الإحكام في أصول الأحكام ط العاصمة الاحكام - ابن حزم ج 1
الاحكام
ابن حزم ج 1
(1/)
الاحكام في أصول الاحكام للحافظ ابى محمد
على بن حزم الاندلسي الظاهرى هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر
العين مثيله في علم الاصول أحمد شاكر الجزء الاول قوبلت على
نسخة أشرف على طبعها الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر زكريا على يوسف مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680
(1/1)
وعد..ووعد ظهرت الطبعة الاول من هذا الكتاب
القيم سنة 1345 ه بإشراف المر حوم الشيخ أحمد شاكر في ثمانية
أجزاء صغيرد حسب تجزئة المؤلف.
وقد وعدوا القراء بكتابة ترجمة وافية للمؤلف، وفهارس تحليلية
للكتاب، ولكت يبدو أن الظروف لم تساعد على إنجاز هذا الوعد.
أما هذه الطبعة فستكون إن شاء الله في مجلدين، كل مجلد 4 أجزاء
في غلاف واحد، وسنحاول بعون الله أن نقوم ببعض ما فات القراء
في الطبعة الاولى من الترجمة والفهرس التفصيلي، وما لا يدرك
كله لا يترك كله، وسيكون ذلك ختام الكتاب إن شاء الله
وقد نفدت الطبعة الاولى من سنين كثيرة، وارتفع ثمنها إلى عشرة
أمثال، ولما صح عزمنا على نشر بحشنا طويلا عن نسخة منها
للمفالة عليها عند الطبع، وساعدنا في البحث كثير من إخواننا،
فلم نعثر لها على أثر، ولما علم بذلك فضيلة الاستاذ الشيخ على
المحيمو على محفوظ تفضل علينا بنسخة الخاصة فشكر الله له
(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم كلمة الناشر مما
أحفظه عن السيد رشيد رضا رحمه الله أنه كان يقول: لو وفق الله
الطبع المغنى في الفقه أو المحلى لابن حزم على ما فيه من شدة
على الائمة فإنى أموت وأنا مطمئن على الفقه الاسلامي حفظت ذلك
عن صاحب المنار منذأ كثر من ثلاثين سنة، ومن يومها وأنا أقدر
ابن حزم وأحترمه وأحبه وأتمنى أن أنشر له بعض آثاره القيمة
التى تضئ للمسلم طريقه في دينه وديناه، وتجعله يسير بالنقد
والشدة - أحيانا - لمن سبقه من الفقهاء والائمة إذا وجدهم عد
علموا بأحاديث لم تصح عنده، أو عملوا بآراء تخالف ماصح عنده عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل مرد ذلك النقد وتلك الشدة إلى مال الحظه ابن حزم رحمه
الله من إقبال على التقليد لهؤلاء اللفقهاء والائمة، وإدبار عن
طب الهدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فأراد
رحمه الله أن يخفف الناس من هذا الاقبال، ومن هذا الادبار، وأن
يكسب للكتاب والسنة فريقا من الانصار يعلنون صوتهما إقامة لحجة
الله على خلقه.
ولا نتصور أبدا أن ابن حزم كان لا يحترم هؤلاء الائمة أو لا
يحبهم، أو
ينكر عليهم فضلهم في علماء الاسلام، فما من أحد من هؤلاء
الائمة إلا كان ينهى عن تقليده ويدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله لعيه وسلم.
وقد يكون مرد تلك الشدة في ابن حزم هو نشأته وبيئته وبيته
ومنصبه، فقد تولى هو الزارة كا تو لاها والده وهذا الجو له
تأثيره في النفس، الا ترى إلى موسى عليه السلام وقد تربى في
بيت فرعون - كيف كان شديد البطش قوى البأس، وهو من أنبياء الله
المرسلين ؟ وسيأتى تفصيل ذلك في ترجمة المؤلف في آخر الكتاب إن
شاء الله.
زكريا على يوسف
(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم قال الفقيه الامام
أبو محمد، على بن أحمد، رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله
الذى امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الة ممى بأن أرسل
إليهم مقدمة المؤلف قال الفقيه الامام أبو محمد، علي بن أحمد،
رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة
وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين
ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخص من شاء منهم
بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل
عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق
الحق، ووفق قوما في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما
قال عز وجل: من يشأ لله يضلله ومن يشأ يجعله على طراط مستقيم.
ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون دون * (والذين كذبوا بآياتنا صم
وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط
مستقيم) * و * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها
معرضون) * أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على
قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه،
لكن كما قال عز وجل: * (وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم
في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم
الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
أولئك هم الراشدون ئ فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) *
وكما قال تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، وقال تعالى
(وكذلك زينا لكل أمة عملهم) وكما قال النبيان الفاضلان صلى
الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم * (فلمآ رأى القمر
بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من
القوم الضالين) * ويقول يوسف * (قال رب السجن أحب إلي مما
يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)
* وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والانس بالدين
القيم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
وبعد: فإن الله عز وجل ركب في النفس الانسانية قوة مختلفة،
فمنها عدل يزين لها الانصاف، ويحبب إليها موافقة الحق.
قال تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * وقال
تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله
ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * ومنها غضب وشهوة
يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى: * (وإذا
قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)
* وقال تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير
فتنة وإلينا ترجعون) * فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه
الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه
وباله
(1/5)
في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب، وينير لها في ظلمات المشكلات
فترى به الصواب ظاهرا جليا.
ومنها جهل يطمس عليها الطرق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى
النفس في حيرة تتردد، وفي ريب تتلدد، ويهجم بها على أحد الطرق
المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو
إحجاما، أو إلفا وسوء اختيار، قال تعالى: * (ل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون) * وقال تعالى: * (انما يخشى الله من
عباده العلماء) *.
ومنها قوة التمييز التي سماها الاوائل المنطق، فجعل لها خالقها
بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل، وإلى معرفة الاشياء ما
هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص
من ظلمة الجهل، فيها تكون معرفة الحق من الباطل.
قال تعالى: فبشر عبادي الذين يستعمون القول فيتبعون أحسنه
أولئك الذين هدا هم الله وألئك هم أولوا الالباب ومنها قوة
العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل، وعلى إيثار ما
دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهار باللسان
وحركات الجسم فعلا، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس
الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق، وعلى رفض ما قاد
إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية،
فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك
وربما أهلك قال تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو
ألقى السمع وهو شهيد) *.
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل، وأما المضغة المسماة قلبا
فهي لكل أحد متذكر، وغير متذكر، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل
بقلبه صار كمن لا قلب له، قال تعالى، شاهدا لما قلنا: * (أفلم
يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال بعض السلف
الصالح: ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من
أطاع الله عز وجل.
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية، لان طاعة الله عز
وجل، هي جماع
(1/6)
الفضائل واجتناب الرذائل، وهي السيرة
الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم، لا إله إلا
هو، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به، أو حض عليه،
ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه، وأما
الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه
فيها، من علو صوت، أو عرض
جاه، أو نمو مال، أو نيل لذة من طاعة أو معصية، فليس ذلك عقلا،
بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار، وقائد إلى الهلاك في
دار الخلود.
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور، وقد علمنا أن تارك
الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز
وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم، فهو يشهد
أن اختيار الشئ القليل في عدده، الضعيف في منفعته، المشوب
بالآلام والمكاره، الفاني بسرعة، على الكثير في عدده العظيم في
منفعته، الخالص من الكدر والمضار، الخالد أبدا، حمق شديد وعدم
للعقل البتة.
ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق،
واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار، ونواوير وأزهار، وخدم
وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر، ومال عريض، إلا أن في طريقه إلى ذلك
مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها، وبين أن يمشي
ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة، وفي خلالها مهالك ومخاوف
وظلال طيبة، وفي أثنائها أهوال ومتالف، ثم يفضي عند تمام ذلك
اليوم إلى دار ضيقة، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال،
فيسكنها مائة عام، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج
بشوائب البلاء، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره
ذا آفة شديدة في تمييزه، وفاسد العقل جدا، ظاهر الحمق ردئ
الاختيار، مذموما مدحورا ملوما.
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه.
فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا.
اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه، متحيرا في مصيره، فتلك أسوأ
بل هي التي لا شوى لها، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق
والعصمة بمنه آمين.
(1/7)
وكل ما قلنا فلم نقله جزافا، بل لم نقل
كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى
شاهدا بصحته، وميزه العقل، عالما بحقيقته، والحمد لله رب
العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الامم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى
قومهم خاصة، فمؤمن وكافر، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار، وعبده المنتخب من جميع ولد
آدم، محمدا (ص) الهاشمي المكي، إلى جميع خلقه من الجن والانس،
فنسخ بملته جميع الملل، وختم به الرسل، وخصه بهذه الكرامة
وسوده على جميع أنبيائه، واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا
نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا.
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار، ولكنها دار ابتلاء
واختبار ومجاز إلى دار الخلود، وصح بذلك أنه لا فائدة في
الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه
أهل الجهل والعمل بموجب ذلك، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه
الناس من بعد الصوت، غرور، وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة
من غرض خسيس، خطأ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور،
والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله (ص)، وإحياء سنن الحق،
وإماتة طوالع الجور.
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة
متغيرة عما قليل، وأصوات مستحسنة، متقضية بهبوب الرياح، ومشام
مستطرفة، منحلة بعيد ساعات، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب
مدة أقبح استحالة، وملابس معجبة، متبدلة في أيسر زمان تبدلا
موحشا، باطلا.
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما
قريب فضول، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق، وأنفق في وجوه البر
الموصلة إلى الفوز في دار البقاء، كان أفضل ما عاناه المرء
العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه، وإنقاذهم من حيرة الشك
وظلمة الباطل، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور
(1/8)
اليقين.
فقد أخبر رسول الله (ص) أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير
له من حمر النعم.
وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الاسلام، كان له مثل
أجر كل عمل بها، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا.
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي
هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة: فمن
أوكدها وأحسنها مغبة، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي
ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله (ص)، وشرح الجمل
التي تجمع أصناف أحكامه، والعبارات الواردة فيه، فإن بمعرفة
العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط
فيها ألوف من الناس.
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد، وإثم الخطأ.
ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد.
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل
بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير، وامتن عليه بتزايد
الاجر، وهو في التراب رميم.
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب
التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع
البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب، وخلصناها
مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا
إشكال فيه، ورجونا بذلك الاجر من الله عز وجل، فكان ذلك الكتاب
أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل، وكتبنا أيضا كتابنا
المرسوم بالفصل، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل
والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب.
ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شئ من ذلك مساغا،
والحمد لله كثيرا.
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز
وجل منا فيما كلفناه من العبادات، والحكم بين الناس بالبراهين
التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا.
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا، موعبا للحكم فيما
اختلف فيه الناس من أصول الاحكام في الديانة مستوفى، مستقصى،
محذوف
(1/9)
الفضول، محكم الفصول، راجين أن ينفعنا الله
عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات، وأن
ينفع به تعالى من يشاء من خلقه، فيضرب لنا في ذلك بقسط، ويتفضل
علينا منه بحظ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو
القادر على كل شئ: لا إله إلا هو.
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى
التوفيق: إنه لما صح أن العالم مخلوق، وأن له خالقا لم يزل عز
وجل، وصح أنه ابتعث رسوله محمدا (ص) إلى جميع الناس، ليتخلص من
أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لاوليائه
عز وجل، وليكب من عصاه في النار الحامية، وصح أنه ألزمنا على
لسان نبيه (ص) شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك
الشرائع، يوصل إلى الفوز، وينجي من الهلاك، وصح أنه أودع تلك
الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله (ص) بتبليغه إلينا،
وسماه قرآنا، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله (ص) وسماه وحيا
غير قرآن، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام، لزمنا
تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب،
ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود، ووجدناه تعالى قد
ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل: * (وما كان المؤمنون
لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل، فوجدناه قد
قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه
عهوده إلينا اللازمة لنا: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى
الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم
الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه
الاحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل، لا يشذ عنها شئ من
ذلك، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته
وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام
(1/10)
وطاعة أولي الامر، ومن هم أولو الامر،
وبيان التنازع الواقع منا، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا،
وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام،
وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * فأيقنا أن الدين قد كمل
وتناهى، وكل ما كمل فليس لاحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا
أن يبدله.
فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز
وجل، ثم على لسان رسول الله (ص) فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا
عز وجل ونهيه وإباحته، لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد
غيره.
وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى،
ثم على ألسنة أولي الامر منا، فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد
جيل ما أتى به رسول الله (ص) عن الله تعالى، وليس لهم أن
يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا، لكن عن النبي عليه السلام،
هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل، وليس من الدين، إذ
ما لم يكن من عند الله تعالى، فليس من دين الله أصلا، وما لم
يبينه رسول الله (ص)،
فليس من الدين أصلا، وما لم يبلغه إلينا أولو الامر منا عن
رسول الله (ص) فليس من الدين أصلا.
فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب، بأن ترك
ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية، أو عامدا لها، أو أدخل
فيه ما ليس منه كذلك، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة
عن هذين الوجهين: إما ترك، وإما زيادة، ولخصنا الحق تلخيصا لا
يشكل على نصح نفسه.
وقصد الله عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل
عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم
إلى من طلبه، ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك، وبالله تعالى
نتأيد.
(1/11)
باب ترتيب الابواب، وهو الباب الثاني - إذ
الباب الاول في صدر هذا الكتاب، وذكر الغرض فيه وهو الذي تم
قبل هذا الابتداء.
الباب الثاني: هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب
الباب الثالث: في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة،
وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع
الاشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس: في الالفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس: هل الاشياء في العقل على الحظر أو الاباحة.
أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز
وجل.
الباب السابع: في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على
النافي
دليل أو لا.
الباب الثامن: في معنى البيان.
الباب التاسع: في تأخير البيان.
الباب العاشر: في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر: في الاخبار التي هي السنن - وفي بعض فصول
هذا الباب - سبب الاختلاف الواقع بين الائمة.
الباب الثاني عشر: في الاوامر والنواهي الواردة في القرآن
والسنة والاخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور.
أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر: في حملها على العموم أو الخصوص.
الباب الرابع عشر: في أقل الجمع الوارد فيها.
الباب الخامس عشر: في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر: في الكتابة بالضمير.
الباب السابع عشر: في الكتابة بالاشارة.
الباب الثامن عشر: في المجاز والتشبيه.
(1/12)
الباب التاسع عشر: في أفعال رسول الله (ص)
وفي الشئ يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الامر به أو النهي عنه.
الباب الموفي عشرين: في النسخ.
الباب الحادي والعشرون: في المتشابه من القرآن والمحكم، والفرق
بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون: في الاجماع.
الباب الثالث والعشرون: في استصحاب الحال وبطلان العقود
والشروط
إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل
الاجماعي.
الباب الرابع والعشرون: في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع
الدليل الاجماعي.
الباب الخامس والعشرون: في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون: في أن الحق في واحد وسائر الاقوال كلها
خطأ.
الباب السابع والعشرون: في الشذوذ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال
التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون: في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف
بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون: في الدليل النظري والفرق بينه وبين
القياس.
الباب الموفي ثلاثين: في لزوم الشريعة الاسلامية لكل مؤمن
وكافر ووقت لزوم الشرائع للانسان.
الباب الحادي والثلاثون: في صفة طلب الفقه، وصفة المفتي، وصفة
الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون: في وجوب النيات في الاعمال والفرق بين
الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود
بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث
لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون: في شرائع الانبياء قبل نبينا (ص)
أتلزمنا أم لا.
(1/13)
الباب الرابع والثلاثون: في الاحتياط وقطع
الذرائع.
الباب الخامس والثلاثون: في إبطال الاستحسان والاستنباط
والرأي.
الباب السادس والثلاثون: في إبطال التقليد.
الباب السابع والثلاثون: في دليل الخطاب.
الباب الثامن والثلاثون: في إبطال القياس.
الباب التاسع والثلاثون: في إبطال العلل التي يدعيها أهل
القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على
الحقيقة والكلام في الاسباب والاغراض والمعاني والعلامات
والامارات.
الباب الموفي أربعين: في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور
باجتهاده ومن ليس معذورا به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله
عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطئ عند
الله عز وجل وإن خالفناه.
الباب الثالث في إثبات حجج العقول قال أبو محمد: قال قوم: لا
يعلم شئ إلا بالالهام، وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بقول
الامام، وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين
عاما معدوم المكان، متلف العين، ضالة من الضوال.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالخبر.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالتقليد، واحتجوا في إبطال حجة
العقل بأن قالوا: قد يرى الانسان يعتقد بشئ ويجادل عنه، ولا
يشك في أنه حق.
ثم يلوح له غير ذلك، فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت
أدلتها.
قال أبو محمد: هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجج
العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لاننا
لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه، ولا قلنا: إن كل
ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق.
(1/14)
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول.
لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان
الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه
غاية الاحكام في كتاب التقريب.
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا
على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد
نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها
وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما
ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الايضاح.
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد
استدلالية فاسدا، إما الاول، وإما الثاني، وقد يكونان معا
فاسدين، فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد.
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب
صحيح.
لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة.
لان الشئ لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد.
وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من
قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم
ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو
لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا
تعلمها.
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة، فكان الطريق
المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا
كثير الشعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الامر وكثرة
العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما
يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا
يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها
فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل
خاطره بشئ وقف على اليقين بلا شك.
(1/15)
هذا شئ يوجد حسا كما ترى، وقد يدخل أيضا
على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصا، فربما ظنه زيدا وكابر
عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا
يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق،
وقد يعرض ذلك الشئ، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء
كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد
ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة،
فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شئ من ذلك بموجب بطلان صحة
إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته
الحواس، ولولاه لم نعلم أصلا، كما أن حواس المجنون المطب
والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد
يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل
إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي
رقيع، يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور
ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الانفس
لسنا نقصد بكلامنا الالسنة.
ولا علينا قصر الالسنة بالحجة إلى الاذعان بالحق، وإنما علينا
قسر الانفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن
ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم
الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا
محققا، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل،
بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين.
وقد أحكمنا هذا غاية الاحكام والحمد لله رب العالمين، في باب
أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته
(باب الكلام على من قال بتكافؤ الادلة).
وقد سألوا أيضا فقالوا: بأي شئ عرفتم صحة حجة العقل ؟ أبحجة
عقل أم بغير ذلك ؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك
نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد، وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها، والجواب على ذلك
وبالله تعالى
(1/16)
چالتوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه
بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا، وبين
معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل
أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشئ لا
يكون قائما قاعدا في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير
وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول
أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان، فلا وقت
للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله
عز وجل في النفوس فقط.
ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل.
ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما
سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، فإن كلامنا في هذا
الديوان إنما هو مع أهل ملتنا.
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال
في كتابنا الموسوم بالفصل، وكتابنا الموسوم بالتقريب، وتقصينا
هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى، وليس كتابنا هذا مكان
الكلام مع هؤلاء.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بإلهام: ما الفرق بينك وبين من
ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه.
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما
يدركه ببديهة العقل، وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من
في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل
العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء، وأن المدعين للالهام، ولادراك
ما يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل
واحد منهم، إلهاما أو إدراكا، فصح بلا شك أنهم كذبة.
وأن الذي بهم وسواس.
وأيضا فإن الالهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أعطي كل امرئ
بدعواه المعراة لما ثبت حق، ولا بطل باطل،
ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة
أحد أبدا، لانه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان
حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجه مباح لي وطؤها، وهذا لا
ينفك منه، وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا،
وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا، فلا بد من حاكم
(1/17)
يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا
العقل الذي لا تتعارض دلائله.
وقد بينا ذلك في كتاب التقريب.
وقال أبو محمد: ويقال لمن قال بالامام: بأي شئ عرفت صحة قول
الامام، أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام ؟ أم بقوله مجردا ؟.
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به، ولا سبيل له إليه، وإن قال
بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم
موضعه منذ مائة وسبعين عاما، وإن قالوا بالالهام سئلوا بما
ذكرنا في إبطال الالهام، وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق
بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل، ولا سبيل إلى
وجه خامس أصلا.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من
قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفر من قلدته أنت أو جهله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في
طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد
بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله
التوفيق.
قال أبو محمد علي: ويقال لمن قال لا يدرك شئ إلا من طريق
الخبر، أخبرنا الخبر كله حق ؟ أم كله باطل ؟ أم منه حق وباطل ؟
فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شئ إلا
به، وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله،
عورض بأخبار مبطلة لمذهبه، فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد
الشئ وضده في وقت واحد، وذلك ما لا سبيل إليه، وكل مذهب أدى
إلى المحال وإلى
الباطل فهو باطل ضرورة، فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا،
فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين
صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس
ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل.
قال أبو محمد علي: ثم يقال لجميعهم: بأي شئ عرفتم صحة ما تدعون
إليه، وصحة
(1/18)
التوحيد والنبوة، ودينك الذي أنت عليه،
أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل ؟ وبأي شئ عرفت فضل من
قلدت، أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه
ولا مقلدا له برهة من دهرك ؟ وبأي شئ عرفت صحة ما بلغك من
الاخبار بعد أن لم تكن بلغتك ؟ وهل لك من عقل أم لا عقل لك ؟
فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته،
وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه، فإننا إنما رغبنا منه
الاعتراف بالخطأ، فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط
الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنا في نصاب من يكلم
السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق.
فإن قال: لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك
مذهبه الفاسد ضرورة.
قال أبو محمد: واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها
وهي قوله تعالى * (لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه
المصير) * والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم
داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *.
قال أبو محمد: وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم، وهو قوله
تعالى: فيمن يحاج بعد ظهور الحق، وهذه صفة المعاند للحق، الآبي
من قبول الحجة بعد ظهورها، وهذا مذموم عند كل ذي عقل.
ومنها قوله تعالى: * (وقالوا أآلهتنا خير
أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) *.
قال أبو محمد: وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في
الباطل، وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل
بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات، من إحياء الموتى وغير
ذلك.
ومنها قوله تعالى: * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من
محيص) *، ومنها قوله تعالى: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله
ومن اتبعني قال أبو محمد قال تعالى: * ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق
الانسان ضعيفا) * فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض
ولا يختلف، فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به،
فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا
شك، فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم، ووجه
(1/19)
الجدال المأمور به المحمود، لانا قد وجدناه
تعالى قد قال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال
إنني من المسلمين) * ووجدناه تعالى قد قال: * (ادع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * فكان تعالى قد
أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال
كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته
الحجة القاطعة.
وقال تعالى: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما
أتبعه إن كنتم صادقين ئ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون
أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا
يهدي القوم الظالمين) *.
ولم يأمر الله عز وجل رسوله (ص) أن يقول هذا شكا في صدق ما
يدعو إليه، ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم، مثل
ما التزم لهم من رجوعه إلى الاهدى واتباعه الامر الاصوب،
وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول
خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس
صادقا وإنما هو متبع لهواه.
وقال تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني
له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا
أتقولون على الله ما لا تعلمون ئ قل إن الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون) *.
قال أبو محمد: ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا
بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة،
وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل،
وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا
تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها
حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الانصاف
الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر
وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا
فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا
بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا، لاننا ولله الحمد أهل
التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد
الادلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد
على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم
يترددون.
(1/20)
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن
فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما
نحن عليه.
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الاحاديث والآي في ظاهر اللفظ،
ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت
فيها أحاديث لم تثبت عندنا، ولعلها ثابتة في نقلها، فإن بلغنا
ثباتها صرنا إلى القول بها، إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا
والحمد لله رب العالمين.
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى: *
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا
منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم
واحد ونحن له مسلمون) * فأمر عز وجل كما ترى
بإيجاب المناظرة في رفق، وبالانصاف في الجدال، وترك التعسف
والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشئ من ذلك، فيعارض حينئذ
بما ينبغي.
وقال تعالى: * (فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * والسلطان
الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في
ربه) فذكر عز وجل تقرير ابراهيم عليه السلام قومه على نقله
الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله، وأن ذلك
لدليل على خلقها، وبرهان على حدوثها فقال عز وجل: * (وتلك
حجتنا آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك
حكيم عليم) *.
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام،
وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة، فمرة للملك
ومرة لقومه، والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه، ففرض علينا
اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب
بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.
قال الله عز وجل: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) * فنحن المتبعون
لابراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة، فنحن أولى الناس
به، وسائر الناس مأمورون بذلك.
قال الله تعالى: * (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما
كان من المشركين) * ومن ملته المناظرة كما ذكرنا، فمن نهى عن
المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز وجل ومخالف لملة
إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما.
قال الله عز وجل، وقد أثنى على أصحاب
(1/21)
الكهف: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم
فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلو بهم إذا قاموا
فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إليها لقد قلنا
أذا شططا.
هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بساهان بين،
فمن أظلم ممن افترى * فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول
قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينه وصدقهم تعالى في
قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل
الكذب.
وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات
ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) * فلا أظلم ممن
قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى، ومن كلام نبيه (ص) فأعرض
عنه، وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى: *
(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن
عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقال تعالى: * (بل
اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما
لهم من ناصرين) * فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه
بلا علم بصحته فهو ظالم، وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق
فهو من أهل النار، وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم
أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * أنكر الله تعالى أن يكذب
المرء بما لا يعلم.
فقال تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم
تأويله فصح بكل ماذ كرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما
أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه قال أبو محمد: في هذه
الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة، وألا
يأتي ما قامت عليه الحجة، فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ
بوسواس يقوم في نفسه، أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان،
أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن، وعلى
كل حال فهو معصوم لكن يخطئ ويصيب.
وقال تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فأوجب تعالى أن
من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت
بالبرهان فهو كاذب مبطل، أو جاهل.
وقال تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون
فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فلم يوجب
تعالى المحاجة إلا بعلم، ومنع منها بغير علم.
وقال تعالى: * (فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا)
(1/22)
قال أبو محمد: فلما وجدنا الله تعالى قد
أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شئ
إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم
على ما قدمناه فوجدناه قد قال: * (وما نرسل المرسلين إلا
مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق
فذم تعالى الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون
ملقن حجة، وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن
المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق.
وقال تعالى: * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم
كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب
متكبر جبار) *.
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود
الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم
وجهان بنص الآيات التي ذكرنا: أحدهما من جادل بغير علم والثاني
من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا
بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شئ إلا ما قامت عليه حجة العقل،
وهؤلاء المذمومون الذين قال الله تعالى فيهم: * (ألم تر إلى
الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * وقوله تعالى: * (ومن
الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * وقوله
تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا
كتاب منير ئ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي
ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * وبقوله تعالى: * (ما يجادل
في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ئ
كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم
ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان
عقاب) * فبين تعالى كما ترى أن الجدال ا لمحرم هو الجدال الذي
يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد: ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب
البرهان أن فرعون قال: * (مآ أريكم إلا مآ أرى وما أهديكم إلا
سبيل الرشاد) * * (وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل
الرشاد) *، فبأي شئ يعرف المحق منهما من
المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها ؟.
(1/23)
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارئ قد
نصصناه في اتباع البرهان، وتكذيب قول من لا حجة في يديه، وهو
الذي لا يسع مسلما خلافه.
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره، فيقال له: أترى رسول
الله (ص) كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل
الكفر، وأمره بطلب البرهان، وإقامة الحجة على كل من خالفه، ولا
قول من قال: أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن
عليه، أو كلاما هذا معناه.
قال أبو محمد: وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر
الارض، فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة
لحجة ظاهرة واردة عليه، ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما
وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان، وألا يقبلا برهان الاسلام
الواردة عليهما وحجته القاطعة.
قال الله عز وجل ألا لعنة الله على الظلالمين الذين يصدوق عن
سبيل الله ويبغونها عوجا.
قال أبو محمد: فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر
بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل، بالنص
الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه، فهو صاد عن سبيل الله
تعالى، ظالم ملعون بلا تأويل إلا الا عين النص الوارد من قبل
الله تعالى وبالله نعتصم.
وقال تعالى: * (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو
نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح.
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة
الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب
أبدا، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي،
والاعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير
لهم، إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد (ص) عندهم،
فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين.
وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدا (ص) أن يدعو له الناس
بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق، أطلق
الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة
فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
وقال تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لان السيف مرة لنا ومرة
علينا، وليس كذلك
(1/24)
البرهان، بل هو لنا أبدا، ودامغ لقول
مخالفينا، ومزهق له أبدا.
ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته، منها يوم
الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، ويوم قتل الحسين وابن
الزبير رضي الله عنهم، ولعن قتلتهم، وقد قتل أنبياء كثير وما
غلبت حجتهم قط.
قال أبو محمد: وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله
تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما
تزداد وكل شئ عنده بمقدار) *.
وقوله تعالى: * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما
لديهم وأحصى كل شئ عددا) * وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله
تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب
العرش عما يصفون) * وعلى النصارى وعلى جميع الملل، وقد بينا
ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا
الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان
بغاية الايجاز والاختصار.
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله (ص)، كما اخبرنا عبد الله
بن الربيع قال: أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن
الاعرابي، أنبأنا أبو داود، أبو موسى بن إسماعيل، ثنا حماد هو
ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص):
جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
قال أبو محمد: وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الامر بالمناظرة
وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله.
قال أبو محمد: وقد علمنا رسول الله (ص) وضع السؤال موضعه
وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله
عليهما وسلم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح،
عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن
مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما،
واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، هو ابن
دينار، عن طاوس قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص):
احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من
الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك
بيده، أتلومني على أمر قدر الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة.
فحج آدم موسى.
(1/25)
قال أبو محمد: فموسى (ص) وضع الملامة في
غير موضعها، فصار محجوجا، وذلك لانه لام آدم (ص) على أمر لم
يفعله، وهو خروج الناس من الجنة، وإنما هو فعل الله عز وجل،
ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا
للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما
يفعله لا على ما تولد من فعله، ولا مما فعله غيره.
والكافر إنما يلام على الفعل، لا على دخول النار، والقاتل إنما
يلام على فعله، لاعلى موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه.
فعلمنا رسول الله (ص) في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند
المحاجة، وبين لنا (ص) أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع
السؤال كان محجوجا، وظهر بذلك قول الله عز وجل: * (كمآ أرسلنا
فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب
والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *.
والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن
مواضعه، ويطلب فيه ما ليس فيه، وليس هذا الحديث من باب إثبات
القدر في شئ، وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر.
قال أبو محمد: وقد تحاج المهاجرون والانصار وسائر الصحابة
رضوان الله عليهم، وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله
عنه، وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق.
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم.
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال.
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج، ويتكلف فساد المناظرة
بالمناظرة، لانه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل، لان حجته هي
بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها.
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف، أو معاند سخيف.
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره.
وإزهاق الباطل وتبينه.
فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد.
وهو من أهل الباطل حقا.
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام: أبغض
الرجال إلى الله الالد الخصم أو كما قال (ص).
فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من
الالهام
(1/26)
والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته
بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه، إلا بدليل
من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن
العقل إنما هو مميز بين صفات الاشياء الموجودات، وموقف للمستدل
به على حقائق كيفيات الامور الكائنات، وتمييز المحال منها.
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللا
موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع
أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من
أبطل موجب العقل جملة.
وهما طرفان
أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم
العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا
فرق.
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا،
إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة.
والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم
يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا
محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت
قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكا عظيما، وأتوا بما
تقشعر منه جلود أهل العقول.
وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الاشياء المدركة
بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي
عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة
نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار
على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في
العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك
فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا، أو
يكون التيس حراما أو حلالا، أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة
المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن
يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج
خمسا، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة
وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء
المقتول.
أو أن يكون الانسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو
أربع، أو أن تخص
(1/27)
صورة الانسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو
أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا، وكذلك سائر
رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل
فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن
الله تعالى لاوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على
تعديه، والاقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم
ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضا
علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة
كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى
التوفيق، وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق.
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح قال
أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف
من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري.
فأما السمع فقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم
عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين)
*.
وأما الضروري بالبرهان: فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز
أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم، وتدربت عقولهم، وتمت
علومهم، ووقفوا على الاشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا
حدودها واتفاقها، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين
أول وجود الانسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي
في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره.
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته.
ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام
يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم
من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد
والسباع، ويعاني به الامراض، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون
بها ما يعانونه من ذلك.
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم
والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله،
لانه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون
له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم
عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.
(1/28)
قال علي: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة
حدوث النوع الانساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الاول تبارك
وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لانه لا سبيل إلى بقاء
أحد من الناس ووجوده دون كلام، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف
فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك، وكل فعل فعله فله زمان ابتدئ
فيه، لان الفعل حركة تعدها المدد، فصح أن لهذا التأليف أولا،
والانسان لا يوجد دونه.
وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثا
بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق
تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة
معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال علي: وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا
بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها.
وذلك الاتفاق على فهم تلك الاشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة
ومعرفة حدود الاشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا
يكون إلا بكلام وتفهيم.
لابد من ذلك.
فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.
ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.
قال علي: وهذا يبطل ببرهان ضروري.
وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة،
وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى.
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الاماكن
أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال علي: وهذا محال ممتنع، لانه لو كانت اللغات على ما توجبه
طبائع الامكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها
طبعه.
وهذا يرى بالعيان بطلانه لان كل مكان في الاغلب قد دخلت فيه
لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.
فبطل ما قالوا: وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء
ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.
ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له
من أحد هذين الوجهين.
فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.
(1/29)
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث
لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية
الاشياء وكيفياتها وحدودها، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم
عليه السلام عليها أولا، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات
كلها، وأبينها عبارة، وأقلها إشكالا، وأشدها اختصارا وأكثرها
وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في
العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء
كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم
صادقين) * فهذا التأكيد يرفع الاشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.
وقد قال قوم: هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم:
هي العبرانية.
وقال قوم هي العربية.
والله أعلم.
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية
والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير، لغة واحدة تبدلت
بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الاندلسي، وإذا
رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الاندلسي،
ومن الخراساني إذا رام نغمتها.
ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من
قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل
قرطبة.
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى
تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الالفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو
في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.
فنجدهم يقولون في العنب: العينب وفي السوط أسطوط.
وفي ثلاثة دنانير ثلثدا.
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة.
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا
أراد أن يقول محمدا.
ومثل هذا كثير.
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما
إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الازمان
واختلاف البلدان ومجاورة الامم.
وأنها لغة واحدة في الاصل.
وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا،
والمستفيض أن
(1/30)
أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه
السلام فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده.
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا
وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم: إن اليونانية أبسط اللغات.
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها.
ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو
بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الامة
وعلومها وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم وأخبارها قوة دولتها،
ونشاط أهلها وفراغهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل
وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا
لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم، هذا موجود
بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة.
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الاعوام في أقل منها
ينسى جميع اللغة.
فكيف تفلت أكثرها، والله تعالى اعلم.
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا،
ولا ندري لعل قائلا يقول: لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت
بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها، وهذا
هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا، وقد يمكن
أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي
ينطق بها الناس كلهم الآن.
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الاسماء على المسميات ثم
صارت لغات كثيرة، إذ توزعها بنوه بعد ذلك، وهذا هو الاظهر
عندنا والاقرب، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا
بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها، ولكن هذا هو الاغلب
عندنا، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق
بها، وإنما ظننا هذا لاننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة
يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى، وعظيم التعب في
ذلك لغير معنى، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من
الوجوه، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيئ الاختيار، مشتغل بما
لا فائدة فيه عما يعينه، وعما هو آكد عليه من أمور معاده،
ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة.
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي
عمل لهم،
(1/31)
ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول:
إنه ممكن بعيد جدا، فإن قالوا: لعل ملكا كانت في مملكته لغات
شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم، قلنا لهم: هذا ضد وضع
اللغات الكثيرة، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة، ثم نقول: وما
الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة
الثقيلة التي لا تفيد شيئا ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة
ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه
فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز
وجل.
وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.
وهذا لا معنى له لان وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو
اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد
قال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم
فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) * وقال
تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *.
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه
عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة
اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح
الكلاب أو نقيق الضفادع.
قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها،
فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لانه بها كلام الله تعالى.
قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم
يرسل رسولا إلا بلسان قومه.
وقال تعالى: * (إني إذا لفي ضلال مبين) * وقال تعالى: * (وإنه
لفي زبر الاولين) * فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه.
وقد أنزل التوراة والانجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام
بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية،
فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا.
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في
النص والاجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك، إلا أنه لا بد لهم من
لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها:
إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات
(1/32)
القائمة بيننا الآن، وإما أن تكون لهم لغة
غير جميع هذا اللغات، وإما أن تكون لهم لغات شتى: لكن هذه
المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنه يتفاهمون بلغة
إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله
تعالى أعلم به.
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم، واحتج بقول الله عز
وجل: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر
دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * فقلت له: فقل إنها لغة أهل
النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (وما لنآ ألا نتوكل على
الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله
فليتوكل المتوكلون) * ولانهم قالوا: * (ونادى أصحاب النار
أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا
إن الله حرمهما على الكافرين) * ولانهم قالوا: * (وقالوا لو
كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * فقال لي: نعم،
فقلت له: فاقض أن موسى وجميع الانبياء عليهم السلام كانت لغتهم
العربية، لان كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية، فإن قلت
هذا كذبت ربك، وكذبك ربك في قوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو
العزيز الحكيم) * فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام
كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم، ليبين لنا عز وجل
فقط، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح، ولا حسن في
بعضها دون بعض، وهي تلك بأعيانها في كل لغة، فبطلت هذه الدعاوى
الزائغة الهجينة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أدى هذا الوسواس العامي، اليهود إلى أن استجازوا الكذب
والحلف على الباطل بغير العبرانية، وادعوا أن الملائكة الذين
يرفعون الاعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم
غيرها، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر
عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
(1/33)
الباب الخامس في الالفاظ الدائرة بين أهل
النظر قال أبو محمد: هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه،
وشبك بين
المعاني وأوقع الاسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق
والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة وخفيت
الحقائق، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل
لفظة على حقيقتها، فنقول وبالله تعالى نتأيد: الحد: هو لفظ
وجيز يدل على طبيعة الشئ المخبر عنه كقولك: الجسم هو كل طويل
عريض عميق، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت
عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما، فكانت هذه العبارة
مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم.
والرسم: هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبئ
عن طبيعته كقولك: الانسان هو الضحاك، فإنك ميزت الانسان بهذا
اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه، إلا أنك لم تخبر بطبيعته لانك لو
توهمت الضحك مرتفعا عن الانسان لم تبطل بذلك عنه الانسانية
ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت
سائر طبائعه بحسبها.
قال أبو محمد علي: ولما كان هذان المعنيان متغايرين، كل واحد
منهما غير صاحبه، وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة
غير عبارتنا عن الآخر، ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد
أوقعنا من يقبل منا في الاشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير
ناصحين لهم، وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء، إذ
يقول الله تعالى على لسان نبيه (ص): ليبينه للناس ولا يكتمونه،
ومن لبس الحقائق فقد كتمها.
والعلم: هو تيقن الشئ على ما هو عليه، إما عن برهان ضروري موصل
إلى تيقنه كذلك، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل، وإما حادث عن
أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى
أول العمل أو الحس، إما من
(1/34)
قرب وإما من بعد، وإما عن اتباع لمن أمر
الله تعالى باتباعه، فوافق فيه الحق، وإن لم يكن عن ضرورة ولا
عن استدلال، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق
واعتقاده، وأن رسول الله (ص) دعا الناس كلهم إلى الايمان بالله
تعالى، وبما جاء به والنطق بذلك، ولم يشترط عليه السلام عليهم
ان ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال، بل قنع بهذا من العالم
والجاهل، والحر والعبد، والمسبي والمستعرب، واجتمعت الامة على
ذلك بعده عليه إلى اليوم.
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه، ولم يشترط عليهم استدلالا في
ذلك، فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو
عالم بذلك بيقين عارف به، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول
عليه بذلك، ولحرم عليه اعتقاده لان الله تعالى يقول: * (ولا
تقف ما ليس لك به علم * وقال تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما
لا تعلمون) * فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به، ومنهي
عن القول بما لا يعلم، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في
الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن
استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم
لنا به، وعن قفو ما لا نعلم، كان مدعيا بلا دليل، ومبطلا في
قوله لانه يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * إلا في الايمان، فاقف فيه
ما لا علم لك به، وهذا كذب على الله تعالى مجرد.
فإن قال قائل: فإن الله يقول: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من
كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين) * قلنا: نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل، ولا
برهان لصاحب الباطل، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم، سواء
علمه المعتقد له أو جهله، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لادحاض
باطلهم، ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا، لانه لا يخلو مكلفه
البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا، فإن كان محقا مثله فهو
معنت له، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في
الحق، قال
تعالى: * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * وقال تعالى: *
(وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) *
فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل
معارضة، لان من فعل ذلك يكون معارضا للحق، ومعارضته الحق
بالباطل لا تجوز، قال تعالى ذاما لقوم: * (كذبت قبلهم قوم نوح
والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا
بالباطل ليدحضوا به الحق
(1/35)
فأخذتهم فكيف كان عقاب) وقد تحذلق قوم
فأداهم ذلك إلى الهلكة، فقالوا: الحدود لا تختلف في قديم ولا
محدث، وهذا كلام موجب الكفر، لانهم يوقعون بذلك الباري تعالى
تحت الحدوث، لان كل محدود متناه ومركب، وكل مركب فمخلوق، لانه
مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه، فقد جعلوا
ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك وقالوا: حد العلم أنه صفة لا
يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل.
قال علي: وهذا حد فاسد لان النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء
الشمع ووضع العسل، ولا تسمى عالمة، وقد يعرض للعالم الناقد خدر
يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه
وعقله باقيان.
وقالت طائفة منهم: حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين
بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله.
قال علي: وكلا الحدين فاسد، ونحن نسألهم: أهذه الصفة التي
ذكرتم ؟ أهي والموصوف بها شئ واحد ؟ أم هي والموصوف بها شيئان
متغايران ؟ فإن قالوا شئ واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى،
ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط، وأيضا فإن كون الصفة
والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لان الصفات تتعاقب
على الموصوفات فتفتي، والموصوف باق بحسبه، ولا شك في أن
الفاني غير الباقي، والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى
على معنى أنه صفة كصفاتنا، ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن
له علما فقط، إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس
عرضا، ونحن لم نسم الباري تعالى عالما، وإنما قلنا: إنه عليم
كما قال تعالى.
فإن قالوا: فأي فرق بين عالم وعليم.
قيل لهم: وأي فرق بين الجبار والمتجبر، فسموا ربكم متجبرا، وأي
فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين، وأن له مكرا، ولا نسميه
ماكرا، وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا
نسميه الفرد ولا الفذ.
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة
أصلا
(1/36)
وبالله التوفيق.
فإن قالوا: إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا
بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم.
والاعتقاد: هو استقرار حكم بشئ ما في النفس.
إما عن برهان، أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا
ولابد، وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو
باطلا، وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت
وإما باطلا بسوء الجد.
والبرهان: كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشئ.
والدليل: قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى، وعبارة
يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده، فذلك اللفظ
الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال
دليلا أيضا.
والحجة: هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا.
والدال: هو المعرف بحقيقة الشئ وقد يكون إنسانا معلما، وقد
يعبر به
عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم، وقد يسمى الدليل دالا
على المجاز، ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية.
والاستدلال: طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل
إنسان يعلم.
والدلالة: فعل الدال، وقد تضاف إلى الدليل على المجاز
والاقناع: قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شئ ما دون أن توقفها
على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله.
والشغب: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى
الباطل وهي السفسطة.
والتقليد: هو اعتقاد الشئ لان فلانا قاله ممن لم يقم على صحة
قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا، بل
هو طاعة حق لله تعالى.
(1/37)
والالهام: علم يقع في النفوس بلا دليل ولا
استدلال ولا إقناع ولا تقليد، وهو لا يكون إلا: إما فعل
الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج
العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك، وأخذ الصبي الثدي وما أشبه
ذلك: أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن
الكل أكثر من الجزء، وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل.
والنبوة: اختصاص الله عز وجل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه
بأشياء لم يتعلمها، إما بواسطة ملك، أو بقوة يضعها في نفسه
خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات، وقد
انقطعت بعد محمد (ص).
والرسالة: أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده، وكل
رسول نبي
وليس كل نبي رسولا.
والبيان: كون الشئ في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد
علمه.
والابانة والتبيين: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الاشكال
إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم
منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الافهام
مبينا كما تقول بين لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل
نفس المبين للشئ في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو
الدال نفسه.
والصدق: هو الاخبار عن الشئ بما هو عليه.
والحق: هو كون الشئ صحيح الوجود، ولا يغلط من لا سعة لفهمه
فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما
فينبغي أن يكون حقا.
فليعلم أن هذا شغب فاسد، لان وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء
الله تعالى ليس هو صحيحا، بل هو معدوم، فرضا الله تعالى بهما
باطل، وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا
شك فيه، فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه،
وإلا وقع الاشكال وتحير الناظر.
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي
فهم ينصف نفسه، لان
(1/38)
الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة
ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ
إلا بالنص، ولا يحل فيها التصريف، فظهر فساد هذا الفرق بيقين،
وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الله تعالى قال: * (حقيق على أن لا أقول على الله
إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل) * ولا
فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على
كذا.
فظهر فساد هذا الفرق.
والباطل: ما ليس حقا.
والكذب: هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه.
والاصل: هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل.
والفرع: كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد
وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا.
والمعلوم: قسمان: معلوم بالاصل المذكور، ومعلوم بالمقدمات
الراجعة إلى الاصل كما بينا.
وكل ما نقل بتواتر على النبي (ص) أو أجمع عليه نقل جميع علماء
الامة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه
عليه السلام، فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة.
والنص: هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم
الاشياء وهو الظاهر نفسه.
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا.
والتأويل: نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة
إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب
الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه
وحكم لذلك النقل بأنه باطل.
والعموم: حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، وكل عموم ظاهر،
وليس كل ظاهر عموما، إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا
يكون العموم إلا على أكثر من واحد.
والخصوص: محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول
فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق.
والالفاظ إما دالة على واحد، وإما على أكثر من واحد، فإن كانت
ناقصة غير دالة كانت هدرا.
والمجمل: لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر.
(1/39)
والمفسر: لفظ يفهم منه معنى المجمل
المذكور.
والامر: إلزام الآمر المأمور عملا ما، فإن كان الخالق تعالى أو
رسوله (ص) فالطاعة لهما فرض، وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له.
والنهي: إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما، والقول فيه كالقول في
الامر فلا فرق وطاعة الائمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى
لتقدم أمر الله عز وجل بذلك.
والفرض: ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو:
الواحب، واللازم، والحتم.
والحرام: وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا
أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور، والذي
لا يجوز، والممنوع.
والطاعة: تنفيذ الامر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان
المنهي عنه، وقد يسمى كل بر طاعة.
والمعصية: ضد ذلك.
والندب: أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور، وتاركه لا
آثم ولا مأجور وهو: الائتساء، والمستحسن، والمستحب، وهو
الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك
والصوم كذلك وسائر أعمال البر.
والكراهة: نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في
فعله أجر ولا إثم، وذلك نحو ترك كل تطوع، ونحو اتخاذ المحاريب
في المساجد، والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير
الذي يلبسه المرء، وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله
فيما لا يحل، وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب
الغلاء في أثمانهم، والحلق في غير علة أو حج أو عمرة، والاكل
متكئا.
والاباحة: تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شئ منهما ولا
عقاب، كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه، أو كمن صبغ ثوبه
أخضر، أو لازوديا، وسائر الامور كذلك وهو الحلال.
والقياس: عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشئ ما بحكم لم
يأت به نص
(1/40)
لشبهه شئ آخر ورد فيه ذلك الحكم، وهو باطل
كله.
والعلة: طبيعة في الشئ يقتضي صفة تصحيحها، ولا توجد الصفة
دونها ككون النار علة للاحراق والاحراق هو معلولها، والعلة
أيضا المرض ولا علة في شئ من الدين أصلا، والقول بها في الدين
بدعة وباطل.
والسبب: أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله، ولو
شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب.
والغرض: نتيجة يقصدها الفاعل بفعله، كالشبع الذي هو غرض الآكل
في أكله.
وقد يكون الغرض اختيارا، كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب
من عصاه وتنعيم من أطاعه.
والامارة: علامة بين المصطلحين على شئ ما إذا وجدت علم الواجد
لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها
ما يخاف نسيانه.
والنية: قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما
استقر فيها.
والشرط: تعليق حكم ما بوجوب آخر، ورفعه برفعه وهو باطل ما لم
يأت به نص، وذلك نحو قول القائل: إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما.
والتفسير والشرح: هما التبيين.
والنسخ: ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الاول.
والاستثناء: ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ
آخر وكان المراد في اللفظ الاول ما بقي بعد المستثنى منه، وهذا
هو الفرق بين النسخ والاستثناء، لان النسخ كان فيه اللفظ الاول
مرادا كله طول مدته، وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الاول
مرادا كله قط.
والجدل والجدال: إخبار كل واحد من المختلفين بحجته، أو بما
يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا، وقد يكون أحدهما محقا
والآخر مبطلا، إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما، ولا
سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما.
والاجتهاد: بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى
وجوده فيها في طلب الحق، فمصيب موقف أو محروم والرأي: ما
تخيلته النفس صوابا دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلا.
(1/41)
والاستحسان: هو ما اشتهته النفس ووافقها
كان خطأ أو صوابا.
والصواب: إصابة الحق.
والخطأ: العدول عنه بغير قصد إلى ذلك.
والعناد: العدول عنه بالقصد إلى ذلك.
والاحتياط: طلب السلامة.
والورع: تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك
فيه.
والجهل: مغيب حقيقة العلم عن النفس.
والطبيعة: صفات موجودة في الشئ يوجد بها على ما هو عليه، ولا
يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه.
ودليل الخطاب: هو ضد القياس، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف
حكم المنصوص عليه.
والشريعة: هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه (ص) في الديانة
وعلى ألسنة الانبياء عليهم السلام قبله، والحكم منها للناسخ،
وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب
والشارب من النهر، قال تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين
ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب) *
وقال امرؤ القيس: ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من
فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفئ عليها الظل عرمضها
طامي واللغة: ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد
إفهامها، ولكل أمة لغتهم.
قال الله عز وجل: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) *) *
ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات.
واللفظ: هو كل ما حرك به اللسان.
قال تعالى ما يلفظ من قول إلا لدية: * (إذ يتلقى المتلقيان عن
اليمين وعن الشمال قعيد) * وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من
الشفتين والاضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود، وهذا
أيضا هو الكلام نفسه.
والخلاف: هو التنازع في أي شئ كان، وهو أن يأخذ الانسان في
مسالك من القول أو العقل، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في
الديانة، إذ لا يحل
(1/42)
خلاف ما أثبته الله تعالى فيها، وقال
تعالى: * (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب
ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) * وقال تعالى: ولو كان من
عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وهو التفريق أيضا،
قال تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا والاجماع: هو
في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق، وهو حينئذ
مضاف إلى ما أجمع عليه، وأما الاجماع الذي تقوم به الحجة في
الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه
ودانوا به عن نبيهم (ص)، وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا،
وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه
باجتهادهم أو سكت بعضهم، ولو واحد منهم عن في الكلام فيه.
والسنة: هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشئ وظاهره،
قال الشاعر: تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا
ندب وأقسام السنة في الشريعة: فرض، أو ندب، أو إباحة، أو
كراهة، أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله (ص) عن الله عز وجل
والبدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه (ص)،
وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله (ص)
إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويغدر بما قصد إليه من الخير،
ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الاباحة
كما روي عن عمر رضي الله عنه، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل
خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص.
ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على
فساده فتمادى عليه القائل به.
والكتابة: لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات،
وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل
للكنية كنية.
والاشارة: تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار
إليه أو تنبيه عليه.
(1/43)
والمجاز: هو في اللغة ما سلك عليه من مكان
إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الاماكن، ثم استعمل فيما نقل
عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر، ولا يعلم ذلك إلامن دليل من
اتفاق أو مشاهدة.
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله (ص) عن موضعه في
اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان، ولا يقبل من أحد في شئ من
النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر، أو جماع متيقن،
أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا، لان التسمية لله عز وجل
فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشئ على الحقيقة
في ذلك المكان، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى، قال عز
وجل: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله
بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم
من ربهم الهدى) *.
والتشبيه: هو أن يشبه شئ بشئ في بعض صفاته، وهذا لا يوجب في
الدين حكما أصلا وهو أصل القياس، وهو باطل لان كل ما في العالم
فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، ومخالف أيضا بعضه
لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، وهو أيضا التمثيل.
والمتشابه: لا يوجد في شئ من الشرائع إلا بالاضافة إلى من جهل
دون من علم، وهو في القرآن، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله
وعن طلبه، وأمرنا بالايمان به جملة، وليس هو في القرآن إلا
للاقسام التي في السورة كقوله تعالى: * (والضحى والليل إذا
سجى) * والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من
القرآن فهو محكم.
والمفصل: هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن
بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك.
والاستنباط: إخراج الشئ المعيب من شئ آخر كان فيه، وهو في
الدين إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق، وإن كان غير
(1/44)
منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل
القول به.
والحكم: هو إمضاء قضية في شئ ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب
أو إباحة مطلقة، أو بكراهة، أو باختيار.
والايمان: أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا، لا
بأحدهما دون الثاني، وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر
الله تعالى به على لسان رسوله
(ص) والنطق بذلك باللسان، ولا بد من استعمال الجوارح في جميع
الطاعات: واجبها، وندبها، واجتناب محرمها ومكروهها، برهان ذلك
أن جميع أهل الايمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد،
وأن يكون مسيلمة نبيا، وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة،
وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الايمان
مطلقا دون إضافة، ولا خلاف بين أحد من الامة في أنه لا يجوز أن
يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة، والكفار مؤمنون بأشياء
كثيرة، ولا خلاف بين أحد من الامة في أنه لا يجوز أن يطلق
عليهم اسم الايمان مطلقا إلا بالاضافة، فصح أن اسم الايمان
منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه.
والكفر: أصله في اللغة التغطية، قال عز وجل: * (اعلموا أنما
الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال
والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته قال لبيد بن أبي ربيعة:
ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لانه يغطي على كل شئ، وهو
في الدين: صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الايمان به
بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو
بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له
بذلك عن اسم الايمان على ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك،
أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء، مكذب بأشياء
ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الايمان بلا إضافة
وأهل الايمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا
خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة.
(1/45)
والشرك: هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شئ
فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما
قد بيناه في غير هذا المكان
والتسمية لله تعالى لا لغيره.
والالزام: هو أن نحكم على الانسان بحكم ما فإما واجب أو غير
واجب.
والعقل: هو استعمال الطاعات والفضائل، وهو غير التمييز لانه
استعمال ما ميز الانسان فضله، فكل عاقل مميز وليس كل مميز
عاقلا، وهو في اللغة: المنع، تقول: عقلت البعير أعقله عقلا.
وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم،
والحق هو في قول الله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن
الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * يريد الذين يعصونه،
وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ
من ذلك.
والفور: هو استعمال الشئ بلا مهلة ولكن على أثر ورود الامر به.
والتراخي: تأخير إنفاذ الواجب، وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله
(ص) كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شئ ما
فيوقف عنده.
والاحتياط: هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون
غير جائز، وإن لم يصح تحريمه عنده، أو اتقاء ما غيره خسر منه
عند ذلك المحتاط، وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن، ولا
يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لان
الله تعالى لم يوجب الحكم به.
والورع: هو الاحتياط نفسه.
فصل: في معاني حروف تتكرر في النصوص واو العطف: لاشتراك الثاني
مع الاول: إما في حكمه، وإما في الخبر عنه على حسب رتبة
الكلام، فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط، وإن كان
اسما مفردا فهو مشترك في حكم الاول، وهي لا تعطي رتبة أي أنها
لا توجب أن الاول قبل الثاني، ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن
يكونا معا، أو أن يكون أحدهما قبل
الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك: جاءني زيد وعمرو، فجائز أن يأتيا
معا، وجائز أن يأتي
(1/46)
زيد قبل عمرو، وعمرو قبل زيد بساعة وبعام
وبأقل وبأكثر.
والفاء: تعطي رتبة الثاني بعد الاول بلا مهلة كقولك: جاءني زيد
فعمرو، فزيد جاء قبل عمرو ولا بد، وأتى عمرو أثره بلا مهلة.
وثم: توجب أن الثاني بعد الاول بمهلة.
وواو القسم: ليست واو عطف لانها قد يبدأ بها أول الكلام ولا
يبتدأ بواو العطف.
وأو: للشك وللتخيير: مثل قولك خذ هذا أو هذا، فإنما ملكت أخذ
أحدهما، وفي الشك قولك: جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجئ
أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه.
ومعنى الباء: الاتصال مثل قولك: مررت بزيد، تريد اتصال مرورك
به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء.
ومن: معناها ابتداء أو تبعيض.
وإلى: معناها الانتهاء أو مع، وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا: إنه
لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص، ولا يحل له
أن يفتي لجهله بمعاني الاسماء وبعده عن فهم الاخبار.
الباب السادس هل الاشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو
على الاباحة قال أبو محمد: قال قوم: الاشياء كلها في العقل قبل
ورود الشرع على الحظر.
وقال آخرون: بل هي على الاباحة، وقال آخرون: بل هي على الحظر
حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط.
وقال آخرون: بل هي
على الاباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم، وقال آخرون - وهم
جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس -: ليس لها حكم في
العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة، وإن كل ذلك موقوف على ما ترد
به الشريعة.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال
بحظرها بأن قال: الاشياء كلها ملك لله عز وجل، ولا يجوز أن
يقدم على ملك مالك إلا بإذنه.
(1/47)
قال أبو محمد: وهذا تمويه ساقط، لانه لم
يحرم الاقدام على مالك غيرنا بنفس العقل، وإنما حرم ما حرم من
ذلك ورود الشرع بتحريمه، ولو كان تحريم الاقدام على ملك المالك
مركبا في ضرورة العقل، لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز
أن يأتي بشرع، فإن الكل أقل من الجزء، وأن القصير أطول مما هو
أطول منه، لان كل شئ رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة
ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا، ورتب الاخبار به
كذبا وإفكا، وأخبرنا تعالى أن قوله الحق، ولا سبيل أن يرد
الشرع بمحال ولا بكذب.
ومن أجاز ذلك خرج عن الاسلام.
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه
كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على
المال، وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد
وبقصد.
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم
وملكهم إياها بقوله تعالى: * (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم
وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديرا) * وأجاز كل ما
أنفذوه فيها من هبة وبيع، ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا
وغلبة وعلى كل وجه.
فإن قالوا: كفرهم أباح أموالهم، قيل لهم: نحن نوجدكم الذمي
كافرا لا يحل أخذ شئ من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ
من ماله، وكلاهما كفره واحد، فأين ما ادعته هذه الطائفة
المغفلة من أن الاقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام
محرم في العقل.
فإن قال قائل منهم: تلك الاموال هي ملك الله عز وجل، قيل له:
إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح
التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله.
ويقال له أيضا: وأنفسنا ملك لله عز وجل، وفي منعها الاقوات
والتناسل إبطال للنوع الانساني، وفي ذلك إبطال ملك لله عز وجل
كثير، وإتلاف مملوكات له كثيرة، وهذا فسخ لاصلك، فيكون الاتلاف
على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة، وهذا لا يعقل.
(1/48)
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل
الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز وجل، اطرد علتك
وقل: وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز
وجل في مداخلة الاعضاء بعضها في بعض، وفي تخلق الولد وولادته
أعظم عبرة، وأدل دليلا على قدرة الله عز وجل، وكذلك في قتل
النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان، وفي خروج
النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة،
فأبح قتل النفس على هذا وقل: إنه حسن في العقول بل واجب، ومن
قرأ كتب التشريح للاطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة، فليقل إن
قتل الانفس مباح في العقل.
واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا: لابد من فعل، أو ترك، أو حركة
أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع.
قال أبو محمد: وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر، وأما نحن
فلسنا نقول: إن في العقل إباحة شئ ولا حظره، وإنما فيه تمييز
الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط.
وبالجملة فكل شئ يعارض به القائلون بالاباحة أو الحظر فهي
دعاوى مجردة، واحتج بعض القائلين بالاباحة بقوله تعالى وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا،
لاننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون
بهذا، وليست هذه الآية من مسألتنا في الاباحة والحظر في ورد
ولا صدر، لان الاشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم
يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لاحد أن يقول: إن الله تعالى يعذب
من خالف أمره، وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه
يعذب ولا بد، وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر
عن النبي (ص) فقط، ولولا ذلك ما علمناه.
برهان ذلك، أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون
مدة أعمارهم غير معذبين، لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة، ولا
فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين، وبين
تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت، ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت
الاول، وبين جوازه في الوقت الثاني، وليست
(1/49)
هنا حال حدثت لهم، إلا أن الله تعالى أراد
أن يعذبهم في الآخرة، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل، ولكن ورد
النص بالتعذيب قلنا به، وقال بعض القائلين بالاباحة: محال أن
يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر
علينا ما خلق لنا.
قال علي: هذه مكابرة العيان، وليست هذه هي حجة مسلم، لان الله
عز وجل وقد فعل ما أنكروا، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان
الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان، وشرب
الخمور في البساتين، وأخذ كل شئ استحسنته النفوس والراحة، وترك
التعرض لسيوف أهل الشرك، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة
والغدوات القارة، ثم حرم علينا ذلك كله.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها،
وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة، قلنا له وبالله
تعالى التوفيق: لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الامرين لنا معا،
ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لاجسامنا
وأتم لسرورنا، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه.
وبيان ذلك: أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان
عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة
مع ذلك.
وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لاحد به
دون ذنب سلف منه، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم
الصلاة والسلام، وسلط محمدا (ص) على جميع أعدائه، وعصمه منهم،
ومنحه النصر عليهم، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم
بأنواع المثل، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا
ومحروم مسلط عليه عدوه فيها، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون
فيها وفعل بنا ذلك أيضا، فمن محسن منعم، ومن محسن مشقي، وقد
نعم أيضا عز وجل ملوكا من الكفار في الدنيا، وأصحبهم النصر
والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار، وهم أطغى خلق الله
وأكفره، وأشد تسلطا على الفواحش.
وحرم آخرين من الكفار، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل
والمسألة من باب إلى باب مع
(1/50)
العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والامراض
المؤلمة، ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا، ومنحوس
فيها، فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا
من ذلك في عقله إلا ناقص العقل، ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك.
ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع
فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة، مريد لله عز وجل بقلبه
كله، موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعلولا شرا إلا اجتنبه،
إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى
الدنيا يسمع قط ذكر محمد (ص) من جميع أهل ناحيته إلا متبعا
بالكذب وبأقبح الصفات، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته (ص) أو
مكذب لها، أليس مصيره إلى النار خالدا، مخلدا أبدا بلا نهاية ؟
فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الامة.
ثم نقول: ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه
إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه، من
الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام، وفعل كل بلية، ثم إنه أيقن
بنبوة محمد (ص)، وآمن وبرئ من كل دين إلا دين الاسلام، وأقر
بذلك بلسانه ومات أثر ذلك، أليس من أهل الجنة ؟ بلا خلاف من
أحد من الامة، فإن شك في ذلك فقد كفر.
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله، وما الذي أوجب
في العقل أن يخص محمدا (ص) وسائر الانبياء بهذه الفضائل، وقد
كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه
الفضيلة، فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن
يحبى بها إذ حبي بها، هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره،
وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة، أو تحسين أو
تقبيح، وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه
فقط، نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين.
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالاباحة: كل من اضطره الله
إلى شئ فقد أباحه له.
قال أبو محمد علي: وهذا قول امرئ لم يتدرب في العلم، وقد أخطأ
في هذه القضية لان الضرورة فعل الله تعالى، والجائع مضطر إلى
الجوع، والمريض مضطر إلى المرض، وقد قال تعالى في أهل النار:
ثم ضطره إلى عذاب النار أفيسوغ
(1/51)
لذي عقل أن يقول: إن الله تعالى أباح
للجائع الجوع، وللمريض المرض،
ولاهل جهنم الكون في جهنم، وإنما يقول هذا من لا يعرف الاسماء
ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الالفاظ عن المعاني.
فإن قال قائل: فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول، واحتج بأنه
قد حسن في العقول الانقياد للامر المنسوخ قبل أن ينسخ، ثم أتى
النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا.
قيل له: هذا شغب فاسد، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما
حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت، بل هو قولنا نفسه، وإنما أنكرنا
أن يكون العقل رتبة في تحريم شئ أو تحليله أو تحسينه أو
تقبيحه، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شئ أو إباحته، فواجب
في العقول الانقياد لذلك، والانقياد لمنع ما أبيح، أو إباحة ما
منع إن جاء أمر بخلاف الامر المتقدم، فلم يحدث في العقول شئ لم
يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما
وردت به الشريعة، وقد قال بعض القائلين بالحظر: إن معنى قوله
عز وجل: خلق لكم ما في الارض جميعا إنما معنى هذا ليعتبر به.
قال أبو محمد: وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان.
ومن استجاز مثل هذا من نقل الالفاظ عن مراتبها في اللغة، فلا
ينكر على غلاة الروافض قولهم: إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع
والسجود، معنى الزكاة طهارة الانفس، ومعنى الحج القصد إلى
الامام، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة، وأدى إلى إبطال
جميع التفاهم، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه
قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه، وهذا هو إبطال الحقائق،
وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا: إن معنى قول رسول الله
(ص): لا نبي بعدي، أي من العرب فقط، وساغ للمعتزلة أن تقول:
وخلق كل شئ، أي الاجسام وأعراضها حاشا الحركات، وساغ للحشوية
أي تقول: بل خلق كل شئ حاشا الروح والايمان
والكلام المسموع من القراء، وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شئ
من الخير
(1/52)
فقط، وهذا كلام ومذهب يفسد الدين، ويبطل
حقيقة العقل.
وقد علمنا ضرورة أن الالفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في
اللغة، وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه، فمن أحالها
فقد قصد إبطال الحقائق جملة، وهذا غاية الافساد وبالله تعالى
التوفيق.
قال علي: ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته.
قال الله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال
وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وقال تعالى قل أرأيتم ما نزل
الله لكم من زذرق فجلتم منه حراما وحلالاقل آلله أذن لكم أم
على الله تفترون) *.
قال علي: ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شئ من
كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال، فبطل بذلك قول من قال:
إن الاشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الاباحة، وصح أن
من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على
الله عز وجل، وأما إذا ورد الشرع بأي شئ ورد من إباحة الكل، أو
حظر الكل، أو حظر البعض، أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما
ورد من ذلك، وقال تعالى أيحسب الانسان أن يترك سدى والسدى
المهمل الذى لا يأمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم بيقو
القط هملا دون ورود شروع فبطل قول من قال: ان العقول تعرت وقتا
من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول، فقد بطل أن يكون الشئ
في العقل قبل ورود الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة.
قصار قولهم محالا ممتنعا، مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا
وقال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير فبطل هذا أن تكون أمة
وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام
رسولا فح الارض
وقال تعالى له إذ أنزله إلى الارض ولكم في الارض مستقر ومتاع
إلى حين فأباح تعالى الاشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما
شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من
الدهر دون شرع بل قد قال تعالى وكلا منها رغدا حيث شئنما ولا
تقربا هذه الشجرة: فلم يخل فط يخل فط وقت من الزمان عن أمر أو
نهى قال على: ويقال لهم أيضا: لو جاز أن نبقى دون شرع لكان
حكمنا كحكمنا
(1/53)
قبل أن نحتلم، فإن الامور حينئذ لا حكم لها
علينا لا بحظر ولا إباحة، ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ
بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الامرين في العقول
سواء.
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم.
وليس بين الامرين إلا نومة لطيفة، فبطل بهذا ما ادعوه من أن
العقول فيها حظر شئ أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب
من الله عز وجل، ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم
إذ موجب العقل لا يختلف.
قال علي: ويقال لمن قال: لكل شئ مباح في العقل، إلا الفكر،
أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا.
كفرا من قائله، فإن قال: لا.
كفر، وإن قال: نعم.
قيل له صدقت، وقد أباح الله تعالى الاعلان به دون اتباع أفكار
لمن اضطر وخاف الاذى.
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر
في غير تلك الحال، ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد، إنما
نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط، لان بعضهم قال: لم يبح
الله تعالى قط الكفر، لان الكفر الذي هو العقد، ولا خلاف بين
من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية، كفر
صحيح، فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون
بأن امرأ لو قال بلسانه: أنا كافر بالاسلام، مقر بالتثليث، إن
هذا كفر، وإنه مرتد، وهذا بعينه الذي أبيح عند الاكراه، فقد
جاءت إباحة الكفر نصا، وحسن ذلك في عقولهم، وبطل قولهم، والذي
نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا
مباحا، وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق، ويقال
لمن قال: إن كفر المنعم محظور بالعقل.
ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه، ثم لقيه في حرب أيقتله
أم لا ؟ فإن قالوا: لا.
خالفوا الاجماع، وإن قالوا: نعم.
نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل، فإن قالوا: إن
قتله شكر له، كابر، وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى
الخلود في النار شكر له وإحسان إليه، وهذا ضد ما ميزه العقل،
وبالله تعالى التوفيق.
(1/54)
فصل: فيمن لم يبلغه الامر من الشريعة قال
علي بن أحمد: اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله
تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها، فقالت طائفة: كل
أحد مأمور منهي ساعة ورود الامر والنهي، إلا أنه معفوعنه غير
مؤاخذ بما لم يبلغه من الامر والنهي، وقالت طائفة: إن الله
تعالى ليأمر قط بشئ من الدين إلا بعد بلوغ الامر إلى المأمور،
وكذلك النهي ولا فرق، وأما قبل انتهاء الامر أو النهي إليه
فإنه غير مأمور ولا منهي.
قال علي: وبهذا نقول لقول الله عز وجل: لانذر كم به ومن بلغ
ولقوله لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولاخبار رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه لا يسمع به يهودى أو نصراني فلم يؤمن به
الا وجبت له النار، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي،
ثنا ابن مفرج، ثنا محمد بن أيوب الرقي، أنبا أحمد بن عمرو بن
عبد الخالق البزار، ثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام
الدستوائي، ثنا أبو علي
قتادة عن الاسود بن سريع، عن النبي (ص) قال: يعرض على الله
تبارك وتعالى الاصم الذي لا يسمع شيئا، والاحمق والهرم، ورجل
مات في الفترة، فيقول الاصم: رب جاء الاسلام وما أسمع شيئا،
ويقول الاحمق: رب جاء الاسلام وما أعقل شيئا، ويقول الذي مات
في الفترة: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه،
فيرسل الله تعالى إليهم: ادخلوا النار، فو الذي نفسي بيده لو
دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما.
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري، عن أبي رافع عن أبي هريرة
بمثله وزاد في آخره: ومن لم يدخلها دخل النار.
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر،
وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب
في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه، فصح يقينا أن من لم تبلغه
الشريعة لم يكلفها.
واحتجت الطائفة الاخرى بقول رسول الله (ص): إذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطئ إلا من
خالف ما أمر به.
(1/55)
قال أبو محمد: وهذا الخبر لا حجة لهم فيه،
بل هو حجة لنا وبه نقول، لانه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق،
وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير
عامد، فهذا مخطئ ولا أمر يلزمه ها هنا، وكمن أنشد بيت شعر فوهم
فيه، فهو مخطئ بلا شك، وهذا المجتهد مخطئ بلا شك إذا حكم بخلاف
ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل، وأدخل في الدين ما ليس
منه، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن
الحكم بما ظن أنه حق، وهو غير حق، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به
وإن نسيه لانه قد بلغه ولزمه.
فإن قال قائل: لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا
لكلهم، قلنا
وبالله التوفيق: ليس كذلك بل الدين لازم للجن والانس إذا
بلغهم، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف
لا قبل ذلك، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم
يخلق قبل أن يخلق، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ.
فإن قالوا: فكيف حال من لم يبلغه الامر، أهو مأمور بما هو عليه
من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه أم هو مأخور بما
أمر ه الله تعلى به مما لم يبلغه، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن
قلتم: هو مأمور بما أمره الله تعالى به، وإن لم يبلغه فهو
قولنا، وإن قلت هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به، أو أنه
مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا
بشيعا.
قلنا وبالله التوفيق: لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا
نقول: هو غير مأمور في ذلك بشئ أصلا حتى يبلغه، وحاله في ذلك
كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ، فإن قالوا: فكيف حكمه إن
خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به،
قلنا لهم: هذا السؤال لازم لكم ولنا.
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق، إنه ليس في ذلك مطيعا ولا
عاصيا، لكنه مستسهل لمخافة الحق، هام بترك الحق، إلا أنه لم
يفعل ذلك بعد.
هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع
باطلا.
قال علي: أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام: فقسم شهدوا ورود
الامر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ، وليس أحد من
هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله (ص)، لان النسخ بطل بعد موته
عليه السلام
(1/56)
واستقرت الشرائع.
وقسم ثان: علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ، أو بلغهم المجمل
ولم يبلغهم المخصص، وقسم ثالث: بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل
والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ، أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين
إلى الحق.
فإما من كان في عصر رسول الله (ص) فبلغه المنسوخ ولم يبلغه
الناسخ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الامر بالمنسوخ حتى يبلغ
إليهم الناسخ، لانه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه، ولا
يسقط اليقين إلا بيقين.
برهان هذا: أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين
كانوا بأرض الحبشة، وبأقصى جزيرة العرب، فنزل الامر من الله
تعالى على رسوله (ص) ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم
والزكاة، وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق، وإمساك المشركات
وغير ذلك.
فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول
الحكم فيه.
وكذلك كان ينزل الامر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل
كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك، فلا شك أيضا في أنهم لم
يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ، بل كان فرضا عليهم الصلاة
كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان
فصح قولنا، والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه.
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام
مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب، إذ لم يبلغهما
نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها، فلم يختلف أحد في
أنهما لم يعصيا بذلك، بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل: إن هذا
إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق، لانه لم ينكر ذلك عليهما
أحد من الصحابة، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ
النهي إليهما، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس، ولم
يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى: * (ومن حيث ما كنتم
فولوا وجود هكم شطه) قلنا: لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا
يلزم حتى يبلغ، وإنما خاطب الله بهذا الامر من بلغه ومن لم
يخلق إذا خلق وبلغه، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من
استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الامر إليهم بتركه.
(1/57)
قال علي: ولو كانوا مأمورين باستقبال
الكعبة حين نزول الامر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم
فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الامر جائز الصلاة، وهذا
باطل، وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة، فاستدل
فأداه استدلاله إلى جهة ما، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف
تلك الجهة، فلما سلم إذا به إلى القبلة فإن صلاته باطلة، وهو
بذلك فاسق، لانه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به
فيها، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته، فقد قصد إفساد
صلاته فبطلت بذلك.
قال أبو محمد: وأما من كان بعد رسول الله (ص) فلم يبلغه الناسخ
ولا الخالص، فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم
المخصوص، لان الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك، بل افترض عليه
خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة، والمنسوخ من أمره فلا شك،
فهو لازم لكل من بلغه بعموم الامر المذكور حتى يبلغه نسخه
وبالله تعالى التوفيق.
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا
يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه، وهو تعالى قد تكفل
لنا بالبيان، قال عز وجل قد تبين الرشد من الغى) فلو ورد أمر
الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا
والتباسا، ولكان الرشد غى مبين من الغى: وحاشا لله من هذا
بيقينا.
وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبغ
طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك، لانه مذ بلغه منهى عما هو
عليه، لانه قد بلغه النهى إلا أنه معذور مأجور مرة، مأجور
بقصده الخير، ومعذور ونسيانه، فهذا حكم هذا الباب البرهان
الصحيح، وبالله تعالى التوفيق.
فإن احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فرضت الصلاة
ليلة الاسراء:
وفيه قول موسى عليه السلام: كم فرض الله على أمتك ؟ قال خمسين
صلاة أو نحوه فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض
علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة، قلنا: إنما معنى هذا أنه متى
بلغنا الامر لزمنا، وبرهان ذلك: أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى
يخلق، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة
(1/58)
حتى يأتي وقتها.
هذا ما لا خلاف فيه.
فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ، وبعد
انتهاء الشرع إليه، وبعد دخول الوقت: وبهذا تتألف الاخبار
كلها، وبالله تعالى التوفيق.
برهان ذلك: أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة،
ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى، فصح أنه يلزمنا
إلا ما بلغنا من الدين، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن
النبي (ص) وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه،
فهذا هو مبلغ، اجتهاد هذا الانسان، ولم يكلفه الله تعالى أكثر
مما في وسعه ولا ما لم يبلغه فهو طن علم بما بلغه من ذلك
الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه، لانه لم يتجانف لاثم،
والاعمال بالنيات، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى
الخير، وإلى طاعة الله ورسوله (ص)، فلو خالف ما بلغه من ذلك
فإنما عليه إثم المستسهل، بخلاف الرسول (ص)، إما بعلمه فقط فهو
فاسق، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق.
الباب السابع في أصول الاحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل
على النافي دليل أو لا ؟ قال علي: قد ذكرنا فيما خلا من هذا
الكتاب وفي غيره من كتبنا: أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من
وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل، وأوائل الحس، والثاني
مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس.
وقد بينا كل ذلك في غير
هذا المكان، فأغنى عن ترداده، وقد بينا أيضا أن بالمقدمات
الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد، وصحة نبوة محمد
(ص) وصدقه في كل ما قال، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله
تعالى إلينا، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى، وجوب أشياء
ألزمناها والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الابدي
من أطاعه، وبالعذاب الشديد من عصاه، وتيقنا وجوب صدقه في ذلك
لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له، وتيقنا صحة كل ما
ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر
من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا
(1/59)
الخالق الاول تعالى، والشاهد لنبيه (ص) بها
على صحة ما أتى به عنه تعالى، فوجب علينا تفهم القرآن والاخذ
بما فيه، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى
معرفة الاشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس، ولسنا
نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه
العقل والحواس، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق، ولسلكنا
برهان الدور الذي لا يثبت به شئ أصلا.
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا: بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد
أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس، ثم يقال لنا:
بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا
نقول بالقرآن، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق، ولكنا قلنا: إن
في القرآن التنبيه لاهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد،
وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج
القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم، وإفساد مذاهبهم،
وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم، فأخبرنا
بما يبطل به شغبهم، ويزيل شكوكهم، كما قال تعالى: ما فرطنا في
الكتاب من شئ فما أمر نا فيه تعالى
باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى: * (ثم سواه ونفخ فيه
من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) *
وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال
تعالى: * (ألم نجعل له عينين ئ ولسانا وشفتين ئ وهديناه
النجدين) *.
وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها، فقال حاكيا عن قوم معذبين،
ولاعراضهم عن الاستدلال المؤدي إلى معرفة الحقائق، قال الله
تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا
يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها
أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) إلى قوله (سيجزون
ما كانوا يعملون) وقا تعالى حاكيا عن مثلهم (وقالو لو كنا نسمع
ونعقل ما كنا في أصحاب السعير) * فصدقهم الله عز وجل في قولهم
ذلك فقال تعالى: (فاعتر فوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) وقال
تعالى (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصار هم ولا أفئد تهم من شئ)
فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل
(1/60)
قال أبو محمد: أترى هؤلاء المقرين على
أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، ولو سمعوا أو عقلوا
ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية
الاصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم
؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها، وبنيان
منازلهم وعمارة بساتينهم، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم، وحفظ
أموالهم، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم
؟ بل كانوا أعلم بذلك كله، وأشد اهتبالا به، وأشغل نفوسا فيه،
وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته - من أهل الفضل، المقتصرين من ذلك
مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لابد
منه عفوا، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم، المقبلين
على طلب معرفة الحقائق، والوقوف على العلم والعمل، الموصلين
إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها
الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب
في النار التي وعدها الله عز وجل لاعدائه المشتغلين بذلك عما
تهافت عليه أهل الجهل والنقصان.
كما ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد
الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن
الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وكلاهما عن
أسود بن عامر قال: ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت
البناني: هشام عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول
الله (ص) قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام
في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا
عن استعمال السمع والبصر، واللمس والذوق الشم، والعقل في
الاستدلال على الخالق تعالى، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل
وصرفوا كل ذلك في حطام فان، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا
تعالى فيه، ولما
(1/61)
أمرنا نبيه (ص)، مما نقله عنه الثقات، أو
جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه
عليه السلام، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في
وجوب طاعتها علينا، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت
قام منها حكم منصوص على معناه، فكان ذلك كأنه وجه رابع، إلا
أنه غير خارج عن الاصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه
السلام: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام
فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا.
لان المسكر هو الخمر، والخمر هي المسكر، والخمر
حرام، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى وورثه أبواه فلامه الثلث وقد تيقنا بالفعل
الذي به علمنا الاشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث
وثلثان، فإذا كان للام الثلث فقط وهي والاب وارثان فقط
فالثلثان للاب، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك
منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ.
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام
لاسلامه ثم قال قائل: قد حل دمه فقلنا: قد تيقنا بالنص وجوب
الطاعة للاجماع، وقد صح نقل الاجماع على أن دمه حرام، فلا يجوز
لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل
لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول: إن الله تعالى نص على
إيجاب اليمين على عمرو، لان النص قد جاء بإيجاب اليمين على من
ادعي عليه، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو،
فلا سبيل إلى معرفة شئ من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه
الوجوه الاربعة، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه،
ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه وقد ادعى قوم: أن
من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره، فأتوا بأمر عظيم،
وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الامر بما
أمر من ذلك: فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر، ومن
جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه،
إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة
كنوا بها عنه فقالوا: لا سبيل في العقل إلى تغييره.
(1/62)
قال علي: والعقل لا يوجب على الباري تعالى
حكما، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن، ومرتب له
وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه
على خلاف ذلك لفعل.
وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده، ومميز للاشياء التي قد
رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط.
فقال هؤلاء: إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته.
قال علي: ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكنا أن يأمرنا
تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الاوثان وبالظلم، ولكنه تعالى
قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا، ليس
لانه ممتنع منه عز وجل لو شاءه، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو
أراده، ولكن لانه لا يقول إلا الصدق، وقد أخبرنا أن ذلك لا
يكون، وأنه لا يرضى لنا الكفر، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين،
فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه، كما منعنا أن يأتي رسول بعد
محمد (ص) وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور
إلى وقتنا هذا، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا
هذا، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن، وعمران هذا القفر:
ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن.
فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع
من جواز ذلك لو شاءه عز وجل.
قال علي: وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان
لم تتعبد بالايمان بالله عز وجل، ولا ركب فيها التمييز الذي لا
يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الانسان غير
مأمور لفعل.
ولما كان هنالك شئ يمنعه من ذلك تعالى وجهه، ولا يوجب عليه فعل
ما فعل ولا بد، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الاربعة عشر عاما
ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الامة بالايمان أمر إلزام،
ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم، فإذا احتلموا لزمهم الايمان
فرضا، وحرم عليهم الكفر حتما، ولم يكن بين تعريهم من الاوامر
والنواهي، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي
بيضة، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا.
بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل
أن ينامها، ولا فرق.
هذا شئ يعلم بالحس والمشاهدة، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك
الوقتين.
وهذا شئ قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل
(1/63)
الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم
وعبادتهم، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم، ولا
حاض إن كان امرأة، ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الاوامر
الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما
مع الاحتلام، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن، ولا فرق في
العقل بين جواز عدم الامر بالايمان في كلتا الحالتين
المذكورتين، وبين جواز وجود الامر به في كلتيهما.
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها، وأراد بذلك
غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من
خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل
الايجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الاسلام.
وبرهان ذلك: أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم
إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل
بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع: أن البهائم متعبدة، واختار اللحاق بأحمد بن حابط
والخروج عن إجماع المسلمين، فحسبه مفارقة الاسلام واللحاق
بالكفر، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب، وقد بينا ذلك في
كتاب الفصل.
وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الاحكام فقط فمن أراد أن
يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب
الفصل إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة، ثم بينا أقسام
الاصول التي لا يعرف شئ من الشرائع إلا منها، وأنها أربعة وهي:
نص القرآن، ونص كلام رسول الله (ص)، الذي إنما هو عن الله
تعالى مما صح عنه
عليه السلام نقل الثقات أو التواتر، وإجماع جميع علماء الامة،
أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا، فلنصف بحول الله وقوته
كيف ستعمل المناظران
(1/64)
أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة
الحقائق مما ذكره.
فنقول وبالله تعالى التوفيق: أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن
مذهبه في مسألة كذا، إما مستفهما أو مناظرا، فإذا أجابه سأله:
ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة،
فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه، ولم يزد
المسؤول على ذكر مذهبه فقط، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى
بذلك عن تكلف إبطاله، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا
إبطال كل قول لم يقم عليه دليل، فإن عارض المسؤول السائل
بدليل، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية، فيحتج عليه
الآخر بآية أخرى، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها
خصمه أو بحديث كذلك.
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة
الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك.
فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند
كلامنا في الاخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه
الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الاحاديث والآي التي ظاهرها
التعارض، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك
وبالله تعالى نعتصم ونتأيد.
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
قال علي: وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان
العلل في الشرائع بالجملة، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من
قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية، وهي التي دلائلها
نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى
فيه إن شاء الله تعالى الادلة الصحيحة، وبطلان علل أصحاب
القياس
ومفاسدها بالجملة، وبالله تعالى التوفيق.
ثم رأينا كتابنا المعروف بالايصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد
كتب لكل صنف منها.
قال علي: وكل من قال بقبول خبر الواحد، ثم صح عنده خبر عن
النبي (ص) متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة.
فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد، إما مخطئ، وإما مصيب، وكذلك إن
تركه لنص قرآن، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر، أو نص قرآن،
إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر
(1/65)
مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث
الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا،
وخالف ترتيب أخذه في المسائل، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل
معذور بالجهل، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق
لاقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل،
فهو مقدم على الاخذ بما يدري أنه باطل.
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله (ص): لا قطع إلا في ربع دينار
فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ثم إنه ترك قول رسول الله
(ص): لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز وجل (وأمها
اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فهذا ادا وقف على تناقض
فعله واتمادى عليه فهو فاسق، لانه في أحد الموضعين مفر بأن ترك
ظاهر القرآن للحديث خطا لا يحل، وفي الموضع الثاني استعمل ما
أقر أنه لا يحل، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل
حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها،
فإن تمادى على الاخذ بأحد هما وترك الآخر فهو فاسق أيضا وان
ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق
أيضا.
وان ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كاتن يعتقد أن عند ذلك
الصاحب
علما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة ببطلاتن
ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق.
فإن كان يعتقد أن لاحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أن
يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام، أو يحل شيئا
كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا
حدا لم يكن واحبا إلى حين موته عليه السلام.
أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال
الدم والمال حكمة حكم المرتد ولا فرق.
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الاولاد، وفي حمل
الخمر، وفي اسقاط ست قرا آت كانت على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم مباحه، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو
معذور بالجهل وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو
كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا.
وسنبين
(1/66)
بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث
في كلامنا في الاجمال من كتابنا هذا، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
قال علي: وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام
الحجة عليه، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان
مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شئ
يقاومها، وبالله تعال التوفيق.
قال علي: والوجه الذي ذكرنا آنفا، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين
آي وآي، وبين حديث وحديث، وبين حديث وآي، فلسنا نقطع فيه على
أننا مصيبون للحق، ولا أننا علمناه يقينا، ولا كنا نقول فيه
هذا هو الحق عندنا.
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى، وهذه هي
المتشابهات التي أخبر بها النبي (ص) في قوله: الحلال بين
والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثيمن الناس وليس هذا
من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل
في قوله: منه آيات محكمات هن أم والكتاب وأخر متشابهات) وسنبين
ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عزو
جل إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا
موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى: قد تبين الرشد من
الغي ولقول رسول الله (ص): اللهم هل بلغت.
قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد.
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض، وكل آية
وردت كذلك لا معارض لها.
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما.
فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن.
لانه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه
منسوخ أو مخصوص، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون
بأننا في اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا
فيها مخطئ عند الله عز وجل.
وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي (ص) فنحن قاطعون أيضا
على أننا فيه محقون عند الله عز وجل.
وإن حدث بعد الاجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة.
وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف، لم نتبعه ولم نقطع
على أنه مبطل عند الله عز وجل، بل نقول: هذا الحق عندنا إلا أن
نتيقن أن ذلك
(1/67)
الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح، فنقطع
حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب
الكلام في الاخبار إن شاء الله تعالى.
فإن لم يحتج في ذلك بشئ من نص، لكن بتقليد أو قياس، فنحن
قاطعون بأنه مخطئ عند الله تعالى، وأننا محقون عنده تعالى،
ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه، أو
قياس أو استحسان، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى
التوفيق.
فصل: في هل على النافي دليل أو لا ؟ قال علي بن أحمد: اختلف
الناس
في هذا على قسمين، فطائفة قالت: الدليل على من أوجب شيئا، أو
ثبت حكما أو قضية.
وليس على النافي دليل.
وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا.
قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق
شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم، فقال تعالى: * (قل
إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير
الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على
الله ما لا تعلمون) * فقد حرم الله تعالى بنص هذه الآية أن
يقول أحد على الله عز وجل شيئا لا يعلم صحته، وعلم صحة كل شئ
مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل.
فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شئ أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد
أتى محرما عليه.
وقال تعالى: * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأويله فأنكر
تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى: قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين) * فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن
يأتي ببرهان، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في
نفيه ما نفى، ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت،
فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت
صادقة.
قال علي: وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي
بإيجاب رسول الله (ص) البينة على المدعي واليمين على من أنكر،
فإنما في الاحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين
على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الاحكام.
قال علي: فإذا اختلف المختلفان، فأثبت أحدهما شيئا ونفاه
الآخر، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما
بيناه آنفا بحكم كلام الله عز وجل، فأيهما أقام البرهان صح
قوله، ولا يجوز أن يقيماه معا لان الحق لا يكون في ضدين، ومن
الممتنع أن يكون الشئ باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد،
فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل، وهذا ممكن، فحكم ذلك الشئ أن
يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي، لكن يترك
(1/68)
في حد الامكان لانه لو أقام الدليل موجبه،
لكان الشئ موجبا حقا، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشئ باطلا
منفيا.
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشئ هذا ممكن أن يكون حقا،
وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع
على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به
علم وقد روي عن النبي (ص) في حديث أهل الكتاب: لا نصدق ولا
نكذب، ولكن نقول الله أعلم.
قال علي: وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة
اختلافهم في القياس، ولا معنى للتطول فيها والشغب، لان
البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة، فلا
معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا، بل نقول لهم علينا البرهان
في صحة قولنا بإبطاله، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على
إثباته، ولا نقنع بأن نقول إن الشئ أنه باطل فلا معنى لتكلف
إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته، وإن كان هذا قولا صحيحا،
ولكنا نقول لهم: هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته، ثم علينا
نقضه كله بحول الله تعالى وقوته، ثقة منا بوضوح الامر في
إبطاله، وسهولة المأخذ في ذلك، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن
من الواضح الجلي، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد، في باب الكلام
في القياس والعلل من كتابنا هذا، وفي كتابنا المرسوم بكتاب
التقريب أيضا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا
به لانفسهم، وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: كل أمر ثبت بيقين إما بحس، وإما ببديهة عقل، وإما
بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع،
ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل، فعليه الدليل ههنا
وليس هذا على الثابت على ما قد صح، لان الدليل قد ثبت بصحة
قوله، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده
في كل وقت، وهذا شئ يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا
بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين، ورؤوسهم على
أسافلهم.
أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا، أو ادعى
أن فلانا الذي عهدناه حيا مات، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه،
أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته
(1/69)
معها، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته
قد فسق، أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل، أو أن فلانا
الذي عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا، أو أن فلانا
الذي عهدناه واليا قد عزل، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا،
أو حرم عليكم أمر كذا، أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما، أو أسقط
عنكم أمرا عهدناه لازما، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة
فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على
بطلان قول خصمه، إذا قام الدليل على صحة قوله، ولا يلزم
التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الالزام
والتحريم والاحلال والاسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول
بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا.
وأما هذه المسائل الاربعة المذكورة، فدليلنا على صحة قولنا هو
قوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا
عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ
قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) * فصح بنص الآية
أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه.
وأما بطلان قول من ادعى سقوط شئ قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال
ما قد حرم بنص أو إجماع، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله: *
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله
ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *، وقال تعالى: تلك
حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
* وقال تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك
لتفتري علينا غيره وإذا
لاتخذوك خليلا) قال علي: فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال
فيه، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده، ولا أن
نترك ما أوحي إلينا، وأن من خرج عن شئ من ذلك فهو ظالم مفتر
على الله تعالى، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في
القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه (ص)، لانه إنما ينطق عنه عز وجل،
وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام، وأن
هذه حدود الله تعالى.
فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشئ منها، وأن يعدى بنا عنها فقد حرف
(1/70)
كلام الله تعالى وظلم، وأراد الفتنة عن
الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه، وإلا
فنحن باقون على تلك الحدود، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها
ولا محرفين لما قد ثبت بها، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن من طرد هذا الاصل لزمه أن: إن ادعى مدع على آخر أنه
قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على
براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما
جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء، أن يكلف
المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الاسلام مع ما فيه من
مخالفة العقول.
وكذلك القول فيمن قال بصحة الالهام قول الرافضة في الامام، ومن
ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات، فإن كل ذلك لا
يحل القول بشئ منه، ولا الاقرار به، وهو كله على الدفع والرد
والابطال بلا دليل يكلفه مبطله، وإنما البرهان على من حقق شيئا
من ذلك أو أوجبه.
وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شئ لم يثبت، أو إبطال شئ قد
ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشئ من
ذلك، لانه فعل ما يلزمه من ذلك،
وإنما البرهان على من أراد إلزام شئ من ذلك فقط، فإن أتى به
صحت دعواه، وإلا فواجب تركها وردها، وإن كانت ممكنة غير
ممتنعة، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة
العلم بما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثامن في البيان ومعناه قال علي: قد بينا في باب تفسير
الالفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول:
إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان، لان بيان
الجملة قد يكون بتفسير كيفياتها وكمياتها دون أو يخرج من لفظها
شئ يقتضيه
(1/71)
في اللغة، كقوله تعالى: فبين رسول الله (ص)
ماهية هذه الزكاة المأمور بإيتائها، دون أن يخرج من لفظ الزكاة
شيئا، وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك،
وقد يكون باستثناء مثل ما روي عن نهيه عليه السلام عن بيع
الرطب بالتمر، ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق، فكان هذا
مخرجا بحكم العرايا من جملة النهي المتقدم، وقد يكون الاستثناء
بألفاظ الاستثناء مثل: إلا وخلا وحاشا وما لم، وما أشبه ذلك.
وقد يكون حكما واردا بلفظ الامر، أو بلفظ الخبر، مستثنى من
جملة أخرى، وهذا يسمى التخصيص، كتحريمه تعالى نكاح المشركات
جملة، ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب والزواج، فكان هذا
تخصيصا من الجملة المذكورة.
وأما النسخ، فهو رفع الحكم أو بعضه جملة، والفرق بينه وبين
الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو
الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لنا على عمومها
وقتا من الدهر، كالذي ذكرنا من تحريم المشركات، فإنه لم يرد قط
بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج، وكذلك القول في العرايا
وأما النسخ فإننا مكلفون الجملة الاولى على عمومها مدة ما لم
يأت أمر بإبطالها عنا، أو إبطال بعضها على ما تبين في باب
النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى.
فإما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص،
فقد يكون بالقرآن للقرآن، وبالحديث للقرآن، وبالاجماع للقرآن،
وقد يكون بالقرآن للحديث، وبالحديث للحديث، وبالاجماع المنقول
للحديث.
وقولنا: الحديث، إنما نعني به الامر والفعل والاقرار والاشارة،
فكل ذلك يكون بيانا للقرآن، ويكون القرآن بيانا له، وإنما
فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لانه قد تيقنا
وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله عليه السلام علينا، فحرام علينا
الخروج عن طاعتهما في شئ مما أمرا به، أو أن نقول في شئ مما
ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا بيان جلي لا شك فيه، وإذا
وجدنا الحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من
أنه لا يلزمنا فلا يحل لاحد أن يقول إنه لزم ثم سقط، فيكون قد
قفا ما ليس له به علم، وقال بشك لا بيقين، وذلك حرام.
ولا يجوز بأن نقول
(1/72)
بأن حكم كذا لزمنا إلا بيقين، ولا يسقط بعد
لزومه إلا بيقين، فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين
الاستثناء والتخصيص، لاننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد أقررنا
أنه لزم ثم سقط، وهذا لا يحل قوله إلا بيقين.
وبالله تعالى التوفيق.
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى: إلا على أز واجهم أو
ماملك فاستثنى تعالى الازواج وملك اليمين من جملة ما حظر من
إطلاق الفروج، ثم خص تعالى الجمع بين الاختين وبين الام
والابنة، والربيبة والزانية، والحريمة بالقرابة، والشركة
بالقرآن، وخص الحريمة بالرضاع بالسنة، والذكور والبهائم،
والامة المشركة بالاجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا
يحتمل
إلا وجها واحدا بالحظر من جملة المباح بملك اليمين فإن قال
قائل: لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة، لان الله تعالى يقول
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)
* قيل له، وبالله تعالى التوفيق: ليس في الآية التي ذكرت أنه
عليه الصلاة والسلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى، بل فيها بيان
جلي، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس،
والبيان هو بالكلام، فإذا تلاه النبي (ص) فقد بينه، ثم إن كان
مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه، إما
متلو أو غير متلو، كما قال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه
ئ ثم إن علينا بيانه) * فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز
وجل، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى، والوحي كله، متلوه
وغير متلوه، فهو من عند الله عز وجل: وقد قال عز وجل (يبين
الله لكم أن تضلوا) وقال تعالى مخبرا عن القرآن (تبيانا لكل
شي) فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوه بيانا لاخرى، ولا معنى
لانكار هذا وقد وجد، فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا، ثم فسره في
سورة الطلاق وبينه.
ومما أجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف
عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن
أحمد بن علي عن مسلم، ثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن علية،
ثنا أبو حيان، ثنا يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول:
خطبنا رسول الله (ص) بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد
الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا يا أيها الناس
(1/73)
فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي
فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى
والنور فخذوا بكتاب الله عز وجل واستمسكوا به ثم قال: وأهل
بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
قال علي: وفسر زيد بن أرقم - أنهم بنو هاشم.
قال علي: والتقليد باطل، فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام
في الكتاب والسنة، فوجدنا الله تعالى قال: * (ينسآء النبي لستن
كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه
مرض وقلن قولا معروفا ئ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج
الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان
لطيفا خبيرا) * قال علي: فرفعت هذه الآية الشك، وبينت أن أهل
بيته عليه السلام هن نساؤه فقط، وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد
وذوو القربى بنص القرآن والسنة، فهم في قسمه الخمس، وتحريم
الصدقة.
وقد أجمل عليه السلام قوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة
فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فحلوا سبيلهم فإن قال
قائل: ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة: إني
أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا
الصلاة، ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق
لما في براءة، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن، ثم
أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا
مؤكدا، فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة.
يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور.
قال علي: وقد يرد البيان بالاشارة على ما في حديث كعب بن مالك
مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده: أن ضع النصف.
(1/74)
الباب التاسع في تأخير البيان قال علي:
واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة: إنما يرد المجمل
ثم يرد المفسر، وقال آخرون: لا يردان إلا معا، وقال آخرون:
جائز ورود المجمل قبل المفسر، والمفسر قبل المجمل، وورودهما
معا، كل ذلك جائز.
قال علي: وبهذا نقول: إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت
إيجاب العمل البتة، ولا يجوز أن يؤخره النبي (ص) بعد وروده
عليه طرفة عين، ولسنا نقول بهذا لان العقل يمنع ذلك، لكن لان
النص قد ورد بذلك، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت
وجوب العمل لقول الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وقد علمنا أنه ليس في وسع لاخد لان يعمل بما لايعرف به، وإنما
منعنا من تأخير النبي (ص) البيان عن ساعة وروده عليه السلام
لقول الله تعالى: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن
لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي
القوم الكافرين) * فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده
عليه لكان عليه السلام في تلك المدة، وإن قلت مستحقا لاسم أنه
لم يبلغ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا، ولا ينسب هذا إلى النبي
(ص) إلا جاهل، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة
وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الامة.
قال علي: وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة، ثم جاءت آيات
كثيرة مدنيات فيها: أقيموا الصلاة - فقط، فصح بذلك ما ذكرنا من
أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل، وأما نزول المجمل قبل المفسر
فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الاذخر.
قال علي: وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت
إيجابه تعالى
العمل به، فهو منصوص في قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون) * وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها: قصة موسى،
وقصة عيسى عليهما السلام، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم
السلام، بعضها قبل بعض، وبعضها بمكة،
(1/75)
وبعضها بالمدينة، وبعضها أكمل من بعض، فهلا
اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه
تعالى أنه لا يفعله - على ربهم فيما ذكرنا فيقولون: هلا نزلت
هذه القصص كاملة في مكان واحد، فتكون أتم للوعظ، وأشفى للخبر،
ثم يؤكدها كذلك إن شاء.
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة، فماذا يقولون في قصص
كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟
أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ وأيضا فإن أكد
تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق
بين عشرين مرة، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن
ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء
في وجهه، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول، وسألناه أيضا عن قصص
أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام.
فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى، قيل له: ما الفرق أن يكتفي
بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم.
ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق
بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الانبياء عليهم السلام، وبين ما
أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو
ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير
شريعة من قبله كثيرا، كإلياس واليسع وذي الكفل، وغيرهم، ولعل
من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم
آية، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر.
قال علي: وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء
المسلمين مغمور في دينه، ضعيف في عقله، كائد للشريعة، ولا شك
في ذلك، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت، وبالله تعالى التوفيق.
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا: ما
تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق، ولم يسمع الحديث المبين
للتوقيت في ذلك، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية
الزنى ولم يسمع حكم الرجم، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع
الحديث في التوقيت في ذلك، أيجلد المحصن ولا يرجمه ؟ ويجلد
(1/76)
الامة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل
؟ فإن قلتم: ينفذ ما سمع على جملته، كنتم قد أمرتموه بالباطل،
وإن قلتم: لا يفعل، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن.
فالجواب: أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل،
وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الاقرار بالجملة، وأن يقول:
سمعت وأطعت، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى:
* (وآتوا الزكاة) * فهذا ليس عليه إلا الاقرار بتصديق ذلك كما
قلنا فقط.
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك، وأما إن كان النص مفهوما بينا
فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه، أو تخصيصه ولا بد، إذا من قال:
لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له: لا تطع ربك، ولا
تعمل بما أمرك فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص، أو نصا مخصصا
له، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته.
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشئ من القرآن، ولا
السنن أبدا.
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن، وضبط جميع السنن، وفي هذا
الخروج عن الاسلام وإبطال الشريعة قال علي: ونسألهم في رد هذا
السؤال عليهم فنقول: ما الذي يلزم من سمع
أمرا ما، والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه،
أيعتقد في ذلك الامر التأييد فيكون معتقدا للباطل.
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم
ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه، وأنه يلزم من سمع ذلك
الاقرار والطاعة والاعتقاد أن ه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه
فهو على التأييد، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ.
قال علي: وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان
جملة ولا فرق، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل، وبالله
تعالى التوفيق.
قال علي: ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى: * (فإذا قرأناه
فاتبع قرآنه ئ ثم إن علينا بيانه) * وثم توجب مهلة وقوله تعالى
في قصة الملائكة القائلين لابراهيم عليه السلام: إنا منهلكوا
أهل هذه القرية ژن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوصا قالوا
نحن أعلم بمن فيها لننجية وأهله امرأته كانت من الغابرين فعموا
في أول الامر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا
بأنهم لم يعنوه بالهلال يعنوه بالهلال وأهله حاشا أمرأته فقط.
(1/77)
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير
البيان جملة بأن قال: قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام
أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم إن أهلها كانوا ظالمين ولوط ليس
ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق.
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه
السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجعل لنوح عليه السلام خلاص أهله،
فظن أن الاهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله
أهل دينه فإن قال قائل: فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود
بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق.
المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث
عنه، ولا نبتغي تأويله، وأن يقول كل من عند ربنا، وأما المراد
فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى
يبين الله لكم ان تضلوا فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في
ورود الامر ما لم يأت وقت وجوب العمل به، فأما إذا جاء وقت
وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا،
وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون، وقوله تعالى صدق وحق بالله
تعالى التوفيق.
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل، وإلا
فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى، ولو فعل الله
تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا، وقد أخبرنا تعالى فقال: * (ولو شاء
الله لاعنتكم) * فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل،
وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا،
فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه، كما
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله رجلا فهما
في دينه، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه، وهو الغاية في العلم
بنص النبي (ص) على ذلك فيه - فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه
لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم،
(1/78)
وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة
يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف، وكما عرض لعدي في
توهمه أن الخيط الابيض والاسود من خيوط الناس حتى زاده الل
تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر، وقد اكتفى غير عدي بالآية
نفسها، وعلم أن المراد الفجر.
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو، فزاده
الله بيانا باستثناء أولي الضرر، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم
بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج، وأن لا حرج على مريض
ولا أعمى، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
قال علي: فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب
وإيجاز وبالله تعالى التوفيق.
والتأكيد نوع من أنواع البيان، قال الله عز وجل: * (تلك عشرة
كالمة وقال تعالى: فتم ميقات ربه لاربعين ليلة بعد أن ذكر
تعالى ثلاثين ليلة وعشرا، فإن قال قائل: إن الله تعالى علمنا
الحساب بذلك فقد افترى، لاننا كنا نعلم الحساب قبل نزول
القرآن، نعني النوع الانسان جملة، وبالله تعالى التوفيق، وقد
أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى: تلك
عشرة كاملة) آبدة فقال معنى قوله تعالى: تلك عشرة كاملة دليل
على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا.
قال علي: وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل، وهذا حرام لا
سيما على الله عز وجل، وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد
أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك، ويقتصر على أن يقول:
فما استيسر من الهدى ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون
العشرة الايام في الصوم كاملة، فبان كذب هذا القائل، وصح أن
قوله تعالى: عشرة كاملة، كقول رسول الله (ص) في حديث الزكاة،
فابن لبون ذكر، وكقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرائض:
فما أبقت الفرائض فلاولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد
فقط.
(1/79)
قال علي: ومما يبين أن الله تعالى يؤخر
البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي
(ص) بأن الله تعالى يعرض في الخمر، فمن كان عنده منها شئ
فليبعها، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا
اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله (ص)
على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان
قبله، فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الاول، كما نزلت
الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها، ثم سأل السائل بالمدينة عن
أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل، وقد
بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل.
وكما أخر الله تعالى عن النبي (ص) بيان المناسك قبل أن يأتي
وقت وجوب عملها، فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام،
فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها، ومن ادعى أنه عليه
السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه، ومنعهم الاجر
بالعلم بها وبالاقرار بجملتها، فقد افترى وكذب نبيه (ص) إذ
يقول: إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم
ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفا لنبيه
(ص): * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) * وإذا كتمهم ما يستعجلون الاجر
بالاقرار به ويزدادون علما بفهمه، فقد خالف الصفة التي ذكرها
الله تعالى، ومن قال ذلك فقد فارق الاسلام.
فإن قال قائل: فأنت تصف الآن محمدا (ص) بأنه يريد أن يزداد أهل
الارض خيرا، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل
الناس، فقد وصفت محمدا (ص) بأفضل مما وصفت به الله عز وجل،
وبأنه أرأف بنا من الله تعالى.
قال علي: فنقول وبالله التوفيق: هذه شغبية ضعيفة، وإنما يماثل
بين الشيئين أو يفاضل بينهما، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد،
أو تحت جنس واحد، وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا
للمخلوقين، ورحمة محمد (ص) بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا
لبعض، إلا أنها أعلى من كل رحمة لانسي، وأكمل وأتم وأدوم، وليس
الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد
(1/80)
(ص) معنا تحتها، وإن كان أفضل من كل من
دونه، ولا يثنى على الله عز وجل بما يثني به على خلقه، ألا ترى
أننا نصف الله عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل
مخلوق دونه تعالى ذم شديد، واستنقاص عظيم، ونصفه تعالى بأنه ذو
غضب شديد، أنه يفعل ما يريد، وأنه ذو مكر لا يؤمن.
وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا.
ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا
لا يجوز أن يوصف به الله عز وجل، فمن أراد أن يقيس رحمة الله
تعالى لخلقه برحمة نبيه (ص) لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى،
وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب
ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للاسلام، بل أراد أن يعذبه في نار
جهنم أبدا، وعلمنا يقينا أن محمدا (ص) كان من أبعد آماله أن
يؤمن أبو طالب، وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله: * (إنك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء وهو أعلم بالمهتدين) *.
فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه، ومن محمد (ص)
ومن أبيه وأمه اللذين ولداه.
لانه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما
أعطاه الله تعالى في الجنة، ولا سمح له أبواه بذلك، ولانه
تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لابيه ما غفر له ذلك، فإن الرجل
يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة، وبموازنة حسناته
لسيئاته، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه.
وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط، ولو أراد به خيرا
لاماته سقطا، فمن قال: إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد
ووصف ربه تعالى بغاية النقص، ومن قال: إن الله تعالى أراد
الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول: اللهم لا ترد بنا من الخير ما
أردته بفرعون، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده
بفرعون.
فإن شغب مشغب فقال: إنك الآن تصف محمدا (ص) بأنه أراد غير ما
أراد الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق: وهذه شغبية ضعيفة
كالتي قبلها.
(1/81)
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال
ربنا عز وجل من أن محمدا (ص) أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله
تعالى أن يهديهم، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما
أراد نبيه عليه السلام، عيب على نبيه عليه السلام لانه إنما
يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط،
لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا
بالنكاح والاولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه
قط، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه، ولو
أراد أن يغنيه لكان قادرا عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن
تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت، بل نهينا عن ذلك فقد
أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين، ولو
أردنا نحن ذلك لفسقنا، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به
والانتهاء عما نهينا عنه، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل
الالحاد: أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل، وهذا كفر
عندنا، لان الله تعالى لا يشبهه شئ، فلا يروم التشبه به إلا
كافر ملحد.
وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان، فإن احتج بعض من
يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الامر بقصة موسى والخضر عليهما
السلام فلا سواء، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك
القصة يلزمه التقصير إن لم يأته، وإنما سأله ناسيا والنسيان
مرفوع، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا، لان
الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول
منهم، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء، وقد كان كافيه لان
ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر.
واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل، وأنه تعالى أخر عنهم بيان
الصفات التي زادهم بعد ذلك.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان تلك الصفات إنما هي زيادات
شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم، ولو ذبحوا في أول ما
أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لاجزت عنهم، لكنهم لما
زادوا سؤالا زيدوا شرعا، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى
على لسان نبيه (ص)، إذ يقول: إن من أعظم الناس
(1/82)
جرما في الاسلام من سأل عن شئ لم يحرم فحرم
من أجل مسألته.
وفي قوله عليه السلام: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم
واختلافهم على أنبيائهم.
ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل: * (يأيها الذين آمنوا لا
تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل
القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ قد سألها قوم
من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *) * فأخبر تعالى بنص ما قلنا
وله الحمد، وبين لنا أن الاشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل
عنها، فإذا سألنا عنها لزمتنا، ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك، وكل
ذلك قد سبق في علمه عز وجل.
وأما تأخر نزول: * (يأيها الذين سبقب لهم منا أولئك عنها
مبعدون في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي (ص) في تلاوة
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فقال:
نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى، فهم في جهنم معنا،
فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الاولى وقد كان له
فيها كفاية له عقل، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره
تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى: ثم نقول للملائكة أهؤلاء
إياكم كانوا يعبدون) * فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين
المقدسين أنهم قالوا: * (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل
كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم
مؤمنون) * فليس قول القائل: أنا أعبد الملائكة، ولا قول
النصارى: نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم، لان العبادة إنما هي
الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية، وإنما يعبد المرء من
ينقاد له، ومن يتبع أمره، وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له
وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده.
(1/83)
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة
في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم
لامرهم واتباعهم إغواءهم، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه
السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل، وبأن يقولوا: إننا
لا نعبد شيئا من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب
وهذا عين الكذب، وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى: *
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم
فقال قائل: يا رسول الله ما كنا نعبدهم، فأخبرهم عليه السلام
أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا، وتحليل ما أحلوا، فقد
اتخذوهم أربابا، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا
أنه كله من عند الله عز وجل، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا.
قال الله عز وجل: * (وما ينطق عن ا لهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى)
*.
فإن قال قائل: فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟
قيل له: نعم، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن
عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول (ص) لقد
عبدناه.
قيل له وبالله تعالى التوفيق: إن طاعة الرسول (ص) توجب ألا
يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له،
وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده، وهذه معان شرعية
لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط، وأما من ادعى بيان كون
أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم،
فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح، وكذلك
القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد
المطلب هم ذو القربى، دون بني عبد شمس وبني نوفل، نزل متأخرا
عن الآية دعوى لا تصح أصلا.
فإن قال قائل: فإن عثمان رضي الله عنه، وجبير بن مطعم جهلا
هذا، قيل له: نعم، وما في هذا علينا من الحجة، ومتى منعنا أن
يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والاكثر منهم فهم آية أو
آيات من القرآن.
وقد كان في قسمة رسول الله (ص) لبني المطلب دونهما ما يكفي،
لانهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله (ص) لا يمنع ذا حق
حقه، ولا يعطي أحدا غير حقه، فكان
(1/84)
في هذا كفاية، لانه لو كان لبني عبد شمس،
وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله (ص)،
ولو كان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي
(ص) حقا ليس لهم، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم
السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما
منه، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس
وبني نوفل، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الاختين
بملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأخبر رضي الله عنه
أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني
من الاخرى، ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشئ حراما حلالا
في وقت واحد، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له
أن يفعله، فيفعل ولا يفعل، وهذا محال ظاهر الامتناع، ومن بلغ
ههنا كفانا نفسه، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في
استثنائها من التمر بالرطب، وبالله تعالى التوفيق.
الباب العاشر في الاخذ بموجب القرآن
قال علي: ولما تبين بالبراهين والمعجزات، أن القرآن هو عهد
الله إلينا والذي ألزمنا الاقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل
الكافة الذي لا مجال للشك فيه، أن هذا القرآن هو المكتوب في
المصاحف، المشهورة في الآفاق كلها، وجب الانقياد لما فيه فكان
هو الاصل المرجوع إليه، لاننا وجدنا فيه ما رطنا في الكتاب من
شئ فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده، وسنذكر إن
شاء الله تعالى في باب الاخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في
بناء آي القرآن خاصها مع عامها، وبناء السنن عليها، وسنذكر إن
شاء الله تعالى في باب الاوامر والنواهي، كيف العمل في حمل
أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر، والوجوب، والفور، ونذكر إن
شاء تعالى في باب العموم والخصوص، ما يقتضيه ذلك
(1/85)
الباب من أخذ آي القرآن على عمومها، ونوعب
الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله
التوفيق.
قال علي: ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من
أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الاخذ
بما في القرآن، وأنه هو المتلو عندنا نفسه، وإنما خالف في ذلك
قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل
الاسلام، وليس كلامنا مع هؤلاء، وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع
أهل ملتنا، إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل
وبالله تعالى التوفيق.
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الاجماع من هذا الكتاب
(1/86)
بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي
نزل بها القرآن باقية عندنا كلها، وبطلان قول من ظن أن عثمان
رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض
الاحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق.
الباب الحادي عشر في الكلام في الاخبار وهي السنن المنقولة عن
رسول الله (ص) وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف
الواقع بين الائمة في صدر هذه الامة.
قال علي: لما بينا أن القرآن هو الاصل المرجوع إليه في الشرائع
نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله (ص)،
ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله (ص): * (وما ينطق عن
الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من
الله عز وجل إلى رسوله (ص) على قسمين: أحدهما وحي متلو مؤلف
تأليفا معجز النظام وهو القرآن، والثاني: وحي مروي منقول غير
مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد
عن رسول الله (ص) وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا.
قال الله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ووجدناه تعالى
قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الاول الذي
هو القرآن ولا فرق فقال تعالى: * أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
كانت الاخبار التي ذكرنا أحد الاصول الثلاثة التي ألزمنا
طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها، وهي
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا اللله
* فهذا أصل، وهو القرآن.
ثم قال تعالى: وأطيعوا الرسول) فهذا ثان وهو الخبر عن رسول
الله (ص)، ثم قال تعالى: وأولى الامر منكم فهذا ثالث وهو
الاجماع المنقول إلى رسول الله (ص) حكمه، وصح لنا بنص القرآن،
أن الاخبار هي أحد الاصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال
تعالى: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر
(1/87)
قال علي: والبرهان على أن المراد بهذا الرد
إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله (ص) لان الامة مجمعة
على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في
جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس، كتوجهه إلى من كان على
عهد رسول الله (ص)، وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا
فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله (ص)،
وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن
لقاء رسول الله (ص) لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل، إذ لا
سبيل لاحد إلى مكالمته تعالى، فبطل هذا الظن، وصح أن المراد
بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله
تعالى، وهو القرآن وإلى كلام نبيه (ص) المنقول على مرور الدهر
إلينا جيل بعد جيل.
قال علي: وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة
أصلا، ولا دليل عليه، وإنما فيه الامر بالرد فقط، ومعلوم
بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم، وأوامر الله تعالى وأوامر
رسوله (ص) موجودة عندنا، منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص
الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر.
قال علي: والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض.
وهما شئ واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد في
باب وجوب الطاعة لهما لما قد مناه آنفا في صدر هذا الباب قال
تعالى: * (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه
وأنتم تسمعون ئ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)
* فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الاقرار بالطاعة لرسول
الله (ص)، بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه، وهذه صفة المقلدين
فإنهم يقولون طاعة رسول الله (ص) واجبة، فإذا أتاهم أمر من
أوامره يقروه
بصحته، لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون، نعوذ بالله من
ذلك.
وقال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقال
تعالى * (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما
ينذرون) * فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه (ص) كله وحي،
والوحي بلا خوف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن.
(1/88)
فصح بذلك أن كلامه (ص) كله محفوظ بحفظ الله
عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شئ، إذ ما حفظ الله تعالى
فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شئ فهو منقول إلينا كله.
فلله الحجة علينا أبدا، وقال تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شئ
فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) * فوجدنا
الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه (ص) على ما قدمنا آنفا، فلم
يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن
والخبر على رسول الله (ص) ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل
ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلا للخروج
عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما، فهو كافر شك عندنا في ذلك.
وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول:
من بلغه عن رسول الله (ص) خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو
كافر، ولم نحتج في هذا بإسحاق، وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل
أننا منفردون بهذا القول، وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل
خلاف ما صح عنده عن رسول الله (ص) بقول الله تعالى مخاطبا
لنبيه (ص): * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
قال علي: هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر،
وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه، ووصيته عز وجل الواردة
عليه، فليفتش الانسان نفسه، فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول
الله (ص) في كل خبر
يصححه مما قد بلغه، أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول
الله (ص)، ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان، أو قياسه
واستحسانه، وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله
(ص) متى صاحت فمن دونه، فليعلم أن الله تعالى قد أقسم، وقوله
الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى، وإذا لم يكن مؤمنا فهو
كافر، ولا سبيل إلى قسم ثالث.
وليعلم أن كل من قلد، من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة
والشافعي وسفيان والاوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون
منه في الدنيا
(1/89)
والآخرة، ويوم يقوم الاشهاد، اللهم إنك
تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك - الذي صليت عليه
وسلمت - في كل شئ مما شجر بيننا، وفي كل ما تنازعنا فيه،
واختلفنا في حكمه، وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به
نبيك، ولو أسخطنا بذلك جميع من في الارض وخالفناهم، وصرنا
دونهم حزبا وعليهم حربا، وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه،
مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ، عاصون لكل من خالف ذلك،
موقنون أنه على خطأ عندك، وأنا على صواب لديك.
اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه، وأسألك اللهم
بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن
مستمسكون بها إلى دار الجزاء، آمين...بمنك يا أرحم الراحمين.
قال علي: وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من
عنده، وأن القرآن وحي من عنده، وأيضا فقد قال فيه عز وجل: *
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) * فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث
الصحيح متفقان، هما شئ واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف، يوفق
الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده، ويحرمه من شاء لا إله
إلا هو، كما يؤتي
الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة
وبعد الفهم والكسل من شاء، نسأل الله من هبته ما يقرب منه
ويزلف لديه آمين.
وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض، أو ضرب
الحديث الصحيح بعضه ببعض، أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض
وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله، فسنجمع في كل
ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب، والتأليف في كل ما
ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم، ونبين بحول الله
وقوته أن كل ذلك شئ واحد لا اختلاف فيه، وأن يختر منا قبل ذلك،
فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك، لا إله إلا هو،
(1/90)
وقال تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى
فريق منهم وهم معرضون) * وقال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا
إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)
*.
قال علي بن أحمد: فليتق الله - الذي إليه المعاد - امرؤ على
نفسه، ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن
يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة
الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة
وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها، فدعاه خصمه إلى ما أنزل
الله تعالى، وإلى كلام الرسول، فصده عنهما ودعاه إلى قياس، أو
إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا.
نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة.
فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الاجل وانقطاع المهل، قال
تعالى: من يطتع الرسول فقد أطاع الله، وقال تعالى: * (وما
أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة
لقوم يؤمنون) * فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى
وكلام نبيه (ص)، وقال عز وجل: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)
*.
قال علي: هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا
اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله (ص)، وأنه من خير
نفسه في التزام أو ترك، أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول
الله (ص) فقد عصى الله بنص هذه الآية، فقد ضل ضلالا مبينا، وأن
المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول، وقال تعالى: * (وما
أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله وقال تعالى: وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال تعالى فليحذر الذين
يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبيهم عذاب إليهم قال علي:
ومن جاءه خبر عن رسول الله (ص) يقر أنه صحيح، وأن الحجة تقوم
بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في
هذا المكان لقياس، أو لقول فلان وفلان، فقد خالف أمر الله وأمر
رسوله واستحق الفتنة والعذاب الاليم.
(1/91)
قال علي: أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة
أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم
فتنة، ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة
والاقلاع، والطاعة لما أتاه من نبيه (ص) ورفض قبول قول من دونه
كائنا من كان، وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى: * (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى
فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ئ وإذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ئ وإن يكن لهم
الحق يأتوا إليه مذعنين ئ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون
أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ئ إنما كان
قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا
سمعنا وأطعنا
وأولئك هم المفلحون ئ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه
فأولئك هم الفائزون ئ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم
ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ئ قل
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل
وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ
المبين) * قال علي: هذه الآيات محكمات لم تدع لاحد علقة يشغب
بها، قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون: نحن
المؤمنون بالله وبالرسول، ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة
منهم بعد هذا الاقرار، فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل
ورسوله (ص)، أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين،
وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول (ص) يخالف كل
ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فمن قائل: ليس عليه العمل،
ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا متروك، ومن قائل: أبى هذا
فلان، ومن قائل: القياس غير هذا، حتى إذا وجدوا في الحديث أو
القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار، وأتوا إليه
مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا، فيا ويلهم ما بالهم، أفي
قلوبهم مرض وريب ؟ أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله (ص) ؟
ألا إنهم هم الظالمون كما ثم بين تعالى أن قول المؤمنين سماهم
الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين إذا دعوا إلى كتاب الله
تعالى، وكلام نبيه (ص)،
(1/92)
ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذا
جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى - وقوله الحق -
أنهم مؤمنون، وأنهم مفلحون، وأنهم هم الفائزون، اللهم فثبتنا
فيهم، ولا تخالف بنا عنهم، واكتبنا في عدادهم، واحشرنا في
سوادهم، آمين رب العالمين.
ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا، وبما يميزونه
من أنفسهم
بظاهر أحوالهم وباطنها، من أنهم يقولون: نسمع لله ولرسوله (ص)
ويقسمون على ذلك، فقال لهم تعالى: لا تقسموا، ولكن أطيعوا، أن
حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم، وقول كل
قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله (ص).
ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله (ص) غير ما حمله ربه
وهو التبليغ والتبيين، وقد فعل (ص) ذلك، وأخبرنا تعالى أن
علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله (ص)
والعمل بذلك، لا لما أمرنا به من دونه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم،
فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد، ولم يدع
لاحد متعلقا، وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن، وما
توفيقنا إلا بالله عز وجل، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل: فيه أقسام الاخبار عن الله تعالى قال أبو محمد: جاء النص
ثم لم يختلف فيه مسلمان - في أن ما صح عن رسول الله (ص) أنه
قال، ففرض اتباعه، وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن،
وبيان لمجمله، ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة
الخبر عنه عليه السلام بعد الاجماع المتيقن المقطوع به على ما
ذكرنا، وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول فنظرنا في ذلك فوجدنا الاخبار تنقسم قسمين: خبر
تواتر، وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي (ص) وهذا
خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الاخذ به، وفي أنه حق مقطوع على
غيبه، لان بمثله
(1/93)
عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد (ص)
وبه علمنا صحة مبعث النبي
(ص) وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات، وأشياء كثيرة من
أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره، وقد
تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته،
وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأن به عرفنا
ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الانبياء والعلماء
والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف.
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الاول ولا
فرق.
ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله،
ولا أنه مولود من امرأة.
قال علي: وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي
ذكرنا، فطائفة قالت: لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق
والمغرب، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن.
وقالت طائفة: لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، عدد أهل
بدر، وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين.
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسين، عدد القسامة، وقالت طائفة
لا يقبل إلا من أربعين لانه العدد الذي لما بلغه المسلمون
أظهروا الدين، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من عشرين، وقالت
طائفة: لا يقبل إلا من اثني عشر، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من
خمسة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة: لا يقبل
إلا من ثلاثة، لقول رسول الله (ص) حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى
من قومه إنه قد نزل به جائحة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من
اثنين.
قال علي: وهذه كلها أقوال بلا برهان، وما كان هكذا فقد سقط.
ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشئ من هذه الحدود على
أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه، فإنه لا سبيل
له البتة إلى أن يكون شئ منها صح عنده بالعدد الذي شرط كل واحد
من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله.
وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه،
فحصل من كل قول
منها بطلان كل خبر جملة، ولا نحاشي شيئا لانه وإن سمع هو بعض
الاخبار من العدد الذي شرط، فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما
فوق ذلك.
وكل قول أدى
(1/94)
إلى الباطل فهو باطل بلا شك، وبالله تعالى
التوفيق، فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا.
قال علي: ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار، فنقول
وبالله تعالى التوفيق: لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا
لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين، أو
عدد لا نحصيهم، وإن كان في ذاته محصي ذاعدد محدود، أو أهل
المشرق والمغرب، ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا
بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة، ولا بد من أن
يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم
يكن متواترا، وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل.
فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة، فنقول لهم: ما تقولون إن سقط
من هذا الحد الذي حددتم واحد، أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك
الخبر أم لا يبطله ؟ فإن قال: يبطله، تحكم بلا برهان، وكل قول
بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط، فإن قال بقبوله أسقطنا
له آخر ثم آخر، حتى يبلغ إلى واحد فقط، وإن حد عددا سئل عن
الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة.
وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله
تسعة عشر، ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون، وليس
ذكر هذه الاعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الاحوال وفي
بعض الاخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الاخبار، وقد ذكر
تعالى في القرآن أعدادا غير هذه، فذكر تعالى الواحد والاثنين
والثلاثة والاربعة والمائة ألف وغير ذلك، ولا فرق بين ما تعلق
بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها، ولم يأت من هذه الاعداد
في القرآن شئ في باب قبول الاخبار ولا في قيام حجة بهم، فصارف
ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه، وإن
قال: لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد - كان قد
ترك مذهبه الفاسد، ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك
العدد، وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا، فإن نظروا هذا بما
يمكن حده من الاشياء كانوا مدعين بلا دليل، ومشبهين بلا برهان،
وحكم كل شئ يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها، إلا
ما أصبح إجماع أو نص
(1/95)
أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده، وقد قال
بعضهم: لا يقبل من الاخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها
العدد.
قال أبو محمد: وهذا قول من غمره الجهل، لانه ليس هذا موجدا في
العالم أصلا، وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن،
وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك، فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول
جميع الاخبار جملة وسقط كون النبي (ص) في العالم وهذا كفر.
وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الاخبار بأقل من
نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته، وهو أن لا يصح
عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا، وألا يصح عندهم كل
أمر حصره عدد من الناس، وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب،
فتبطل الاخبار كلها ضرورة على حكم هذه الاقوال الفاسدة، وهم
يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل
وولاية واغتفال منزل، وخروج عدو شر واقع، وسائر عوارض العالم
مما لا يشهده الا النفر اليسير، ومن خالف هذا فقد كابر عقله
ولم يصح عنده شئ مما ذكرنا أبدا، لا سيما إن كان ساكنا في قرية
ليس فيها إلا عدد يسير، مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق
والمغرب.
قال علي: فإن سألنا سائل، فقال: ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة
؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول: إن الواحد من غير
الانبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام - قد يجوز عليه
تعمد الكذب، يعلم ذلك بضرورة الحس، وقد يجوز على جماعة كثيرة
أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا.
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم، بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب
بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك.
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك، وقد تيقنا أنهما لم
يلتقيا، ولا دسسا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به، ولا رهبة
منه، ولم يعلم أحدهما
(1/96)
بالآخر، فحدث كل واحد منهما مفترقا عن
صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله،
وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن
مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى
تصديقه ويقطع على غيبه.
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من
أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة
وغير ذلك، وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته
يمر به، ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر
عليه، يعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا
يلتقيان، وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من
الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا، وقد يقع في الندرة
التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة،
والكلمتين نحو ذلك.
والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت، شاهدنا ذلك مرتين من
عمرنا فقط.
وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت
كامل واحد،
ولست أعلم ذلك صحيحا.
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل، فاتفاقهما في قصيدة
بل في بيتين فصاعدا.
والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما، والذي ذكره
المتكلمون في الاشعار من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن
خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات، فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا
ولا تتصل.
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض.
قال علي: وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره
ليس بمطرد، ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ.
وقد بينا ذلك في كتاب الفضل.
قال علي: فهذا قسم.
قال علي: القسم الثاني من الاخبار ما نقله الواحد عن الواحد،
فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله (ص) وجب العمل به،
ووجب العلم بصحته أيضا، وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره
إن شاء الله تعالى، وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي، والحسين
بن علي الكرابيسي.
وقد قال به أبو سليمان، وذكره ابن خويز
(1/97)
منداد عن مالك بن أنس، والبرهان على صحة
وجوب قبوله قول الله عز وجل: الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم لعلهم يحذرون) * فأوجب الله تعالى على كل فرقة نذارة
النافر منها بأمره بالنفقة وبالنذارة، ومن أمره الله تعالى
بالتفقه في الدين وإنذار قومه، فقد انطوى في هذا الامر إيجاب
قبول نذارته على من أمره بإنذارهم.
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا،
وطائفة من الشئ بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه،
وإنما حد من حد في قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين) أنهم أربعة لدليل ادعاه، وكان بذلك ناقضا لمعهود
اللغة، ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع
إلا على أربعة.
وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف
من معنى الطائفة، فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي.
وبرهان آخر، وهو أن رسول الله (ص) بعث رسولا إلى كل ملك من
ملوك الارض المجاورين لبلاد العرب، وقد اعترض بعض من يخالفنا
في ذلك بأن قال: إن الرفاق والتجار، وردوا بأمر النبي (ص) فلم
يقتصر بذلك على الرسول وحده.
قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف، ونحن لا
نشك أن النبي (ص) لم يقتصر بالرسل المذكورين على الاخبار
بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار، بل أمرهم
بتعليم من أسلم شرائع الاسلام ومسائل العبادات والاحكام، ليس
من شئ من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار، وبعثه هؤلاء
الرسل مشهورة بلا خوف، منقولة نقل الكواف.
فقد ألزم النبي (ص) كل ملك.
ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم.
قال علي: وكذلك بعث رسول الله (ص) معاذا إلى الجند
(1/98)
وجهات من اليمن.
وأبا موسى إلى جهة أخرى، وهي زبيد وغيرها، وأبا بكر على الموسم
مقيما للناس حجهم، وأبا عبيدة إلى نجران، وعليا قاضيا إلى
اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما، معلما لهم شرائع الاسلام،
وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت، بعدت منه أو قربت، كأقصى
اليمن والبحرين وسائر الجهات والاحياء والقبائل التي أسلمت،
بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم، ومعلما لهم القرآن،
ومفتيا لهم في أحكام دينهم، وقاضيا فيما وقع بينهم، وناقلا
إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله (ص) وهم مأمورون بقبول
ما يخبرونهم به على نبيهم (ص).
وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن، لا
يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين، ولا في أن بعثهم
إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم
رسول الله (ص) من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه، ومن لا يلزمهم
قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في
الشريعة، ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك
عن رسول الله (ص)، إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا، ولكان
عليه السلام قائلا للمسلمين: بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن
تقبلوا منه ما بلغكم عني، ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل
إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني، ومن قال بهذا فقد
فارق الاسلام.
وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرئ واحد، أو محدث
واحد، أو مفت واحد، فنقول لمن خالفنا: ماذا تقولون ؟ أيلزمه
إذا قرأ القرآن على ذلك المقرئ أن يؤمن بما أقرأه، وأن يصدق
بأنه كلام الله تعالى، ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك، ولا يصدق
بأنه كلام الله عز وجل ؟ فإن قالوا: يلزمه الاقرار بأنه كلام
الله تعالى.
قلنا: صدقتم، فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر
السنن، وكلاهما من عند الله تعالى، وكلاهما فرض قبوله ؟ وإن
قالوا: عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف، أتوا بعظيمة في الدين
ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة، فلابد
لهم من حد يقفون عنده من العدد، فيكون قولهم سخريا وباطلا،
ودعوى بلا برهان،
(1/99)
أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم
قبول القرآن والدين إلا به، وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة،
والمنع من اعتمادهما، ونعوذ بالله من هذا، وهكذا القول في وجوب
طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ
ذلك إلى غيره، ولانها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك
الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة، لكن يبلغ ويبلغ من بلغه
هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لاولئك الرسل.
وقال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا
أن تصيببوا قوما بجهالة الآية.
قال أبو محمد: لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا
أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقا فقد أمرنا
بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم
يبق إلا العدل.
فكان هو المأمور بقبول نذارته.
قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للاشكال
والشك جملة.
وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام
المعروف بالتقريب قال علي: وقد توهم من لا يعلم أنا إنما
أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى: ا إن جاءكم فاسق بنبإ
فتبينوا أن تصيببوا فقط.
قال أبو محمد: وقد أغفل من تأول علينا ذلك، ولو لم تكن إلا هذه
الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على
المنع من قبوله، بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان
يبقى خبر العدل موقوفا على دليله، ولكن لما استفاضت هذه الآية
التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول
نذارة النافر للتفقه، صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد
العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها، وأوجب
على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى: * (وما كان المؤمنون
لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)
(1/100)
فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة -
والطائفة في اللغة تقع على بعض الشئ
كما قدمنا - ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو
دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الاسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم
الشرائع لكان لازما لهم قبوله، ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة.
وكذلك لو بعث الخليفة أو الامير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر،
أو إلى أمة من أمم الكفر، ويدعوهم إلى الاسلام ويعلمهم القرآن
وشرائع الدين، ولا فرق.
وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن
بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا.
نعم أنت رسول رسول الله (ص) وعقد الايمان حق عندنا.
ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة
وسائر الديانة عن النبي (ص) وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه
السلام، فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك، لان الكذب جائز عليك،
ومتوهم منك، حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر.
بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين.
وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله (ص) إنما بعث من بعث من
رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن، والسنن وشرائع
الدين، وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم
يأت هو به عن الله تعالى، فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن
الثقة مبلغا إلى رسول الله (ص) من قرآن أو سنة ففرض قبوله،
والاقرار به والتصديق به، واعتقاده والتدين به، وأن كل ما صح
عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي (ص)
أو من فتيا لم تسند إليه (ص)، فلا يحل قبول شئ من ذلك لانه لم
يوجبه الله تعالى ولا رسوله (ص)، وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد
الواحد من الصحابة والتابعين، وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم،
ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم، لكن فضلهم معف على كل
خطأ كان منهم، وراجح به، وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى
التوفيق.
وبرهان آخر: وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة
أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم، ولا من أحد
من التابعين الذين كانوا في عصرهم، على أن كل أحد منهم كان إذا
نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها
(1/101)
وأخذ بقوله فيها، وإنما كانوا يسألونه عما
أوجبه النبي (ص) عن الله تعالى في الدين في هذه القصة، ولم
يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى،
وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا، ولا خلاف بين
مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن
نازلة في الدين، فإنه لم يقل له قط: لا يجوز لك أن تعمل بما
أخبرتك به عن رسول الله (ص) حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا
لهم فيما أخبروا به: أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله.
فإن قيل: فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل، قلنا: ليس
كذلك لانه لم يصح الاجماع قط، لا قديما ولا حديثا على قبول
المرسل، بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره، يسألون من
أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي (ص)، وإنما سقط ذلك
عمن ليس في قوته فهم الاسناد ومعرفته فقط، وقد قال الزهري لاهل
الشام: ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة، فصاروا حينئذ
إلى قوله، وغير الزهري أيضا كثير.
فصح بهذا إجماع الامة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي
(ص)، وأيضا فإن جميع أهل الاسلام كانوا على قبول خبر الواحد
الثقة عن النبي (ص)، يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة
والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة
من التاريخ فخالفوا الاجماع في ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد
يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل
علم.
وبرهان آخر: وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن
منهم،
ولا خلاف بين كل ذي علم بشئ من أخبار الدنيا، مؤمنهم وكافرهم،
أن النبي (ص) كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في
المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وأنه عليه
السلام كان يفتي بالفتيا، ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط،
وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من
حضره وهم واحد واثنان، وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم
بالتواطؤ عند
(1/102)
خصومنا، فإذ جميع الشرائع إلا الاقل منها
راجعة إلى هذه الصفة من النقل، وقد صح الاجماع من الصدر الاول
كلهم، نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد، لانها كلها راجعة
إليه وإلى ما كان في معناه، وهذا برهان ضروري، وبالله تعالى
التوفيق.
وبالضرورة نعلم أن النبي (ص) لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا
حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة، هذا ما لا شك فيه،
لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته، ويرى أن الحجة بمن
يحضره قائما على من غاب، هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم،
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول
الله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم قال أبو محمد: وهذه
الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة، لانا لم نقف ما ليس لنا
به علم، بل ما قد صح لنا به العلم، وقام البرهان على وجوب
قبوله، وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به، فسقط اعتراضهم بهذه
الآية، والحمد لله رب العالمين.
وقال بعضهم: أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في
إثبات الشرائع ؟ قال أبو محمد: هذا السؤال لا يلزمنا، لاننا لا
نقيس شريعة على شريعة، ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في
القرآن والسنن، فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في
العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به، وصح
الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به، وصح الخبر
بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به، وصح الخبر
والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا
به، وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به، ولم نعارض شريعة
بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز وجل، ونحن وهم نقبل في إباحة
الدم الحرام من المسلم الفاضل، والفرج الحرام من المسلمة
الفاضلة، والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف، وفي قطع
اليد والرجل رجلين، ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من
زنى الامة، لا على مؤمنة ولا على كافر، فأين هم عن هذا
الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى
عليهم إذ يقول: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *.
وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من
أهل القول،
(1/103)
بقبول السنن من طرق الآحاد: إن الخبر إذا
كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد، ومثل ذلك
بعضهم بالآثار المروية في الاذان والاقامة، وقال: إن الاذان
والاقامة كانا بالمدينة بحضرة الائمة من الصحابة رضي الله عنهم
خمس مرات كل يوم، فهذا مما تعظم به البلوى، فمحال أن يعرف حكمه
الواحد، ويجهله الجماعة، ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من
مس الذكر.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد متناقض، أول ذلك أن الدين كله
تعظم به البلوى، ويلزم للناس معرفته، وليس هذا ما وقع في الدهر
مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في
كل يوم، ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم،
ويقال له في الاذان الذي ذكر: لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة
بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم، وبين أذان
المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم، وليست
نسبة
الرضا بتبديل الاذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى
عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه.
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى
بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس، وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط
ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون، ولا البلوى أيضا بذلك أعظم
من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة، ومن إيجاب
التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون، ولا يعرف ذلك الحنفيون،
ومثل هذا كثير جدا، فإن قالوا: أوجبنا ذلك بالقرآن.
قيل لهم: قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه، فما رأوا فيه ما
ذكرتم مع عظيم البلوى به، وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب
السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما
الحجة في السنة.
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به
البلوى به،
(1/104)
ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في
كل يوم وليلة، وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس،
والامر في قبض رسول الله (ص) لها من مجوس هجر عاما بعد عام،
وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس، ولم تكن فضلة
قليلة، بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله (ص) مال أكثر منه
على قلة المال هناك حينئذ، وخفي على عمر وابن عمر أيضا الوضوء
من المذي، وهو مما تعظم البلوى به، وهذا كثير جدا، ويكفي من
هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل، وما كان هكذا فهو
باطل مطرح قال عز وجل: * قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ولا
يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق
الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة، وبالله تعالى التوفيق.
وقال أيضا بعض الحنفيين: ما كان من الاخبار زائدا على ما في
القرآن
أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى
يأتي به التواتر.
قال أبو محمد: وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان،
وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به، ونقول لهم: أيجوز
الاخذ بشئ من أخبار الآحاد في شئ من الشريعة أم لا ؟ فإن
قالوا: لا، كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن
مذهبهم أيضا، وإن قالوا: نعم، وهو قولهم.
قلنا لهم: من أين جوزتم أن يخبر عن النبي (ص) به، وأن يشرع به
في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم
والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه، ثم منعتم من قوله
حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له، فلا سبيل إلى
فرق أصلا، وأما قولهم: مخالف الاصول، فكلام فاسد فارغ من
المعنى واقع على ما لا يعقل، لان خبر الواحد الثقة المسند أصل
من أصول الدين، وليس سائر الاصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن
تتنافى أصول الدين، حاشا لله من هذا.
ثم نقول: اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله (ص) رواية صحيحة
مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن، أو أتي بما في
نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه.
والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين: إما جاء
(1/105)
بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في
الوضوء، وكرجم المحصن، ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان
للمسافر، ومن إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة، ومن الوضوء
بالنبيذ، ومن القلس والقئ والرعاف، وكتخصيص ظاهر القرآن، كعدد
ما لا يقطع السارق في أقل منه، وما لا يحرم من الرضاع أقل منه
فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن، ومثله ما بين مجمل
القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو
زائد حكم على ما في القرآن.
فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث
اشتهيتم، ومنعتم منه حيث اشتهيتم، وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما
وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال، وفي كل موضع
إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده،
وأما بالآراء المضلة والاهواء السخيفة فلا، على أنهم آخذ الناس
بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من
القهقهة وسائر تلك الاخبار الفاسدة، وتأملوا ما نقول لكم: قد
أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله (ص) من نسخ للقرآن
أو زيادة عليه، واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله
مسندا حجة في الدين، ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ
بالله من الخذلان، وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر الواحد، وهذا حجة على من
قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد، وإن خالف من قلده من بعض
من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله (ص)
وبالله تعالى التوفيق.
ومن البرهان في قبول خبر الواحد: خبر الله تعالى عن موسى عليه
السلام أنه قال له رجل: إن الملا يأ تمرون بك ليقتلوك فصدقه
وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها: إن أبى يدعوك ليجز يك أجر
ما سيقت لنا) فمضى معها وصدقها، وبالله تعالى التوفيق.
(1/106)
فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع
العمل أو العمل دون العلم ؟ قال أبو محمد: قال أبو سليمان
والحسين، عن أبي علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي
وغيرهم، أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله (ص)
يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول: وقد ذكر هذا القول أحمد بن
إسحاق المعروف بابن خويز منداد، عن مالك بن أنس.
وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة
والخوارج: إن خبر الواحد لا يوجب العلم، ومعنى هذا عند جميعهم
أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه، واتفقوا كلهم في هذا،
وسوى بعضهم بين المسند والمرسل.
وقال بعضهم: لمرسل لا يوجب علما ولا عملا، وقد يمكن أن يكون
حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به،
قالوا: ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين
الله عز وجل، ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله
(ص)، ولا يسع أحدا أن يدين به، وقال سائر من ذكرنا: إنه يوجب
العمل، واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز
الكذب وتعمده وإمكان السهو فيه، وإن لم يتعمد الكذب.
وقال أبو بكر بن كيسان الاصم البصري: لو أن مائة خبر مجموعة قد
ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو -
قال: فإن الواجب التوقف عن جميعها، فكيف وكل خبر منها لا يقطع
على أنه حق متيقن، ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط.
قال أبو محمد: أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه
يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا، إلا أن يأتي برهان حسي
ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله
تعالى قد برأ بعض الاخبار من ذلك، فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه
الكذب والوهم، وقد وافقنا المعتزلة - وكل من يخالفنا في هذا
المكان - على أن خبر النبي (ص) في الشريعة لا يجوز فيه الكذب
ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك.
(1/107)
وقال أصحاب القياس: إن إجماع الامة على
القياس معصوم من الخطأ بخلاف
إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك، وكما أجمعتم معنا
على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها، وخروج ما قذفت به عن
الامكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا، وقد ادعى
الروافد منكم هذا في خبر الامام، فإن وجدنا نحن برهانا على أن
خبر الواحد المتصل إلى رسول الله (ص) في أحكام الشريعة لا يجوز
عليه الكذب ولا الوهم، فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي
(ص) في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم، وإن لم نجد برهانا
على ذلك فهو قولهم، وقد صح البرهان بذلك، ولله الحمد على ما
نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما قول ابن كيسان فباطل لانه دعوى بلا دليل، بل الواجب حينئذ
البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب، وإلا فالعمل
واجب، لان الاصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ،
وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في
الخبر شئ من ذلك فيترك لقول الله تعالى: أطيعوا الله الرسول
ولقوله تعالى (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) ولقوله تعالى:
(لتبين للناس ما نزل إليهم) وقد علمنا أن في القرآن آيات
منسوخة بلا شك لقوله تعالى (ما نننسخ من آية أو ننساها نات
بخير منها أو مثلها وقد اختلف العلماء فيها، فطائفة قالت في
آية إنها منسوخة وطاقة قالت: ليست منسوخة بل هي محكمة فما قال
مسلم فط لا ابلن كيسان والا غيره إن الواجب التوقف عن العمل
بشئ من القرآن من أجل ذلك، وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل
به، بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك
العمل بها.
وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق
يقينا وبين العمل بالباطل يقينا، وكلاهما لا يحل، فقد تعجل ابن
كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه، لانه ترك الحق يقينا خوف أن
يقع في خطأ
لعله لا يقع فيه، وهذا كما ترى.
(1/108)
قال علي: وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى
في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول
الله (ص) في أحكام الشريعة يوجب العلم، ولا يجوز فيه البتة
الكذب ولا الوهم، فنقول وبالله تعالى التوفيق: قال الله عز وجل
عن نبيه (ص): * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) *
وقال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقال
تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم فصح أن كلام رسول الله (ص)
كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك ولا خلاف
بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله
تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له
بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف
منه شئ أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك
لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي
مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد (ص) محفوظ بتولي
الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا
إلى انقضاء الدنيا قال تعالى ومن بلغ فإذ ذلك كذلك فبا لضروري
ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شئ قاله رسول الله (ص) في
الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا
يتميز عن أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير
محفوظ، ولكان قول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون) * كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم.
فإن قال قائل: إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذي ضمن
تعالى حفظه
لسائر الوحي الذي ليس قرآنا.
قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة من
البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله
تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فصح أن لا برهان له
على دعواه،
(1/109)
فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل
ما أنزل الله على نبيه (ص) من قرآن أو من سنة وحي يبين بها
القرآن، وأيضا فإن الله تعالى يقول: * (بالبينات والزبر
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)
* فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس.
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا
نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله (ص)
فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون
سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر
الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى
منها، فما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ
الله من هذا، وأيضا نقول لمن قال: إن خبر الواحد العدل عن مثله
مبلغا إلى النبي (ص) لا يوجب العلم، وإنما يجوز فيه الكذب
والوهم، وأنه غير مضمون الحفظ: أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون
شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله (ص) ومات وهي باقية
لازمة للمسلمين غير منسوخة، فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد
من أهل الاسلام في العالم أبدا، وهل يمكن عندكم أن يكون حكم
موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام
الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الاسلام في
العالم أبدا، أم لا يمكن عندكم شئ من هذين الوجهين ؟.
فإن قالوا: لا يمكنان أبدا، بل قد أمنا ذلك، صاروا إلى قولنا
وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله (ص)
في الديانة، فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو، وأنه يوجب
العلم ونقطع بصحته، ولا يجوز أن
يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله (ص) قط
اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا وإن قالوا: بل كل
ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الاسلام قد فسد وبطل
أكثره، واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا
لا يميزه أحد أبدا، وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله
تعالى مما لم يأمرهم به، ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما
جاء به رسول الله (ص) إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث، والذي لا
يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الاسلام، وهدم
(1/110)
للدين، وتشكيك في الشرائع.
ثم نقول لهم: أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم، فهل أمركم
الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله (ص) أو
لم يأمركم بالعمل به ؟ ولا بد من أحدهما.
فإن قالوا: لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة، وسيأتي
جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى، وإن قالوا: بل أمرنا
الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم: فقد قلتم إن الله تعالى
أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون،
وأخطأ فيه الواهمون، وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه
(ص) ما لم يأتكم به قط، وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله
(ص).
وهذا قطع بأنه عز وجل أمر بالكذب عليه، وافترض العمل بالباطل،
وبما ليس من الدين، وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله
تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم.
ثم نسألهم عما قالوا: إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله
(ص) من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد،
هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ؟ ولا بد من أحدهما، فإن
قالوا: بل هو باق علينا.
قلنا لهم: كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا
يبلغنا أبدا.
وهذا هو تحميل الاصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى
منه.
وإن قالوا: بل سقط عنا العمل به، قلنا لهم: فقد أجزتم نسخ
شرائع من شرائع الاسلام مات رسول الله (ص) وهي محكمة ثابتة
لازمة، فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها، وقد مات (ص) وهي لازمة
لنا غير منسوخة ؟ وهذا خلاف الاسلام والخروج منه جملة.
فإن قالوا: لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله (ص) وهو
لازم لنا ولم ينسخ.
قلنا لهم: فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ؟ ولم
تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله
تعالى به قط، اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى
به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط ؟ وهذا لا مخلص لهم
منه، ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها
بالباطل، وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل،
وأجاز سقوط شريعة حق، وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع
(1/111)
قد أمنا كونه ولله الحمد، وإذا صح هذا فقد
ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن قد أمنا كونه ولله الحمد
وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا
إلى رسول الله (ص) حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا.
وأيضا قال الله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقد قال
تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل
فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس نسألهم هل بين رسول الله
(ص) ما أنزل الله إليه أو لم يبين ؟ وهل بلغ ما أنزل الله إليه
أو لم يبلغ ؟ ولا بد من أحدهما، فمن قولهم إنه عليه السلام قد
بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس، وأقام به الحجة على من
بلغه، فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان: أهما باقيان عندنا
وإلى يوم القيامة ؟ أم هما
غير باقيين ؟ فإن قالوا: بل هما باقيان وإلى يوم القيامة رجعوا
إلى قولنا، وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين
مبين مما لم ينزله، مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة، وهذا هو نص
قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله (ص)
حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل.
وإن قالوا: بل هما غير باقين، دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا
من الدين قد بطل، وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع، وأن
تبيين رسول الله (ص) لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه
أبدا، وهذا هو قول الروافض بل شر منه، لان الروافض ادعت أن
حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم، وهؤلاء
أبطلوه من جميع العالم، ونعوذ بالله من كلا القولين.
وأيضا فإن الله تعالى قال: قل انما حرم ربى الفواحش ما طهر
منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحقى وان تشر كوا بالله ينزل
به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وقال تعالى: إن
يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاء هم من ربهم الهدى) *
وقال تعالى: إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وقال تعالى ذاما
لقوم قا لوا إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال تعالى:
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم
إلا تخرصون) *.
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن
مثله مبلغا إلى رسول الله (ص)، وأن نقول أمر رسول الله (ص)
بكذا، وقال عليه السلام كذا، وفعل عليه السلام كذا، وحرم القول
في دينه
(1/112)
بالظن، وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم.
فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب، أو الوهم لكنا قد أمرنا
الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم، ولكان تعالى قد أوجب
علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه، والذي هو الباطل
الذي لا يغني من الحق شيئا، والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من
عند الله تعالى، وهذا هو الكذب والافك والباطل الذي لا يحل
القول به، والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به، وبالتخرص
المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه، موجب
للعلم والعمل معا، وبالله تعالى التوفيق.
وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد، وأنه مع ذلك ظن لا
يقطع بصحة غيبه، ولا يوجب العلم - قائلا بأن الله تعالى تعبدنا
أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم، وأن نحكم في ديننا
بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين، وهذا عظيم
جدا.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا وقال تعالى ومن بينع غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه وقال تعالى ان الدين عند الله
الاسلام وما اختلف الدين أو تو الكتاب الا من بعد ما جاء هم
العلم بغيا بينهم وقال تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد
ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق بإذنه قال أبو محمد فنقول لمن جوز ان يكون
ما امر الله تعالى به نبيه عليه عليه السلام من بيان شريعة
الاسلام لنا غير محفوظ، وإنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط
بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا: أخبرونا عن إكمال الله
دينا ورضاه الاسلام لنا دينا، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا
الاسلام، أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة ؟ أم إنما
كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط ؟ أم لا للصحابة ولا لنا ؟
ولا بد من أحد هذه الوجوه.
(1/113)
فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا، كان قائل
هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم،
وأن قالوا: بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة
صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الاسلام كلها كاملة،
والنعمة بذلك علينا تامة، وأن دين الاسلام الذي ألزمنا الله
تعالى اتباعه لانه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا
يقبله الله تعالى من أحد، وأننا ولله الحمد قد هدانا الله
تعالى له، وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل،
وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله (ص) في
الدين، وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن
منه وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم، وليس ذلك
لنا ولا علينا كانوا قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى
بدعوى كاذبة، إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم
في الابد، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الاسلام غير كامل
عندنا، وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا، وألزمنا ما
لا ندري أين نجده، أو ألزمنا ما لم ينزله، وافترض علينا اتباع
ما كذبه الزنادقة والمستخفون، ووضعوه على لسان رسوله (ص)، أو
وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه (ص) وهذا بيقين ليس هو دين
الاسلام، بل هو إبطال الاسلام جهارا، ولو كان هذا - وقد أمنا
ولله الحمد أن يكون - لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي
أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله.
قال أبو محمد: حاشا لله من هذا، بل قد وثقنا بأن الله تعالى
صدق في قوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه وأنه تعالى قد هذا نا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه
السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه،
والعلم المتيقن الذى لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا.
قال على: وقال بعضهم إذا انقطعت به الاسباب خبر الواحد يوجب
علما ظاهرا قال أبو محمد: وهذا كلام لا يعقل، وما علمنا علما
ظاهرا غير باطن، ولا علما باطنا، غير ظاهر، بل كل علم تيقن فهو
ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه
(1/114)
معا.
وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا، لا ظاهرا ولا باطنا، بل هو ضلال
وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم: إذا جاز
عندكم أن يكون كثير من دين الاسلام قد اختلط بالباطل، فما
يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت،
لانها لم ينقلها أحد أصلا ؟ فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من
اختلاطها بما ليس منها، لان ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الامان
من كل ذلك.
وأيضا فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول
الله (ص) أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها، فإنها
سنة الله تعالى، وقد قال عز وجل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن
تجد لسنة الله تحويلا هذا نص كلامه تعالى.
وقد قال تعالى لا تبديل لكلمات الله فلو جاز أن يكون ما نقله
الثقات الذين افترض الله تعالى علينا قبول نقلهم والعمل به
القول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شئ
منه التحويل أو التبديل، لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد
لهما تبديل ولا تحويل كذبا، ولكانت كلماته كذبا، وهذا ما لا
يجيزه مسلم أصلا، فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله
تعالى من الدين لرسوله (ص).
وسنها رسوله عليه السلام لامته، فإنها لا يمكن في شئ منها
تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب
العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى، وقولنا ولله الحمد.
وأيضا: فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله (ص) معصوم من الله
تعالى في البلاغ في الشريعة، وعلى تكفير من قال ليس معصوما في
تبليغه الشريعة إلينا.
فنقول لهم: اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى
لرسوله (ص) في تبليغه الشريعة التي بعث بها ؟ أهي له عليه
السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط ؟ أم هي باقية لما أتى به
عليه السلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة ؟ فإن قالوا: بل
هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من
بعدهم.
(1/115)
قلنا لهم: إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ
الدين بعد موته عليه السلام، وجوزتم وجود الداخلة والفساد
والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين، فمن أين وقع
لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام ؟ وبين ما
منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام ؟ فإن قالوا: لانه كان
يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به، ولا معصوم، والله تعالى
يقول: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل
فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم
الكافرين) * قيل لهم: نعم وهذا التبليغ المعترض عليه - والذي
هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم - هو
إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق، والدين لازم
لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ
للديانة باقية مضمونة ولابد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن
الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء.
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة
والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب ؟.
ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الاسلام دينا فمن يقبل منه قد تبين الرشد
من الغى فإن اعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول انه
عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة.
فإن قالوا: ليس هؤلاء ممن يعد في الاجماع، قلنا: صدقتم، ولا
يعد في الاجماع من قال: إن الدين غير محفوظ، وإن كثيرا من
الشرائع ا لتي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل
الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا
الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا.
فإن قالوا: بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي (ص) به من الدين
باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله
تعالى الحمد.
فإن قالوا: فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق
والكذب والخطأ، وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب
للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين، وخرق لصفات كل ذلك
وللعادة فيه.
قلنا لهم: لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا
صح البرهان بأنه فعل الله تعالى، والعجب من إنكاركم هذا مع
(1/116)
قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي (ص)
من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة، وهذا هو الذي أنكرتم
بعينه، بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في
منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل، حتى أتيتم بالباطل المحض إذ
جوزتم على جميع الامم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها، وذلك
طبيعة في الكل وصفة لهم، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما
ادعيتموه من إجماع الامة من المسلمين خاصة في اجتهادها في
القياس، وحاشا لله أن تجمع الامة على الباطل - والقياس عين
الباطل - فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما
إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون
يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق.
فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام
البرهان بإحالتها.
فإن قالوا: فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الاخبار الشرعية
التي قالها رسول الله (ص) معصومون في نقلها، وإن كل واحد منهم
معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه.
قلنا لهم: نعم هكذا نقول، وبهذا نقطع ونبت.
وكل عدل روى خبرا عن رسول الله (ص) في الدين أو فعله عليه
السلام، فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب - مقطوع بذلك عند
الله تعالى - ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد - ولا بد
- من الله تعالى ببيان ما وهم فيه، كما فعل تعالى بنبيه عليه
السلام، إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما، لقيام البراهين التي
قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها، وقد علمنا
ضرورة أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من
الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا ؟.
فإن قالوا: تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به، وقال رسول الله
(ص) إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي قلنا: ليس هذا من
الحكم في الدين بالظن في شئ بل كله باب واحد لانه تعالى حرم
علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم
يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف، وحرم علينا
أن نقول عليه في الدين والتحريم والاباحة والايجاب ما لا نعلم،
وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب
(1/117)
القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد
المؤمنين في الجنة، ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شئ من ذلك
كله.
فإن قالوا: أنتم تقولون: إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد
به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا، وبما حلف
عليه المدعى عليه، إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء
المحرمة، والفروج المحرمة، والابشار المحرمة،
والاموال المحرمة، وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن
الامر بخلاف ما شهد به الشاهد، وما حلف عليه الحالف، وهذا هو
الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا
فرق.
قلنا لهم وبالله التوفيق: بين الامرين فروق واضحة كوضوح الشمس.
أحدهما: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله، وتبينه من
الغي ومما ليس منه.
ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا، ولا بحفظ فروجنا، ولا بحفظ
أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا.
بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا.
وقد نص على ذلك رسول الله (ص) إذ يقول: إنكم تختصمون إلي وإنما
أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على
نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما
أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين: الله
يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام
في كل ذلك.
والفرق الثاني: أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف، ليس
حكما بالظن كما زعموا، بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض
علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل، وبيمين المدعى عليه
إذا لم يقم بينة، وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا، وإن
كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند
الله تعالى، وعندنا مقطوع على غيبه، برهان ذلك: أن حاكما لو
تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي، فلم يحكم للمدعى عليه
باليمين، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما.
فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل، مجرح الشهادة ظالم، سواء
كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا، أو كان
(1/118)
الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين، إذا لم
يعلم باطن أمرهم.
ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البرئ
المشهود عليه بالباطل، وأن نبيح هذ البشرة المحرمة، وهذا المال
الحرام المشهود فيه بالباطل، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من
ذلك.
وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له
تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن
نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم.
وقال تعالى: فهذا فرق في غاية البيان.
وفرق ثالث، وهو أن نقول: إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في
جميع الشريعة: قال رسول الله (ص).
وأمرنا الله تعالى بكذا، لانه تعالى يقول: * وأطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وما آتاكم الرسول فخذوه وما نها كم عنه فانتهوا
ففرض علينا أن نقول: نهانا الله تعالى ورسول (ص) عن كذا،
وأمرنا بكذا، ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول: شهد هذا بحق، ولا
حلف هذا الجانب على حق، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له
يقينا، ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد، لكن الله تعالى قال
لنا: احكموا بشهادة العدول، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم
عليه بينة، وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شئ من كل
ذلك أصلا ولله الحمد، بل بعلم قاطع، ويقين ثابت أن كل ما حكمنا
به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله (ص) فحق من عند الله
تعالى أوحى به ربنا تعالى، مضاف إلى رسول الله (ص) محكي عنه
أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من
عند الله تعالى لانه أمرنا بالحكم به، ولم يأمرنا بأن نقول
فيما شهدوا به، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى، ولا
أنه حق مقطوع به، فإن قالوا: إنما قال تعالى: إن بعض الظن إثم
ولم ولم يقل كل الظن إثم.
قلنا: قد بين الله تعالى الاثم من البر وهو أن القول عليه
تعالى بما لا نعلم حرام، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.
قال علي: فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد،
للدلائل التي ذكرنا، وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا، بل
كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم، وذلك أننا نقول لهم
أخبرونا عن الاخبار التي رواها الآحاد أهي كلها
(1/119)
حق إذا كانت من روا ية الثقات خاصة ؟ أم
كلها باطل ؟ أم فيها حق وباطل ؟ فإن قالوا: فيها حق وباطل وهو
قولهم.
قلنا لهم: هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه
(ص) ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي
(ص)، أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل
المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لاحد من
الناس، وهل الشرائع الاسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير
محفوظة، ولا كلها لازم لنا، بل قد سقط منها بعد رسول الله (ص)
كثير، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع
بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به، أو لم تقم لله تعالى
علينا حجة في الدين لان كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها
أبدا ؟.
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه
(ص) بما ليس في الدين، وقالوا: لم تقم لله تعالى علينا حجة
فيما أمرنا به.
دخل عليهم في القول بفساد الشريعة، وذهاب الاسلام، وبطلان ضمان
الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف، سواء
بسواء، ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم
سواء بسواء، أنهم يعملون بما ليس من الدين، وأن النبي (ص) قد
بطل بيانه، وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء،
وفي هذا ما فيه.
فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر، لم ينفكوا بذلك من أن
كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع، وبالموهوم
فيه، ومن جواز أن يكون
كثير من شرائع الاسلام لم ينقل إلينا، إذ قد بطل ضمان حفظ الله
تعالى فيها، وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه
منقول نقل التواتر، بل أصحاب الاسناد أصح دعوى في ذلك، لشهادة
كثرة الرواة وتغير الاسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر
وبالله تعالى التوفيق.
فإن لجأ لاجئ إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد
الثقات، فإنه كذب موضوع ليس منه شئ قاله قط رسول الله (ص)،
وقلنا وبالله تعالى التوفيق: هذه مجاهرة ظاهرة، ومدافعة لما
نعلم بالضرورة خلافه، وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم،
ولجميع فضلاء التابعين، ولكل إنسان
(1/120)
من العلماء جيلا بعد جيل، لان كل ما ذكرنا
رووا الاخبار عن النبي (ص) بلا شك من أحد، واحتج بها بعضهم على
بعض، وعملوا بها، وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح
للاجماع المتيقن، وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلا، لانا
بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من
ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها، بل كلهم وضعوا كل ما رووا.
وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في
أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك،
وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله (ص)، وفي هذا القطع
بأن كل صاحب من الصحابة، روى عن رسول الله (ص) فإنه هو الواضع،
والمخترع للكذب عن رسول الله (ص) فيه، ولا يشك أحد على وجه
الارض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي (ص) أهله
وجيرانه، وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم، أولهم عن
آخرهم، وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ، مع أنها دعوى
بلا برهان،
وما كان كذلك فهو باطل بيقين، في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع
لها.
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله
(ص) كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها، وهذا باطل بيقين
كما بينا، وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم - لا نحاشي أحدا - قد
اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله (ص)، وهذا
انسلاخ عن الاسلام، أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا
سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لاحد أبدا، وهذا تكذيب لله
تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل، وبإكماله الدين لنا، وبأنه
لا يقبل منا إلا دين الاسلام لا شيئا سواه.
وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به،
وأنه لا سبيل لاحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى
به في دينه مما لم يأمره به أبدا، وأن حقيقة الاسلام وشرائعه
قد بطلت بيقين، وهذا انسلاخ عن الاسلام.
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى، موجبة كلها
للعلم، لاخبار الله
(1/121)
تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر،
ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم
لنا به، ولاخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي، وليس الرشد
إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه (ص)، وفي فعله، وليس
الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه (ص)، وهذا
قولنا والحمد لله رب العالمين قال علي: فإذا قد صح هذا القول
بيقين، وبطل كل ما سواه، فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه
فنقول وبالله تعالى نتأيد: إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون
شريعة أمر بها رسول الله (ص)، أو ندب إليها أو فعلها عليه
السلام، فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل
الثقة عن الثقة، حتى تبلغ إليه (ص)، وأمنا أيضا قطعا أن يكون
الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول،
وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطئ فيها راويها الثقة، ولا
يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق
الله عز وجل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه
شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله، حتى يبلغ به إلى رسول الله
(ص)، وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا، أو لم
يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة، فإنه خبر باطل بلا شك
موضوع لم يقله رسول الله (ص) إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك
شرعا صحيحا غير لازم لنا، لعدم قيام الحجة علينا فيها.
قال علي: وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على
عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك
وغيرهم، من الائمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة،
وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر
المجرحين الثابتة جرحتهم، وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه
آخرون، فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره، وإن ثبتت
عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره، وإن لم يثبت عندنا شئ من
ذلك وقفنا في ذلك، وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن
يثبت عنده أحد
(1/122)
الامرين فيه، وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا،
وجهلنا إن جهلنا، حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى، بل الحق
ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى، والباطل كذلك أيضا، كما
يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء،
ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما تثبت
الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه، وإما شهادة عدل على أنه سمع
الخبر مع راويه فوهم فيه فلان، وإما بأن توجب المشاهدة بأنه
أخطأ.
قال علي: وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين، وكل
آيتين متعارضتين، وكل آية وخبر صحيح متعارضين، وكل اثنين
متعارضين، لم يأت نص بين بالتناسخ منهما، فإن الحكم الزائد على
الحكم المتقدم من معهود الاصل هو الناسخ، وأن الموافق لمعهود
الاصل المتقدم، وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من
أن الدين محفوظ، فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ، أو أن
يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه، ويكون المراد به الخصوص،
لكان الدين غير محفوظ، ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في
الشريعة، ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم، بل بالعمل بما لم
يأمر الله تعالى قط به، وهذا باطل مقطوع على بطلانه قال علي:
فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه، وهي
وهلة نستغفر الله عز وجل منها، وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك
بمن الله تعالى ولطفه.
صفة من يلزم قبوله نقل الاخبار قال أبو محمد: واستدركنا برهانا
في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا، وهو خبر الله تعالى عن موسى
عليه السلام إذ جاءه: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال
يموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين)
فخرج منها خائقا يترقب (إلى قوله تعالى إن يدعوك ليجزيك أجر ما
سبقت لنا (إلى قوله تعالى إنى أريد أن أنكحك إحدى ابتنى هالتين
على أن تأحرنى ثمانى حجج
(1/123)
إلى آخر القصة، فصدق موسى عليه السلام قول
المنذر له، وخرج عن وطنه بقوله، وصوب الله تعالى ذلك من فعله،
وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها، وصدق أباها في
قوله إنها ابنته، واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده، وصوب الله
ذلك كله، فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه
يقينا.
والحمد لله رب العالمين.
قال علي: وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة
العدل النافر للتفقه في الدين، فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما
تفقه فيه، أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته، فإن كان كثير
الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه، فلم يتفقه فيما نفر للتفقه
فيه، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته، ومن جهلنا
حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ؟
ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته
وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته، أو تثبت عندنا
جرحته، أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره حدثنا عبد الله
بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى،
ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا
أبو عامر الاشعري، ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة، عن بريد بن
عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي (ص) أنه قال: إن
مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا
فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير،
وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها
وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلا.
(فذلك مثل) من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم
ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد
البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا محمد بن العلاء، ثنا
حماد بن أسامة عن يزيد، فذكره
(1/124)
بإسناده ولفظه، إلا أنه قال مكان طيبة:
نقية، ومكان غيث: الغيث الكثير،
ومكان ورعوا: وزرعوا، ومكان فقه: تفقه، ومكان قيعان: قيعة،
واتفقا في كل ما عدا ذلك.
قال علي: وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى
واحدا، لان النبي (ص) صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث
مرات، فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في
الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا.
قال علي: فقد جمع رسول الله (ص) في هذا الحديث مراتب أهل العلم
دون أن يشذ منها شئ، فالارض الطيبة النقية هي مثل الفقيه
الضابط لما روى، الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص، المتنبه
على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله
(ص)، وأما الاجادب، الممسكة للماء التي يستقي منها الناس، فهي
مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته، حتى
أدته إلى غيرها غير مغير، ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما
روت، ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن
والسنن التي روت، لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه
إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله (ص) بهذا إذ يقول: فرب
مبلغ أوعى من سامع، وكما روي عنه عليه السلام أنه قال: فرب
حامل فقه ليس بفقيه.
قال أبو محمد: فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه، فليس مثل الارض
الطيبة ولا مثل الاجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو
مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلا ولا تمسك الماء وفي
هذا كفاية بيان، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الارض الطيبة، فإن
حرم ذلك فمن الاجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق،
ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان، لكن من استقى من الاجادب
ورعى من الطيبة فقد نجا، وبالله التوفيق.
قال علي: فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي
(ص) فقد وجب الاخذ به، ولزمت طاعته والقطع به، سواء أرسله غيره
أو أوقفه سواه، أو رواه كذاب من الناس، وسواء روي من طريق أخرى
أو لم
(1/125)
يرو إلا من تلك الطريق، وسواء كان ناقله
عبدا أو امرأة أو لم يكن، وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط،
وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد،
ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الاحاديث الصحاح بأن يقولوا: هذا
مما لم يروه إلا فلان، ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد وسقوط مفرط، لانهم قد اتفقوا معنا
على وجوب قبول خبر الواحد والاخذ به، ثم هم دأبا يتعللون في
ترك السنة بأنه خبر واحد، والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا،
فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن
النبي (ص)، لم يروها أحد من الناس سواه، ليس أحد من الائمة إلا
وله أخبار انفرد بها، ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شئ
منها بذلك، فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد
معه، وبين من ردوا خبره لانه لم يروه أحد معه، وهل في
الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا ؟.
وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك
فهو كله خبر واحد، من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد، ومن
نفى خبر الواحد نفى كل ذلك، لان العلة عندهم في كل ذلك واحدة،
وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على
صحة مغيبة لديهم، فهو خبر واحد، وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل
بالتواتر، فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون، أو يشعرون
ويتعمدون، وهذه أسوأ وأقبح، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال علي: وأما المدلس فينقسم إلى قسمين: أحدهما: حافظ عدل ربما
أرسل حديثه، وربما أسنده، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو
الفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سندا، وربما اقتصر على ذكر
بعض رواته دون بعض، فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا، لان
هذا ليس جرحة ولا غفلة، لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه
أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما
لم نوقن فيه شيئا من ذلك.
وسواء قال: أخبرنا فلان، أو قال: عن فلان، أو قال: فلان عن
فلان كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه
إيرادا غير مسند، فإن أيقنا
(1/126)
ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر
رواياته.
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: كان معمر يرسل لنا
أحاديث، فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا
النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن
البصري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن دينار،
وسليمان الاعمش، وأبي الزبير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة،
وقد أدخل علي بن عمر الدار قطني فيهم مالك بن أنس، ولم يكن
كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده
أخرى.
وقسم آخر: قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا،
وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث، وغرورا لم يأخذ عنه،
ونصرا لما يريد تأييده من الاقوال، مما لو سمى من سكت عن ذكره
لكان ذلك علة ومرضا في الحديث، فهذا رجل مجرح، وهذا فسق ظاهر
واجب اطراح جميع حديثه، صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه،
وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل، كل ذلك مردود غير مقبول
لانه ساقط العدالة، غاش لاهل الاسلام
باستجازته ما ذكرناه، ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك
بن عبد الله القاضي، وغيرهما.
قال علي: ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لانه
لم يتفقه في دين الله عز وجل، ولا حفظ ما سمع، وقد قال عليه
السلام: نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما
أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ، والتلقين هو أن يقول له
القائل: حدثك فلان بكذا، ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه،
فيقول نعم، فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرور،
إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع، أو يكون من الغفلة بحيث
يكون الذاهن العقل المدخول الذهن، ومثل هذا لا يلتفت له لانه
ليس من ذوي الالباب، ومن هذا النوع كان سماك بن حرب، أخبر بأنه
شاهد ذلك منه شعبة الامام الرئيس ابن الحجاج.
قال علي: ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال: فلان يحتمل
في الرقائق ولا يحتمل في الاحكام.
(1/127)
قال أبو محمد: وهذا باطل لانه تقسيم فاسد
لا برهان عليه، بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في
الارض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق، فإن كان غير فاسق كان
عدلا، ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة، فالعدل ينقسم إلى قسمين: فقيه
وغير فقيه، فالفقيه العدل مقبول في كل شئ، والفاسق لا يحتمل في
شئ، والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شئ من الاشياء،
لان شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه، ومن
كان عدلا في بعض نقله، فهو عدل في سائره، ومن المحال أن يجوز
قبول بعض خبره، ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو
إجماع في التفريق بين ذلك، وإلا فهو تحكم
بلا برهان، وقول بلا علم، وذلك لا يحل.
قال علي: وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من
فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الاعدل على من هو دونه في العدالة.
قال علي: وهذا خطأ شديد، وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم:
إنهم أبرك الناس لذلك، وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الاول
عدالة ويتركون ما روى الاعدل، ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا
إن شاء الله تعالى، ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال
هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
فأول ذلك: أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل، وخبر عدل آخر
أعدل من ذلك، ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل، أو من
رسوله عليه السلام، أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول
الله (ص) فقد قفا ما ليس له به علم، وفاعل ذلك عاص لله عز وجل،
لانه قد نهاه تعالى عن ذلك، وإنما أمر تعالى بقبول نذارة
النافر الفقيه العدل فقط، وبقبول شهادة العدول فقط، فمن زاد
حكما فقد أتى بما لا يجوز له، وترك ما لم يأمره الله تعالى
بتركه، وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه.
قال علي: وأيضا فقد يعلم الاقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم
منه عدالة، وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة، وعلمه المغيرة
بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد
إلا أنهم كلهم عدول، وقد رجع أبو بكر إلى
(1/128)
خبر المغيرة في ذلك، ورجع عمر إلى خبر مخبر
أخبره عن أملاص المرأة، ولم يكن ذلك عند عمر، وذلك المخبر بينه
وبين عمر في العدالة درج، وأيضا فإن كل ما يتخوفمن العدل فإنه
متخوف من أعدل من في الارض بعد رسول الله
(ص)، وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده، ما قبل قبولا لا يوجب الحكم
بشهادته، ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا، فلا معنى للاعدل.
وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل، والعدل هو القيام
بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط، ومعنى
قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط، وهذه
صفة لا مدخل لها في العدالة، إذ لو انفردت من صفة العدالة التي
ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا.
فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا
فرق، فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى، ولا ترجيح شهادة
على أخرى، بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر،
وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس، وطيب النفس
باطل لا معنى له، وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله (ص)،
وإنما هو حق - فسواء طابت النفس عليه أو كرهته - فهو حرام
عليها، وهذا من باب اتباع الهوى، وقد حرم الله تعالى ذلك، قال
عز وجل: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) *، وقال
تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فمن حكم في دين الله عز
وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو
إجماع، فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
إلا من جهل ولم تقم عليه ججة، فلخطأ لا ينكر، وهو مخذور مأجور
ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتماد على هواه فهو فاسق
عاص لله عز وجل.
قال علي: ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى
الامة إلا أربعة
(1/129)
عدول لا أقل، وإنما في ذلك خمسون جلدة
وتغريب نصف عام، ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة
دم المسلم ودماء الجماعة باثنين، وكذلك في القذف والقطع، فأين
طيب النفس ههنا.
فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه،
وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب.
قال علي: والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء، ولا فرق
ولم يخص تعالى عدلا من عدل، ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد.
قال علي: وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال: هذا الحديث لم يرو
من غير هذا الوجه ثم قال: إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة
النفس، فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول: رب أرنى
كيف تحيى الموتى الآية قيل لهم: أفترون يقين الخليل عليه
السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم
ولو لم يره الله تعالى ذلك - كما لم ير موسى ما سأل - ما تخالج
إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى، وكذلك نحن إن
وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف
فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي
قدمنا، وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في
الملل والنحل.
قال علي: ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر، والتجريح
يغلب التعديل، لانه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل،
وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا، فإن قال قائل:
فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح ؟ قيل له: كذلك
نقول ونصدق كل واحد منهما، فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف
في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام، وزكى
وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة،
فإنه فاسق عند جميع الامة بلا خلاف، ولا يقع عليه اسم عدل، ولو
لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم
أبدا، لان توحيده خير وفضل وإحسان وبر، وفي صحة القول بأن فينا
عدولا وفساقا بنص القرآن، ورضا وغير رضا، بيان ما قلنا، ولو
أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد
كذبنا المجرح وذلك غير جائز، وهكذا القول في الشهادة ولا فرق.
(1/130)
قال علي: ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا
حتى يبين وجه تحريمه، فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر، وإنما
كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه، ولم
يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه
ورعا وفضلا، منهم الاعمش وإبراهيم وغيرهما من الائمة رضي الله
عنهم، وهذا ليس جرحة لانهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه.
ولا يكون الجرح في نقلة الاخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس
لها: الاقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت
أنها كبيرة.
الثاني: الاقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه
قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطئ.
والثالث: المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص
أنها حرام، وهذه الاوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الاخبار وفي
الشهود، وفي جميع الشهادات في الاحكام وهذه صفات الفاسق بالنص
وبإجماع من المخالفين لنا، وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر
للحديث الصحيح في الذي قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته
كفرت ذلك عنه ولقوله عز وجل: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) *) فمن غفر الله له
فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له.
وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من
باب ثبات الحد عليه في شئ لان الملامة ساقطة عن التائب، والحد
عنه غير ساقط على حديث ماعز، فإن النبي (ص) رجمه بعد توبته
وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا: إن المجاهرة
بالصغائر جرحة للاجماع المتيقن على ذلك، والنص الوارد من الامر
بإنكار المنكر، والصغائر من المنكر
لان الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها، فمن أعلن بها فهو من
أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله (ص): من رأى
منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع
فبقلبه وذلك أضعف الايمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو
فاسق لان المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره.
وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب
التغيير
(1/131)
عليه، ولا الانكار عليه، لانه لم ير منه ما
يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير، ولو أن امرأ شهد على
آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة
وكان ملوما، ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين:
أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير.
والثاني أنه معفو عنه، ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت
شهادته عليه، ولردت شهادة المستتر بها لانها ليست مغفورة إلا
بالتوبة، أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة.
قال علي: والوجه الرابع ينفرد به نقلة الاخبار دون الشهود في
الاحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا، لان
النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن
يتفقه في العلم، ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه، وإذا لم يتفقه
فليس ممن أمرنا بقبول نذارته، وليس ذلك في الشهادة، لان الشرط
في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن، فلا يضر الشاهد أن
يكون معروفا بالغفلة والغلط، ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم
بينة بأنه غلط في شهادة ما، فتسقط تلك التي غلط فيها فقط، ولا
يضر ذلك شهادته في غيرها، لا قبل الشهادة ولا بعدها، بل هو
مقبول أبدا، ولا يحل لاحد أن يزيشرطا لم يأت به الله تعالى،
فقد قال عليه السلام: كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط.
فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط،
فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز وجل، فهو مبطل فيه والتدليس
الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر، لقول رسول الله
(ص): من غشنا فليس منا ولا غش في الاسلام أكبر من إسقاط
الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح،
ولقوله عليه السلام: الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى
ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم، ومن دلس التدليس الذي ذممنا،
فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما،
ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز
العمل به.
قال علي: وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في
تحريمه حجة،
(1/132)
فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا، وأهل
الاهواء معتزليهم ومرجئيهم، وزيدييهم وأبا ضييهم بهذه الصفة
إلا من أخرجه هواه عن الاسلام إلى كفر متفق على أنه كفر، وقد
بينا ذلك في كتاب الفصل، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع
فتمادى ولم يرجع فهو فاسق.
وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي (ص) لتقليد أو قياس ولا فرق
- أو من سب أحد الصحابة رضي الله عنهم، فإن ذلك عصبية -
والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب
السلف الصالح فقال: لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما
قبلت شهادته، فكيف من يسب أفاضل الامة ؟ إلا أن يكون من الجهل
بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح
سبهم في دينه أصلا، ولا ما هو أعظم من سبهم
لكن حكمه أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند في ذلك
الله تعالى أو رسوله (ص) فهو كافر مشرك، ولو أن امرأ بدل
القرآن مخطئا جاهلا، أو صلى لغير القبلة كذلك، ما قدح ذلك في
دينه عند أحد من أهل الاسلام، حتى تقوم عليه الحجة بذلك، فإن
تمادى فهو فاسق، وإن عاند الله تعالى ورسوله (ص) فهو كافر
مشرك.
قال علي: وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة، وعن
رجل مرة أخرى.
قال علي: وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل
من جرح الحديث بذلك، وذلك نحو أن يروي الاعمش الحديث عن سهل عن
أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويرويه غير الاعمش عن سهيل عن
أبيه عن أبي سعيد.
قال علي: وهذا لا مدخل للاعتراض به، لان في الممكن أن يكون أبو
صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا
ومرة عن هذا.
(1/133)
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل
أو معاند، ونحن نفعل هذا كثيرا، لاننا نرى الحديث من طرق شتى،
فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه، ونرويه مرة أخرى من طريق
ثانية، وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا
وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها، وكل دعوى بلا برهان فهي
ساقطة، وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما
حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الاخذ
به مثل أن يقول الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن
أبي هريرة، فهذا ليس علة في الحديث البتة، لانه أيهما كان فهو
عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال.
وأيضا فإن قالوا: إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من
الواحد.
قيل
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند، ونحن نفعل
هذا كثيرا، لاننا نرى الحديث من طرق شتى، فنرويه من بعض
المواضع من أحد طرقه، ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية، وهذا قوة
للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا
برهان عليها، وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة، وكذلك ما رواه
العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن
أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الاخذ به مثل أن يقول
الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فهذا
ليس علة في الحديث البتة، لانه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم
الثقة مشهور العدال.
وأيضا فإن قالوا: إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من
الواحد.
قيل لهم: وهو من الاربعة أبعد منه من الثلاثة، فلا يقبلوا إلا
ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر.
تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني استدراك جاء في أول (ص 107)
ذكر للعلامة الكر ابيسى، ولما كان ذلك الامام غير مشهور اليوم
بيننا، فقد رأينا أن نكتب عنه كلمة موجزة.
الكرابيسى هو أبو على الحسين بن على بن يزيد الكرابيسى
البغدادي، وهو صاحب الامام الشافعي وأشهر تلاميذه بخضور مجلسه
وأحفظهم لمذهبه.
له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه عارفا بالحديث توفي سنة
245 تقريبا.
والكرابيسي نسبة إلى الكرابيس وهى الثياب الغليظة واحدها
(كرباس) وهو الفظ فارسي معرب وكان بييعها فنسب إليها.
هذا ما قلته دائرة المعارف للاستاذ محمد فريد وجدى.
ونحن نلاحظ أن هذا العلامة لم يكن يستغل عله للدينا بل كان
يأكل من التجارة في الثياب ؟
(1/134)
|