الإحكام في أصول الأحكام للآمدي [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْمَبَادِئِ
اللُّغَوِيَّةِ]
[الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِهِ]
الْقِسْمُ الثَّانِي
فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ
كُنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجْهَ اسْتِمْدَادِ
الْأُصُولِ مِنَ اللُّغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ
الْمَبَادِئِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَى
ذَلِكَ مُقَدِّمَةً فَنَقُولُ:
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ
مَوْجُودٍ فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ ; لِكَوْنِهِ
مَخْلُوقًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ
أَجَلُّ الْمَطْلُوبَاتِ وَأَسْنَى الْمَرْغُوبَاتِ، بِمَا
خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ
الْمَعْقُولَاتِ، وَالْمَيْزُ بَيْنَ حَقَائِقِ
الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: ( «كُنْتُ كَنْزًا لَمْ أُعْرَفْ،
فَخَلَقْتُ خَلْقًا لِأُعْرَفَ بِهِ» . (1) وَلَمَّا كَانَ
هَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ دُونَ الِاطِّلَاعِ عَلَى
الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى
الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إِلَى
مَطْلُوبَاتِهِ وَتَحْقِيقِ حَاجَاتِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ مَعَارِفِهِ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ
دُونَ مُعِينٍ وَمُسَاعِدٍ لَهُ مِنْ نَوْعِهِ، دَعَتِ
الْحَاجَةُ إِلَى نَصْبِ دَلَائِلٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا كُلُّ
وَاحِدٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي ضَمِيرِ الْآخَرِ مِنَ
الْمَعْلُومَاتِ الْمُعِينَةِ لَهُ فِي تَحْقِيقِ غَرَضِهِ،
وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ
الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ
ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْآلَاتِ
وَالْأَدَوَاتِ وَلَا فِيهِ ضَرَرَ الِازْدِحَامِ وَلَا
بَقَاءَ لَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ مَقْدُورٌ
عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا
نَصْبٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمَقَاطِعِ
الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا نَوْعُ الْإِنْسَانِ دُونَ
سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى بِهِ.
وَمِنِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبَاتِ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ
حَدَثَتِ الدَّلَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ
اللُّغَوِيَّةُ.
_________
(1) قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ
لَهُ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ.
(1/13)
وَهِيَ إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ
مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ.
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُهْمَلٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ،
وَالثَّانِي يَسْتَدْعِي النَّظَرَ فِي أَنْوَاعِهِ،
وَابْتِدَاءِ وَضْعِهِ وَطَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ، فَهَذَانِ
أَصْلَانِ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِمَا.
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي أَنْوَاعِهِ وَهِيَ نَوْعَانِ
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ
بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا.
الْأَوَّلُ: فِي الْمُفْرَدِ، وَفِيهِ سِتَّةُ فُصُولٍ.
[أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي حَقِيقَتِهِ
أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ مَا دَلَّ بِالْوَضْعِ عَلَى
مَعْنًى، وَلَا جُزْءَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا
كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ (إِنْ) مِنْ قَوْلِنَا
إِنْسَانٌ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الشُّرْطِيَّةِ فَلَيْسَتْ
إِذْ ذَاكَ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ، وَحَيْثُ
كَانَتْ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَكُنْ
شَرْطِيَّةً ; لِأَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ
لِذَوَاتِهَا، بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ
وَإِرَادَتِهِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَيْثُ جَعَلَ
(إِنْ) شَرْطِيَّةً لَمْ يَقْصِدْ جَعْلَهَا غَيْرَ
شَرْطِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَعَبْدُ اللَّهِ إِنْ جُعِلَ
عَلَمًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ
النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ كَانَ
مُرَكَّبًا لِدَلَالَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ
مَعْنَاهُ.
(1/14)
|