الأشباه والنظائر للسبكي القول في القواعد
العامة سوى الخمس المتقدمة:
قاعدة: ما أوجب أعظم الأمرين
قاعدة: ما أوجب أعظم الأمرين بخصوصه، لا يوجب أهونهما بعمومه3.
ومن ثم مسائل4:
منها: لا يجب على الزاني التعزير بالملامسة والمفاخذة، فإن
أعظم الأمرين وهو الحد قد وجب.
ومنها: زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوصه وهو
زنى المحصن لم يوجب أهونهما. وهو الجلد بعموم كونه زنى، ومن ثم
ضعف قول ابن المنذر5؛ حيث جمع بين الجلد والرجم على المحصن.
__________
1 نظر المنثور للزركشي 3/ 131، الأشباه للسيوطي ص149.
2 انظر هذه المسائل في المصدرين السابقين.
3 هو أبو بكر إبراهيم بن المنذر النيسابوري أحد الأئمة الأعلام
له تصانيف كثيرة كالإجماع والإشراف والإقناع والمبسوط والأوسط،
قال الذهبي: لم يكن بتقيد بمذهب بل يدور مع ظهور الدليل.
ابن السبكي 2/ 126، لسان الميزان 5/ 27، الوافي بالوفيات 1/
336، تذكرة الحفاظ 3/ 4، وفيات الأعيان 3/ 344، ابن هداية الله
ص59.
(1/94)
ومنها: لا ينتقض الوضوء بخروج المني. خلافا
للقاضي أبي الطيب الطبري في أحد قوليه والرافعي أيضا في آخر
ترجيحه؛ فإنه رجع ذلك في كتابه المسمى بالمحمود الذي صنفه في
الفقه ومات ولم يكمله، وأشار في كتاب الحيض من الشرح والشيخ
الإمام رحمه الله قالوا: ينتقض الوضوء بخروجه وإن أوجب أعظم
الأمرين وهو الغسل.
وللشيخ الإمام كلام على القاعدة في كتاب "السيف المسلول".
تنبيه:
قد تنتقض القاعدة بمسائل:
منها: الحيض فإنه يوجب أعظم الأمرين بخصوص كونه حيضا ومع ذلك
يوجب الوضوء، قال الماوردي: بالاتفاق.
غير أن دعوى الاتفاق ممنوعة؛ ففي لطيف ابن خيران1، أن الحيض لا
ينقض الوضوء وكذا النفاس2.
فصل:
يقرب من هذه القاعدة قاعدة أخرى.
وهي إذا اجتمع أمران من جنس واحد دخل أحدهما في الآخر غالبا3.
ومن ثم لو شرب أو زنى مرارا ولم يحد حد حدا واحدا4.
__________
1 هو أبو الحسن بن علي بن محمد بن خيران البغوي صاحب اللطيف
درس عليه الشيخ أحمد بن رامين وكتابه اللطيف دون التنبيه حجما
كثير الأبواب جدا، ابن هداية الله ص112.
2 ومنها: الولادة توجب الغسل والوضوء.
ومنها: من اشترى أمة شراء فاسدا ووطئها لزمه المهر لاستمتاعه
وأرش البكارة إذا كانت بكرا؛ لأنه في مقابلة إزالة العين
والمهر في مقابلة استيفاء منفعة فلما اختلف سببهما لم يمنع
وجوبهما وهذا ما صححه الرافعي في البيع وقيل يندرج الأرش في
المهر وصححه في باب الرد بالعيب.
وفيها: لو شهدوا على محصن بالزنى فرجم ثم رجعوا عن الشهادة
اقتص منهم لكن يحدون للقذف أولا ثم يرجمون، وذكر الرافعي في
كتاب الغنيمة أن من قاتل من أهل الكمال أكثر من غير أن يرضخ له
مع السهم؛ ذكره المسعودي وصاحب التهذيب ومنهم من نازع كلامه
فيه وقال من سهم المصالح ما يليق بالحال، المنثور 3/ 132.
3 الأشباه والنظائر للسيوطي 126.
4 قال الرافعي وهل يقال وجب لها حدود ثم عادت إلى حد واحد أو
لم يجب إلا حد وجعلت الزنيات كالحركات في زنية واحدة؟ ذكروا
فيه احتمالين.
ولهذه القاعدة فروع فارجع إليها إن شئت في المرجع السابق.
(1/95)
[وهذه] 1 القاعد أعم من التي قبلها؛ لأن
الشيئين من جنس واحد قد يكون أحدهما أعم من الآخر وقد لا يكون.
فصل:
وأشبه من هذه القاعدة بالقاعدة قبلها قاعدة أخرى.
وهي: أذا بطل الخصوص بقي العموم2، وقد يقال: لا يلزم من ارتفاع
الخاص ارتفاع العام.
تلك عبارة الفقهاء، وهذه عبارة الأصوليين.
وقد تنتفض القاعدة بما إذا نوى الاقتداء بزيد فبان عمرو فإنه
لا يصح مع أن المرتفع خاص، وهو الاقتداء بفلان، لا مطلق
الاقتداء.
وجواب هذا قدمناه عن الشيخ الإمام فسلمت القاعدة، ولهذا أصل
كلامي ستكون لنا عودة إلى ذكره في مسائل الكلام إن شاء الله
تعالى وهو أن الجنس هل يتقوم بالفصل وهو من مخاضات الحكماء، لا
من موارد المتكلمين؛ وإنما يذكره المتكلمون تبعا للحكماء، وعن
هذا الأصل نشأت هذه القاعدة من [الأصوليين] 3 وخرج منهم مخرج
عليها.
"وإذا نسخ الوجوب بقي الجواز" توهما من هذا المخرج أن الجواز
أعم لا قسيم.
وقد تكلمنا على هذا في أصول الفقه، وخرج الفقهاء عليها مسائل.
منها: إذا فسدت الوكالة لكونها معلقة على شرط فتصرف الوكيل عند
وجود الشرط فالأصح الصحة، تمسكا بمطلق الإذن.
ومنها: إذا نوى مع الفريضة ما ينافيها ولا ينافي النافلة
فالفرض يبطل وفي بقاء عموم الطاعة قولان يختلف الترجيح [فيهما]
4 بحسب الصور وهي كثيرة.
ومنها: من أحرم بالظهر قبل الزوال فالأظهر ثالثها أنها تنعقد
نافلة إن كان له عذر.
ومثله: لو وجد المسبوق الإمام راكعا فأتى ببعض تكبيرة الإحرام
في الركوع لم
__________
1 في ب وهذا.
2 المنثور 1/ 111، الأشباه والنظائر للسيوطي ص182.
3 في ب الأصول.
4 في ب بينهم.
(1/96)
ينعقد الفرض، ثم إن علم تحريمه فالأظهر
البطلان، وإلا فالأظهر الانعقاد.
ومنها: لو أحرم بفريضة منفردا ثم أقيمت جماعة فسلم من ركعتين
ليدركها الأظهر صحتها نفلا.
ومنها: لو وجد قاعدا المصلى خفة في صلاته فلم يقم، أو أحرم
–القادر على القيام- بالغرض قاعدا، أو قلب المصلى فرضه نفلا
بلا سبب، فالأظهر البطلان في الثلاثة [والله أعلم] 1.
يقع
__________
1 سقط من الأصل.
(1/97)
قاعدة: لا يثبت حكم
الشيء قبل وجوده
وإن شئت قل: لا يثبت حكم المعلوم قبل وقوعه، ليشمل الموجود
والمعدوم. وهذا أصل مقرر قد ينقض بنحو: ما إذا حلف ليأكلن هذا
الطعام غدا فإنه يحنث إذا أتلفه قبل الغد وكذا إذا أتلف بنفسه
أو أتلفه أجنبي على قول:
وهل الحنث في الحال بحصول اليأس أو بعد مجيء الغد؟
فيه قولان أو وجهان: فعلى القول بأنه يحنث في الحال يقال: ثبت
حكم الغد قبل وجوده.
وطريق الجواب أن نقول: لما حصل اليأس الآن كنا على قطع بفوات
المحلوف عليه غدا؛ فلم يكن لانتظار غدا معنى.
هذا على هذا القول، والأرجح عندنا -وبه قطع ابن كج1- تأخر
الحنث إلى الغد. وتظهر فائدته فيما لو كان معسرا يكفر الصوم؛
فيجوز له أن ينوي صوم الغد عن كفارته إن قلنا: يحنث قبل الغد
ولو مات الحالف قبل الغد أو أعسر وقلنا يعتبر في الكفارة حال
الوجوب.
إذا [عرفت] 2 هذا فنقولِ: لهذا الفرع وأشباهه التفات على أصل
آخر يقع
__________
1 يوسف بن أحمد بن كج القاضي أبو القاسم الدنيوري أحد الأئمة
المشهورين وحفاظ المذهب المصنفين وأصحاب الوجوه المتقنين تفقه
بأبي الحسين بن القطان وحضر مجلس الداركي وانتهت إليه الرئاسة
ببلاده في المذهب وكج بكاف مفتوحة وجيم مشدودة وهي في اللغة
للجص الذي تبيض به الحيطان ومن تصانيفه التجريد وهو مطول. توفي
ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة قتيلا
قتله العيارون، وفيات الأعيان 6/ 63، شذرات الذهب 3/ 177، ابن
قاضي شهبة 1/ 198.
2 وفي ب عرف.
(1/97)
كالمستثنى عن هذا الأصل، وهو أن ما قارب
الشيء هل يعطى حكمه؟
وقريب من هذه العبارة قولهم: المتوقع هل يجعل كالواقع؟
وكذلك قولهم: المشرف على الزوال هل يعطى حكم الزائل؟
وكذلك قولهم: هل العبرة بالحال أو المآل.
وكذلك قولهم: هل النظر إلى حال التعلق أو حال وجود الصفة.
ولا بد من عقد فصول لهذه العبارات نرى قبل ذكرها أن نشرح ونميز
ما التفاوت بينها.
فنقول: غير الواقع إن كان مما1 علم أنه سيقع: فهو مسألة الطعام
التألف قبل الغد المحلوف على آكله فيه.
وإلا فإن لم يكن قريبا من الوقوع فلا يعطي حكم الواقع، وإن كان
قريبا فهو مسألة ما قارب الشيء هل يعطي حكمه؟ وهي أعم من
قولنا: المتوقع هل يكون كالواقع؟ والمشرف على الزوال هل يكون
كالزائل؟ لشمولها الأمرين؛ غير أن قولنا: المتوقع كالواقع يشبه
أن يختص بما سيوجد، وقولنا: المشرف على الزوال كالزائل يشبه أن
يختص بما سيعدم.
فيعطي هناك المعدوم الذي سيوجد حكم الموجود [وهنا الموجود] 2
الذي سيعدم حكم المعدوم.
وقولنا: هل العبرة بالحال أو المآل بينه وبين قولنا: ما قارب
الشيء أعطي حكمه عموم وخصوص.
فإنه أعم من حيث أنا نعطي الشيء في كل من حالتي الحال والمآل
حكم الأمرين معا؛ سواء كان أحدهما مقارنا للآخر أم لا.
وأخص، من حيث إن مقاربة الشيء يعطي حكمه وإن لم يكن موضوعا لأن
يؤول إليه.
وأما قولنا: هل النظر إلى التعليق أو إلى الحال وجود الصفة؟ هل
هو أخص من قولنا: هل النظر إلى الحال أو المآل، لأن النظر إلى
الحال أو المآل لا يختص بصيغ التعليقات؛ بل يجري في التعليقات
وغيرها.
__________
1 في ب إن كان مما علم.
2 سقط من أوالمثبت من ب.
(1/98)
فصل:
إذا تحققنا أن الفعل المأمور به أو الذي يحاول المكلف وقوعه
لغرض ما أو الذي علق على وقوعه أمرا ما لا يقع لمانع تحققنا أن
يقع في أثنائه أو قبله أو غير ذلك؛ فهل نعطيه الآن حكم الفائت
وترتب مقتضى فواته. أو لا نعطيه ذلك بل يجري عليه حكم عدم
فواته إلى أن يقع فواته وقد تختص هذه العبارات ويقال أعطي
الشيء حكم الفائت هل يستدعي وقوع فواته أو يكتفي بتحقيق ذلك،
وقد علمت أن هذا غير قولنا: هل العبرة بالحل أو المآل لاختصاص
هذا بأن ما هو متحقق الفوات مستقلا هل يعطي حكم الفوات قبل
حصوله وفيه مسائل.
أجدرها بالتقديم: ما إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا فتلف قبل
الغد وقد قدمناها.
ومنها: لو كان القميص؛ بحيث تظهر منه العورة عند الركوع ولا
تظهر عند القيام فهل تنعقد صلاته ثم إذا ركع تبطل، أو لا تنعقد
أصلا؟
فيه وجهان تظهر فائدتهما فيما لو اقتدى به غيره قبل الركول،
وفيما [إذا] 1 ألقي ثوبا على عاتقه قبل الركوع.
ومنها: من عليه عشرة أيام من رمضان فلم يقضها حتى بقي من شعبان
خمسة أيام؛ فهل يجب عليه فدية ما لا يسعه الوقت في الحال، أو
لا يجب إلى أن يدخل رمضان؟
فيه وجهان شبههما الرافعي وغيره بما إذا حلف ليشربن ماء هذا
الكوز غدا فانصب قبل الغد.
قال الشيخ [الإمام] 2 وفي هذه العبارة نظر؛ لأن الصحيح فيما
إذا انصب نفسه عدم الحنث.
ونظيره هنا: إذا لم يزل عذره إلا ذلك الوقت، ولا شك أنه لا يجب
عليه شيء إلا [على] 3 ما يقوله أبو يحيى البلخي، فيجب فرض
المسألة فيما إذا كان التمكن سابقا وحينئذ يشبه بما إذا صب هو
الماء فإنه يحنث.
__________
1 في ب لو.
2 سقط من أوالمثبت من ب.
3 سقط في ب.
(1/99)
وفي وقت حنثه الوجهان، ولم يصح الرافعي
منهما، في كتاب الأيمان شيئا؛ وإنما قال: الذي أورده بن كج هو
الثاني، يعني أنه لا يحنث إلا عند مجيء الغد. وعلى قياسه هنا:
لا يلزم إلا عند مجيء رمضان.
وللوالد -رحمه الله- على المسألة كلام نفيس أزيد من هذا في
تفاريقها ذكره في كتاب الصوم لا بد من معادوته.
ومنها: لو أسلم فيما يعم وجوده عند المحل فعرضت آفة علم بها
انقطاع الجنس عن المحل؛ فقيل ينتجز حكم الانقطاع في الحال
-والأصح يتأخر إلى المحل ومنها لو نوى في الركعة الأولى الخروج
من الصلاة في الثانية أو علق الخروج بشيء يوجد لا محالة في
صلاته بطلت في الحال على الصحيح، وكذا لو علق بما يحتمل حصوله
على الأصح والثاني لا تبطل في الحال وعليه فالأصح أنها تبطل
إذا وجدت الصفة وهو ذاهل عن التعليق كما لو كان ذاكرا.
ومنها: على وجه ليس لمن عليه دين مؤ جل السفر بعيد إذن الدائن
إن كان الدين يحل قبل رجوعه، وقيل: مطلقا إلا أن يقيم كفيلا،
وقيل: إلا أن يحلف وفاء، وقيل: إلا أن يكون من المرتزقة،
والصحيح ليس له منعه مطلقا؛ إذ لا مطالبة له في الحال.
فصل:
قريب المآخذ من هذه المسائل ما عرف تطرق البطلان إليه لو وقع؛
فهل يمتنع إيقاعه ويكون باطلا من [أوله] 1 أو لا يبطل مجيء سبب
البطلان؟
ولك أن تقول: هل يصح ثم يفسد، أو لا يصح أصلا؟ فيه خلاف في
صور.
منها: إذا فرق الإمام الناس في صلاة الخوف الرباعية أربع فرق
فصلى بكل فرقة ركعة صحت صلاة الجميع في [الأظهر] 2.
وفي قول: تصح صلاة الإمام والطائفة الرابعة.
وفي ثالث تبطل صلاة الإمام بالانتظار الواقع في الركعة
الثالثة، وتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتا
قبل طريان المبطل، والفرق في الثالثة والرابعة بين أن يعلموا
بطلان صلاة الإمام أو لا.
__________
1 سقط في ب.
2 في ب الظهر.
(1/100)
وفي رابع: بطلان صلاة الإمام بالانتظار
الثالث الواقع في الركعة وبطلان الصلاة الرابعة إن علمت.
والخامس: بطلان صلاة الجميع.
ومنها: إذا كانت عورته لا ترى في حالة القيام في الصلاة ولكن
ترى في الركوع كما لو كان على إزاره ثقبة فجمع الثوب عليها
بيده؛ ففي انعقاد الصلاة وجهان أصحهما الانعقاد، ثم انتهى إلى
الركوع ولم يحصل ذلك بطلت، وتظهر فائدة الخلاف فيما [إذا] 1
اقتدى به غيره قبل الركوع، وفيما إذا لو ألقى ثوبا على عاتقه
قبل الركوع.
قال الأصبحي في كتاب المعين: ويحتمل فائدة أخرى، إذا صلى على
جنازة.
قال: ويحتمل القطع بالصحة في صلاة الجنازة؛ إذ لا ركوع فيها.
ومنها: إذا قصر حتى فرغت مدة الخف وهو في الصلاة بطلت، ولم
يتخرج على القولين في سبق الحدث.
كذا أطلقه الأصحاب، وقيده الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله- بما
إذا لم يكن عالما حين الدخول في الصلاة بأن المدة تنقضي في
أثنائها. قال أما إذا علم فيتجه أن يقال: إن الصلاة لا تنعقد؛
لأن انعقادها -مع القطع بأن البطلان يعرض لها- بعيد.
قال: وليس كمن تنكشف عورته عند الركوع؛ لأن هناك لا يقطع
بالبطلان بل الصحة ممكنة بأن يسترها عند الركوع.
ومنها: قال الرافعي على مساق هذه المسألة: قضيتها أن يقال: لو
شرع في الصلاة على مدافعة الأخبثين وهو يعلم أنه لا تبقي له
قوة التماسك في أثنائها ووقع ما علمه تبطل صلاته، ولا يخرج على
قول سبق الحدث وتبعه النووي.
قال الشيخ الإمام والدي: ينبغي أن يقال ما قلناه من التفصيل.
ومنها: من علمت أنها تحيض في أثناء النهار وجب عليها افتتاح
اليوم بالصوم وهذا لا خلاف فيه؛ لأن المانع لم يوجد، وكل جزء
من أجزاء النهار مطلوب فيه الصوم، ما لم يكن المانع قائمًا.
ومنها: استأجر امرأة –أشرفت على الحيض- لكنس المسجد جاز وإن ظن
طروء الحيض.
__________
1 في ب لو.
(1/101)
وللقاضي الحسين احتمال فيه كالسن والوجعة
إذا احتمل زوال الألم. والفرق أن الكنس في الجملة جائز، والأصل
عدم طرو الحيض.
تنبيه:
هذه المسائل قريبة المأخذ من المسألة الكلامية، وهي التكليف
بما علم الآمر أو المأمور انتفاء شرط وقوعه عند وقته.
ولنا في شرح المختصر كلام نفيس على المسألة وتخريجات لطيفة.
فصل:
قريب المأخذ من قولنا: ما لا يستمر صحته لو قوع فهل يصح ثم
يفسد؟
أولا: يصح رأسا؟ قولنا: ما لا قرار لوجوبه إذا حضر سبب وجوده؛
فهل نقول: وجب ثم سقط أو لم يجب أصلا؟
فيه خلاف في مسائل.
منها: [إذا وجب القصاص على رجل فورث القصاص ولده. فيه وجهان]
1.
ومنها: إذا زوج عبد بأمته؛ فهل يجب المهر ثم يسقط أو لا يجب
أصلا.
ومنها: إذا لم يدرك من الوقت قدر الفرض.
قال أبو يحيى البلخي: تجب الصلاة إذا أدرك بعض الفرض كما في
آخر الوقت. والصحيح لا.
وفرق الأصحاب بأنه في آخر الوقت يمكنه البناء على ما أدرك بعد
الوقت، وهنا لا يمكن التقديم على الوقت؛
غير أنهم ترددوا في أنه هل سقط الوجوب بعد ثبوته، أو تبين عدم
الوجوب رأسا والذي صرح به النووي -في شرح المهذب- الثاني، قال
الشيخ الإمام [الوالد] 2 رحمه الله وكلام الأصحاب يقتضي الأول،
وجعلوا الوجوب بأول الوقت والاستقرار بالتمكن كما في الزكاة.
ومنها: الفاتحة متعينة إلا في ركعة المسبوق، وهل نقول: إن
القراءة تجب على المأموم المسبوق ويتحملها الإمام عنه أو لا
تجب أصلا؟
__________
1 هذا الفرع سقط في ب.
2 سقط من ب.
(1/102)
وجهان: أصحهما الأول.
فعليه يحتمل أن يقال: وجبت ثم سقطت، ويحتمل أن يقال بل الوجوب
باق، وقد جعل الشارع فعل الإمام لها على القول بالتحمل كفعل
المأموم.
ومنها: اقتضى كلام ابن الصلاح أن من استطاع الحج قبل عرفة بيوم
وبينه وبينها شهر ومات في تلك السنة أن الحج وجب عليه ثم سقط.
قال الوالد -رحمه الله- في كتاب الحج من شرح المنهاج: وهذا لا
يقوله أحد ولا يظن بابن الصلاح وإن أوهمته عبارته.
ومنها: إذا رد الوارث تصرف المريض فيما زاد على الثلث؛ فهل
نقول: الزيادة ثبتت ثم ردت، أو تبين أنها لم تنفذ؟
فيه قولان حكاهما الإمام في كتاب العتق في الفروع المنثورة.
ومنها: إذا غرت الزوج قال الأصحاب: فالرجوع عليها ولفظ الرجوع
-على ما ذكر الرافعي وغيره- بشعر بالدفع إليها ثم الاسترداد
منها. قال: ولكن ذكر الشيخ [أبو حامد] 1 أنه لا معنى للدفع
والاسترداد، ويعود معنى الرجوع إلى أنه لا يغرم.
ومنها: إذا خرج من مكة، ولم يطف للوداع فعليه دم؛ فإن عاد قبل
مسافة القصر سقط الدم على الصحيح، كذا عبارة الأصحاب، وظاهر
السقوط أنه وجب ثم سقط ونازع الشيخ الإمام -رحمه الله- في كونه
وجب، وكذلك نازع في نظيره من مجاوزة الميقات عند ذكر الخلاف في
الحكم بالإساءة هل يتوقف على عدم عوده؟
__________
1 في ب والإمام.
(1/103)
"القول في أنه
هل الاعتبار بالحال أو بالمآل 1 "
وهذا أصل كبير يتخرج عليه مسائل هي أمهات في أنفسها وقواعد في
أبوابها.
منها: هل الاعتبار بالتكافؤ في القصاص بحالة الجرح أو بحالة
الزهوق؟
ومنها: هل [الاعتبار] 2 بالإقرار للوارث بكونه وارثا – حال
الإقرار أو حال الموت؟
ومنها: هل الاعتبار بالثلث الذي يتصرف فيه المريض بحال الوصية
أو حال الموت.
__________
1 انظر الأشباه والنظائر للسيوطي / 178.
2 سقط من ب.
(1/103)
ومنها: هل الاعتبار في الصلاة المقضية بحال
الأداء أو بحال القضاء.
ومنها: هل الاعتبار في تعجيل الزكاة بحال الحول أو حال
التعجيل.
ومنها: هل الاعتبار في الكفارة المرتبة بحال الوجوب أو بحال
الأداء.
ومنها: هل الاعتبار بحال التوكيل أو بحال إنشاء التصرف؟
ومنها: هل الاعتبار طلاق السنة والبدعة بحال الوقوع أو بحال
التعليق. وهذا يدخل في قولنا: هل النظر إلى حال التعليق أو حال
وجود الصفة؟
وهذه القواعد ربما نذكر كلا منها مع ما تيسر من فروعه في بابه
إن شاء الله تعالى.
ولنذكر هنا ما هو من أصل قولنا:
هل الاعتبار بالحال أو بالمآل.
"القول فيما جزم فيه بأن الاعتبار بالحال".
وذلك في مسائل:
منها: يقبل الولي للصبي هبة من يعتق عليه إذا كان معسرا؛ لأنه
لا يلزمه نفقته في الحال؛ فكان في قبول هذه الهبة تحصيل خير،
وهو العتق، بلا ضرر، ولا ينظر إلى ما لعله يتوقع من حصول يسار
للصبي وإعسار لهذا القريب، لأن هذا ليس يتحقق أنه آيل.
"القول فيما جزم فيه بأن الاعتبار بالمآل".
وهو في مسائل:
منها: بيع الجحش الصغير جائز وإن لم ينفع حالا، لتوقع النفع به
مآلا.
ومنها: المساقاة على ما لا يثمر في السنة ويثمر بعدها جائز؛
بخلاف إجازة الجحش الصغير؛ لأن موضع الإجارة تعجيل المنفعة.
ولا كذلك المساقاة [إذ] 1 تأخر الثمار محتمل فيها.
كذا فرق الرافعي، وبه يظهر لك أن المنفعة المشروطة في البيع
غير المنفعة المشروطة في الإجارة؛ إذ تلك أعم من كونها حالا أو
مآلا. ولا كذلك الإجارة.
ومنها: اقتناء الكلب الكبير لتعلم الصيد، قال النووي اتفق
الأصحاب على جوازه2.
__________
1 في ب أن.
2 ومنها جواز التيمم لمن معه ماء يحتاج إلى شربه في المآل لا
في الحال.
(1/104)
"القول فيما اختلف فيه هل يعتبر فيه الحال
أو المآل".
وهو في مسائل.
منها: تربية جرو الكلب لما يباح تربية الكبير له.
ومنها: بيع الحمار الزمن.
قاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح1.
ويستثنى مسائل: يرجع حاصل مجموعها إلى أن المصلحة إذا عظم
وقوعها وكان وقع المفسدة. كانت المصلحة أولى بالاعتبار.
ويظهر بذلك أن درس المفاسد؛ إنما يترجح على جلب المصالح إذا
استويا فما استثنى من أن درء المفاسد أولى – المتحيرة؛ فعليها
صلاة الفرائض أبدا احتياطا لمصلحة الصلاة. ولم يحتط لدرء
المفسدة الحاصلة من الصلاة عن الحيض. وكذلك صلاة النافلة أيضا.
لا يمنع منها على الأصح؛ لأنها من مهمات الدين فلا يمنع منها
–راتبة كانت أو غيرها.
قاعدة: ما لا يقبل التبعيض يكون اختيار بعضه كاختيار كله
وإسقاط بعضه كإسقاط كله2.
وهذا أصل اتفق عليه الفريقان، وبنى عليه أبو حنيفة رحمه الله
أن الموصى إليه في نوع من التصرف يصير وصيا مطلقا ظنا منه أن
الوصية لا يتجزأ؛ لكونها ولاية قال: والولاية لا تتجزأ، وكذلك
فعل في العبد المأذون. فعدى الإذن له في نوع إلى سائر الأنواع
ولسنا نسلم له عدم التجزيء.
وفي القاعدة فروع:
منها: إذا قال: أنت طالق نصف طلقة أو بعضك طالق طلقة، لا فرق
بين اختيار بعض الطلاق أو طلاق البعض.
ومنها: إذا عفا مستحق القصاص عن بعضه سقط.
__________
1 لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما
استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
2 المنثور 3/ 153، الأشباه للسيوطي 160.
(1/105)
ومنها: إذا عفا الشفيع عن بعض حقه فالأصح
سقوط كله.
والثاني: لا يسقط شيء لأن التبعيض تعذر.
وما الشفعة مما يسقط بالشبهة؛ ففارقت القصاص، فغلب جانب
الثبوت.
والثالث: تبعيض؛ لأنه حق مالي قابل للانقسام، ففارق القصاص
والطلاق.
ومنها: هل للإمام أن يرق بعض شخص إذا استأثره؟
فيه وجهان؛ فإن قلنا: لا. فإذا أضرب الرق على بعضه رق كله.
قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: لا يرق، شيء وضعفه ابن الرفعة
بأن في إرقاق كله درء القتل وهو يسقط الشبهة كالقصاص، ثم وجهه
بنظيره في الشفعة.
قلت: وكان يجوز أن يقال: يعمل بإرقاق بعضه في درء القصاص لا في
الإرقاق.
ومنها: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيبا ولم يجوز إفراده
بالرد فلو قال: رددت المعيبة منهما؛ فالأصح لا يكون ردا لهما،
وقيل: يكون1.
فصل:
وقد لا يكون اختيار بعضه اختيارا لكله [ولا] 2 سبيل إلى
التبعيض فيلغو.
وذلك في مسائل:
منها: حق الشفعة -على وجه- كما تقدم، والإرقاق على بحث
الرافعي.
ومنها: حد القذف [ذكره] 3 الرافعي في باب الشفعة أن العفو عن
بعضه لا يوجب سقوط شيء، واستشهد به للوجه الصائر إلى أن العفو
عن بعض الشفعة لا يسقط شيئا منها وتبعه جماعة آخرهم الشيخ
الإمام الوالد في "شر المنهاج" وهذا فرع لم يذكره في [باب] 4
حد القذف؛ وإنما ذكره في مسألة عفو بعض الورثة، وفيها الأوجه
المشهورة، أصحها: أن لمن بقي استيفاء جميعه. وهو يؤيد أن حد
القذف لا يتبعض.
وأقول: إن سلم أنه لا يتبعض فلا بد أن يطرقه الخلاف في أنه هل
يسقط كله أو
__________
1 ومنها إذا قال أحرمت بنصف تسك انعقد بنسك كالطلاق كما في
زوائد الروضة ولا نظير لها في العبادات.
2 سقط من ب.
3 سقط من ب.
4 سقط من ب.
(1/106)
يلغو كما في عفو بعض الورثة وعفو بعض
الشفعاء، ثم إني لا أسلم أنه لا يتبعض فإنه جلدات معروفة
العدد، ولا ريب في أن المستحق لو عفا بعد ما أصاب القاذف بعضها
سقط ما بقي منها؛ فكذلك إذا أسقط منها في الابتداء قدرا
معلوماز وإذا تأملت ما قلته من تبعيض القذف وما قاله بعضهم من
تبعيض الشفعة وعلمت أنه لم يقل أحد في مسألة الإرقاق بأنه يلغو
-غير بحث الرافعي- علمت سلامة القاعدة من النقض.
فصل:
إذا رجعنا اختيار بعض ما لا يتجزأ اختيارا لكله فهل اختياره
للبعض نفس اختياره للكل؛ وإنما هو عبر بالبعض عن الكل؟ أو
اختيار ذلك البعض ثم يسري منه إلى غيره لضرورة عدم التجزؤ.
فيه خلاف شهير في مسائل.
منها: طلاق بعضها، وتبعيض طلاقها، وعتق البعض. وأما تبعيض
العتق فلا أعرفه مسطورا، وهو مثل: قوله: أنت حر نصف حرية،
والذي يظهر أنه لغو ويحتمل أن يقال: يبطل قوله: ونصف حرية
ويعمل بقوله: أنت حر نصف حرية.
والذي يظهر أنه لغو، ويحتمل أن يقال: وإن لم يقل بنظيره في
البيع والفرق قوة العتق وسرعة نفوذه.
تنبيه:
إذا وقفت على قولنا: طلاق بعضها، وتبعيض طلاقها وعتق البعضِ،
وتبعيض العتق، واستحسنت هذه العبارة ورشاقتها، انتقل ذهنك إلى
نظائرها.
ومنها: قول الإمام في النهاية في باب الكفارة قبل الحنث: كما
لا يعتبر حكم المحلوف باليمين لا يعتبر حكم اليمين بالمحلوف
عليه؛ ذكره توجيها للقول بأن تقديم الكفارة على الحنث وإن كان
محظورًا جائز.
ومنها: قول بعض علمائنا: الواجب في الطهارة عندنا الماء المطلق
فلا يجوز المتغير كثيرا بمستغنى عنه.
وعند أبي حنيفة: مطلق الماء.
ووقعت بيني وبين الوالد -رحمه الله- مباحثة في الفرق بين
العبارتين صنف من
(1/107)
أجلها [مصنفا] 1 في ذلك [وقرر] 2 أنه لا
فرق بينهما.
منها: أن النية في الوضوء تجب عند أول غسل الوجه، لا عند غسل
أول الوجه -وهو أعلاه- بل لو ابتدأ من مؤخرة وجهه ونوى صح.
ومنها: لا ولاء لمعتق الأب مع أبي المعتق، وهي مسألة التعجيز.
وكل هذه عبارات يختلف المعنى فيها بالتقديم والتأخير -يسميها
الأديب: رد العجز على الصدر- تستدعي حضور ذهن صحيح، خشية
الوقوع في الغلط. وقد وقع في الكتاب العزيز في سورة البقرة3
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، وفي
الأعراف4: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}
.
وفي البقرة5: {وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} ، وفي الحج6
{وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} . وفي البقرة7 والأنعام8"
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وفي آل عمران9.
{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} .
وفي البقرة10: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ،
وفي الحج11: {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} .
وفي البقرة12: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ، وباقي
القرآن {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .
في البقرة13: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}
وفي إبراهيم14، {مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} .
وفي آل عمران15: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وفي
الأنفال16: {بِهِ قُلُوبُكُمْ} .
في النساء17: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ} وفي المائدة18: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} .
__________
1 في ب تصنيفا.
2 وفي ب وقوي.
3 آية: 58.
4 آية: 17.
5 آية: 62.
6 آية: 17.
7 آية: 120.
8 آية: 71.
9 آية: 73.
10 آية: 143.
11 آية: 78.
12 آية: 173.
13 آية: 264.
14 آية: 118.
15 آية: 126.
16 آية: 10.
17 آية: 135.
18 آية: 8.
(1/108)
في الأنعام1: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وفي المؤمن2: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
في الأنعام3: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي بني
إسرائيل4: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} .
وفي النحل5: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} وفي فاطر6:
{فِيهِ مَوَاخِرَ} .
في بني إسرائيل7: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا
الْقُرْآنِ} وفي الكهف8: {فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ} .
في بني إسرائيل9: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ} وفي العنكبوت10: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيدًا} .
في المؤمنين11: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا
مِنْ قَبْلُ} وفي النمل12: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ
وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} .
في القصص13: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
يَسْعَى} وفي يس14: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى} .
فصل:
قولنا: اختيار بعض ما لا يتجزأ اختيار لكله.
هي عبارة الأصحاب. وقد يعبر عن الغرض بعبارة هي أعم من تلك
فيقال: الحكم على بعض ما لا يتجزأ بنفي أو إثبات حكم على كله.
ولنذكر مسألة من هذا القبيل يتضح بها المقصود؛ فنقول اعتقد
الرافعي أن الغرة الواجبة في الجنين لا تتجزأ عند بعض أصحابنا،
فحكى في الجنين -المحكوم له باليهودية أو النصرانية- ثلاثة
أوجه
__________
1 آية: 102.
2 آية: 62.
3 آية: 151.
4 آية: 31.
5 آية: 14.
6 آية: 12.
7 آية: 41.
8 آية: 54.
9 آية: 96.
10 آية: 52.
11 آية: 83.
12 آية: 68.
13 آية: 20.
14 آية: 20.
(1/109)
إحداها: وجوب غرة ولا يقال بالتسوية بينه
وبين الجنين المسلم؛ لأنه لا سبيل إلى الإهدار ولا إلى تجزئة
الغرة.
وثانيها: لا يجب شيء لامتناع التسوية بين المسلم والكافر
وامتناع التجزئة. وهذان الوجهان على معتقد الرافعي ناشئان عن
اعتقاد عدم التجزئة وأصحها: أنه يجب ثلث ما يجب في الجنين
المسلم.
وقد اتضح غرضنا بذكر هذه المسألة، وإن كانت في الرافعي غير
محررة، ولأن الوجه الأول غير معروف في المذهب، وغالب الظن أنه
وهم في الرافعي من وجه حكاه الإمام في النهاية. أنه يجب عبد
ناقص القيمة نسبته غلى دية الكافر كنسبة خمس من الإبل إلى دية
المسلم؛ فالتسوية واقعة في وجوب أصل العبد، لا في استواء
العبدين؛ فلا قائل بأن الغرة الواجبة في المسلم تساوي الواجبة
في الكافر.
وكذلك الثاني؛ إذ لا يعرف قائل بإهدار الجنين الكافر وإنما هو
وهم في الرافعي من وجه حكاه الإمام أيضا عن المراوزة أن الغرة
لا مدخل لها في الجنين الكافر فلا يجب فيه عبد ولا جزء من عبد.
وليس مراد الإمام أنه لا يجب شيء أصلا؛ بل لا يجب غرة، وتجب
عشر دية الأم كما صرح به الإمام في النهاية قبل هذه العبارة
الموهمة بنحو أربعة أسطر.
ولكن الغزالي لما رأى الإمام، لا مدخل للغرة في جنين الكافر
-توهم أنه لا يجب شيء فأطلق العبارة في ذلك، فتبعه الرافعي.
نبه على هذا الموضع -في الرافعي- الشيخ برهان [الدين] 1 ابن
الفركاح -رحمه الله- وأطال في ذلك [في] 2 تعليقه على التنبيه.
قاعدة: الاحتياط أن نجعل المعدوم كالموجود والموهوم كالمحقق
وما يرى على بعض الوجوه لا يرى إلا على كلها.
وقد اتفق لي مرة الاستدلال على هذه القاعدة بقوله تعالى:
{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ} 3 فلا يخفى أنه أمر باجتناب بعض ما ليس بإثم خشية من
الوقوع فيما هو إثم؛ وذلك هو الاحتياط، وهو استنباط جيد. مثال
جعل المعدوم
__________
1 سقط في ب.
2 سقط في ب.
3 الحجرات آية 12.
(1/110)
كالموجود: المنافع المعقود عليها في
الإجارة؛ فإنا نجعلها كالموجود نورد العقد عليها.
ومثال الموهوم المجعول كالمحقق: أكثر أحكام الخنثى المشكل، وقد
أفرد بعض أئمتنا كتابا بأحكام الخناثى؛ فلا معنى للتطويل
بتعديدها.
ومثال جعل ما يرى على بعض الوجوه لا يرى إلا على كلها تارك
الصلاة نسي عينها من الخمس؛ فإنا نوجب عليه الخمس وإن كانت
البراءة، في نفس الأمر تحصل بواحدة. واعلم أن مسائل الاحتياط
[كثيرة] 1 يطول استقصاؤها يرجع حاصلها إلى [أن] 2 الاحتياط قد
يكون لتحصيل المنفعة كإيجاب الصلاة على المتحيرة وإن احتمل
كونها حائضا، وقد يكون لدفع المفسدة كتحريم وطئها، وأوجبوا
الاحتياط في مسائل:
منها: في الزكاة مسألة الإناء إذا عسر التمييز، وفيما إذا تحقق
في ذمته زكاة وشك هل هي درهم أو دينار أو شاة أو بعير. وإن لم
يعتضد بأصل. وفي الصلاة المنسية من خمس لاعتضاده بأصل.
ولم يوجبوه فيما إذا شك هل الخارج من ذكره مذي أو مني؛ بل
صححوا أنه يتخير لأنه إذا أخذ بأحدهما فالأصل عدم وجوب الآخر.
قال الشيخ الإمام -في باب الحيض- ويحتاج أن يفرق بينه وبين
الشك في عين الزكاة الواجبة، قال ومسألة الزكاة فيها نظر، أما
مسألة الإناء فظاهرة لإمكان التمييز بالشك.
تنبيه:
في هذه القاعدة مهمات وقواعد عنها مشتعبات.
منها ما اشتهر في كلام كثير من الأئمة -ويكاد يحسبه الفقيه
-مجمعها عليه- من أن الخروج من الخلاف أولى وأفضل وقد أشكل بعض
المحققين على هذا وقال: الأولوية والأفضلية إنما [يكون] 3 حيث
سنة ثابتة وإذا اختلفت الأمة على قولين: قول بالحل وقول
بالتحريم، واحتاط المستبريء لدينه وجرى في فعله على الترك حذرا
من ورطات الحرمة لا يكون فعله ذلك سنة؛ لأن القول بأن هذا
الفعل متعلق الثواب من غير عتاب
__________
1 سقط في ب.
2 سقط في ب.
3 سقط في ب.
(1/111)
على الترك قول لم يقل به أحد، إن الأئمة
كما ترى بين قائل بالإباحة. وقائل بالتحريم فمن أين الأفضلية.
وأنا أجيب عن هذا بأن أفضليته ليست لثبوت سنة خاصة فيه بل
لعموم الاحتياط والاستبراء للدين، وهو مطلوب شرعا مطلقا؛ فكان
القول بأن الخروج أفضل ثابت من حيث العموم، واعتماده من الورع
المطلوب شرعا فمن ترك لعب الشطرنج معتقدا حله خشية من غائلة
التحريم فقد أحسن وتورع إذا عرفت هذا فأقول: ليس الخروج من
الخلاف أولى مطلقا، بل بشرطين أحدهما: أن لا يؤدي الخروج منه
إلى محذور شرعي من ترك سنة ثابتة أو اقتحاما أمر مكروه أو نحو
ذلك ومن ثم مسائل.
منها: فصل الوتر أفضل من وصله لحديث "ولا تشبهوا بالمغرب"1
ومنع أبو حنيفة فصله وفي وجه عندنا أن الوصل أفضل للخروج من
خلافه لكنه ضعيف لكونه يتوقف على أن يكون بقية العلماء يجيزون
الوصل؛ وإلا فلا يحصل الخروج من الخلاف مطلقا، وبتقدير تجويزهم
لا يلزم لأن الوصل يلزم منه ترك سنة ثابتة.
الشرط الثاني: أن يقوى مدرك الخلاف، فإن ضعف ونأى عن مأخذ
الشرع كان معدودا من الهفوات والسقطات. لا من الخلافيات
المجتهدات وسيكون لنا كلام على هذا الشرط في قاعدة من علم حرمة
شيء وجهل وجوب الحد فيه -الآتية- إن شاء الله تعالى في قواعد
ربع الجنايات.
وهناك تنبيه على أنه لا نظر إلى القائلين من المجتهدين2 بل إلى
أقوالهم ومداركها قوة وضعفا، ونعني بالقوة ما يوجب وقوف الذهن
عندها وتعلق ذي الفطنة بسبيلها لانتهاض الحجة بها؛ فإن الحجة
لو انتهضت بها لما كنا مخالفين لها.
إذا عرفت هذا فمن قوي مدركه اعتد بخلافه وإن كانت مرتبته [في
الاجتهاد] 3
__________
1 والحديث من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أوتروا بخمس أو بسبع أو تسع أو بإحدى عشرة".
الدارقطني وابن حبان والحاكم، وقال الحافظ في التلخيص 2/ 15
ورجاله ثقات ولا يضره وقف من أوقفه.
2 ولذلك لا ينظر لخلاف عطاء في عدم وجوب الحد على المرتهن
بوطئه المرهونة وعطاء من سادات العلماء.
3 سقط من أوالمثبت من ب.
(1/112)
دون مرتبة مخالفة ومن ضعف مدركه لم يعتد
بخلافه وإن كانت مرتبته أرفع وربما قوي مدرك بعضهم في بعض
المسائل دون بعض؛ بل هذا لا يخلو عنه مجتهد.
تنبيه: قوة المدرك وضعفه مما لا ينتهي إلى الإحاطة به إلا
الأفراد، وقد يظهر الضعف أو القوة بأدنى تأمل، وقد يحتاج إلى
تأمل وفكر، ولا بد أن يقع هنا خلاف في الاعتداد به ناشئا عن
المدرك قوي أو ضعيف.
[مثاله] 1: ما يظهر ضعفه: إعارة الجواري للوطء. كما سنتكلم
عليه في ربع الجنايات وكذلك ما ذهب إليه ما ذهب إليه داود من
قوله في التغوط في الماء الراكد، وقوله "لا ربا إلا في
النسيئة" المنصوصة وكثير من أقوال شاذة منقولة عن كثير من
المجتهدين ومثال ما تردد النظر في قوته وضعفه: الصوم في السفر؛
فإن داود قال: إنه لا يصح، ومن ثم اختلف أنه هل الأفضل الفطر
مطلقا خروجا من خلافه، والراجح في مذهبنا أن الأفضل الفطر لمنخ
يتضرر بالصوم والصوم لمن لا يتضرر به. وزعم إمام الحرمين -هنا-
أن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنا وقد تكلمت على
هذا في الطبقات الكبرى في ترجمة داود، وبينت كلام أئمتنا في
خلاف داود وأن الصواب الاعتداد بخلافه عند قوة مأخذه كغيره.
فصل:
فإن قوى المدرك اعتد بالخلاف، ومن ثم قصر الصلاة للمسافر أفضل
لقول من أوجبه. وترك الجمع أفضل لقول من منعه وكتابة العبد
القوي الكسوب سنة لأن داود أوجبها.
وقع هنا للقاضي الحسين كلام موهم -نقله عن ابن الرفعة بعبارة
تزيده إيهاما؛ ففهمه الطلبة فهما يزيد على مدلوله، فصار -كما
قلت- غلط على غلط ومن يغلط ويرجى حين يدري يعذر.
وهو أن ابن الرفعة في صلاة المسافر حكى قول الإمام: أن
المحققين لا يقيمون لخلاف أهل [الظاهر] 2 وزنا، ثم قال: وفيه
[نظر] 3 فإن القاضي الحسين نقل عن الشافعي أنه قال في الكتابة:
لا أمتنع عن كتابة العبد عند جمع القوة والأمانة [وإنما
__________
1 في ب مثال.
2 في ب الظاهرية.
3 سقط من ب.
(1/113)
استحب الخروج من الخلاف؛ فإن داود أوجب
كتابة عدد من جمع القوة والأمانة] 1.
وداود من أهل الظاهر، وقد أقام الشافعي لخلافه وزنا، استحب
كتابة من ذكره [لأجل خلافه] 2 انتهى.
وداود مولده قبل وفاة الشافعي بسنتين؛ فلا يمكن أن يراعي
الشافعي خلافه؛ فمن ثم غلط الطلبة ابن الرفعة والقاضي الحسين
وقالا: إن هذا غلط من قولهما عندما فهموا أن الجملة كلها [في]
3 كلام الشافعي وقرؤوا: إنما استحب -بفتح الهمزة وكسر الحاء-
فعل مضارع للمتكلم؛ وإنما هو استحب بفتح الحاء، والفعل ماض
والمستحب هو القاضي الحسين. وأما الشافعي: فلم يزد على أنه لا
يمنع كتابة من هذا شأنه؛ وإنما استحبها فالخلاف من أوجبها قبل
داود؛ فإن داود لم يخترع القول بإيجابها، بل وافق مجتهدا سبقه
وإلا لكان خارقا للإجماع.
نبه عليه الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله-[وذكرناه] 4 في
الطبقات الكبرى بأبسط من هذه العبارة، [وذكرنا] 5 أنه وقع
للإمام "في النهاية" في كتاب اختلاف الحكام والشهادات -نظير ما
وقع للقاضي الحسين مع تصريحه في كتاب الظهار بما لا يخفى مثله
عليه من أن داود متأخر الزمان عن الشافعي.
فصل:
فإن اعتد بالخلاف ولم يلزم من الخروج منه محذور، استحب الخروج
منه؛ وذلك في مسائل: منها ما ذكرناه، ومنها ما سنذكره.
واعلم أن ما كان مختلفا فيه فهو من قبيل القسم الثاني الذي
يتردد النظر في قوته وضعفه كصوم السفر.
فمنها: يستحب استيعاب الرأس بالمسح للخروج من خلاف الموجب له
وبالإيجاب قال بعض أصحابنا.
ومنها: يستحب أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام لذلك. وعبارة
الشافعي: أنا لا
__________
1 سقط من أوالمثبت من ب.
2 في ب لأجله.
3 في ب من.
4 وفي ب وذكرنا.
5 سقط في ب.
(1/114)
أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام احتياطا
على نفسي.
قال القاضي أبو الطيب: وهو كقوله: إذا مرض الإمام؛ فإنه يصلي
قاعدا والناس قيام خلفه، [والأفضل] 1 أن يستخلف من يصلي بهم
حتى من الخلاف.
وكقوله في الحالف -إذا كفر بالمال- الأفضل أن يؤخر إلى أن
يحنث. وكقوله -في الركاز بعد أن بين مذهبه في القليل: ولو كنت
أنا الواجد لخمست القليل.
ومنها: يستحب نية الإمام؛ بخلاف من أوجبها.
ومنها: حيث انتفى التحريم في استقبال القبلة واستدبارها بالبول
والغائظ لوجود الساتر، فالأدب أن لا يستقبلها ولا يستدبرها؛
لأنه قيل بالحرمة مع الساتر.
ومنها: إذا رأى المتيمم الماء في أثناء الصلاة المغنية عن
القضاء كصلاة المسافر فلا تبطل؛ غير أن الصحيح أن قطعها ليتوضأ
أفضل، لأن فيه خروجا من خلاف من حرم عليه الاستمرار.
وقيل: الأفضل المضي فيها ولا يلتفت إلى الخلاف، وقيل: يجب
المضي فيها، وقيل الأفضل قلبها نافلة.
ومنها: من عليه فائتة ووجد الجماعة الحاضرة، جزم "في الروضة"
قبل باب شروط الصلاة أن تقدم الفائتة منفردا أولى؛ لأن الترتيب
مختلف في وجوبه والقضاء خلف الأداء مختلف في جوازه.
لكن الذي جزم به الغزالي "في إحياء علوم الدين" في باب أسرار
الصلاة خلافه وجزم به أيضا صاحب التعجيز2 وذكر -في شرحه- أن
جده عماد الدين ذهب إليه.
قلت: والقلب إليه أميل، وقد تكلمت عليه في الطبقات في ترجمة
الشيخ العماد ابن يونس.
__________
1 وفي ب والأفضل له.
2 عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن يونس بن منعة الفقيه المحقق
العلامة تاج الدين أو القاسم بن الإمام رضي الدين بن الإمام
عماد الدين بن الإمام رضي الدين الموصلي كان من بيت الفقه
والدين والعلم بالموصل ولد بالموصل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة،
وأفاد وصنف قال الإسنوي كان فقيها أصوليا فاضلا توفي في جمادى
الأولى سنة إحدى وسبعين وقيل سنة سبعين.
ابن قاضي شهبة 2/ 136، ذيل مرآة الزمان 3/ 14، البداية
والنهاية 13/ 295، شذرات الذهب 5/ 332.
(1/115)
فصل:
وربما يرقى الخروج من الخلاف عن درجة الاستحباب عن درجة
الاستحباب إلى درجة كراهية الوقوع فيه وذلك في مسائل.
منها: مسألة [العينة] 1 ذكر النووي تبعا لصاحب "البحر" أن
الوقيعة فيها مكروهة قال النووي: "دلائل الكراهة أكثر من أن
تحصر".
قلت: واقتصر الرافعي -حيث ذكر المسألة في باب الربا- على
الجواز وفي البيوع المنهي عنها على أنها ليست من المناهي2.
ولا يحضرني دليل على كراهتها، وقصة عامل خبير "بع التمر بتمر
آخر ثم اشتريه3. يقتضي عدم الكراهة؛ لأنه أذن له في ذلك ولا
يأذن صلى الله عليه وسلم في مكروه.
__________
1 سقط في ب.
2 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص معقبا على كلام
الرافعي: يعني ليس ذلك عندنا من المناهي - وإلا فقد ورد النهي
عنها من طرق عقد لها البيهقي في سنته بابا ساق فيه ما ورد من
ذلك بعلله، وأصح ما ورد في ذم بيع العينة ما رواه أحمد
الطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن
عمر قال: أتى علينا زمان وما يرى أحدنا أنه أحق بالدينار
والدرهم من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة أذناب
البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلا؛ فلم
يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم. صححه ابن القطان بعد أن أخرجه
من الزهد لأحمد كأنه لم يقف على المسند وله طريق أخرى عند أبي
داود وأحمد أيضا من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر.
قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه
لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم
ينكر سماعه من عطاءن وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخرساني
فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع
الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور.
قوله: وليس من المناهي بيع رباع مكة لنا اتفاق الصحابة ومن
بعدهم عليه، روى البيهقي عن عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة وأن
ابن الزبير اشترى حجرة سودة وأن حكيم بن حزام باع دار الندوة
وأورد البيهقي في الخلافيات الأحاديث الواردة في النهي عن بيع
دورها وبين عللها، ولعل مراده بنقل الاتفاق أن عمر اشترى الدور
من أصحابها في وسع المسجد، وكذلك عثمان وكان الصحابة في
زمانهما متوافرين، ولم ينقل انكار ذلك انظر التلخيص.
3 انظر البخاري 4/ 490 في كتاب الوكالة/ باب إذا باع الوكيل
شيئا فاسدا فبيعه مردود "2312"، ومسلم 3/ 1215 في كتاب
المساقاة/ باب بيع الطعام مثلا بمثل حديث "96/ 1594".
(1/116)
تنبيه: علمت إنما يستحب الخروج من الخلاف
عند قوته وعدم التأدية إلى محذور.
واعلم أنا نتطلب لقوته إذا أدى الخروج منه إلى محذور ما لا
نتطلبها إذا لم يؤد؛ فربما راعينا الخلاف إذا كان الخروج منه
لا يؤدي إلى محذور لمأخذ لا يلتفت إلى مثله إذا أدى إلى محذور.
وكذلك ربما قوي الخلاف جدا وإن لم تنهض حجة. وضعف من أجله مأخذ
المحذور فراعيناه وإن أدى إلى ذلك المحذور الضعيف ولنمثل له:
بمن يديم السفر؛ فإن الإتمام أفضل له من القصر مراعاة لقول بعض
العلماء أنه لا يجوز القصر في هذه الحالة وإن تضمن هذا القول
ترك سنة القصر.
إلا أنه لم يؤد إلى تركها مطلقا؛ بل في هذه الصورة النادرة
التي لعل سنة القصر لم القوة وعدم التأدية إلى محذور، فيقال:
إنما تشترطان على الوجه الذي بيناه الآن.
فصل:
ومن القواعد المتشعبات والأصول الملتقيات من هذه القاعدة قول
أئمتنا: ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال، وهو
كما قال البيهقي1: حديث رواه جابر الجعفي -رجل ضعيف2- عن
الشعبي، عن ابن مسعود، وهو منقطع3؛ غير أن القاعدة في نفسها
صحيحة.
__________
1 كتاب النكاح/ باب الزنا لا يحرم الحلال 1/ 169.
2 قال السيوطي: وأخرجه من هذا الطريق عبد الرزاق في مصنفه وهو
موقوف على ابن مسعود لا مرفوع.
جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي أبو عبد الله،
ويقال أبو يزيد الكوفي، روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة
وعطاء وطاوس وخيثمة والمغيرة بن شبيل وجماعة وعنه شعبة والثوري
وإسرائيل والحسن بن حي ومسعر ومعمر وأبو عوانة وغيرهم.
قال أبو نعيم عن الثوري: إذا قال جابر حدثنا وأجزنا فذاك، وقال
ابن مهدي عن سفيان ما رأيت أورع في الحديث منه، وقال شعبة جابر
إذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس، وقال شعبة: جابر صدوق،
وقال النسائي: متروك الحديث وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا
يكتب حديثه وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال ابن عدي:
له حديث صالح وإن شئت مزيد تفصيل فانظر تهذيب التهذيب 2/
47-51.
3 هو في اللغة مأخوذ من القطع وهو فصل الشيء مدركا بالبصر
كالأجسام أو مدركا بالبصيرة كالأشياء المعقولة وهو مطاوع القطع
نقول قطعته فانقطع.
وفي الاصطلاح فيه آراء منها ما سقط من رواته راو واحد قبل
الصحابي في الموضع الواحد وهذا هو المشهور ومنها ما لم يتصل
إسناده وهو الأقرب إلى المعنى اللغوي.
ومنها قال التبريزي ما سقط مما ليس في أول الإسناد من رواته
راو واحد قبل الصحابي في الموضع الواحد.
(1/117)
قال الشيخ أبو محمد في "السلسة" لم يخرج
عنها [إلا] 1 ما ندر، والعبرة بالغالب قلت: وقد عورض الحديث
المذكور بما رواه ابن ماجة2 والدارقطني3 من حديث ابن عمر "لا
يحرم الحرام الحلال".
وليس بمعارض، لأن المحكوم به في الأولى. أعطي الحلال حكم
الحرام تغليبا واحتياطا لا صيرورته في نفسه حراما.
ومن ثم مسائل.
منها: لو أشبهت منكوحة بأجنبيات محصورات لم يحل.
منها: من باب الربا قاعدة مد عجوة ودرهم؛ فإن الجهل بالمماثلة
كحقيقة المفاضلة.
ومنها: من أحد أبويه كتابي والآخر مجوسي أو وثني حل المنكاحة
[خلاف والأصح التحريم] 4.
ومنها: إذا أكل الكلب المعلم من الصيد في موضعه؛ فالصحيح
تحريمه لحديث عدي بن حاتم.
ومنها: رجح الجمهور التحريم فيما إذا أصاب صيدا وغاب ثم وجد
مبتا وليس فيه أثر غير سهمه ورجح النووي الحل.
__________
1 في أإذا والمثبت من ب.
2 1/ 649. في كتاب النكاح/ باب لا يحرم الحرام والحلال حديث
"2015".
قال البوصيري في زوائده 2/ 24 هذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن
عمر العمري.
3 3/ 268 في كتاب النكاح/ باب المهر حديث "89".
4 سقط في ب.
(1/118)
القول فيما شذ عن
هذا الأصل
...
القول فيما شذ عن هذه الأصل:
منها: إذا رمى سهما إلى طائر [فجرحه] 1 ثم [وجده] 2 ميتا؛ فإنه
يحل.
ومنها: إذا كان الثوب منسوجا من حرير وكتان على التسوية فالأصح
حله.
ومنها: إذا اختلط ملكه بملك [غيره] 3 وعسر التمييز كما إذا
اختلط حمامة واحدة بحماماته.
قاعدة: اشتهر عن المالكية "سد الذرائع".
وزعم القرافي4 أن كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية إلا من
حيث زيادتهم فيها.
قال: فإن من الذرائع ما يعتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق
المسلمين وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم حاله
أنه يسب الله عند سبها.
وملغى إجماعا، كزراعة العنب؛ فإنها لا تمنع خشية الخمر وما
يختلف فيه كبيوع الآجال قلت: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم
منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا
يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى
سد الذرائع في شيء.
نعم حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي رضي الله عنه بسد
الذرائع -من نصه- رضي الله عنه- في باب "إحياء الموات" من الأم
إذ قال -رضي الله عنه- بعد ما ذكر النهي عن بيع الماء ليمنع به
الكلأ5، وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم
__________
1 في "ب" فجرحه فوقع.
2 في "ب" وجد.
3 في "ب" الغير.
4 وهو شهاب الدين: أبو العباس أحمد بن العلاء: إدريس بن عبد
الرحمن بن عبد الله بن بلين الصنهاجي الأصل البهني المصري
الإمام العلامة انتهت إليه رئاسة الفقه على مذهب مالك رحمه
الله كان إماما بارعا في الفقه والأصول والعلوم العقلية وله
معرفة بالتفسير أخذ عن عز الدين بن عبد السلام الشافعي وعن
قاضي القضاء أبي بكر بن عبد الواحد المقدسي توفي رحمه الله
بدير الطين في جمادى الآخرة عام أربعمائة وثمانين وستمائة ودفن
بالقرافة.
الديباج المذهب 1/ 226.
5 انظر البخاري 5/ 31 في كتاب المساقاة/ باب من قال إن صاحب
الماء أحق بالماء "2353" ومسلم 3/ 1198 في المساقاة/ باب تحريم
فضل بيع الماء "38/ 1566".
(1/119)
يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم
الله ما نصه: وإذا كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع
إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام. انتهى.
ونازعه الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله- وقال: إنما أراد
الشافعي -رحمه الله- تحريم المسائل؛ لا سد الذرائع، والوسائل
تستلزم المتوسل إليه ومن هذا النوع منع الماء؛ فإنه مستلزم
عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من
الوسائل، ولذلك نقول من حبس شخصًا ومنعه الطعام والشراب فهو
قاتل له. وما هذا من سد الذرائع في شيء. قال الشيخ الإمام:
وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، والنزاع بيننا وبين
المالكية إنما هو في سدها، ثم لخص القول.
وقال: الذريعة ثلاثة أقسام.
أحدها: ما يقطع بتوصله إلى الحرام؛ فهو حرام عندنا وعند
المالكية.
والثاني: ما يقطع بأنها لا توصل ولكن اختلطت بما يوصل فكان من
الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها توصل
إلى الحرام فالغالب منها الموصل إليه. قال الشيخ الإمام: وهذا
غلو في القول بسد الذرائع.
الثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب تتفاوت بالقوة والضعف
ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها، وقال: ونحن نخالفهم
في جميعها إلا في القسم الأول، لانضباطه وقيام الدليل عليه.
قلت: أما موافقتهم في القسم الأول فواضحة؛ بل نحن نقول في
الواجبات بنظيره؛ ألا ترانا نقول: ما لم يتم الواجب إلا به؛
فهو واجب "فبطريق الأولى أن نحرم ما يوقع في الحرام".
وأما مخالفتهم في القسم الثاني: فكذلك، وما أظن غير المالكية
يذهب إليه ولا أظنهم يتوقفون عليه.
وأما القسم الثالث: فلعله الذي حاول ابن الرفعة تخريج قول فيه
بما ذكره عن النص.
وقد عرف ما فيه، واستشهد له أيضا بالوصي يبيع شقصا على اليتيم
فلا يؤخذ بالشفعة على الأصح عند الرافعي وبالمريض يبيع شقصًا
بدون ثمن المثل أن الوارث لا يأخذ بالشفعة -على وجه سد
الذريعة- للمتبرع عليه. وحاول ابن الرفعة بذلك تخريج
(1/120)
وجه في مسألة العينة، ولا يتأتى له هذا
فتلك عقود قائمة بشروطها ليس فيها خلل بوجه؛ فما ينهض عندنا
منعها بوجه وإن منعها أو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله تعالى.
ولنذكر صورا. ربما يصور مصور فيها. أنا نقول ببعض القسم الثالث
غير ما ذكره ابن الرفعة.
منها: إقرار المريض للوارث على قول الإبطال، وليس ذلك من سد
الذرائع ولا لأجل التهمة -كما يقول مالك- بل لأن المريض محجور،
ثم هو قول ضعيف. وقد عقد الشافعي بابا لذلك -ترجمه- بالحكم
الظاهر- وذكر فيه أنا لا نشق على قلوب الناس في الإسلام الذي
هو الأصل فغيره أولى وذكر شأن المنافقين، وإقرارهم على النفاق.
وغير ذلك مما يدل على أن التهمة لا اعتبار لها.
وقد ألزم أصحابنا [مالكا] 1 رحمه الله حيث منع إقرار المريض
للتهمة فقالوا: حالة الرض تذكر المؤمن بلقاء الله وتحمله على
قول الحق إقدامه فيها على الباطل -كما قال مالك: إن المريض إذا
قال: فلان قاتلي. كان لونا لمثل ذلك وإن كنا لا نرضى ذلك
القول.
ومنها: إذا ادعت المجبرة محرميته أو رضاعا بعد العقد قال ابن
الحداد: يقبل قولها؛ لأنه من الأمور الخفية وربما انفردت بعلمه
وقال ابن سريج لا يقبل. وهو الصحيح؛ لأن النكاح معلوم والأصل
عدم المحرمية، وفتح هذا الباب للنساء هو طريق في الفساد: وهذا
ليس من القول بسد الذرائع، بل هو اعتماد على الأصل؛ بحيث لا
يزال إلا باليقين.
ومنها: سأل الفقيه -نصر الله المصيصي2- الإمام أبا حامد
الغزالي- وكان كثيرا ما يكتب إليه بالأسئلة فيجيبه -في الرجل
يطلق ثلاث بعد صحبة سنين وبعد أولاد فيقول
__________
1 سقط من أوالمثبت من ب.
2 نصر الله بن عبد القوي أبو القع المصيصي الأشعري نسبا ولد
سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. قال ابن السمعاني كان إماما فقيها
أصوليا متكلما دينا خيرا متيقنا حسن الإصغاء بقية مشايخ الشام
وتوفي في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ودفن بمقابر
باب الصغير.
ابن السبكي 4/ 319، البداية والنهاية 12/ 223، مرآة الجنان 3/
275، ابن قاضي شهبة 1/ 326.
(1/121)
له المفتي من كان وليها؟ هل كان يشرب الخمر
ويدخل الحمام بلا مئزر وغيره مما يسقط العدالة؟ فإذا ذكر له
ذلك، أفتى بعد وقوع الطلاق، لفساد النكاح عنده في الأصل ثم عقد
أو غيره عقدا من غير أن يثبت مقارنة ذلك الفسق للأصل وأطال في
الاستفتاء. ويفسخ هذا الفعل. فأجاب الغزالي بجواب طويل رجح فيه
أن الفسق لا يسلب الولاية وأن من شهد ببطلان هذا النكاح؛ فقد
شهد أولا على نفسه في غالب الأمر بأنه ولد الحرام فإن غالب
الناس فساق -وأطال في ذلك- ثم قال: الصحيح أن أنكحة أهل العصر
صحيحة وأولادهم أولاد حلال: وطلاقهم واقع لا يحل بعد استيفاء
الثلاث [إلا بنكاح] 1 جديد.
ومنها: سئل في عصر النووي عن رجل تزوج -وكان تاركا للصلاة
فاسقا ومن غير أن يزوجه حاكم ولا وصي ثم طلق ثلاثا فأفتى
النووي بفساد نكاحه، وأن لا يقع عليه طلاق؛ فأنكر ذلك الشيخ
تاج الدين. والصواب مع الشيخ تاج الدين إن كان مهملا، ومع
النووي إن كان تحت جدر وصي، ولعله إنما أراد هذه الحالة.
ومنها: سئل الشيخ تاج الدين عن رجل أراد السفر بزوجته فادعى
عليها إنسان بدين فصدقته فطلب حبسها وتعويضها عن السفر.
فأجاب بأنه لا يسقط حق الزوج عن السفر وذكر أن القاضي عز الدين
بن الصائغ2. حكم بخلافه وخطأه.
قلت: وفي فتاوي ابن الصلاح ما يوافق حكم ابن الصائغ، ومحل هذا
فيما إذا سبقت إرادته السفر.
__________
1 في ب يعقد.
2 محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر
الأنصاري قاضي القضاة عز الدين أبو المفاخر الدمشقي المعروف
بابن الصائغ، ولد في شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة وأخذ عن
الكمال إسحاق وشمس الدين عبد الرحمن المقدسي ولازم الشيخ كمال
الدين التقليسي، ولي وكالة بيت المال ثم ولي القضاء في سنة تسع
وستين.
وقال الذهبي: كان عارفا بالمذهب، بارعا في الأصول والمناظرة،
توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة ودفن بتربته
بسفح قاسيون.
ابن السبكي 5/ 31، ابن قاضي شهبة 2/ 196، مرآة الجنان 4/ 199،
شذرات الذهب 5/ 383، تاريخ ابن الوردي 2/ 232.
(1/122)
فإن الدعوى بعد ذلك بدين قرينته أن القصد
منعها من السفر، والمسألة مسطورة "في أدب القضاء" لشريح
الروياني1، وجزم فيها بما حكم فيه ابن الصائغ من أن للمقر له
حبسها، وأنه لا يقبل قول الزوج إن قصد منع المسافرة.
قال: فإن أقام الزوج بينة أن إقرارها كان قصدا إلى منع
المسافرة.
فهل يقبل؟ وجهان. انتهى.
فصل:
وأما قتل الجماعة بالواحد وتحريم الخلوة بالأجنبية ووجوب
القصاص على السكران، وتحريم عبور الحائض المسجد، وإن أمنت
التلويث -على الخلاف [فيه] 2 وتحريم وتحليل الخمر.
قاعدة: مستنبطة استخرجها الإمام الوالد رحمه الله وذكرها في
تفسيره في سورة المجادلة وفي غير ذلك من كتبه.
كل إنشاء سد تصرف الشرع فهو باطل.
بخلاف الذي منه مخلص. وعند مندوحة، ومن ثم مسائل.
منها: الظهار محرم؛ بخلاف قوله لزوجته: أنت علي حرام فإنه
مكروه لا ينتهي إلى التحريم وإن اشتركا في تحريم ما أحل الله،
والفرق أنه لا مخلص عن الظهار لو صح بأن التحريم الذي هو
كتحريم الأم مع الزوجية لا يجتمعان.
ومنها: التعليق الدوري باطل؛ لإفضائه إلى سد باب الطلاق الذي
شرعه الشارع.
قاعدة: "من ارتكب محرما يمكن تداركه بعد ارتكابه وجب عليه
تداركه". وهذا أصل مطرج انتهى فيه حملة الشريعة إلى إيجاب أن
يتقيأ الخمر من شربها، ولم أجد شيئا يخرج عنه إلا فيما كان
تحريمه بالعرض لا بالأصالة فقد لا يجب تداركه في صور
__________
1 شريح بن عبد الكريم بن أحمد القاضي أبو نصر ابن القاضي أبي
معمر ابن الشيخ أبي العباس الروياني ابن عم صاحب البحر كان
إماما في الفقه وولي القضاء بآمل طبرستان وصنف كتابا في القضاء
سماه روضة الحكام وزينة الأحكام.
ابن السبكي 4/ 225، هداية العارفين 1/ 416، ابن قاضي شهبة 1/
284.
2 سقط في ب.
(1/123)
منها: [الخمر] 1 لا يجوز عصبها من ذمي وإذا
غصبها منه فالذي صححه الرافعي والنووي أنه يجب ردها عليه، قال
الرافعي في باب الجزية: وعليه [الرد] 2، وذهب المحققون إلى أنه
لا يجب الرد؛ بل الواجب التخلية بين الذمي وبينها، قال الشيخ
الإمام: وهذا الوجه قوي.
قلت: وهو [الأرجح] 3 وسيأتي إن شاء الله في قسم أصول الفقه في
مسألة تكليف الكافر بالفروع، نص الشافعي يدل عليه، وحكى صاحب
التهذيب وجها نقله عن الرافعي في باب الجزية أنه لا يجب
استرجاعه، لأنه يحرم اقتناؤه بالشرع.
ومنها: إذا تحجر مواتا فليس لغيره الإحياء فيه؛ فإن أحيي الغير
مكله على الراجح، لأن الأول لم يملكه بالتحجير.
ومنها: لو اشترى الذمي دارا عالية لم يجز هدمها عليه؛ فإن هدمت
أعيدت.
قاعدة: ما تعتبر فيه الموالاة فالتخلل القاطع لها مضر.
غير أنه إنما يعرف بالعرف، وربما كان مقدار من التخلل مغتفرا
في باب "لا يشاع الأمر في دون باب يضيق فيه أكثر"؛ ألا ترى أن
الزوج -في الخلف- إذا بدأ بصيغة معاوضة كخالعتك بكذا اشترط
قبولها بلفظ غير منفصل، ولا يشترط فيه -من الاتصال- القدر
المشروط بين الإيجاب والقبول في البيع.
بل مجلس الخلع أوسع قليلا على ما أشار إليه بعض الأصحاب، وإن
كان كلام الأكثرين يشير إلى أنه لا فرق.
والفرق عندي أظهر، وربما يغتفر في لفظ لا يغتفر مثله في لفظ
آخر؛ ألا ترى إلى قول الإمام أن الاتصال المعتبر في الاستثناء
أبلغ من بين الأيجاب والقبول لصدرورهما من شخصين، وقد يحتمل من
شخصين ما لا يحتمل من شخص واحد.
إذا عرفت هذا فالضابط عندي -في التحلل المضر- أن يعد الثاني
منقطعا عن الأول، وقد يختلف هذا باختلاف الأبواب، فرب باب يطلب
فيه من الاتصال ما لا يطلب في غيره؛ لأنه يعد فيه منقطعا كما
قلناه في البيع والخلع.
وقد يختلف باختلاف المتخلل نفسه فقد يكون كلام الأجنبي -وإن
كان يسير-
__________
1 سقط في ب.
2 في ب مؤنة الرد.
3 وفي ب الراجح.
(1/124)
بمنزلة الكلام الطويل غير الأجنبي، ومن غير
الأجنبي وبمنزلة السكوت الطويل فيما تعتبر في الموالاة من
الأفعال.
وقد يغتفر من خلل السكوت قد لا يغتفر مثله إذا اشتغل فيه بكلام
أجنبي وقد يغتفر من التخلل بعذر -كالتنفس والسعال- ما لا يغتفر
عند غير العذر. فصارت مراتب.
أقطعها للاتصال كلام أجنبي من أجنبي وكذا من غير أجنبي وأبعدها
عن قطع الاتصال سكوت يسير لعذر وكذا بغير عذر، ومن ذلك مراتب
لا تخفي عن المنال وليعد ما تعتبر الموالاة فيه، وهو ضربان:
قول وفعل.
الضرب الأول: القول منها -وهو أشدها اتصالا- الاستثناء ولا يضر
فيه سكتة التنفس والعي، وقد قدمنا عن الإمام أن المعتبر فيه من
الأتصال فوق المعتبر بين الإيجاب والقبول؛ [ولذلك كان الراجح
منه انقطاعه بالكلام اليسير بخالف الإيجاب والقبول] 1.
لكن نقل النووي عن صاحب العدة والبيان أنهما حكيا عن مذهبنا
أنه إذا قال: علي ألف -استغفر الله- إلا مائة صح، وأنهما احتجا
بأنه فصل يسير -قالا- وصار كقوله علي ألف يا فلان إلا مائة.
قال النووي: وهذا الذي نقلاه فيه نظر.
قلت: وجمع الشيخ الإمام في "شرح المنهاج" بين المستشهد به
وعليه.
فقال: واغتفر صاحب البيان والعدة الفصل بالكلام اليسير كقوله،
استغفر الله وقوله: يا فلان، ونقلاه عن "المهذب".
ويظهر أن الكلام اليسير إن كان أجنبيا فهو الضار؛ وإلا فهو
الذي يغتفر وذلك مثل: استغفر الله، ويا فلان؛ فليحمل كلامهما
على الفصل اليسير بنحو استغفر الله ويا فلان، لا على مطلق
الفصل اليسير.
قد حكى الرافعي فيه الخلاف في الطلاق، ورجع عدم الاغتفار -ولست
أعتقد ما قاله النووي من عدم الاغتفار فيه إذا كان غير أجنبي،
بل الأقرب ما قاله صاحب البيان والعدة.
__________
1 سقط من أوالمثبت من ب.
(1/125)
ومنها: الإيجاب والقبول في البيع وفي
النكاح، وفي الخلف، وفي الموالاة بين كلمات اللعان، وبين كلمات
القسامة -على خلاف فيهما- وقبول الوقف إذا اشترطاه، قال
الإمام: وليكن متصلا بالإيجاب كالبيع والهبة.
ومنها: كلمات الأذان، والفاتحة.
ومنها: إذا أبهم الطلاق فلما أمر بالتعيين قال: هذه وهذه حكم
بطلاقهما؛ فلو فصل بين اللفظين بوقفة اغتفرت الوقفة اليسيرة،
فأما إذا طالت وقطعت نظم الكلام قال الرافعي: فالكلام الثاني
لغو لا يستقل بالإفادة.
ومنها: إذا قال أعتق عبدك عني قال الرافعي: العتق في صورة
الاستدعاء إنما يقع على المستدعي؛ وإنما يجب عليه العوض إذا
اتصل الجواب بالخطاب، فإن طال الفصل فالعتق عن المالك.
ومنها: قال الرافعي وغيره في الولي إذا وهب للصبي من يعتق عليه
وهو موسر ولا تلزمه نفقته يقبله الولي؛ فإن لم يفعل فالحاكم،
فإن لم يفعل الصبي بعد بلوغه.
قلت: وهذا فصل طويل لعله اغتفر لعدم تولي من ألزم به إياه، ثم
فيه نظر؛ لأن الإيجاب لم يصدر والصبي أهل للقبول ولو فرضنا
بلوغ الصبي بين كلمتي الإيجاب والقبول. مع تقاربهما. لم يكن
إيجابه معتبرا فكيف يعتبر مع طول الفصل، ولا يمكن أن يحمل ما
ذكره هنا على قبول إيجاب يحدد بعد البلوغ؛ إذ ذاك معروف لا
معنى لذكره.
ومنها: تفويض الطلاق إلى الزوجة، الأصح أنه تمليك، فتطليقها
نفسها يتضمن القبول، ولا يجوز لها تأخيره، قال الرافعي: فلو
أخرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب ثم طلقت لم يقع.
الضرب الثاني:
في الأفعال: وفيها مسائل:
منها: موالاة الوضوء شرط على القديم. أو كثيرا أضر، وقيل: يرجع
-في الكثرة والقلة- إلى العادة، وقيل ... 1
ومنها: المستحاضة ينبغي أن تبادر إلى الصلاة عقب الطهارة.
__________
1 بياض في الأصل وب.
(1/126)
ومنها: الاعتدال ركن قصير فلو أطاله.
ومنها: الموالاة بين صلاتي الجمع.
ومنها: الموالاة في أشواط الطواف.
قاعدة: الدفع أسهل من الرفع1.
ومن فروعها: السمائل التي يغتفر فيها في الدوام ما لا يغتفر في
الابتداء؛ فإنا ندفعه ابتداء، ولا نرفعه دواما، لصعوبة الرفع،
وسيأتي إن شاء الله في ربع البيوع -تلك المسائل.
ومن مسائل الدفع والرفع -غير مسائل المغتفر في الدوام- أنا لا
نعقد الإمامة إلا بالشروط المعتبرة، ولو فسق الإمام لم نعزله،
لصعوبة الرفع.
ويعجبني من "الأرجوزة الصلاحية" للشيخ الحموي -قوله. في أن
الإمام لا يعزل بالفسق، ثم اللبيب لا يهد مصرا مستوطنا ليبني
قصرا.
__________
1 انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص138، المنثور للزركشي 2/
155.
(1/127)
القول في المشرف على الزوال:
القول في المشرف على الزوال
هل يعطي حكم الزائل؟
ولا يخفى أنه حيث لا يعطي فهو القاعدة فلا تسأل عن سببه وذلك
كبيع العبد المريض والجاني؛ فإنه صحيح مع الإشراف على الزوال.
وحيث يعطي أو يتردد النظر فهو موضع الكلام وفيه مسائل.
منها: تحريم وطء المشتري الجارية المبيعة بعد التحالف وقبل
الفسخ وفيه وجهان مرتبان على الوجهين في تحريم الوطء بعد
الترافع إلى مجلس الحكم وقبل التحالف والمصحح من هذين الحل
والتحريم بعد التحالف أولى.
ومنها: لو ضاعت العين المرهوبة من الابن والتقطها ملتقط وقصد
التملك بعد التعريف فحضر المالك قبل أن يتملك وسلمت إليه؛ فهل
يمكن أبوه من الرجوع فيها؟ خرجه ابن الرفعة على الخلاف في
المشرف على الزوال.
ومنها: إذا دفع الابن ما اتهبه لمن غصب منه شيئا لأجل الحيلولة
وقلنا إن المغصوب منه لا يملكه؛ فإذا قدم الشيء قبل التصرف
فإنه يسترد المال وهل يرجع فيه أبوه؟
(1/127)
خرجه ابن الرفعة أيضا على الخلاف.
ومنها: إذا أقرضه شيئا وقلنا: لا يملكه المقترض إلا بالتصرف ثم
رده قبل التصرف.
خرجه الشيخ الإمام االوالد -رحمه الله- على الخلاف قال: وهو
أولى من المسألة قبله؛ لأن له سطلنة الاسترجاع قبل التصرف،
بخلاف الدافع القيمة لأجل الحيلولة.
ومنها لو باع الابن العين المرهوبة وقلنا لا يزول الملك إلا
بانقضاء الخيار فهل للأب الرجوع؟ خرجه الإمام أيضا على الخلاف.
ومنها: لو حدث في المغصوب نقص -يسري إلى التلف- بأن جعل الحنطة
هريسة؛ فقد صحح النووي جعله، كالتالف، لأشرافه على التلاف وهو
قول العراقيين، وخالفه الشيخ الإمام، وفي المسألة وجوه شهيرة.
القول في الزائل العائد هو هو كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد؟
قد تكلم الإمام -في باب التفليس في "النهاية" على ذلك، وعدد
منها مسائل، وقد يستأنس -بهذه المسائل- بمسألة السعادة
والشقاوة؛ هل يتبدلان؟ وسنذكرها إن شاء الله تعالى في أصول
الديانات.
والخلاف في أن العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد ينتزع
الأصل من قولين منصوصين. فيما إذا قال لعبده: إذا جاء رأس
الشهر؛ فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم جاء رأس الشهر. ففي العتق
قولان، وهما يشبهان الخلاف أيضا فيما إذا علق طلاق زوجته بصفة
ثم أبانها ثم جدد نكاحها ثم وجدت الصفة.
ومن مسائله: لو أفلس بالثمن، وقد زال ملكه عن المبيع وعاد هل
للبائع الفسخ؟
ومنها: من موانع الرد بالعيب زوال الملك فلو زال ثم عاد
فوجهان، قال في الوسيط: منشأهما الخلاف في الزائل العائد.
ومنها: اشترى نصابا زكويا ثم اطلع على عيب بعد الحول وأدى
الزكاة من مال آخر.
قال "في الوسيط": له الرد إلا على قول الشركة إذا قلنا: الزائل
العائد كالذي لم يعد.
(1/128)
ومنها: إذا قلنا: تجب الفطرة بغروب الشمس
وطلوع الفجر فزال الملك، ثم عاد ليلا فوجهان قاله في النهاية.
ومنها: للمقرض الرجوع ما دام القرض باقيا في يد المستقرض؛ فإن
زال ثم عاد فهل يرجع في عينه أو بدله؟ وجهان في "الحاوي".
ومنها: قلع مثغور سن مثغور وجب القصاص؛ فلو نبت سن المجني عليه
ففي سقوط القصاص وجهان أحدهما السقوط لأن ما عاد قام مقام
الأول فكأنه لم يسقط، الثاني: وهذه نعمة جديدة.
ولو نبت اللسان فقيل على الخلاف، والأصح القطع بعدم السقوط.
قاعدة: تكرر ذكرها على ألسنة الفقهاء: "القادر على اليقين لا
يعمل بالظن"، ثم نقضوها بمن معه ماء قليل وهو على شاطيء البحر؛
فإنه يجوز له التوضؤ به مع قدرته على الوضوء بما البحر.
وهذا غفلة عن أصل آخر، وهو أن الاحتمال في الماء القليل إذا لم
يستند إلى سبب لا وقع له في نظر الشارع، والتحرز عنه وسوسة
وخزي لا ورع وزهد.
ثم ضربوا القاعدة مثالا؛ فقالوا: المجتهد إذا وجد النص والمكي
إذا شاهد الكعبة لا يعملان بالظن. وهذا أيضا غفلة عن قولنا:
القادر على اليقين؛ فإن من ذكروه متيقن لا قادر على اليقين،
فليس مما نحن فيه. إذا القادر على اليقين لا يقين عنده غير أنه
بسبيل من أن ينتهي إليه.
وإذا علمت خطأهم -نقدا وتمثيلا- فأقول: الصور ثلاث: واصل إلى
اليقين وقادر على اليقين، ويجوز توصيله إلى اليقين.
الصورة الأولى: الواصل إلى اليقين، ولا يقول عاقل: أنه يعمل
بالظن؛ لأن الظن في معارضة القطع مضمحل ومستحيل أيضا عند ذي
اليقين إذ لا يتقين عاقل شيئا يظن خلافه، والظن مع معارضة
اليقين لا يعقل؛ فإذا لا ظن مع اليقين، فلا يقال: الواصل إلى
اليقين لا يعمل بالظن.
الصورة الثانية: القادر على اليقين، وهو نص القاعدة، وقد نراه
-في بعض الصور- يعمل بالظن جزما، وفي بعضها لا يعمل به جزما،
وفي بعضها يختلف فيه.
(1/129)
والضابط عندي -في ذلك- أن الظن إن عارضه
احتمال مجرد لا وقع له في نظر الشارع لم يلتفت إلى ذلك
الاحتمال وكان بمنزلة القطع؛ فلا يجب العدول عنه إلى السالم عن
ذلك الاحتمال جزما. وهذا كالماء القليل على شاطي البحر؛
فاحتمال النجاسة فيه لا وقع له؛ فيجوز التوضؤ به جزما، ولا
يتحرز عنه إلا موسوس.
وإن عارضه احتمال قوي جرى خلاف يقوى باعتبار قوته وضعفه، وربما
ترقى إلى أن يدرأ له الظن جزما؛ وذلك عند انتهاضه قاطعا أو ظنا
راجحا على الظن المثار من الأول؛ فإذا الاحتمال المعارض للظن
درجات كثيرة.
وفيها مسائل:
منها: الشاك في نجاسة أحد الإناءين أو الثوبين ومعه طاهر بيقين
الأصح جواز الاجتهاد له.
وهو الأصح في من معه إناءان تنجس أحدهما وفي كل منهما قلة هل
يخلطهما ليصيرا قلتين أو يجتهد؟.
وفيمن اجتهد في دخول الوقت هل يجوز له الدخول في الصلاة مع
المقدرة على تمكين الوقت؟ ورجحان العمل بالاجتهاد هنا أقوى منه
فيما قبله وإن اشتركا في القوة؛ لاختصاص هذه الصورة بأنه لو لم
يعمل في هذه الصورة [بمقتضى] 1 اجتهاده، لفات عليه مطلوب شرعي،
وهو أول الوقت. وهو الأصح فيمن كان في مطمورة [وهو] 2 قادر على
الخروج ورؤية الشمس؛ إلا أن القول للخروج ورؤية الشمس أرجح من
العمل بالاجتهاد في جميع ما تقدم؛ لأنه لا يفوت الوقت، إذ
زمانه يسير.
ولا يضيع أحد الماءين اللذين لعله لا يجب [خلطهما] 3 ولا
يتباطأ زمانه بخلاف الاجتهاد في الثوبين والإناءين؛ فإنه ربما
يتباطأ ثم الاحتراز في الصور كلها ورع، بخلاف الأول.
وليس في الأصح في مستقبل حجر الكعبة دون البيت؛ بل الأصح فيه
أنه لا تصح صلاته، وسببه -مع صحة الحديث فيه- اضطراب لفظ
الرواة؛ ففي لفظ: "الحجر من البيت"، وفي لفظ آخر: "سبعة سبعة
أذرع منه"، وفي آخر: "سنة أذرع" وفي آخر: "خمسة".
__________
1 سقط في ب.
2 زيادة يستقيم بها الكلام.
3 وفي "ب" ولا يجب خلطهما بالخلط.
(1/130)
والكل في صحيح مسلم؛ فلم تكن على يقين ولا
ظن قائم من مروي هذا الحديث؛ فعدلنا إلى اليقين، وهو الكعبة.
الصورة الثالثة:
من جوز توصله إلى اليقين كمن أشبه عليه إناءان وجوز أن يكون في
داره ماء طاهر بيقين؛ فلا يجب عليه الكشف عن ذلك، وهذه نظير
مسألة الأصوليين في الاجتهاد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم
للغائب والحاضر عنه فقط، وهي مسألة ذات خلاف مشهور ذكر الإمام
الرازي في "الحصول" أنه لا ثمرة له في الفقه، اعترضه الشيخ صدر
الدين بن المرحل بنحو ما أوردت من الصور؛ فزعم أن ثمرة الخلاف
تظهر فيها وتبعته أنا في "شرح المنهاج".
ثم لاح لي أنه وهم، فإن القادر على سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم لا يتقين أنه قادر على اليقين حتى يتيقن أنه أنزل عليه في
مسألته وحي؛ وإلا فما لم ينزل الوحي لا حكم، فلا قطع ولا ظن؛
فغاية القادر على سؤاله. عليه أفضل الصلاة والسلام- وأنه يجوز
نزول الوحي فيكون مجوزا لليقين.
فإن قلت: لم جرى الخلاف الأصولي؟
قلت: مأخذه باقي الاجتهاد مع وجود سيد الأولين والآخرين صلى
الله عليه وسلم من التحري وما فيه من سلوك طريق لا يأمن فيه
الخطأ مع التمكن من طريق يؤمن فيها الخطأ؛ فوضح ما قاله الإمام
فخر الدين1 -من أنه ثمرة للمسألة الأصولية- صحيح.
نعم: اختلف في جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم -خلافا
يظهر ثمرته- كما ذكرنا في "شرح المختصر" فيما ذكرناه من الصور؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قادر على اليقين. بسؤال ربه تعالى.
قاعدة: الموجود المقترن بالمانع الحسي أن الشرعي كالعدم وبيانه
بصور.
__________
1 محمد بن عمر بن الحسين بن حسن بن علي العلامة سلطان
المتكلمين في زمانه فخر الدين أبو عبد الله القرشي البكري
التيمي الطبرستان الأصل ثم الرازي ابن خطيبها المفسر المتكلم
إمام وفقيه في العلوم العقلية وأحد الأئمة في علوم الشريعة
صاحب المصنفات المشهورة والفضائل الغزيرة المذكورة، ولد في
رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل سنة ثلاث وتوفي بهراة
يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة. ابن قاضي شهبة 2/ 366، وفيات
الأعيان 3/ 381، لسان الميزان 4/ 426، البداية والنهاية 13/
55، النجوم الزاهرة 6/ 197، مرآة الجنان 4/ 7.
(1/131)
منها: إذا وجد الماء وحال دونه حائل يعجز
عن دفعه، أو احتيج إليه لحيوان محترم، أو كان به مرض يمنعه من
استعماله.
ومنها: لو عتق المسلم عبدا كافرا أو الكافر مسلما ثبت له
الولاء؛ ولكن لا يتوارثان، لاختلاف الملتين، كما ثبتت علقة
النكاح والنسب بين الكافر والمسلم وإن لم يتوارثا، وعن مالك لا
يثبت له الولاء، لاختلاف الدين وعن أحمد يثبت ويتوارثان.
فعلى مذهبنا وجد المقتضي للولاء مقترنا بالمانع الشرعي من
الإرث.
ومنها: وجود من واجبه الإعتاق في الظهار عبدا فاضلا عن حاجته؛
لكن يحتاج إلى خدمته لمرض أو زمانه كالعدم، وكذا كل واجب مالي
متعلق بحق الله كالحج على الصحيح، أما المفلس فالمذهب أن
المسكن والخادم يباعان وإن احتيج إليها.
ومنها: الأصح جواز نكاح الأمة لمن له مسكن وخادم ولا يلزم
بيعهما وصرفهما في طول حرة.
والوجهان حكاهما القاضي ابن كج كما ذكر الرافعي في النكاح وفي
الظهار وزاد في الظهار ابن كج حكى وجهين أيضا في أنهما هل
يباعان عليه إذا اعتق شركاء له في عبد، وإن أبا الحسين -وهو
ابن القطان، قال: لا يجب العريان بيعهما. قال ابن كج: وعندي
يجب قال: وقول أبي الحسين غلط.
ومنها: من وجد حرة ولكن رتقاء أو قرناء أو رضيعة أو معتدة عن
غيره؛ فله نكاح الأمة على الأصح.
قلت: وينبغي أن يقيد في المعتدة بما إذا طال زمانها، أما إذا
كان انقضاؤها قد قرب؛ فلا ينبغي أن يجوز بل ينتظر انقضاؤها،
كما لو قدر على حرة غائبة لا تلحقه مشقة بالخروج إليها؛ فإنه
يجب الخروج إليها، بخلاف ما إذا لحقته المشقة.
ومنها: [في] 1 الغصب إذا وجد المثل بأكثر من ثمن المثل فوجهان:
رجح الشيخ الإمام وجوب تحصيله ورجح صاحب التنبيه والنووي
العدول إلى القيمة مباحثة على هذه القاعدة أنشأها الشيخ الإمام
-رحمه الله- نافعة في آية القتل، وآية الظهار وآية الصيام،
وآية الوضوء، وغيرها.
__________
1 سقط في أوالمثبت من ب.
(1/132)
المانع الحسي: مانع من تعلق التكليف لأنه
ما لا يطاق. وأما الحكمي: فليس في التكليف به تكليف ما لا
يطاق؛ فلا بد من دليل عليه.
فمن قام به مانع حسي لا نقول: إنه مخصص؛ بل هو غير داخل في
اللفظ للعلم بأنه غير مكلف.
وأما الحكمي -ويتضح بالمثال- فنقول: إذا قال تعالى في المظاهر
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} شمل عدم الوجدان
الحسي، ولا شك في أن صاحبه غير مكلف بالإعتاق؛ فلا يقال: إنه
المخصص؛ لأنه لم يكلف بالكلية وإنما قصد بيان حكمه؛ وإن حكمه
الخصلة المنتقل إليها.
وعدم الوجدان الحكمي كواجد رقبة يحتاجها للخدمة، وهذا يقصد فيه
أمران: بين الخصلة المنتقل إليها، وإخراجه من العموم؛ غير أن
إخراجه إما بأن يقال: بأنه غير مأمور بالعتق أصلاً. والمقصود
بالعموم غيره أو أن العتق غير محتم عليه بل هو مخير بينه وبين
الصيام.
وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض الفقهاء؛ فذهب بعضهم إلى الأول
وقال لا يجوز للعاجز الإعتااق، وذهب أكثرهم إلى الثاني، وهو
الصحيح، ويكون مقصود الآية التسهيل على من له عذر أن ينتقل من
الإعتاق إلى الصيام فإن تكلف وأتى بالأعلى أجزأ.
وعلى هذا هو نقول: الواجب مخير أو معين؟ وهو الصيام الأقرب.
الثاني: ولكن الإعتاق يجزيء عنه؛ لأن المقصود والكفارة
والإعتاق أكمل في مقصودها.
والواجب هو الذي لا يجوز تركه مطلقا، والصيام إنما جاز تركه
إلى بدل فلم يخرج عن كونه واجبا.
ولا ينكر كون الشيء مرتبا في الذمة مقصودا ويقوم مقامه شيء
أعلى منه -من جنسه أو من غير جنسه- إذا كان في معناه سادا
مسده.
وهذا البحث ينتفع به في آية الوضوء وغيرها، كما لا يخفي على
المتأمل وينتفع به في وجوب القضاء على المتيمم في بعض الأحوال؛
لاندراجه تحت الأمر بالوضوء. ولو
(1/133)
قلنا: إنه لم يندرج أصلا لأشكل إيجاب
القضاء، ولكانت كفارة الظهار بالنسبة إلى القادر المعتق واحدة،
على العاجز -إلا عن الصوم- واحدة، وإلى العاجز عن العتق والصوم
واحدة؛ فتكون خصلة واحدة لا ترتيب فيها.
والمعلوم من الشرع أنها ثلاث خصال مرتبة، وظاهر ذلك أنها لكل
أحد وهذا يشهد؛ لأن المعتبر في الكفارات حال الأداء، والأول
يشهد لاعتبار حال الوجوب: انتهى كلام الوالد.
ولقائل أن يقول: قولكم فيمن قام به مانع حسي -أنه غير داخل فلا
يقال: إنه مخصص مبني على إنكار التخصيص بالعقل، والأكثر على
جوازه، ولم ينقل فيه إلا خلاف لفظي عن الشافعي رضي الله عنه
فلعل الشيخ الإمام جرى على مقتضاه.
وقولكم في الحكمي -لا بد من دليل عليه- حق غير أن للمعترض أن
يقول: بعد اعترافكم بأن الحكم أخرجه كيف تبطلون دليلا؟ ومرادكم
ما ادعى أن الشرع أخرجه يحتاج مدعيه إلى دليل، وهذا لا بد منه،
ولا ينكره واحد ودليله قياس أو غيره؛ غير أن الاستدلال عليه
بالقياس يستدعى جواز القياس على الخارج المستثنى وهو الصحيح.
وتردد الشيخ الإمام في العاجز، هل هو غير مأمور بالعتق أصلا أو
مخير بينه وبين الصيام.
ولعل مادته من الخلاف الذي حكاه أصحابنا في كتاب الصوم أن
الشيخ الهرم هل يتوجه عليه الخطاب بالصوم ثم ينتقل للفدية
للعجز؟ أم يخاطب بالفدية ابتداء؟
وهو على الوجهين في انعقاد نذره إذا نذر في خلال العجز صوما؟
وصحح النووي أنه لا ينعقد، وقوله: إن بعضهم ذهب إلى أنه لا
يجوز للعاجز الإعتاق غريب. وقريب منه قول الغزالي في
"المستصفى" فيمن يجهده الصوم ويحرمه عليه أنه إذا تكلف وفعله
لا يصح.
وقوله الأقرب أن الواجب معين ثم يجزي عنه الإعتاق، وأنه لا
ينكر الانتقال إلى غير الجنس إذا كان أعلى يشهد له جواز
الانتقال في الفطرة إلى أعلى.
خلافا لوجه حكاه الماوردي، وهو قوي في غير الجنس؛ ألا ترى أنه
لا يجوز إخراج الذهب عن الفضة في الزكاة وإن أخرج ما هو أكثر
قيمة.
(1/134)
قاعدة: الرخص لا تناط بالمعاصي1
وفيه مسائل:
منها: رجح الشيخ الإمام رحمه الله أن العاصي بسفره لا يتم، بل
عليه أن يعود إذا أمكنه الرجوع والصلاة بالماء قبل خروج الوقت.
ومنها: لا يجوز للعاصي بالسفر الترخص؛ فلا تقصر الصلاة ولا
يفطر ولا يستبيح قطعا، ولا يستبيح المقيم على وجه.
ومنها: لو استنجي بمحترم -من مطعوم وغيره- فالأصح لا يجزيه؛
لأن الاقتصار على الأحجار رخصة، والرخص، لا تناط بالمعاصي.
ومنها: زوال عقله بسبب محرم كشرب مسكر لم تسقط عنه الصلاة
ويستثنى مسائل: منها:
الأصح صحة المسح على الخف المغصوب والمسروق وخف الذهب الفضة.
والثاني: لا؛ لأن المسح رخصة والرخص لا تناط بالمعاصي.
ومنها: يجوز الاستنجاء بقطعة ذهب وفضة وحرير نفيس خشنة على
الصحيح كما يجوز بالديباج قطعا.
فائدة: إن شئت جعلتها مفتتح قاعدة، وقع في كلام الشيخ الإمام
رحمه الله في باب المسح على الخفين: الرخص لا تناط بالشك2.
ذكر ذلك تعليلا لمذهبه أن ابتداء مدة المسح من حين لبس الخف،
وهو مذهب الحسن البصري يذكر الشيخ الإمام أن النووي صرح في
"شرح المهذب" أن لابس الخف له أن يحدد الوضوء قبل الحدث. قال:
فإن صح هذا صح مذهب الحسن؛ لأنه وقت جواز الرخصة، وإذا احتمل
لفظ الشاعر تعيين الحمل عليه وترك ما زاد عليه؛ لأن الرخص لا
تناط بالشك.
قلت: لكن في صحته نظر، ومقتضى الاستدلال الرافعي وغيره من
الأصحاب -أن
__________
1 المنثور 2/ 167، الأشباه والنظائر للسيوطي ص138 ومعنى قول
الأئمة أن الرخص لا تناط بالمعاصي أن فعل الرخصة متى توقف على
وجود شيء نظر في ذلك الشي؛ فإن كان تعاطيه في نفسه حراما امتنع
معه فعل الرخصة وبهذا يظهر الفرق بين المعصية بالسفر والمعصية
فيه.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص141.
(1/135)
ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس بأن
ذلك وقت الترخص -أنه لا يحوز، ووقع في "الكفاية" لابن الرفعة
عقيب هذا الاستدلال أنه مكروه.
ثم فرع الشيخ الإمام على هذه القاعدة أيضا أنه إذا غسل واحدة
وأدخلها الخف، ثم الأخرى وأدخلها لا يستبيح، لأنه لم يدخلهما
طاهرتين.
أصل مستنبط.
إذا قوبل مجموع أمرين فصاعدا بشيء من خارج مقابلة أحد ذينك
الأمرين ببعض ذلك الشيء؛ فهل يلزم أن يكون الزائد في مقابلة
الشيء الآخر أو يجوز أن يكون في مقابلته، وأن يكون المجموع في
مقابلة المجموع، أو يجوز أن يكون المجموع عند حصول الزائد في
مقابلة الثاني وحده؟
فيه نظر تظهر فائدته فيما إذا انفرد الشيء الثاني عن الأول فهل
يقابل بالكل أو بالزائد أولا؛ لأنه إنما ثبت مضموما: إلى الأول
عند وجود الأمرين؟
ولهذا أمثلة.
منها: ما في صحيح مسلم1 من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى
العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة
فكأنما قام الليل كله". فيحتمل أن يكون من صلى الصبح في جماعة
كان كأنما قام الليل وإن لم يصل العشاء في جماعة.
وحينئذ فمن صلى الصبح في جماعة والعشاء في جماعة كمن قام ليلة
ونصف ليلة، ويحتمل أنه إنما يكون كمن قام كل الليل إذا كان قد
صلى العشاء في جماعة.
وعلى هذا الاحتمالان.
أحدهما أن يكون من صلى الصبح في جماعة، ولم يصل العشاء في
جماعة كمن قام نصف الليل.
الثاني: أن لا يحكم له بذلك؛ لأن شرط كونه إذا جمع في الصبح
يكون كمن قام نصف الليل أو يكون قد جمع في العشاء.
فهذه الاحتمالات أظهرها أن قوله عليه السلام: "من صلى العشاء
في جماعة"
__________
1 1/ 454 في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاة العشاء
والصبح في جماعة "260/ 656".
(1/136)
يريد به والصبح، وأن صلاتهما في جماعة تعدل
قيام ليلة، وهذا هو الراجح عند المحدثين، ويدل له ما رواه أبو
داود1 والترمذي2 من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء
في جماعة كان كقيام نصف الليل ومن صلى العشاء والفجر في جماعة
كان كقيام ليلة"، قالوا: وطرق الحديث كلها صريحة في أن كل
واحدة منهما تقوم مقام نصف ليلة واجتماعهما يقوم مقام ليلة.
قلت: لكن بقي انفراد الصبح فأين التصريح بكونه يقوم مقام نصف
ليلة؛ لأنه لا بد لهذا من دليل.
ومن المحدثين من حمل الحديث الأول على ظاهره، وقال: جماعة
العتمة تعدل نصف ليلة وجماعة الصبح تعدل ليلة.
فهذه ليلة ونصف لمن صلاهما جماعة، ووجهه أن المشقة في جماعة
الصبح أكثر منها في العشاء فناسب أن تضاعف.
ومنها: في الصحيحين3: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد
الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله
قيراطان ... " الحديث.
وفي لفظ4، ومن صلى على جنازة فله قيراط، من اتبعه حتى يوضع في
القبر فله قيراطان ... الحديث.
فلو اتبعه حتى وضع في القبر ولكن ولم يصل عليه احتمل أن لا
يحصل له شيء من القيراطين؛ إذ يحتمل أن يكون القيراط الثاني
المزيد مرتبا على وجود الصلاة قبله، ويحتمل أن يحصل له القيراط
المزيد.
وأما احتمال أن القيراطين يحصلان بالاتباع حتى يوضع في القبر
وإن لم يصل عليه، فهو هنا بعيد.
__________
1 1/ 152 في كتاب الصلاة/ باب في فضل صلاة الجماعة حديث "555".
2 1/ 433 في أبواب الصلاة/ باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في
الجماعة حديث "221".
3 البخاري 3/ 333 في الجنائز/ باب من انتظر حتى تدفن "1325"
ومسلم 2/ 652 في الجنائز/ باب فضل الصلاة على الجنائز وابتاعها
حديث "52-945" وأحمد في المسند 2/ 401، والنسائي 4/ 67-77 وابن
ماجة 1/ 491 حديث "1539".
4 انظر صحيح مسلم 1/ 653، حديث "54/ 945".
(1/137)
وأما احتمال أن من صلى واتبع حتى يدفن،
يحصل له ثلاث قراريط؛ فمرتب على هذا الاحتمال الثالث إن قلنا:
من اتبع ولم يصل فله قيراطان؛ فلا شك أن من صلى يزداد قيراطا
ثالثا.
وقد سأل الشيخ أبو الحسن ابن القزويني1 الفقيه الشافعي الرجل
الصالح صاحب الكرامات أبا نصر بن الصباغ عن هذا فقال: لا يحصل
لمن صلى واتبع إلا قيراطان، قال له ابن القزويني: جيد بالغ،
وطولب ابن الصباغ بالدليل فاستدل بقوله تعالى2:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ
فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا
وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... } قال: فاليومان جملة الأربعة بلا شك.
ومنها: ما في صحيح البخاري3 من قوله صلى الله عليه وسلم: "يعقد
الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على
عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد؛ فإن استيقظ وذكر الله تعالى:
انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإذا صلى انحلت عقده كلها ...
" الحديث.
فلو استيقظ ولم يذكر الله غير أنه توضأ وصلى فهل تنحل عقدتان،
أو شرط انحلالها تقدم ذكر الله؟
أو يقال: تنحل الثلاث، لإطلاق قوله: "فإن صلى انحلت عقده
كلها"؛ وذلك بقوله: "وكلها" هذا موضع نظرة واحتمال.
__________
1 علي بن عمر بن محمد بن الحسن البغدادي المعروف بالقزويني ولد
في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وكان عارفا بالفقه والقراءات
والحديث تفقه على الداركي وقرأ النحو على ابن جني. توفي في
شعبان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
ابن قاضي شهبة ج1 ص229، ص230.
تاريخ بغداد 12/ 43، طبقات الشافعية للسبكي 3/ 299، مرآة
الجنان 3/ 61، البداية والنهاية 12/ 62، النجوم الزاهرة 5/ 49.
2 فصلت "9-10".
3 متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، البخاري في 3/
24 في التهجد/ باب عقد الشيطان على قافية الرأس حديث "1142"
ومسلم 1/ 538 في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب ما روي فيمن
نام الليل أجمع حتى أصبح 207/ 776.
(1/138)
ومنها: في سنن أبي داود1 والترمذي2
والنسائي3 من حديث عمران بن حصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم قال: السلام عليكم فرد عليه ثم جلس؛ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم عشر، ثم جاء رجل آخر فقال: السلام عليكم
ورحمة الله فرد عليه فجلس؛ فقال: عشرون ثم جاء آخر فقال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال:
"ثلاثون".
وفي رواية لأبي داود4 زيادة من حديث معاذ بن أنس وهي "ثم أتى
آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال:
أربعون"؛ غير أن في إسناد هذه الرواية مقالا5.
وقد يعارض بما في الموطأ6 من أن رجلا سلم على أبن عباس على
قوله: وبركاته فقال ابن عباس: السلام المنتهي إلى البركة.
إذا علم هذا فلا يمكن إفرادها بعد السلام عنه؛ غير أنا نقول:
هل العشر المزيدة لقوله: ومغفرته مشروطة بسبق قوله: وبركاته؟
وهل العشر المزيدة لقوله: وبركاته مشروط بسبق لفظ الرحمة؟
كما أن ذلك كله مشروط بسبق لفظ السلام، أو لا يشترط هذين؟ بل
لكل لفظ من الألفاظ الثلاثة عشر -وإن انفرد- حتى لو قال:
السلام عليكم ورحمة الله ومغفرته، ونحو ذلك يحصل أربعون؟ هذا
أيضا موضع نظر واحتمال.
ومنها: لو هشم فلم يوضح فوجهان.
__________
1 4/ 350 في كتاب الأدب/ باب كيف السلام حديث "5195".
2 5/ 52-53 في الاستئذان/ باب ما ذكر في فضل السلام [2689] ،
وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
3 من طريق أبي داود في عمل اليوم والليلة ص287 باب ثواب السلام
حديث "327".
وأحمد في المسند 4/ 439 والدارمي في السنن 2/ 277 في
الاستئذان.
4 أبو داود في المصدر السابق حديث "5196".
5 قال المنذري رحمه الله في إسناده أبو مرحوم عبد الرحمن بن
ميمون وسهل بن معاذ لا يحتج بهما، وقال فيه سعيد بن أبي مريم
أظن أني سمعت نافع بن يزيد.
عود المعبود 14/ 103.
6 2/ 959 في كتاب السلام/ باب العمل في السلام حديث "2".
(1/139)
أحدهما: تجب الحكومة؛ لأنه كسر عظم بلا
إيضاح فأشبه كسر سائر العظام. وأصحهما وجوب خمس من الإبل؛ لأنه
لو أوضح وهشم وجب عشر، ولو تجرد الإيضاح لم يجب إلا خمس؛ فيكون
الخمس في مقابلة الهشم. ووقع في معاياة الجرجاني1 أن الوجهين
في أنه هل يجب عشر أو الحكومة؟ ولعل لفظ العشر غلط من ناسخ.
فصل:
قريب المأخذ من هذا الأصل "إذا تعقب شيء جملة مركبة من أجزاء
أو جزئيات؛ فهل يكون المؤثر فيه هو الجزء الأخير منها أو
المجموع؟ فيه للعلماء تردد، وقد يظهر في باديء الأمر أنه لفظي؛
لأن الجزء الأخير متوقف الوجود على ما سبقه؛ فلما سبقه فدخل
قطعا بهذا الاعتبار، والتحقيق أنه ليس بلفظي بل معنوي يترتب
عليه فوائد.
والذي يظهر أن المؤثر المجموع، وفي حفظي أنه المعزو إلى مذهب
الشافعي، وأن المعزو إلى أبي حنيفة مقابله، ولعل ذلك مأخوذ من
اختلافهما في مسألة السكر بالقدح العاشر. كما سنذكره في عد
فوائد الخلاف، وهذا الأصل مذكور في الرافعي في باب الخلع في
المسألة التي سنذكرها بن المزني والأصحاب فمنها حكم الشافعي
رضي الله عنه بأن السكر لا يحصل بالقدح الأخير؛ بل به وبما
قبله وليفرض فيمن سكر بعشرة أقداح، ومن ثم قال: حكم ما قبله في
التحريم وإيجاب الحد حكمه.
والمعزو إلى أبي حنيفة خلافه، ومن ثم لم يجب الحد على شارب
النبيذ إذا لم يسكر.
والحاصل أن المفسدة إنما تتحقق عند انضمامه إلى غيره.
ومنها: وهو على عكسه -إذا أراد النظر إلى الأجنبية لتحمل
الشهادة، وهو يعلم أن المعرفة لا تحصل له بنظرة واحدة بل لا بد
من نظرتين؛ فاقتصر على واحدة فهل يفسق؛ لأن التحمل لا يقع بها
فصارت لغرض غير صحيح أو لا، لأن لهذه تأثيرا في شهادته؟
__________
1 أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الجرجاني قاضي البصرة وشيخ
الشافعية، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وكان من أعيان
الأدباء له النظم والنثر وسمع من جماعات وحدث. مات راجعا من
أصبهان إلى البصرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/ 31.
وطبقات الشافعية لابن هداية الله 3/ 31، ابن قاضي شهبة ج1
ص260.
(1/140)
فيه احتمالان للروياني؛ ذكرهما في "البحر"
قبيل كتاب الشهادات.
ومنها: من قفأ عين الأعور لم يجب عليه إلا نصف الدية؛ لأن
العمي لا يحصل بهذا الفقء وحده؛ بل به وبما قبله.
ومنها: لو قالت: طلقني ثلاثا بألف وهو لا يملك إلى طلقة فطلقها
تلك الواحدة فقد نص في "المختصر" أنه لا يستحق تمام الألف،
لحصول مقصود الثلاث، وهو البينونة الكبرى بتلك الطلقة.
قال المزني -معترضا- لا يستحق إلا ثلث الألف توزيعا للمسمى على
العدد المسؤول، كما لو كان يملك الثلاث؛ فطلق واحدة قال:
والحرمة لا تثبت بتلك الطلقة؛ وإنما تثبت بها وبما قبلها،
فيكون حكمها حكم الأولى والثانية وقاس هذا على مسألتي السكر
وفقء عين الأعور.
وفرق ابن سريج وابن إسحاق بين أن تكون المرأة عالمة بأن لم يبق
إلا واحدة فيستحق الألف أو جاهلة فالثلث.
والصحيح الجريان على ظاهر النص -علمت أو جهلت- وأجيب عما احتج
به المزني بأن العقل يستتر على التدريج؛ فكل قدح يزيل شيئا من
التمييز وزوال البصر كما أثر فيه الفقء. والثاني: أثر فيه ما
قبله، والحرمة الموصوفة بالكبرى لا يثبت منها شيء بالطلقتين
الأولتين.
قال الرافعي: وقد يقال المراد م الحرمة الكبرى توقف الحل على
أن تكح زوجا آخر، وهذه خصلة واحدة -لا تتبعض- حتى يتأثر بعضها
بالطلقة الثالثة وبعضها بما قبلها. وتوقف الشيخ الإمام -رحمه
الله في هذا البحث، وقال: هذا محل نظر، يحتمل أن يقال: بكل
طلقة يتشعب النكاح وينقض حق الزوجة، وبالثالثة يتكمل النقص،
وبطلان الحق بالكلية.
ومنها: لو ضرب في الخمر أحد وأربعين فمات؛ هل يجب كل الضمان أو
نصفه أو جزء من أحد وأربعين جزءا؟
فيه أقوال: أظهرها -عند الرافعي والنووي- الثالث.
(1/141)
ولو جلد في القذف أحدا وثمانين؛ فهل يجب
نصف الدية أو جزء من أحد وثمانين جزءا؟ فيه القولان.
ومنها: لو جوع من به بعض الجوع حتى مات، ففي القصاص أقوال؛
أظهرها إن علم المجموع جوعه السابق وجب، وإلا فلا، وعلى عدم
القصاص. قيل: يجب الدية بأكملها، والأظهر نصفها.
ومنها: العتق في الكتابة، هل ينسب إلى النجم الأخير حتى لا
يثبت برجل وامرأتين ويثبت بهما ما قبله أو إلى المجموع؟
ومنها: لو جرح اثنين صيدا جرحين مترتبين وحصل الإزمان بهما وكل
منهما لو انفرد لم يزمن؛ فهل الصيد بينهما أو الثاني؟ به
وجهان.
ومنها: لو اكترى اثنان دابة فارتدفها ثالث بغير إذنهما فهلكت؛
فهل على المرتدف النصف أو الثلث أو التقسيط بحسب الوزن؟ أوجه.
ومنها: لو كانت السفينة مثقلة بتسعة أعدال فوضع آخر فيها عدلا
آخر عدوانا فهل يغرم جميع الأعدال التسعة؟
والأصح بعضها؛ فقيل النصف، وقيل بالقسط، قال في "الروضة" وهو
كخلاف الجلاد.
وله نظائر متقدمة ومتأخرة؛ ذكره في مسألة اصطدام السفينتين
ومنها: استأجره لحمل مائة؛ فحمل مائة وعشرة، فتلفت الدابة
وصاحبها معها ضمن قسط الزيادة، وقيل: النصف، وقيل: الجميع، وهو
قول غريب وإن لم يكن معها فالجمهور قالوا يضمن الكل، وعللوه
بأنه انفرد باليد، وصار يحمل الزيادة غاصبا.
وخالفهم ابن كج -قال الشيخ الإمام: ولقوله اتجاهه- قال: وفي
كونه غاصبا نظر؛ لأن تعديه بالزيادة لا يوضع باليد.
قلت: وقول ابن كج قياس نظائره في هذه القاعدة ومنازعة الشيخ
الإمام في كونه غاصبا، عندي فيه وقفة.
ومنها: إذا شهدا بالطلقة الثالثة بعد الدخول ثم رجعا رجع عليهم
بالمهر. قال الماوردي: ولكن في قدر ما يغرمان وجهان.
(1/142)
أحدهما: ما كانوا يغرمون لو كانت الشهادة
بالثلاث؛ لأنهم منعوه بها من جميع البضع كالثلاث.
والثاني: ثلاثة لأنه ممنوع من بعضها بثلاث طلقات، اختص
الشاهدان بواحدة منها: فكان ثلث المنع منها فوجب ثلث الغرم
عليهم.
وعلى هذا لو كان الزوج طلقها واحدة، وشهدوا عليه بطلقتين لزمهم
الثلثان، قال ابن الرفعة في "الكفاية" ولم يظهر لي فرق بين هذه
الصورة، وبين ما إذا طلقها واحدة قبل الدخول، وقد جزم بأن
حكمها حكم الثلاث.
قلت: وهذا عجيب، والفرق أوضح من أن يخفي مثله على ابن الرفعة،
فإن الواحدة قبل الدخول تستقل بالبينونة فهي كالثلاث بعده.
فصل:
عرفت الكلام فيما إذا تعقب مجموع أمور أمر هل ينسب إلى الأخير
منها أو إلى مجموعها، وقلنا: إن الخلاف ليس بلفظي؛ بل ترتب
عليه فوائد وانفصلنا عن ذلك الفصل.
والذي ننبه عليه في هذا الفصل -أن أثر الخلاف في مسائل أخر على
نوع آخر له بعض القرب من هذا المأخذ.
منها: لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل بقدر لا يتغابن الناس
بمثله؛ فهل يضمن الزائد على ما لا يتغابن أو الجميع؟
فيه وجهان، ووجه قرب مأخذهما من هذا أنا هل نجعل العدوان
مقصورا على القدر الأخير، أو عاما في كل جزء؛ لأن ما كان قبله
إنما كان يغتفر عند انفراده لا عند انضمامه؟
وبهذا يظهر في مسألة الأقداح باب من الكلام للخصوم؛ فلقائلهم
أن يقول: هب أن السكر واقع بالمجموع، وأن لكل قدح مدخلا غير
أني أغتفر القدح منفردا فلا أحد شاربه، لانتفاء السكر عنه،
ولكن أحده مجموعا مضموما إلى غيره، لحصول المفسدة حينئذ تعين
ما قلتم أنتم في بيع الوكيل على أحد الوجهين أنه يضمن الكل.
(1/143)
وطريق جوابنا عن هذا -في مسألة ما لا يسكر
من النبيذ- السنة الصحيحة القاطعة لتشكيك المشككين، وترهات
المجادلين.
ومن حيث المعنى أن مسألة الأقداح وقع الشرب فيها مترتبا على كل
قدح منفصل عن صاحبه؛ فأمكن أن يفرد بحكم نفسه بخلاف البيع بأقل
مما يتغابن بمثله؛ فإنه وقع دفعة واحدة.
ومنها: إذا ادعى على الخارجي غلطا بأكثر مما يتفاوت بين
الكيلين فهل يقبل "بالنسبة إلى ما يتفاوت بين الكيلين" الذي
يقبل عند الاقتصار عليه؟ فيه وجهان.
ومنها: لو أكل من الأضحية.
ومنها: لو دفع جميع السهم إلى اثنين، هل يغرم -للثالث- الثلث
أو أقل جزء.
ومنها: إذا أقام عند الثيب سبعا؛ فهل يقضي أربعا أو جميع
السبع؟
ومنها: إذا صب الماء في الوقت وصلى بالتيمم، هل يقضي صلاة
واحدة؛ لأنه بالنسبة إلى الصلاة الثانية كمن صب الماء قبل
الوقت، أو كل صلاة صلاها بالتيمم ما لم يحدث أو يغلب على الظن
إمكان أدائه بوضوء واحد؟ فيه وجوه.
ومنها: وقع في واحد من ثلاثة أوان نجاسة ولم يعرف عينه فاجتهد
فيها ثلاثة، أدى اجتهاد كل منهم إلى طهارة واحد وأم كل بصاحبه؛
فصلاته التي أم فيه صحيحة، وكذا أول صلاة ائتم فيها بغيره إذا
اقتصر عليها؛ فإن لم يقتصر فهل يقتصر العشاء على الأخيرة؛ لأن
بها يتعين فقدان الشرط أو يفسدان جميعا؟ فيه وجهان.
ومنها: لو أمن مائة ألف من المسلمين مائة ألف من الكفار، قال
الإمام: فأمان الكل مردود، وحاول الرافعي فيما إذا صدر هذا
التعاقب على الصحة إلى ظهور الخلل.
ووافقه النووي وأطلق، وابن الرفعة قيده بما إذا عرف الأول. ولك
أن تقول: لم لا يصح، وإن جهل ثم يستعمل القرعة ولي عليه كلام
ذكرته في كتاب "التوشيح".
ومنها: إذا زاد الأمان على المدة هل تبطل في الزائد أم في
الكل؟ فيه خلاف وإذا حققت القدر المشترك بين هذه المآخذ آل بك
الذكر خلاف الصفقة وانفتح لك باب لعد مسائلها في هذه القاعدة
ما دام الكلام مقصورا على المعيشة؛ فإن عممته في المعية
والتعاقب أنجز ذلك الكلام على مسائل انعطاف الحاضر على الذاهب
وتذكرت مسائل انعطاف النية ومسألة انعطاف ثواب من نوى في أثناء
النهار على أوله ونظائرها.
(1/144)
فصل:
قدمنا الكلام فيما إذا تعقب أمر مجموع أمور لو لم تجمع لما
كان، وقد يتعقب أمر أمورا هو غني عن مجموعها، ونعني بغناه عن
المجموع أن بعضها كان كافيا في إثارة ذلك الأمر الذي يعقبها.
وذلك يعرض في المأمورات كمسح قدر زائد على الواجب في الرأس،
والمنبهات كمن شرب من النبيذ قدرا يسكره منه بعضه؛ فهل الحاصل
له كائن من مجموعها أو من القدر الذي لو انفرد لأثر؟ فيه نظر
واحتمال، ولذلك إذا شهد أربعة بحق يثبت بشهادة اثنين منهم؛ فهل
نقول: ثبت الحق بالكل أو باثنين على الإبهام؟
يظهر فيه هذا التردد، وتظهر فائدته في مسائل:
منها: لو رجع اثنان هل يتعلق بهما غرم؟
وفيه وجهان أصحهما -وبه قال ابن سريج والإصطخري وابن الحداد-
لا غرم عليهما.
والثاني، وبه قال المزني وأبو إسحاق -عليهما الغرم بالحصة؛ لكن
إذا كان في القصاص فلا قصاص، خلافا للقفال فيما إذا تعمد.
ومنها: الأوقاص التي بين النصب أصح القولين أنها عفو، والثاني
أن الواجب يبسط على الكل.
وتظهر فائدة فيما لو ملك تسعا من الإبل وحال عليها الحول ثم
تلف -قبل التمكن- أربع وقلنا: الإمكان شرط الضمان لا الوجوب؛
فإن قلنا: الوقص عفو فعليه شاة، وإلا فالأصح أن عليه خمسة
اتساع شاة لا شاة، ومنها لو حضر ابنان للزوج وابنان للزوجة
انعقد النكاح، قال الإمام: باتفاق الأصحاب، وقال في "زيادة
الروضة" بلا خلاف.
ورأى ابن الرفعة تخريج خلاف فيها من مسألة الشهود قبلها، قال:
"إن قلنا: لا غرم، فما ذاك إلا لثبوت الحق لاثنين على الإبهام،
فيكون الانعقاد -هنا- مضافا إلى اثنين من أربعة؛ فيعود الخلاف.
وإن قلنا بالغرم فما ذاك إلا لأن الحق ثبت بالجميع، وقياسه
إضافة الانعقاد هنا
(1/145)
إلى الجميع وإذا جرد النظر إلى واحد واحد
كان متصفا بما يمنع الانعقاد.
قلت: ولمنازع في الأول أن يقول: لم قلت إن عدم الغرم لا يكون
عند الثبوت الأربعة؟ وجاز أن ينتفي الغرم -وإن ثبت الحق
بالأربعة- لبقاء من تنهض به الحجة.
وبذلك وجه ابن الصباغ -كما نقله الرافعي عنه في الزكاة- قول
أبي إسحاق فيما إذا تلف أربع من التسع قبل التمكن -المسألة
المتقدمة- أن عليه شاة؛ فقال الزيادة على الخمس ليست شرطا في
الوجوب فلا يؤثر تلفها -وإن تعلق بها الواجب- كما لو شهد خمسة
بالزنا ورجع الخامس بعد الرجم فلا ضمان.
وإن كنت -أنا- لا أرتضي هذا التوجيه؛ لأن المنقول عن أبي إسحاق
في هذه المسألة- أن على الراجح الضمان فكيف يوجه مذهبه في
الزكاة بخلاف ما يعتقده في الشهادة.
ثم قول ابن الرفعة: أنه ثبت باثنين -على الإبهام- محتمل لكن
جعله ذلك أصلا لعدم الغرم يقتضي أنه لما رجع الاثنان تبين ثبوت
الحق باللذين لم يرجعا، وليس كذلك؛ لأن الحكم إنما وقع بمبهم
فكيف يعود بمعين وليس كمن طلق -مبهما- ثم عين، فإن ذلك له أن
يعين ما أبهم.
وهذا حكم مستند إلى مبهم، فاعتقاد أنه استند إلى معين -بعد
ذلك- مكابرة في المحسوس؛ وإنما كان يمكن هذا لو كان رجوع
الراجعين يخدش في الحكم المستند إلى شهادتهما لكنه لا يخدش؛ إذ
لا ينقض الحكم برجوعهما.
نعم يمكن أن يوجه عدم الغرم بأنه لما وقع الحكم بالمبهم لم يكن
إلزام هذين بغرم، إذ لا يتعين أن يكون الحكم بهما.
فإن قلت: أفصح لي عما تعتقد في الشهود الأربعة، أتعتقد ثبوت
الحق بالمجموع؟ أم باثنين مبهمين؟ أم ماذا؟
قلت: إن شهدوا دفعة واحدة؛ فالأظهر ثبوته بالمجموع ويحتمل أن
يقال ثبت "باثنين" واجتماعهما كاجتماع دليلين على مدلول واحد
-عند من يقول به- ويحتمل [أن يقال] ثبت باثنين مبهمين؛ لكن لا
يصيران معينين أبدا، لأن الحكم إنما وقع هكذا. وإن شهدوا
مرتبين فقد يقال: ثبت بالمجموع وقد يقال: ثبت بالأولين ولا
ينبغي أن يقال
(1/146)
هنا بالإبهام لأن المقتضي لحكم القاضي قد
حصل بشهادة الأولين. قبل شهادة الآخرين -وإن لم يكن المانع منه
إلا عدم سؤال المدعي- إذ لو سأل قبل شهادة الأخيرين لتعين
الحكم، وبهذا يظهر لك أن الواقعة فيها شهود ليست أرجح من
الواقعة فيها شاهدان، وأنه لا ترجيح بكثرة الشهود -كما هو
مذهبنا- بل أن الكثرة قد تضر؛ فإن استناد الحكم يبقى على ما
ذكرنا من التفصيل والاحتمال وسيزداد هذا بيانا.
فأقول: وحيث قلنا: إن الحق ثبت بالمجموع؛ فقد يقال: إذا رجع
اثنان وبقي النصاب المعتبر -ولنفرض ذلك في العقوبات قبل
الاستيفاء- فينبغي ألا يستوفي؛ حتى يعود الأولان ويعيدان شهادة
جديدة؛ لأن شهادتهما الأولى لم يكن الحكم بها مجردة، بل بها مع
غيرها فيصير رجوع البعض مبطلا للمجموع الذي هو الحجة، ورجوع
الحجة قبل استيفاء العقوبة يمنع من استيفائها فليكن هذا مثله
أو هو هو، فتأمل ما أجربته لك من البحث.
أما قول ابن الرفعة في الثاني -لو جردنا النظر إلى كل واحد
لكان متصفا بما يمنع الانقعاد ... فممنوع على القول بأن الشاهد
لأبيه وأجنبي يقبل، وهو الصحيح.
ثم لمنازع أن ينازع ابن الرفعة في أصل التنظير، ويقول: ليست
مسألة ابني الزوج وابني الزوجة كمسألة الأربعة في الحق الذي
ثبت باثنين، ولا مما نحن فيه؛ لأن كلامنا في مجموع ينشأ عنه ما
ينشأ عن بعضه، كما في الأربعة ينشأ عنها ما ينشأ عن الاثنين لو
تجرد، أما ابنا الزوج وابنا الزوجة فليس بعضهم بكاف؛ ألا ترى
أنه لو شهد ابن الزوج وابن الزوجة أو ابنا الزوج وابنا الزوجة،
ففيه وجوه شهيرة.
فإن قلت: أتقطع بانتفاء الخلاف عن ابني الزوج وابني الزوجة،
كما نفاه النووي قلت: لا، ولكني لم أره، وما ذكره ابن الرفعة
من التخريج فيه ما عرفت.
فإن قلت: هل لا يصح أن يخرج فيها خلاف من وجهين حكاهما الرافعي
في كتاب الطلاق فيما إذا قلنا بصحة النكاح بالكتب؛ فكتب.
هل يشترط أن يحضر القبول شاهد الإيجاب؟ وقال: أصحهما ألا يشترط
وبه جزم في كتاب النكاح، ووجه التخريج أنه لا يثبت بابني الزوج
إيجاب النكاح ولا بابني الزوجة إلا قبوله.
قلت: وقد يفرق بأن كلا من الأبناء يشهد على النكاح بجملته؛
وإنما وقع الرد في حق أصله، وليس هو بمردود على الإطلاق؛ ألا
ترى أنه لو شهد خشية ابتداء، قيل كما
(1/147)
قال الأصحاب في الأب يشهد بنكاح ابنه إن
شهد ضمن دعواه لم يقبل، وإن شهد خشية ابتداء قبل. فإن قلت: لو
كان كل الأبناء يشهد بجملة النكاح لجرى فيه الخلاف فيمن شهد
لأبيه وأجنبي.
قلت: قد بينا بأنه يعرف أنهم لم يشهدوا؛ وإنما حضروا عقد
النكاح ولسنا على جزم بالاحتياج إلى شهادتهم لأصلهم لأنه قد لا
تقع شهادة، وبتقدير وقوعها قد تقع مقبولة فيما إذا أخرجوها
مخرج الحسبة؛ فليس كمن بت شهادته لأبيه وأجنبي.
أنه جاء بشهادة بعضها مردود، وهذا لم يأت إلى الآن بشيء فكيف
تبطل؟
فإن قلت: المعتبر في شهود النكاح أن يكونا بصفة القبول وقت
الأداء، ولذلك لم تنعقد بالفاسقين.
قلت: هذا على إطلاقه غير مسلم، ولذلك ينعقد بالمستورين، ثم
قلت: إنهما ليسا بصفة القبول عند الأداء، وقد قلنا: إنه جاز أن
تكون شهادتهما عند الأداء مقبولة.
ومن ثم امتنع بعض الأصحاب في إجراء الخلاف في الانعقاد في
العدوين، قال: لأن العدواة قد تزول.
فصل:
يقرب من هذه المآخذ: إذا تولد الشيء بين مضمون وغير مضمون؛ فهل
يعطى جميعه حكم الضمان.
وفيه صور:
منها: إذا أوجبنا الضمان بالختان -كما في الحر والبرد
المفرطين- فالواجب جميع الضمان للتعدي أو نصفه؛ لأن أصل الختان
واجب والهلاك حصل من مستحق وغير مستحق؟ فيه وجهان: قال
الرافعي: أظهرهما الثاني.
ومنها: وجهان كذلك في إقامة الجلد في الحر أو البرد المفرطين.
ومنها: إذا ضربه -في الجلد- فأنهر دمه فلا ضمان عليه؛ لأنه قد
يكون ذلك من رقة الجلد، فإن عاد فضربه في موضع انهار الدم ففي
الضمان وجهان.
فإن أوجبناه ففي قدره وجهان: أحدهما: جميع الدية، والثاني:
نصفها ذكره القاضي مجلى في "الذخائر" في كتاب موجبات الضمان.
(1/148)
أصل مستنبط:
كل من يتوقف صحة الشيء على إذنه لم يؤثر منعه فيه بخلاف من
يتوقف وجود الشيء على إذنه فإن منعه مؤثر في إبطاله.
ومن ثم لو نهت غير المجبر عن أن يوكل في تزويجها لم يكن له
التوكيل ادعى الإمام البغوي أنه لا خلاف، وقال الماوردي: إن
قلنا: لا يعتبر إذنها لتوكيل لم يؤثر منعها منه.
ومن هنا أثبت ابن الرفعة خلاف، وشكك به على دعوى الإمام البغوي
نفي الخلاف، ونازعه الشيخ الإمام وقال: الأشبه القطع بنفي
الخلاف.
قاعدة: "ما ثبت بالشرع أولى مما يثبت بالشرط"1
قاله الأصحاب ووجهوا به القول الصحيح في أنه إذا قال طلقتك
بألف على أن لي الرجعة يسقط قوله بألف ويقع رجعيا؛ لأن المال
ثبت بالشرط والرجعة ثبتت بالشرع فكانت أقوى.
غير أن لك أن تقول: الماء ثبت في الخلف بالشرع أيضا فينبغي أن
يكون الساقط -هنا المال المعين لا مطلق المال، لأن الشرع يثبته
فليس دفع المال أولى من دفع الرجعة.
وسيجيء في هذا البحث تتمة من حرف الباء من قسم النحو في أواخر
هذا الكتاب -إن شاء الله تعالى- والقاعدة صحيحة؛ وإنما الكلام
في تخريج هذا الفرع عليها وأوضح منه تدبير المستولدة فإنه لا
يصح؛ لأن عتق المتولدة عند الموت ثابت بالشرع فلا يحتاج وقت
الموت إلى تدبير.
ونظيره الشرط الذي يقتضيه العقد: الصواب عندنا أنه لا يضر ولا
ينفع ومقتضى العقد مستفاد من العقد بجعل الشارع لا من الشرط،
وهو رأي الإمام الغزالي والرافعي وغيرهم.
__________
1 المنثور 3/ 134، الأشباه للسيوطي 149.
قال الزركشي: أشار الرافعي لهذه القاعدة في فروع التعليقات.
(1/149)
وقول المحاملي: "إن شرط مقتضى العقد صحيح"
- إن عني به أنه لا يفسد فحق، وإن عني به أنه يؤثر شيئا فلا
نوافقه عليه.
وقد يقال: يكون المعلول علتان -على رأي من يجوز اجتماع علتين-
وهذا سنتكلم عليه إن شاء الله في مسائل أصول الدين عند الكلام
على التعليل بعلتين.
وكل هذه الفروع تدل؛ لأنه [إذا اجتمع خيار المجلس وخيار الشرط
يكون ابتداء خيار الشرط من حين التفرق] 1، وهو وجه؛ لأن ما
قبله ثابت بالشرع، فلا يحتاج إلى الشرط.
وقد يقال: لا تعارض بينهما عند من يجوز اجتماع علتين وتشبه هذه
القاعدة نذر الفرائض فإنه لا يصح؛ لأنها ثابتة بالشرع وورود
الالتزام عليها لا يفيد شيئا، وذلك مما يوضح أنه لا يجتمع
علتان.
قاعدة: "الإكراه يسقط أثر التصرف فعلا كان أم قولا".
وسنتكلم على هذه القاعدة في أصول الدين، ونقتصر -هنا- على
المستثنى منها، وهو مسائل: ذكر الغزالي منها في كتاب الطلاق
خمسا.
منها: الإسلام، وفي استثنائه نظر؛ فإنه إذا كان المكره عليه
ذميا فالأصح عدم صحته وإن كان حربيا أو مرتدا فالإكراه هنا
بحق.
وقولنا: الإكراه يسقط أثر التصرف بخصوص الإكراه بغير حق ما
سنبين في أصول الدين إن لم نجعل صفة الإكراه منافية للتكليف
وهو الحق وإن جعلناها منافية فلا فرق بين الإكراه بحق وباطل
فليقع الاستثناء2.
ومنها: الرضاع والاستقبال والحدث؛ فيصح عن إكراه لتحققها في
أنفسها. وحكى الرافعي عن الحناطي في مس الذكر ناسيا وجهين لا
يبعد جريانهما في الإكراه.
ومنها: الأصح بطلان صلاة المتكلم في الصلاة مكرها، ولا خلاف في
بطلانها بالأفعال الكثيرة وإن صدرت عن إكراه، واختلفوا في فطر
المكره.
ومنها: الإكراه على القتل لا يتجه إجماعا، ولا يسقط القصاص على
الصحيح،
__________
1 سقط من أوالمثبت من ب.
2 في "ب" فليقع الاستثناء على هذا.
(1/150)
ولا يصح استثناء القتل؛ لأن ما من شيء يكره
به عليه إلا وهو أشق منه، وقد يعرض في قول القائل -اقتل هذا
وإلا قتلتك قبله- تعذيب بكيفيات يصعب على النفوس ويسقط مطلق
القتل في مقابلتها.
ومنها الزنا: إن قيل: يتصور الإكراه عليه وهو الصحيح؛ فإنه لا
يباح بالإكراه.
ومنها: إذا علق الطلاق على صفة فأكره عليها ففيه قولان.
ومنها: إذا تبايعا في عقد الصرف وتفرقا مكرهين قبل القبض، نقل
صاحب الاستقصاء عن صاحب الإفصاح أنه يبطل.
وقد يعترض على هذا بأن الإكراه لا يبطل خيار المجلس على
الصحيح. ويجاب بضيق باب الربا، وللوالد -رحمه الله- كلام مبسوط
في شرح المهذب والمنهاج.
ومنها: الحلف بالله مكرها ينعقد يمينه -على وجه حكاه ابن
الرفعة- ولعله أخذه من تعليقة القاضي أبي الطيب فإنه حكاه
فيها.
ومنها: الوكيل في الطلاق إذا أكره ففي صحته احتمالان لأبي
العباس الروياني أحدهما: الوقوع لحصول اختيار المالك، وأصحهما
عنده أنه لا يقع لأنه المباشر.
قاعدة: "معزوة إلى الأودني".
"ما يسقط بالتوبة يسقط حكمه بالإكراه وما لا فلا".
ويرد شرب الخمر؛ فإنه يباح بل يجب بالإكراه وحده لا يسقط
بالتوبة على الأصح والقذف مثله أيضا.
قاعدة: الاشتغال بغير المقصود. إعراض عن المقصود1.
في صور منها: لو حلف لا يسكن هذه الدار ولا يقيم فيها فتردد
فيها ساعة من غير غلط حنث، وفيه بحث للرافعي.
ومنها لو قال طالب الشفعة للمشتري عند لقائه: بكم اشتريت أو
اشتريت رخيصا بطل حقه.
__________
1 الأشباه للسيوطي ص158.
(1/151)
ومنها: لو كتب أنت طالق ثم استمر فكتب إذا
جاءك كتابي فإن لم يحتج إلى الاستمرار طلقت وإلا فلا؟ إذ لا
إعراض.
قاعدة: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه1 واعتراف بصحته".
في مسائل منها:
رضا أحد الزوجين بعيب صاحبه؛ فازداد العيب فلا خيار على الصحيح
لأن رضاه به رضا بما يتولد منه.
ومنها: ادعت المنكوحة برضاها -حيث يعتبر إذنها- أن بينها وبين
الزوج محرمية لم يقبل؛ لأن رضاها بالنكاح يتضمن اعترافها
بحكمه؛ فلا يقبل منها نقضه إلا إذا ذكرت عذرا، كنسيان ونحوه
فتصدق لتحليفه.
ومنها: علمت بإعساره عن المهر وأمسكت عن المحاكمة بعد طلب
المهر كان رضاه بالإعسار مسقطا للخيار؛ بخلاف ما إذا كان قبل
الطلب لاحتمال أن التأخير لتوقع النسيان.
ومنها: لو ادعت بعد الدخول -وهي معتبرة الإذن- أنها زوجت بغير
إذنها، قال البغوي: لا يقبل، قال الرافعي كأنه نزل الدخول
منزلة الرضا.
ومنها: لو قال رشيد: اقطعني ففعل فسرى فهدر، وفي قول: تجب
الدية.
ومثل علماؤنا لذلك بالقيمة من إيجاب الزكاة في الشاة.
وأنا متوقف في صحة التمثيل به، وأقول لمن أجاز القيمة أن يقول:
أنا مستنبط معنى معمم لا بيطل؛ لأني لا أمنع أجزاء الشاة، وهي
شيء ذكرته في شرح المختصر، وأنا باق عليه؛ غير أني هنا أقول:
قد يقول أصحابنا: هب أنك تقول أجزاء الشاة إلا أنك من حيث لم
تحصر الأجزاء فيها مبطل للفظها في قول النبي صلى الله عليه
وسلم - "في أربعين شاة شاة2
__________
1 وقريب منها قاعدة المتولد من مأذون فيه لا أثر له.
انظر المنثور 2/ 176، الأشباه للسيوطي ص141.
2 أبو داود في السنن 2/ 99 في الزكاة/ باب في زكاة السائمة
"1572" وفيه الحارث الأعور وعاصم بن ضمرة.
(1/152)
وليست القيمة أعم من الشاة بل هي قيمة لها
فما لذكر الشاة فائدة؛ إذ لا تنبيه فيها بالأخص على الأعم؛ إذ
لا أعم هنا كما بيناه، ولا هي نفس الواجب على ما زعمت الخصوم،
ولكني لا أرتضي هذا كل الرضا.
وأقول: قد يقول الخصم: جاء ذكر الشاة من قبل مقابلته لمثله؛
فإنه لما كان الموجب فيه شياها حسن في اللسان أن يذكر لفظ
المقابل بإزائه؛ ألا ترى أن أحدا لم يقل بأن القيمة لا تجزئ في
الإبل والبقر وتجزئ في الغنم؛ بل إنها ما تجزئ في الكل فلم يكن
لفظ الشاة واردا لتعينه فافهم ذلك فيه يضمحل التمثيل.
وأنا أرى أن نمثل لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم "ذكاة الجنين
ذكاة أمه" 1 فلقد اقتحم الخصوم فيه أمر عظيما وقدروا لفظ المثل
فقالوا المعنى مثل ذكاة أمه وهذا التقدير مع كونه غير محتاج
إليه لإمكان صحة الكلام دونه باطل لأنه عائد على الكلام
بالإبطال وتصييره لغوا؛ فإن الجنين إن احتيج إلى ذكاته فذكاته
كذكاة سائر الحيوانات -لا خصوصية لأمه- ثم إن كل عاقل يعرف أن
ذكاته كذكاتها وذكاة غيرها بلا تفاوت فلا يكون اللفظ مقيدا،
البتة.
ونظيره تقدير بعض المالكية "من صام رمضان وأتبعه بست من
شوال"2، أن المعنى بست من الفطر إلى أيام الفطر؛ فلا فرق بين
شوال وغيره ثم قال: ينبغي تفريقهما ولا يأتي بها متتابعة؛
فانظر كيف محقوا اللفظ محقا.
فصل:
ويجوز استنباط معنى يعمم، كمشوش الفكر من قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 3؛ فلقد عممنا الغضب، ونقل
القاضي أبو الطيب الإجماع على ذلك.
وخصصناه بالغضب إلا الله؛ إذ لا كراهة على ما ذكر الإمام
البغوي فيما إذا كان الغضب لله، واستنباط معنى يعمم هو باب
القياس.
__________
1 أبو داود 3/ 103 الأضاحي/ باب في المبالغة في الذبح "2826"،
والحاكم في المستدرك 4/ 114 في كتاب الأطعمة باب ذكاة الجنين،
وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي.
2 مسلم من حيث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه 2/ 822 في
الصيام/ باب استحباب صوم ستة أيام من شوال "204/ 1164".
3 البخاري 13/ 136 في الأحكام/ باب هل يقضي القاضي ... حديث
"7158" ومسلم 3/ 1342-1343 في الأقضية/ باب كراهية قضاء القاضي
وهو غضبان "16/ 1717".
(1/153)
فصل:
وفي استنباط معنى يخصص قولان.
قال ابن الرفعة في الصداق من "المطلب" يظهر أثرهما في مسائل:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تتلقوا الجلب" 1 وقوله صلى
الله عليه وسلم "من اشترى ما لم يره" 2، ونهيه صلى الله عليه
سلم عن بيع اللحم بالحيوان3، وغير ذلك قال: فمن نظر إلى اللفظ
أثبت الخيار عند صدق تلقي الجلب وإن لم يحصل غبن وعند موافقة
المبيع لما وصف عند رؤيته، وصنع بيع اللحم بحيوان غير مأكول،
ومن نظر إلى المعنى عكس الحكم".
قلت: وكذلك "ليس للقاتل من الإرث شيء"، من تعليق بلفظه عمم
القاتل - خطأ وبحق وغيرهما من نظر إلى المعنى خصصه.
وكذلك قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 4 من اعتبر
تجرد اللفظ نقض الوضوء بمجرد لمس المحارم، ومن نظر إلى المعنى
خصصهن.
وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} 5.
من اعتبر اللفظ منع فرار عشرين ضعفاء من المسلمين من تسعة
وثلاثين من اعتبر المعنى جوزه.
__________
1 مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 3/ 1157 في كتاب
البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب "17/ 1519".
2 أخرجه الدارقطني في سنته عن زاهر بن نوح، ثنا عمر بن إبراهيم
بن خالد الكردي، ثنا وهب اليشكري عن محمد بن سيرين عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شيئا
لم يره فهو بالخيار إذا رآه ... " وزاهر بن نوح لا يعرف.
3 أخرجه أبو داود 3/ 250 في كتاب البيوع/ باب في الحيوان
بالحيوان نسيئة حديث "3356" والترمذي 3/ 538 في البيوع / باب
من جاء في كراهية بيع الحيوان الحيوان نسيئة "1237"، وقال: حسن
صحيح، بيع الحيوان بالحيوان نسيئة "2270"، وأحمد في المسند 5/
12-19-21 والدارمي في السنن 2/ 254 في البيوع/ باب في النهي عن
بيع الحيوان بالحيوان.
4 النساء "43".
5 الأنفال "66".
(1/154)
وقوله صلى الله عليه وسلم "من احتكر فهو
خاطيء" 1.
ومن اعتبر اللفظ حرم الاحتكار في كل موضع وفي كل سلعة -وإن لم
يضر- وهو المنقول عن مالك، ومن اعتبر المعنى خصصه بوقت الغلاء،
وعليه مذهبنا.
تنبيه:
لا يخفى عليك أن الممتنع على أحد القولين؛ إنما هو [إسقاط] 2
معنى -من نص وغيره- يعود عليه بالتخصيص، لاعتقاد أنه مبطل.
أما استنباط معنى -من نص وغيره- يعود عليه بالتخصيص فلا يمتنع
ثم يتعارض. وهو وإن كان مستبطا من نص آخر قدم عليه، أو من قياس
فالكلام فيه كالكلام في التخصيص بالأقيسة؛ فإياك أن تبحث على
كل عام أخرجت منه صور لمعان استنبطت وتقول لم لا جرى فيها
قولان؛ بل ليس لك هذا السؤال إلا أن وجد المعنى استنبط من
اللفظ نفسه لا من سواه.
وإلا فكم من عام خصص بالمعاني وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} 3 مخصوص بالمسلمين إجماعا.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 4
خص من ذوي القربى الكفار بلا خلاف وخص أبو حنيفة الأغنياء
واشترط الشافعي الفقر في أبناء السبيل، وتردد في اليتامى؛ فأما
تخصيصهم الكفار فليس من معنى مستنبط من النص، بل لأن المأخوذ
منهم لا يرد عليهم، وغير ذلك من أمور خارجية.
قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور
ومن أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
__________
1 مسلم من حديث معمر بن عبد الله العدوي 3/ 1227 في كتاب
المساقاة/ باب تحريم الاحتكار في الأقوات "129/ 1605".
2 سقط في ب.
3 سورة: التوبة آية: 60.
4 سورة: الأنفال آية: 41.
(1/155)
وبها رد أصحابنا على أبي حنيفة قوله: "إن
العريان يصلي قاعدا"؛ فقالوا إذا لم يتيسر ستر العورة فلم يسقط
القيام المفروض؟
وذكر الإمام في أواخر الغياثي ومن خطه نقلت أن هذه القاعدة من
الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة.
وقد ذكر الشيخ الإمام في باب التيمم من "شرح المنهاج" وأكثر من
عد مسائلها.
فمنها: إذا كان مقطوع بعض الأطراف يجب غسل الباقي جزما.
ومنها: إذا قدر على بعض السترة فعليه ستر القدر الممكن.
ومنها: إذا قدر على بعض الفاتحة أتى بها.
ومنها: إذا لم يمكن المصلي رفع اليدين إلا بالزيادة على
المشروع أو نقص أتى بالممكن.
ومنها: إذا انتهى المظاهر إلى المرتبة الأخيرة؛ فلم يجد إلا
إطعام ثلاثين.
قال الإمام: يتعين عندي إطعامهم قطعا.
ومنها: إذا وصى بإعتاق عبد فلم يخرج كله من الثلث عتق ما يخرج
منه قطعا.
ومنها: إذا وجد من الماء ما لا يكفيه فالأظهر وجوب استعماله،
والقولان جاريان فيما إذا لم يكن معه ماء ولكن معه ما يشتري به
ماء.
ومنها: إذا قدر على بعض الماء ولا تراب معه فطريقان: أصحهما
يجب استعماله والثانية طرد القولين.
ومنها: الأصح -في القدرة على بعض التراب- الوجوب وقيل: على
القولين.
ومنها: إذا كان في بعض بدنه ما يمنع استعمال الماء غسل الصحيح
وتيمم على الجريح، وقيل: على القولين.
ومنها: إذا قدر على بعض الصاع من الفطرة لزمه إخراجه - على
الأصح.
ومنها: إذا قدر على بعض الرقبة في الظهار لم يقدر على الصيام
ولا الإطعام؛ فأوجه خرجها ابن القطان.
أحدها: الاكتفاء به.
والثاني: إخراجه، ويبقى الباقي في ذمته.
والثالث: لا يخرجه.
(1/156)
ومنها: عتق بعض الرقبة وهو موسر ببعض قيمة
الباقي فالأصح السريان إلى القدر الذي هو موسر به.
ومنها: أوصى بشراء عبد بألف وعتقه فلم يخرج الألف من الثلث
وأمكن شراؤه بما يخرج منها وجب.
ومنها: عليه نجاسات ووجد ما يغسل بعضها غسله قطعا، وقيل: على
القولين.
ومنها: لو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لزمه القيام خلافا
لأبي حنيفة.
ومنها: لو لم يقدر على الانتصاب بأن تقوس ظهره وصار في حد
الراكعين فقال الغزالي -تبعا لإمامه- يقعد.
والأصح لا؛ بل يقف راكعا.
ومنها: لو اطلع على عيب المبيع ولم يتيسر له المبادرة بالرد
ولا الإشهاد من وجوب التلفظ بالفسخ وجهان جاريان فيه وفي
الشفعة.
ومنها: اشترى الشقص بثمن مؤجل فالشفيع مخير بين أن يعجل ويأخذ
الشقص في الحال وأن يصير إلى حيلولة الأجل -على أصح الأوجه-
وهل بنيه المشتري على المطلب؛ فيه وجهان.
ومنها: ملك مائة نقدا أو مائة مؤجلة على مليء فكيف تزكي؟
والتفريع على الأوجه وهو أنه تجب الزكاة في المؤجل ولا يجب
الإخراج في الحال ولكن بعد الاستيفاء الأصح أنه يلزمه الإخراج
عما في يده؛ لأن الميسور لا يتأخر بالمعسور.
ومنها: ذكر العراقيون -عن نص الشافعي- أن الأخرس يلزمه أن يحرك
لسانه بدلا من تحريكه إياه في قراءة الفاتحة، قالوا: والتحريك
من غير قراءة كالإيماء بالركوع والسجود.
وقال الإمام في "النهاية" وهذا مشكل عندي؛ فإن التحريك بمجرد
لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإن إقامته -بدلا- بعيد.
قال "ثم يلزم -على قياس ما ذكروه- أن يلزموا التصويت من غير
حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد.
(1/157)
ثم على الجملة قلت: أراه بدلا عن القراءة،
وإذا لم يكن بدلا فالتحريك الكثير يلحق بالفعل الكثير انتهى.
ومنها لو خاف الجنب -من الخروج من المسجد- على نفس أو مال
يلبث، ووجب عليه التيمم -إن وجد غير تراب المسجد.
صرح به القفال والأستاذ أبو منصور وصاحب التتمة وأفهمه كلام
الرافعي في "الشرح الكبير"، وصر به النووي في الروضة، ووجهه أن
أحد الطهورين وهو التراب ميسور فلا يسقط المعسور.
ووقع في عبارة الرافعي في "الشرح الصغير"، في هذه المسألة أنه
يحسن ويتعين تأويلها، لئلا تخالف النقل والعقل.
فإن قلت: يؤيد ظاهرها -الشاهد لعدم الموجود- قول القاضي أبي
الطيب فيمن أحدث ومعه مصحف -ولم يجد الماء وهو قادر على
التراب- أن له حمله من غير تيمم.
قلت: وقد أفتى القفال في هذه الصورة أيضا بأنه يتيمم؛ فلم يكن
قول القاضي أبي الطيب مسلما.
ثم أقول: كلام القاضي محمول على من المصحف في يده فلم يغتفر
إلقاؤه على الأرض لأجل الطهارة الكبرى. وإذا حمل على المصحف في
يده لم يكن كمسألة الجنب في المسجد.
ومنها: إذا وجد مانع من الجماع -طبيعي- في الزوج بعد مضي المدة
المحسوبة في إيلاء كمرض لا يقدر معه على الوطء؛ فيطالب بالفيئة
باللسان أو الطلاق إن لم يفئ.
ومنها: من اجتمع عليه قتله وصلب فمات ففي وجوب صلبه وجهان.
(1/158)
"ويستثنى من
القاعدة مسائل":
منها: إذا لم يجد المظاهر إلا بعض رقبة عدل إلى البدل.
منها: الشفيع إذا وجد بعض ثمن الشقص لا يأخذ قسطه من الشقص.
(1/158)
ومنها: إذا قال الموصي: اشتروا ثلثي رقبة
وأعتقوها فلم يجد رقبة لا يشتري الشقص.
ومنها: أوصى بشراء -رقاب وعتقهم فلم يتيسر إلا اثنان وشقص لم
يشتر الشقص- على الأصح- عند الرافعي والنووي، وخالفهما ابن
الرفعة والوالد.
ومنها: لو لم يجد المحدث إلا ثلجا أو بردا -لا يقدر على
إذابته- وجب استعماله على المذهب. وقيل: يجب، فيتيمم على الوجه
واليدين، ثم يمسح به الرأس. ثم يتيمم على الرجلين.
قاعدة: إذا تضمن الشيء الخروج من أمر فلا يتضمن الدخول في
مثله، وإن شئت قل: الشيء الواحد لا يتضمن الخروج والدخول في
شيء واحد أو: الشيء الواحد لا يتضمن قطع الشيء ووصله.
أو الشيء الواحد لا يحصل به الفسخ والعقد جميعا. وهذه عبارة
الرافعي ذكرها عند الكلام في بيع المبيع في زمن الخيار ومن ثم
مسائل:
منها: لو كبر للإحرام للصلاة ثم كبر ثانية أو أكثر قاصدا بكل
واحدة من تكبيراته -تكبيرة الإحرام؛ فإن صلاته تنعقد بالأوتار
وتبطل بالإشفاع، فإن انتهى إلى وتر فصلاته صحيحة وإن انتهى إلى
شفع لم تصح لأنها تنعقد بالأولى فإذا كبر الثانية للإحرام يضمن
إبطال الأولى والدخول في الصلاة والتكبيرة الواحدة لا تصلح
لقطع الصلاة ووصلها فتبطل صلاته؛ فإذا كبر الثالثة انعقدت:
لأنه ليس في صلاة، فإذا كبر الرابعة بطلت لما قلناه في
الثانية، وهلم جرا.
وقد ذكر النووي هذه المسألة -"في الروضة" في باب "صفة الصلاة"-
من زوائد - لكونها ليست في الرافعي في هذا الباب ولكنها في
الرافعي في موضعين في البيع عند الكلام في أن بيع البائع
المبيع في زمن الخيار هل يكون فسخا؟ وفي الشفعة عند الكلام في
تصرف المشتري في الشقص.
فليست من زوائد الروضة -على الإطلاق- بل باعتبارات صفة الصلاة
فقط.
ومنها: لو تصرف المشتري في الشقص فعن أبي إسحاق أنه ليس للشفيع
نقض تصرفه، كما لا ينقض بناه.
(1/159)
واختلفوا في موضع هذا الوجه فمنهم من خصصه
بتصرف تثبت فيه الشفعة ومنهم من عمم، وقال: تصرف المشتري يبطل
حق الشفيع مطلقا نعم لو كان بيعا ونحوه يحدد حق الشفعة، وعن
رواية الشيخ أبي علي لا يتجدد أيضا؛ لأنه كان مبطلا للشفعة لا
يكون مبتا لها كمسألة الصلاة.
فإن قلت: الأصح صحة بيع البائع العين المبيعة في زمن الخيار
إذا كان الخيار له، ثم الأصح أن ذلك فسخ للبيع السابق؛ فهذا
تصرف يتضمن إبطال بيع سابق وصحة بيع لاحق.
قلت: إبطال البيع السابق وقع ضمنا على وجه البيع، وليسا
مقصودين.
ومنها: للمتوضئ تفريق النية على أعضائه على الأصح، أن ينوي
-عند الغسل الوجه- رفع الحدث عن الوجه- وعند اليدين رفع الحدث
عن اليدين وكذا عند الرأس والرجلين.
وذهب الشيخ أبو حامد الراذكاني الطوسي1 شيخ الغزالي فيما نقله
عن ابن الصلاح- إلى أن صورة التفريق أن ينوي -عند الوجه- رفع
الحدث عن جميع الأعضاء. ثم يعود إلى مثل ذلك في كل عضو.
واعتراضه ابن الصلاح بأن ذلك ليس قطعا؛ بل هو تأكيد لما تقدم.
قلت: وبتقدير كونه قطعا؛ فإنما هو قطع لنية ما وراء العضو الذي
انغسل ثم هو قطع ضمني فيغتفر.
__________
1 أحمد بن محمد الطوسي ذكره في الطبقات الكبرى وقال: وهذا
الراذكاني أحد أشياخ الغزالي في الفقه تفقه عليه قبل رحلته إلى
إمام الحرمين.
وقال: وراذكاني براء مهملة ثم ألف ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة
ثم كاف ثم ألف ثم نون من قرى طوس.
الطبقات الكبرى 4/ 91.
(1/160)
ومنها: ذكر ابن الصباغ فيما نقله عن شبيب
الرحبي1، أن عتق المبيع قبل القبض؛ إنما صح مع كون بيعه غير
صحيح، لأن العتق قبض، بخلاف البيع.
فقيل: إذا جعلت العتق قبضا فيجب أن لا يقع العتق إلا بعتق مجرد
لأن الأول حصل به القبض، أي فلا يحصل مع القبض الخروج من اليد.
فقال: هذا غير ممتنع كما لو قال لغيره: أعتق عبدك عني ففعل فإن
العتق يقع عن السائل، ويحصل به القبض والعتق معا.
فقال له السائل عن الموضوعين: اسأل، فقال: العتق إتلاف؛ فيجوز
أن يحصل به الأمران معا كما إذا قتل العبد المبيع في يد
البائع.
قلت والحاصل أن القبض يقع ضمنا كما قلنا في المبيع زمن الخيار
فكان امتناع تضمن الشيء والخروج والدخول ليس على الإطلاق؛ بل
في الخروج والدخول المقصودين دون ما إذا كان أحدهما ضمنيا.
ومنها: قال الإمام "في النهاية" في باب ما على الأولياء إذا
ثبت حق التزوج لعصبات النسب فقد سمي الأصحاب ذلك ولاية ثم توقف
الإمام في الأخ؛ لأنه لا يزوج أخته البالغة قهرا، وحكى تردد
الأصحاب في أنا هل نسمي الأخ وليا لأخته الصغيرة؟
فمن ناف؛ لأنه لا يملك تزويجها، ومن مثبت لأن لا يستحيل أن
يصير وليا بعد البلوغ، إذ البلوغ قد يؤثر في قطع الولايات
ويستحيل أن يؤثر في إفادتها. انتهى ملخصا.
ونقله ابن الرفعة في باب الوكالة في الكلام على التوكيل ببيع
عبد سيملكه -على غير وجهه- ومحل غرضنا منه أن البلوغ لا يصح
لإثبات الولاية؛ لأنه صالح لانتفائها.
ومنها: أن اليمين الواحدة لا تصلح لإثبات ما يدعيه ونفي ما
يدعى عليه، ولهذا قاعدة نخصه بذكرها -إن شاء الله تعالى- في
الدعوى والبينات في أن اليمين لا تصلح في الجلب والدفع مع
نظائرها.
__________
1 شبيب بن عثمان صالح الفقيه أبو المعالي الرحبي من أهل رحبه
الشام وهو من تلامذة أبي منصور ابن أخي صاحب الشامل. انظر
الطبقات الكبرى ص7، ص9.
(1/161)
ومنها: أنه لا يتخذ القابض والمقبض،
وأمثاله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في قواعد البيع.
ومنها: جزم جماعة من الأصحاب بأنه إذا ادعى عليه بألف فقال
قبضته أنه يكون مقرا مع حكايتهم قولين فيما إذا قال: له علي
ألف قضيتها، وتكلف ابن الرفعة الفرق بأن قضيته لفظ واحد تضمن
الإقرار والبراءة والشيء والواحد لا يستعمل في الشيء وضده لغة
وعرفا وشرعا، فأبلغناه فيما له دون ما عليه.
وقوله: له علي ألف قضيتها لفظان يقتضي أحدهما الشغل والآخر
البراءة؛ وذلك ينتظم لفظا وإن امتنع شرعا وعقلا فلا جرم. خرج
على القولين. قال الشيخ الإمام رحمه الله: ولو قيل بالعكس لم
يبعد لأن قوله علي ألف قبضتها يقتضي كونها في الحال عليه وأنه
قضاها، بخلاف قضيته فإن مضمونه الإقرار بدين سابق، فهو مثل كان
له علي ألف.
وقد صحح النووي في مثل كان له علي [ألف] 1 أنه ليس بإقرار؛ فلم
لا يكون هنا. كذلك قال: فينبغي أن يكون الصحيح في قضيته أنه
غير إقرار.
قاعدة: ذكرها الشيخ الإمام في باب الحيض من "شرح المنهاج" وفي
باب استقبال القبلة.
النظر2 إلى الظاهر أو إلى ما في نفس الأمر؟ وهذه العبارة فيها
خلل؛ فإن نفس الأمر منظور قطعا، يعني أنه لا بد منه؛ إنما
النظر في إن ظن خلافه هل يؤثر في اندفاع حكمه؛ فالأولى أن يعبر
أن الظن -غير المطابق- هل يؤثر؟ وفيه خلاف في مسائل:
منها: وهي أم الباب -إذ باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو
ميت فالأظهر الصحة.
ومنها: ويجري الخلاف فيما لو باع العبد على ظن أنه آبق أو
مكاتب فبان أنه قد رجع مع الكتابة.
ومنها: زوج أمه أبيه على ظن أنه حي فبان ميتا ففي صحة النكاح
خلاف. وألحق الشيخ صدر الدين ابن المرحل بمسائل الباب إذا تزوج
أمرأة المفقود على ظن أنه حي -فإذا هو ميت، قال: فقولان، الأصح
الصحة.
__________
1 سقط في ب.
2 في "ب" هل النظر.
(1/162)
قلت: وفيه نظر، فإن صورة مسألة القولين إذا
لم يظن حياته. بل بعد مدة التربض -بناء على القديم- ثم بان أن
المفقود كان ميتا وقت الحكم بالفرقة ففي صحة النكاح على الجديد
وجهان بناء على بيع مال الأب على ظن حياته.
إما إذا ظن أنه حي فلا قائل فيما أعلم -بصحة النكاح في صورة
امرأة المفقود. وإذا علمت أن صورة المسألة فيما ذكرناه فلا يصح
تخريج البناء؛ لأن في بيع مال الأب على ظن الحياة عن المنافي
حالة البيع، وفي تزويج امرأة المفقود لم يظن للنافي في حالة
العقد.
ومنها: لو رأى العسكر سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم
بان غير عدو فأصح القولين وجوب القضاء.
ومنها: رأوا عدوا فخافوه، ثم بان أنه كان بينهم خندق فالأصح
وجوب القضاء أيضا.
ومنها: استباب المغصوب الذي لا يرجى برؤه ثم برئ فالأصح عدم
الإجزاء.
ومنها: اشتبه عليه إناءان فتوضأ بما ظن طهارته منهما، ثم تيقن
أنه كان نجسا أو أخبره بذلك عدل لزمه الإعادة على أصح القولين.
ومنها: اشتباه القبلة كذلك ومنها: بأن إمامة امرأة أو كافرا
ولو كفرا مختفيا على الأصح وجبت الإعادة.
ومنها: بان إمامه جنبا أو محدثا أو ذا نجاسة خفية؛ فلا تجب
الإعادة لعد الأمارة على ذلك.
ومنها: بان أميا فهو كما إذا بان امرأة على الأصح.
ومنها: اقتدى بمن يظنه خنثى فبان رجلا لم يسقط القضاء في
الأظهر.
ومنها: وكل وكيلا بشراء شيء ثم باعه ظانا أن وكيله لم يشتره
بعد وبان أنه كان قد اشتراه فالأصح في المسألتين الصحة؛ نظرا
إلى ما في نفس الأمر كالأصح في غالب مسائل القاعدة؛ وإنما خولف
في مسألة الخنثى، لتردد النية.
ومنها: تزوج خنثى بامرأة فبان رجلا لم يصح.
ومنها: تزوج المرأة من يشك في كونها محرمة عليها. لم يصح
وعللوه بأن الأصل في الإيضاح الحرمة.
قال الشيخ الإمام: وهو يشكل بتزويج أمه أبيه.
(1/163)
ومنها: دفع المالك الزكاة لمن ظنه فقيرا
فبان غنيا لم تجزه في الأظهر؛ بخلاف ما إذا كان الدافع الإمام
فإنه يجزئ.
ومنها: إذا بان كون المدفوع إليه كافرا أو عبدا لم يجزئ أيضا
في الأصح.
ومنها: إذا أقام بينة أنه غارم، فأخذ من سهم الغارمين، ثم بان
كذب الشهود ففي سقوط الفرض الخلاف.
ومنها: إذا فسد عقد الهدنة لم يجز اغتيال الكافرين، بل يجب
إنذارهم لظنهم الصحة.
ومنها: وطيء زوجة أجنبي يظنها زوجته المملوكة فالأصح يلزمها
الاعتداء بقرأين اعتبارا باعتقاده، وقيل: بواحد اعتبارا بماا
في نفس الأمر. وإن ظنها زوجته الحرة؛ فهل يلزمها قرء أو قرءين
أو ثلاثة؟ فيه أوجه أصحها الثالث.
ولو وطئ امرأة يظنها أمته قطع جماعة بثلاثة أقراء؛ لأن الظن
يؤثر في الاحتياط دون المساهلة.
وأجرى المتولي الوجهين: إن اعتبرنا حالها فثلاثة أقراء، أو ظنه
فقرء ولو ظنها زوجته المملوكة فطرد فيه الوجهين: هل قرءان لظنه
أو ثلاثة؟ والأشبه إلى ظنه؛ لأن العدة لحقه.
ومنها: زوجة أبوه -وهو لا يدري- أو ظن أن زوجته أجنبية فخاطبها
بالطلاق فالمشهور المنصوص وقوع الطلاق. ظاهرا، وفي نفوذه باطنا
وجهان بناهما المتولي على الإبراء عن المجهول، وللغزالي احتمال
أنه لا يقع ظاهرا لأن من لا يعرف الزوجية لا يقصد إلى قطعها.
ومنها: لو عامل المأذون من علم رقه ولم يعلم كونه مأذونا ثم
بان أنه مأذون قال الرافعي: فهو ملحق عند الأئمة ببيع مال
الميت على ظن الحياة ويقرب منه وجهان -حكاهما الحليمي- فيما
إذا كذب مدعي الوكالة ثم عاملة فظهر صدقه في دعوى الوكالة.
ومنها: إذا قال لمن عليه ألف درهم: أبرأتك منها ثم قال: لم
أعلم.
ومنها: المستحاضة إذا عاد الدم على خلاف ما اعتادته من طول زمن
الانقطاع طولا يسع وضوءا وصلاة فلا يجب إعادة الوضوء في الأصح
اعتبارا بما في نفس الأمر.
(1/164)
ومنها: قال الرافعي في فروع الطلاق: ولو
خيرها وهي لا تشعر فاختارت نفسها قال إسماعيل البوشنجي: يخرج
على بيع مال الأب على ظن الحياة.
ومنها: إذا قال الغاصب للمالك: أعتق هذا العبد فأعتقه ظنا أنه
ملك للغاصب، فالصحيح النفوذ نظرا إلى ما في نفس الأمر.
ومنها: إذا اعتق أمته بشرط أن تتزوج به؛ فمنهم من بناه على بيع
مال الأب المظنون الحياة.
ومنها: قال في الوسيط في نكاح المشركات: لو أسلم ونكح أخت
المتخلفة وأصرت المتخلفة انبنى صحة النكاح على القولين بمن باع
مال أبيه على ظن الحياة.
ومنها: ارتكب كبيرة في ذهنه لوطئ زوجته يظنها أجنبية قال الشيخ
عز الدين: يجري عليه أحكام الفاسقين، لجرأته، ولا يعذب تعذيب
زان.
ومنها: كان ينفق على ظن الحمل، ثم بان أنه لا حمل فله
الاسترداد لأنه مسلم عن جهة الواجب، وقد تبين خلاله فأشبه ما
إذا ظن أن عليه دينا فأداه ثم بان خلافه، وما إذا أنفق على
أبيه على ظن إعساره، فبان يساره وعن القاضي الحسين أنه احتج
لذلك بما روي: "أن أبي كعب -رضي الله عنه- علم رجلا القرآن أو
شيئا منه فأهدى له شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
أخذتها أخذت قوسا من النار" 1.
وقال: إن ذلك الرجل ظن وجوب الأجر عليه من غير شرط وكان معطي
القوس على ظن أنه يعطي الواجب عليه فمنع النبي صلى الله عليه
وسلم عن أخذه.
ومنها: قال الرافعي في باب الكتابة فيما إذا أوصى برقبة
المكاتب كتابة فاسدة، وهو يظن أن الكتابة صحيحة أن في الوصية
قولين:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه أوصى، وعنده أن ما يأتي به لغو.
والثاني: يصح به اعتبارا بحقيقة الحال، وهو أشبه عن المزني.
ثم قال: ولو باع المكاتب كتابة فاسدة أو المبيع بيعا فاسدا أو
وهب أو رهن وهو
__________
1 أخرجه ابن ماجة في السنن 2/ 730 في كتاب التجارات/ باب الأجر
على تعليم القرآن من حديث "2158" وقال البوصيري: في الزوائد
إسناده مضطرب قاله الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الرحمن بن
سلم وقال العلاء في المراسيل عطيه بن قيس الكلاعي عن أبي بن
كعب مرسل.
(1/165)
جاهل بالفساد فطريقان أحدهما: طرد القولين،
والثاني: القطع بالفساد بخلاف الوصية؛ فإنها تحتمل من الخطر ما
لا يحتمله البيع والرهن.
انتهى ملخصا، وخرج منه أو الوصية بالمكاتب كتابة صحيحة باطلة
على القولين والأمر كذلك على الجديد.
أما القديم الذي يجوز بيع الكتب؛ فإنه يجوز الوصية به وقد قدمه
الرافعي قبل هذا -كما قلنا- وقال: الجديد إنها باطلة كما لو
أوصى بعبد الغير في تسويته بين البيع والوصية نظر؛ إذ لا يلزم
من منع البيع منع الوصية. وفي تسويته -أيضا- بين الوصية
بالمكاتب والوصية بعبد الغير ولا ملك له عليه -منع الوصية
بالمكاتب وهو يملكه.
وقد تقدم -في باب الوصية في الركن الثالث في الموصي به- أنا
إذا منعنا بيع المكاتب فالوصية به كالوصية بمال الغير.
ونقله عن التتمة قال: وإذا أوصى بمال الغير فقال: أوصيت بهذا
العبد -وهو ملك لغيره- أو بهذا العبد -إن ملكه- فوجهان: الصحة؛
لأن الوصية به والشيء الواحد لا يجوز أن يكون محلا لتصرف
شخصين. قال النووي: قلت الأولى أفقه وأجرى على قواعد الباب؛
فتبين بهذا أن الوصية بمال الغير على ما ظهر من الكتابة ومن
الفوائد أن قضية كلام الرافعي في باب الكتابة الفرق بين الوصية
بعبد الغير فتبطل، وبين قوله: إن ملكت عبد فلان فقد أوصيته به
فإنه صحيح على الراجح، وفي باب الوصية -كما رأيت جعلهما على حد
واحد.
فصل:
فيمن أخطأ الطريق وأصاب المطروق، وبعبارة أخرى فيمن هجم فتبين
أنه فعل الصواب هل يكون خطؤه في الطريق؛ حيث هجم موجبا لتغيير
حكم المطروق؟ إذا كان من حقه أن يأتيه إلا من حيث أمر ولا يضر
ذلك فيه صور.
اشتبه ماء طاهر بنجس فالمذهب وجوب الاجتهاد؛ فلو هجم بلا
اجتهاد وتوضأ بأحدهما لم يصح وضوءه ولا صلاته؛ فإن بان أنه
توضأ بالطاهر قال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح لكونه متلاعبا،
وخالفه ابن الصباغ.
(1/166)
ومنها: صلى شاكا في دخول الوقت -بغير
اجتهاد- فوافقه لم يصح، وللغزالي في المسألتين كلام طويل ذكره
شبيب الرحبي.
قاعدة: قال الشافعي رضي الله عنه: "الظن ملغي إلا ما قام
الدليل على إعماله"، وقال مالك رضي الله عنه: "معمول به إلا ما
قام الدليل على إهماله".
كذا نقلت هذه القاعدة عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام
رحمه الله.
قال الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله- في كتاب "الطوالع
المشرقة"، ويثبت ذلك عندي - عنه؛ إلا أنه يمكن أخذه من اختلاف
الشافعي ومالك في المصالح المرسلة.
قلت: وكان الشيخ الإمام يرتضي هذه العبارة ويحرر عنها عبارة
أخرى؛ فيقول: "الأصل عدم العمل إلا ما قام الدليل على إعماله"
وقيل: الأصل العمل إلا ما قام الدليل على إلغائه.
وفي القاعدة مسائل:
منها: الصحيح -عندنا أنه لا يكفي ظن الطهارة عند اشتباه الإناء
الطاهر بالنجس؛ بل لا بد من اجتهاد وظهور علامة.
ومنها: أنه لا يقبل قول الصبي المميز -وإن أثار ظنا- إذ لا
انضباط لهذا الظن.
ومنها: في زيادة الروضة في الاستنجاء لو غلب على ظنه زوال
النجاسة، ثم شم من يده ريحا فالأصح لا يدل على بقاء النجاسة في
المحل كما هي في اليد.
ومنها: إذا جاء من يدعي اللقطة -ووصفها وظن الملتقط صدقه لم
يجب الدفع إليه على المذهب؛ بل يجوز، وقيل: يجب.
وأمثلته كثيرة، وحاصلة أن مجرد الظن إن لم يقصد بشاهد شرعي لا
يعتبر؛ لأن الأصل إلغاؤه، ومن تأمل الكتاب والسنة وجد فيهما
الكثير مما يدل على ذم العمل بمجرد الظنون.
خالفناه فيما تأكد بدليل، كوطء الرجل المرأة إذا زفت إليه
يظنها زوجته، والأكل من المنحور والمشعر في الفلاة ودخول
الأزقة والدروب المشتركة يظن رضاء أهلها، وما هذا شأنه يعتبر
الظن فيه لقيام الدليل عليه ومن ثم مسائل اختلف فيها:
منها: السقط إذا لم يتيقن حياته ولكن دلت عليها أمارة -من
اختلاج ونحوه-
(1/167)
صلى عليه في أصح القولين؛ لأن الاختلاج
أمارة الحياة فأشبه الصراخ.
والقول الآخر لا يصلي عليه لعدم التيقن، وعدم اعتضاد هذا بأصل.
قاعدة: ما ربط به الشارع حكما فعمد المكلف إلى استعجاله لينال
ذلك الحكم؛ فهل يفوت عليه معاملة له بنقيض مقصوده أو لا لوجود
الأمر الذي علق الشارع الحكم عليه؟
وهذه القاعدة هي التي يسميها من لا تحقيق عنده "المعاملة بنقيض
المقصود"، ويأخذ ذلك كلاما عاما.
وتحريره عندي أن يقال: إن كان الذي ربط الشارع به الحكم أمرا
يتطلب إيقاعه فإذا فعل نال الحكم المرتب عليه -كالثواب الذي
ربطه الشارع بالصلاة وغيرها من الأعمال حثا على تلك، وهذا لا
ينحصر، وضابطه: كل سبب شرع حثا على فعل المسبب- كمضاعفة الأجر
بالصلاة في مكة والمدينة والمسجد الأقصى وركعتي الفجر وغير
ذلك- فالمسبب نصب باعثا للمكلف على فعل السبب.
وينبغي أن ينظر هل من هذا القسم ما نصه الشارع مسببا ليبعث
ويحمل على فعل المسبب وما نصه إلا كذلك؟ فيكون هذا القسم على
قسمين.
أحدهما: ما كان مسببه منصوبا ليبعث على سببه، وهو أبلغ من
الثاني الذي هو غيره.
وإن لم يكن أمرا وطلب الشارع إيقاعه؛ فإما أن ينهي عنه أولا.
الأول: أن ينهى عنه فيعمد المكلف إلى ارتكابه لينال ما يترتب
عليه الموت سبب لميراث الوارث المال؛ فيعمد الوارث إلى قتل
مورثه لينال الميراث فهل حصل له ما يترتب على الموت؟ أو لم
يعمد هذا موضع النظر. وتحقيقه أن يقال إن لم يختل بانتفاء ذلك
الحكم المرتب عليه قاعدة من قواع الشرع فينتفي ولا يحصل. وهنا
يقال: عومل بخلاف مقصوده.
ومن ثم لا يرث القاتل؛ لأن انتفاء ميراث بعض الوارثين لا يهدم
قاعدة مهدها الشارع؛ إذ رب قريبين لا يتوارثان لاشتباه حالهما
بهدم أو غرق أو اختلاف دين أو غير ذلك. وإن اختلفت قاعدة فلا
ينتفي؛ بل يبقى على حاله مستندا إلى السبب الذي نصبه الشارع.
وفي هذا مسائل:
(1/168)
منها: إذا باع نصاب الزكاة قبل الحول،
فرارا من الزكاة فلا يجب، ولا يلزم وإيجاب الزكاة في مال لم
يحل عليه الحول، أو في مال حال عليه الحول لا في ملكه فتختل
قاعدة الزكاة.
ومنها: إذا طلق امرأته فرارا من ميراثها فيه فلا ترثه على
الصحيح الجديد وإلا يلزم توريث بلا سبب ولا نسب.
فإن قلت قلنا قول إنها ترث لم يجر نظيره في الزكاة.
قلت: فرق بعض أصحابنا بأن المستحق في الزكاة غير معين. بخلاف
الزوجة ونقض الفرق بأن مستحق الزكاة قد ينحصرون فيعينون. ورد
النقض بأن انحصارهم عارض، والأصل عدمه.
قال ابن الصباغ: فإن قلت: فهل يأثم في هذا القسم.
قلت: قالوا في الزكاة يكره ولا يحرم، وللغزالي احتمال في
تحريمه. ومنشأ ذلك أن الإقدام على الفعل -قبل انعقاده سبب لا
يحرم؛ لأن الحكم لمن يرتبط به بعد، وإلا فيحرم، وفي الزكاة لم
ينعقد السبب؛ لأنه المال مع الحول أو المال بشرط الحول؛ فلم
يوجد السبب بتمامه لأن فقد شرطه يوجب فقده، وفي طلاق الغائر
يحرم، لأن الزوجية هي السبب والموت شرط والمتوسط منهما فراره.
ومنها: إذا قتلت المستولدة سيدها فتعتق ولا تعامل بخلاف
مقصودها؛ فلا تختل قاعدة أم الولد -تعتق بالموت- ويمكن
الاستدلال على هذا بخصوصة قوله صلى الله عليه وسلم "اعتقها
ولدها" ويقال لم يعتقها السيد، بل الولد، فلم يكن القتل مانعا،
ولم يكن هذا من القسم الذي نحن فيه.
ومنها: إذا قتلت المدبرة سيدها ...
ومنها: إذا دخل المسجد في وقت الكراهة ليصلي التحية صحح
الرافعي كراهة صلاة التحية حينئذ، قالوا: كما لو أخر الفائتة
ليقضيها في هذه الأوقات.
ورجح الشيخ الإمام أن الصلاة لا تكره؛ إنما المكروه الدخول
والتأخير لهذا الغرض فإن دخل أو أخر فلا يحكم على الصلاة
-حينئذ- بالكراهة وما قاله هو الأرجح، وليس لما صحح الرافعي
والنووي وجه إلا أن يكونا عاملاه بنقيض مقصوده حيث ارتكب
المنهي ودخل ليصلي.
(1/169)
تنبيه: قال أبو جعفر الطحاوي الحنفي في
كتاب مشكل الآثار أن المكاتب إذا كانت له قدرة على الأداء
فتأخر ليتسع له النظر إلى سيدته بملكها إياه فحرام عليه؛ لأنه
منع واجبا عليه ليبقى له ما يحرم عليه إذا أداه. ونقله عن
الوالد رحمه الله في "شرح المنهاج"، عند الكلام في نظر العبد
إلى سيدته وقال: إنه تخريج حسن لا يبعد من جهة الفقه.
وبنى عليه الطحاوي أن الأمة المكاتبة إذا قدرت على الأداء؛
فعليها أن يصلي بقناع -وأن تعتد عدة الحرة ولا تسافر إلا مع
محرم، والعبد المكاتب لا زكاة عليه؛ فإذا أخر الأداء مع قدرته
عليه كان حراما عليه.
قال الوالد -رحمه الله- وبعض ما ذكر الطحاوي مردود وبعضه لا
بأس به فإن تعبير الأحكام من إيجاب القناع على الأمة واعتدادها
اعتداد الحرة يعتبر حكم الشرع.
وتحريم تأخير الأداء مع القدرة لا بأس به وإن كانت الكتابة
جائزة من جهته لكنه قادر.
وتحريم نظره والنظر إليه؛ إما لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه كما
يقول أصحابنا -المشرف على الزوال كالزائل، وإما عقوبة له، وإما
لأن في تمكينه من النظر إعانة له في تأخير الواجب فلا بأس
بذلك.
قلت: وأما معاملة له بنقيض قصده، ولأجل هذا ذكرناه في هذه
القاعدة المنقول من كلام الطحاوي هنا أنه يحرم عليه تأخير
الأداء لأجل تفاحل النظر إلى سيدته، وأنه يحرم عليه النظر
معاملة له بنقيض قصده.
وأما الصلاة بقناع والاعتداد عدة الحرة؛ فلا سبيل إليهما وهي
أمة، ولا وجه له ولو تم ذلك لكان يلزمه أن يقول: إن المكاتب
يعطي بمجرد القدرة على الأداء ثم يلزم بالأداء؛ لكنه لم يقل
بذلك.
واعلم أن أصحابنا مختلفون في أنه هل للمكاتب أن يفسخ عقد
الكتابة؟
فعلى القول بأن له الفسخ -وهو المرجح عندهم- قد يقال: إن فيه
ردا على من حرم تأخير الأداء، أو يمكن الجواب بأن تأخير الأداء
حرام؛ فإما أن يؤدي، وإما أن يعجز نفسه ويرتفع عقد الكتابة،
وقد ذكرت هذا في "التوشيح".
(1/170)
قاعدة: مترددة في غضون كلام أكثر الأصحاب
"إعمال الكلام أولى من إهماله"، واستشهد صاحب التتمة لها -في
كتاب البيع في مسألة وهبتك بألف يقول الشافعي رضي الله عنه
فيمن أوصى بطبل وله طبل حرب وطبل لهو: يحمل على طبل الحرب لتصح
الوصية، وتبعه صاحب البحر في هذا الاستشهاد. وذكر ابن الرفعة
في "المطلب في باب الوصية عند الكلام في الوصية للدابة أن
الإمام حكى في كتاب الطلاق فيما إذا تردد اللفظ على وجه يحتمل
الاستحالة، ويحتمل إمكانا أن من الأصحاب من لا يبعد الحمل على
الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغي
اللفظ، ومن هذا ما إذا قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق.
وأقول: محل القاعدة فيما إذا استوى الإعمال والإهمال بالنسبة
في الكلام أو تقاربا، كمسألة الطبل؛ فإن الطبول بالنسبة إلى
لفظ الطبل فيحمل على ما يصح سواء كان عنده النوعان من الطبول
أو لم يكن عنده؛ فإن لم يكن عنده إلا طبل اللهو فالوصية باطلة؛
لأن قرينة كونه عنده يرشد إلى أنه الموصي به، فاضمحل هنا
احتمال الإعمال.
ومن ثم نقول: أما إذا بعد عن اللفظ وصار بالنسبة إليه كاللغز
فما الإعمال راجحا وبين القرب والبعد الدرجات.
وبعد ما كتبت هذا وجدت نحوه في كلام الوالد رحمه الله في باب
الوصية كلام على الوصية للدابة؛ فإنه ذكر بعدما حكى ما حكاه
ابن الرفعة عن الإمام من الخلاف ما نصه: هذه القاعدة؛ حيث يكون
تردد اللفظ على السواء أو لا يكون على السواء؛ ولكنه راجع إلى
موضوع اللفظ مع احتمال قريب، أما إذا لم يكن للفظ إلا موضوع
واحد واحتمال لا يحتمله إلا مكلف فالمصير إليه بعيد، والوقوف
عند موضوع اللفظ واجب، وإن كان مستحيلا إذا لم يدل دليل على
ذلك للمحتمل البعيد. انتهى.
فلله الحمد على أن وقع ذهني وفهمي على ما وقع عليه ذلك الحبر،
وها أنا ذاكر مسائل: ما جزم فيها بالأعمال فلقربه، وما جزم به
فيه بالإهمال فلبعد الإعمال وما تردد فلتردد النظر.
ومنها: أوصى بعود من عيدانه وله عيدان لهو غير صالحة لمباح
وعيدان قسي وبناء؛ فالأصح بطلان الوصية تنزيلا على عيدان
اللهو؛ لأن اسم العود عند الإطلاق له واستعماله في غيره مرجوح
وليس كالطبل: لوقوعه على الجميع وقوعا واحد كذا فرق
(1/171)
الأصحاب، وعزوا المسألة إلى النص، والنص
شهد لما قدمته.
ومنها: قال: زوجتك فاطمة ولم يقل بنتي، لم يصح لكثرة الفواطم،
وفيه وجه.
ومنها: قال: طلقت زينب ولم يقل زوجتي طلقت على المذهب، ويحتاج
إلى الفرق بين النكاح والطلاق.
ومنها: إذا قال مشيرا لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق ثم قال:
أردت الأجنبية، ذهب الأكثرون إلى أنه يصدق وذهب بعضهم إلى أنه
لا يصدق ويقع على امرأته، وقاسه على مسألة الطبل.
ومنها: ظاهر القاعدة أن الوكيل في الشيء إذا تصرف فإن كان
الموكل فيه ما يصح فعله منه عن قبل نفسه وعن الوكالة ولم ينو
الموكل أنه يحمل على التصرف عن نفسه -وإن لم يعلم نيته- حملنا
الأمر على ذلك.
وإن كان لا يصح عن نفسه يحمل على أنه عن جهة الوكالة صونا
للتصرف عن الإلغاء وحملا على الظاهر؛ فإن الظاهر من حال العاقل
أنه إنما تصرف تصرفا صحيحا.
وهل يحتاج في نفاذ تصرفه إلى أن ينوي كونه من موكله أو إنما
يحتاج إلى عدم الصارف بمعنى أنه إن أطلق حمل على أنه عن
الوكالة، وإن نوى أنه غير الوكالة.
وحاصل هذا أنه هل يكون عن الوكالة إلا أن تصرف ذلك بنية أو لا
يكون منها إلا أن ثبوته فيه خلاف؟
أقول: هذا كله تفقها ويشهد له من المنقول -قول الأصحاب فيمن
اشترى شيئا ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها: أن الشراء يقع له لا
للموكل؛ فإن قلت: قال الغزالي: وكيل الزوجة بالخلع إذا خالع
ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها أنه يقع عن الوكالة.
قلت: اعترضه الرافعي وقال: القياس الظاهر أن من اشترى شيئا ولم
يتلفظ بالوكالة ولا نواها يقع الشراء له لا للموكل.
قال: وقد يفرق بين البابين بأن الأصل وقوع العقد لمن تحصل هل
فائدته ومنفعته والشراء تحصل فائدته لكل من يقع الشراء له
ومباشر العقد أولى لحصول منفعة العقد له من غيره وفي الاختلاع
تعود الفائدة والمنفعة إلى الزوجة وغيرها ببذل المال على سبيل
الفداء؛ فكان صرف العقد إليها إذا أمكن أولى من صرفه إلى
غيرها.
(1/172)
قلت: ثم المسألة يجب أن تقيد بما إذا كان
الوكيل يمكنه أن يختلع عن نفسه وهو مطلق التصرف.
أما السفيه إذا وكلته ليختلعها من زوجها؛ فخالع وأضاف إليها
وقد قدم الرافعي قبل هذا الفرع عن التتمة أن يصح؛ إذ لا ضرر في
ذلك عليه ولو فرض هنا أن الوكيل سفيه تعين أن يوقع تصرفه عنها
أو يلغو، إذ لا سبيل إلى جعله عنه.
ونظير المسألة: لو وكل أحد الشريكين في الرقيق صاحبه في عتق
نصيبه قال: أعتقت نصفك وأطلق فهل يتعين فيما هو مكله أو فيما
هو وكيل فيه؟ وفيه وجهان.
قال النووي: لعل أقواهما الأول؛ فهذا ما يدل من كلام الأصحاب،
على أن إسناد التصرف إلى نفسه -حيث يمكن- أولى، والتردد وقع
فيه بين إعمال كل من الأمرين، ولا إهمال في الطرفين.
أما إذا دار بين الإعمال والإهمال -وهو ما قلنا: إنه لا يمكن
وقوعه عن المباشر؛ وذلك كالطلاق يكون وكيلا فيه عن الزوج،
فيطلق ولا ينوي الطلاق وأنه عن الموكل؛ ففي الوقوع وجهان
حكاهما الرافعي في فصل الكناية من الطلاق "قبل الفصل الثاني في
الفعل والإشارة المفهمة، ثم أعاد حكايتهما في أثناء فروع
الطلاق، وقال: الأقرب أنه لا يحتاج.
قلت: وهو الأرجح، وهو إذا أطلق أما إذا نوى وقال: نويت الطلاق
عن نفسي فيكون لغوا، لا عن موكلي فيحتمل أن يقال: تسمع بينته
هذه ولا يقع الطلاق، ويدل له ما في الرافعي قبل باب الديات عن
فتاوى صاحب التهذيب أن الوكيل باستيفاء القصاص إذا قال: قبلته
بشهوة نفسي عن جهة الموكل يلزمه القصاص.
ويحتمل أن يقال: لا يسمع منه لمخالفته للظاهر، ولأن إعمال
الكلام أولى من إهماله، وليس كمسألة القصاص، فإن قول الإنسان
على نفسه مقبول وما فعله من القتل معتبر على كلا التقديرين؛
فإنه إن كان عن الوكالة كان استيفاء معتبرا؛ وإلا كان فعلا
موجبا للقود فلم يكن ملغي بخلاف الطلاق؛ فإنه إذا لم يكن عن
الوكالة كان لغوا بالكلية لا سيما على قول من لا يوقف العقود
وهو الصحيح.
ويحتمل أن يفصل -وهو الأقرب- فيقال: إن كانت قرينة على نية
الصرف تباعد
(1/173)
دعواه، كما لو أكره على طلاق من هو وكيل في
طلاقها فطلق، وقال: إنما نويت التصرف عن نفسي والخلاص عن غائلة
الإكراه فيسمع منه؛ وإلا فلا ويدل على ذلك احتمالان حكاهما
الرافعي، عن أبي العباس الروياني في الوكيل بالطلاق يكره عليه،
هل يقع لحصول اختيار المالك؟ أو لا يقع لأنه المباشر؟ قال أبو
العباس: هو أصح، قلت: وينبغي أن يكون محلهما عند الإطلاق.
إما إذا نوى التصرف عن نفسه فقد يقال بالجزم بعد الوقوع لما
ذكرناه لا سيما إذا فرعنا على أنه لا بد عند الإطلاق من نية
التصرف عن الوكيل. وأما إذا نوى التصرف عن الموكل فينبغي أن
يجري في الخلاف المذكور في المكره على الإطلاق إذا نواه هل
يقع؟ وهو الأصح؛ لأن النية دفعت الإكراه أولا، لأنه لا أثر
لها. مع لفظ صادر عن الإكراه.
ثم هذا كله إذا دار الأمر بين الإلغاء بالكلية والإعمال؛ فإن
دار بين الإعمال -بالكلية- والإلغاء لا مطلقا لكن بالنسبة إلى
البعض كأحد الشريكين في العبد المشترك يقول: أعتقت نصف هذا
العبد، وليس هو بوكيل لصاحبه.
فهذا تصرف دار بين أن يحمل على نصيبه فيعمل بتمامه أو على
الإشاعة فيبطل في حصة شريكه ويصح في حصته؛ فلا يعتق إلا ربع
الأصل. وفي المسألة وجهان: أصحهما الثاني لا إطلاق اللفظ وهو
المعزو في الروضة قبل باب المتعة إلى الأكثرين، وقد يستشهد له
بقول الإصحاب في باب المساقاة في حديقة بين اثنين مناصفة. ساقي
أحدهما صاحبه وشرط له ثلثي الثمان أنه يصح.
قالوا: وإن شرط له ثلثها، أو نصفها لم يصح؛ لأنه لم يثبت له
عوضا بالمساقاة؛ فإنه يستحق النصف بالملك.
فصل:
إذا عرفت أن الإعمال مقدم على الإهمال عند الإمكان لم يخف عليك
بعده أنه إذا تعذر إعمال لفظ دار الأمر فيه بين طرحه وإلغائه
وبين حمله على معنى صحيح أن حمله على الصحيح أولى.
وهذه قاعدة مستقلة تلقب بأنه: "هل الاعتبار بألفاظ العقود أو
بمعانيها؟ ".
(1/174)
وهذه القاعدة متعددة الفروع غير منصوصة
لصاحب المذهب، رضي الله عنه -لا يعرف فيها نص صريح، ولكن دل
نصه في باب الخيار في السلف في مسألة اشتريت منك ثوبا صفته كذا
بهذه الدراهم على اعتبار المعنى وكذلك قال في أول باب الشفعة
من "الأم" إذا كانت الهبة على ثوب معلوم وهو بالمبيع أشبه؛ لأن
البيع لم يعطه إلا بالعوض، وهكذا هذا لم يعطه إلا بالعوض.
وأنا منبهك في هذه القاعدة على أمور.
أحدها: أنها مخصوصة بالعقود فيما يظهر من كلام كثير من الأصحاب
منهم الإمام الغزالي، وصاحبا التتمة والبحر والرافعي.
وكلام من أطلق -أنه هل العبرة باللفظ أو بالمعنى- محمول على من
قيد بالعقود، وسيظهر لك عند عد الفروع كيف خرج قوم على هذا
الضابط وليس لهم هذا؛ فإن المذهب نقل ولم ينقل الخلاف إلا في
العقود.
الأمر الثاني: أن محلها ما إذا تعذر العمل باللفظ، أما إذا لم
يتعذر فلا شك في اعتباره، ومن ثم أقول قد يقال: إنها ليست فرعا
للقاعدة السابقة في أن الإعمال أولى ن الإهمال؛ لأن تلك في
إعمال لفظ أمكن حمله على أحد محامله وإن بعدت، وهذه في الخروج
عن اللفظ بالكلية إلى معنى آخر والأقرب أنها هي؛ فإن المعنى
الذي يحمل عليه فلا بد أن يكون بينه وبينه علاقة وإلا فيكف
يحمل على ناء عنه بالكلية:
وقد قدمنا أن مثل هذا يصير بالنسبة إلى اللفظ -بالكلية-
كاللغز؛ فلا يعتبر وقد قدمنا كلام الشيخ الإمام الوالد رحمه
الله في ذلك.
الأمر الثالث: لم أر من بسط القول في مفتاح هذه القاعدة أكثر
من صاحب التتمة وتبعه صاحب البحر، وهو كثير الاتباع له فيما لا
نجده في الحاوي.
وملخص ما ذكرناه في مسألة "وهبت منك بألف" خلاف في أن الاعتبار
بظواهر اللفظ أو بمعانيها.
وأراد بالظواهر الألفاظ، واستدل باعتبار اللفظ بأنه الموضوع
لإعادة المعنى الذي يفهم منه عند الإطلاق، ولهذا إذا أراد
الطلاق بالظهار وعكسه لا تعتبر إرادته ويحمل اللفظ على بابه،
قالا: واعتبار المعنى عدول عن مقصود اللفظ، ولفظ اللغة لا يعدل
به
(1/175)
عن موضوعه؛ فكذلك لفظ العقود، قالا:
والعقود تفسد بشرط مفسد فما ظنك بتغيير مقتضاها.
واحتجا لاعتبار المعنى، بما روي عن أبي الدرداء أنه قال في
الهبة شرط العوض هو دين على صاحبه في محياه ومماته، وبأن ظاهر
الأمر الوجوب، ثم إذا تعذر حمله على الاستحباب ونحوه فكذلك
ظاهر الكلام إذا تعذر حمله على الصحيح حمل على المعنى تصحيحا
له. واطالا في ذلك ومنازعتهما ممكنة في كثير مما ذكرناه؛ غير
أنا لسنا لها الآن.
الأمر الرابع:
في أنه هل الأرجح اعتبار اللفظ أو المعنى أو لا يطلق ترجيح.
ولقد اضطربت الفروع في ذلك، وحاول الرافعي في باب الإجارة
ضبطها -بعد اعترافه بتنوعها- بطرق تقارب الطريق التي ذكرتها في
باب الإعمال والإهمال؛ فقال فإن اختل اللفظ أهمل، وذلك كالشراء
بلفظ السلم؛ فإن تمام معنى السلم لا يوجد في الشراء لأنه أخص
منه، ولا يؤخذ الأخص في الأعم، وكذلك أن يرفع آخر اللفظ أوله
مثل بعتك بلا ثمن وإن انتظم مثل: أن يكون المعنى الأصلي مشتركا
بين خاصين يشتهر في أحدهما مع كونه مستعملا في الآخر كالسلم
بلفظ الشراء؛ فإن المعنى الأصلي للشراء موجود بتمامه في السلم
إلا أنه اشتهر في شراء الأعيان؛ فهنا يعتبر المعنى.
وقريب من كلام الرافعي قول ابن الرفعة بعدما ذكر اختلاف الصحيح
في مسائل القاعدة، أن ينظر إلى اللفظ عند بعد المعنى، وإلى
المعنى عند قربه.
ولعل هذا الكلام أقرب من كلام الرافعي؛ فإن الطريق التي حاولها
بعيد أن تستقيم في كل الفروع.
أما قوله: في بعتك بلا ثمن رفعا لأول اللفظ مناقشة يمكن أن
يقال إن هذا غير منتظم بالكلية، لأن بعتك بمجرده لا يقتضي شيئا
حتى يذكر الثمن، فإذا نفاه لم يرد النفي على شيء ولولا وروده
لثبت. فلا يكون كتعقيب الإقرار بما يرفعه.
الأمر الخامس: في تعديد فروعها.
فمنها: المسألة التي جعلها صاحب التتمة والبحر أم الباب: إذا
وهب بشرط
(1/176)
الثواب فهل يبطل لتناقضه؟ أو يصح ويكون هبة
اعتبارا باللفظ؟ أو بيعا اعتبارا بالمعنى؟ الأصح الثالث.
وعبر صاحب التتمة والبحر عن المسألة بأن يقول: وهبتك بألف أو
هذا لك بألف.
فإما وهبتك بألف فظاهر وأما هذا لك بألف؛ فلم أجده في غير
كلامهما والذي يظهر أن هذا لا تعارض فيه بين اللفظ والمعنى؛
فإن لفظ هذا لك صالح لأن يكون بطريق البيع كصلاحيته لأن يكون
بالهبة وقوله بعده: "بألف" صريح في معنى البيع.
فالذي يظهر القطع بأن هذا بيعن غير أن لفظه هذا يحتمل أن يكون
كناية في البيع؛ فلا يطرق هذا خلاف في كونه بيعا إلا من قبل
الخلاف في انعقاده بالكنايات.
ومنها بعتك بلا ثمن أو لا ثمن لي عليك؛ فقال: اشتريت وقبضه
فليس بيعا، وفي انعقاده هبة قولا تعارض اللفظ والمعنى، وفي
كونه مضمونا على القابض وجهان ذكره الرافعي في باب السلم وحذف
الوالد رحمه الله في "شرح المنهاج" صورة ولا ثمن لي عليك.
قلت: ويظهر أن التهافت في بلا ثمن أقوى منه في ولا ثمن لي
عليك؛ فإن جعل في الأولى عدم الثمن عوضا، وعدم الثمن لا يكون
عوضا؛ بخلاف ولا ثمن لي عليك، فإن غايته نفي الثمن لا جعل
النفي عوضا.
ولو قال قائل: هذا الجار والمجرور وحده تهافت، لا قضية أن عدم
الثمن ثمن، لم يبعد.
واقتصر الإمام في "النهاية" قبيل كتاب السلم على تصوير المسألة
بأن يقول: على أن لا ثمن لي عليك.
وهذه صيغة ثالثة يظهر أنها بين الصيغتين؛ فهي فوق قوله: ولا
ثمن لي عليك، للتصريح باشتراط نفي الثمن ودون بلا ثمن، لما في
تلك من جعل عدم الثمن ثمنا.
ولك هنا أن تبحث عن أن المفسد في قولنا: بلا ثمن هل هو نفي
الثمن أو عدم ذكره؟
وبأرشق من هذه العبارة هل عدم ذكر الثمن أو ذكر عدم الثمن بحثا
ينبني عليه الفروع عقيبه؟
(1/177)
ومنها: إذ قال: بعتك ولم يتعرض للثمن بنفي
ولا إثبات؛ فيظهر.
إن قلنا: المفسدة -في الفروع قبله- عدم الثمن [لأن] الفساد فيه
وفي هذا سواء.
وإن قلنا: المفسد جعل العدم ثمنا؛ ففساد هذا دون فساد ذاك، مع
اشتراك الكل في الفساد.
فإن قلت: لا ضرورة لي -مع اشتراكهما في الفساد- إلى هذا
التدقيق لانتفاء الجدوى فيه.
قلت: له فائدة؛ فإنا إن قلنا: هما في الفساد سواء؛ فيظهر أن
يتخرج في كونه هبة الخلاف الأول بعينه، وبذلك صرح صاحب التتمة
فقال: إذا بعتك -ولم يذكر ثمنا- فإن راعينا المعنى انعقد هبة،
وإن راعينا اللفظ فهو بيع فاسد، ويظهر أن يجري الخلاف فيه في
الضمان كما يجري في الأول، وإن قلنا: الأول أفسد ونعني بكونه
أفسد أن انتفاء صفة البيع عنه أوضح، وثبوت الهبة أولى.
وهذه طريقة الإمام في "النهاية"، وتبعه الرافعي فقال: بعدما
حكى في بعتك بلا ثمن هل يكون هبة؟ قولين، وهل يكون مضمونا؟
وجهين:
ما نصه: ولو قال بعت هذا -ولم يتعرض للثمن أصلا- لم يكن ذلك
تمليكا، والمقبوض مضمون، ومنهم من طرد فيه الوجهين. انتهى.
وصرح الإمام -في النهاية- بالاتفاق على أن لا يكون تمليكا. إذا
عرفت هذا فلا خلاف عندهما في أن عدم التعرض للثمن لا يقتضي
تمليكا كما لا يقتضي بيعا؛ بخلاف نفيه.
وبهذا يعلم أن قول النووي في "الروضة" في بعتك -مجردا- ليس
تمليكا على المذهب -مستدرك- فإنه إن أشار بقوله: إلى خلاف فليس
الخلاف في الرافعي، ولا تقتضيه طريقته؛ لأنها تقتضي التفرقة
بين بعتك -المطلق- وبعتك المقيد بنفي الثمن.
وأما صاحب التتمة فحكى الخلاف لما اقتضته طريقته من استواء
الصورتين. والفرق يؤخذ مما ذكره الإمام من أنه إذا نفي الثمن
فقد رضي بحظه، وهذه قرينة الهبة، ومن ثم جرى الوجهان في أنه هل
يكون مضمونا على قابضه.
فمن قائل بالضمان، لأنه في حكم بيع فاسد، ومن قائل بعدمه ووجهه
الإمام بأن
(1/178)
البائع رضي بحظه وبنى الأمر عليه؛ فصار
القبض قبض وديعة ولم يجزما على الصحيح عند الإمام والرافعي
وغيرهما فيما إذا سكت عن الثمن بل كان الصحيح أنه كان مضمونا.
وقد بان لك بهذا فائدة التردد في أن الفساد هل هو مستمد من عدم
الثمن أو من ذكر عدم الثمن لبناء الضمان عليه.
ويمكن أن يقال: بعتك بلا ثمن لا انعقاد له في البياعات أصلا؛
وإنما هو متردد بين الهبة واللغو. ومن ثم لا يضمن على قابضه،
وإلى ذلك الإشارة بقول الإمام؛ لأنه في حكم بيع فاسد ولم يقل
أنه بيع فاسد.
وأما بعتك إذا تجرد عن الثمن فينعقد بيعا فاسدا ومن ثم يكون
مضمونا. وبهذا يظهر لك أن جانب الهبة في بعتك بلا ثمن أرجح منه
في بعتك المجرد عن ذكر الثمن؛ لأن قوله بلا ثمن قرينة أنه يجوز
بلفظه بعتك عن ملكتك، خلاف بعتك مجردا؛ فإنه لا قرينة [تصحبه]
1.
نعم: قد يقال بعتك بلا ثمن حاصله الهبة بشرط الثواب؛ فيتخرج
فساده وإن كان هبة أيضا -على طريقة من يقول إن الهبة إذا بقي
فيها الثواب تفسد بناء على أن مطلقها [يقتضيه] 2 وإن شرط
انتفائه شرط ينافي مقتضى العقد، لكن المذهب خلافه.
وهنا بحث لم يبرح يختلج في ذهني، وهو أن المقتضي للملك في
وقولنا بعتك بدرهم صيغة الإيجاب مع ذكر الثمن فيكونان [جزء
علة] 3.
وهذا يرشد إليه عد الأصحاب الثمن ركنا أو صيغة الإيجاب وحدها
-والثمن شرط- وهذا أقرب عندي.
ويتخرج على هذا السكوت عن ذكر الثمن يكون على الأول مقتضيا
للإبطال وأن الكلام لغو، وعلى الثاني يكون فاقد شرط؛ فيمكن أن
يقال: إنه بيع فاسد ويفرق هنا بين الفاسد والباطل كما يفرق بين
الخلع والكتابة ونحوهما.
وقد يتخرج عليه أيضا -على الأول- أن بلا ثمن رافع؛ لأن المقتضى
بعتك- بمجردها- لا الثمن؛ إذ الثمن شرط لا شطر، فيجيء ما قاله
الرافعي، وإن قلنا: إنه ركن
__________
1 في "ب" لصحته.
2 في "ب" تقتضيه.
3 في "ب" جرى عليه.
(1/179)
فليس برافع، إذ لم يوجد شيء حتى يرتفع بنفي
الثمن.
وقد بتخرج عليه أيضا فرع لم أجده منقولا، وهو ما إذا قال
المشتري: قلبت عقب قول البائع: بعتك مع قوله بدرهم.
فإن قلنا: الثمن ركن فلا يصح؛ لأن الشرط في القبول أن يكون عقب
الإيجاب ولا يتم الإيجاب إلا بذكر الثمن.
وإن قلنا: شرط، فيحتمل أن يقال: بالصحة؛ لأن القبول وجد بعد
تمام الإيجاب، ولا يضر مقارنة القبول للشرط.
وقد يتخرج عليه أيضا الفرع المنقول عن صاحب الذخائر فيما إذا
تلفظا بالثمن ولكن نويا أن يحتمل.
قلت:
ومنها: مسألة الاستيجاب إذا قال: بعني؛ فقال بعتك؛ فالصحيح
الصحة؛ لأن الطلب والاستدعاء مثل صريح اللفظ والبطلان يخرج من
اعتبار اللفظ دون المعنى، كذا قال صاحب التتمة، قال: فإن اللفظ
الموضوع للعقد لم يوجد، قلت: وفيه نظر.
ومنها: إذا قال: بعتك إن شئت صح نظرا إلى المعنى؛ فإنه لو لم
يشأ لم يشتر، وقيل: يبطل، للفظ التعليق.
ومنها: قال القاضي أبو سعد الهروي في "الإشراف"، لو قال بعتك
هذه الدار على أن لك نصفها صح كما لو قال: إلا نصفها، لأن
التخصيص كالاستثناء. نقول: جاءني القوم وما جاءني زيد كما
تقول: إلا زيدا.
وقال محمد بن الحسن1: لا يصح لأنه قابل الدار بجميع الثمن على
أن له نصفها، ففيه تناقض.
قال القاضي أبو سعد: هذا محتمل.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لبني شيبان مات
بالري سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة حضر
مجلس أبي حنيفة سنتين ثم تفقه على أبي يوسف وصنف الكتب الكثيرة
ونشر علم أبي حنيفة قال الشافعي رحمه الله حملت من علم محمد
وقر بعير، وقال أيضا ما رأيت أحدا يسأل مسألة فيها نظر إلا
وتبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن الشيرازي ص135،
الجواهر المضيئة 2/ 42، ابن خلكان 3/ 324، العبر 1/ 302.
(1/180)
قلت: كان الأول ينظر إلى المعنى؛ فإنه نزل
صيغة الشرط -وهي قوله على أن لك نصفها- بمنزلة الاستثناء
لاشتراكهما في أن كلا منهما تخصيص. والثاني ينظر إلى اللفظ.
واعلم أني وجدت في غير نسخة -كما رأيت على أن لك نصفها، ولك أن
تقول قوله: على أن لك نصفها لا يقتضي تخصيصا؛ وإنما هو ذكر
لبعض أفراد الجملة، فهو كذكر بعض أفراد العام وذلك لأنه إذا
كانت للمشتري كلها فقد كان له نصفها، فلا يقتضي هذا تبقية
النصف للبائع إلا على القول بمفهوم اللقب والاعتبار به؛ ألا
ترى أنهم قالوا في باب العتق إذا قال لعبديه: إذا جاء الغد
وأحدكما في ملكي فهو حر فجاء الغد وهما في ملكه عتق أحدهما.
مع أن مفهوم أحدكما أن يكون هو بمفرده ولم ينظر إليه وهذا أوضح
من أن يسشهد عليه.
وقوله: "إنه بمنزلة الاستثناء" يقتضي أنه يبقى للبائع التصرف
فلعل الصيغة على أن لي نصفها.
وكذلك نقله الوالد في أوائل البيع من "شرح المنهاج" عن القاضي
أبي سعد مع أن إحدى النسخ التي وقفت عليها من الإشراف هي نسخة
والدي ولم أقل فيها إلا ما نقلت، ولعل الشيخ الإمام حرر النقل
عنه فليكن الأمر على ما نقله، هو ويحمل أمر ما وقفت عليه من
النسخ على غلط الناسخ.
وبالجملة: يشهد للصحة مسألة بعتك عشرة آصع كل صاع بدرهم على أن
أزيدك صاعا أو على أن أنقصك صاعا.
ومنها: لو قال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد فليس يسلم
قطعا، ولا ينعقد بيعا على أصح القولين عند المشايخ الثلاثة،
لاختلاف اللفظ.
والثاني ينعقد بيعا نظرا إلى المعنى.
ومنها: اشتريت منك ثوبا صفته كذا وكذا بهذه الدراهم فقال: بعتك
ففيه وجهان: اختلف المشايخ الثلاثة في أرجحهما. فزعم الشيخان
-الرافعي والنووي- أنه ينعقد
(1/181)
بيعا اعتبارا باللفظ، وزعم الشيخ الإمام
أنه ينعقد سلما نظرا إلى المعنى، واللفظ لا يعارضه؛ لأن كل سلم
بيع.
ومنها: إذا قال لمن عليه الدين: وهبته منك؛ ففي اشتراط القبول
وجهان:
أحدهما: أنه يشترط اعتبارا بلفظ الهبة.
والثاني: عدم اشتراطه؛ فإن معناه الإبراء.
وصححه الرافعي في كتاب الصداق، وذكر الخلاف في باب الهبة- من
غير ترجيح وبناه على اللفظ والمعنى.
ونظير المسألة الصلح من ألف في الذمة على خمسمائة في الذمة
أيضا؛ فالأصح الصحة، ثم قال الرافعي: الأظهر اشتراط القبول وقد
يقال: إنه مخالف لما صحح في نظيره من الهبة.
وذهب الشيخ الإمام -رحمه الله- بعد ما حكى ما ذكرته من كلام
الرافعي إلى أنا إن اعتبرنا اللفظ اشترط القبول في الصلح
والهبة، وإن اعتبرنا المعنى اشترط في الهبة دون الصلح.
ومنها: قال أبو سعد الهروي: أعتقه عني بألف، بيع في وجه، وعتق
بعوض في وجه.
فائدته: أنت حر غدا على ألف.
إن قلنا: بيع، فسد، ويجب قيمة العبد.
وإن قلنا: عتق بعوض، صح، ويجب المسمى.
قلت: وهذه مسألة غريبة، وقد تبعه في ذكرها -على هذا الوجه-
القاضي شريح الروياني في أدب القضاء.
ومنها: أوصى لأجنبي بزائد على الثلث، وأجاز الوارث وقلنا
الإجازة ابتداء عطية فلم تتقيد الإجازة بلفظ الإجازة؟ فيه
وجهان، ووجه المنع أن الإجازة تشير إلى أمر سابق.
وما سبق باطل، قال الغزالي: وهذا التقدير ينبني على أن النظر
إلى الألفاظ أو إلى المقاصد؟
(1/182)
ومنها: إذ قال خالعتك ولم يذكر عوضا.
خرجها القاضي أبو سعد على القاعدة، وحكى فيها قولين أحدهما: لا
شيء.
والثاني: أنه خلع فاسد، ويجب المهر.
قال: وفيه وجه، أنه طلاق رجعي.
قلت: الصحيح أن صراحة الخلع تعتمد ذكر المال؛ فإن لم يذكره فهو
كناية ووقع في كلام المنهاج النووي ما يوهم تصحيح أنه يجب مهر
المثل، وهو مؤول كما ثبت في التوشيح، والقول بأنه رجعي غريب.
قال القاضي أبو سعد: وكذا لو قال خذها مضاربة؛ ففي قول إبضاع
فلا يجب أجر مثل، وفي قول: مضاربة فاسدة فيستحقه.
ومنها: الرجعة بلفظ النكاح، فيه خلاف خرجه القاضي أبو سعد، على
القاعدة.
ومنها: الأصح أن بيع البائع المبيع قبل قبضه كبيعه لغيره؛
فيكون باطلا ويحل الوجهين فيما إذا باعه بغير جنس الثمن أو
بزيادة أو نقص أو تفاوت صفة؛ وإلا فهو إقالة بلفظ البيع.
قال صاحب التتمة: وخرجه الشيخ الإمام -رحمه الله- على أن النظر
لصيغ العقود أو لمعانيها، قال: ثم رأيت التخريج للقاضي الحسين
قال: إن اعتبرنا اللفظ؛ فعلى الوجهين وإن اعتبرنا المعنى
فإقالة.
ومنها: إذا قال: استأجرتك لتعهد نخيلي بكذا من ثمرتها.
فوجهان: أحدهما: أنه يصح مساقاة نظرا إلى المعنى، وأصحهما:
إجارة فاسدة نظرا إلى اللفظ وعد وجود شرط الإجارة؛ لأن الثمرة،
المعدومة لا تصلح أن تكون كذا بدراهم معلومة فوجهان.
أحدهما: يصح إجارة نظر إلى المعنى.
وأصحهما: أنها مساقاة فاسدة نظرا إلى اللفظ وعدم وجود شرط
المساقاة؛ إذ من شرطها أن لا تكون بدراهم.
(1/183)
ومنها: قدمنا أنه إذا وهب بشرط ثواب معلوم
كان بيعا على الصحيح اعتبارا بالمعنى، ثم وفي الشيخ الإمام
بتمام التشبيه فصحح أنه يثبت فيه الخياران: المجلس والشرط،
وأنه يجوز للولي أن يهب مال الصبي بشرط معلوم، وقال: إن ذلك هو
الذي تقتضيه قواعد المذهب.
وقال الرافعي والنووي: لا يثبت الخيار؛ لأنه لا يسمى بيعا، ولا
يهب الولي مال الصبي بشرطه؛ لأن الهبة لا يقصدها بها العوض.
كذا ذكره في البيع والحجر. وفي كتاب الهبة فإن ثبت الخيار؛
فليكن المعتمد ما ذكره في باب الهبة من ثبوت الخيار وفاء بتمام
التشبيه، واعتماد على ما ارتضاه الوالد رحمه الله؛ فإن الراجح
عنده ثبوت الخيارين، وصحة هبة الولي مال الصبي بشرط الثواب.
غير أن سؤالا، وهو أنه في باب الشفعة فيما إذا وهب مطلقا،
وقلنا: المطلقة تقتضي الثواب.
ذكر أن الرافعي صحح ثبوته الشفعة، وأنه صحح أن له يأخذ قبل
القبض أيضا؛ لأنه صار بيعا، وتبعه النووي.
وهذا منهما اعتبارا للمعنى، عكس ما فعلاه، في إثبات الخيار في
الهبة بشرط الثواب؛ فإنهما اعتبر اللفظ.
ثم قال الوالد: في باب الشفعة في هاتين المسألتين "إن في تصحيح
الرافعي نظرا، وإن الأولى النظر إلى جانب اللفظ هنا عكس ما
فعله في مسألة الخيار.
وليس لك أن تقول: الشفعة على خلاف القواعد؛ فاقتصرنا على مورد
النص وهو فيما كان بيعا أو نحوه في اللفظ والمعنى لأنا نقول
أيضا: إثبات الخيار على خلاف القواعد، وقد أثبتناه في الهبة
ذات الثواب اعتبارا بالمعنى؛ فإما أن يعتبر المعنى في الوضعين
أو يترك فيهما وأما التفرقة فلا تبين.
وجواب هذا السؤال: أن الوالد إنما يعتبر المعنى. إذا اقترن
بلفظ الهبة شرط الثواب فإن ذكره يشبه ذكر السبب؛ فتعين كون لفظ
الهبة باب مناب لفظ البيع، ولا كذلك إذا
(1/184)
لم يصرح به، [ولذلك] 1 وافق في الهبة
المصرح فيها باشتراط الثواب على ثبوت الشفعة فيها؛ وإنما منع
الشفعة في المطلقة.
وإن قلنا [بمقتضى] 2 الثواب فليست المطلقة، وإن قلنا يقتضي
الثواب بمنزلة المذكور فيها الشرط فإنه قرينة العوضية.
قاعدة: الفرض أفضل من النفل3.
قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تعالى: "وما تقرب
إلي عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضته عليه ... " الحديث4.
قال الشافعي رضي الله عنه: إن الله لما خص به رسول الله صلى
الله عليه وسلم من وحيه وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من
طاعته، افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله
قربة إليه.
وبين الشافعي: قدس الله روحه -حكمة الافتراض الدالة على أنه
أعلى درجة. من سائر المطلوبات. قال الإمام في أوائل النكاح،
قال الأئمة خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاب أشياء
لتعظيم ثوابه، فإن ثواب الفرائض تزيد على ثواب المندوبات.
قال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله لا يتقرب المتقربون إلي
بمثل أداء فرائضهم". وقال صلى الله عليه وسلم: يقول الله
تعالى: "عبدي إد ما افترضت عليك تكن أعبد الناس وانته عما
نهيتك تكن أورع الناس وارض بما قسمت لك تكن أغنى الناس وتوكل
علي تكن أكفأ الناس".
وقال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النفل بسبعين
درجة وتمسكوا بما رواه سلمان الفارسي، إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال في شهر رمضان، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير
كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى
__________
1 وفي "ب" ولكذلك.
2 في "ب" تقتضي.
3 الأشباه للسيوطي ص145.
وقالوا:
الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر
إلا التطهر قبل وقت وابتدا ... للسلام كذاك إبراء معسر
4 البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه 11/ 340 في كتاب
الرقاق/ باب التواضع "6502".
(1/185)
سبعين فريضة فيما سواه1؛ فقابل النفل فيه
بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فرضا في غيره فأشعر
هذا بأن الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة من طريق الفحوى.
انتهى كلام الإمام في النهاية.
فإما حديث "لا يتقرب المتقربون ... "؛ ففي صحيح البخاري، وأما
حديث عبدي أد ما افترضته عليك. [فعلى] 2 حفظي أن شيئا منه في
سنن ابن ماجة، وأما حديث سلمان فرواه ابن خزيمة في صحيحه
والبيهقي في شعب الإيمان، وقوله: فأشعر بأن الفرض يزيد بسبعين
لعل مراده بالسبعين في الحديث العدد الكبير، وذكر لفظ السبعين
مبالغة لا للتقييد بالعدد [الخاص] 3، ومن ثم قال الإمام: يزيد
بالسبعين ولولا ذلك لقال تسع وستين وقوله: "أشعر من جهة
الفحوى" لم يتبين لي وجه هذا الإشعار.
فصل:
إذا عرفت أن الفرض أفضل من النفل. وأحب إلى الله منه وأكثر
أجرا؛ فاعلم أن هذا أصل مطرد، إذ لا سبيل إلى نقضه بشيء من
الصور لأننا إذا حكمنا على ماهية بأنها خير من ماهية أخرى
-كقولنا: الرجل خير من المرأة وليس الذكر كالأنثى- لم يمكن أن
تفضلها الأخرى بشيء من تلك الحيثية؛ لأنها لو فضلتها من تلك
الحيثية لكان ذلك خلطا؛ فإن الرجل إذا فضل المرأة -من حيث إنه
رجل لم يمكن أن تفضله المرأة من حيث أنها غير رجل، وإلا
لتكاذبت القضيتان وهذا بديهي، نعم قد تفضل امرأة ما رجلا ما من
جهة غير الذكورة والأنوثة، والقصد بهذا [التقرير] 4 أنه شاع
أنه يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة فروع:
أحدها: إبراء المعسر؛ فإنه أفضل من إنظاره، إنظاره واجب،
وإبراؤه مستحب.
والثاني: الابتداء بالسلام فإنه سنة والرد واجب، والابتداء
أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
1 أخرجه ابن خزيمة وقال وإن صح الخبر.
أخرجه البيهقي في الشعب، 3/ 305 في كتاب فضائل شهر رمضان حديث
"3608".
وقال الحافظ ابن حجر مداره على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
2 في "ب" ففي.
3 في "أ" الحامل والمثبت من "ب".
4 في "ب" التقدير.
(1/186)
"وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام1.
وحكى القاضي حسين في "التعليقة" وجهين في أن الابتداء أفضل أو
الجواب، كذا نقل الشيخ برهان الدين في باب صفة الصلاة.
والثالث: قال ابن عبد السلام: صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى
الخمس الواجب فعلها على من ترك واحدة منها ونسي عينها.
فأما الأول: فكنت أسمع الشيخ الإمام -رحمه الله- يقول: في
الانفصال عنه الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على
الأعم لكونه تأخيرا للمطالبة فلم يفضل ندب واجبا؛ وإنما فضل
واجب -وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء. وزيادة وهو خصوص
الإبراء- واجبا آخر. وهو مجرد الإنظار.
وقد يقال: الإنظار هو تأخير الطلب مع بقاء العلقة والإبراء
زوال العلقة وهما قسمان لا يشمل أحدهما الآخر؛ فينبغي أن يقال
في التقرير: إن الإبراء محصل لمقصود الإنظار وزيادة.
وهذا كله بتقدير تسليم أن الإبراء أفضل، وغاية ما استدل عليه.
بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا يحتمل
أن يكون افتتاح كلام فلا يكون دليلا على أن الإبراء أفضل.
ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل، لشدة ما يناله المنظر من
ألم الصبر مع شوق القلب، وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع
فيه اليأس؛ فحصلت فيه واحدة من الحيثية ليست في الإنظار، ومن
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسرا كان له
بكل
__________
1 متفق عليه من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أخرجه
البخاري 10/ 492 في كتاب الأدب باب الهجرة حديث "6077" ومسلم
4/ 1984 في كتاب البر/ باب تحريم الهجر حديث 25/ 2560.
وحديث أبي أمامة أيضا مشيرا إلى هذا، قال صلى الله عليه وسلم:
"إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام". أخرجه أحمد في المسند
5/ 254 ضمن مسند أبي أمامة رضي الله عنه وأبو داود في السنن 4/
451 في الأدب/ باب فضل من بدأ السلام "5197" والترمذي 5/ 56 في
كتاب الاستئذان باب فضل الذي يبدأ بالسلام "2694"، وقال هنا
حديث، قال محمد أبو فروة الرهاوي مقارب الحديث إلا أن ابنه
محمد بن يزيد يروي عنه مناكير.
(1/187)
يوم صدقة"؛ فانظر كيف وزع أجره على الأيام
تكثر بكثرتها، وتقل بقلتها -ولعل سره ما أبديناه، فالمنظر كل
يوم ينال عوضا جديدا، ولا يخفى أن هذا لا يقع بالإبراء؛ فإن
أجره- وإن كان أوفر- يستعقبه وينتهي بنهاية. ولست أستطيع أن
أقول: الإنظار أفضل على الإطلاق؛ وإنما قلت ما قلت على حد سبق
درهم دينارا أو سبق درهم مائة ألف كما سأبحث عنه إن شاء الله
تعالى فينظر إلى ما حررته من البحث فإنه محتاج إلى مزيد تحرير.
وأما الابتداء السلام؛ فليس في الحديث أن الابتداء خير من
الجواب، بل إن المبتديء خير من المجيب، وهذا لأن المبتديء فعل
حسنة وتسبب إلى فعل حسنة وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من
حسن طوبة المتبدئ وترك ما يكرهه الشارع من الهجر والجفاء؛ فإن
الحديث ورد في المسلمين يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا فكان
المبتديء خيرا من حيث إنه مبتديء ترك ما كرهه الشارع من
التقاطع لا من حيث إنه مسلم. واعلم أن للقرافي في كتاب الفروق
كلاما على هذه القاعدة يقبل المؤاخذة.
فمنه: أنه اعترض على تقدم الواجب على المندوب بجمع [المطر] 1.
قال فإنه يلزم منه تقديم المندوب فإن المندوب الجماعة فسقط من
أجلها الوقت الواجب رعاية لتحصلها وكذلك الجمع بعرفة ثم قال
المندوب قسمان ما قصرت مصلحته عن الواجب وهو الغالب وما كانت
مصلحته أعظم كالتصدق بدينار أعظم أجرا من التصدق بدرهم، وقد
يستوي مصلحتهما فيكون الواجب أكثر ثوابا كالفاتحة في الصلاة
وخارجها، ودينار الزكاة أعظم من دينار الصدقة، ثم قال:
والمندوبات التي قدمها الشارع على الواجبات فسبع صور إبراء
المعسر على إنظاره، وصلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ2 وصلاة
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة فيما
سواه إلا المسجد الحرام3 مع أن الجماعة غير واجبة، والصلاة فيه
غير واجبة وصلاة في
__________
1 سقط في "أ".
2 بسبع وعشرين درجة كما ورد بذلك الحديث.
انظر البخاري 2/ 131 في الأذان/ باب فضل صلاة الجماعة حديث
"645" ومسلم 1/ 450 في المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة "249/
650".
3 البخاري 3/ 63 في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة حديث
"1190" ومسلم 2/ 1012 في الحج/ باب فضل الصلاة بمسجدي مكة
والمدينة "505/ 1394".
(1/188)
المسجد الحرام كذلك وفي المسجد الأقصى بخمس
مائة، وصلاة بسواك أفضل من سبعين بلا سواك1، والخشوع في الصلاة
مندوب، وفي الصحيح2: "لا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم
تمشون وعليكم السكينة" قال بعض العلماء: إنما أمر بعدم الإفراط
في السعي لئلا يذهب خشوعه إذا أتى إليها فأمر بالسكينة وإن
فاتته الجمعة.
قلت: ما ذكره في الجمع بالمطر غير مسلم؛ فليس الجمع أفضل -على
القول به- وقوله: من المندوب ما مصلحته أعظم من مصلحة الواجب-
فيه نظر، والمثال الذي ذكره ممنوع، فألف دينار لا يجزئ عن ردهم
زكاة والله في الفرائض أسرار لا تنتهي العقول إليها ومن ثم منع
الشافعي القيمة في الزكاة وفي الحديث "سبق درهم دينارا أو سبق
درهم مائة ألف" دل على أن الأفضلية ليست بالكمية. وأما الصور
السبع؛ فقد تقدم الكلام في إبراء المعسر.
__________
1 أخرجه البيهقي من حديث فرج بن فضالة عن عروة بن رويم عن عمرة
عن عائشة مرفوعا به، وقال: إنه غير قوي الإسناد، وساقه أيضا من
طريق الواقدي عن عبد الله بن يحيى الأسلمي عن أبي الأسود عن
عروة عن عائشة مرفوعا بلفظ: الركعتان بعد السواك أحب إلي من
سبعين ركعة قبل السواك، وضعفه أيضا الواقدي، وقد رواه من غير
جهته الحارث بن أبي أسامة في مسنده من رواية ابن لهيعة عن أبي
الأسود بلفظ: صلاة على أثر سواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك؛
بل أخرجه ابن خزيمة وغيره كأحمد والبزار والبيهقي من طريق ابن
إسحاق قال: ذكر الزهري عن عروة بلفظ: فضل الصلاة التي يستاك
لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا وتوقف ابن خزيمة
والبيهقي في صحته خوفا من أن يكون من تدليسات ابن إسحاق وأنه
لم يسمعه من الزهري، لا سيما وقد قال الإمام أحمد أنه إذا قال:
وذكره لم يسمعه وانتقد بذلك تصحيح الحاكم وهو قوله إنه على شرط
مسلم، ولكن قد رواه معاوية عن الزهري، أخرجه البزار وأبو يعلى
والبيهقي وجماعة وابن عدي في كامله، وفي معاوية ضعف أيضا قال
البيهقي ويقال إن ابن إسحاق أخذه منه، ورواه أبو نعيم من حديث
الحميدي عن سفيان عن منصور عن الزهري ورجاله ثقات، وفي الباب
عن أبي هريرة عن ابن عدي في كامله بلفظ: صلاة في أثر سواك،
أفضل من خمس وسبعين ركعة بغير سواك وعن ابن عباس عن أبي نعيم
في السواك له بلفظ: لأن أصلي ركعتي بسواك أحب إلي من أن أصلي
سبعين ركعة بغير سواك وسنده جيد وعن أنس وجابر وابن عمر. وكذا
عن أم الدرداء وجبير بن نفير مرسلا، كما بينته في بعض
التصانيف، وبعضها يعتضد ببعض، ولذا أورده الضياء في المختارة
من جهة بعض هؤلاء، وقول ابن عبد البر في التمهيد عن ابن معين:
إنه حديث باطل هو بالنسبة لما وقع له من طرقه.
5 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
البخاري 2/ 390 في الجمعة/ باب المشي إلى الجمعة "908"، ومسلم
1/ 420-421 في المساجد/ باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة
"151/ 602".
(1/189)
وأما صلاة الجماعة ففضلت صلاة الفرد بخمس
وعشرين درجة لما أثرت الجماعة في صفتها، ولم تفضل بخمس وعشرين
فرضا ولئن فضلته بخمس وعشرين فرضا فما الأربع والعشرون في
مقابلة الجماعة؛ بل في مقابلة ذات الجماعة، لما اشتملت عليه من
جمع قلوب ومشي إلى المسجد غالبا وانتظار الصلاة والعبد لا يزال
في صلاة ما دام ينتظر الصلاة1؛ فهناك صلوات في الحقيقة فما فضل
إلا فرض فرضا لا نفل فرضا وكذلك بقوله في الصلاة في المساجد
الثلاثة وفي الصلاة بسواك، هذا إن قلنا المراد بقوله صلى الله
عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ... " المراد
به الفرض، وهو قول الطحاوي من الحنفية.
ومذهبنا كما نقل النووي في شرح المهذب -أنه يعمم الفرض والنفل
جميعا؛ فإن قلت: فليلزم حينئذ أن تكون نافلة في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف فرض، فرجحت النافلة الفرض.
قلت: قد يكون الفرض في المسجد أفضل من الفرض في غيره، والنافلة
فيه أفضل من النافلة في غيره، لا أن النفل أفضل من الفرض؛
لاختلاف النوع، وليس في الحديث صيغة تعميم للنوعين.
أو يقال: وهو الذي أعتقده: أن المضاعفة تحصل من حيث أنها في
المسجد وقد يحصل للفرض من حيث أنه فرض فضل آخر، وإذا كان هناك
وجهات لم يلزم تقديم النفل على الفرض.
فإن قلت: ذاك الفرض الآخر الذي يختص به الفرض كيف يوازي ألف
صلاة ويزيد، قلت: لم يمتنع ذلك ولئن لم يوازه فليس يلزم من
كثرة الثواب الأفضلية وهذا باب آخر يطول الشرح فيه.
وقد بحثت مرة أخرى مع الشيخ الإمام [الوالد] 2 رضي الله عنه في
صلاة الظهر -بمني يوم النحر- إذا جعلنا "منى" خارجة عن حدود
الحرم - أن تكون أفضل من صلاتها
__________
1 متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
البخاري 2/ 131 في الأذان/ باب فضل صلاة الجماعة "647" وفي
البيوع 4/ 338/ باب ما ذكر في الأسواق "2119" ومسلم 1/ 459 في
كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة حديث "272/
649"، و"274/ 649".
2 سقط في "ب".
(1/190)
وفي المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم
صلاها "بمنى" يومئذ والاقتدار به أفضل أو في المسجد لأجل
المضاعفة؟ فقال: بل في "منى" وإن لم تحصل بها المضاعفة؛ فإن في
الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير ما
يربو على المضاعفة.
فإن قلت: كيف تقولون في قوله صلى الله عليه وسلم "صلاة في
مسجدي ... " أنه يعم الفرض والنفل. وقد تطابقت الأصحاب ونص
الحديث على أن نافلة المرء في بيته أفضل لم يستثن [إلا ما لا
يتأتى] 1 إلا ما يستحب له في المسجد كالعيد ونحوه أو ما لا
يتأتى إلا فيه كركعتي الطواف.
قلت: هذا من القبيل الأول: فلا يلزم من المضاعفة في المسجد أن
يكون أفضل من البيت، والظاهر أنه ذو وجهتين، وبالوجهتين تتم
المضاعفة في نافلة [المساجد] 2 وإن لم يوجد في فرائض غيرها.
وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ولا يلزم
من ذلك جعله أفضل؛ فإن للأفضل مزايا كما أن للمفضول مزية.
وبذلك صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ فقال: قد يقدم
المفضول على الفاضل في بعض الصور، كتقديم الدعاء بين السجدتين
على القراءة ولقد سألت الشيخ الإمام تغمده الله تعالى برحمته
أو سئل. وأنا أسمع عن حديث "المتحابون في الله على منابر من
نور تغبطهم الأنبياء ... الحديث3 - كيف يغبط الأنبياء
المتحابين وهم أرفع درجة؟
فقال: لعل هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب، والأنبياء عليهم
السلام لا بد أن يسألوا عن التبليغ، وهيبة الرب خطيرة؛ فحالهم
وإن كان أرفع؛ إلا أنهم يغبطون السالم من هذا العبء لراحته،
ولا يلزم أن يكون حال الراحة أفضل.
هذا حاصل كلامه.
ومما يدل على أن المفضول قد تكون له مزية ليست للفاضل حديث "من
وافق
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" المسجد.
3 أخرجه أحمد من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه في المسند 5/
239 والترمذي 4/ 597 في الزهد/ باب ما جاء في الحب في الله
"2390" والطبراني في الكبير 20/ 88 "168" والحاكم في المستدرك
4/ 419-420 في كتاب الفتن/ باب المتحابون في الله.
(1/191)
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من
ذنبه"1؛ فإن ظاهره يشمل الكبائر والصغائر: وحديث "الإسلام يهدم
ما قبله، والحج يهد ما قبله والعمرة تهدم ما قبلها"2. جعل الحج
والعمرة كالإسلام، والإسلام يهدم الكبائر والصغائر.
ويدل عليه حديث $"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته
أمه"3، وليس ذلك في الصلاة وهي أفضل.
وهنا سؤال، وهو أنه قد ثبت أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما
بينهما ما اجتنبت الكبائر4؛ فإذا كانت الفرائض لا تكفر الكبائر
فكيف تكفرها سنة. وهي موافقة التأمين إذا وافق التأمين.
وقد أخذ شخص مرة يهول أمر هذا السؤال ويقول: كبائر الفرائض
تصغر عن هذا5 التكفير وكبائر الجرائم تكفرها نافلة؟
والجواب: أن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن، بل وفاق
الملائكة وليس ذلك إلى صنعه، بل فضل من الله، وعلامة على سعادة
من وافق.
وقد أطلنا في هذا، فلنعد إلى الفرض.
وأما الإتيان إلى الصلاة بالسكينة.
فصل:
إذا عرفت أن الفرض أفضل من النفل؛ فهل هذا في كل فرض من
الفرائض التي ابتدأ الله إيجابها دون التي وجبت بتسبب العبد؟
__________
1 أخرجه البخاري 2/ 266 في الأذان/ باب جهر المأموم بالتأمين
"782" وأحمد في المسند 2/ 233-270 في مسند أبي هريرة رضي الله
عنه والسنائي في المجتبي من السنن 2/ 144 في الافتتاح/ باب جهر
الإمام بآمين.
2 مسلم 1/ 112 في الإيمان/ باب كون الإسلام يهدم ما قبله "192/
121".
3 متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه البخاري 3/ 382
في الحج/ باب فضل المبرور "1521" ومسلم 2/ 983 في الحج/ باب
فضل الحج والعمرة حديث "438/ 1350".
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة 1/ 209 في الطهارة/ باب
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة حديث "16/ 233".
5 سقط في "ب".
(1/192)
هذا موضع لي فيه نظر، والذي يظهر -من كلام
أقوال الأول، ووجهه ظاهر والذي ترجح عندي الثاني، قلت أعتقد أن
فريضة وجبت بتسبب العبد إليها أفضل من فريضة ابتدأ الشارع
طلبها.
ولذلك اختلف في أن النذر هل يسلك مسلك واجب الشرع أو جائزه؟
وما ذاك إلا لأن إيجابه يتسبب العبد.
ومن هنا نخرج إلى الجواب عن ابتداء السلام فنقول: إنما كان
أفضل من الجواب -وإن كان الجواب فرضا- لأن فرضية الجواب نشأت
عن ابتداء السلام ولم يكن وجوبها ابتداء.
فإن قلت: ما تصنعون فيما أوردتم من الأحاديث الدالة على أن
الفرض -أفضل من غير تخصيص بفرض ابتدائي.
قلت: أنا أشم من قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه
تعالى: "ما تقرب إلى المتقربون بأفضل من أداء ما افترضته
عليهم" أن المعنى به ما أنشأت افتراضه، ولذلك قال: افترضته ولم
يقل، ما هو فرض عليهم، فإني أجد فرقا بين العبارتين، فليتأمل
هذا فإنه موضع احتمال. ولا يخفي أن ارتكاب ما هو يسقط للذمة
يخرج عن العهدة أولا، عن أن في وصفه بالأفضلية مع أنه مما لعله
مما يكرهه الشارع كالنذر موضع النظر، ثم جدوى هذا النظر قليلة.
(1/193)
خاتمة: ما لا بد منه
لا يترك إلا بما
...
خاتمة: ما ل بد منه لا يترك إلا بما
إذا بان لك أن الفرض أفضل من النفل مطلقا علمت أن الواجب لا
يترك إلا لواجب وانتقلت منه إلى قاعدة معزوة إلى أبي العباس بن
سريج قيل: إنها متلقاة من كلامه في مسألة الختان، وذكرها الشيخ
أبو إسحاق1 في "المهذب" و"النكت" وإمام
__________
1 إبراهيم بن علي يوسف بن عبد الله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
شيخ الإسلام علما وعملا وورعا وزهدا وتصنيفا واشتغالا، قال
الذهبي: لقبه جمال الإسلام، ولد بفيروزآباد قرية من قرى شيراز
في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقيل: في سنة خمس، وقيل: ست وله
تصانيف انتفع بها أهل العلم في كل زمان ومكان، وتوفي في جمادى
الآخرة، وقيل الأولى سنة ست وسبعين وأربعمائة ودفن بباب أبرز،
ابن السبكي 3/ 188، ابن قاضي شبهة 1/ 238 ووفيات الأعيان 1/ 9،
البداية والنهاية 12/ 124، النجوم الزاهرة 5/ 115، مرآة الجنان
3/ 110.
(1/193)
الحرمين، والغزالي، والكيا الهراسي1،
والرافعي وغيرهم.
أشار إليها الجماعة بعضهم "ما لا بد منه لا يترك إلا بما لا بد
منه" في مسألة سجود التلاوة وبعضهم في مسألة الختان، وربما عبر
عنها بأن جواز ما لو يشرع لم يجر دليل على وجوبه، وبأن الواجب
لا يترك لسنة قال أرباب هذه القاعدة: وقد ظهر تأثير هذا الكلام
في مسائل:
منها: قطع اليد في السرقة؛ فإنه لو لم يجب لكان حراما، وإلى
هذا أشار الرافعي. بقوله: قطع عضو لا يختلف فلا يكون إلا
واجبا، كقطع اليد والرجل.
ومنها: إقامة الحدود على ذوي الجرائم.
ومنها: إنه يجب على المضطر أكل الميتة على الأصح.
ومنها: لو كان لا يحسن الفاتحة ولا يحسن إلا آيات فيها سجود
التلاوة قال الإمام في "الأساليب" لا نص فيها، قال: ولا يبعد
منعه من سجود التلاوة يعني في الصلاة حتى لا يقطع القيام
المفروض. انتهى.
وهي مسألة غريبة دعا إليها "ما لا بد منه لا يترك إلا بما لا
بد منه"، ثم وصلوا بهذا إلى الختان ونظموا قياسا ردوا به على
الحنفية - حيث نفوا وجوبه.
فقالوا: الختان قطع عضو سليم؛ فلو لم يجب لم يجز، كقطع الأصبع،
فإن قطعها إذا كانت سليمة - لا يجوز إلا إذا وجب القصاص.
قالوا: وإلى هذا القياس أشار شيخ الأصحاب أبو العباس بن سريج؛
فإنه قال: لم لم يكن الختان واجبا لما كشفت له العورة، لأن كشف
العورة محرم فما كشفت من أجله دل على وجوبه. وتبعه الأصحاب على
طبقاتهم. وعبارة الرافعي في "الشرح" قطع
__________
1 علي بن محمد بن علي شمس الإسلام عماد الدين أبو الحسن الطبري
المعروف بالكيا الهراسي تفقه ببلده ثم رحل إلى نيسابور قاصدا
إمام الحرمين وعمره ثماني عشرة فلازمه حتى برع في الفقه
والأصول والخلاف وطار اسمه في الآفاق وإلكيا بهمزة مكسورة ولام
ساكنة ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت معناه الكبير بلغة
الفرس والهراسي براء مشددة وسين مهملتين، توفي في المحرم سنة
أربع وخمسمائة وعمره أربع وخمسون سنة ودفن في تربة الشيخ أبي
إسحاق وفيات الأعيان 2/ 448، ابن قاضي شهبة 1/ 288، مرآة
الزمان 8/ 23، ابن السبكي 4/ 281، النجوم الزاهرة 5/ 201،
شذرات الذهب 4/ 8، العبر 4/ 8.
(1/194)
عضو يخاف منه؛ فلو لم يجب لم يجز. واقتضى
ما ذكروا في منازعته ختان الصبيان؛ فإنه ليس واجبا في الحال
وجائز له كشف العورة.
ثم أجاب بعضهم بالتزام جواز النظر إلى فرج الصغير. وهو وجه مال
النووي في "الروضة" إلى ترجيحه، وكاد الشيخ الإمام رحمه الله
-في باب ستر العورة يصرح به ونقله عنه الأصحاب: منهم الشيخ أبو
حامد، وابن الصباغ، وغيرهما وإن كان الرافعي جزم بالتحريم،
وادعى صاحب "العدة" الاتفاق عليه في كتاب النكاح. وبعضهم قال:
يجب على الولي الختان الصبي إذا رآه مصلحة.
والحاصل أن الأمر دار عند علمائنا بيع منع تحريم كشف عورة
الصبي ومنع وجوب ختانه، والقاعدة سليمة على الأمرين، وكلا
المعنيين مقصود منه السعي في سلامتها عن النقض.
قلت: وهذا صنيع الأصحاب في مسألة الختان حاولوا صحة هذه
القاعدة وحاولت الحنفية فسادها.
وفي مسألة سجود التلاوة عكس الفريقان الأمر؛ فحاول الحنفية
صحتها؛ حيث [قالوا] 1 سجود التلاوة واجب؛ لأن نظم الصلاة يترك
بسببه فدل أنه شيء لا بد منه، قالوا: لأن ما لا بد منه: لا
يترك إلا بما لا بد منه، فإما أن الترك بما منه بد -كالسنة-
فلا.
فقيل لهم: هل أوجبتم الختان؟
فأجابوا بما لا يرضاه، كما هو [مقرر] 2 في الخلافيات.
وعند هذا أقول: القاعدة -بإطلاقها- منقوضة بمسائل.
منها: سجود التلاوة كما عرفت.
ومنها: سجود السهو؛ فإنه ممنوع لو لم يشرع؛ إذ لا يجوز زيادة
سجودين عمدا وهو مع ذلك سنة.
ومنها: زيادة ركوع في الخسوفين، وكذا أكثر منه عند تمادي
الخسوف، على ما رجحه الشيخ الإمام، خلافا للرافعي والنووي.
ومنها: النظر إلى المخطوبة لم يقل بوجوبه إلا داود.
__________
1 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
2 في "ب" معروف.
(1/195)
ومنها: الكتابة لا تجب وإن طلبها الرقيق
الكسوب -على المذهب- وقد كانت المعاملة قبلها ممنوعة؛ لأن
السيد لا يعامل عبده.
ومنها: التنحنح في الصلاة إن بان به حرفان بطلت، على ما صححه
الرافعي والنووي؛ فلو تعذر الجهر إلا به كان -على وجه- عذرا
إقامة لشعائر الجهر فعلى هذا الوجه ترك الواجب -وهو ترك
التنحنح- لأجل سنة، وهو الجهر.
ومنها: قطع السلعة المخوف بقاؤها جائز غير واجب.
ومنها: على الجديد -يجوز أو يستحب للغاسل غسل عانة الميت، قال
الشيخ شهاب الدين أبو شامة1 في كتاب السواك: وذلك لا يتأتى من
الغاسل إلا بنظره إلى العورة أو لمسها وكلاهما محرم، قال: فقد
بطل بهذا قول أصحابنا لا يترك الواجب إلا للواجب.
ومسائل هذا الفصل كثيرة؛ فليقع الاقتصار على ما ذكرناه، وهذه
الصور التي ذكرها الشيخ شهاب الدين تقبل من المنازعة ما لا
يقبله غيرها؛ فإنا وإن أوجبنا حلق عانة الميت -وليس هو الذي
يفتي به- فإنما ذلك لأن ما يحصل من النظر والمس أن فرض أنه لا
بد من حصوله قدر يسير بالنسبة إلى إزالة هذا القدر عن الميت.
وبهذا الطريق إلى زبدة من الكلام فنقول: لعل الضابط -والله
أعلم في تعارض النفل والفرض أن يقال: إن لزم من فعل النفل ترك
الفرض بالكلية فلا اكتراث بالنفل، والفرض أفضل مطلقا؛ وإلا
فالنفل مقدم في الحقيقة.
إنما احتمل ترك فرض في زمن يسير لا يحصل به تمام الغرض منه
لنفل حصل تمام الغرض منه؛ ألا ترى إلى جواز نظر الطبيب للعورة
مداواة وما ذاك إلا لأن زمن
__________
1 عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر الشيخ
الإمام العلامة ذو الفنون المتنوعة شهاب الدين أبو القاسم
المقدسي الدمشقي الفقيه المقريء النحوي المحدث المعروف بأبي
شامة -لشامة كبيرة فوق حاجبه الأيسر ولد بدمشق. في أحد
الربيعين سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال ابن كثير رحمه الله وكان
ذا فنون كثيرة وكان تاج الدين الغزاوي يقول بلغ الشيخ شهاب
الدين رتبة الاجتهاد، توفي رحمه الله في رمضان سنة خمس وستين
وستمائة.
- ابن السبكي 5/ 61، ابن قاضي شهبة 20/ 133، مرآة الجنان 4/
164، وفوات الوفيات 1/ 252، البداية والنهاية 3/ 250، بغية
الوعاة ص297.
(1/196)
المداواة يسير وفارطة لا يستدرك؛ فكل ما
كان من هذا القبيل لا يمنع فيه تقديم النفل، ولكنا نقول ليس هو
في الحقيقة تقديم نافلة لأن الفرض لم يترك بالكلية بل اغتفر
منه زمن يسير كأنه اقتطع للمصلحة، ومن ثم نقول على القول بأن
الختان سنة فعله أفضل وإن لزم منه كشف العورة لأن زمانه يسير؛
فلو ترك فعله لتركت السنة لا إلى بدل ولو فعل لم يلزم ترك
الفرض مطلقا بل في زمن يسير لمصلحة لا يستدرك فارطها إذا لم
يفعل وهذا كلام مبين.
مباحثة: فإن قلت إذا أقررتم قصور مراتب النوافل عن درجات
الفرائض فما قولكم في قوله صلى الله عليه وسلم "عمرة في رمضان
تعدل حجة 1 معي"؛ فإنه فيما يظهر يشمل عمرة النفل والفرض وإن
وقعت من مقيم بمكة وقد جعلت عدل من حج من المدينة في ركاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقد رجع النفل فرضا عظيما، ولذلك قال
صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله
حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة
تامة تامة" 2، وفي حديث أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال "من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر ابتكر ومشى ولم
يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل
سنة صيامها وقيامها".
معيار نافع:
المآخذ المختلف فيها بين الأئمة لا بد في ترجيح بعضها على بعض
بالدليل الدال على ذلك ثم بترجيح بعضها قد يسقط الآخر عن درجة
الاعتبار كتعليل ولاية الإجبار بالبكارة فإنه عند الشافعي أسقط
درجة التعليل بالصغر عن الاعتبار وقد لا يسقط وحينئذ فقد يمكن
مجامعته له فينبني الأمر فيه على جواز التعليل بعلتين وقد لا
يمكن فلا يمكن فيه ذلك ورب أصل اجتذبه مأخذان بكل منهما شبه
فهو كفرع تجاذبه أصلان يلحق بأشبههما.
__________
1 متفق عليه من رواية ابن عباس البخاري 3/ 603 كتاب العمرة/
باب عمرة في رمضان حديث "1782"، ومسلم 2/ 917 في الحج/ باب فضل
العمرة في رمضان "221/ 1256".
2 الترمذي 2/ 481 في الصلاة/ باب ذكر ما يستحب من الجلوس في
المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس حديث "586"، وقال وحديث
غريب وفي إسناده أبو ظلال وهو متكلم فيه ولكن في الباب شواهد.
انظر الترغيب والترهيب 1/ 164-165.
(1/197)
وسنذكر ذلك في مسائل الأصول؛ غير أنا
منبهون هنا على أنه ثم مسائل تردد النظر في مأخذها وأبى بعض
المتأخرين أن يطلق الترجيح فيها، وقال: إنه يختلف باختلاف
المسائل؛ فمنها قال الرافعي في الخلاف في أن الطلاق الرجعي هل
يقطع النكاح أو لا، والتحقيق أنه لا يطلق ترجيح واحد منهما بل
يختلف باختلاف الصور وصوبه النووي، وقال نظيره القولان في أن
النذر هل يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه، وأن الإبداء إسقاط
أو تمليك، قال: ويختلف الراجح بحسب المسائل لظهور دليل أحد
الطرفين في بعضها وعكسه في بعض.
قلت: ومن نظائره أيضا الخلاف فيمن نوى الفرض مع مناف كمن يحرم
بالظهر قبل الزوال ينقلب نقلا أو تبطل، فيه قولان.
قال في الروضة اختلف في الأصح منهما بحسب الصور.
فائدة: في عد مسائل أمهات شكك في تصورها منها: قتل تارك الصلاة
شكك المزني رحمه الله في تصويره، وقد شكك ابن الرفعة اعترض
المزني هذا في فسخ المرأة بالإعسار على قولهم إن الفسخ عند
انقضاء الثلاث يكون بالعجز عن نفقة اليوم الرابع أو بعد مضي
يوم وليلة.
ونازع الرافعي في بحث له هناك ذكره في مواضع في باب نفقة
الزوجة فليكشف ومنها نص الشافعي رضي الله عنه على أن وطء الزوج
الثاني بعد ارتداده أو ارتدادها لا يفيد التحليل، وإن فرض
الرجوع إلى الإسلام لاضطراب النكاح واعترض المزني فقال لا
تتصور هذه المسألة لأن الزوج الثاني إن كان قد أصابها نبل
الردة فقد حصل التحليل للأول؛ وإلا فقد انفسخ النكاح بالردة
قبل الدخول ولا عدة فلا معنى للرجوع وأجابه ابن سريج وغيره من
أصحابنا بتصور العدة من غير فرض الدخول.
إما بالخلوة على القديم وإما بأن يطأ فيما دون الفرج فيسبق
الماء إلى الفرج. أو بأن يستدخل ماؤه أو بإتيانها في غير
المأتي فتجب العدة بهذه الأسباب ولا يحصل الحل. واعلم أن
الرافعي قصر في هذه المسألة فإن قدماء الأصحاب؛ إنما ذكروها في
باب المطلقة ثلاثا وهناك نص عليها الشافعي وهذا الباب حذفه
صاحب التنبيه والغزالي وغيرهما ممن لم يمش في تصنيفه على ترتيب
مختصر المزني. وأدرج الغزالي ومتابعوه مقاصده في باب ما يحرم
من النكاح، وأدرج صاحب التنبيه وطائفة من قدمائهم ابن القاص
مقاصده في باب الرجعة فلما تبدد على الرافعي لم يستكمل له
النظر ولم يرد في
(1/198)
باب ما يحرم من النكاح على الجزم بأن الوطء
في ردة أحدهما لا يفيد التحليل وعزاه إلى النص ولفظ النص كما
رأيته في المبسوط في باب المطلقة ثلاثا، وكذلك الزوجان يصيبها
الزوج ثم يريد أحدهما بعد الإصابة بحلها تلك الإصابة؛ لأنه كان
زوجا ولو كانت لأن الإصابة ردة أحدهما أو ردتهما معا لم يحلها،
ولو رجع المرتد منهما إلى الإسلام بعد الإصابة بعد كانت
والمرأة موقوفة على العدة حرمت في حالتها تلك بكل حال عليه
انتهى.
والرافعي ذكر اعتراض المزني وأجابه الأصحاب بما ذكرناه ولم تقم
الدلالة على أن الردة قبل الدخول تفسخ النكاح، وإن عاد إلى
الإسلام ولا ذكر الأصحاب دليلا عليه، وأنه لا عدة فيرتفع
النكاح جملة والمسألة تحتاج إلى دليل وهذا في الارتداد قبل
الدخول أما بعده فالنص قد علمت ولكن الذي جزم به ابن القاص في
تلخيصه وتابعه شارحه القفال أنه إن رجع المرتد إلى الإسلام
أباحها الأول ونقله النووي في زيادة الروضة وقد ذكره أيضا
القاضي الحسين وإمام الحرمين، وأشار إلى أن من قال أن الوطء
بالشبهة تحلل بقول الوطء في الردة تحلل وينحل من كلامهم أن في
التحليل بالوطء في النكاح الفاسد خلافا، وفي الوطء بالشبهة
خلافا مرتبا عليه وفي الوطء في الردة خلافا مرتبا على الوطء
بالردة هذا ما ينحل لي من كلامهم ولم يزد القفال في شرح
التلخيص على تصحيح ما قاله ابن القاص من أنه إذا عاد إلى
الإسلام حلل، وذكر تشكيك المزني وجواب ابن شريح والأصحاب له،
ورأيت صاحب البحر قد ذكر أن القفال قال ومنها فسخ المرأة
النكاح بعيب الزوج.
قال ابن الرفعة استشكل بعضهم تقريره بأنها إن علمت بالعيب فلا
خيار وإلا فالنقاء من العيوب شرط الكفاءة ولا يصح النكاح إذا
عدمت الكفاءة [على الأصح] 1 وإذا لم تصح انتفى الخيار قال وهذه
غفلة عن قسم آخر وهو ما إذا أذنت له في التزويج من معين أو من
غير كفؤ وزوجها الولي بناء على أنه سليم فإذا هو معيب والمذهب
صحة النكاح في هذه الصورة كما صرح به الإمام في كتاب الوكالة
وباب المرابحة.
ومنها: إذا وقع في نار تحرقه لا يمكنه الخلاص منها إلا بماء
يغرقه.
ومنها: إذا حصل قطع الحلقوم والميء في الذبح بتحريك الذابح
سكينة مع إعانة المذبوح على ذلك لاضطرابه وقد قدمناهما في
قاعدة الضرر لا يزال بالضرر أول الكتاب وذكرنا ما فيهما.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
(1/199)
|