الأشباه والنظائر للسيوطي

[الْقَوْلُ فِي الْعَدَالَةِ]
[حَدّ الْعَدَالَةِ]
الْقَوْلُ فِي الْعَدَالَةِ: حَدَّهَا الْأَصْحَابُ: بِأَنَّهَا مَلَكَةٌ، أَيْ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ مِنْ اقْتِرَافِ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْخِسَّةِ أَوْ مُبَاحٍ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَهَذِهِ أَحْسَنُ عِبَارَةً فِي حَدِّهَا وَأَضْعَفُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ.

(1/384)


لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاجْتِنَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ مَلَكَةٌ، وَقُوَّةٌ تُرْدِعُهُ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا يَهْوَاهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِدْقِ الْعَدَالَةِ. وَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْكَبَائِرِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يُوهِمُ أَنَّ ارْتِكَابَ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَة لَا يَضُرُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، فَذِكْرُهُ فِي الْحَدِّ تَكْرَارٌ ; وَلِأَنَّ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَرَذَائِلَ الْمُبَاحَاتِ خَارِجٌ عَنْهُ مَعَ اعْتِبَارِهِ.
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَهَلِ الْإِصْرَارُ السَّالِبُ لِلْعَدَالَةِ، الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ، أَمْ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ يُوَافِقُ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ: مَنْ غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ مَعَاصِيهِ كَانَ عَدْلًا، وَعَكْسُهُ فَاسِقٌ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ يُوَافِقُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا غُلِّبَتْ الطَّاعَةُ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ: تَضُرُّ وَاعْتَرَضَهُ فِي الْمَطْلَبِ: بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ تَضُرُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ: فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ حِكَايَتِهِ، قَالَ: إنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَالْإِكْثَارِ مِنْ الْأَنْوَاعِ، وَحِينَئِذٍ: لَا يَحْسُنُ مَعَهُ التَّفْصِيلُ نَعَمْ: يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا لَوْ أَتَى بِأَنْوَاعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ: لَمْ يَضُرَّ لِمَشَقَّةِ كَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ فِي الْإِبَانَةِ وَإِنَّ قُلْنَا بِالثَّانِي: ضَرٌّ. وَتَبِعَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَقَالَ: يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ خَالَفَ الْمَذْكُورَ هُنَا وَجَزَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ.
وَفِي الرَّضَاعِ: بِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى النَّوْعِ الْوَاحِدِ تُصَيِّرُهُ كَبِيرَةً وَأَجَابَ الْبُلْقِينِيُّ: بِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ غَيْرُ الْمُدَاوَمَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِيَّةِ الَّتِي تَغْلِبُ بِهَا مَعَاصِيهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ الْمُدَاوَمَةِ فَالْمُؤَثِّرُ عَلَى الثَّانِي: إنَّمَا هُوَ الْغَلَبَةُ لَا الْمُدَاوَمَةُ.
وَالرُّجُوعُ فِي الْغَلَبَةُ إلَى الْعُرْفِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مُدَّةُ الْعُمُرِ، فَالْمُسْتَقْبَلُ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا مَا ذَهَبَ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرهَا.

[تَمْيِيزُ الْكَبَائِرِ مِنْ الصَّغَائِرِ]
ِ اُضْطُرِبَ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَمْ أَقِفْ لَهَا عَلَى ضَابِطٍ، يَعْنِي سَالِمًا مِنْ الِاعْتِرَاضِ

(1/385)


وَعَدَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ حَدِّهَا إلَى حَدِّ السَّالِبِ لِلْعَدَالَةِ فَقَالَ " كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ، وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ وَكُلُّ جَرِيمَةٍ لَا تُؤْذِنُ بِذَلِكَ، بَلْ تَنْفِي حُسْنَ الظَّنِّ بِصَاحِبِهَا لَا تُحْبِطُ الْعَدَالَةَ قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ مِنْ الْآخَرِ.
وَأَمَّا حَصْرُ الْكَبَائِرِ بِالْعَدِّ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ قَالَ: هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ " وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ " هِيَ إلَى السَّبْعِ أَقْرَبُ " وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَيْتُهُ عَدَّهَا: الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَأَوْرَدَ مِنْهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ كَبِيرَةً، أَكْثَرُهَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَقَدْ أَوْرَدْتُهَا نَظْمًا فِي ثَمَانِيَةِ أَبْيَاتٍ لَا حَشْوَ فِيهَا فَقُلْت:
كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ... وَمُطْلَقِ الْمُسْكِرِ ثُمَّ السِّحْرِ
وَالْقَذْفِ وَاللِّوَاطِ ثُمَّ الْفِطْرِ ... وَيَأْسِ رَحْمَةٍ وَأَمْنِ الْمَكْرِ
وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالشَّهَادَهْ ... بِالزُّورِ وَالرِّشْوَةِ وَالْقِيَادَهْ
مَنْعُ زَكَاةٍ وَدِيَاثَةٌ فِرَارْ ... خِيَانَةٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ظِهَارْ
نَمِيمَةٌ كَتْمُ شَهَادَةِ يَمِيَنْ ... فَاجِرَةٍ عَلَى نَبِيِّنَا يَمِيَنْ
وَسَبُّ صَحْبِهِ وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ ... سِعَايَةٌ عَقٌّ وَقَطْعُ الرَّحِمِ
حِرَابَةٌ تَقْدِيمُهُ الصَّلَاةَ أَوْ ... تَأْخِيرُهَا وَمَالُ أَيْتَامٍ رَأَوْا
وَأَكْلُ خِنْزِيرٍ وَمَيْتٍ وَالرِّبَا ... وَالْغُلِّ أَوْ صَغِيرَةٌ قَدْ وَاظَبَا
قُلْت: زَادَ فِي الرَّوْضَةِ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ وَالْوَطْءَ فِي الْحَيْضِ نَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَزَادَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: إحْرَاقَ الْحَيَوَانِ وَامْتِنَاعَهَا مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ.
وَزَادَ الْعَلَائِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَالتَّقَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ وَمَنْعَ ابْنِ السَّبِيلِ فَضْلَ الْمَاءِ لِوُرُودِهَا فِي الْحَدِيثِ وَالشُّرْب فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ.

[مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ]
ُ: قَالَ الْعَلَائِيُّ: مَدَارُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " إنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ إمَّا فِي مَحِلِّ الضَّرُورَاتِ أَوْ فِي مَحِلِّ الْحَاجَاتِ أَوْ فِي مَحِلِّ التَّتِمَّاتِ وَإِمَّا مُسْتَغْنًى عَنْهَا

(1/386)


بِالْكُلِّيَّةِ إمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا أَوْ لِقِيَامِ غَيْرِهَا مَقَامَهَا وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مَصْلَحَةٌ لِحُصُولِ الضَّبْطِ بِهَا عَنْ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَالتَّقْصِيرِ ; إذْ الْفَاسِقُ لَيْسَ لَهُ وَازِعٌ دِينِيٌّ، فَلَا يُوثَقُ بِهِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي مَحِلِّ الضَّرُورَاتِ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ فِي نَقْلِهَا وَصَوْنِهَا عَنْ الْكَذِبِ. وَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى أَيْضًا لِصَوْنِ الْأَحْكَامِ ; وَلِحِفْظِ دِمَاءِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْضَاعِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ عَنْ الضَّيَاعِ، فَلَوْ قُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الْفَسَقَةِ وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَضَاعَتْ. وَكَذَلِكَ فِي الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْقَضَاءِ، وَأَمَانَةِ الْحُكْمِ وَالْوِصَايَةِ، وَمُبَاشَرَةِ الْأَوْقَاف، وَالسِّعَايَةِ فِي الصَّدَقَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; لِمَا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى الْفَاسِقِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ.
وَأَمَّا مَحِلُّ الْحَاجَاتِ: فَفِي مِثْلِ تَصَرُّفَاتِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ لِأَبْنَائِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ طُرِدَ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي النِّكَاحِ وَالْمُؤَذِّنُ الْمَنْصُوبُ لِاعْتِمَادِ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ ; إذْ لَوْ كَانَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ ; لَحَصَلَ الْخَلَلُ فِي إيقَاعِ الصَّلَوَاتِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا وَأَمَّا مَحِلُّ التَّتِمَّاتِ: فَكَإِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْعَدَالَةُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدنَا إذْ لَيْسَ فِيهَا تَوَقُّعُ خَلَلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ ; لِأَنَّ تَوَهُّمَ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ نَادِرٌ فِي الْفُسَّاقِ.
وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الْقَرِيبِ عَلَى قَرِيبِهِ الْمَيِّتِ فِي التَّجْهِيزِ وَالتَّقَدُّمِ عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ فَرْطَ شَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَكَثْرَةَ حُزْنِهِ تَبْعَثُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ، وَقُوَّةِ التَّضَرُّعِ فِي الدُّعَاءِ لَهُ، فَالْعَدَالَةُ فِيهِ مِنْ التَّتِمَّاتِ وَأَمَّا الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَكَالْإِقْرَارِ لِأَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ يَزَعُهُ عَنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي قَتْلًا، أَوْ قَطْعًا، أَوْ تَغْرِيمَ مَالٍ، فَقُبِلَ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ اكْتِفَاءً بِالْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ.
وَلِهَذَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِمَا يَقْتَضِي الْقِصَاصَ دُونَ مَا يُوجِبُ الْمَالَ ; لِأَنَّ طَبْعَهُ يَزَعُهُ عَنْ إضْرَارِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ إضْرَارِ سَيِّدِهِ وَاَلَّذِي يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ: التَّوْكِيلُ وَالْإِيدَاعُ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنَّ نَظَرَهُ لِنَفْسِهِ قَائِمٌ مَقَامَ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْفَاسِقَ وَيُودِعَ عِنْدَهُ لِأَنَّ طَبْعَ الْمَالِكِ يَزَعُهُ عَنْ إتْلَافِ مَالِهِ بِالتَّفْرِيطِ.

(1/387)


وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ مُوَكَّلًا أَوْ مُودَعًا فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ بِالْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ. وَهَذِهِ فُرُوعٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا:
الْأَوَّلُ: وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَفِيهَا: ثَلَاثَةَ عَشَرَ طَرِيقًا أَشْهَرُهَا: فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ. فِيهَا قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَلَا يَلِي الْفَاسِقُ كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ ; وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَضَعَهَا عِنْدَ فَاسِقٍ مِثْلِهِ.
وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَمْنَعُوا الْفَسَقَةَ مِنْ تَزْوِيجِ بَنَاتِهِمْ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: يَلِي قَطْعًا.
الثَّالِثُ: لَا يَلِي قَطْعًا.
الرَّابِعُ: يَلِي الْمُجْبِرُ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ شَفَقَةً.
الْخَامِسُ: عَكْسُهُ لِأَنَّ الْمُجْبِرَ يَسْتَقِلُّ بِالنِّكَاحِ، فَرُبَّمَا وَضَعَهَا عِنْدَ فَاسِقٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَتَنْظُرُ هِيَ لِنَفْسِهَا، وَتَأْذَنُ.
السَّادِسُ: يَلِي، إنْ فَسَقَ بِغَيْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِهِ لِاخْتِلَالِ نَظَرِهِ.
السَّابِعُ: يَلِي الْمُسْتَتِرَ دُونَ الْمُعْلَنِ. الثَّامِنُ: يَلِي الْغَيُورَ، دُونَ غَيْرِهِ. التَّاسِعُ: يَلِي إنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ.
الْعَاشِرُ: يَلِي إنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ قَطْعًا وَإِلَّا فَقَوْلَانِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: يَلِي - إنْ كَانَ الْإِمَامُ - نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ، لَا مُوَلِّيَاتُهُ.
الثَّانِي عَشَرَ: يَلِي، إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ سَلَبْنَاهُ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَى حَاكِمٍ مِثْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: قَالَهُ فِي الْبَحْرِ - يَلِي ابْنَتَهُ، وَلَا يُقْبَلُ النِّكَاحُ لِابْنِهِ الْفَرْعُ الثَّانِي: الِاجْتِهَادُ: قِيلَ الْعَدَالَةُ رُكْنٌ فِيهِ وَالْأَصَحُّ: لَا، بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِقَبُولِ إخْبَارِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ نَفْسِهِ.

[مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ وَمَا لَا]
: فِيهِ فُرُوعٌ مِنْهَا: أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ: أَنَّ الشَّاهِدَ بِالرُّشْدِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ عَدَالَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بَاطِنًا بَلْ يَكْفِي الْعَدَالَةُ ظَاهِرًا.

(1/388)


وَمِنْهَا: شُهُودُ النِّكَاحِ يَكْفِي أَنْ يَكُونُوا مَسْتُورِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ، وَمَنْ يُشَقُّ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْهَا فَاكْتُفِيَ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِهَذَا لَا يُكْتَفَى بِهَا لَوْ أُرِيدَ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ، أَوْ كَانَ الْعَاقِدُ الْحَاكِمُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمِنْهَا: الرِّوَايَةُ، الْأَصَحُّ فِيهَا قَبُولُ الْمَسْتُورِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا: وَلِيُّ النِّكَاحِ، وَالْأَبُ فِي مَالِ وَلَدِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ. وَمِنْهَا: الْمُفْتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ.
وَمِنْهَا: مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ. وَمِنْهَا: مَا فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ: أَنَّ النَّاظِرَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ كَالنَّاظِرِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، أَوْ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِتَصَرُّفِ الْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ؟ مُحْتَمَلٌ وَالظَّاهِرُ: الثَّانِي. وَإِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ هَلْ يَتَوَقَّف عَلَى ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ الْبَاطِنَةِ، أَوْ تَكْفِي عَدَالَتُهُ الظَّاهِرَةُ؟ مُحْتَمَلٌ وَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ كَالْأَبِ إذَا بَاعَ شَيْئًا وَأَرَادَ إثْبَاتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ جَزْمًا
تَنْبِيهٌ: فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْتُورِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْ عُلِمَ إسْلَامُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ فِسْقُهُ، وَهُوَ الَّذِي بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ النَّصِّ، وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ تَرْجِيحُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا فِي الْمَاضِي، وَشُكَّ فِيهَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَيُسْتَصْحَبُ وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ.

[مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَمَا لَا]
اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ الْوَاحِدِ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَنَحْوِهِ، وَفِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ: إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الزِّفَافِ، مَعَ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ تَعْيِينِ مُبَاحٍ جُزْئِيٍّ لِجُزْئِيٍّ، فَكَانَ مُقْتَضَاهُ: أَنْ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ

(1/389)


لَكِنْ اعْتَضَدَ هَذَا بِالْقَرِينَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَادَةً: أَنَّ التَّدْلِيسَ لَا يَدْخُلُ فِي مِثْل هَذَا، وَيُبَدَّلُ عَلَى الزَّوْجِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ جَرَى فِيهَا خِلَافٌ:
الْأَوَّلُ: الشَّهَادَةُ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِيهَا: إلَّا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، وَقَبُولُ الْوَاحِدِ فِيهِ وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا هَلْ هُوَ جَارٍ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، أَوْ الرِّوَايَةِ؟ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا قَبُولُ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدُ فِيهِ، وَالْمَسْتُورُ، وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَالِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِالْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ. وَالْأَصَحُّ فِي الْكُلِّ: مُرَاعَاةُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ، إلَّا فِي الْمَسْتُورِ. وَحَيْثُ قُبِلَ الْوَاحِدُ، فَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ، وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ دُونَ حُلُولِ الْآجَالِ، وَالتَّعْلِيقَاتِ وَانْقِضَاءِ الْعُدَدِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِإِسْلَامِ ذِمِّيٍّ مَاتَ، قُبِلَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَرْجَحِ دُونَ إرْثِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَمَنْعُ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ اتِّفَاقًا.
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: لَوْ شُهِدَ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ; إذْ لَا فَائِدَةَ لَهَا، إلَّا تَفْوِيتُ صَلَاةِ الْعِيدِ نَعَمْ: تُقْبَلُ فِي الْآجَالِ، وَالتَّعْلِيقَاتِ، وَنَحْوِهَا.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ رِوَايَةَ اثْنَيْنِ، وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْت حُجَجَ ذَلِكَ، وَرَدَّهَا فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ وَالتَّيْسِيرِ مَبْسُوطًا الثَّالِثُ: الْخَارِصُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ، تَشْبِيهًا بِالْحُكْمِ وَالثَّانِي: غَلَّبَ جَانِبَ الشَّهَادَةِ وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: إنْ خَرَصَ عَلَى مَحْجُورٍ أَوْ غَائِبٍ شُرِطَ اثْنَانِ، وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى الْأَوَّلِ: الْأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ حُرِّيَّتِهِ وَذُكُورَتِهِ، كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ.

(1/390)


الرَّابِعُ: الْقَاسِم، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِتَرَدُّدِهِ أَيْضًا بَيْنَ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ، وَالْأَصَحُّ: يَكْفِي وَاحِدٌ الْخَامِسُ الْمُقَوِّمُ: وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَالِكٌ أَلْحَقَهُ بِالْحَاكِمِ السَّادِسُ الْقَائِفُ وَفِيهِ خِلَافٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْأَصَحُّ: الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ تَغْلِيبًا لِشَبَهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ السَّابِعُ الْمُتَرْجِمُ كَلَامَ الْخُصُومِ لِلْقَاضِي، وَالْمَذْهَبُ: اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِيهِ الثَّامِنُ الْمُسْمِعُ إذَا كَانَ الْقَاضِي أَصَمَّ وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِيهِ وَالثَّانِي: غَلَّبَ جَانِبَ الرِّوَايَةِ.
وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْخَصْمَانِ أَصَمَّيْنِ أَيْضًا: اُشْتُرِطَ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا إسْمَاعُ الْخُصُومِ كَلَامَ الْقَاضِي وَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ: فَجَزَمَ الْقَفَّالُ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْعَدَدِ وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ رِوَايَةً فَقَطْ.
التَّاسِعُ: الْمُعَرِّفُ، ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْوِكَالَةِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ الْغَائِبِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَنَّ الْعَبَّادِيَّ قَالَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُعَرِّفَ بِالْمُوَكِّلِ شَاهِدَانِ يَعْرِفْهُمَا الْقَاضِي، وَيَثِقُ بِهِمَا. قَالَ: هَذِهِ عِبَارَةُ الْعَبَّادِيِّ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْعَبَّادِيِّ: يُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَنَّ تَعْرِيفَهُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا يَحْصُل بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةِ.

(1/391)


الْعَاشِرُ: بَعْثُ الْحَكَمِ عِنْدَ الشِّقَاقِ. هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ اخْتَارَ ابْنُ كَجٍّ: الْمَنْعَ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ جَعَلْنَاهُ تَحْكِيمًا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَدُ، أَوْ تَوْكِيلًا فَكَذَلِكَ، إلَّا فِي الْخُلْعِ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَوَلِّي الْوَاحِدِ طَرَفَيْ الْعَقْدِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي صِفَةٍ هَلْ هِيَ عَيْبٌ؟ قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الرَّدُّ. وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ، لِقُوَّةِ شَبَهِهِ بِالشَّهَادَةِ، كَالتَّقْوِيمِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قُرْحَةٍ هَلْ هِيَ جُذَامٌ؟ أَوْ فِي بَيَاضٍ هَلْ هُوَ بَرَصٌ؟ اُشْتُرِطَ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَالِمَيْنِ بِالطِّبِّ. كَذَا جُزِمَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ; فِي النِّكَاحِ
الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الطَّبِيبِ، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: فِي الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِمُرَاجَعَةِ أَهْلِ الطِّبِّ. قَالَ فِي الْبَيَانِ: إنْ قَالَ طَبِيبَانِ إنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ كُرِهَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَاشْتِرَاطُ طَبِيبَيْنِ ضَعِيفٌ، بَلْ يَكْفِي وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ.
ثَانِيهَا: اعْتِمَادُهُ فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَكْفِي قَوْلُ طَبِيبٍ وَاحِدٍ وَفِي وَجْهٍ: لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَفِي. ثَالِثٍ: يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.
وَفِي رَابِعٍ: وَالْفَاسِقُ وَالْمُرَاهِقُ وَفِي خَامِسٍ: وَالْكَافِرُ.
ثَالِثُهَا: اعْتِمَادُهُ فِي كَوْنِ الْمَرَضِ مَخُوفًا فِي الْوَصِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَدِ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ الَّذِي فِي التَّيَمُّمِ هُنَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ آدَمِيِّينَ

(1/392)


مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ فَاشْتُرِطَ فِيهِ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ وَلَهُ بَدَلٌ.
رَابِعُهَا: اعْتِمَادُهُ فِي أَنَّ الْمَجْنُونَ يَنْفَعُهُ التَّزْوِيجُ وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ. وَعِبَارَةُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ. وَحَيْثُ قَالَا عِنْدَ إشَارَةِ الْأَطِبَّاءِ. وَفِي مَوْضِعِ أَرْبَابِ الطِّبِّ وَعِبَارَةُ الشَّامِلِ: إذَا قَالَ أَهْلُ الطِّبِّ قَالَ الْعَلَائِيُّ: وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِلِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِوَاحِدٍ وَلَا يَبْعُدُ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْإِخْبَارِ.

[تَذْنِيبٌ: مُقَدَّرَاتُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ]
تَذْنِيبٌ:
مُقَدَّرَاتُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا يُمْنَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَالْحُدُودِ وَفُرُوضِ الْمَوَارِيثِ.
الثَّانِي: مَا لَا يَمْنَعُهَا كَالثَّلَاثِ فِي الطَّهَارَةِ. الثَّالِثُ: مَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ دُونَ النُّقْصَانِ. كَخِيَارِ الشَّرْطِ بِثَلَاثٍ وَإِمْهَالِ الْمُرْتَدِّ بِثَلَاثٍ، وَالْقَسَم بَيْنَ الزَّوْجَاتِ بِثَلَاثٍ.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ كَالثَّلَاثِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، وَالتَّسْبِيعِ فِي الْوُلُوغِ، وَالطَّوَافِ، وَالْخَمْسِ فِي الرَّضَاعِ، وَالنُّجُومِ فِي الْكِتَابَةِ، وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّرِقَةِ.

تَذْنِيبٌ:
الْمُقَدَّرَاتُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا هُوَ تَقْرِيبٌ قَطْعًا كَسِنِّ الرَّقِيقِ الْمُوَكَّلِ فِي شِرَائِهِ أَوْ الْمُسَلَّمِ فِيهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ التَّحْدِيدَ بَطَلَ الْعَقْدُ.
الثَّانِي: مَا هُوَ تَحْدِيدٌ قَطْعًا كَتَقْدِيرِ مُدَّةِ الْخُفِّ، وَأَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ وَغَسْلِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَالْأَرْبَعِينَ فِي الْجُمُعَةِ وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَأَصْنَافِهَا وَسِنِّ الْأُضْحِيَّةِ، وَآجَالِ الزَّكَاةِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالدِّيَةِ، وَتَغْرِيبِ الزَّانِي وَإِنْظَارِ الْمَوْلَى، وَالْعِنِّينِ، وَمُدَّةِ الرَّضَاعِ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ، وَنِصَابِ السَّرِقَةِ.
الثَّالِثُ: مَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ: كَتَقْدِيرِ الْقُلَّتَيْنِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَسِنِّ الْحَيْض بِتِسْعٍ وَالْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَمَسَافَةِ الْقَصْرِ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ كَتَقْدِيرِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ رَطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ.

(1/393)


قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَسَبَبُ تَحْدِيدِ مَا ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ مَنْصُوصَةٌ، وَلِتَقْدِيرِهَا حِكْمَةٌ، فَلَا يَسُوغُ مُخَالَفَتُهَا وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَيُشْبِهُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ بِالِاجْتِهَادِ ; إذْ لَمْ يَجِئْ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَمَا قَارَبَ الْقَدْرَ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مِثْلُهُ.

تَذْنِيبٌ:
قَدْ يُقَدَّرُ الشَّيْءُ بِحَدٍّ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدُّ: مِنْ ذَلِكَ: الْعَرَايَا بِمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَالْهُدْنَةُ بِمَا دُونِ السَّنَةِ، وَالْحُكُومَةُ بِمَا دُونِ الدِّيَةِ، وَالرَّضْخُ بِمَا دُونِ السَّهْمِ، وَالتَّعْزِيرُ بِمَا دُونِ الْحَدِّ، حَتَّى لَوْ عَزَّرَ بِالنَّفْيِ لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً، وَالْمُتْعَةُ بِمَا دُونِ الشَّطْرِ فِي رَأْيٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ وَمِنْ ذَلِكَ: خَاتَمُ الْفِضَّةِ بِمَا دُونِ مِثْقَالٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمُّهُ مِثْقَالًا» .

تَذْنِيبٌ:
أَكْثَرُ عَدَدٍ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ السَّبْعَةَ، فَاعْتُبِرَتْ الثَّلَاثَةُ فِي مَسَحَاتِ الِاسْتِنْجَاءِ وَالطَّهَارَةِ: وُضُوءًا وَغُسْلًا، وَمُدَّةِ الْخُفِّ لِلْمُسَافِرِ، وَالْعَادَاتِ غَالِبًا، وَمُدَّةِ الْخِيَارِ، وَالْقَسَمِ، وَالْإِحْدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْأَشْهُرِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِمْهَالِ الزَّوْجَةِ لِلدُّخُولِ، وَالْمُرْتَدِّ، وَتَارِكِ الصَّلَاةِ إنْ أَمْهَلْنَاهُمَا، وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَشَهَادَةِ الْإِعْسَارِ فِي رَأْيِ الْفُورَانِيِّ وَالْمُتَوَلِّي، وَالْعَدَدِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ بَيْعَةَ الْإِمَامِ فِي رَأْيٍ وَاعْتُبِرَتْ السَّبْعَةُ: فِي غُسْلِ الْوُلُوغِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَسِنِّ التَّمْيِيزِ، وَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ.
وَاعْتُبِرَ الِاثْنَانِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالشَّهَادَةِ غَالِبًا وَاعْتُبِرَتْ الْأَرْبَعَةُ: فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ، وَشَهَادَةِ الزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ. وَالْعَدَدِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْبَيْعَةَ فِي رَأْيٍ. وَالْخَمْسَةُ: فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَوَّلِ نِصَابِ الْإِبِلِ، وَالْعَدَدِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْبَيْعَةَ فِي رَأْيٍ. وَالتِّسْعَةُ: فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى وَسِنِّ الْحَيْضِ وَالْإِنْزَالِ. وَالْعَشَرَةُ: فِي سِنِّ الضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالثَّلَاثُونَ: فِي أَوَّلِ نِصَابِ الْبَقَرِ

(1/394)


وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَاَلَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْبَيْعَةَ عَلَى رَأْيٍ، وَأَوَّلِ نِصَابِ الْغَنَمِ. وَالسَّبْعُونَ: فِي الْخُطُوَاتِ لِلِاسْتِبْرَاءِ. وَالْمِائَةُ: فِي الدِّيَةِ ضَابِطٌ لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُضُورُ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ إلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعَدَدَ الَّذِينَ يُبَايِعُونَ الْإِمَامَ عَلَى رَأْيٍ.