلَاثَة أَحْوَال الْأَمر بإكرامه أَو
النَّهْي عَن إكرامه أَو السُّكُوت عَنهُ لَيْسَ مَأْمُورا
بإكرامه اتِّفَاقًا ومدعي الْمَفْهُوم بقول هُوَ مَنْهِيّ عَن
إكرامه وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ إِذا وضع الصّفة لتقليل
الِاشْتِرَاك وَقد حصل فَلَو أَن زيدا الْقَيْسِي مسكوت عَنهُ
وَبِهَذَا يعرف أَن مَفْهُوم الصّفة كمفهوم اللقب وَأَنه يخْتل
الْكَلَام عِنْد إِسْقَاط الصّفة لِأَن الْمَأْمُور بِهِ إكرام
زيد التَّمِيمِي لوُجُود هَذِه الصّفة فَلَا يتم امْتِثَال
الْأَمر إِلَّا بهما وَإِلَّا لاختل الْكَلَام وَمثله إِذا قلت
جَاءَنِي زيد الطَّوِيل فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمسند إِلَيْهِ
مُسَمّى زيد فَقَط بل الْمَوْصُوف بالطويل فالصفة دَاخِلَة فِي
مَفْهُوم الْمسند إِلَيْهِ فَهِيَ لتَحْصِيل معنى يخْتل
الْكَلَام من دونه وَلَا تدل على اخْتِصَاصه بالمجيء وَإِن
زيدا الْقصير مثلا مَا جَاءَ بل هُوَ مسكوت عَن الحكم عَلَيْهِ
يحْتَمل أَنه جَاءَ وَأَنه لن يَجِيء وَأَنه لم يخْطر بالبال
مَجِيئه وَعَدَمه
الثَّانِي فِي الْبَيْت مَفْهُوم الشَّرْط وَالْمرَاد بِهِ مَا
علق من الحكم على شَيْء بأداة شَرط وَهُوَ الشَّرْط اللّغَوِيّ
وَاعْلَم أَنه لَا خلاف فِي أَنه يثبت الْمَشْرُوط عِنْد
ثُبُوت الشَّرْط بِدلَالَة إِن عَلَيْهِ وَفِي أَنه يعْدم
الْمَشْرُوط عِنْد عدم الشَّرْط وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن
عدم الْمَشْرُوط مُسْتَفَاد من دلَالَة إِن عَلَيْهِ أَو هُوَ
مُنْتَفٍ بِالْأَصْلِ كمن قَالَ بِالْمَفْهُومِ انْتَفَى
بِدلَالَة إِن على انتفائه وَمن لم يقل بِهِ قَالَ الأَصْل
الْعَدَم وَلذَا يُقَال الْمُعَلق بِالشّرطِ عدم قبُول وجود
الشَّرْط
وَالثَّالِث مِنْهُ مَفْهُوم الْغَايَة وَهُوَ مد الحكم إِلَى
غَايَة بإلى وَحَتَّى ومثاله {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى
اللَّيْل} {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن}
(1/249)
قَالَ الزَّرْكَشِيّ نَص الشَّافِعِي فِي
الْأُم على القَوْل بِهِ وَمِنْهُم من أنكرهُ وَقَالَ هُوَ نطق
لما قبل الْغَايَة وسكوت عَمَّا بعْدهَا فَيبقى على مَا كَانَ
عَلَيْهِ
الرَّابِع مِنْهُ مَفْهُوم الْعدَد نَحْو قَوْله تَعَالَى
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} فالقائل بِهِ يَقُول
أَفَادَ تَحْرِيم الزِّيَادَة عَلَيْهَا وَفِيه خلاف بَين
الْعلمَاء مِنْهُم من لم يقل بِهِ وَيَقُول تحرم الزِّيَادَة
على الثَّمَانِينَ مَعْلُوم من أَن الأَصْل حُرْمَة الْمُسلم
وَتَحْرِيم ضربه
الْخَامِس مِنْهُ مَفْهُوم الْحصْر نَحْو {إِنَّمَا الصَّدقَات
للْفُقَرَاء} وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن اعْتِقْ اخْتلف فِيهِ
فنفاه قوم وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه مَنْطُوق فَإِن الْمِثَال
الثَّانِي أَفَادَ إِثْبَات الْوَلَاء للْمُعْتق بالمنطوق
ونفيه عَن غَيره بِالْمَفْهُومِ وَمِنْه النَّفْي بِمَا أَو
لَا وَالِاسْتِثْنَاء نَحْو لَا عَالم إِلَّا زيد وَمَا علم
إِلَّا زيد صَرِيح فِي نفي الْعلم عَن غير زيد وَيَقْتَضِي
إِثْبَات الْعلم لَهُ وجانب الْإِثْبَات فِيهِ أظهر فَلِذَا
جَعَلُوهُ منطوقا فَيُفِيد الْإِثْبَات منطوقا والتقي مفهوما
وَقد أنكرهُ قوم كَمَا يَأْتِي فِي بحث الِاسْتِثْنَاء وَقوم
قَالُوا إِنَّه مَنْطُوق وَالْأَكْثَر قَالُوا إِنَّه مَفْهُوم
(1/250)
وَمن طرق الْحصْر ضمير الْفَصْل نَحْو زيد
هُوَ الْقَائِم ويفيد إِثْبَات الْقيام لَهُ ونفيه عَن غَيره
وَمِنْه {فَالله هُوَ الْوَلِيّ} بعد قَوْله {أم اتَّخذُوا من
دونه أَوْلِيَاء} وَقَوله {إِن شانئك هُوَ الأبتر} ذكره
أَئِمَّة علم الْبَيَان
وَمن طرقه تَقْدِيم الْمَعْمُول نَحْو {إياك نعْبد وَإِيَّاك
نستعين} أَي نخصك بِالْعبَادَة والاستعانة
وَله طرق أخر مَعْرُوفَة فِي علم الْبَيَان ومطولات الْفَنّ
قَالَ فِي جمع الْجَوَامِع إِن أَعْلَاهُ لَا عَالم إِلَّا زيد
أَي النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء وأشرنا ان قوما يجْعَلُونَ
مَفْهُوم الْحصْر منطوقا وَقَالَ آخَرُونَ إِن الْعدَد أَيْضا
مِنْهُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله
وَقيل منطوقان عِنْد الْبَعْض
وَهُوَ لَدَى التَّحْقِيق غير مرض
عبارَة أصل النّظم وَقيل هما أَي الْمُقدم ذكرهمَا فِي كَلَامه
وَهُوَ الْعدَد والحصر بإنما من الْمَنْطُوق فضميرهما فِي
كَلَام الأَصْل للعدد والحصر بإنما قيل وَلم يقل أحد بِأَن
مَفْهُوم الْعدَد مَنْطُوق فَلَا يَصح كَلَام أصل النّظم
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْحصْر بِمَا وَإِلَّا قَالَ بعض
الجدليين إِنَّه مَنْطُوق بِدَلِيل أَنه لَو قَالَ مَا لَهُ
عَليّ إِلَّا دِينَار كَانَ إِقْرَارا بالدينار حَتَّى يُؤَاخذ
بِهِ فلولا أَنه مَنْطُوق لما ثبتَتْ الْمُؤَاخَذَة بِهِ لِأَن
دلَالَة الْمَفْهُوم لَا تعْتَبر فِي الأقارير بالِاتِّفَاقِ
وَأَشَارَ فِي جمع الْجَوَامِع أَنه قيل إِنَّه مَنْطُوق
أَيْضا
وَاعْلَم أَن ترتيبها عِنْدهم فِي الْقُوَّة كَمَا رتبناه نظما
وَفِيه بعد ذَلِك خلاف وَأَنه لَا بُد للْعَمَل بِالْمَفْهُومِ
عِنْد الْقَائِلين بِهِ من شُرُوط تضمنها قَوْله
هَذَا وَشرط الْأَخْذ بِالْمَفْهُومِ
مَا قد أَتَى فَخذه من منظوم ... أَن لَا يكون مخرجا للأغلب
وَلَا جَوَابا لسؤال أَجْنَبِي
(1/251)
أَي للأخذ بِالْمَفْهُومِ وَالْعَمَل بِهِ
شَرَائِط
الأول أَلا يكون خرج مخرج الْأَغْلَب لِأَنَّهُ يكون كالوصف
الكاشف نَحْو الْجِسْم الطَّوِيل العريض العميق يحْتَاج إِلَى
فرَاغ يشْغلهُ فَإِنَّهُ لَا مَفْهُوم لهَذِهِ الصِّفَات وَمثل
الأصوليون ذَلِك بقوله تَعَالَى {وربائبكم اللَّاتِي فِي
حجوركم} التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ وَهُوَ الْكَوْن فِي الْحجر
لكَونه الْأَغْلَب فِي الربيبة وَمثله {وَإِن كُنْتُم على سفر
وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة} فالتقييد بِالسَّفرِ
يكون عدم وجدنَا الْكَاتِب فِيهِ هُوَ الْغَالِب فَيصح
الرَّهْن فِي الْحَضَر قَالَ فِي شرح الأَصْل لم يرد فِي ذَلِك
أَي قيد الْكَوْن فِي الحجور أَن الربائب إِذا لم يكن فِي
الْحجر كَانَ حَلَالا للْإِجْمَاع على تَحْرِيم الربيبة
مُطلقًا انْتهى وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ فِيهِ خلاف دَاوُد
وَمَالك وَفِيه رِوَايَة عَن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ
السَّلَام أَنَّهَا إِذا كَانَت بعيدَة حلت لَهُ ذكره ابْن
عَطِيَّة وَغَيره مُسْندًا وَفِيه خلاف كثير لجَماعَة من
الْمُحَقِّقين وَخَالف فِي هَذَا الشَّرْط إِمَام
الْحَرَمَيْنِ وَابْن عبد السلام
الثَّانِي من الشُّرُوط أَن لَا يكون جَوَابا لسؤال سَائل
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عجز الْبَيْت وَذَلِكَ كَأَن يَقُول
السَّائِل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة فيجاب عَلَيْهِ بِأَن
فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة فَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ أَن
المعلوفة لَا زَكَاة فِيهَا
وَالثَّالِث مِنْهُ قَوْله ... وَلَا أَتَى فِي حَادث تجلدا
... وَلَيْسَ فِي جَهَالَة قد وردا ...
(1/252)
أَي من شَرط الْأَخْذ بِالْمَفْهُومِ أَن
لَا يَأْتِي بِسَبَب حَادِثَة تَجَدَّدَتْ كَأَن يُقَال فِي
حَضرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفُلَان غنم سَائِمَة فَيَقُول
فِيهَا زَكَاة فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِهَذَا الْمَفْهُوم
وَمِثَال الثَّانِي أَن يعْتَقد الْمُكَلف أَن فِي المعلوفة
زَكَاة وَلم يعلمهَا فِي السَّائِمَة فَيَقُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّائِمَة زَكَاة فَلَا يُؤْخَذ بِهَذَا
الْمَفْهُوم قَالُوا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد
فِي الأول التَّقْيِيد بل أَرَادَ مُطَابقَة السُّؤَال
وَفِي الثَّانِي بَيَان أَنَّهَا فِي السَّائِمَة كَمَا فِي
المعلوفة قَالُوا وَلما كَانَت دلَالَة الْمَفْهُوم من أَضْعَف
الدلالات تصرفها أدنى فَائِدَة تظهر بِخِلَاف اللَّفْظ الْعَام
إِذا ورد على سَبَب خَاص أَو حَادِثَة فَإِن الْعبْرَة
بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب لِأَن الْعَام قوي
الدّلَالَة على إِفْرَاده حَتَّى ادَّعَت الْحَنَفِيَّة أَنه
قَطْعِيّ الدّلَالَة على كل فَرد من أَفْرَاده فَهَذِهِ
الْأَرْبَعَة الشُّرُوط كَمَا ذكره تَنْبِيها على فَوَائِد
الْقُيُود وَأَنَّهَا إِذا تعيّنت فَائِدَة مِنْهَا لم يبْق
على اعْتِبَار الْمَفْهُوم دَلِيل
قَالُوا وَمن شَرط الْأَخْذ بِهِ أَن لَا يكون للمتكلم غَرَض
غير الْمَفْهُوم فَيُؤْخَذ بِهِ لِئَلَّا يَخْلُو كَلَام
الْحَكِيم عَن حِكْمَة وغرض وَفَائِدَة
قَالَ فِي نجاح الطَّالِب يُقَال لَهُم الْوَحْي مُخْتَصّ
بعلام الغيوب وَمَا عندنَا من معرفَة حكمه الأمثل مَا يَأْخُذ
الْمخيط من الْبَحْر {قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات
رَبِّي} الْآيَة {وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة
أَقْلَام} فَإِذا كَانَ هَذَا حَالنَا الَّذِي لَا نفك عَنهُ
فَكيف نعلم أَو نظن نفي جَمِيع حكمه فِي أَمر مَا هَذَا إِلَّا
حَالَة على الْمحَال انْتهى قلت وَنعم مَا قَالَ وَكَانَ
الْأَحْسَن أَن يَقُول معرفَة الله مُرَاد الله للشَّيْء لَا
تكون
(1/253)
إِلَّا بِالْوَحْي وَمَعْرِفَة عدم
إِرَادَة الْعباد لَا يعرفهَا إِلَّا خالقهم وَلما كَانَت
الْفَوَائِد لَا تنحضر فِيمَا ذَكرْنَاهُ أَتَى النّظم بضابط
فَقَالَ ... وَغَيره مِمَّا اقْتضى التخصيصا ... لذكره فَاتبع
التنصيصا ...
أَي وَغير مَا ذكرنَا مِمَّا اقْتضى تَخْصِيص الحكم
الْمَذْكُور بالقيد كزيادة الامتنان فِي قَوْله {لتأكلوا
مِنْهُ لَحْمًا طريا} فَلَا يدل على نفي الْأكل من القديد
والتهويل مثل {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} فَلَا
يُفِيد حل أكله إِذا لم يكن كَذَلِك وَالتَّعْبِير للمخاطب
نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على
الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} بِأَنَّهُ من لَيْسَ بِأَهْل
للعفة قد أرادها دون أَهلهَا وكقصد التكثير فالألف وَالسبْعين
كَقَوْلِك جئْتُك ألف مرّة أَو سبعين وَلم يرد إِلَّا التكثير
فالألف لَا حَقِيقَة الْعدَد فَقَوْلهم أَسمَاء الْعدَد نُصُوص
فِيمَا وضعت لَهُ المُرَاد إِذا لم تقم قرينَة تصرفها عَنهُ
وَالْحَاصِل أَنه لَا يعْتَبر الْمَفْهُوم إِلَّا بِأَن لَا
يظْهر للقيد فَائِدَة تَقْتَضِي تَخْصِيصه بِالذكر سوى نفي
الحكم وعَلى هَذَا اقْتصر جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول
وَاعْلَم أَن للنَّاس ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْمَفْهُوم الأول
القَوْل بِهِ حَتَّى مَفْهُوم اللقب قَالَ بِهِ الدقاق
والصيرفي وَالثَّانِي عدم القَوْل بِهِ وَهُوَ رَأْي جمَاعَة
كَثِيرَة مِنْهُم الظَّاهِرِيَّة قَالَ ابْن حزم كل خطاب وكل
قَضِيَّة فَإِن مَا تعطيك مَا فِيهَا فَقَط وَلَا تعطيك حكما
فِي غَيرهَا لِأَن مَا عَداهَا مُوَافق لَهَا وَلِأَنَّهُ
مُخَالف لَهَا لَكِن كل مَا عَداهَا مَوْقُوف على دَلِيله فنفى
مَفْهُوم الْمُوَافقَة
(1/254)
وَمَفْهُوم الْمُخَالفَة وَأطَال فِي رد
الْأَمْثِلَة وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم ينكرونه
لَكِن لَهُم تفاصيل أخر
وَاعْلَم أَنه لما شاع عَن الْحَنَفِيَّة نفي المفاهيم هجن
عَلَيْهِم من لم يُحَقّق مُرَادهم بِأَنَّهُ يلْزمه أَن تكون
كلمة التَّوْحِيد غير دَالَّة على إِثْبَات الإلهية لله
تَعَالَى وَهَذَا يُخَالف مَا أتفق عَلَيْهِ من إِثْبَاتهَا
لَهُ تَعَالَى أَمر لَا نزاع فِيهِ فرايت أَن أنقل نصهم من
الْمنَار وَشَرحه ليعرف مُرَادهم قَالَ وَالِاسْتِثْنَاء
يمْنَع التَّكَلُّم بِحكمِهِ أَي مَعَ حكمه بِقدر المستثني
أَي يمْنَع فِي الْمُسْتَثْنى نظرا إِلَى الظَّاهِر لعدم
الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِقدر
المستثني فيسير التَّكَلُّم بِهِ عبارَة عَمَّا وَرَاء
الْمُسْتَثْنى فَيكون الِاسْتِثْنَاء مَانِعا للموجب والموجب
جَمِيعًا بِقدر الْمُسْتَثْنى فينعدم الحكم فالاستثناء
لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ من صُورَة التَّكَلُّم
فَيجْعَل الِاسْتِثْنَاء تكلما بِالْبَاقِي بعده أَي بعد
الْمُسْتَثْنى وَعند الشَّافِعِي يمْنَع الحكم بطرِيق
الْمُعَارضَة يَعْنِي الْمُوجب لَا الْمُوجب كَمَا فِي
التَّعْلِيق وَعِنْدنَا يمْنَع كليهمَا كَمَا فِي التَّعْلِيق
فَصَارَ تَقْدِير قَول الرجل لفُلَان عَليّ ألف إِلَّا مئة
عندنَا ثَبت لفُلَان عَليّ تسع مئة وَأَنه لم يتَكَلَّم
بِالْألف فِي حق لُزُوم المئة وَعِنْده أَي الشَّافِعِي إِلَّا
مئة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ فَإِن صدر الْكَلَام يُوجِبهُ
وَالِاسْتِثْنَاء يَنْفِيه فتعارضا فتساقط بِقدر الْمُسْتَثْنى
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة
على أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات
نفي وَهَذَا دَلِيل على أَن حكمه يُعَارض حكم الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ وَلِأَن
(1/255)
قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله للتوحيد أَي
وضع لإفادته وَمَعْنَاهُ النَّفْي وَالْإِثْبَات فَلَو كَانَ
تكلما بِالْبَاقِي لَكَانَ نفيا لغيره أَي نفيا لما سوى الله
تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاقِي بعد الِاسْتِثْنَاء لإثباته
للألوهية لله فَيصح من كَونهَا كلمة التَّوْحِيد بِالْإِجْمَاع
أَن معنى قَوْلنَا إِلَّا الله أَنه الْإِلَه بطرِيق
الْمُعَارضَة وَلنَا قَوْله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة
إِلَّا خمسين عَاما} وَسُقُوط الحكم بطرِيق الْمُعَارضَة فِي
الْإِيجَاب يكون أَي الْإِنْشَاء يثبت لَا فِي الْأَخْبَار
لِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْألف بجملته ثمَّ عَارضه
الِاسْتِثْنَاء فِي الْخمسين لزم كَونه نافيا لما أثْبته أَولا
فَلَزِمَ الْكَذِب فِي أحد الْأَمريْنِ تَعَالَى الله عَن
ذَلِك وَمن أدلتهم أَي الْحَنَفِيَّة أَن أهل اللُّغَة قَالُوا
الِاسْتِثْنَاء اسْتِخْرَاج وَتكلم بِالْبَاقِي الثنيا أَي
الْمُسْتَثْنى كَمَا قَالُوا إِنَّه من النَّفْي إِثْبَات وَمن
الْإِثْبَات نفي وَإِذا ثَبت الْوَجْهَانِ وَجب الْجمع
بَينهمَا لانه هُوَ الأَصْل
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة نقُول إِنَّه تكلم بِالْبَاقِي
بِوَضْعِهِ أَي بحقيقته وَعبارَته لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُود
الَّذِي سيق الْكَلَام لأَجله وَنفي وَإِثْبَات بإشارته
لِأَنَّهُمَا فهما من الصِّيغَة من غير أَن يكون سوق الْكَلَام
لأجلهما لِأَنَّهُمَا غير مذكورين فِي الْمُسْتَثْنى قصدا
لَكِن لما كَانَ حكمه خلاف حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ ثَبت
النَّفْي وَالْإِثْبَات ضَرُورَة لِأَنَّهُ حكمه يتَوَقَّف
بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا يتَوَقَّف بالغاية فَإِذا لم يبْق بعد
الِاسْتِثْنَاء ظهر النَّفْي لعدم عِلّة الْإِثْبَات وَسمي
نفيا مجَازًا
تَحْقِيق ذَلِك أَن الِاسْتِثْنَاء بِمَنْزِلَة الْغَايَة من
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لكَون الِاسْتِثْنَاء بَيَانا أَنه
لَيْسَ مرَادا من الصَّدْر كَمَا أَن الْغَايَة بَيَان
أَنَّهَا لَيست مُرَاده من المغيا
(1/256)
فَكَمَا أَن الِاسْتِثْنَاء يدْخل على
النَّفْي فينتهي بالوجود وعَلى الْإِثْبَات فينتهي بِالنَّفْيِ
فَكَذَلِك الْغَايَة يَنْتَهِي بهَا الحكم السَّابِق إِلَى
خِلَافه وَهَذَا الْمَجْمُوع ثَابت بِحَسب اللُّغَة لَكِن لما
كَانَ الصَّدْر مَقْصُودا جَعَلْنَاهُ عبارَة وَالثَّانِي لما
لم يكن مَقْصُودا بل ليتم بِهِ الصَّدْر جَعَلْنَاهُ إِشَارَة
وَلذَلِك اختير فِي كلمة التَّوْحِيد لَا إِلَه إِلَّا الله
ليكن إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى إِشَارَة ونفيها قصدا
لِأَن المهم فِي كلمة التَّوْحِيد نفي الشَّرِيك مَعَ الله
تَعَالَى لِأَن الْمُشْركين أشركوا مَعَه غَيره فَيحْتَاج
إِلَى النَّفْي قصدا وَأما إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى
فمفروغ مِنْهُ غير مُحْتَاج إِلَى اثباته بِالْقَصْدِ لِأَن كل
عَاقل معترف بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَئِن سَأَلتهمْ من
خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} فَيَكْفِي فِي
إِثْبَات ذَلِك الْإِشَارَة وَهَذَا الْحصْر من قبيل قصر
الْإِفْرَاد
وَلقَائِل أَن يَقُول الِاسْتِثْنَاء نَص فِي خُرُوج حكم
الْمُسْتَثْنى من حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حَتَّى لَا يَصح
إِثْبَات مثل حكمه مَعَه بِخِلَاف الْغَايَة فَإِنَّهُ لَيْسَ
كَذَلِك حَتَّى يَصح سرت إِلَى الْبَصْرَة وجاوزته وَلَا يَصح
أَن تَقول جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا زيدا فَإِنَّهُ جَاءَ
هَكَذَا أوردهُ شَارِح الْمنَار على أَصْحَابه وَلم يجب عَنهُ
ثمَّ قَالَ وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَ الشَّافِعِي إِنَّمَا
يكون بطرِيق الْمُعَارضَة يَسْتَوِي فِيهِ الْبَعْض وَالْكل
كالنسخ فَإِن نسخ الْكل جَائِز كبعضه وَلم يستو الْكل
وَالْبَعْض فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِن اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل
اتِّفَاقًا لَا يُقَال إِنَّمَا لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل
لِأَنَّهُ رُجُوع بعد الْإِقْرَار لأَنا نقُول لَا يَصح
اسْتثِْنَاء الْكل فِيمَا يَصح فِيهِ الرُّجُوع كَالْوَصِيَّةِ
فَإِنَّهُ يَصح الرُّجُوع عَنْهَا وَمَعَ هَذَا لَا يَصح
اسْتثِْنَاء الْكل فَلَو قَالَ أوصيت بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث
مَالِي فالاستثناء بَاطِل لِأَنَّهُ لم يبْق بعد
الِاسْتِثْنَاء شَيْء يكون الْكَلَام عبارَة عَنهُ
وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض وَهُوَ غير مَعْقُول
بِخِلَاف نسخ الْكل فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ
لاخْتِلَاف الزَّمَان انْتهى
وَأَقُول قد اتّفق الْفَرِيقَانِ بِأَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا
الله قد دلّت على نفي الألوهية عَمَّا سواهُ وإثباتها لَهُ
لَكِن إِثْبَاتهَا لَهُ تَعَالَى سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّة
إِشَارَة وَسموا
(1/257)
النَّفْي عبارَة نظرا إِلَى الْمَقْصُود
بالْكلَام وانه لم يسق أَصَالَة إِلَّا لنفي الألوهية عَن
غَيره تَعَالَى واما إِثْبَاتهَا لَهُ فَغير مَقْصُود من
الْكَلَام لِأَن كل عَاقل يَعْتَقِدهُ
قلت وَلذَا قَالُوا فِي الْأَصْنَام {مَا نعبدهم إِلَّا
ليقربونا إِلَى الله زلفى} فَلم يَكُونُوا نافين لَهُ بل
أثبتوا مَعَه غَيره فَخُوطِبُوا بِكَلِمَة التَّوْحِيد
وَالْقَصْد نفي الألوهية عَن غَيره تَعَالَى وَلذَا قَالَ
إِنَّه قصر إِفْرَاد وعَلى رَأْي من أثبت الْمَفْهُوم
إنَّهُمَا أَي النَّفْي وَالْإِثْبَات قصدا سَوَاء النَّفْي
وَالْإِثْبَات وَأَنَّهَا أفادت إِثْبَات الأولهية لَهُ
تَعَالَى كَمَا أفادت نَفيهَا عَمَّا سواهُ لَكِن الأول سموهُ
مَفْهُوم قصر وَالثَّانِي مَنْطُوق وَالْقَصْد فيهمَا سَوَاء
إِلَى إِثْبَات الحكم ونفيه إِنَّمَا اخْتلفت طَريقَة
الدّلَالَة وَفِي مثل لَهُ عَليّ ألف إِلَّا مئة الحكم منصب
إِلَى تسع مئة وَأَنه لم يتَكَلَّم بِالْألف فِي حق لُزُوم
المئة فقد اتّفق الْفَرِيقَانِ أَنه لَا يلْزمه إِلَّا تسع مئة
فَالْحكم فِي الْمُسْتَثْنى منعدم لِانْعِدَامِ الدَّلِيل
الْمُوجب لَهُ فِي صُورَة التَّكَلُّم بِهِ
وَاعْلَم أَن مُثبت الحكم هُنَا للمفهوم إِنَّمَا يَقُول بِهِ
فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل وَبِه يعرف بطلَان قَول من
قَالَ إِنَّهَا تظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا إِذا اسْتثْنى
خلاف الْجِنْس كَقَوْلِه لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا
ثوبا إِلَى آخر كَلَامه فَإِن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع
وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ
وَاعْلَم أَن الِاسْتِدْلَال بِإِجْمَاع أَئِمَّة الْعَرَبيَّة
بِأَنَّهُ من الْإِثْبَات نفي وَمن النَّفْي إِثْبَات وَقد قدح
فِيهِ بِأَن الْكُوفِيّين لَا يَقُولُونَ بذلك كَمَا نَقله
الزَّرْكَشِيّ فِي شرح الْجمع وَنَقله ابْن عقيل وَغَيره عَن
الْكِنَانِي بِأَن جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا زيدا مَعْنَاهُ
الْقَوْم الْمخْرج مِنْهُم زيد دون نظر إِلَى الحكم على زيد
بالمجيء أَو عَدمه وَلَا بُد إِن شَاءَ الله من زِيَاد
تَحْقِيق يَأْتِي فِي التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ
(1/258)
وَاعْلَم أَنه أثبت القَوْل بالمفاهيم
مُخَالفَة وموافقة جمَاعَة كَمَا عرفت ونفاه الظَّاهِرِيَّة
جملَة حَتَّى الْمُوَافقَة نَحْو دلَالَة {فَلَا تقل لَهما
أُفٍّ} على النَّهْي عَن الضَّرْب فَقَالُوا لَا يدل عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم هَذَا مَكَان عَظِيم فِيهِ أَخطَأ
كثير من النَّاس وفحش جدا واضطربوا فِيهِ اضطرابا شَدِيدا
وَذَلِكَ أَن طَائِفَة قَالَت إِذا ورد النَّص من الله
تَعَالَى أَو من رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعَلّقا
بِصفة مَا أَو بِزَمَان مَا أَو بِعَدَد مَا فَإِن مَا عدا
تِلْكَ الصِّفَات وَمَا عدا ذَلِك الزَّمَان وَمَا عدا ذَلِك
الْعدَد فَوَاجِب أَن يحكم فِيهِ بِخِلَاف الحكم فِي هَذَا
الْمَنْصُوص وَتَعْلِيق الحكم بالأحوال الْمَذْكُورَة دَلِيل
على أَن مَا عَداهَا مُخَالف لَهَا
وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى وهم جُمْهُور أَصْحَابنَا
الظَّاهِرِيَّة وَطَوَائِف من الشافعيين مِنْهُم أَبُو
الْعَبَّاس بن سُرَيج وَطَوَائِف من المالكيين إِن الْخطاب
إِذا ورد كَمَا ذكرنَا لم يدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ
بل يكون ذَلِك مَوْقُوفا على دَلِيله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يجوزغيره لِأَن
كل خطاب وكل قَضِيَّة فَإِنَّمَا تعطيك مَا فِيهَا فَقَط وَلَا
تعطيك حكما فِي غَيرهَا لَا على أَن مَا عَداهَا مُخَالف لَهَا
وَلَا أَنه مُوَافق لَهَا لَكِن كل مَا عَداهَا مَوْقُوف على
دَلِيله
ثمَّ قَالَ أما قَول الله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}
فَلم يرد غير هَذِه اللَّفْظَة لما كَانَ فِيهَا تَحْرِيم
ضربهَا وَلَا قَتلهمَا وَلما كَانَ فِيهَا إِلَّا تَحْرِيم
قَول أُفٍّ فَقَط وَلَكِن لما قَالَ الله تَعَالَى فِي هَذِه
الْآيَة نَفسهَا {وبالوالدين إحسانا إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر
أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما
وَقل لَهما قولا كَرِيمًا واخفض لَهما جنَاح الذل من
الرَّحْمَة وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا}
(1/259)
اقْتَضَت هَذِه الْأَلْفَاظ من الظَّاهِر
حذف من من الْإِحْسَان وَالْقَوْل الْكَرِيم وخفض الْجنَاح
والذل لَهما وَالرَّحْمَة بهما وَالْمَنْع من الِانْتِهَار
لَهما وأوجبت أَن يُؤْتى إِلَيْهِمَا كل بر وكل خير وكل رفق
فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك
وَجب بر الْوَالِدين بِكُل وَجه وَبِكُل معنى وَالْمَنْع من كل
ضرب وعقوق بِأَيّ وَجه كَانَ لَا بِالنَّهْي عَن قَول أُفٍّ
وَلَا بِأَلْفَاظ الَّتِي ذكرنَا وَجب ضَرُورَة أَن من سبهما
أَو تَبرأ مِنْهُمَا اَوْ منعهما رفده فِي أَي شَيْء كَانَ فِي
غير الْحَرَام فَلم يحسن إِلَيْهِمَا وَلَا خفض لَهما جنَاح
الذل من الرَّحْمَة وَلَو كَانَ النَّهْي عَن قَول أُفٍّ مغنيا
عَمَّا سواهُ من وُجُوه الْأَذَى إِذا لما كَانَ لذكره
تَعَالَى فِي الْآيَة نَفسهَا مَعَ النَّهْي عَن قَول اف
النَّهْي عَن النَّهر وَالْأَمر بِالْإِحْسَانِ وَغَيرهمَا
فَائِدَة فَلَمَّا لم يقْتَصر على الأف وَحده بَطل قَول من
ادّعى ان يذكر الأف علم مَا عداهُ وَصَحَّ ضَرُورَة أَن لكل
لَفْظَة من أَلْفَاظ الْآيَة معنى غير معنى سَائِر ألفاظها
إِلَى أَن قَالَ وَمن الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ على أَن نهي
الله عَن أَن يَقُول الْإِنْسَان لوَالِديهِ أُفٍّ لَيْسَ نهيا
عَن الضَّرْب وَلَا عَن الْقَتْل وَلَا عَن مَا عدا الأف أَنه
مَتى حدث عَن إِنْسَان أَنه قتل آخر وضربه حَتَّى كسر أضلاعه
وقذفه بالحدود وَقد بَصق فِي وَجهه فَيشْهد عَلَيْهِ من شَاهد
ذَلِك كُله فَقَالَ الشَّاهِد إِن زيدا يَعْنِي الْقَاتِل
والقاذف والضارب قَالَ لعَمْرو أُفٍّ أَعنِي الْمَقْتُول أَو
الْمَقْذُوف أَو الْمَضْرُوب لَكَانَ بِإِجْمَاع مِنْهُ
وَمِنْهُم كَاذِبًا آفكا شَاهدا بالزور مَرْدُود الشَّهَادَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكيف يدين هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن يحكم
بِمَا يقرونَ أَنه كذب وَكَيف يستجيزون أَن ينسبوا إِلَى الله
الحكم بِمَا يشْهدُونَ أَنه كذب وَنحن نَعُوذ بِاللَّه أَن
نقُول نهى الله عَن قَول اف للْوَالِدين يفهم مِنْهُ النَّهْي
عَن الضَّرْب وَالْقَذْف لَهما أَو الْقَتْل وَالْقَذْف فَإِذا
لَا شكّ عِنْد كل من لَهُ معرفَة بِشَيْء من اللُّغَة
الْعَرَبيَّة أَن الْقَتْل وَالضَّرْب وَالْقَذْف لَا يُسمى
شَيْء من ذَلِك أُفٍّ ثمَّ
(1/260)
تكلم عَن كل مِثَال من تِلْكَ الْأَمْثِلَة
وَأطَال الْمقَال فِي ذَلِك بِمَا لَا تحتمله هَذِه
الْإِجَابَة وَالله يهدينا إِلَى كل توفيق وإصابة
فَإِن قلت فَيجوز على كَلَامه من عدم القَوْل بِمَفْهُوم
الْمُوَافقَة وَأَنه لَا نهي إِلَّا عَن الأف أَن يَقُول
لِأَبَوَيْهِ هما فاجران أَو فاسقان لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهى
عَن الأف وَيجوز ضربهما وَنَحْوه
قلت من ايْنَ هَذَا الْجَواب فَإِن هَذَا أَعنِي اللَّفْظ من
الْفَاجِر وَالْفَاسِق مَنْهِيّ عَنهُ فِي حق كل مُسلم نهيا
متيقنا من تَحْرِيم الْأَعْرَاض كَمَا أَن الضَّرْب مَنْهِيّ
عَنهُ كَذَلِك من تَحْرِيم ضرب الْمُسلم وَإِن ظهر الْمُؤمن
حمى والتأفيف محرم أَيْضا بِالتَّحْرِيمِ الأَصْل إِنَّمَا نَص
عَلَيْهِ الشَّارِع لِأَن الْوَلَد عِنْد بُلُوغ أَبَوَيْهِ
الْكبر أَو أَحدهمَا يتضجر من طول صحبتهما وغالب أَلْفَاظ
المتضجر والمتبرم من أَمر أَن يَقُول أُفٍّ لهَذَا الْأَمر
كَمَا قَالَ ... وَإِذا الشَّيْخ قَالَ أُفٍّ فَمَا م ... ل
حَيَاة وَلَكِن الضعْف ملا ...
فَإِن قلت هم لَا يَقُولُونَ إِن قَوْله {فَلَا تقل لَهما
أُفٍّ} نهي عَن الضَّرْب وَالْقَذْف إِلَى آخر مَا هجن بِهِ
عَلَيْهِ
قلت بل هم قَائِلُونَ إِن دلَالَة هَذِه الْعبارَة القرآنية
على النَّهْي عَن الضَّرْب وَالْقَتْل أولى من دلالتها على
التأفيف لكِنهمْ لَا يَقُولُونَ الأف مَوْضُوع لُغَة للنَّهْي
عَن الضَّرْب وَالْقَتْل وَغَيرهمَا حَتَّى إِذا قَالَ
الْقَائِل لَا تقل لزيد أُفٍّ أَنه نهي عَن ضربه مَأْخُوذ من
صيغته بل يَقُولُونَ إِنَّه يفهم بِكَوْن الْمُتَكَلّم حكيما
لَا ينْهَى عَن أدنى الأذية مَعَ الْإِذْن فِي أَعْلَاهَا بل
إِذا نهى عَن أدناها أَفَادَ نَهْيه عَن أَعْلَاهَا بِقَرِينَة
الْمقَام وَإنَّهُ لَو قَالَ لَا تقل لزيد أُفٍّ وَاضْرِبْهُ
لعد غير مُوَافق لطريقة اللُّغَة وَالْحكمَة والكمال
وَبعد الْفَرَاغ من بَيَان الْمَفْهُوم والمنطوق أَخذنَا فِي
بَيَان الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بقولنَا
(1/261)
|