الإمام في بيان أدلة الأحكام

الْفَصْل الرَّابِع
فِيمَا يصلح للدلالة على الْأَمريْنِ
وَهُوَ أَنْوَاع فندكر من ذَلِك مَا يسْتَدلّ بِهِ على غَيره
الأول كِتَابَة الْعَمَل وَحفظه {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر} {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} {سنكتب مَا يَقُول} {سنكتب مَا قَالُوا} {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} {أَحْصَاهُ الله ونسوه}

(1/127)


{اقْرَأ كتابك} {فَأُولَئِك يقرؤون كِتَابهمْ}
فَمن هَذِه الْآيَات مَا يدل على كِتَابَة المنهيات وَمِنْهَا مَا يدل على كِتَابَة المنهيات والمأمورات
الثَّانِي وضع الموازين وَهُوَ دَال على الْأَمر وَالنَّهْي جَمِيعًا إِلَّا أَن الثّقل يدل على الطَّاعَة والخفة تدل على الْمعْصِيَة كَمَا أَن أَخذ الْكتب بالأيمان يدل على الطَّاعَة وَأَخذهَا بالشمائل يدل على الْمعْصِيَة {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا} {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقرؤوا كِتَابيه} {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه}
الثَّالِث الطَّاعَة وَالتَّقوى فالطاعة عَلامَة لامتثال كل أَمر وَاجْتنَاب كل نهي وَالتَّقوى خَاصَّة بِفعل الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات

(1/128)


الرَّابِع السَّبِيل والصراط وَالطَّرِيق يحْتَمل أَن تحمل على التَّقْوَى وَيحْتَمل أَن تحمل على الطَّاعَة لِأَنَّهَا مؤدية إِلَى الثَّوَاب ومخلصة من الْعقَاب
وَلما كَانَ الطَّرِيق الْحَقِيقِيّ مُؤديا إِلَى الْمَقَاصِد صَحَّ أَن يُسمى كل من أدّى إِلَى مَقْصُود سَبِيلا وصراطا وطريقا
فَلَمَّا كَانَت الطَّاعَة مؤدية إِلَى الثَّوَاب وَالْمَعْصِيَة مؤدية إِلَى الْعقَاب سميتا بذلك تجوزا {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله} {وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} {لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم} {ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين} {وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ}
وَأما الاسْتقَامَة فَيجوز أَن تحمل على الطَّاعَة وَيجوز أَن تحمل على

(1/129)


التَّقْوَى فَيجوز أَن يكون قَوْله {فاستقم كَمَا أمرت} بِمَعْنى فأطع كَمَا أمرت وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى فَاتق كَمَا أمرت وَكَذَلِكَ فِي قَوْله {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا وَالْأولَى حمل الاسْتقَامَة فِي قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} على التَّقْوَى لتبقى لَفظه أفعل على بَابهَا لِأَن فعل الْوَاجِب وَترك الْحَرَام أقوم من فعل

(1/130)


الْمَنْدُوب وَترك الْمَكْرُوه وَلَو حملت على الطَّاعَة لكَانَتْ لَفْظَة أفعل مَحْمُولَة على غير بَابهَا وَهُوَ خلاف الظَّاهِر أَو لَكَانَ الْمُبَاح مَوْصُوفا بالاستقامة وَهُوَ على خلاف عرف الِاسْتِعْمَال

(1/131)


الْخَامِس ذكر اطلَاع الرب سُبْحَانَهُ على الْفِعْل قد يدل على التَّرْهِيب الدَّال على النَّهْي وَقد يدل على التَّرْغِيب الدَّال على الْأَمر وَقد يدل على الْأَمريْنِ {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} {وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} {وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} {وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} {إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط} {وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون} {ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} {فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم وَمَا كُنَّا غائبين} {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا لَا يخفون علينا} {وَمَا تكون فِي شَأْن وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ}
السَّادِس النَّدَم وَالْحَسْرَة فِي الْآخِرَة
من نَدم فِي الْآخِرَة على كَونه فعل دلّ ندمه على النَّهْي عَن الْفِعْل وَمن نَدم على كَونه ترك دلّ على النَّهْي عَن التّرْك وَمن تحسر على كَونه فعل أَو تحسر على كَونه ترك فَكَذَلِك وَمن أطلق الْحَسْرَة جَازَ تعلقهَا

(1/132)


بالأمرين {كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم} {يَا حسرتنا على مَا فرطنا فِيهَا} {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة} {يَا حسرة على الْعباد} {وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب} {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} {قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين}
السَّابِع تعجب الرب سُبْحَانَهُ إِن تعلق بِحسن الْفِعْل دلّ على الْأَمر بِهِ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعجب رَبك من شَاب لَا صبوة لَهُ وَإِن تعلق بقبح الْفِعْل دلّ على النَّهْي عَنهُ {وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم}

(1/133)


{بل عجبت ويسخرون} {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} {وَكَيف تأخذونه وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض} {وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله وَفِيكُمْ رَسُوله} {قَاتلهم الله أَنى يؤفكون} {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} {فَمَا أصبرهم على النَّار} والسياق مرشد إِلَى حسن الْفِعْل المتعجب مِنْهُ وقبحه كَمَا يرشد سِيَاق الْوَعْظ إِلَى أَن تحقير الشَّيْء وذمه تزهيد فِيهِ وحث على تَركه وَأَن تفخيمه ومدحه ترغيب فِيهِ وحث على فعله فَقَوله {قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل} تزهيد فِي متاعها {وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} ترغيب فِي السَّعْي لَهَا وَكَذَلِكَ قَوْله {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} وَقَوله {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع} {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور}
الثَّامِن تَعْظِيم الْفِعْل إِن كَانَ فِي سِيَاق مدح دلّ على الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَإِن كَانَ فِي سِيَاق ذمّ أَو زجر دلّ على النَّهْي كَقَوْلِه {إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما} {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}

(1/134)


{والفتنة أكبر من الْقَتْل} {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم}
التَّاسِع التوبيخ وَالْإِنْكَار إِن تعلقا بِفعل دلا على النَّهْي عَنهُ وَإِن تعلقا بترك دلا على الْأَمر بالمتروك مِثَاله فيهمَا {أَتَدعُونَ بعلا وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ} وَلَيْسَ قَوْله {أتأتون الذكران من الْعَالمين وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} من هَذَا الْقَبِيل هَذَا مِثَال التوبيخ العاجل وَأما الآجل فكقوله {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} {أولم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مَا لكم من زَوَال}
الْعَاشِر شقاوة الْآخِرَة وسعادتها لَا يُوصف بشقاء الْآخِرَة إِلَّا عَاص وَأما سعادتها فقد يُوصف بهَا الطائع وَهُوَ الْغَالِب وَقد يُوصف بهَا من لم يطع كأطفال الْمُسلمين ومجانينهم وَمن اخترم بعد الْبلُوغ وَقبل

(1/135)


التَّمَكُّن من الْفِعْل
الْحَادِي عشر الموعظة والتذكرة يدلان على الْحَث على كل حسن والزجر عَن كل قَبِيح فيدلان على الْأَمر وَالنَّهْي مِثَال ذَلِك فِي النَّهْي قَوْله تَعَالَى {يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا} وَقَوله {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} ومثاله فِي الْأَمر {إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا} ومثاله فِيمَا يصلح لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي {قد جاءتكم موعظة من ربكُم} {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} أَي اتعاظا لمن كَانَ لَهُ عقل {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} {قَالُوا سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين}
الثَّانِي عشر فِي الْحِكْمَة دلَالَة على جَمِيع الْأَحْكَام فَإِنَّهَا تدل

(1/136)


على شَرْعِيَّة مَا فِيهِ جلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة أَو يتَضَمَّن للأمرين جَمِيعًا وَأَحْكَام الله تَعَالَى كلهَا كَذَلِك {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب وَالْحكمَة} {ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة} إِشَارَة إِلَى مَا تقدم من المأمورات والمنهيات الَّتِي أَولهَا {لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر}

(1/137)


وَآخِرهَا {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها}
الثَّالِث عشر تمني الْهَلَاك والتسوية بالجماد يصلح للتعلق بترك التَّقْوَى فتمني الْهَلَاك كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا ليتها كَانَت القاضية} وَكَذَلِكَ طلب الْهَلَاك {يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك} وتمني التَّسْوِيَة بالجماد كَقَوْلِه {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} {يَوْمئِذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا}
الرَّابِع عشر التَّمَنِّي فِي الْآخِرَة وَإِن تعلق بِفعل دلّ على الْأَمر وَإِن تعلق بترك دلّ على النَّهْي {يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} {يَا ويلنا} {لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا}

(1/138)