الإبهاج في شرح المنهاج

ج / 1 ص -222-       الفصل الثالث في الاشتقاق
قال الفصل الثالث في الاشتقاق له في حروفه الأصلية ومناسبته في المعنى.
الاشتقاق في اللغة الاقتطاع وفي الاصطلاح ما ذكره فقوله رد لفظ جنس وقول لموافقته في حروفه الأصلية فصل احترز به عن الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر إذ لا اشتراك فيها في الحروف كذا ذكر الشراح ولقائل أن يقول الألفاظ المترادفة لم تدخل في الكلام قبل ذلك حتى تخرج بهذا القيد فإن أحد المترادفين ليس مردود اللفظ إلى الآخر وقوله الأصلية إشارة إلى أن الاعتبار في موافقة الحروف إنما هو بالحروف الأصلية فقط ولا عبرة بالحروف الزائدة وقوله ومناسبته في المعنى احتراز عن المعدول لأن المناسبة تقتضي المغايرة ولا مغايرة بين المعدول والمعدول عنه في المعنى وهذا الحد الذي ذكره أسد من تعريف الميداني1 الذي ارتضاه الإمام وهو قوله أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر أن يعترض على هذا بأن الاشتقاق ليس هو نفس الوجدان بل الرد عند الوجدان.
وأعلم أن الاشتقاق أربعة أركان ذكرها في الكتاب:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري الأديب البحاث صاحب مجتمع الأمثال الذي لم يؤلف مثله في موضوعه.
ومن مؤلفاته نزهة الطرف في علم الصرف وشرح المفضليات والسامي في الأسامي وغير ذلك.
توفي سنة 518 هـ.
وفيات الأعيان 1/46 بغية الوعاة ص 155 الأعلام 1/208.

 

ج / 1 ص -223-       المشتق والمشتق منه والموافقة في الحروف الأصلية مع المناسبة في المعنى والرابع التغيير فقوله رد لفظ هو الركن الأول ودخل فيه الاسم والفعل وقوله إلى لفظ آخر هو الركن الثاني وهو المشتق منه ويوجد منه الركن الرابع وهو التغيير لأنه لو انتفى التغيير بينهما لم يصدق عليه أنه لفظ آخر بل هو هو ودخل فيه أيضا الاسم والفعل وقوله لموافقته في حروفه الأصلية هو الركن الثالث واحترز به عما عرفت أولا.
قال ولا بد من تغيير بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما أو زيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر أو بزيادته أو نقصانه بزيادة الآخر ونقصانه أو بزيادتهما ونقصانهما نحو كاذب ونصر و ضارب وخف وضرب على مذهب الكوفيين وغلا ومسمات وحذر وعاد ونبت واضرب وخاف وعد وكال وارم.
لا بد من تغيير بين اللفظين والتغيير المعنوي إنما يحصل بطريق التبع والإمام لم يذكر من أقسام التغيير غير تسع وليست الأقسام منحصرة في تلك وقد زاد المصنف عليه ستة أقسام فجعلها خمسة عشر وأورد لكل منها مثالا وفي أكثر أمثلته نظر وقد وضع والدي أطال الله بقاه في هذا الفصل أرجوزة حسنة.
قوله بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما دخل فيه ستة أقسما.
أربعة تغييرها فرادى واثنان ثنائيان فإن قوله بزيادة ليس منونا بل هو مضاف إلى حرف وحركة وكليهما وكذا نقصان مضاف إلى الثلاثة فكانت ستة أقسام زيادة الحرف وزيادة الحركة وزيادتهما معا وهكذا النقصان قوله أو بزيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر يدخل فيه أربعة أقسام ثنائية أيضا زيادة أحدهما أو نقصانه يدخل فيه زيادة الحرف ونقصانه وزيادة الحركة ونقصانها ويدخل في زيادة أحدهما ونقصان الآخر قسمان:
زيادة الحرف ونقصان الحركة وعكسه قوله: أو بزيادته أونقصانه أو نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه بزيادة الآخر ونقصانه تقديره أو بزيادة

 

ج / 1 ص -224-       أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه فيدخل فيه أربعة أقسام ثلاثية التغيير لأن زيادة أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه يدخل فيه صورتان زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها والثانية زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه.
ويدخل في نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه صورتان أيضا:
إحداهما: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها.
والثانية نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه.
وقوله أو بزيادتهما ونقصانهما أي بزيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا وهو قسم واحد رباعي التغيير وبه تكلمت الأقسام خمسة عشر.
قوله نحو كاذب شرع في المثل للأقسام المذكورة.
الأول: زيادة الحرف فقط نحو كاذب من الكذب زيدت الألف.
الثاني: زيادة الحركة نحو نصر الماضي من النصر زيدت حركة الصاد.
الثالث: زيادة الحرف والحركة معا مثل ضارب من الضرب زيد الألف وحركة الراء.
الرابع: نقصان الحرف نحو خف فعل أمر من الخوف نقصت الواو.
وقد اعترض على المصنف بأن الفاء صارت في هذا ساكنة بعد أن كانت متحركة فاجتمع في هذا المثال نقصان الحرف والحركة معا فإن اعتذر بأن مثل هذا لا يعتبر لكونه نقصانا لحركة الإعراب.
قلنا سيأتي إن شاء الله تعالى في القسم العاشر ما يخالفه فالأولى تمثيله بذهب من الذهاب أو حسب من الحساب.
الخامس: نقصان الحركة نحو ضرب المصدر من ضرب الماضي نقصت حركة الراء قال في الكتاب وهذا لا يتأتى إلا على مذهب الكوفيين يعني في اشتقاقهم المصدر من الفعل عكس مذهب البصريين وذهب أبو بكر بن أبي طلحة إلى مذهب ثالث وهو أن كلا من المصدر والفعل أصل بنفسه ليس أحدهما مشتقا من الآخر حكاه شيخنا أبو حيان في الارتشاف.

 

ج / 1 ص -225-       السادس: نقصان الحركة والحرف معا نحو غلا ماضي غليان نقصت الألف والنون ونقصت فتحة الياء ومن أمثلته أيضا سر من السير نقصت الياء وحركة العين.
السابع: زيادة الحرف ونقصانه أي نقصان حرف آخر ومثل في الكتاب له بمسلمات زيدت الألف والتاء للجمع ونقصت منه تاء كانت في المفرد في قولك مسلمة ولك أن تقول الجمع غير مشتق من مفرده فلا يصح ما ذكره مثالا فالأولى التمثيل بقولك مدحرج من الدحرجة نقصت هاء التأنيث وزادت الميم وكذا مزخرف من الزخرفة نقصت التاء وزادت الميم.
الثامن: زيادة الحركة ونقصانها أي نقصان حركة أخرى نحو حذر من الحذر زيدت فيه كسرة الذال المعجمة ونقصت منه فتحته وكذلك رمى من الرمي نقصت حركت الياء من الرمي وزيدت حركة الميم وسعى من السعي.
التاسع: زيادة الحرف ونقصان الحركة نحو عاد بالتشديد من العدد زيدت الألف بعد العين ونقصت حركة الدال الأولى.
العاشر: زيادة الحركة ونقصان الحرف نحو نبت من النبات زيدت فيه فتحة الباء ونقصت منه الألف كذا ذكره في الكتاب ولك أن تقول فتحة الباء جاءت عوض الكسرة فليس ثم غير نقصان الألف وليس له أن يقول لا يعتد بالحركة الإعرابية إذ سبق منه في القسم الرابع ما يخالف ذلك.
الحادي عشر: زيادة الحرف الحركة جميعا مع نقصان حركة أخرى مثل أضرب من الضرب زيدت فيه ألف الوصل وكسرة الراء ونقصت منه حركة الضاد.
الثاني عشر: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه مثل خاب ماضي من الخوف زيدت الألف وحركة الفاء وحذفت الواو.
الثالث عشر: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها مثل عد فعل أمر من الوعد زيدت كسرة العين ونقصت الواو وحركت الدال.

 

ج / 1 ص -226-       الرابع عشر: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه نحو كال بتشديد اللام وهو اسم فاعل من الكلال نقصت حركة اللام الأولى وكذا الألف التي بين اللامين وزيدت ألف قبل اللامين.
الخامس عشر: زيادة الحرف والحركة معا نحو ارم من الرمي زيدت الهمزة وحركة الميم ونقصت الياء وحركة الراء والله أعلم.

 

ج / 1 ص -227-       أحكام الاشتقاق
قال وأحكامه في مسائل
الأولى شرط المشتق صدق أصله
خلافا لأبي علي وابنه فإنهما قالا بعالمية الله تعالى دون علمه وعلاها فينابه لنا أن الأصل جزؤه فلا يوجد دونه.
شرط صدق المشتق اسما كان أو فعلا صدق أصله المشتق منه فلا يصدق قائم على ذات إلا إذا صدق القيام على تلك الذات وسواء كان الصدق في الماضي أم في الحال أو في الاستقبال والكلام في أن صدق ذلك هل هو بطريق الحقيقة أو المجاز من وظائف المسألة التالية لهذه وهذا هو السر في قول المصنف صدق أصله دون وجود أصله كما قال غيره إذ لو قال وجود أصله لورد عليه إطلاقه باعتبار المستقبل إذ هو جائز مع عدم وجوده حالة الإطلاق والكلام في المسألة مع أبي علي الجبائي1 وابنه أبي هاشم وهما لم يصرحا بالمخالفة في ذلك ولكن وقع ذلك منهما ضمنا حيث ذهبا هما ومن تبعهما من المعتزلة إلى القول بعالمية الله تعالى دون علمه أي قالا إن الله تعالى عالم ولم يقولا بحصول العلم الذي اشتق منه العالم له والحاصل أن هذه الطائفة ينفون عن الله تعالى الصفات الحقيقية الزائدة على الذات كالعلم والقدرة والحياة وقد يجمعهما قول الشاطبي رحمه الله:

حي عليم قدير والكلام له                    باق سميع بصير ما أراد جزاء

فرارا من أن تكون الذات قابلا وفاعلا من أشياء زعموها لازمة ويقولون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن عبد السلام بن خالد بن حمدان بن أبان الجبائي شيخ المعتزلة كان فقيها ورعا وإليه تنسب طائفة الجبائية من المعتزلة توفي سنة 303 هـ.
شذرات الذهب 2/241 الفرق بين الفرق ص 183.

 

ج / 1 ص -228-       بثبوت العاملية والقادرية والحيية له وبناء على أنها نسب وإضافات لا وجود لها في الخارج بخلاف العلم والقدرة والحياة فإنها صفات حقيقية ويقولون عالمية الله غير معللة بالعلم لأن العالمية له واجبة والواجب لا يعلل بالغير بخلاف عالميتنا فإنها معللة بالعلم إذ هي غير واجبة.
وقال أهل السنة وقوم من المعتزلة إن لله سبحانه وتعالى صفات مغايرة لذاته تعالى وهي العلم والقدرة والحياة وغيرها من الصفات الثبوتية ثم قال الذين نفوا الحال العاملية والقادرية والحيية نفس العلم والقدرة والحياة وقال مثبتوها عالمية الله حالة معللة بمعنى قائم به وهو العلم وكذا القادرية بالقدرة والحيية بالحياة وإذا عرفت هذا ظهر أن الأشاعرة ومن وافقهم قالوا إن الله تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة حي بالحياة والجبائيان قالا إنه تعالى عالم بالذات لا بالعلم قادر بالذات لا بالقدرة هي بالذات بالحياة فقد جوزوا صدق المشتق الذي هو العالم بدون صدق المشتق منه الذي هو العلم واستدل في الكتاب على امتناع إطلاق المشتق بدون المشتق منه بأنه لو صح المشتق بدون صدق أصله للزم وجود الكل بدون الجزء لأن الأصل الذي هو المشتق منه جزء للمشتق لأن المشتق يدل على الأصل وعلى ذات متصفة به كالعالم مثلا فإن مدلوله ذات متصفة بالعلم فالعلم الذي هو أصل العالم جزء من مجموع معناه فلو صح العالم بدون العلم للزم ما ذكرناه ولا ينقض هذا بصحة إطلاق اسم الكل على الجزء لأن ذلك من باب المجاز والكلام في صحة الإطلاق الحقيقي.
قال الثانية شرط كونه حقيقة دوام أصله
خلافا لابن سينا وأبي هاشم لأنه يصدق نفيه عند زواله فلا يصدق إيجابه قيل مطلقتان فلا يتناقضان.
قلنا مؤقتتان بالحال فإن أهل العرف ترفع أحدهما بالآخر.
المسألة السابقة في اشتراط صدق المشتق منه في كون المشتق حقيقة سواء دام معنى المشتق منه إلى حالة الإطلاق أم لم يدم وهذه في اشتراط دوام معنى

 

ج / 1 ص -229-       المشتق منه إلى حالة إطلاق المشتق فهي أخص من تلك فنقول إطلاق الاسم المشتق باعتبار الحال حقيقة بالإجماع وباعتبار المستقبل مجاز بالإجماع وأما إطلاقه باعتبار الماضي كإطلاق الضارب على من صدر منه الضرب وانتهى فقال الجمهور إنه غير حقيقة قال الإمام وهو الأقرب واختاره في الكتاب وقال ابن سينا وأبو هاشم ووالده أبو على إنه حقيقة وفي المسألة مذهب ثالث أن معنى المشتق منه إن كان مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود اشترط بقاؤه في كون المشتق حقيقة وإلا فلا حكاه الآمدي والإمام ذكره بحثا من جهة الخصم ثم أجاب عنه بأن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا.
وأعلم أن محل الخلاف في المسألة إنما هو في صدق الاسم فقط أعني هل يسمى من ضرب أمس الآن بضارب وهو أمر راجع إلى اللغة وليس النزاع في نسبة المعنى أعني في أن الضارب أمس هل هو الآن ضارب فإن ذلك لا يقوله عاقل وإذا تبين أن محل النزاع إنما هو في صدق الاسم فاعلم أيضا أن الذي يتجه أن الخلاف أيضا ليس في الصفات القارة المحسوسة كالبياض والسواد لأنا على قطع بأن اللغوي لا يطلق على الأبيض بعد اسوداده أنه أبيض وقد قال الإمام في آخر المسألة لا يصح أن يقال لليقظان إنه نائم اعتبارا بالنوم السابق وادعى الآمدي في ذلك الإجماع فقال لا يجوز تسمية النائم قاعدا والقاعد نائما بإجماع المسلمين وأهل اللسان وهذا واضح من اللغة وإنما الخلاف في الضرب ونحوه من الأفعال المقتضية فإطلاق المشتق على محلها من باب الأحكام فلا يبعد إطلاقه حال خلوه من مفهومه لأنه أمر حكمي وتبين من هنا وجه انفصال الماضي عن المستقبل حيث كان إطلاقه باعتبار الماضي أولى لأن من حصل منه الضرب في الماضي قد يستصحب حكمه وأما المستقبل فلم يثبت له حكم حتى يستصحب.
إذا عرفت ذلك فنقول استدل المصنف على ما اختاره من أنه ليس بحقيقة بأنه يصدق نفي المشتق عند زوال المشتق منه فيقول زيد ليس بضارب فلو صدق في الإيجاب حقيقة وهو زيد ضارب للزم اجتماع

 

ج / 1 ص -230-       النقيضين أهني صدق نفي الضرب وإثباته فتقرر أنه إنما يصدق مجازا لأن صحة النفي من أمارات المجاز واعترض على هذا بأن قولنا ضارب وليس بضارب قضيتان مطلقتان لم يتحد وقت الحكم فيهما فلا يتناقضان لجواز أن يكون وقت السلب غير وقت الإثبات وأجاب في الكتاب بأنهما مؤقتتان بحال التكلم.
وأغنى عن هذا التقييد فهم أهل العرف أن لو لم يكن كذلك لما جاز استعمال كل واحد منهما في تكذيب الآخر ورفعه لكن أهل العرف يستعملون ذلك فيكونان متناقضين وهو المطلوب.
فإن قلت سلمنا أنهما مؤقتتان بالحال وأنهما متناقضتان ولكن لا نسلم أنه حينئذ يصح إطلاقهما لأنه لا يصح ليس بضارب في الحال وهل قولكم إن ذلك يصح إلا مصادرة على المطلوب؟
قلت صدق ليس بضارب في الحال لا يقبل المنازعة إلا ممن لم يفهم معنى هذا الكلام وذلك لأنا لم نعن بذلك إطلاق الاسم حتى يقال إنه مصادرة على المطلوب بل إن المعنى غير ثابت في الحال وقد قدمنا أنه لا ينازع في ذلك عاقل ويقرر عندك أن المعنى بقولنا يصدق ليس بضارب في الحال تحقق المعنى لا صدق الإطلاق إذا الخصوم سلموا هذه المقدمة لما ذكرها الإمام وغيره وما اعترض أحد بهذا السؤال.
فإن قلت سلمنا أنه يصح ليس بضارب في الحال ولكن لا نسلم استلزامها صحة ليس بضارب.
قلت لأن ليس بضارب مطلقة وليس بضارب في الحال مؤقتة والمطلقة جزء من المؤقتة ولو صح ذلك فنقول إذا قيدت في الإيجاب أو في السلب بزمان ولم تجعل الزمان جزءا من المحمول كانت القضية موجهة مؤقتة وإن لم يقيد كانت القضية مطلقة وهي جزء من المؤقتة والقيد المذكور في المؤقتة كقولنا زيد ضارب الآن أو ليس بضارب الآن إذا جعلناه جهة معناه تقييد نسبة المحمول الذي هو ضارب إلى الموضوع الذي هو زيد إيجابا أو سلبا.
فإذا قلت زيد ضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ثابتة الآن.

 

ج / 1 ص -231-       وإذا قلت زيد ليس بضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ممتنعة الآن والآن ظرف للنتفاء لا للتفي فإن النفي هو الحكم وهو حاصل الآن وانتفاء مدلوله وهو يحسبه قد يكون الآن كما في هذا المثال وقد يكون أمس أو غدا على حسب ما تأتي المؤقتة وقد يأتي الظرف جزءا من المحمول كقولك زيد ضارب الآن تريد أن ضربه الآن ثابت أو ليس بضارب الآن تريد ضربه الآن منتف فهذه ليست موجهة والمنفي فيها أخص من النفي في الموجهة والمثبت بأخص من المثبت ولنزد ذلك إيضاحا فنقول:
إذا قلت ليس زيد ضاربا الآن أو يوم الجمعة فلا يجوز أن يكون الآن أو يوم الجمعة ظرفا لحكمك ألا ترى أنك تقول يوم الجمعة وأنت غير حاكم فيه وبقي بعد هذا أن يوم الجمعة إما أن يكون ظرفا لانتفاء الضرب المقيد بذلك الوقت أو المطلق والمعنى أن زيدا يصدق يوم الجمعة أنه ليس بضارب ومن ضرورة انتفائه انتفاء المقيد وإذ وضح أن المطلقة جزء من المؤقتة صح تعبير الإمام في المحصول بالكل والجزء ودعواه استلزام الكل الجزء ليس مراده الجزء من حيث اللفظ بل من حيث المعنى.
فإن قلت المطلقة أعم من المؤقتة فكيف تستلزمها المؤقتة.
قلت أصل المطلقة كذلك ولكن قد يعرض لها تقييدها لغة أو عرفا وقد ادعيناه هنا حيث قلنا إن العرف يؤقتهما بحال التكلم ودللنا عليه فالمطلقة وإن كانت مطلقة في اللفظ فهي مقيدة بحسب العرف وكان ذلك منطوقا به فسارت المؤقتة وإنما دلالة المؤقتة صريحة في الوقت ودلالة المطلقة ظاهرة ولهذا المعنى لم يأت الإمام في المحصول بلفظ الأعم والأخص لأنه يضره فإنه يدعى تساويهما عرفا ولغة فكيف يقول إن أحدهما أعم من الآخر بل ترك ذلك وعدل إلى الكل والجزء فإنه صحيح على التقديرين أعني من حيث القل والأصل ومن حيث الاستعمال والجزء قد يكون مساويا في الوجود كالناطق فإنه جزء الانسان ومساو له بخلاف الأعم فإنه قد يوجد بدون الأخص.
فإن قلت قد فهم أصحاب الإمام أن مراده الأعم والأخص ومنهم

 

ج / 1 ص -232-       صاحب التحصيل فقال يصدق ليس بضارب لصدق الأخص منه وهو ليس بضارب في الحال.
قلت قال والدي رضي الله عنه في كتابه الاتساق في مقاربة الاشتقاق وهو مختصر وضعه في هذه المسألة إنهم ما فهموا جيدا وأطال النفس في ذلك وأجاب عن سؤال لصاحب التحصيل ذكره على هذا وعظم خطبه ونحن لم نذكر السؤال لكونه مبنيا على ما فهمه صاحب التحصيل من أن الكل أعم والجزء أخص وقد بينا أن الإمام لم يرد بالكل والجزء الأعم والأخص وأن الجزء قد يكون مساويا.
قال وعورض بوجوه
الأول أن الضارب من له الضرب وهو أعم ورد بأنه أعم في المستقبل أيضا وهو مجاز اتفاقا.
الثاني: أن النحاة منعوا عمل النعت للماضي ونوقض بأنهم أعملوا المستقبل.
الثالث: أنه لو شرط لم يكن المتكلم ونحوه حقيقة وأجيب بأنه لما تعذر استعمال أجزائه اكتفى بآخر جزء.
الرابع: أن المؤمن يطلق حالة الخلو عن مفهومه وأجيب بأنه مجاز وإلا لأطلق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة.
عارض الخصم دليلنا بأوجه زعم أنها تدل على مطلوبه.
الأول: أن الضارب عبارة عمن ثبت له الضرب وهو أعم من أن يكون دائما أو لا فيكون إطلاقه على أفراده على سبيل الحقيقة كإطلاق العام على أفراده وأجاب بأن ذلك منقوض بأنه أعم من المستقبل أيضا فيلزم أن يكون حقيقة فيه ولا قائل به ولقائل أن يقول إذا كان الضارب من ثبت له الضرب فهو غير صادق باعتبار المستقبل لأنه ما ثبت له فلا يتجه قولكم أنه أعم من المستقبل أيضا.
الثاني: أن جمهور النحاة قالوا النعت أي المشتق كاسم الفاعل واسم

 

ج / 1 ص -233-       المفعول إذا كان بمعنى الماضي وليس معه ال فهو لا ينصب مفعوله بل يتعين أن يجر بالإضافة إليه تقول مررت برجل ضارب زيد أمس وهذا يدل على جواز استعماله بمعنى الماضي والأصل في الاستعمال الحقيقة وأجاب بأن هذا منتقض بإجماعهم على إعماله إذا كان بمعنى الاستقبال ما قلتموه في الماضي يأتي بعينه في المستقبل مع أنه مجاز اتفاقا.
الثالث: لو كان المشتق منه شرطا في صحة إطلاق المشتق حقيقة لاستحال إطلاق المتكلم والمخبر بطريق الحقيقة على شيء أصلا لأن المشتق وهو الكلام والخبر لا يمكن بقاؤهما لأنهما من الموجودات التي هي غير قارة الذات وأجاب بمنع الملازمة وذلك لأن الشرط أحد الأمرين أما بقاء المشتق منه وذلك فيما يمكن بقاؤه أو بقاء آخر جزء من أجزائه إن لم يكن بقاؤه بالكلية لأن وضع اللغة غير مبني على المضايقة في مثل هذه الأمور وهذا كإطلاقهم الحال على الزمان المعين مع أن الموجود منه ليس إلا جزءا واحدا.
الرابع: أنه لو اشترط بقاء المشتق منه في صحة إطلاق المشتق حقيقة للزم ألا يصح إطلاق المؤمن بطريق الحقيقة على من خلا عن مفهومه بالنوم مثلا ولكن ذلك باطل لأنهم يطلقونه عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب بأن إطلاقه ليس على سبيل الحقيقة بل هو مجاز وإلا لصح إطلاق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة بسبب كفر تقدم إذ الإطلاق من لوازم الحقيقة ولقائل أن يقول إن الإيمان الطارئ بعد الكفر يضاده لذلك لم يصح إطلاق الكافر على من صدر منه في الماضي إذ هو وصف وجودي يصاد الأول فكان كإطلاقك على الأسود أنه أبيض باعتبار بياضه المتقدم وقد قدمنا أن ذلك ليس من محل النزاع.
فوائد أحدها اعلم أنا لا نعني بالحال حال نطقنا بل حال اتصافه بالمشتق منه.
فإذا قلت اقتلوا المشركين فمعناه الأمر بقتل من اتصف بالشرك وإن لم يكن وقت قولك اقتلوا المشركين متصفا به وقد خفى ذلك على بعض الفضلاء فظن أنه لا يشمل من يأتي بعد ذلك إلا مجازا.

 

ج / 1 ص -234-       الثانية: الحقيقة والمجاز إنما هما باعتبار الاستعمال.
فإذا قلت زيد ضارب فهنا أمران.
أحدهما: استعمال ضارب في معناه أو غير معناه وهو محل الحقيقة والمجاز.
والثاني: حمل ضارب على زيد وهذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا دلالة له على حال ولا مضي ولا استقبال بل هو مطلق بالنسبة إليها والقضية إن أطلقت احتملت الثلاثة إلا أنا نحمله عند الإطلاق على زمان النطق لغة وعرفا ولأنه ليس غيره أولى منه وأما المحمول الذي هو ضارب فإن أريد به معناه ممن هو متصف بالضرب في الحال كان حقيقة إما صدقا إن طابق أو كذبا إن لم يطابق وإن أريد به غير معناه كان مجازا والأمر في السلب في جميع ذلك على اقررناه لا يختلف.
الثالثة: إذا قلت زيد ضارب أمس أو غدا فقد يطلق المطلق أنه مجاز لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال والتصريح بأمس أو غدا إنما هو قرينة لإرادة المجاز كقولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب وقد يطلق أنه حقيقة لأنه اتصل بمعموله والحق خلاف الإطلاقين لأن الحمل لا حقيقة فيه ولا مجاز كما عرفت فحكمك على زيد الآن بأنه ضارب غذا لا حقيقة ولا مجاز والمحكوم به هو ضارب غدا إن أريد معناه وهو أن يحصل منه الضرب غذا كان حقيقة مثل زيد سيضرب غدا وإن أريد به غير معناه كان مجازا وهكذا ضارب أمس ولا يمكنك أن تريد أن الضرب الثابت الذي يقع غدا هو ثابت الآن فذلك مستحيل لكن تريد أنه الآن محكوم عليه بالضرب في غذ والحكم غير موصوف بحقيقة ولا مجاز فإن أردت أن تصفه الآن بضربه في غد كان مجازا والله أعلم.
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور.
لو عزل القاضي فقال امرأة القاضي طالق هل يقع طلاقه فيه وجهان في فروع الطلاق من الرافعي.
لو قال إن كانت امرأتي في المأتم فأمتي حرة وإن كانت أمتي في الحمام

 

ج / 1 ص -235-       فامرأتي طالق وكانتا عند التعليق كما ذكرنا عتقت الأمة ولم تطلق المرأة عتقت عند تمام التعليق الأول وخرجت عن أن تكون أمته فلم يحصل شرط الطلاق وهو الآن أمته لا تكون حقيقة إلا لمن يملكها في الحال ولو قدم ذكر الأمة فقال إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق وإن كانت امرأتي في الحمام فأمتي حرة وكانتا كما ذكر طلقت المرأة ثم إن كانت رجعية عتقت الأمة أيضا وإلا فلا والفرع مسطور في فروع الطلاق أيضا وإنما يعتق الأمة في هذه الحالة لصدق لفظ الزوجة على الرجعية.
لو حلف لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فلان ولم ينو أنه يرفعه إليه وهو قاض وتمكن من الرفع إليه فلم يرفع حتى عزل ثم رفع إليه ففي الحنث وجهان إذا مات ولم يرفع إليه إلا وهو معزول.
لو حلف لا يدخل مسكن فلان فدخل ملكا له لم يكن ساكنه فثلاثة أوجه ثالثها: إن كان سكنه في الماضي ساعة ما حنث وإلا فلا قال المتولي1 لو وقف على عبد فلان وقلنا العبد يملك صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان حتى لو باعه أو وهبه زال الاستحقاق.
قال الثالثة لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره للاستقراء
قالت المعتزلة الله متكلم بكلام يخلقه في جسم كما أنه الخالق والخلق المخلق قلنا الخلق هو التأثير.
لا يجوز إطلاق اسم الفاعل الذي هو المشتق على شيء والفعل الذي هو المشتق منه قائم بغيره واستدل الأصحاب على ذلك بالاستقراء فإنا تتبعنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري المعروف بالمتولي فقيه مناظر عالم بالأصول تولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد من مؤلفاته تتمة الإبانة للفوراتي في فقه الشافعية وله كتب أخرى في الفقه والأصول.
توفي ببغداد سنة 478 هـ.
وفيات الأعيان 1/277 الأعلام 4/98.

 

ج / 1 ص -236-       مواقع استعمال المشتقات فلم نجد موقعا اشتق له اسم الفاعل والفعل المشتق منه قائم بغيره فدل على أن ذلك خارج عن كلام العرب فيكون ممنوعا وقد لزم المعتزلة الخلاف في ذلك حيث قالوا إن الله تعالى متلكم بكلام قائم بغيره لا بذاته وإلا لكانت ذاته محلا للحوادث وذلك على أصلهم في أن الكلام حادث لأنهم لا يعترفون بالكلام النفسي واحتجوا على ما ذهبوا إليه من أنه يجوز إطلاق المتكلم على الله بسبب كلام يخلقه في جسم بأنه يطلق عليه الخالق بالحقيقة والخالق مشتق من الخلق والخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق ليس هو المخلوق بل هو التأثير الله تعالى وأما الإطلاق الواقع في الآية فإنه مجاز.
قال قالوا قدم العالم وإلا لافتقر إلى خلق آخر وتسلسل قلنا هو نسبة فلم يحتج إلى تأثير آخر.
قالت المعتزلة لو كان الخلق هو التأثير كما ذكرتم لزم أحد محالين إما قدم العالم أو التسلسل وذلك لأنه إما قديم أو حادث إذ كل مفهوم وجوديا كان أو عدميا لا يخلو عن أحدهما لأنه إن كان مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا فهو الحادث وإلا فهو القديم فإن كان قديما لزم قدم العالم لأن المؤثر قديم والتأثير فرضناه قديما وإذا وجد المؤثر والتأثير استحال تخلف الأثر وهو العالم فيلزم من وجودهما في الأزل وجود العالم فيه ولأن التأثير نسبة بين الخالق والمخلوق وقدم النسبة يقتضي قدم المنتسبين ضرورة افتقارها إليهما ولأن العالم هو ما سوى الله تعالى والتأثير غير الله تعالى إذ التأثير غير المؤثر وإن كان حادثا افتقر في حدوثه إلى تاثير والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وأجاب المصنف بأنه نسبة إلى آخره أي يختار أنه حادث ويمنع لزوم التسلسل وذلك لأن التأثير نسبة والنسبة لكونها من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج غير مفتقرة إلى تأثير مؤثر فيها ثم إن الأمور الاعتبارية لا يمتنع التسلسل فيها لذلك وهذا كما أن الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له من الأعداد

 

ج / 1 ص -237-       واعلم أن الإمام لم يجب عن الشبهة المذكورة ثم قال ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشقاق أن المفهوم من اسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظة ذو لا يقتضي الحلول ولأن لفظ ملابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتق من الأمور التي يمتنع قيامها بمن له الاشقاق هذا كلامه وقد أوهم اختيار مذهب المعتزلة ومناقضته في ذلك لما اختاره في كتبه الكلامية حتى قال الشيخ شمس الدين الأصفهاني في شرح المحصول الحق مذهب الأشاعرة لا ما اختار المصنف تقريره ههنا من مذهب المعتزلة والذي نقوله إنه لا يلزم من عدم ذكر الجواب اختيار مذهبهم كيف وقد صرح بخلافه وأما ما قاله من أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا ذو المشتق منه فهو مدخول لأنه اعترف بأن قولنا مكي ومدني مشتق من مكة والمدينة وليس المفهوم من المكي ذو مكة ولأنه يناقض ما التزمه سابقا من أن بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق فإن قولنا زيد قيسي أو تميمي يكون حينئذ مشتقا من قيس وتميم والمشتق منه غير باق والحق أن دعواه أن لفظة ذو لا تقتضي الحلول غير مسلمة له على الإطلاق لأن المفهوم من قولنا زيد ذو علم أو فهم قيامهما به وحلولهما فيه فلفظة ذو تقتضي الحلول في أسماء المعاني كما ذكرناه وكلامنا في المشتقات من المصادر التي هي أسماء المعاني ويخرج بهذا الجواب عن مثل مكي ومدني فإنها مشتقة من أسماء الذوات فليست في شيء مما نحن فيه.
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور.
لو حلف لا يبيع أو لا يضارب فوكل فيه غيره حتى فعل لم يحنث في أظهر القولين لأنه لم يباشر والثاني إن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان حنث.
ولو حلف لا يحلق رأسه فأمر غيره فحلق فقد قيل في حنثه القولان وقيل يحنث قولا واحدا وبه أجاب الماوردي وطرده في كل ما جرت العادة فيه بالأمر دون المباشرة من جميع الناس كقوله والله لا احتجمت أولا اقتصدت أو لا بنيت داري.