أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْبَاب الْعَاشِر فِي التَّرْجِيح والتصحيح
وعاشر الْأَبْوَاب فِي التَّرْجِيح ... بَين الأمارت وَفِي
التَّصْحِيح ...
التَّرْجِيح هُوَ مَأْخُوذ من الرجحان وَهُوَ الْفضل
وَالزِّيَادَة فِي أحد الشَّيْئَيْنِ لُغَة وَقَوله فِي
التَّصْحِيح أَي تَصْحِيح الْعَمَل بالأدلة إِذْ لم يتم إِلَّا
بعد معرفَة الرَّاجِح عِنْد التَّعَارُض وَهَذَا أصل
التَّرْجِيح وَقَوله بَين الأمارات إِشَارَة إِلَى مَا
عَلَيْهِ الْجُمْهُور من أَنه لَا يَقع التَّعَارُض بَين
القطعيات
وَأما فِي الِاصْطِلَاح فَمَا أَفَادَهُ قَوْله ... وَهُوَ
اقتران بَعْضهَا بِأَمْر ... يقوى بِهِ كَمَا أَتَى فِي الزبر
...
الزبر الْمَزْبُور أَي الْمَكْتُوب فِي هَذَا الْبَاب فَهُوَ
مصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول أوردهُ لقصد الْبَيَان والإيضاح
وَلَيْسَ من تَعْرِيف التَّرْجِيح بل تَعْرِيفه اقتران بعض
الأمارات على الحكم بِشَيْء يقوى بِهِ على الْمعَارض لَهَا
وَجعله الاقتران من بَاب إِطْلَاق اسْم الشَّيْء على مسببه
إِذْ الاقتران سَبَب التَّرْجِيح فَفِيهِ مُسَامَحَة وَيحْتَمل
أَنه حَقِيقَة عرفية لأهل الْفَنّ فِي التَّرْجِيح المصطلح ...
ثمَّ لَهَا التَّقْدِيم بِالْإِجْمَاع ...
(1/417)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
أَي للأمارة الراجحة التَّقْدِيم على المرجوحة فَيجب الْعَمَل
بِمَا هُوَ الْأَقْوَى للْقطع بِالْعَمَلِ كَذَلِك من
الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من الْعلمَاء إِذْ الْعَمَل بالمرجوح
مَعَ وجود الرَّاجِح لَا يقبله عقل عَاقل وَفِي قَوْله
بِالْإِجْمَاع إِشَارَة إِلَى رد مَا يرْوى عَن الباقلاني من
أَنه إِنَّمَا يَقع التَّرْجِيح بالمقطوع بِهِ كتقديم النَّص
على الْقيَاس وَأما المظنون وَهُوَ التَّرْجِيح بالأحوال
والأوصاف الْآتِيَة فَلَا تَرْجِيح بهَا ... والمورد الظَّن
بِلَا نزاع ...
أَي لَيْسَ مَحل وُرُود التَّرْجِيح إِلَّا فِيمَا يثير الظَّن
بِلَا نزاع بَين الْجُمْهُور فَلَا يَقع بَين ظَنِّي وقطعي
لانْتِفَاء الظَّن مَعَه وَلَا بَين قطعيين إِذْ يلْزم
اجْتِمَاع النقيضين للْقطع بِثُبُوت أحد المدلولين فِي نفس
الْأَمر ... مَا بَين عَقْلِي أَتَى ونقلي ... مثلين أَو ضدين
فِيمَا يملي ...
بَيَان لمورد التَّعَارُض وَأَنه يكون بَين نقلين كالكتاب
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وعقليين كالقياس فإفراد قَوْله نقلي
وعقلي بِاعْتِبَار كل وَاحِد من المتعارضين وَقَوله مثلين
يَعْنِي يكون التَّعَارُض بَين مثلين من نقليين أَو عقليين أَو
ضدين كالعقلي والنقلي
إِذا عرفت هَذَا فالتعارض بَين النقليات على أَربع أَقسَام
الأول بِحَسب السَّنَد وَهُوَ الطَّرِيق الْموصل إِلَى
الدَّلِيل سَوَاء كَانَ ذَلِك مِمَّا يرجع إِلَى الرَّاوِي
كزيادة الْحِفْظ والإتقان أَو مِمَّا يرجع إِلَى الرِّوَايَة
كالإسناد والإرسال
الثَّانِي بِحَسب الْمَتْن وَهُوَ نفس الدَّلِيل كتقديم
النَّهْي على الْأَمر
الثَّالِث بِحَسب الحكم كالإباحة والحظر
الرَّابِع بِحَسب أَمر خَارج كموافقة لدَلِيل آخر أَو عمل
الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة
(1/418)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَإِذا تقرر هَذَا فالقسم الأول يخْتَص بِالدَّلِيلِ من السّنة
وَأما مَا عداهُ فَإِنَّهُ مُشْتَرك بَين السّنة وَالْكتاب
وَالْإِجْمَاع وَقد وَقع التَّرْتِيب فِي النّظم لهَذِهِ
الْأَرْبَعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ
أما الأول فأنواع مِنْهَا قَوْله
إِن كَانَ نقليا فترجيح الْخَبَر
بِكَثْرَة الرَّاوِي لَهُ من الْبشر
أَي أَنه يرجح أحد الْخَبَرَيْنِ المتعارضين بِكَثْرَة الروَاة
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عدد أحد الدَّلِيلَيْنِ أَكثر كَانَ أقوى
ظنا إِذْ الْعدَد الْكثير أبعد عَن الْخَطَأ من الْعدَد
الْأَقَل وَلِأَن كل وَاحِد من الدَّلِيلَيْنِ يُفِيد ظنا
فَإِذا انْضَمَّ إِلَى أَحدهمَا غَيره ازْدَادَ الظَّن قُوَّة
وَهَذَا رَأْي أَكثر الْعلمَاء
وَمن طَرِيق التَّرْجِيح بِحَسب الرَّاوِي مَا أَفَادَهُ
قَوْله
أَو كَونه أدرى بِمَا يرويهِ
أَو زَائِدا فِي حفظ مَا يمليه
أَي من طَرِيق التَّرْجِيح الرِّوَايَة أَن يكون الرَّاوِي
أدرى بِمَا يرويهِ وَأعرف لكَونه ذَا بَصِيرَة فِي علم
الشَّرِيعَة وَالْأَحْكَام لِأَنَّهُ يقوى الظَّن بروايته على
رِوَايَة من لم يَتَّصِف بِصفتِهِ أَو يكون زَائِدا فِي
الْحِفْظ بِأَن عرف أَنه أضبط وأتقن لحفظ مَا يرويهِ وَيعرف
بخبرة الْأَئِمَّة لحفظه
أَو زَاد فِي التوثيق والمباشر
وَصَاحب الْقِصَّة فِيهَا الْحَاضِر ... أولى وَمن شافه من
أملاه
أَو من غَدا أقرب من مَعْنَاهُ ... أَو كَانَ من أكَابِر
الصَّحَابَة
فَالْكل أولى عِنْد ذِي الْإِصَابَة
اشْتَمَلت الأبيات على أَنْوَاع من طرق التَّرْجِيح بِحَسب
الرَّاوِي
الأول أَنه يرجح بِكَثْرَة التوثيق وَعبر عَنهُ فِي جمع
الْجَوَامِع بشهرة
(1/419)
عَدَالَته قَالَ فِي شَرحه لشدَّة الوثوق
بِهِ وَقد دخل فِيهِ زِيَادَة الْوَرع والذكاء والفطنة إِذْ
هَذِه الصِّفَات مِمَّا يزْدَاد بهَا تَوْثِيق الرَّاوِي
فَيَزْدَاد بهَا الظَّن قُوَّة وَمن ذَلِك مَا أَفَادَهُ
قَوْله وَصَاحب الْقِصَّة وَهُوَ مُبْتَدأ تَقْدِيره خَبره
أولى كَمَا دلّ لَهُ الأول
وَمِثَال الأول مَا رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره عَن أبي رَافع مولى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهِي حَلَال وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال
قَالَ وَكنت السفير بَينهمَا وَقد عَارضه حَدِيث
الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تزَوجهَا وَهُوَ محرم فَيقدم ويرجح حَدِيث أبي رَافع لكَونه
مبَاشر الْقِصَّة لقَوْله وَكنت السفير بَينهمَا
وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث مَيْمُونَة عِنْد مُسلم وَغَيره
وَقَالَت تزَوجنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن
حَلَال بسرف فَيقدم أَيْضا على رِوَايَة ابْن عَبَّاس لكَونهَا
الْمُبَاشرَة
وَقَوله وَمن شافه من أملاه أَي وَإِن كَانَ أحد الراويين
مشافها بِرِوَايَة من روى عَنهُ ومعارضه غير مشافه فَالْأولى
من رَوَاهُ من دون حجاب بَينه وَبَين الرَّاوِي وَذَلِكَ
كَرِوَايَة الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن عَائِشَة أَن
بَرِيرَة أعتقت وَكَانَ زَوجهَا عبدا فترجح على رِوَايَة
الْأسود عَن عَائِشَة أَنه كَانَ حرا لمشافهة الْقَاسِم بن
مُحَمَّد عمته وَأَخذه عَنْهَا من دون حجاب دون الْأسود لِأَن
الْأَمْن من تطرق الْخلَل فِي الأول دون الثَّانِي أَكثر فالظن
بِهِ أقوى
(1/420)
وَقَوله أَو من غَدا أقرب من مَعْنَاهُ
بالغين الْمُعْجَمَة الْمَكَان أَي يرجح من كَانَ أقرب مَكَانا
من الرَّاوِي على غَيره ومثاله حَدِيث ابْن عمر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أهل بِالْحَجِّ مُفردا كَمَا رَوَاهُ مُسلم على
رِوَايَة من روى أَنه قرن أَو تمتّع لِأَن ابْن عمر أخبر أَنه
كَانَ حِين لبّى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت جران نَاقَته
والجران بِالْجِيم فراء فألف وَنون بَاطِن الْعُنُق وَهَذَا
مُجَرّد مِثَال وَإِلَّا فقد رُوِيَ عَن ابْن عمر نَفسه من
طَرِيق الشَّيْخَيْنِ مَا يُخَالف هَذِه الرِّوَايَة
وَقَوله أَو كَانَ من أكَابِر الصَّحَابَة أَي اَوْ كَانَ
رَاوِي أحد المتعارضين من أكَابِر الصَّحَابَة فَإِنَّهَا ترجح
رِوَايَته على رِوَايَة من كَانَ من صغارهم لقرب الأكابر من
مَجْلِسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَغْلَب وحرصهم عى
معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَالْحق أَنه لَا يرجح
بِرِوَايَة الأكابر على الأصاغر مُطلقًا وَلَا الأصاغر كَذَلِك
وَإِنَّمَا يرجع إِلَى حَال الرَّاوِي فقد يكون من الأصاغر
مَعَ قربه واختصاصه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَابْن عَبَّاس وعبد الله بن جَعْفَر وَأنس بن مَالك وَأبي
هُرَيْرَة فَهُوَ أولى وَلذَا قيل المُرَاد بالأكابر هُنَا
الأكابر فِي الْعلم لَا فِي السن ... أَو سَابق الْإِسْلَام
أَو مَشْهُورا ... فِي نسب الْآبَاء لَا مغمورا ...
أَي وترجح رِوَايَة من كَانَ سَابق الْإِسْلَام على رِوَايَة
متأخره عِنْد التَّعَارُض وَوَجهه أَن السَّابِق أَكثر خبْرَة
وَأعرف بمواقع الْأَحْكَام من الْمُتَأَخر وَبَين هَذَا
الْوَجْه وَالَّذِي قبله الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه من حمل
الأكابر على الأكابر فِي الْعَام وَالْحق أَنه أَيْضا هُنَا
لَا يرجح مُتَقَدم الْإِسْلَام على الْإِطْلَاق بل قد تقوى
رِوَايَة الْمُتَأَخر لمرجح آخر من أحفظية وَنَحْوهَا
وَقَوله أَو مَشْهُورا أَي ترجح رِوَايَة من كَانَ مَشْهُور
فِي نسبه على المغمور فِيهِ لِأَن الْمَشْهُور فِيهِ يكون
أَكثر تحريا وَأَشد صونا لنَفسِهِ من غَيره كَذَا قيل ... أَو
لم يكن ملتبسا بالضعفا ... أَو سَامِعًا من بعد أَن تكلفا ...
(1/421)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
أَي وترجيح رِوَايَة من لم يلتبس بالضعيف على رِوَايَة من
الْتبس بِهِ قَالُوا لِأَن الوثوق بِهِ أقوى من الوثوق بِمن
الْتبس بالضعفاء لجَوَاز أَن يكون هُوَ الضَّعِيف
وَقَوله أَو سَامِعًا من بعد أَن تكلفا أَي فَإِن رِوَايَته
أرجح من رِوَايَة من سمع قبل التَّكْلِيف لِأَن الْمُحْتَمل من
بعد التَّكْلِيف يكون أحفظ وأضبط مِمَّن تحمل قبله وَهَذَا
أغلبي
أَو زَاد من عدله أَو زادوا
عَدَالَة فحط بِمَا أفادوا
أَي ترجح رِوَايَة من كثر معدولوه على من قلوا أَو كَانَ من
عدلوا أَحدهمَا أزكى وَأتقى على من عدل الْمعَارض لَهُ وَهَذَا
مُرَاده بقوله أَو زَاد من عدله أَو زادوا عَدَالَة وَإِن
اسْتَووا عددا
وَالْحكم فِي التَّعْدِيل قد تقدما
فَكُن على ترتيبه مقدما
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى التَّرْجِيح بالتعديل بطرق التَّعْدِيل
الْمُتَقَدّمَة فِي بَاب الْأَخْبَار وَهِي مَرَاتِب
أَعْلَاهَا التَّصْرِيح بالتعديل نَحْو عدل ثِقَة ثمَّ الحكم
بِشَهَادَتِهِ من حَاكم يعْتَبر الْعَدَالَة ثمَّ الْعَمَل
بروايته مِمَّن لَا يقبل رِوَايَة الْمَجْهُول فيرجح على هَذَا
التَّرْتِيب وَنَحْوه وَهَذَا آخر طرق التَّرْجِيح بِحَسب
الرَّاوِي وَهُوَ الْقسم الأول من الْأَرْبَعَة وَيلْحق بِهِ
قَوْله
وَإِن تعَارض الحَدِيث الْمُرْسل
فَمَا رَوَاهُ ضَابِط لَا يُرْسل ... عَن غير عدل فَلهُ
التَّقَدُّم
على سواهُ وَهُوَ قَول أقوم
(1/422)
هَذِه مَسْأَلَة تعراض الْمُرْسلين فيرجح
مُرْسل الضَّابِط لما يرويهِ الَّذِي عرف أَنه لَا يُرْسل
إِلَّا عَن عدل على من لم يعرف بذلك وَذَلِكَ لقُوَّة الظَّن
بالمرسل الأول دون الثَّانِي وَتقدم فِي بَاب الْأَخْبَار
شَيْء من هَذَا فَإِن كَانَ أَحدهمَا يُرْسل عَن المجاهيل
فَإِنَّهَا لَا تقبل رِوَايَته فضلا عَن أَن يُعَارض بهَا
غَيرهَا وَهَذَا إِذا تعَارض مرسلان
فَأَما إِذا تعَارض مُرْسل ومسند فقد أَفَادَهُ قَوْله
وَيقبل الْمسند مِمَّا يُرْسل
وَقيل بِالْعَكْسِ وَقيل الأمثل
هَذِه إِشَارَة إِلَى ثَلَاثَة أَقْوَال
الأول أَنه إِذا تعَارض الْمسند والمرسل قدم الأول فَإِنَّهُ
أولى من الثَّانِي وَهَذَا رَأْي الْجُمْهُور قَالُوا لِأَن
تطرق الْخلَل فِي الْمسند أقل من الْمُرْسل
وَقيل الْعَكْس وَهُوَ الثَّانِي وَهُوَ تَقْدِيم الْمُرْسل
وترجيحه على الْمسند وَهَذَا رَأْي الْحَنَفِيَّة وَبَعض
الزيدية قَالُوا لِأَن الرَّاوِي لَا يَقُول قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَهُوَ كالقاطع بِأَن الَّذِي
رَوَاهُ صدر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأجِيب بِأَن
المُرَاد الْمسند الصَّحِيح فَإِن أُرِيد بِالْقطعِ قُوَّة
الظَّن فَمن أسْند أَيْضا كَذَلِك وَإِن أُرِيد الْقطع
حَقِيقَة فَغير مُسلم وَأَيْضًا فعدالة رُوَاة الْمسند تعرف
بالبحث عَن رِجَاله بِخِلَاف رجال الْمُرْسل فَإِنَّهُم لَا
يعْرفُونَ إِذا بإرساله جهلوا
الثَّالِث قَوْله وَقيل الأمثل
الاستوا وَرجح الْمَشْهُور
ومرسل التَّابِع وَالْمَذْكُور ... فِي مثل مَا أخرجه
البُخَارِيّ
وَمُسلم من سنة الْمُخْتَار
فَقَوله الاستوا خبر الأمثل وَهَذَا ثَالِث الْأَقْوَال أَنه
لَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الْأُخَر بل هما سَوَاء وَهَذَا
رَأْي جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَاخْتَارَهُ الْمهْدي
قَالُوا لِأَن الْمُعْتَبر عَدَالَة الرَّاوِي وَقد قيل كل من
الْمسند والمرسل فَلَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر إِذا
تَعَارضا
(1/423)
وَأجِيب بِأَن بَاب التَّرْجِيح لَيْسَ
مناطه مُجَرّد اعْتِبَار الْعَدَالَة الْمُتَرَتب عَلَيْهَا
الْقبُول وَإِلَّا لحكم بالاستواء فِي كل مَا تقدم وَمَا
يَأْتِي إِذْ لَا بُد فِي كل من المتعارضين أَن يكون
مَقْبُولًا على انْفِرَاده وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَالْمُسْنَدُ
أرجح لما عرفت
وَقَوله وَالْمَذْكُور مُبْتَدأ خَبره قَوْله فِي مثل مَا
أخرجه البُخَارِيّ الخ أَي أَنه يرجح مَا اشْتهر بِالصِّحَّةِ
من كتب الحَدِيث كالبخاري وَمُسلم على غَيرهمَا لتلقي الْأمة
لَهما بِالْقبُولِ وَالْمرَاد فِيمَا ذكر بِمَا أخرجه
الشَّيْخَانِ التَّمْثِيل وَإِلَّا فغيرهما مِمَّن عرف رجال
الْإِسْنَاد بالثقة وَالْقَبُول مثلهمَا وَقد حققنا هَذَا فِي
مَسْأَلَة ثَمَرَات النّظر وبسطناه بسطا شافيا
هَذَا وَقد ذكرت مرجحات أخر بِحَسب الرِّوَايَة فِي المطولات
لم تأت والنعت بهَا إِذْ الْمَقْصُود ذكر الْأَشْهر الْأَكْثَر
كَمَا سنصرح بِهِ آخر بَاب التَّرْجِيح
الْقسم الثَّانِي التَّرْجِيح بِحَسب الْمَتْن وَهُوَ أَنْوَاع
مِنْهَا مَا أَفَادَهُ قَوْله
وَالنَّهْي أولى من مفَاد الْأَمر
وَالْأَمر من إِبَاحَة وَيجْرِي ... تَرْجِيح مَا قل على مَا
كثرا
فالاحتمال فَاتبع مَا ذكرا
فَإِذا تعَارض أَمر وَنهي يرجح النَّهْي لِأَنَّهُ قد تقرر أَن
النَّهْي لدفع الْمفْسدَة وَالْأَمر لجلب الْمصلحَة وَدفع
الْمَفَاسِد أهم عِنْد الشَّارِع من جلب الْمصَالح لما علم من
أَن مبْنى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة على جلب الْمصَالح وَدفع
الْمَفَاسِد وَإِن جهلناها فِيمَا نرجحه
إِن قلت قد تقدم أَن النَّهْي أَمر بضده وَالْأَمر نهي عَن
ضِدّه فقد
(1/424)
اشْتَمَل كل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر
وَحِينَئِذٍ فَلَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر فَلَا يتم
التَّرْجِيح الْمَذْكُور
قلت أُجِيب بِأَن النَّهْي الصَّرِيح أدل على كَونه لدرء
الْمَفَاسِد وَأقوى من الدّلَالَة الالتزامية المستفادة
للنَّهْي من الْأَمر فَإِن الْمَقْصُود أَولا وبالذات فِي
النَّهْي دفع الْمفْسدَة كَمَا أَن الْمَقْصُود أَولا وبالذات
فِي الْأَمر لجلب الْمصلحَة فيندفع مَا قيل من أَن كلا
مِنْهُمَا قد استلزم دفع مفْسدَة وجلب مصلحَة وَقَوله
وَالْأَمر من إِبَاحَة أَي إِذا تَعَارضا فَإِنَّهُ يرجح
الْأَمر على الْإِبَاحَة لما فِي ذَلِك من الِاحْتِيَاط
لِاسْتِوَاء الْمُبَاح فِي الْفِعْل وَالتّرْك دون الْأَمر
فَإِنَّهُ وَاجِب الْفِعْل فَكَانَ أرجح وَهَذَا رَأْي
الْجُمْهُور وَقيل بل ترجح الْإِبَاحَة لِأَنَّهَا تكون قرينَة
على أَن الْأَمر لَيْسَ على ظَاهره من الْوُجُوب والإعمال خير
من الإهمال وَاخْتَارَ هَذَا الْمهْدي وَأَن الْإِبَاحَة أرجح
من الْأَمر
وَقَوله مَا دلّ على مَا كثرا فِي الِاحْتِمَال مُرَاده إِذا
تعَارض مَا احْتِمَاله أقل للمعاني مَعَ مَا احْتِمَاله أَكثر
ومثلوه بِالْإِبَاحَةِ وَالْأَمر إِذا تَعَارضا قدمت
الْإِبَاحَة لوحدة مَعْنَاهَا بِخِلَاف الْأَمر فَإِنَّهُ
مُتَعَدد الْمعَانِي كَمَا عرفت فِي مبَاحث الْأَمر وَهَذَا
مُجَرّد مِثَال وَإِلَّا فَالْقَوْل الْمُخْتَار أَنه حَقِيقَة
فِي الْوُجُوب فَلَا أكثرية لمعانيه
وَفِي الْمجَاز قدم الحقيقه
عَلَيْهِ واعكس هَذِه الطريقه ... فِيهِ إِذا عَارضه
الْمُشْتَرك
لِأَنَّهُ عِنْد الْمجَاز يتْرك
أَي إِذا وَقع التَّعَارُض بَين الْحَقِيقَة بِأحد مَعَانِيه
وَبَين الْمجَاز فَإِن الْحَقِيقَة غير الْمُشْتَرك تقدم
عَلَيْهِ فِي كَونهَا الأَصْل عِنْد الْإِطْلَاق وَقَوله واعكس
هَذِه الطَّرِيقَة وَهُوَ أَنه إِذا تعَارض اللَّفْظ بَين
الْمجَاز الْمُشْتَرك فَإِنَّهُ
(1/425)
يرجح الْمجَاز على الْمُشْتَرك لِأَن
الْمجَاز فِي الْكَلَام أغلب من الِاشْتِرَاك وَتقدم تَحْقِيق
ذَلِك فِي الْبَاب الرَّابِع
وَفِي المجازين يرى التَّرْجِيح
بِمَا هوالأقرب والصريح ... فِي النَّص من غير الصَّرِيح أرجح
وَالْعَام عِنْد خاصه مطرح
هَذِه الْمسَائِل من التَّرْجِيح
الأولى إِذا تعَارض مجازان فَإِنَّهُ يرجح الْأَقْرَب إِلَى
الْحَقِيقَة وَذَلِكَ مثل حَدِيث لَا عمل إِلَّا بنية فَإِن
النَّفْي هُنَا لَا يَصح أَن يكون حَقِيقَة فَيحْتَمل أَن
يُرَاد نفي الصِّحَّة أَو نفي الْكَمَال وهما مجازان على أَي
تَقْدِير إِلَّا أَنه يرجح نفي الصِّحَّة لِأَنَّهُ أقرب إِلَى
نفي الْحَقِيقَة وَهُوَ نفي الذَّات لِأَن مَا لَا يَصح
كَالْعدمِ
الثَّانِيَة قَوْله والصريح أَي النَّص الصَّرِيح إِذا عَارضه
نَص غير صَرِيح رجح الصَّرِيح على غَيره ومثاله قَوْله
تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله}
فِي قتل الْخَطَأ مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع عَن
أمتِي الْخَطَأ فَالْأول صَرِيح فِي إِيجَاب مَا ذكر فَهُوَ
أرجح من الحَدِيث
الثَّالِثَة قَوْله وَالْعَام أَي إِذا تعَارض هُوَ وَالْخَاص
اطرَح الْعَام وَقدم عَلَيْهِ الْخَاص لكَونه أقوى دلَالَة من
الْعَام على الْخَاص إِذْ هُوَ نَص فِيهِ وَهَذَا على رَأْي
الشَّافِعِي أَنه يقدم الْخَاص مُطلقًا كَمَا قدمْنَاهُ وَلذَا
أطلقناه هُنَا
كَذَاك تَخْصِيص الْعُمُوم قدما
على خُصُوص أولته العلما
أَي كَمَا قدم مَا سبق قدم أَيْضا تَخْصِيص الْعُمُوم على
التَّخْصِيص المؤول لكثرته ومثاله {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي
الدّين من حرج} مَعَ قَوْله
(1/426)
فِي أَرْبَعِينَ السَّائِمَة شَاة
فَإِنَّهُ يخصص عُمُوم الْحَرج بِالْإِيجَابِ فِي الشَّاة
وَهُوَ أولى من تَأْوِيله فِي الْقيمَة كَمَا تَقوله
الْحَنَفِيَّة ... ثمَّ الَّذِي مَا خص بِالْعُمُومِ ... أولى
من الْمَخْصُوص فِي الْعُلُوم ...
أَي أَنه إِذا تعَارض عُمُوم مَخْصُوص وَعُمُوم لم يخص
فَإِنَّهُ يرجح الْأَخير على الأول لِأَنَّهُ أقوى دلَالَة على
إِفْرَاده مِمَّا قد دخله التَّخْصِيص إِذْ قد يلْحقهُ بِهِ
ضعف حَتَّى قيل إِنَّه لَا يسْتَدلّ بِهِ كَمَا سلف وَقيل بل
يرجح الَّذِي قد خص على مَا لم يخص لِأَن الْغَالِب على
الْعُمُوم التَّخْصِيص فَيكون الْعَمَل بِهِ أرجح لِأَنَّهُ
بعد تَخْصِيصه لَا يحْتَاج إِلَى تطلب مُخَصص لَهُ بِخِلَاف
الَّذِي لم يخص ... والشوط إِن عَم هوالمقدم ... على عُمُوم
أَي لفظ يعلم ...
هَذَا بَيَان لكيفية الْعَمَل إِن تعَارض صِيغ الْعُمُوم
فَإِنَّهُ إِذا وَقع بَينهَا التَّعَارُض قدم الشَّرْط
الْمُقَيد لَهُ على كل صِيغَة من صيغه وَذَلِكَ ك مَا وَمن
وَأي الشرطيات وَوجه تَقْدِيمه أَنه يُفِيد التَّعْلِيل للْحكم
مَا كَانَ للتَّعْلِيل فَهُوَ أدل على الْمَقْصُود وأدعى
للقبول وَلَا يخفى أَن هَذَا أَي إفادته التَّعْلِيل أغلبي
ثمَّ ظَاهره أَنه يقدم أَيْضا على النكرَة المنفية ب لَا
الَّتِي لنفي الْجِنْس وَهُوَ ظَاهر الْكتب الْأُصُولِيَّة
وَقيل بل هِيَ أرجح لِأَنَّهَا نَص فِي الِاسْتِغْرَاق ...
وَمَا وَمن وجمعنا الْمُعَرّف ... بِاللَّامِ من جنس بهَا يعرف
...
أَي مَا وَمن الموصولتان وَالْجمع الْمُعَرّف بِاللَّامِ
فَهِيَ أرجح مِنْهُ لِأَن الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ يقوى
احْتِمَاله للْعهد بِخِلَاف الِاسْم الْمَوْصُول
(1/427)
وَالْجمع الْمُعَرّف بهَا فاحتمال الْعَهْد
فِيهَا بعيد لقلَّة اسْتِعْمَاله فِي الْعَهْد اسْتِعْمَال
الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ
الْقسم الثَّالِث التَّرْجِيح بِحَسب الحكم وَهُوَ أَنْوَاع من
ذَلِك مَا أَفَادَهُ قَوْله
ثمَّ على النّدب الْوُجُوب رجحا
وَالنَّفْي للإثبات أَيْضا طرحا
أَي إِذا تعَارض مَا يَقْتَضِي الْوُجُوب وَمَا يَقْتَضِي
النّدب فَإِنَّهُ يرجح الْوُجُوب لما فِي ذَلِك من
الِاحْتِيَاط وَحمله على النّدب يسْتَلْزم جَوَاز التّرْك
بِخِلَاف الْحمل على الْوُجُوب وَقد تقدم فِي تَرْجِيح الْأَمر
على الْإِبَاحَة وَالنَّهْي على الْأَمر مَا يتَعَلَّق
بالْمقَام فَلَا فرق بَين مَا هُنَا وَمَا هُنَاكَ إِلَّا
بِحَسب الِاعْتِبَار فَإِذا اعْتبرت نفس صِيغَة الْأَمر
وَالنَّهْي مثلا كَانَ من التَّرْجِيح بِحَسب الْمَتْن وَإِن
اعْتبر بِحَسب التَّحْرِيم وَالْوُجُوب كَانَ مِمَّا نَحن
فِيهِ
وَقَوله وَالنَّفْي للإثبات الخ هَذِه مَسْأَلَة تَرْجِيح
الْإِثْبَات على النَّفْي إِذا تَعَارَضَت فَإِنَّهُ يرجح
الْإِثْبَات ويطرح النَّفْي إِذْ يصير مرجوحا وَهُوَ مطرح
عِنْد وجود الرَّاجِح وَوَجهه أَنه اشْتَمَل الْإِثْبَات على
زِيَادَة علم لم تكن فِي النَّفْي إِذْ غَايَة مَا يُفِيد
النَّفْي أَنه لم يعلم الرَّاوِي مَدْلُوله وَلِأَنَّهُ يُفِيد
التأسيس وَالنَّفْي يُفِيد التَّأْكِيد بِالنّظرِ إِلَى
الأَصْل والتأسيس خير من التَّأْكِيد
ودافع الْحَد على مَا أوجبا
لَا فِي الطَّلَاق عِنْدهم فالمجتبى ... مثل الْعتاق فيهمَا
الْإِيجَاب
المُرَاد إِذا تعَارض دَلِيل يقْضِي بِدفع الْحَد ودرئه عَن من
أوجب عَلَيْهِ وَآخر يقْضِي بِإِيجَاب الْحَد فَإِنَّهُ يرجح
الدَّافِع لِأَن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ والتعارض
شُبْهَة يدْفع بهَا الْحَد قَالَ الْمهْدي فِي المعيار هَذَا
رَأْي الْفُقَهَاء
(1/428)
وَقَوله لَا كَالطَّلَاقِ الخ أَي إِذا
تعَارض مَا يَقْتَضِي الطَّلَاق أَو يَقْتَضِي الْعتاق وَمَا
يَقْتَضِي خلافهما فَإِنَّهُ يرجح الْمُثبت لَهما على
النَّافِي وَهَذَا رَأْي جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول
وَوَجهه أَنَّهَا إِذا تَعَارَضَت بَيِّنَة النَّفْي
وَالْإِثْبَات قدمت بَينه الْإِثْبَات فَكَذَا فِي تعَارض
الْخَبَرَيْنِ وَفِيه خلاف بَينهم مَبْسُوط فِي المطولات قيل
وَالْأولَى أَن يفرق بَين الْأَمريْنِ فيرجح الْمُثبت على
النَّافِي فِي الْعتْق لما ثَبت من حث الشَّارِع عَلَيْهِ
وترغيبه فِيهِ وَالْعَكْس فِي الطَّلَاق فيرجح النَّافِي
لكَونه أبْغض الْحَلَال إِلَى الله كَمَا ثَبت عِنْد أبي
دَاوُد
الْقسم الرَّابِع التَّرْجِيح بِحَسب الْخَارِج أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله ... ثمَّ الَّذِي يعضده الْكتاب ... أَو غَيره
من أَيّمَا دَلِيل ...
أَي إِذا تعَارض دليلان أَحدهمَا يعضده الْقُرْآن أَو غَيره من
الْأَدِلَّة عقلية أَو نقلية كَمَا أَفَادَهُ التَّعْمِيم فِي
قَوْله أَيّمَا دَلِيل فَإِنَّهُ أرجح مِمَّا لَا يعضده شَيْء
وَوَجهه أَن الظَّن لِكَثْرَة الْأَدِلَّة يزْدَاد قُوَّة
مِثَاله حَدِيث من نَام عَن صلَاته أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا
ذكرهَا فَإِن ذَلِك وَقتهَا وَقد عَارضه النَّهْي عَن
الصَّلَاة فِي أَوْقَات الْكَرَاهَة لَكِن عضد الأول ظواهر
الْكتاب مثل {حَافظُوا على الصَّلَوَات} {وسارعوا إِلَى
مغْفرَة من ربكُم} وَنَحْوهمَا مِمَّا يدل على المسارعة إِلَى
فعل الطَّاعَات والأمثلة كَثِيرَة ... أَو خلفاء أَحْمد
الرَّسُول ...
أَي أَو عضده عمل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُ أرجح مَا
لم يعضده عَمَلهم ... أَو ساكنون طيبَة أَو أعلم ... فَإِنَّهُ
عِنْدهم الْمُقدم ...
(1/429)
أَي أَن الدَّلِيل إِذا عضده عمل أهل
الْمَدِينَة فَإِنَّهُ أرجح لِأَنَّهَا مهبط الْوَحْي وقبة
الْإِسْلَام فيقوى الظَّن بِعَمَل أَهلهَا فِي الدَّلِيل
وَكَذَلِكَ عمل الأعلم بِأحد الدَّلِيلَيْنِ فَإِنَّهُ يكون
الْأَرْجَح من دَلِيل لم يعْمل بِهِ لكَونه أعرف بمأخذ
الْأَحْكَام وَأخْبر بمواقع الْأَدِلَّة فيقوى الظَّن بِمَا
عمل بِهِ ... ثمَّ الَّذِي فسره رَاوِيه ... فَإِنَّهُ أدرى
بِمَا يرويهِ ...
أَي يرجح مَا فسره رَاوِيه على غَيره مِمَّا لم يُفَسر لكَونه
أعرف بِمَعْنى مَا رَوَاهُ وَأخْبر بِهِ مثل حَدِيث البيعان
بِالْخِيَارِ مَا لم يفترقا فَإِنَّهُ يحْتَمل التَّفَرُّق
بالأقوال أَو بالأبدان ففسره فعل ابْن عمر أَنه كَانَ إِذا
أَرَادَ إِمْضَاء البيع يمشي قَلِيلا ثمَّ يرجع ... وَهَكَذَا
قرينَة التَّأَخُّر ... من طرق التَّرْجِيح عِنْد الْأَكْثَر
...
أَي وَمثل مَا سلف قرينَة التَّأَخُّر فَإِنَّهَا تكون مرجحة
كتأخر إِسْلَام الرَّاوِي أَو تأريخه للْحَدِيث تأريخا
مُتَأَخِّرًا وَهَذِه المرجحات بِاعْتِبَار الْأَغْلَب
وَإِلَّا فقد يعرض للمجتهد خلاف مَا قرر بقرائن تقوم لَدَيْهِ
تَقْتَضِي ذَلِك وَإِلَى هُنَا انْتهى مَا ذكر من المرجحات
النقلية
وَقد ذكر أَئِمَّة الْأُصُول مرجحات عقلية أَشَارَ إِلَيْهَا
قَوْله ... هَذَا وَهَا هُنَا قد انْتَهَت ... مرجحات النَّقْل
وَالْعقل أَتَت ...
المُرَاد بالعقلية مَا يتَعَلَّق بِالْقِيَاسِ وَسمي عقليا
لِأَن التَّعْمِيم بِالْعِلَّةِ وإثباتها فِي مُفْرَدَات مَا
ألحق بِالْأَصْلِ عِنْد النَّص على الْعلَّة عَقْلِي وَهَذَا
تَوْجِيهه للتسمية فِي الْجُمْلَة وَإِلَّا فَبعد التَّعَبُّد
بِالْقِيَاسِ قد صَار نقليا شَرْعِيًّا وَإِذا عرفت هَذَا
فالترجيح بَين القياسين عِنْد تعارضهما لَا يَخْلُو عَن
أَرْبَعَة أَقسَام إِمَّا أَن يكون بِحَسب حكم الأَصْل أَو
بِحَسب الْعلَّة نَفسهَا أَو بِحَسب دَلِيل الْعلَّة أَو
بِحَسب الْفَرْع فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَنْوَاع الأول مَا
أَفَادَ قَوْله ... فَفِي القياسين دع الظنيا ... لما يكون
حكمه قَطْعِيا ...
(1/430)
أَي إِذا وَقع التَّعَارُض فِي القياسين
فَإِنَّهُ يرجح مَا يكون حكم أَصله قَطْعِيا لقطعية الدَّلِيل
وَإِن كَانَ كل من القياسين ظنيا من حَيْثُ الْإِلْحَاق إِلَّا
أَنه يقوى الظَّن فِيمَا يكون حكم أَصله قَطْعِيا لقُوَّة
الطَّرِيق فِي الْقيَاس ... أَو مَا يكون فِي الدَّلِيل أقوى
... فَإِنَّهُ مقدم بِالْأولَى ...
وَذَلِكَ بِأَن ثَبت الحكم فِي أحد الْأَصْلَيْنِ بطرِيق
الْمَنْطُوق وَفِي الثَّانِي بِالْمَفْهُومِ أَو يكون ثَابتا
فِي أَحدهمَا بِالنَّصِّ وَفِي الآخر بِالْعُمُومِ فَإِنَّهُ
يقدم الْأَقْوَى لقُوَّة الظَّن وَهَذَا أَعم من الَّذِي قبله
لِأَنَّهُ قد دخل تَحت قَوْله أَو مَا يكون فِي الدَّلِيل ...
كَذَاك مَا لَا نسخ بِالْإِجْمَاع ... فِيهِ على ذِي الْخلف
والنزاع ...
أَي يرجع مَا لَا ينْسَخ حكم أَصله بالِاتِّفَاقِ على مَا يكون
حكم أَصله مُخْتَلفا فِي نسخه والأمثلة فِي المطولات وَهَذَا
إِلَى هُنَا انْتهى الْقسم الأول
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا يكون التَّرْجِيح فِيهِ
بِحَسب عِلّة حكم الأَصْل فَهُوَ أَنْوَاع من ذَلِك مَا
أَفَادَهُ بقوله ... كَذَا الَّذِي تكون فِيهِ الْعلَّة ...
أقوى لَهُ التَّقْدِيم عِنْد الجلة ...
أَي يرجح أحد القياسين مَا تكون علته أقوى على غَيره وتعرف
قوتها بِأُمُور نبه النّظم عَلَيْهَا بقوله ... بِكَوْنِهَا
مَوْجُودَة فِي الأَصْل ... لقُوَّة المسلك فِيهَا النقلي ...
أَي مَا يكون طَرِيقه الْعلَّة فِيهِ أقوى من طَرِيق الآخر
وهوالمراد بقوله لقُوَّة المسلك أَي مَسْلَك وجودهَا ومثاله
أَن يُقَال فِي الْوضُوء طَهَارَة حكمِيَّة فتفتقر إِلَى
النِّيَّة كالتيمم مَعَ قَول الآخر طَهَارَة بمائع فَلَا
تفْتَقر إِلَيْهَا كَغسْل النَّجَاسَة فيرجح الأول لقُوَّة
طَرِيق وجود الْعلَّة فِيهِ وَهُوَ كَونهَا طَهَارَة حكمِيَّة
(1/431)
أَو كَونهَا الْعلَّة أَو يصحبها
وصف فيقوى عِنْده مُوجبهَا
أَي يرجح أحد القياسين بِقُوَّة مَسْلَك كَونهَا الْعلَّة
بِأَن تكون طَرِيق الْعلَّة بِأحد القياسين بِالنَّصِّ
صَرِيحًا وَفِي الآخر بِالْإِيمَاءِ والتنبيه وَقَوله أَو
يصحبها أَي وتعرف قُوَّة الْعلَّة بِأَن تصحبها عِلّة أُخْرَى
فِي أحد القياسين فَإِنَّهَا أرجح مِمَّا تضمنه عِلّة وَاحِدَة
أَو مُقْتَضى الْحَظْر أَو الْوُجُوب
أَو مَاله تشهد بالمطلوب ... أصولنا أَو كَانَ مِنْهَا يظْهر
أَو الصَّحَابِيّ قَالَه أَو أَكثر
هَذِه أَيْضا من الطّرق الَّتِي يعرف بهَا قُوَّة الْعلَّة
وَهُوَ كَونهَا تفِيد مُقْتَضى الْحَظْر أَو الْوُجُوب دون
الْقيَاس الَّذِي عَارض مَا هِيَ فِيهِ فَيُفِيد الْإِبَاحَة
ومثاله أَن يُعلل تَحْرِيم التَّفَاضُل بِالْكَيْلِ فَتدخل
النورة قِيَاسا على السّنة المنصوصة فَهَذَا الْقيَاس أرجح
مِمَّا علل فِيهِ التَّحْرِيم بالطعم لِأَنَّهُ يقْضِي
بِإِبَاحَة التَّفَاضُل فِي النورة
وَقَوله أَو مَاله تشهد بالمطلوب أصولنا هِيَ فَاعل تشهد
وَهَذَا ثَانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النّظم مقل أَن يُقَال
فِي تعين المَاء لإِزَالَة النَّجَاسَة طَهَارَة ترَاد
للصَّلَاة فَيتَعَيَّن لَهَا المَاء كطهارة الْحَدث فَيُقَال
عين يُرَاد زَوَالهَا فَيصح بالخل كَمَا يَصح بالحت فَإِن
التَّطْهِير بالحت مُخَالف لِلْأُصُولِ المقررة فيرجح الأول
وَقَوله أَو كَانَ مِنْهَا يظْهر أَي أَو كَانَ التَّعْلِيل
مِنْهَا أَي أصولنا مَا يظْهر أَي تعرف قُوَّة الْعلَّة
بِكَوْنِهَا منتزعة من الْأُصُول وَهَذَا الْوَجْه غير الَّذِي
قبله للْفرق بَين كَون الشَّيْء منتزعا من الْأُصُول وَبَين
كَونهَا تشهد لَهُ بموافقتها إِيَّاه
وَقَوله أَو الصَّحَابِيّ رَابِع مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَي
وتعرف قُوَّة الْعلَّة بِأَن تظهر من الصَّحَابِيّ كَأَن ينص
بعض الصَّحَابَة عَلَيْهَا أَو ينص عَلَيْهَا أَكثر من
(1/432)
وَاحِد سَوَاء كَانَ الْأَكْثَر صحابة أَو
غَيرهم من الْعلمَاء وَهُوَ كَمَا مضى من التَّرْجِيح بتفسير
الرَّاوِي أَو عمل الْأَكْثَر ... ثمَّ الْحَقِيقِيّ من
الْأَوْصَاف ... كَذَا الثبوتي بِلَا خلاف ...
أَي يرجح الْقيَاس الَّذِي وَصفه حَقِيقِيّ على الْمعَارض لَهُ
إِذا كَانَ وَصفه غير حَقِيقِيّ بل إقناعي وَنَحْوه كَأَن
يَقُول محرم المثلث مشروب يسكر كَثِيره فَيحرم كَالْخمرِ مَعَ
قَول الْحَنَفِيّ مشرب طيب ذهب خبثه بالنَّار فَلَا يحرم
كَسَائِر الْأَشْرِبَة فَإِن الْوَصْف فِي الأول حَقِيقِيّ
بِخِلَاف الآخر فَإِنَّهُ إقناعي
وَقَوله كَذَا الثبوتي أَي أَنه يرجح الْقيَاس الَّذِي وَصفه
ثبوتي على معارضه الَّذِي وَصفه نفي
وَقَوله بِلَا خلاف أَي فِي انه بِالْوَصْفِ الثبوتي لَا أَنه
لَا خلاف فِي تَرْجِيح الثبوتي بل فِيهِ خلاف مِثَاله أَن
يُقَال فِي خِيَار الصَّغِيرَة إِذا بلغت غير عَالِمَة
بِالْخِيَارِ وَقد زَوجهَا فِي صغرها غير أَبِيهَا وَلَا جدها
متمكنة من الْعلم فَلَا تعذر بِالْجَهْلِ كَسَائِر الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ يرجح على مَا يُقَال جاهلة
بِالْخِيَارِ فَتعذر كالأمة إِذا أعتقت تَحت العَبْد لِأَن
الْوَصْف فِي الأول ثبوتي بِخِلَاف الثَّانِي فَإِن الْجَهْل
عدمي ... وَهَكَذَا الْبَاعِث أَيْضا أرجح ... من الأمارات على
مَا رجحوا ...
أَي وَكَذَا يرجح قِيَاس كَانَ الْوَصْف باعثا على الحكم على
معارضه من الْقيَاس الَّذِي كَانَ الْوَصْف فِيهِ أَمارَة
مُجَرّدَة مِثَاله أَن يُقَال فِي الصَّغِيرَة الثّيّب
صَغِيرَة فيولى عَلَيْهَا فِي النِّكَاح كَمَا لَو كَانَت بكرا
فَلَو قيل ثيب فَلَا يُولى عَلَيْهَا فِي النِّكَاح كَمَا لَو
كَانَت بَالِغَة كَانَ الْقيَاس الأول أرجح لكَون التَّعْلِيل
بالصغر فِيهِ باعثا على التَّوْلِيَة بِخِلَاف الثيوبة
(1/433)
.. وَمَا أَتَى مطردا منعكسا ... أولى
وَمَا يطرد مِمَّا عكسا ...
أَشَارَ إِلَى شَيْئَيْنِ
الأول الْقيَاس ذُو الْوَصْف المطرد المنعكس أولى من الْمعَارض
لَهُ إِذْ لم يكن وَصفه كَذَلِك لسلامته عَن الْمفْسدَة وَبعده
عَن الْخلاف فيقوى الظَّن بِالْأولَى على غَيره مِثَاله قَول
الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس فرض فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه
كَغسْل الْوَجْه وَقَول الْحَنَفِيّ مسح تعبدي فِي الْوضُوء
فَلَا يسن تثليثه كمسح الْخُف فَإِن عِلّة الأول مطردَة غير
منعكسة لِأَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ليسَا فرضا عِنْده
وَيسن تثليثها وَعلة الثَّانِي مطردَة منعكسة إِذْ التَّعْلِيل
وَاقع بِالْمَسْحِ
وَقَوله وَمَا يطرد مِمَّا عكسا هَذَا الثَّانِي من
الشَّيْئَيْنِ أَي وَمَا يطرد أولى مِمَّا يعكس أَي أَنه يرجح
الْقيَاس الَّذِي علته مطردَة على قِيَاس وَصفه منعكس غير مطرد
مِثَاله قَول الشَّافِعِي فِي عدم عتق غير الْأُصُول والفصول
قرَابَة لَا يحرم صرف الزَّكَاة إِلَيْهِ فَلَا يعْتق كَابْن
الْعم فَيَقُول الْحَنَفِيّ ذُو رحم محرم فَيعتق عَلَيْهِ
كالأبوة فعلة الشَّافِعِي مطردَة وَلكنهَا غير منعكسة
فَإِنَّهُ لَو ملكه كَافِرًا لم يعْتق عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهَا
تحرم صرف الزَّكَاة إِلَيْهِ وَعلة الْحَنَفِيّ وَإِن كَانَت
منعكسة فَهِيَ غير مطردَة لنقضها بِابْن الْعم الرَّضِيع
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ التَّرْجِيح بِحَسب دَلِيل
الْعلَّة فأنواع أَيْضا من ذَلِك مَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله
(1/434)
.. وَقدم السبر على الْمُنَاسبَة ... وَهِي
ترى أقدم من وصف الشّبَه ...
أَي أَنه يقدم الْقيَاس الَّذِي تثبت علتة بالسبر على قِيَاس
تثبت علته بالمناسبة وَوَجهه أَن السبر دائر بَين الْإِثْبَات
وَالنَّفْي فَلَا يحْتَمل مُعَارضا بِخِلَاف الْمُنَاسبَة
فَإِنَّهُ لَا يتَعَرَّض فِيهَا لنفي الْمعَارض فَرُبمَا
احتملت معارضتها والأمثلة مَعْرُوفَة فِي المطولات
وَالْمَقْصُود إِثْبَات الْقَاعِدَة
وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ التَّرْجِيح بِحَسب الْفَرْع
فأنواع مِنْهَا مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ قَوْله ... وَرجح
الْوَصْف الَّذِي بِالْقطعِ ... وجوده مُحَقّق فِي الْفَرْع
...
أَي أَنه يرجح الْقيَاس الَّذِي يقطع بِوُجُود عِلّة الحكم فِي
الْفَرْع على مَا يظنّ وجودهَا كَأَن يُقَال فِي جلد الْكَلْب
حَيَوَان لَا يجوز بَيْعه فَلَا يطهر جلده بالدبغ كالخنزير
فَإِنَّهُ أرجح مِمَّا لَو قيل حَيَوَان يحْتَاج الْإِنْسَان
إِلَى مزاولته فيطهر بالدبغ جلده كالثعلب فَإِن الْقيَاس الأول
أرجح للْقطع بِوُجُود الْوَصْف فِي الْفَرْع وَهُوَ عدم جَوَاز
البيع ... وَمَا بِنَصّ ثَابت فِي الْجُمْلَة ... أَو شَارك
الأَصْل بِعَين الْعلَّة ...
اشْتَمَل على مرجحين
الأول قَوْله وَمَا بِنَصّ إِلَخ أَي مَا ثَبت حكم الْفَرْع
بِنَصّ على سَبِيل
(1/435)
الْجُمْلَة فَهُوَ أرجح مِمَّا لم يثبت
أصلا بل يحاول إِثْبَات حكم الْفَرْع ابْتِدَاء مِثَاله أَن
يُقَال فِي تعْيين حد الْخمر الثَّابِت بِالنَّصِّ من دون
تعْيين فَاحِشَة مَظَنَّة للافتراء فَيحد صَاحبهَا ثَمَانِينَ
كالقذف فَهُوَ أولى مِمَّا يَقُول الْخصم مَائِع فَلَا يحد
شَاربه كَالْمَاءِ لِأَن الْقيَاس الأول أثبت على جِهَة
التَّفْصِيل لما ثَبت بِالنَّصِّ فِي الْجُمْلَة بِخِلَاف
الآخر فَإِنَّهُ أثبت فِي الْفَرْع حكما ابْتِدَاء
وَالثَّانِي قَوْله أَو شَارك الأَصْل بِعَين الْعلَّة إِلَّا
أَنه لم يتم فهم مَعْنَاهُ إِلَّا بِالْبَيْتِ الآخر وَهُوَ
قَوْله ... وَعين حكم الأَصْل كَانَ أقدما ... أَو كَانَ فِي
عين وجنس قاسما ...
أَي إِذا شَارك الْفَرْع الأَصْل فِي عين الْعلَّة وَعين الحكم
فَإِنَّهُ أولى مِمَّا لم يُشَارِكهُ فِي ذَلِك مثل أَن
يُشَارِكهُ فِي عين الحكم وجنس الْعلَّة أَو جنس الحكم وَعين
الْعلَّة أَو جنس الحكم وجنس الْعلَّة وَوَجهه أَن
الْمُشَاركَة فِي الْعَينَيْنِ عين الحكم وَعين الْعلَّة يدل
على كَمَال الِاتِّحَاد بَين الأَصْل وَالْفرع فَيكون أولى من
المشارك فِي الثَّلَاثَة الْأُخَر وأمثلة كل ذَلِك فِي
المطولات وأثبتها فِي الفواصل وَقَوله قاسما أَي قَاسم
الْفَرْع الأَصْل فِيمَا ذكر
(1/436)
فَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أرجح من
الْمُشَاركَة فِي جنس الحكم وجنس الْعلَّة لِأَن الْمُشَاركَة
فِي عين وَاحِد مِنْهُمَا تدل على أَن التشابه بَينهمَا أقوى
وَمَا غَدا فِي عينهَا وَالْجِنْس
مشاركا قدم عِنْد الْعَكْس
أَي وَالْفرع المشارك فِي عين الْعلَّة وجنس الحكم أولى من
الْعَكْس يَعْنِي وَهُوَ مَا يُشَارك فِي عين الحكم وجنس
الْعلَّة وَوَجهه أَن الْعلَّة هِيَ الْعُمْدَة فِي
التَّعْدِيَة وَمَعَ الْمُشَاركَة فِي عينهَا يقوى التشابه
بَينهمَا من الْعَكْس هَذَا نظم مَا شَمله الأَصْل
وللترجيح أَنْوَاع أخر وللمقامات مرجحات وَقد أَشَارَ إِلَى
ذَلِك بقوله
وأوجه التَّرْجِيح لَا تَنْحَصِر
فِيمَا لَهُ من صور قد ذكرُوا ... وَهِي على أهل الذكا لَا
تخفى
إِن وافقوا من الْإِلَه لطفا
فَإِنَّهُ لَا علم إِلَّا مَا علمتنا وَهُوَ يَقُول لرَسُوله
{وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما}
اللَّهُمَّ علمنَا مَا جهلنا وحفظنا مَا علمنَا وَذكرنَا مَا
نَسِينَا وارزقنا الْعَمَل بِمَا علمنَا واجعلنا هداة مهديين
خَاتِمَة تذكر فِي الْحُدُود
تميز الْحَد من الْمَحْدُود
هَذِه خَاتِمَة أَتَى بهَا المُصَنّف فِي الْحُدُود فَقَوله
تميز الْحَد جملَة حَالية من الْحُدُود لَا من الخاتمة لِأَن
الخاتمة تشْتَمل على بَيَان أَقسَام الْحُدُود وتعريف كل قسم
مِنْهَا وعَلى بَيَان أَنْوَاع التَّرْجِيح فِي الْحُدُود
السمعية كَمَا تعرفه
وَالْحَد لُغَة الْمَنْع وَمِنْه قيل للحاجب حدادا
وَفِي الِاصْطِلَاح مَا أَفَادَهُ قَوْله
فالحد مَا يُمَيّز المذكورا
عَن غَيره كَمَا ترى مسطورا
(1/437)
أَي مَا يُمَيّز مَا قصد حَده عَن غَيره
وَهُوَ معنى قَوْلهم الْحَد مَا يُمَيّز الشَّيْء عَمَّا عداهُ
كَمَا ترى أَي فِيمَا يَأْتِي من تَعْرِيف كل حد وَهَذَا
التَّعْرِيف شَامِل لأنواع الْحَد الْآتِيَة
وَلما انقسم الْحَد إِلَى لَفْظِي ومعنوي بَين كل وَاحِد بقوله
وَالْحَد لَفْظِي ومعنوي
فالكشف بالأجلى هُوَ اللَّفْظِيّ
هَذَا لف وَنشر أَي الْحَد انقسم إِلَى لَفْظِي نِسْبَة إِلَى
اللَّفْظ لكَونه يكون بِلَفْظ آخر ومعنوي يكون المُرَاد مِنْهُ
الْكَشْف عَن حَقِيقَة الشَّيْء إِمَّا بِالذَّاتِ أَو باللازم
فاللفظي هُوَ الْكَشْف عَن اللَّفْظ بِلَفْظ أجلى مِنْهُ نَحْو
أَن يُقَال الخندريس الْخمر والغضنفر الْأسد وَهُوَ تَفْصِيل
اللَّفْظ الْخَفي بالجلي وَعَلِيهِ دونت كتب اللُّغَة فِي
غالبها
والمعنوي عِنْد أهل الْعلم
إِمَّا حَقِيقِيّ وَإِمَّا رسمي
هَذَا تَقْسِيم للمعنوي إِلَى حَقِيقِيّ وهوالمشتمل على بَيَان
حَقِيقَة الشَّيْء الذاتية وَإِلَى رسمي وهوالمشتمل على
التَّعْرِيف باللازم للشَّيْء لُزُوم الْأَثر للمؤثر أخذا من
رسم الدَّار أَثَرهَا ثمَّ هما أَيْضا ينقسمان إِلَى مَا
يفِيدهُ قَوْله
وَالْكل إِمَّا نَاقص أَو تَامّ
فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقسَام
أَي كل وَاحِد من الْحَقِيقِيّ والرسمي إِمَّا نَاقص وَإِمَّا
تَامّ فَكَانَت أَرْبَعَة أَقسَام وَقد بَين فِي النّظم كل قسم
مِنْهَا على التَّرْتِيب الْمَذْكُور
فالقسم الأول الْحَد التَّام وَهُوَ المفاد بقوله
فالتام من أَولهَا مَا ركبا
من جنس مَا يذكر أَعنِي الأقربا ... وفصله الْأَقْرَب وَهُوَ
الْأَشْرَف
لِأَنَّهُ يكْشف مَا يعرف
(1/438)
من أَولهَا أَي الْأَرْبَعَة وَهُوَ
الْحَقِيقِيّ مَا ركب من جنس الْمَحْدُود وفصله الْقَرِيب لَا
مُطلق الْجِنْس والفصل وَلذَا قَيده بقوله أَعنِي الأقربا
وَوصف الْفَصْل بِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصُود بِالْحَدِّ
الْحَقِيقِيّ بَيَان حَقِيقَة الْمَحْدُود بِمَا يخْتَص بِهِ
ومثاله الْمَعْرُوف حَيَوَان نَاطِق فِي حد الْإِنْسَان
فالحيوان جنسه الْقَرِيب لِأَنَّهُ تَمام الْمُشْتَرك بَين
الْإِنْسَان وَبَين غَيره فِي الجنسية فَيَقَع جَوَابا عَن
الْمَاهِيّة وَعَن جَمِيع مَا يشاركها فَصله فقد سبق تَحْقِيق
الكليات الْخمس فِي الْبَاب الثَّالِث وَظَاهر النّظم سَوَاء
قدم الْجِنْس كَمَا مثل اَوْ الْفَصْل كَأَن يُقَال
الْإِنْسَان نَاطِق حَيَوَان وَهُوَ رَأْي كثير من
الْمُحَقِّقين لِأَن اجْتِمَاع الْجِنْس والفصل القريبين هُوَ
المُرَاد الْمُبين للذات
وَقَوله وَهُوَ الْأَشْرَف أَي الْحَد الْحَقِيقِيّ التَّام
أشرف الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة لكَونه يكْشف عَن الْمَحْدُود
كشفا تَاما بِبَيَان ذاتياته
وَالْقسم الثَّانِي وَهُوَ الْحَد النَّاقِص بَينه قَوْله ...
وناقص الْحَد الْحَقِيقِيّ غَدا ... يخْتَص بِالْفَصْلِ
الْقَرِيب لَا سوى ...
أَي أَن الْحَد النَّاقِص مَا كَانَ بِالْفَصْلِ الْقَرِيب
وَحده مثل الْإِنْسَان نَاطِق وَإِنَّمَا كَانَ نَاقِصا
لوُقُوع الْخلَل فِي صُورَة الْحَد بِإِسْقَاط جنسه الْقَرِيب
وَإِلَّا فالمحدود لَيْسَ بناقص لِأَن الْفَصْل الْقَرِيب
مُسْتَلْزم للْجِنْس الْقَرِيب فقد أَفَادَ مَا هُوَ
الْمَقْصُود بِالْحَدِّ وَهُوَ تصور حَقِيقَة الشَّيْء وتميزه
عَمَّا عداهُ
وَلما كَانَ قد يُؤْتى مَعَ الْفَصْل الْقَرِيب بِالْجِنْسِ
الْبعيد وَلكنه لَا يخرج بِهِ الْحَد عَن كَونه نَاقِصا
أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله ... وَقد يضم جنسه الْبعيد ...
إِلَيْهِ لَكِن مَا لَهُ مزِيد ...
أَي قد يضم الْجِنْس الْبعيد إِلَى الْفَصْل الْقَرِيب
بِالْحَدِّ النَّاقِص نَحْو الْإِنْسَان جسم نَاطِق وَلَا
يُخرجهُ عَن كَونه حدا نَاقِصا وَلذَا قَالَ مَا لَهُ مزِيد
أَي لَا يكمل بِهَذِهِ الزِّيَادَة
(1/439)
الْقسم الثَّالِث وَالرَّابِع الرَّسْم
التَّام والرسم النَّاقِص وَقد اشْتَمَل على بيانهما قَوْله
والتام من ثَانِيهمَا مَا فِيهِ
جنس لَهُ وخاصة تليه ... أَعنِي قَرِيبا فَإِذا مَا فقدا
وَإِن أَتَى من أَي جنس أبعدا ... أَو عرضيات بِهِ تخْتَص
فَالْكل رسم قد عراه النَّقْص
اشْتَمَلت على بَقِيَّة الْأَرْبَعَة فالتام من ثَانِيهمَا أَي
ثَانِي الْقسمَيْنِ وهما الْحَقِيقِيّ والرسمي وَهُوَ ثَالِث
الْأَقْسَام الرَّسْم التَّام وَهُوَ مَا يركب من الْجِنْس
الْقَرِيب والخاصة نَحْو الْإِنْسَان حَيَوَان ضَاحِك
وَالتَّقْيِيد ب تليه بَيَان للْغَالِب وَإِلَّا فَلَو قيل
الْإِنْسَان ضَاحِك حَيَوَان كَانَ رسما تَاما وَحَقِيقَة
الْخَاصَّة عِنْد المناطقة إِذْ هَذِه الأبحاث على اصطلاحهم
هِيَ الْخَارِجَة عَن الْمَاهِيّة المقولة على مَا تَحت
حَقِيقَة وَاحِدَة وَيُسمى هَذَا الْقسم رسما تَاما لمشابهتها
الْحَد التَّام من حَيْثُ اشتماله على الْجِنْس الْقَرِيب
وعَلى مَا هُوَ مُخْتَصّ بِهِ وَهُوَ الْخَاصَّة
وَالْقسم الرَّابِع الرَّسْم النَّاقِص أَفَادَهُ قَوْله
فَإِذا مَا فقد الْجِنْس الْقَرِيب فالألف للإطلاق لَا
يتَوَهَّم أَنه ضمير تَثْنِيَة فالناقص مَا كَانَ بالخاصة
وَحدهَا نَحْو الْإِنْسَان ضَاحِك أَو مَعَ الْجِنْس الْبعيد
نَحْو الْإِنْسَان جسم ضَاحِك أَو كَانَ بالعرضيات الَّتِي
تخْتَص كلهَا بِحَقِيقَة وَاحِدَة نَحْو الْإِنْسَان ماش على
قَدَمَيْهِ عريض الْأَظْفَار بَادِي الْبشرَة مستوي الْقَامَة
فَإِنَّهُ هَذِه تخْتَص بالإنسان لَا يتم تَعْرِيفه إِلَّا
بهَا كلهَا وَإِنَّمَا سمي نَاقِصا لنقصانه لفقد الْجِنْس
الْقَرِيب
وَلما كَانَ الْحَد يشْتَرط فِيهِ شَرَائِط قَالَ
وَاعْلَم بِأَن الْحَد فِي الْعُلُوم
يصان عَمَّا قد حوى منظومي ... عَن الْمسَاوِي فِي جلاه والخفا
وَأَن يكون مَا بِهِ قد عرفا ... لَهُ على محدوده التَّوَقُّف
فَإِن هَذَا عِنْدهم مزيف
هَذَا بَيَان لما يجب أَن يحْتَرز عَن الْإِتْيَان بِهِ فِي
الْحُدُود فَلَا يَصح الْحَد بالمساوي فِي الْجلاء كالمتضايفين
نَحْو الْأَب من لَهُ الابْن لِأَنَّهُمَا يتعقلان مَعًا
(1/440)
بِالضَّرُورَةِ وكالمتضادين نَحْو السوَاد
ضد الْبيَاض لتعلقهما مَعًا عَادَة وَالْحَد لَا بُد أَن يكون
مَعْلُوما يُوصل إِلَى تصور مَجْهُول وَمَعَ تساويهما فِي
الْجَلِيّ تضيع فَائِدَته وَلَا بُد من صيانته عَن الْمسَاوِي
فِي الخفاء كتعريف الزرافة بحيوان يشبه جلده جلد النمر لمن لَا
يعرف النمر إِذْ لَا يُفِيد تصور الْمَحْدُود
وَقَوله وَأَن يكون مَا بِهِ قد عرفا أَي يصان الْحَد عَن أَن
يكون بِمَا يتَوَقَّف مَعْرفَته على معرفَة الْمَحْدُود
للُزُوم الدّور سَوَاء كَانَ بمرتبة أَو أَكثر كَمَا يفِيدهُ
قَوْله ... برتبة تكون أَو مَرَاتِب ...
أَي يكون التَّوَقُّف بمرتبة مثل تَعْرِيف الْكَيْفِيَّة بِمَا
يَقع بِهِ المشابهة ثمَّ يُقَال والمشابهة اتِّفَاق الكيف أَو
يكون بمرتبتين كتعريف الِاثْنَيْنِ بِأول عدد يَنْقَسِم
بمتساويين ثمَّ تَعْرِيف المتساويين بالشيئين الْغَيْر
المتفاضلين ثمَّ تَعْرِيف الشَّيْئَيْنِ بالاثنين أَو بِثَلَاث
مَرَاتِب كتعريف الِاثْنَيْنِ بِالزَّوْجِ الأول وتعريف
الزَّوْج الأول بالمنقسم بالمتساويين إِلَى آخر مَا تقدم
وَإِنَّمَا لم يَصح هَذَا التَّعْرِيف التوقفي لما عرفت من
أَنَّهَا لَا بُد أَن تكون معرفَة الْحَد مُتَقَدّمَة على
معرفَة الْمَحْدُود وَلَو بِوَجْه عَام وَتوقف معرفَة أَحدهمَا
على الآخر يُنَافِي ذَلِك ... وَمن غَرِيب اللَّفْظ للمخاطب
...
أَي وَلَا بُد من صيانته عَن إِيرَاده بِلَفْظ غَرِيب للمخاطب
أَي لأجل إفادته الْمُخَاطب نَحْو النَّار جَوْهَر يشبه
النَّفس وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يكون مَعْرُوفا عِنْد
الْمُخَاطب إِلَّا مثل الْمجَاز الْمَشْهُور فشهرته تخرجه عَن
الغرابة
هَذَا وَقد أُشير إِلَى أَنه يجْرِي التَّرْجِيح فِي الْحُدُود
فأبانه بقوله ... وَقد جرى التَّرْجِيح فِي الْحُدُود ...
سمعية تُفْضِي إِلَى الْمَقْصُود ...
أَي أَنه كَمَا يَقع التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة يَقع بَين
الْحُدُود وقيدها بالسمعية لِأَن الْعَقْلِيَّة لَا بحث
للأصولي عَنْهَا وَمعنى أَنَّهَا سمعية أَنَّهَا وضعت لتصوير
مَا اسْتُفِيدَ من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة كَقَوْلِهِم
الصَّلَاة عبَادَة ذَات أذكار
(1/441)
وأركان تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها
التَّسْلِيم وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يحده الْفُقَهَاء فِي
أَنْوَاع الْعِبَادَات والمعاملات وَالظَّاهِر أَنهم
يُرِيدُونَ بِأَنَّهُ يجْرِي بَينهَا التَّرْجِيح أَن مَا
كَانَ أَكثر جمعا ومنعا فَهُوَ أولى من الْقَاصِر عَنْهُمَا
وَنَحْو ذَلِك
وَقد بحثنا فِي شرحنا سبل السَّلَام فِي كتاب الْحُدُود عَن
المُرَاد بحدود الله تَعَالَى فَمن مرجحات الْحُدُود السمعية
مَا أَفَادَهُ قَوْله ... بِمَا أَتَى فِيهِ بِلَفْظ أعرفا ...
أَو كَونه الأعرف مِمَّا عرفا ...
أَي يرجح الْحَد الَّذِي أَلْفَاظه أعرف وَأظْهر على الْحَد
الَّذِي لَيْسَ كَذَلِك ومثاله أَن نقُول الْحَنَابِلَة حُدُوث
صفة شَرْعِيَّة فِي الْإِنْسَان عِنْد خُرُوج الْمَنِيّ أَو
عِنْد سَببه تمنع من الْقِرَاءَة وَالْآخر الْجَنَابَة خُرُوج
الْمَنِيّ على وَجه الشَّهْوَة فَالْأول يَقْتَضِي أَن
الْجَنَابَة غير خُرُوج الْمَنِيّ وَالثَّانِي يَقْتَضِي
أَنَّهَا نفس خُرُوجه فَيكون الأول أرجح لكَونه أصرح وَلما فِي
الثَّانِي من التَّجَوُّز وَهَذَا مِثَال وَهُوَ مناقش فِيهِ
وَقَوله أَو كَونه الأعرف مِمَّا عرفا أَي يرجح أَحدهمَا
بِكَوْنِهِ أعرف وَأظْهر من الْحَد الآخر وَذَلِكَ بِأَن يكون
أَحدهمَا شَرْعِيًّا وَالْآخر حسيا مثل أَن يُقَال التَّيَمُّم
هُوَ التطهر بِالتُّرَابِ مَعَ قَول الآخر هُوَ مسح الْوَجْه
وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ فَالْأول حكم شَرْعِي وَالثَّانِي
حسي فَيكون أرجح لكَونه أظهر وَنَحْو ذَلِك من الْأَمْثِلَة
... أَو عَم أَو سمعا غَدا مُوَافقا ... أَو لُغَة فِي نَقله
قد طابقا ...
أَي يرجح الْحَد الْأَعَمّ على الآخر الْأَخَص لِكَثْرَة
الْفَائِدَة فِيهِ ومثاله الْخمر مَائِع يقذف بالزبد فَهُوَ
أرجح من قَول الآخر هُوَ الْعصير من مَاء الْعِنَب لشُمُوله
لأنواع الْخمر من التَّمْر وَالشعِير وَغَيرهمَا أَو وَافق
السّمع فَإِنَّهُ أرجح مِمَّا لَا يُوَافقهُ كَأَن يُقَال
الْخمر مَا أسكر مَعَ قَول الآخر هُوَ الْعصير من الْعِنَب
فَإِن الأول مُوَافق الدَّلِيل السمعي وَهُوَ كل مُسكر حرَام
أَو وَافق لُغَة كالمثال الْمَذْكُور فَإِنَّهُ مَأْخُوذ عَن
مخامرة الْعقل فَيعم كل مُسكر
(1/442)
أَو مَا يعْمل أهل طيبَة
أَو خلفا سيد الْبَريَّة ... أَو عُلَمَاء أمة الرَّسُول
أَو بَعضهم فاخصصه بِالْقبُولِ
هَذَا من التَّرْجِيح بالأمور الخارجية وَالْمرَاد من قَوْله
أَو عُلَمَاء أمة الرَّسُول إِلَّا كثير مِنْهُم إِذْ لَو
كَانَ المُرَاد الْإِجْمَاع تعين عدم مُخَالفَته
وَقَوله أَو بَعضهم أَي الْأَقَل مِنْهُم فَإِنَّهُ أرجح
مِمَّا انْفَرد بِهِ وَاحِد
أَو قرر الْحَظْر أَو النَّفْي وَمَا
يدْفع حدا فَهُوَ عِنْد العلما ... مقدم إِلَى سوى مَا ذكرا
مِمَّا يرَاهُ الذكا مُعْتَبرا ... بذهنه وفكره السَّلِيم
ولطف رب الْعِزَّة الْعَلِيم
أَي أَنه يرجح أحد الحدين بِأَن يكون مقررا للحظر دون الآخر
أَو مقررا للنَّفْي وَالْآخر للإثبات وأمثلتها مَعْرُوفَة
وَقَوله بذهنه وفكره السَّلِيم يتَعَلَّق بقوله مُعْتَبرا
وَهَذِه إِشَارَة إِلَى كَثْرَة طرق التَّرْجِيح فِي الْحُدُود
السمعية كَمَا فِي الادلة السمعية وَقد ذكرت فِي مطولات
الْفَنّ مَا ذكر وَكثير من المرجحات لم تذكر فِي الْكتب
الْأُصُولِيَّة وَهُوَ يعرف من تتبع الْمَوَارِد الشَّرْعِيَّة
فمدار التَّرْجِيح على مَا يقوى للنَّاظِر وَهُوَ يخْتَلف
باخْتلَاف صفاء الذِّهْن وَقُوَّة الذكاء والفكر السَّلِيم
وَلذَا قيل إِنَّهَا لَا تَنْحَصِر طرق التَّرْجِيح
فَمِنْهُ عز كل لطف يسْأَل
ثمَّ عَلَيْهِ لَا سوى الْمعول
تقدم مِنْهُ وَعَلِيهِ يُفِيد الْحصْر وَهُوَ كَذَلِك وَهل من
غَيره يطْلب كل مَطْلُوب اَوْ على سواهُ يعول فِي كل أَمر
مَرْغُوب
نَسْأَلهُ الكافل من هباته
بغاية تبلغنَا جناته
لَا يخفى لطف الْجمع بَين الكافل والغاية مَعَ التورية ومناسبة
حسن الختام
ثمَّ صَلَاة الله وَالسَّلَام
على الَّذِي طَابَ بِهِ الختام
(1/443)
ختام كل الْأَنْبِيَاء وَالرسل
وَهُوَ ختام كل قَول أمل ... مُحَمَّد وَآله الْأَطْهَار
مدى اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار
اردف الدُّعَاء بِالصَّلَاةِ على الْمُصْطَفى وَآله الأتقياء
لما تقرر من مَشْرُوعِيَّة ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد
ذكر ربه والحث على ختم الدُّعَاء بهَا وَالتَّرْغِيب فِيهَا
على الْإِطْلَاق وَلَا يخفى حسن الختام فِي الْمقَام ولطف
قَوْله على الَّذِي طَابَ بِهِ الختام نسْأَل الله أَن يخْتم
لنا بِرِضَاهُ ويوزعنا شكر مَا أولاه ونسأله الْمَزِيد من
نعماه وَالْحَمْد لله أَولا وآخرا
قَالَ فِي المنقولة مِنْهُ وَهِي نُسْخَة الْمُؤلف وَجرى
عَلَيْهَا قلمه بالتصحيح مَا لَفظه قَالَ الْمُؤلف حفظه الله
وأبقاه وأدام فِي درج الْمَعَالِي ارتقاه وَافق تَمام هَذَا
الْمُخْتَصر بعد الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء 19 شهر
جُمَادَى الأولى من سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف 1173
وَوَافَقَ الْفَرَاغ من زبره بعناية مُؤَلفه مَوْلَانَا
الَّذِي حَاز قصب السَّبق فِي مضمار الْكَلَام وغريبه وَجَاز
طرف البلاغة فِي مضمار الْكَلَام ومعرضه من بَحر علمه نمير
وَروض أدبه نضير السَّيِّد الْعَلامَة الخطير والكامل الفهامة
الشهير عز الْإِسْلَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَمِير لَا
زَالَت ذَاته الْعلية متسمة بأشراف سمات الْمَعَالِي وَلَا
بَرحت فِي الْأَيَّام مبتسمة لَهُ ابتسام الصدْق عَن اللآلي
وَلَا فتئت أندية المعارف بفتيت عوارفه مغمورة وَمَا انفكت
ذيول الْآدَاب بِوُجُودِهِ على طلبَهَا مصحوبة مجرورة وَلَا
بَرحت رُؤُوس ذُو النصب بارتفاع كَلمته مَحْفُوظَة مَقْصُورَة
آمين اللَّهُمَّ آمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى
آله وَصَحبه يَوْم الِاثْنَيْنِ 14 شهر جُمَادَى الْآخِرَة سنة
1180 هجرية انْتهى
وَوَقع الْفَرَاغ من تَحْصِيل هَذِه النُّسْخَة قبيل الْمغرب
يَوْم الْجُمُعَة حادي وَعشْرين شهر شعْبَان المنتظم فِي سلك
سنة 1326 هجرية بقلم الحقير المفتقر إِلَى كرم سُبْحَانَهُ
أَحْمد بن أَحْمد بن يحيى بن أَحْمد الحيمي السياغي غفر الله
ذنوبهم وَستر عيوبهم وَجَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات
وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله
(1/444)
|