الإبهاج في شرح المنهاج

قال "وفيه بابان الباب الأول في بيان أنه حجة
وفيه مسائل الأولى في الدليل عليه يجب العمل به شرعا وقال القفال والبصري عقلا والقاساني1 والنهرواني2 حيث العلة منصوصة أو الفرع بالحكم أولى كتحريم الضرب على تحريم التأفيف وداود أنكر التعبد به وإحالة الشيعة والنظام"
يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا ويجب العمل به شرعا وبه قال السلف وجمهور الخلف وزاد القفال من أصحابنا وأبو الحسين البصري فزعما أن العقل موجب لورود التقييد بالقياس ووافقهما أبو بكر الدقاق من أصحابنا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع ومن الناس من أنكر التعبد به وقد نقله في الكتاب عن داود وهو قضية نقل غيره ونقل الإمام عن داود أنه أحاله عقلا وفي كل من النقلين نظر فقد قال أبو محمد ابن حزم والآمدي أن داود يقول بالقياس إذا كانت العلة منصوصة كمذهب القاساني والنهرواني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قال ابن حزم وأما نحن فلا نقول بشيء من القياس وأما النظام والشيعة فأحالوه عقلا كذا نقل المصنف والنقل عن النظام ليس بجيد لأنه خصص المنع من التعبد بشرعنا خاصة قال لأن مبناها على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من التعبد بالقياس وأما ما ذكره المصنف بعد من أن القياس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  هو أبوبكر محمد بن إسحاق القاساني – بالسين المهملة – نسبة إلي "قاسان" "قم" بلدة عند إيران كما حرره ابن حجر وإن كان في بعض النسخ بالشين المعجمة كان داوديا ثم ضار شافعيا له كتاب "الرد علي داود في إبطال القياس" "الفهرست ص 324 تبصير المنتبه ص1146"
2  هو أبو الفرج المعافي بن زكريا النهرواني كان أعلم الناس في زمانه ويعرف كل أنواع العلوم العقلية والنقلية توفي سنة 390ه "اللباب3/249"

 

ج / 3 ص -8-            الجلي لم ينكره أحد فمدخول ولو صح لكان وجها يرد عليه هنا وأما القاشاني والنهرواني فقالا يجب العمل بالقياس في صورتين
إحداهما أن تكون العلة منصوصة قالا وذلك أما بصريح اللفظ أو بما يماثله كذا نقله عنهما القاضي في مختصر التقريب وإمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي وغيرهم
والثانية أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل ومثل له في الكتاب بقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وقد سبق منه أن هذا من باب المفهوم وسيأتي النظر في أن ذلك هل هو متناف إن شاء الله تعالى وهذا إيضاح ما في الكتاب مما يتعلق بمذهب القاشاني والنهرواني وهو في النقل عنهما تابع لأصحابه وقد نقل عنهما الآمدي أنهما لم يقضيا بوقوع القياس إلا فيما كانت عليه منصوصة أو مومأ إليها فقط والذي نقله الغزالي أنهما خصصاه بموضعين
أحدهما النص والإيماء كما عرفت
والثاني الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه والمعلق باسم مشتق كالسارق والسارقة قال الغزالي وكليهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط ويعترفان به وكلام إمام الحرمين في البرهان قريب من ذلك فإنه قال المقبول عندهما من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان أحدهما ما دل من كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربطه الحكم بالأسماء المشتقة كالزانية والزاني ومن هذا القبيل سها فسجد زنى ماعز فرجم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل قال وربما يلحقون به الفحوى في مثل قوله تعالى
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ1} والأمر الثاني ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه كقوله عليه السلام :"لا يبولن أحدكم في الماء الراكد2" قالا لو جمع جامع بولا في وعاء وصبه في الماء الراكد كان في معنى البول في الماء انتهى وكذلك كلامه في مختصر التقريب والإرشاد للقاضي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة الإسراء آية "23"
2  أخرجه البخاري ومسلم بلفظ :"لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه

 

ج / 3 ص -9-            أبي بكر وقال إن القياسين اختلفوا فذهب قوم إلى أن ما صاروا إليه ليس قولا بالقياس وإنما هو تتبع منهما للنص وقال آخرون وهو الحق هو قول ببعض القياس وقال إمام الحرمين في البرهان إن أبا هاشم قال بهذين الوجهين وزاد ثالثا وهو ما إذا طولب المكلف بشيء واعتاص1 عليه الوصول إليه يقينا فيتمسك بالإمارات المفضية إلى الظن ومثل أبو هاشم هذا بوجوب استقبال القبلة عند أشكال جهاتها انتهى وهذا من أبي هاشم يحتمل أن يكون منعا من القياس إلا في الأماكن الثلاثة ويكون حينئذ مذهبا آخر في القياس لم يتقدم له ذكر ويحتمل أن يكون منعا من العمل بالظن مطلقا إلا فيها وفي الباب مذهب آخر ذهب إليه أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا أن من شرط صحة القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها
"تنبيه" ذهب الأكثرون إلى أن دلالة الدليل السمعي عليه قطعية وقال بعضهم بل ظنية
قال "استدل أصحابنا بوجوه الأول أنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع والمجاوزة اعتبار وهو مأمور به في قوله تعالى فاعتبروا قيل المراد الألفاظ فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية قلنا المراد قدر مشترك قيل الدال على الكلي لا يدل على الجزئي قلنا بلى ولكن ههنا جواز الاستثناء دليل العموم قيل الدلالة ظنية قلنا المقصود العمل فيكفي الظن"
استدل أصحابنا على حجية القياس بوجوه أربعة:
أحداها أن القياس مجاوزة اعتبار والاعتبار مأمور به فالقياس مأمور به أما المقدمة الأولى فلأنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع
وأما الثانية فلأن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة والعبور تقول عبرت عليه وعبرت النهر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  في لسان العرب :فصل العين وخرف الصاد ":اعتاض علي هذا الأمر يعتاص فهو معتاص :إذا التأث عليه أمره فلم يهتد لجهة الصواب فيه

 

ج / 3 ص -10-         وأما الثالثة فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بماهية الاعتبار وهو أمر شامل لجميع أنواع الاعتبار ومن جملة أفراده القياس فوجب أن يكون الاعتبار مأمورا به واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم أن الاعتبار المجاوزة بل المراد من المأمور به الاتعاظ ودليل ذلك أن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية وهو قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ1} فإنه لا يقال بعد ذلك فقيسوا الذرة على البر إذ هو حينئذ ركيك من الكلام ولا يليق بالشرع وأجاب عنه بأن المراد بالاعتبار القدر المشترك بين الاتعاظ والقياس وهو المجاوزة إذ في كل منهما معناها بخلاف ما لو جعلناه مختصا بالاتعاظ فإنه يلزم إما الاشتراك أو المجاز على خلاف الأصل وإذا حملنا الاعتبار على مطلق المجاوزة لا تلزم الركاكة لأنها إنما تلزم أن لو خصصنا الاعتبار بالقياس الشرعي وليس كذلك ثم اعترض الخصم ثانيا بأنا سلمنا أن الاعتبار المجاوزة لكن لا يلزم منه الأمر بالقياس لأن الآية دالة على وجوب مطلق الاعتبار والدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز وغير ملتزم له وهو معنى قوله الدال على الكلي لا يدل على الجزئي ولا يلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي للكلي الذي هو مطلق الاعتبار وأجيب بأن ما ذكر صحيح ولكن هنا يقتضي العموم لوجهين
أحدهما وهو المذكور في الكتاب أنه يحسن أن يقول اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني وقد بينا في العموم أن الاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوضح أن كل اعتبار داخل تحت هذه اللفظ:
الثاني أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن يكون علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار كونه اعتبار فيلزم أن يكون كل الاعتبار مأمورا به
ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم جواز الاستثناء إذا فسر بالتفسير المذكور وهو ما لولاه لوجب دخوله إذ النكرة في سياق الإثبات لا تعم ثم ولو فسر الاستثناء بأنه ما لولاه لصح دخوله لم يأت ما ذكر أيضا لأنه ينتقض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة الحشر آبة "2"

 

ج / 3 ص -11-         بالأمر بكل ماهية كلية إذ يجوز فيه هذا النوع من الاستثناء نحو صل الصلاة الفلانية مع أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بجزئياتها كذا قاله صفي الدين الهندي وهو صحيح وعلى الثاني أن هذا إثبات للقياس بالقياس أو أن كون ترتيب الحكم على الوصف مشعرا بالعلية قياس فيتوقف ثبوته على ثبوت أصل القياس فلا يثبت به أصل القياس وإلا يلزم الدور فإن قلت قد قال بحجية هذا النوع من القياس بعض من أنكر أصل القياس" لكون العلة فيه معلومة بالإيماء فيصح إثباته به بالنسبة إليه قلت صحيح "لكن لا يصح إثباته بالنسبة إلى منكر أصل القياس والكلام في هذا المقام ليس إلا معه قال صفي الدين الهندي ويمكن أن يجاب عن اعتراض الخصم بوجه ثالث وهو أن الأمر بالماهية والكلية وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلف بالإتيان بكل واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها ثم التخيير بينها يقتضي جواز فعلى كل واحد منهما ويلزم من جواز فعلى القياس وجوبه لأن القول بجوازه مع عدم وجوبه خارق للإجماع ثم اعترض الخصم ثالثا بأنا ولو سلمنا أن الآية الدالة على الأمر بالقياس لكن التمسك بها ممتنع لأن الاستدلال بالعموم إنما يفيد الظن والتمسك بالظن في المسائل العلمية التي هي الأصول لا يجوز وأجاب المصنف بأن المقصود من حجية القياس العمل به لا مجرد اعتقاده لأصول الدين والعمليات يكفى فيها الظن فكذلك وسائلها والله أعلم ولم يجب الإمام عن هذا السؤال بل قال إنه عام في كل السمعيات فلا تعلق له بخاصية هذه المسألة وأجاب الهندي بمنع أن تكون المسألة علمية وجعلها ظنية وهذا واضح على أحد الرأيين الذي حكيناهما في أول الباب
قال "الثاني خبر معاذ وأبي موسى قيل كان ذلك قبل نزول أكملت قلنا المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع"
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على حجية القياس من السنة وتلك في قصتين قصة أبي موسى وقصة معاذ أما قصة معاذ فروى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له
:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء" قال أقضي بكتاب الله قال

 

ج / 3 ص -12-         "فإن لم تجد في كتاب الله" قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي1 رسول الله" والمراد بالرأي القياس قال إمام الحرمين ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي الاستنباط من الكتاب والسنة فإن ذلك لو كان على هذه الوجه لكان تمسكا بالكتاب والسنة وقد قال في البرهان أيضا أن الشافعي رضي الله عنه احتج ابتداء على إثبات القياس بحديث معاذ يعني هذه قال والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه تأويل قلت وهذا عجيب من إمام الحرمين فقد قال إمام الصناعة أبو عبد الله البخاري لا يصح هذا الحديث وقال الترمذي ليس إسناده عندي بمتصل وأما قصة أبي موسى وقد جمع في المحصول وغيره بين القصتين وجعلهما واحدة ولا أعرف ذلك بل روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه كتابا بليغا وفيه ثم قايس الأمور وأعرف الأمثال والأشباه رواه البيهقي وقال هو كتاب معروف مشهور لا بد للقضاة من معرفته والعدل به وقد اعترض الخصم على هذا الدليل الثاني فإنه وإن دل على حجية القياس وقت تقريره عليه السلام فلا يدل على حجيته دائما في جميع الأزمنة بل ذلك قبل نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ2} فإن إكمال الدين إنما يكون بالتنصيص على الأحكام فما نزلت هذه الآية استغنى عن القياس والجواب أن الأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت وأيضا فلم يقل أحد أن القياس كان حجة إلى حين نزول هذه الآية ثم زال والمراد بقوله أكملت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  رواه أبو داود وانرمذي "تحفة الأحوذي باب القاضي كيف يقضي 4/556- 557"وضعفه الترمذي والبخاري وابن حزم لكن الإمام الشافعي رضي الله عنه صححه واحتجة به علي صحة القياس
أنظر :"تخريج أحاديث المنهاج للعراقي ورقة 43- ب وابن الملقن ورقة 43 – وقد روي البخاري عن أبي بردة رضي الله عنه قال:يعث رسول الله صلي الله عليه  وسلم – أبا موسي ومعاذ بن جبل إلي اليمن وبعث كل واحد منهما علي مخلاف ثم قال:
"يسرا ولا تعسرا ويسرا ولا تنفرا" الحديث التاج "4/441"
2  سورة المائدة 3

 

ج / 3 ص -13-         لكم دينكم الأصول أما التفاريع فالآية مخصوصة بالنسبة إليها لعدم شمول النص الصريح لجميع الجزئيات هذا تقرير ما في الكتاب ولك أن تجيب عن هذا الاعتراض بما هو أحسن من هذا الجواب فتقول المراد من قوله أكملت لكم دينكم بيان جميع ما يحتاج إليه في الدين والآية عامة على هذا التقدير ثم للبيان قد يكون بلا واسطة كما في التخصيص وقد يكون بواسطة كما إذا بين المدارك للأحكام فلم قلتم أنه لا يحصل ذلك إلا إذا كان البيان بلا واسطة وحينئذ لا ينافي إكمال الدين العمل بالقياس بل يكون من إكمال شرعه ولا يحتاج على هذا التقرير إلى تخصيص الآية بل تكون باقية على عمومها
قال الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة أقول برأي أبي الكلالة ما عدا الوالد والولد والرأي هو القياس إجماعا وأمر عمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد أقضي برأيي وقال له عثمان إن اتبعت رأيك في الإجماع فسديد وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر قيل ذموا أيضا قلنا حيث فقد شرطه توفيقا
الوجه الثالث مما يدل على أن القياس حجة وهو معتمد الجمهور الإجماع وتقريره أن العمل بالقياس مجتمع عليه بين الصحابة لصدوره من طوائف منهم من غير إنكار وكلما كان كذلك كان إجماعا لما تقدم في كتاب الإجماع وأما صدوره عن طوائف منهم فلما روى أن أفضل الصحابة الصديق رضي الله عنه قال حين سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والرأي هو القياس لأنه يقال أقلت هذا برأيك أم بالنص فدلت مقابلته للنص على أنه للاستدلال وادعى المنصف في ذلك الإجماع وكذا ادعى صفي الدين الهندي في النهاية واستدل عليه بأن أصحابنا رووا عن السلف كلاما كثيرا أنهم عملوا بالرأي وقالوا الرأي هو القياس وساعدناهم على ذلك فدل على أن الرأي هو القياس وفاقا فإن قلت هل ذلك باعتبار أصل وضعه أو باعتبار النقلي قلت ألا ظهر أنه بطريق النقل مع أن ذلك مما لا حاجة لنا إليه مع ثبوت ما ذكرناه وأمر عمر رضي

 

ج / 3 ص -14-         الله عنه أبا موسى في عهده بالقياس حيث قال أعرف الأشباه والنظائر ثم قايس بين الأمور وقد تقدم هذا وقال عمر أيضا في الحد أقضي برأيي وقال عثمان لعمر إن اتبعت رأيك فسديد وإن تتبع رأي من قبلك يعني أبا بكر فنعم الرأي وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن وقال ابن عباس الجد على ابن الابن في حجب الأخوة وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت أن يجعلوا ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فثبت صدور القياس بما قلنا وبعيره من الآثار الكثيرة التي ينكرها إلا معاند وقد تواتر القدر المشترك منها قال القاضي في كتاب التقريب والإرشاد وقد صار تمسكهم بالرأي وتسويغهم التعلق بطريق الاجتهاد مدرك اختلافهم على الجملة ضرورة وإن كانت صورة الاختلاف نقلت آحادا واعترض الخصم على هذا الدليل بأنه معارض بمثله فإنه نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم ذموه أيضا وأنكروه كما روي عن أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقوله تضلني وأي أرض تقلني معناه تحملني وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظهره إلى غير ذلك من آثار كثيرة والجواب أن معارضة هذا الذم لما ذكرناه أيضا عنهم من العمل به إن ثبتت فالجمع بين الدليلين أولى فيحمل هذا على ما إذا كان القياس غير مستجمع لشرائط وذلك على القياس المستجمع لشرائطه توفيقا بين الدليلين وهذا ما ذكره في الكتاب وهو جواب إجمالي وقد قيل إن المعارضة غير ثابتة وأجيب بوجه تفصيلي أما نقل عن أبي بكر فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية وأما قول عمر رضي الله عنه فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من الأحاديث وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروطا بعدم النصوص ولذلك سماهم بأصحاب الرأي وإلا فمن قال بالكتاب والسنة والرأي ويقال له صاحب الرأي لأنه لم يتمحض قوله بالرأي وأما قول علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس إلى آخره فيجب

 

ج / 3 ص -15-         حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ويكون المقصود منه أنه ليس كلما أتت به السنن على ما تقتضيه القياس
قال الرابع إن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع يوجب ظن الحكم في الفرع والنقيضان لا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما والعمل بالرجوع ممنوع فيبقى الراجح
هذا وجه عقلي وتقريره أن المجتهد إذا ظن أن الحكم في الأصل معلل بعلة موجودة في الفرع حصل له ظن الثبوت الحكم في الفرع والظن بوجود الشيء يستلزم الوهم بعدمه لعدم انفكاك كل من الظن أو الوهم عن الآخر والعمل بهم أو الترك لهم يستلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما والعمل بالوهم المرجوح خلاف المعقول والمشروع فتعين العمل بالراجح لأنا استقرينا أمور الشرع كلها جزئية وكلية فوجدنا الراجح يجب العمل به لقوله صلى الله عليه وسلم
:"نحن نحكم بالظاهر" وما أشبه ذلك وهذا معنى قولنا يتعين العمل بالراجح وليس المراد منه أن كونه راجحا صفة يقتضي الثواب على فعله والعقاب على تركه حتى يقال عليه الأحكام عندنا إنما هي من جهة الشرع دون العقل وإنما المراد بتعينه أن الشرع تقرر منه ذلك فالعقل أدرك كونه راجحا والشرع حكم بالعمل بالراجح وللعقل أهلية الإدراك بلا نزاع بين العقلاء وقد قيل إن في هذا الدليل نظرا لجواز ارتفاعها بارتفاع محل الحكم وذلك بأن لا يكون في الواقعة حكم شرعي البتة ويكون الأمر فيها محالا على البراءة الأصلية بناء على أنه لا يجب أن يكون في كل حادثة حكم شرعي
قال "احتجوا بوجوه الأولى قوله تعالى لا تقدموا وإن تقولوا ولا نقف ولا رطب إن الظن قلنا الحكم مقطوع والظن في طريقه"
ذكر من شبه الخصوم ستة أولها ما تعلقوا به من الكتاب وذلك في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ1} والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله إذ هو قول بغير الكتاب والسنة وأيضا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  وفتتح سورة الحجرات

 

ج / 3 ص -16-         فالقياس إنما يفيد الظن والظن منهي عنه لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ1} وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ2} أي ولا تتبع ما لا تعلم فهي نهي عما ليس بعلم ومن جملته الظن وأيضا قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ3} يقتضي الاستغناء عن القياس وأيضا قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً4} وأجاب في الكتاب بأن الحكم مقطوع به لا مظنون والظن وقع في طريقه كما تقرر في أول الكتاب فإن قلت هذا يشعر بأنه سلم أن الظن مذموما لكنه وقع في طريق الحكم لا فيه وعلى هذا يكون الطريق مذموما ويكون الحكم كذلك لأنه مستفاد من الطريق المذموم قلت حاصل جوابه أنه منع كون الحكم مظنونا حتى لا يستدل الخصم عليه بما استدل ولا يلزم من هذا المنع تسليم أن الظن مذموم ولا إشعار له به ولو سلمنا أنه يشعر بذلك فقال الشيرازي شارح هذا الكتاب لا نسلم أن المستفاد عن المذموم مذموم ألا ترى إلى جواز كذب المقدمتين مع صدق النتيجة مثل قولك كل إنسان حجر وكل حجر حيوان ينتج كل إنسان حيوان وهو صحيح من كذب مقدمتيه ولقائل أن يقول كل انسان حيوان في هذا المثال صورة نتيجة لا نتيجة في نفسه وصدقه لنفسه لا لكون نتيجة فلا نسلم أن هاتين المقدمتين ينتجان هذا القول الصادق واعلم أن هذا الذي أجاب به المضيف ليس شاملا للآية الأولى ولا للآية الرابعة والجواب عن الآية الأولى أنا لا نسلم أن العمل بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله لأنه ثبت بالكتاب والسنة كما تقدم وعن الرابعة بأنه عام مخصوص لعدم اشتمال الكتاب على جميع الجزئيات وقد أجيب عما استدل به الخصم على المنع من الظن بوجهين آخرين لم يذكرهما في الكتاب أحدهما أنه حجة عليه فإن القول ببطلان القياس ليس معلوما عندك بل مظنون ضرورة أنه لا قاطع على فساده والذاتي أنه يجب تخصيصه بالأصول دون الفروع لوجوب العمل بشهادة الشهود وحكم القاضي وفتوى المفتي واجتهاد المجتهد في الماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة الأعراف "33"
2  سورة الإسراء "36"
3  سورة الأنعام "59"
4  سورة النجم "28"

 

ج / 3 ص -17-         والتراب والقبلة وقت الصلاة وهلال رمضان وقيم المتلفات وغلبة السلامة في ركوب البحر وخبر الواحد أو العموم وقول القدر في أرش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الحالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النص في الأصل
قال الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم
:"تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" الثالث ذم بعض الصحابة له من غير نكير قلنا معارضان بمثليهما فيجب التوفيق الرابع نقل الإمامية إنكاره عن العترة قلنا معارض بنقل الزيدية الخامس أنه يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وقد قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} قلنا الآية في الآراء والحروب لقوله عليه السلام :"اختلاف أمتي رحمة"
الشبهة الثانية للخصوم ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم :"تعمل هذه الأمة برهة أي قطعة من الزمان بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله ثم تعمل برهة بالرأي فإذا قالوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا" الثالثة الإجماع فإنه قد نقل عن بعض الصحابة ذم الرأي من غير نكير فكان إجماعا والجواب عن هذين الدليلين بأنهما معارضان بمثليهما سنة وإجماعا كما سلف فيجب الجمع بين الدليلين بأن يحمل الذم على القياس الفاسد دون الصحيح كما سبق هذا ما في الكتاب والحديث المشار إليه لا تقوم به الحجة ولا يصلح معارضا لأن رواية جبارة بن المفلس وهو ضعيف حماد بن يحيى الأبح وقد قال فيه البخاري يهم في الشيء بعض الشيء قال ابن عدي وسمعت ابن حماد يقول قال السعد بن الأبح روي عن الزهري حديثا معضلا يعني هذا الحديث ورواه حماد عن الزهري كما ذكر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا فإن قلت سلمنا ضعف الحديث ومعارضته لما تقدم ومعارضة الإجماع أيضا وأنه يجب التوفيق بينهما ولكن لا نسلم أن التوفيق متعين بما ذكرت من الطرق بل جاز أن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر منكرا وحينئذ يكون كل واحد منهم قائلا بالقياس ومنكرا باعتبار حالتين فلا تناقض وتكون الروايتان صحيحتين مع أنه لا

 

ج / 3 ص -18-         يحصل الإجماع على صحته ولا على بطلانه فلا يصح لك ولا لنا الاستدلال بالإجماع قلت ما ذكرناه من التوفيق أولى لأنه يقتضي بقاء ما كان على ما كان من استمرار كل ذي قول على قوله وتوفيقكم يقتضي التعبير وأيضا فلو وقع ما ذكرتموه لاشتهر لغرابته أو كان في لفظ أحد منهم إشعار بالرجوع الرابعة نقل الإمامية من الشيعة إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على وجوب العمل به مع أن إجماع العترة غير حجة كما سبق الخامس أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وكل ما كان كذلك فهو منهي عنه أما الصغرى فلأن القياس مبني على الظن وهو مختلف باختلاف القياسيين وأما بيان الكبرى فلقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا1} نهى عن النزاع فاستلزم ذلك النهي عما يفضي إليه والجواب أن الآية إنما وردت في مصالح الحروب لقرينة قوله فتفشلوا وتذهب ريحكم أو أنها محمولة على النزاع فيما يتعين فيه الحق كمسائل الأصول وأما التنازع فيما عدا ذلك فجائز لما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : "اختلاف أمتي رحمة"2 فيحمل الحديث على ما عدا ذلك واعلم أن الحديث المشار إليه غير معروف ولم أقف له على سند ولا رأيت أحدا من الحفاظ ذكره إلى البيهقي في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك بسبب الأشعري وقد ساقها الحافظ ابن عساكر في التبيين إلا أن البيهقي لم يذكر له إسنادا بل قال روى النبي صلى الله عليه وسلم كذا ولو لم يكن له أصل لما ذكره البيهقي ثم قال البيهقي سمعت الإمام ناصر العمري يقول سمعت القفال المروزي يقول معناه اختلاف هممهم فبهمة واحد في الفقه وآخر في الكلام كاختلاف همم أصحاب الحروف في حرفهم بما فيه مصالح العباد قلت وهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة الأنفال ىية "46"
2  قال السيوطي كط أخرجه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند واورده الىحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرج في بعض الكتب الحفاظ التي لم تصل غلينا "الجامع الصغير 1/13 وأري أن الحديث محمول علي الإختلاف في الفروع وهذا شيء فيه وإنما يدل علي اتساع الشريعة الإسلامية وشمولها لكل ما يجد من حوادث ونوازل والله أعلم

 

ج / 3 ص -19-         تأويل حسن وهو أحسن مما نقله إمام الحرمين في النهاية عن الحليمي من أن معناه اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب وكلا التأويلين على أنه ليس المراد اختلافهم في الحلال والحرام قال والدي أيده الله القرآن دال على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ1} وقال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ2} وكذا السنة قال عليه السلام :"إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم3" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة والاختلاف على ثلاثة أقسام
أحدها في الأصول وهو المشار إليه في القرآن ولا شك أنه بدعة وضلالة
والثاني في الآراء والحروب هو حرام أيضا لما فيه من تضييع المصالح
والثالث في الفروع كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما قال والدي أيده الله والذي يظهر لنا ويكاد أن يقطع به أن الاتفاق فيه خير من الاختلاف لكن هل نقلوا الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين ولا كلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن منع التقليد يقتضي أنه مثلهما وأما نحن فإنه يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعض الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص ومن هذا الوجه يصح أن يقال الاختلاف رحمة إذ الرخص رحمة
قال السادس الشارع فصل بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والصلوات في القصر وجمع بين الماء والتراب في التطهير وأوجب التعفف على الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وقطع السارق القليل دون غاصب الكثير وجلد في الزنا وشرط فيه شهادة أربعة دون الكفر وذلك ينافي القياس قلنا القياس حيث عرف المعنى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة هود "118- 119"
2  سورة ابقرة "253"
3  حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والنسائي وابن ماجة "صحيح الجامع الصغير للالباني "3/156"

 

ج / 3 ص -20-         الوجه السادس وعليه اعتمد النظام أن مدار شرعنا على الجمع بين المختلفات الإسراء وليلة الجمعة ويومها وشهر رمضان والأشهر الحرم ويومي العيدين ويوم عرفة وكذلك بين الأمكنة كمكة والمدينة والمسجد الأقصى مع الاستواء في الحقيقة وفرق بين الصلوات في القصر فرخص في قصر الرباعيات دون الثنائية والثلاثية وجمع بين الماء والتراب في استباحة الصلاة بهما مع أن الماء ينظف والتراب بضده وجعل الحرة الشوهاء تحصن ويحرم النظر إليها دون الجارية الحسناء وعبارة المصنف أوجب التعفف على الحرة الشوهاء فيحتمل أن يريد ما ذكرناه وأن يريد أنه أوجب عليها الستر دون الأمة الحسناء التي يميل الطبع إليها وقطع السارق القليل ما لم ينقص عن ربع دينار دون غاصب الكثير مع أن غاصب الكثير أبلغ في الفحش لأنه يأخذ المال جهرا على تغلب والسارق يأخذه سرا على تخوف وأعظم في الأذى لكثرته وجلد في القذف بالزنا بخلاف القذف بالكفر مع كونه أبلغ وشرط فيه شهادة أربعة وأكتفي في الشهادة على القتيل والكفر باثنين وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصح القياس لأن مبناه على أن الصورتين لما اشتركا في الحكمة وجب اشتراكهما في الحكم وهو باطل والجواب أن القياس إنما يجوز حيث عرف أن الحكم في الأصل معلل بعلة معلومة موجودة في الفرع وامتناع القياس في صور معدودة لا يقتضي امتناعه من أصله وأعلم أن ما ذكره النظام من أن الشريعة مبنية على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات كذب وافتراء وإنما حمله على ذلك زندقته وقصده الطعن في الشريعة المطهرة وقد كان زندقيا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال صنف كتابا في ترجيح التثليث على التوحيد لعنه الله وقد نبهنا على ذلك في أول كتاب الإجماع وما ذكره من الصور وكذلك ما يناسبها لها معان والفرق بين المتماثلات فإنه فرق بين الأزمنة في الشرف كليلة القدر وليلة يعلمها الشارع لا إطلاع لنا عليها وحكم خفية لا ندركها على أن الصور المذكورة قد ذكرت معانيها

 

ج / 3 ص -21-         قال الثانية قال النظام والبصري وبعض الفقهاء التنصيص على العلة أمر بالقياس
وفرق أبو عبيد الله بين الفعل والترك.
النص على علة الحكم هل يفيد الأمر بالقياس فيه مذاهب.
إحداها وإليه ذهب المحققون كالأستاذ والغزالي والإمام وأتباعه ومنهم المصنف وجماعة من أهل الظاهر وجماعة من المعتزلة واختاره الآمدي ومن تبعه أنه لا يفيد الأمر بالقياس سواء كان في الفعل مثل أكرم زيدا لعلمه أم الترك مثل الخمر حرام لإسكارها
والثاني أنه يفيده وبه قال أحمد بن حنبل والرازي أي أبو بكر والكرخي والقاشاني والنهرواني وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الحسين البصري ونقله الأكثرون عن النظام
والثالث قاله أبو عبد الله البصري إن كانت العلة علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافيا في ترك الفعل بها أين وجدت وإن كان علة لوجوب الفعل أو ندبيته لم يكن ذلك كافيا في إيجابه ولا ندبيته ما لم يرد التعبد بالقياس من خارج
"تنبيه" قد عرفت نقل الأكثرين عن النظام ومنهم صاحب الكتاب وكلام الغزالي في النقل عنه صريح في أنه يرى تعميم الحكم في جميع موارد العلة بطريق اللفظ والعموم وبه صرح الآمدي في أثناء المسألة وهو مناف لنقل الأكثر فإن التعميم بالقياس لا يجامع التعميم باللفظ فحينئذ لا يكون أمرا بالقياس عنده وإن ثبت الحكم عنده في غير الصورة المنصوص عليها فإن قلت الجامع بين إنكار النظام التعبد بالقياس وبين مقالته التي نقلتموها عنه هنا قلت أما على ما نقله الغزالي فواضح لأنه جعله من باب العموم وقال الغزالي قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس وأما على ما نقله الأكثرون فإنه هنا يقول إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره بل لمدلوله لغة وهناك أحال وروده من الشارع فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه فأفهم هذا فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته وذلك سوء فهم فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد غير الكلام في أنه هل يرد

 

ج / 3 ص -22-         قال "لنا أنه لو قال حرمت الخمر لإسكارها يحتمل علة الإسكار مطلقا وعلة إسكارها قيل الأغلب عدم التقيد قلنا فالتنصيص وحده لا يفيد قيل لو قال علة الحرمة الإسكار لا يدفع الاحتمال قلنا أثبت الحكم في كل الصور بالنص"
استدل صاحب الكتاب على المذهب المختار بأن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة محتمل لأن تكون العلة مطلق الإسكار ولأن تكون العلة إسكارها وهذا لأن الله تعالى أن يجعل إسكار الخمر بخصوصه هو العلة لما يعلم فيه من المفسدة الخاصة التي لا وجود لها في غيره وإذا احتمل واحتمل لم يجز التعبد به إلا بأمر مستأنف بالقياس وإذا وضح هذا في جانب الترك ثبت في الفعل بطريق أولى فإن قلت يقتضي ما قررتم بعينه امتناع القياس عند النص على العلة مع ورود الأمر به أيضا قلت لعل ورود الأمر بالقياس عند النص على علة حكم قرينة تقضي بترجيح أحد الاحتمالين وهو مطلق الإسكار في المثال الذي ذكرناه واعترض الخصم من وجهين
أحدهما أن الأغلب على الظن عدم كون خصوص المحل قيدا في العلة وإلا لما صح قياس أصلا ويحتمل أن الأغلب في العلل التعدية والجواب أنه حينئذ لا يكون النص على العلة وحده هو المفيد الأمر بالقياس بل التنصيص مع كون الأغلب عدم التقييد والنزاع إنما هو في أن التنصيص وحده هل هو كاف
وثانيهما أنه لو قال الشارع علة الحكم الإسكار لاندفع الاحتمال وثبت الحكم في كل الصور التي يوجد فيها الإسكار وأجاب بأن الحرمة حينئذ تثبت في كل الصور لا بالقياس بل بالنص أي بطريق الاستدلال من النص حيث أنه جعل مطلق الإسكار علة تحريم الخمر وهو حاصل في كل مسكر فيلزم ثبوت الحرمة في كل مسكر وعبارة التحصيل لو قال ذلك لم يكن قياسا إذا العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول أي من غير أن يتأخر العلم ببعض الأفراد عن العلم بالآخر فلم يتميز الأصل عن الفرع حتى يقاس أحدهما على الآخر وهذه العبارة نحو عبارة الإمام وعبارة صاحب الكتاب قريبة منهما إلا

 

ج / 3 ص -23-         أنه لم يقل علة حرمة الخمر بل علة الحرمة وهو واحد فإن المقصود حرمة الخمر إذ ليس الإسكار علة لكل حرمة وهذا واضح ولم يصرح الإمام وسراج الدين بأن ذلك بالنص ولكن بطريق العلم بالعلة وهو الاستدلال بالنص وإياه أراد المصنف رحمه الله وعبارة الآمدي نحو عبارة المصنف فإنه قال يكون التحريم ثابتا في كل الصور بجهة العموم ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك ليس بقياس وقولكم لم يتميز الأصل عن الفرع مندفع فإنه إذا قال علة حرمة الخمر الإسكار فالحرمة في الخمر أصل وحصل العلم بها حال ورود النص ثم بعد ذلك يحصل العلم بحرمة كل مسكر وكل ما كان غير الخمر يكون فرعا والعلم بحرمته متأخر عن العلم بحرمة الخمر وربما لا يعلم كون الشيء مسكرا إلا بعد حين فلا يعلم حرمته فإذا جرت ووجد مسكرا علم تحريمه فكيف لا يكون العلم به متأخرا فإن قلت نحن ندعي عدم تأخر العلم بحرمة كل مسكر حكما كليا لا العلم بواحد واحد من الجزئيات المندرجة فإنها داخلة في الحكم المعلوم فالعلم بحرمة الجزئيات المخصوصة لا يستفاد من الأصل الذي هو الخمر بل من المقدمة الكلية التي هي العلم بتحريم كل مسكر والعلم بهذه المقدمة لا يتأخر قلت لا نسلم أن العلم بها غير متأخر لأنا نعلم أولا حرمة الخمر ثم كون الإسكار علة بتنصيص الشارع ثم نحكم بتحريم كل مسكر حكما مترتبا على هذا العلم بالعلية والحكم في كل قياس كذلك فإن المجتهد يعلم حكم الأصل ثم يستنبط العلة ثم يحكم بمقدمة كلية شاملة لجميع صور تلك العلة هذا شرح ما في الكتاب وأما الدليل على أن التنصيص على العلة لا يفيد الحكم في جميع الصور باللفظ خلاف ما نقله الغزالي والآمدي عن النظام فإنا نعلم بالضرورة من اللغة أن قوله حرمت الخمر لإسكارها لا يدل على تحريم كل مسكر لدلالة قوله حرمت كل مسكر وأنه غير موضوع لذلك بل هو موضوع لتحريم الخمر لعلة إسكاره وحرمة ما عدا الخمر من المسكرات ليس جزءا من المفهوم ضرورة فيجب أن لا يكون دلالته على تحريم كل مسكر لفظية لأن الدلالة منحصرة في هذين النوعين عند قوم وفي دلالة المطابقة عند آخرين ولهذا لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق من عداه من عبيده السود ولو قام ذلك مقام عتقت عبيدي السود لعتقوا عليه من

 

ج / 3 ص -24-         غير اعتبار نية ولا علم بمقصد وكذا لو قال لوكيله بع سالما لسوء خلقه واحتج أبو عبد الله على مذهبه بأن من ترك أكل رمانة حامضة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة بخلاف من أكلها لحموضتها وأجيب بأنا لا نسلم أنه يجب عليه ترك الكل وذلك لاحتمال أن يكون الداعي لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة الخاصة سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك وإنما لم يجب أكل رمانة حامضة على من أكل رمانة حامضة لأنه لم يأكلها لمجرد حموضتها بل لحموضتها مع قيام الاشتهاء الصادق بها وخلاء المعدة عن الرمان وعلمه أو ظنه بعدم تضرره بها وهذه القيود غير موجودة في أكل الرمانة الثانية وهذا ما ذكره الإمام ولقائل أن يقول التفرقة بين الفعل والترك ثابتة فإن جانب النهي يدل على كون المشترك مفسدة مطلوبة العدم ولا يحصل هذا الغرض إلا بالامتناع عن كل الأفراد وأما في طرف الفعل فالغرض متعلق بالمصلحة المشتركة بين الأفراد وذلك يحصل بأي فرد كان كذا ذكره النقشواني وهو حسن وهو وجه التفرقة بين اقتضاء النهي التكرار دون الأمر كما قررناه في موضعه قال وقول الإمام مع الاشتهاء الصادق وخلا المعدة عين الفرق

قال "الثالثة القياس أما قطعي أو ظني"
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول أن القياس ينقسم إلى قطعي وظني الأول القطعي وهو الذي يتوقف على العلم بعلة الحكم في الأصل ثم العلم بحصول مثل تلك العلة في الفرع فإذا علمها المجتهد تيقن إلحاق ذلك الفرع بالأصل في حكمه ومساواته له وهذا القياس قطعي كما قال المصنف وإليه أشار الإمام في المحصول بقوله قد يكون ظاهرا جليا ثم صرح من بعد في أثناء المسألة بأنه يقيني وأما حكمه فقد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا ومثال ذلك من لظى قياس التأفيف على الضرب لأنا نعلم أن العلة الأذى ويعلم وجودها في الضرب مع أن ثبوت الحكم في التأفيف ظني لأنه مستعاد من دلالة اللفظ وقد قرر الإمام أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين منها لتوقفها على الاحتمالات العشرة وهيهات أن توجد ذلك والثاني ظني كما

 

ج / 3 ص -25-         إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة كقياس التفاح على البر في الربا فإن الحكم بأن الطعم هو العلة ليس قطعيا لاحتمال أن يكون الكيل أو القوت
قال "فيكون الفرع بالحكم أولى التحريم الضرب على تحريم التأفيف أو مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية أو أدون كقياس البطيخ على البر في الربا"
البحث الثاني في حكم الأصل فثبوت حكم الأصل أما أن يكون يقينا قال الإمام فيستحيل أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة واعترض عليه النقشواني بأن اليقين قابل للاستبداد والضعف وهذا الاعتراض بناء على أن العلوم تتفاوت وإن لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع قد يكون أقوى من ثبوته في الأصل وذلك في النفي كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف الذي هو الأصل وفي الإثبات كقوله:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ1} فهذا يفيد تأدية ما دون القنطار بطريق أولى وقد يكون مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه وسلم : "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه2" إذ لا تفاوت بين الأصل والفرع في هذا الحكم وهذا هو المسمى بالقياس في معنى الأصل وقد يكون أدون قال الإمام وذلك كجميع الأقيسة التي يتمسك بها الفقهاء في مباحثهم قال وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون فلا ينحصر ومثل المصنف لهذا القسم بإلحاق البطيخ بالبر في الربا بجامع الطعم مع احتمال كون العلة الكيل أو القوت هذا تقرير ما ذكره الإمام وهو الذي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  سورة ىل عمران آية "57"
2  رواه الجماعة والدار قطني بلفظ :
"من أعتق شركا في عبد وكان له مال يبلغ ثمن قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطي شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عليه" وفي رواية للبخاري : "من أعتق شركا له في مملوك وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويعطي شركاءه حصصهم ويخلي سبيل المعتق" "نيل الأوطار6/207" ط بيروت

 

ج / 3 ص -26-         أورده المصنف وسائر أتباع الإمام وقد علمت به سداد كلام الإمام وأتباعه وخطأ من اعتقد تناقض كلامه حيث جعل في البحث الأول قياس الضرب على التأفيف مقدماته قطعية وجعله هنا ظنيا كالنقشواني وغيره وسبب الخطأ أن القياس إنما يكون قطعيا إذا كان الحكم في الأصل كذلك وهذا ليس بشيء فقد تقطع بمساواة الشيء للشيء في حكمه المظنون كما عرفت في البحث الأول ولك أن تنظر ذلك بإجماعهم على إلحاق الخالة بالخال في الإرث مع اختلافهم فيه وإذا وضح هذا فإن قلت تقسيم القياس إلى أدون أن أردتم به أن يكون ما في العلة الموجودة في الفرع من المصلحة دون ما في الأصل فلا نسلم حينئذ جواز القياس لأن شرطه وجود العلة بكمالها في الفرع وإن أردتم شيئا آخر فعليكم بيانه قلت أردنا شيئا آخر وهو عدم القطع بأن ما ظن عليته علة كالطعم فإن القائل بعليته في الربويات ليس قاطعا بمقالته لاحتمال أن تكون العلة الكيل أو القوت فإذ جئنا إلى قياس التفاح على البر قلنا هو مساواته في الطعم وثبوت الحكم فيه أدون من ثبوته في البر لأن البر مكيل مقتات مطعوم فهو ربوي على كل الاحتمالات والتفاح ربوي على احتمال واحد وهو كون العلة الطعم والثابت على كل الاحتمالات أقوى من الثابت على احتمال واحد
قال "قيل تحريم التأفيف يدل على تحريم أنواع الأذى عرفا ويكذبه قول الملك للجلاد اقتله ولا تستخف به قيل لو ثبت قياسا لما قال به منكره قلنا القطعي لم ينكر قبل نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة ولا النقير ولا القطمير قلنا أما الأول فلأن نفي الجزء يستلزم نفي الكل وأما الثاني فلأن النقل فيه ضرورة ولا ضرورة ههنا"
تقدم على الشرح ما ينبغي تقديمه ثم نلتفت إليه فنقول اتفق الأصوليون على أنه لا مستند لثبوت الحكم في القسم الثالث وهو القياس الأدون إلا القياس وأما القسم الثاني وهو قياس المساواة فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت بالقياس أيضا وذهب الحنفية إلى أنه غير ثابت به بل الاستدلال أي هو استدلال على تحرير مناط للحكم وحذف الحشو منه على درجة الإعداد ولهذا

 

ج / 3 ص -27-         أوجبوه على من أفطر في رمضان في الأكل والشرب والكفارة اعتبار بالمجامع فيه لكن لا لطريق القياس عليه إذا القياس لا يجري عندهم في الكفارات ولكن لطريق الاستدلال
"وأما القسم الثالث" وهو قياس الأولى وفيه كلام المنصف وفيه مذهبان أحدهما
أنه ثابت فيه بالدلالات اللفظية ثم اختلف القائلون بذلك على مذهبين أحدهما أنه من باب المنطوق وهو المشار إليه يقول صاحب الكتاب قيل تحريم التأفيف إلى آخره والثاني أنه من باب المفهوم الموافقة واختاره المصنف في الفصل التاسع من الكتاب الأول وكذلك الإمام
وثانيهما أنه ثابت فيه بالقياس القطعي واختاره المصنف هنا تبعا للإمام وقد نقل إمام الحرمين في البرهان القول بأنه من باب المفهوم عند معظم الأصوليين وعبارته صار معظم الأصوليين أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بلى هو متلقى من مضمون اللفظ المستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومعناه ومن يسمي ذلك قياسيا فمتعلقه أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب انتهى وإنما نقلنا هذه العبارة بنصها لوقوع غلط بعض الشارحين في النقل عين البرهان وكلام الغزالي نحو من كلام البرهان لكن استبعد تسمية قياسا قال لأنه لا يحتاج إلى فكر واستنباط علة وصرح بأنه مقطوع عند من سماه قياسا ومن لم يسمه وقد حكى بعض الشراح قولا رابعا أنه ثابت بالقياس الظني وهذا وهم سببه ما تقدم فإن قلت هل من تناف بين ثبوته بالمفهوم وثبوته بالقياس ولم لا يكون إلحاق الضرب بالتأفيف ثابتا بهما جميعا قلت قد يظن ظان عدم تنافيهما لكون المفهوم مسكوتا عنه والقياس إلحاق مسكوت عنه بمنطوق وهذا ما زعم صفي الدين الهندي أنه حق وقال الدلالة اللفظية إذا لم يرد بها المطابقة ولا التضمن وينافي القياس وقد يقول قائل هما متنافيان معتضدا بأن المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق والمقيس ما لا يدل عليه اللفظ البتة وما قاله الهندي ممنوع غير أن هذا إن كان قياسا فهو من الأقيسة الظاهرة التي تحتاج إلى فكر واستنباط ولكونه كذلك ظن الخصم خروجه عن أبواب والقياس ألحقه بالمفاهيم وهو لعمري

 

ج / 3 ص -28-         مصيب ولكن مستند المصنف وأمامه من جعله قياسا ما فيه من الأصل والفرع والعلة الجامعة1 جئنا إلى كلام المصنف فنقول احتج القائل بأن تحريم لا لذ التأفيف يدل لفظا على تحريم أنواع الأذى بثلاثة أوجه أحدها أن ولا تقل لها أف وأن كان موضوعا في اللغة للمنع من التكلم بلفظ أف ولكن نقل عرف إلى المنع من أنواع الأذى لتبادر الفهم إليه فيدل بالعرف على تحريم أنواع الأذى ويكذب ذلك قوله الملك للجلاد حيث أمره بقتل عدوه اقتله ولا تستخف به ولو دل نفي الأدنى على نفي الأعلى عرفا للزم من قوله ولا تستخف به النهي عن قتله وذلك مناقض لصريح قوله ولقائل أن يقول إن كان بقتله من ذي الأنفة والأنفس الأبية فالاستخفاف عنده أشد وقعا من القتل وكذلك قتل كثير من الملوك أنفسهم حيث أيقنوا بالأسر في يد العدو مخافة الاستخفاف فهو حينئذ ناه عن الأعلى آمر بالأدنى سلمنا ذلك النهي عن الاستخفاف إنما يدل على النهي عن القتل عرفا إذا لم يتقدم ما يناقضه كما في محل النزاع وهو صورة التأفيف وجاز أن يتقدم التصريح بخلاف الظاهر فقد وضح بطلان هذا الجواب وأجيب أيضا بأن النقل خلاف الأصل وضعفه النقشواني معتلا بأنه إذا ثبت كثرة الاستعمال والتبادر إلى الفهم فلا يفيد التمسك بهذا الأصل الوجه الثاني أن لو كان مستفادا من القياس لما وافق عليه منكر القياس وأجاب بأن هذا قياس جلي ومن أنكر القياس إنما أنكر الخفي وهو جواب ضعيف فإن بعضهم أنكر القياس مطلقا جليا كان أم خفيا كما تقدم أول الباب بل الجواب الصحيح أن يقال إنما قال به منكر القياس لكونه عنده مفهوم موافقة لا لكونه قياسا الثالث أن نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة فإنه يدل على أنه لا يملك أكثر منها وكذا قولهم لا يملك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  إطلاق القياس علي مفهوم الموافقة يبطل اشتراطهم عدم كون دليل حكم الأصلي شاملا لحكم الفرع في القياس لأن دليل حكم المنصوص عليه شامل لحكم مفهوم الموافقة فيكون هذا الشرط مخرجا له وقد فرض أنه منه بيطل إطباقهم علي تقسيم دلالة اللفظ إلي منطوق ومفهوم لأن القياس ليس من دلالة اللفظ والتحقيق أن الخلاف لفظي لأن مراد الشافعية تعدية الحكم إلي الفرع باعتبار وصف مناسب وإن كان ذالك الوصف المناسب في المفهوم شرطة لتناوله لغة لا أن يثبت به الحكم حتي يكون قياسا شرعيا هامش الطبعة الأولي ص 20

 

ج / 3 ص -29-         النقير والقطمير يدل على أنه لا يملك شيئا البتة من غير نظر إلى القياس فكذا نفي التأفيف وأجاب بأن دلالة ذلك في كل المثالين إنما هو لأمر خارجي أما الأول فلأن الحبة جزء للأعلى ونفي الجزء يستلزم نفي الكل ولك أن تقول إن كانت الحبة إسما للواحد مما يزرع فليست جزءا لكل ما هو أعلى منها وأما الثاني فإنا نعلم ضرورة أن ليس المراد نفي النقير والقطمير بل نفي ما له قيمته فدعوى النقل فيهما ضرورية وأما فيما نحن فيه فلا ضرورة بنا إلى ذلك لجواز الحمل على المعنى اللغوي ولك أن تقول ما بك ضرورة إلى النقل مع جواز أن يكون نفي ما عدا النقير والقطمير من فحوى الخطاب
"تنبيه" النقير النقرة التي على ظهر النواة القطمير ما في النواة كذا قاله في المحصول والمعروف وهو الذي في الصحاح أن القشرة الرقيقة هي القطمير وما في شق النواة الفتيل ا ه

قال "الرابعة القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات"
هذه المسألة معقود لبيان ما يجري فيه القياس وما لا يجري وفيها أبحاث
"الأول" أنه يجري في الشرعيات بمعنى أنه موجود فيها ويصح ذلك بوجوده في بعضها وتكون الألف واللام في قول المصنف الشرعيات للجنس دون العموم قال الغزالي فكل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه وليس المراد أنه يجوز إثبات جميع الشرعيات به فإن ذلك ممتنع خلافا لبعض الشاذين لنا أن القياس لا يتحقق إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل فحكم الأصل إن كان بغير القياس صح المدعى وهو أنها لم تثبت كلها بالقياس وإن كان بالقياس فالكلام فيه كالأول ويلزم إما الدور أو التسلسل وإن ثبت من الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة والقياس فرع تعقل المعنى قالوا الأحكام متماثلة لدخولها تحت الحكم الشرعي فيجب تساويها فيما جاز على بعضها من القياس قلنا قد يمتنع أو يجوز في بعض أفراد النوع أمر لأجل أمر اختص بذلك البعض ويكون المشترك بين جميع الأفراد بخلاف ذلك البعض في امتناع ذلك الأمر وجوازه

 

ج / 3 ص -30-         "فرع" قال الجبائي والكرخي ومن تبعهما لا يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس وبنوا عليه أنه لا يجوز الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس والحق خلافه
"البحث الثاني" أنه يجري في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات خلافا لأبي حنيفة لنا أن أدلة القياس دالة على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا من غير فصل بين باب وباب ويخص المسألة ما روى الصحابة اجتهدوا في حد شارب الخمر فقال علي أراه ثمانين لأنه إذا شرب سكر وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون وهذا قياس في الحدود ثم لم ينكر عليه فكان إجماعا فإن قلت إن أردتم أن أدلة القياس تدل على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا سواء أوجدت الأركان والشرائط أم لم توجد فهو ممنوع ظاهر الفساد وإن قلتم إن دلالتها عليه إنما هي عند حصول الشرائط فسلم لكن لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه سلمناه لكن لا نسلم حصولها فيما نحن فيه لأن الحدود والكفارات والتقدير أمور مقدرة لا يهتدي العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا نعقل فيها العلة والقياس فرع تعقل العلة وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها والجواب أنا نريد جريان القياس فيها عند حصول الأركان والشرائط قوله لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه قلنا الدليل عليه أن صريح العقل حاكم بأنه لا امتناع في أن شرع الشارع الحد أو الكفارة في صورة لأمر مناسب ثم إنه يوجد ذلك المناسب في صورة أخرى فليس وضع الحد والكفارة منافيا لهذا المعنى حتى يمتنع لأجله قوله سلمنا الإمكان لكن لا نسلم حصوله قلنا حينئذ ارتفع النزاع الأصولي ويكون الامتناع إنما هو بعدم حصول الشرائط والأركان ونحن لا نجوز القياس في شيء بدون حصول شرائطه وأركانه فأما ادعاؤكم بعد ذلك عدم حصوله فيها فذلك إنما يثبت بعد البحث والاستقراء عن كل واحدة من مسائلها فإن وجدت العلة صح القياس فيها وإلا فلا كغيرها من المسائل فلا فرق حينئذ بين مسائل هذا الباب وغيره من هذا الوجه فيجب التسوية في جريان القياس قوله الرخص منح من الله تعالى قلنا قال إمام الحرمين هذا هذيان فإن كلما تتقلب فيه العباد من المنافع فهي

 

ج / 3 ص -31-         منح من الله تعالى عز وجل ولا يختص هذا بالرخص بل يعمم الشرائع بأسرها فكان ينبغي أن لا يجري القياس في شيء من أحكامها وأعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى عدوها إلى الاستحسان فأوجبوا الرجم بشهود الزوايا بالاستحسان مع مخالفته للعقل وأما الكفارات فقاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع
وقتل الصيد ناسيا على قتله عامدا فإن قالوا إنما أثبتنا بالاستدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق قلنا فالاستدلال قياس إذ يجب فيه أن يقال حكم الأصل إما غير معلل أو معلل بالفارق أو المشترك والأولان باطلان وهذا هو القياس واستخراج العلة بالتقسيم وأما المقدرات فهو كتقدير النصب والزكاة والمواقيت في الصلاة فقد قاسوا فيها أيضا كما في تقديراتهم في الدلو والبئر حيث قالوا إذا ماتت الدجاجة في البئر تنزح كذا وفي الفأرة كذا وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع ولا أثر فيكون عن قياس ولو صح في البعض منها أثر كما يزعمه القوم فلا شك في أن ذلك لم يصح في جميع مسائلها فيكون القول بذلك في البعض الآخر قياسا وأما الرخص فبالغوا في القياس بأن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات وانتهوا فيها إلى إيجاب استعمال الأحجار وقاسوا العاصي بسفره على المطيع مع أن القياس ينفي ترخصه إذ الرخصة إعانة والمعصية غير مناسبة لها
قال "وفي العقليات عند أكثر المتكلمين"
البحث الثالث القياس في العقليات وقد ذهب إلى صحته أكثر المتكلمين وأنكره طائفة ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد وبناء الغائب على الشاهد وما يجري مجراهما واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه جامع عقلي وإلا لكان الجمع تحكما محضا ثم حصروا الجامع في العلة والحقيقة والشرط والدليل

 

ج / 3 ص -32-         فالأول كقول أصحابنا كون الشيء يصح أن يكون مرئيا في الشاهد معللا بالوجود فكذا في الغائب ومثل إمام الحرمين والإمام له بقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم كانت في الغائب كذلك وهو غير مطابق لأن هذا جمع بالمعلول لا بالعلة فإنه جمع فيه بين الشاهد والغائب بالكون عالما وهو معلول العلم لا علته
والثاني كقولهم حقيقة العالم في الشاهد من له العلم فكذا في الغائب
والثالث كقول المعتزلة شرط صحة كون الشيء مرئيا في الشاهد أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل فكذا في الغائب وفيه نظر لأن هذا جمع بالمشروط لا بالشرط فإن كونه عالما وهو الذي وقع به الجمع مشروط لا شرط والرابع مثل الإتقان والتخصيص يدلان على العلم والإرادة في الشاهد فكذا في الغائب وادعى إمام الحرمين أنه باطل لأن الجمع بالعلة والحقيقة أقوى من الآخرين وهما باطلان لأن الجمع بهما مبني على القول بالحال فإن القائل به يقول كل صفة قامت بمحل فإنها توجب له حالا والحال صفة لموجود لا توصف بوجود ولا عدم فيجعلون الصفة القائمة بالمحل علة للحال والقول بالحال باطل عند جماهير أصحابنا والمعتزلة ووافقنا على بطلانه إمام الحرمين أخيرا وبسط ذلك في كتاب الكلام ثم المحققون على أن هذا القياس ظني قال الإمام الجمع بالعلة أقوى وهو غير مفيد للقطع لأن إفادته للقطع تتوقف على حصول القطع بأن علة الحكم في الأصل موجودة بتمامها في الفرع وهو صعب فإن الموجود في الفرع مع الموجود في الأصل لا بد وأن تغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلة وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع نعم لو دل على أن ما به الامتياز لا مدخل له في اقتضاء العلة للحكم حصل القطع بثبوت الحكم لكن لا يكاد يوجد ذلك إلا في العقليات الحقيقية التي لا

 

ج / 3 ص -33-         نختلف باختلاف تفسير اللفظ مثل العالم شاهدا من له العلم فكذا غائبا لأنا لا نعني بالعالم وهذا لا يختلف موجبه بحسب الواجب والممكن
قال "واللغات عند أكثر"
البحث الرابع القياس في اللغات وقد أثبته القاضي أبو بكر وابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام وكثير في فقهائنا وأهل العربية كالمازني والفارسي وابن جنى وذهب إمام الحرمين والغزالي ومعظم أصحابنا والحنفية إلى امتناعه وتبعهم الآمدي وابن الحاجب واتفق الكل على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام لأنها غير معقولة المعاني ولا هي دائرة بدوران وصف في محالها والقياس فروعهما فهي كالحكم تعبدي لا يعقل معناه فإن قلت قد شاع قولهم في العرف هذا سيبويه وهذا جالينوس وليس إلا بطريق القياس وإلا لم يحصل المدح بذلك
قلت جاز أن يكون ذلك بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير حافظ الكتاب سيبويه وعلم جالينوس واتفقوا على امتناعه أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الصفات كالعالم والقادر لأنها واجبة الاطراد نظرا إلى تحقق معنى الاسم فإن العالم من قام به العلم فإطلاقه على كل من قام به العلم بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس أحد المسلمين المتمثلين في المسمى على الآخر بأولى من العكس وإنما النزاع في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجودا وعدما كالخمر فإنه اسم للمسكر المعتصر من العنب وهذا الاسم دائر مع الإسكار وجودا وعدما فهل يقاس عليه النبيذ في كونه مسمى بذلك الوصف لمشاركته في وصف الإسكار وكإطلاق اسم السارق النباش بواسطة مشاركته للسارق من الإخفاء في أخذا المال على سبيل الخفية
واسم الزاني على اللائط لمشاركته بإيلاج فرج في فرج واحتج المجوزون بدوران تسمية المعتصر من العنب بالخمر مع الشدة المطربة فإنه يفيد ظن عليتها له فالعلم بوجودها في النبيذ يفيد كون ظنه مسمى بالخمر وحينئذ يلزم

 

ج / 3 ص -34-         أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما ثبت للخمر والجواب أن إفادة الدوران العلة إنما هو بمعنى الإمارة والعلامة لا بمعنى الداعي إذ لا مناسبة بين الاسم والمسمى وحينئذ لا يخلو الدوران عن المزاحم لأنه كما دار مع ما ذكرتم من الوصف فكذا مع خصوصية إسكار المعتصر من العنب والدوران لا يفيد الظن مع معارضة المزاحم فإن قلت لو كان لا يقعد معارضة مثل هذا الواجب أن لا يفيد في الشرعيات أيضا لعدم خلوه عنه قلت القاطع دل على جواز القياس في الشرعيات فعلمنا بذلك أن تلك الخصوصيات لا مدخل لها في إثبات تلك الأحكام ولا قاطع في اللغات يدل على جريان القياس فيها ولأن سلمنا أنه يظن العلية فما يجعله العبد علة لا يفيد الحكم أينما وجد كقول القائل أعتقت غانما لسواده لا يطرد في عبيده السود فلعل الواضع هو العبد وقول الإمام هنا بينا أن اللغات توقيفية مدخول باختياره التوقف واحتجوا أيضا بعموم قوله فاعتبروا وأجاب صفي الدين الهندي بأنه يقتضي وجوب القياس في اللغات ولا قائل به إنما الاختلاف في الجواز وفيه نظر لأنه إذا ثبت الجواز وجاء تحريم الخمر مثلا لزم من يقول بالقياس في اللغة أن النبيذ داخل تحت هذا المسمى فيجب عليه أن يعممها بالحكم الواحد الوارد على لفظ الخمر وبذلك صرح الإمام بقوله يلزم أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما يثبت للخمر
قال "دون الأسباب والعادات كأقل الحيض وأكثره"
البحث الخامس القياس في الأسباب وفيه مذهبان أحدهما وهو الذي زعم الإمام أنه المشهور وجزم به صاحب الكتاب واختاره الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجري القياس فيها والثاني وبه قال أكثر الشافعية جريانه فيها مثاله قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد بجامع كونه إيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فجعل اللواط سببا وإن كان لا يسمى زنا واحتج الأولون بأن قياس الشيء على الشيء يقتضي أن يكون بينهما وصف مشترك وهو العلة فلو قسنا اللوط مثلا على الزنا فلا بد بينهما من وصف مشترك هو علة الموجبية والسببية وحينئذ يكون السبب ذلك المشترك لا ذلك الزنا على سبيل الخصوصية فلا يكون كل واحد من الزنا واللوط موجبا وسببا لأن الحكم

 

ج / 3 ص -35-         باستناده إلى المشترك بينهما استحال أن يكون معه مستندا إلى خصوصية كل واحد منهما
ومن شرط القياس بقاء حكم الأصل وهو زائل لأن المقيس عليه حينئذ يخرج أن يكون مقيسا عليه فإذن جريان القياس في الأسباب يقتضي أن لا يكون السبب الذي هو أصل سببا هذا خلف ولا ينتقض هذا بالقياس في الأحكام لأن الأصل فيه غير موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك بينه وبين الفرع لا ينافي كونه أصلا بخلاف السبب فإنه موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك لا يجامع الإضافة إلى السبب الذي هو الأصل على سبيل الخصوصية فإن قلت الجامع بين الموضعين لا يكون له تأثير في الحكم بل في علية الوصف وأما الحكم فإنما يحصل من الوصف قلت ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلة الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة وقد أجاب النقشواني عن هذا الاحتجاج بما تقريره أن يقال العلة الحقيقية هي الحكمة والحاجة كما هو مقرر في مكانه لكنها لما كانت غير مضبوطة وغير مقدرة في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة المؤثرة فصلاحية الوصف للضبط وتعريف العلة المؤثرة بهذا المعنى هي العلة في جعله علة وبهذا لا تصلح الحكمة لعلية الحكم من غير واسطة الحكم والوصف معا
ويظهر حينئذ قوة السؤال الذي أورده وضعف الجواب فيقال نقيس اللواط على الزنا ونقول إن الزنا إنما أوجب الحد للوصف المشترك بينهما فعندي الموجبة من الزنا إلى اللواط وذلك لأن الزنا إنما صار موجبا وعلة لكونه معرفا للحكمة الموجبة للحد وهي الحاجة المناسبة إلى شرعيته واللواط يشارك الزنى في هذا المعنى فيلزم من كون الزنا علة معرفة كون اللواط كذلك وقوله على هذا التقدير يكون الموجب للحد إنما هو المشترك قلنا ممنوع فإن هذا المشترك الذي ذكرنا يصلح أن يكون علة لعلية الوصف لكن لا يصلح أن يكون علة للحكم على ما وضح ولأن سلمنا أن ذلك المشترك يكون علة للحكم لكن لم لا يجوز أن يكون علة لعلية الوصف أيضا فإنها تكون علة مؤثرة للحكم وعلة مؤثرة لصيرورة الوصف علة معرفة ويكون الحكم مستندا

 

ج / 3 ص -36-         إلى ذلك المشترك استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استناد الشيء إلى المعرف له ولا يمتنع ذلك بل هو الواقع في سائر الأحكام فإن الحكم مستند إلى الحاجة استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استثناء الشيء إلى المعرف واعلم أن الحجاج في هذه المسألة طويل لا يحتمله هذا الشرح لا سيما وصاحب الكتاب أومى إلى الاختصار حيث اقتصر فيها على مجرد الدعوى والحق عندي جريان القياس فيها إن قلنا برجوع التشبيه إلى الأحكام الشرعية على ما تقدم ذلك في أوائل الكتاب فإنه حينئذ يشملها دلائل العمل بالقياس في الأحكام ثم إن اعترف الخصوم بمكان معرفة العلة وتعديتها ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمين يقول نجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا ذلك فإن قلت الأحكام مسلم في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يتيقن الأسباب علة مستقيمة تتعدى قلت الآن قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تفعل العلة أو لا تتعدى وهم قد ساعدونا على تجويز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف وهذا ذكره الغزالي فذكرناه هنا وأما إن لم نقل برجوع السببية إلى الأحكام فعندي توقف
البحث السادس القياس في الأمور العادية والخلقية كأقل الحيض وأكثر وكذا الحمل والنفاس فقال المصنف لا يجري فيه القياس ونقله الإمام عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والذي قاله الشيخ في شرح اللمع أن ما طريقة العادة إن كانت علته إمارة جاز إثباته بالقياس قال وذلك كالشعر هل يحل فيه الروح والحامل هل تحيض فإنا نستدل في مسألة الشعر والعظم بالنماء والاتصال ونقيس على سائر الأعضاء والخصم يقيس على أغصان الشجرة من حيث أنه لا يحس ولا يتألم وفي مسألة الحامل بأن الحمل لو منع دم الحيض لمنع دم الاستحاضة ألا ترى أن الصغر لما منع أحدهما منع الآخر فكذا الكبر والخصم يقول لو كان دم الحيض لانقضت به العدة وحرم الطلاق وإن لم يكن عليه أمارة كأقل الحيض وأكثره فلا يجوز إثباته بالقياس كما نقله

 

ج / 3 ص -37-         الإمام لأن أشباهها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق قال الشيخ أبو إسحاق ومن استدل في هذا بالقياس عالما به فقد كذب على دين الله وفسق بذلك