الإبهاج في شرح المنهاج

ج / 1 ص -192-       الباب الأول في اللغات وفيه فصول
الفصل الأول في الوضع

قال الباب الأول في اللغات وفيه فصول الفصل الأول في الوضع.
وجه تقديم باب اللغات على غيره أن معرفة ماهية الشيء سابقة على معرفة أقسامه وأحكامه واللغات جمع لغة وإنما جمعها وإن كان الغرض الكلام في لغة العرب وهي واحدة لاشتراك مباحثه بين جميع اللغات وقد أودع هذا الباب تسعة فصول أولها في الوضع وهو عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني وهذا تعريف سديد فإنك إذا أطلقت قولك قام زيد فهم منه صدور القيام منه.
فإن قلت مدلول قولنا قام زيد صدور قيامه سواء أطلقنا هذا اللفظ أم لم نطلقه فما وجه قولكم بحيث إذا أطلق.
قلت الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد فإنك إذا قلت قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم فإذا قلت إن قيام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية فإن قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا فعلمت بهذا أن لإفادة قام الناس للإخبار بقيام جميعهم شرطين:
أحدهما: ألا يبتدئه بما يخالفه.

 

ج / 1 ص -193-       والثاني: ألا يختمه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط لا بد منها وعلى السامع التنبه لها فوضح بهذا أنك لا تستفيد قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كلف في ذلك لأن الواضع وضعه لذلك؟
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيئا لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم يعلم من قائله هل قصده أو لا أو ابتداه وختمه بما يغيره أو لا هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس أو لا قلت فيه نظر يحتمل أن يقال بجوازه لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيره ويحتمل أن يقال لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ولكن الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقق ويحتمل أن يقال إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شرط والشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الإبتداء والختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان والشك في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصل عدمه واختار والدي أيده الله أنه لا بد من أن يعلم الثلاثة ويؤيده ما حكاه الروياني عن صاحب الحاوي فيما إذا قال الرجل لزوجته طلقتك ثم قال سبق لساني وإنما أردت طلبتك أن المرأة إن ظنت صدقه بأمارة فلها أن تقبل قوله ولا تخاصمه وإن من عرف ذلك منه إذا عرف الحال يجوز أن يقبل قوله ولا يشهد عليه قال الروياني وهذا هو الاختيار وهذه الأسئلة من إيرادي في مجلس مباحثة على الشيخ الإمام والدي والأجوبة له.

 

ج / 1 ص -194-       أسباب وضع اللغات
والموضوع والموضوع له وفائدة الوضع
قال لما مست الحاجة إلى التعاون والتعارف وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال لعمومه وأيسر لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضروروي وضع بإزاء المعاني الذهنية لدورانه معها.
يتعلق بالوضع أمور ستة:
أحدها: سببه وقد خلق الله نوع الإنسان وصيره محتاجا إلى أمور لا يستقل بها بل يفتقر إلى المعاونة عليها ولا بد في المعاونة من الاطلاع على مضمرات النفوس وذلك إما باللفظ أو بالإشارة أو بالمثال قوله وكان اللفظ هذا هو الأمر الثاني في الموضوع ومن لطف الله تعالى إحداث الموضوعات لأنها أفيد هذه الثلاثة وأيسرها أما كونها أفيد فلأنها تعم كل شيء معلوم موجود ومعدوم إلى غير ذلك لإمكان وضع اللفظ بإزاء ما أريد من تلك المعاني بخلاف الإشارة فإنها مخصوصة بالموجودات المحسوسة وبخلاف المثال وهو أن نجعل لما في الضمير شكلا فإنه أيضا كذلك لا يعسر بل يتعذر أن يجعل لكل شيء مثال يطابقه وأما كونها أيسر موافقة للأمر الطبيعي لأن الجروف كيفيات تعرض للنفس الضروري ولا شك في أن الموافق للأمر الطبيعي أسهل من غيره.
قوله وضع.
هذا هو الأمر الثالث الموضوع له وإذا ثبت ما ذكرناه فنقول وضع اللفظ بإزاء المعاني الذهنية وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بل بإزاء الخارجية واستدل المصنف على الأول بدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية فإن من رأى

 

ج / 1 ص -195-       شبحا من بعيد واعتقده مثلا حيوانا مخصوصا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان فإذا تغير ذلك الاعتقاد باعتقاد آخر أطلق عليه بحسب ذلك الاعتقاد اسما آخر وهذا الدليل أيضا يدل على بطلان القول بأنها موضوعة بإزاء الخارجية لأنها لو كانت موضوعة بإزاء المعاني الخارجية لامتنع تسمية ذلك بحيوان مخصوص وقد عرف أن ذلك لا يمتنع مع عدم الشعور بكونه إنسانا ولكان يمتنع اختلاف الألفاظ عند عدم اختلاف الأمر الخارجي وقد أجيب عن هذا الدليل بأن هذا الاختلاف إنما هو لاعتقاد أنها في الخارج كذلك لا لمجرد اختلافها في الذهن.
قال ليفيد النسب والمركبات دون المعاني المفردة وإلا فيدور.
اللام في قوله ليفيد متعلقة بقوله قبل ذلك وضع وهذا هو الأمر الرابع في فائدة الوضع فنقول ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة أن يفاد بها معانيها المفردة لأن إفادتها لها متوقفة على العلم بها ضرورة أن العلم بالنسبة يستدعي العلم بالمنتسبين فلو استفيد العلم بها منها لزم الدور بل الغرض منه التمكن من إفادة المعاني المركبة بتركيبها والدور غير لازم هنا إذ يكفي من تلك الإفادة العلم بوضع تلك الألفاظ المفردة وانتساب بعضها إلى بعض بالنسبة المخصوصة والحركات المختصة.

 

ج / 1 ص -196-       الواضع للغات وآراء العلماء فيها
قال ولم يثبت تعيين الواضع والشيخ زعم أنه تعالى وضعه ووقف عباده عليه لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} ولأنها لو كانت اصطلاحية لاحتيج في تعريفها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل ولجاز التغيير فيرتفع الأمان عن الشرع وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء وخصائصها أو ما سبق وضعها والذم للاعتقاد والتوقيف يعارضه الإقدار والتعليم بالترديد والقرائن كما للأطفال والتغيير لو وقع لاشتهر وقال أبو هاشم الكل مصطلح وإلا فالتوقيف إما بالوحي فيتقدم البعثة وهي متأخرة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أو بخلق علم ضروري في عاقل فيعرفه تعالى ضرورة فلا يكون مكلفا أو في غيره وهو بعيد وأجيب بأنه يلهم العاقل بأن واضعا وضعها وإن سلم لم يكن بالمعرفة فقط وقال الأستاذ ما وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي والباقي مصطلح.
هذا الفصل باحث عن الوضع وهو الأمر الخامس فنقول ذهب عباد بن سليمان الصيمري ومن وافقه إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: وهو الذي اقتضاه نقل الآمدي عنه أن تلك المناسبة الطبيعية حاملة للواضع على الوضع وهو أقل نكيرا ولا يمكن ادعاؤه في كل الألفاظ واللغات إذ لو كان كذلك لما وقع المشترك بين الضدين ولما اختلفت دلالات الألفاظ على معانيها باختلاف الأمم والأزمنة إذ المناسبة الطبيعية لا تختلف باختلافها.

 

ج / 1 ص -197-       والثاني: وهو أعظم نكيرا أن تلك المناسبة الطبيعية وحدها كافية في كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني من غير احتياج إلى الوضع وهو معلوم الفساد هو الذي اقتضاه نقل الإمام عنه واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح والجواب أن الواضع إن كان هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون غيره وإن كان الناس فيحتمل أن يكون السبب حضور ذلك اللفظ بالبال في ذلك الوقت دون غيره إذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري حان النظر في الكلام في الواضع وفيه كلام الكتاب فالواضع إن كان هو الله تعالى فهو مذهب الشيخ أبي الحسن ومن وافقه وهو المسمى بالتوقيف وإن كان هو العبد فهو مذهب الشيخ أبي هاشم وهو المسمى بالاصطلاح والتواطؤ وإن كان منهما فإما أن يكون ابتداء الوضع من الله والباقي من العبد وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق أو العكس وهو مذهب ضعيف لم يذكره في الكتاب وأما جمهور المحققين كالقاضي فمن بعده فقد توقفوا في الكل وقالوا بإمكان كل واحد من هذه الاحتمالات الأربعة وهو الذي اختاره في الكتاب حيث قال ولم يثبت تعيين الواضع وقال ابن الحاجب الظاهر قول الأشعري ومعنى هذا القول بالوقف لعدم القطع بواحد من هذه الاحتمالات ويرجح مذهب الأشعري بغلبة الظن وقد كان بعض الضعفاء يقول إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد لأن العلماء في المسألة بين متوقف وقاطع بمقالته فالقول بالظهور لا قائل به وهذا ضعيف فإن المتوقف لعدم قاطع قد يرجح بالظن ثم إن كانت المسألة ظنية اكتفى في العمل بها لذلك الترجيح وإلا توقف عن العمل بها.

 

ج / 1 ص -198-       الأدلة
وقد احتج الشيخ رضوان الله عليه بأوجه
الأول: قوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 الآية دلت على أن التعليم من الله تعالى وإذا ثبت هذا في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف لأنه لا قائل بالفرق ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف ولأن الاسم إنما سمي إسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي أسماء وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهو اصطلاح محدث للنحاة واللغويين
الثاني: قوله تعالى:
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}2 ذمهم على تسميتهم بعض الأسماء بما سموها به من تلقاء أنفسهم فلولا التوقيف في كلها لما استحقوا الذم بذلك ولقائل أن يقول في الاستدلال بهذا اعتراف بكون البعض اصطلاحا
الثالث قوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}3 ولا يجوز أن يكون المراد اختلاف تأليفات الألسنة وتركيبها لأن ذلك في غيرالألسن أبلغ وأكمل فلا يفيد تخصيص الألسنة بالذكر فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات إما بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إطلاق اسم العلة على المعلول أو اسم المحل على الحال وحينئذ فلولا أنها توقيفية لما امتن علينا بها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: آية 31.
2 سورة النجم: آية 23.
3 سورة الروم: آية 22.

 

ج / 1 ص -199-       الرابع: أنها لو كانت اصطلاحية لاحتاج الواضع في تعليمها إلى اصطلاح آخر بينه وبين من يعلمه ثم إن الفرض أن ذلك الطريق أيضا لا يفيد لذاته فلابد من اصطلاح آخر ويلزم التسلسل ولقائل أن يقول هذا الدليل يبطل مذهب أبي هاشم ولا يثبت مذهب الشيخ.
الخامس: وهو كالرابع أنها لو كانت اصطلاحية لجاز التغيير إذ لا حجر في الاصطلاح وحينئذ يرتفع الوثوق عن الشرع فإن كل لفظ شرعي يستعمله في معنى جاز والحالة هذه أن يكون مستعملا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غير ذلك المعنى.
وأجاب في الكتاب عن الوجه الأول بأن المراد من الأسماء في قوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} علامات الأشياء وخصائصها فيعلمه مثلا أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وهذا لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى كل تقدير فكل ما يعرف ماهية ويكشف عن حقيقة اسما وتخصيص الاسم بهذه الألفاظ عرف حادث ولو سلمنا أن المراد بالأسماء ما ذكرتم فلا يلزم التوقيف إذ من الجائز أن يكون من الأسماء التي علمها الله لآدم قد وضعتها طائفة مخلوقة قبله وفي هذين الجوابين نظر.
أما الأول: فإنه خلاف الظاهر إذا الظاهر من الأسماء الألفاظ.
وأما الثاني: فالأصل عدم استعمال سابق ومنهم من أجاب بجواب آخر وهو أن المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من المعلوم ما لأجله قدر على الوضع قال الإمام وليس لأحد أن يقول التعليم إيجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم وهذا أيضا خلاف الظاهر إذ الظاهر من التعليم الإيجاد الأول للإلهام.
قال بعضهم وأصل التعليل لإثبات أثر الثلاثي المشتق يقال سودته فتسود وقول الأمام يقال علمته فلم يتعلم ممنوع.
قلت وهذا المنع غير منقدح وقد كان الإمام علاء الدين الباجي يقول أو لم يصح علمته فما تعلم لما صح علمته فتعلم لأنه إذا كان التعليم يقتضي

 

ج / 1 ص -200-       إيجاد العلم وهو علة فيه فمعلوله وهو التعلم يوجد معه بناء على العلة مع المعلول والفاء في قولنا فتعلم تقتضي تعقيب التعلم وإن قلنا إن المعلول يتأخر فنقول لا فائدة في قولنا فتعلم لأن التعلم قد فهم من قولنا علمته فوضح أنه لو لم يصح علمته فما تعلم لكان أما ألا يصح علمته فتعلم بناء على أن العلة مع المعلول أو لا يكون في قولنا فتعلم فائدة بناء على تأخر المعلول.
فإن قلت أليس أنه يقال كسرته فما انكسر فما وجه صحة قولنا مع ذلك علمته فما تعلم؟
قلت فرق والدي أحسن الله إليه بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمور من المعلم ومن المتعلم وكان علمته موضوعا للجزء الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ولا بد بخلاف الكسر فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار وهو جواب دقيق والإنصاف أن هذه ظاهرة فيما ادعاه الشيخ فالمتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب هذا هو الحق الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان وأجاب عن الثاني وهو التمسك بقوله:
{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} بأنا لا نسلم أنه ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء إنما ذمهم على اعتقادهم كونها آلهة وإليه أشار بقوله والذم للاعتقاد وعن الثالث وهو التمسك بقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ } بأنه إذا انتفت الحقيقة وهي أن يكون المراد بها الجارحة وثبت العدول إلى المجاز فليس صرفك إياه إلى اللغات أولى من صرفنا إياه إلى الإقدار على اللغات أو مخارج اللغات وإليه أشار بقوله والتوقيف يعارضه الإقدار والقائل أن يقول مجاز المستدل أدنى لأنه أقل إضمارا وما ذكرتموه يلزم منه كثرة الإضمار والمجاز معا إذ يصير تقدير الآية واختلاف اقتدار ألسنتكم باللغات أو اختلاف اقتداركم باللغات على أنه أطلق اللسان وأراد الاقتدار كما في إطلاق اليد وإرادة القدرة فعلى الأول يلزم كثرة الإضماره وعلى الثاني يلزم المجاز والإضمار معا وأما على ما ذكره الشيخ فلا يلزم إلا الإضمار الذي هو أقل من إضماركم لأنه يصير تقدير الآية على ما ذكره واختلاف لغات ألسنتكم فكان أولى.

 

 

ج / 1 ص -201-       فإن قلت لعله من إطلاق اسم العلة على المعلول أو المحل على المعلول أو المحل على الحال كما ذكرتم في تقرير الاستدلال.
قلت حينئذ يقع التعارض بين الإضمار والمجاز والمجاز أولى.
قال صفي الدين الهندي والأولى أن يجاب بأنا لا نسلم أن اختلاف اللغات إنما يكون آية أن لو كانت اللغات توقيفية وهذا لأن واضعها وإن كان هو العبد فهي مخلوقة لله تعالى على مذهب أهل الحق في أفعال العباد وأجاب المصنف عن الرابع بأنا لا نسلم أنه يحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر بل يحصل العلم بترديد اللفظ وهو تكراره مرة أخرى مع القرائن كالإشارة إلى المسمى ونحوها وبهذا الطريق تعلمت الأطفال ولو سلمنا ذلك فما ذكرتم من الدلالة لا يقتضي أن جميعها بالتوقيف كما تدعون بل بعضها لأنه يمكن تعريف ما هو بالاصطلاح بذلك البعض كما هو قول الأستاذ وعن الخامس بأنا لا نسلم ارتفاع الأمان عن الشرع فإن التغيير لو وقع لاشتهر لكونه من مهمات الأمور وأما أبو هاشم فقد احتج على مذهبه بأنها لو لم تكن اصطلاحية لكانت توقيفية أو البعض والبعض لعدم الواسطة بينهما والقول بالتوقيف باطل مطلقا فثبت كونها اصطلاحية وإنما قلنا ببطلان التوقيف لأنه إما أن يكون بالوحي أو بخلق علم ضروري في عاقل أو في غير عاقل والكل باطل.
أما الأول: فلاقتضائه تقدم البعثة على اللغة وهي متأخرة عنها لقوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}1.
وأما الثاني: فلأنه اقتضى ألا يكون ذلك العاقل مكلفا لأنه إذا علم بالضرورة أنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى فلا بد وأن يعرف الله ضرورة وإذا عرفه ضرورة لم يكن مكلفا بالمعرفة لحصولها.
وأما الثالث فبعيد جدا أن يصير غير العاقل عالما بهذه الكيفيات العجيبة والجواب أن يجوز أنه يكون الله تعالى ألهم العاقل بأن واضعا ما وضع هذه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم عليه السلام آية 4.

 

ج / 1 ص -202-       الألفاظ بإزاء هذه المعاني لا أن الله تعالى هو الواضع حتى يلزم عدم التكليف ولو سلمنا ما ذكرتم فإنما رفع التكليف بالمعرفة لا رفع التكليف مطلقا وهذا الجواب ضعيف لأن معرفة الله تعالى واجبة قطعا والتوقيف بخلق العلم الضروري مستبعد لكونه خلاف المعتاد فالأولى في الجواب أن يقال إنه حصل بطريق الوحي ولا يلزم ما ذكره لأن الآية وإن دلت على تقدم اللغة على بعثة الرسل بالرسالة فلا يدل على تقدمها على بعثة الأنبياء فيجوز تقدم نبوة آدم وإيحاء اللغات إليه ثم إن آدم عليه السلام يعلمها لغيره ثم يرسل إليهم باللسان الذي تعلموه منه وأما الأستاذ فذكر في الكتاب مقالته مجردة عن الدليل لإمكان استخراج دليله من حجيج الفريقين بأن يقال إذا بطل التوقيف والاصطلاح في الكل تعين أن يكون البعض والبعض فحينئذ فنقول القدر الذي وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي وإلا يلزم التسلسل لاحتياج التعليم في كل اصطلاح إلى اصطلاح سابق عليه وأما الباقي فمصطلح وجوابه يعلم مما سبق وبتقرير الأجوبة عن أدلة الجازمين يتعين الوقف الذي اختاره صاحب الكتاب ويقال بظهور فائدة الخلاف في هذه المسألة في جواز قلب اللغة فعند الشيخ لا يجوز دون القائلين بالاصطلاح وبنى بعضهم على الخلاف فيها ما إذا اعتقد صداقا في السر وصداقا في العلانية المسألة المشهورة ويلتحق بذلك ما إذا استعملا لفظ المفاوضة وأراد شركة العنان حيث نص الشافعي على جوازه والحق أن بناء المسألتين على هذا الأصل غير صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغات الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظ الثوب على الفرس أو الألف على الألفين مثلا.

 

ج / 1 ص -203-       طريق معرفة اللغات
قال وطريق معرفتها النقل المتواتر والآحاد واستنباط العقل من النقل كما إذا نقل أن الجمع المعرف باللام يدخله الاستثناء وأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ فيحكم بعمومه وأما العقل الصرف لا يجدي.
هذا هو الأمر السادس في بيان كيفية الطريق إلى معرفة وضع الألفاظ لمعانيها وذلك بطريق الحصر إما النقل الصرف أو العقل الصرف أو المركب منهما.
الأول: النقل وهو إما متواتر أو آحاد الأول المتواتر كالسماء والأرض والحر والبرد وهو مفيد للقطع.
الثاني: الآحاد كالفرس ونحوه وهو مفيد للظن الثاني العقل الصرف قال في الكتاب وهو لا يجدي أي لا ينفع إذ لا مجال للعقل في معرفة الموضوعات اللغوية.
الثالث: المركب منهما كما إذا نقل إلينا أن الجمع المعرف بالألف واللام يجوز أن يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ فإن العقل يدرك بذلك أن الجمع المحلى بالألف واللام للعموم وقد بلغنا أن الإمام العلامة زين الدين بن الكتنامي رحمه الله اعترض على التمثيل بهذا وقال هاتان المقدمتان نقليتان وإذا تركب الدليل من مقدميتين نقليتين لم يصح أن يقال إنه مركب من العقل والنقل وهذا عجيب فإنه لولا العقل لما صح الاستنتاج من المقدمتين النقليتين وتركيبهما على الوجه المنتج وبيان صحة الإنتاج من فعل العقل والجزء الصوري القياس عقلي.