البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الفصل الثاني: في
الترجيح
الترجيح
...
الفصل الثاني في الترجيح
وهو تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى بما ليس ظاهرا1 مأخوذ من
رجحان الميزان وفائدة القيد الأخير أن القوة لو كانت ظاهرة لم
يحتج إلى الترجيح قال إلكيا: الترجيح إظهار الزيادة لأحد
المثلين على الآخر أصلا مأخوذ من رجحت الوزن إذا زدت جانب
الموزون حتى مالت كفته ولو أفردت الزيادة على الوزن لم يقم بها
الوزن في مقابلة الكفة الأخرى قلت: هذا حد للمرجح لا للترجيح.
وقيل: بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليعمل بالأقوى
ورجح على الأول, لأن الترجيح يجري في الظواهر والأخبار تارة,
وفي المعاني أخرى.
فالتعريف الأول يخرج منه الأخبار والظواهر, لاختصاص اسم
الأمارة بالمعاني, وهذا مندفع بالغاية.
وفيه مسائل
الأولى: أنه إذا تحقق الترجيح وجب العمل بالراجح وإهمال الآخر,
لإجماع الصحابة على العمل بما ترجح عندهم من الأخبار وأنكر
بعضهم الترجيح في الأدلة, كما ينبغي في البينات, وقال: عند
التعارض يلزم التخيير أو الوقف قال الإمام: وقد حكاه القاضي عن
البصري الملقب ب "جعل".
قال: ولم أر في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها ولعل القاضي ألزمه
إنكار الراجح إلزاما, على مذهبه في إنكار الترجيح في البينات
واستبعد الإبياري وقوع القاضي في مثل ذلك وقال ابن المنير: ليس
ببعيد, للخلاف في أن لازم المذهب هل هو مذهب؟ فإن كان القاضي
وجد له نصا فذاك, وإن لم يجده بل ألزمه بجعله مذهبا له فصحيح
عند من يرى ذلك وإن ثبت فهو قول باطل, وهو مسبوق بالإجماع على
استعماله الترجيح.
الثانية: سواء فيما ذكرنا كان الترجيح معلوما أو مظنونا قال
القاضي: لا يجوز
ـــــــ
1 انظر الوسيط ص "624" المعتمد "7/844" المنخول ص "426"
الإحكام للآمدي "4/239".
(4/425)
العمل بالترجيح المظنون, لأن الأصل امتناع
العمل بشيء من المظنون, وخرج من ذلك الظنون المستقلة بأنفسها,
لانعقاد إجماع الصحابة عليها, وما وراء ذلك يبقى على الأصل
والترجيح عمل نظر لا يستقل بنفسه دليلا, وأجيب بأن الإجماع
انعقد على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كما انعقد على
المستقل.
الثالثة أن المرجوح هل هو كالعدم شرعا, أم نجعل له أثرا؟ يخرج
من كلامهم فيه خلاف, وكلام إمام الحرمين يقتضي الأول, وكلام
غيره يقتضي الثاني وادعى الإبياري أنه المشهور, وقال: لو كان
كالعدم لما ضعف الظن بالراجح, ولذلك لا يبقى الإنسان على ظنه
في الراجح, بمثابة ما لو كان الراجح منفردا, بل ظنا بالراجح
إذا لم يعارض أقوى من ظننا به بعد المعارضة وخالف ابن المنير
ونقل الإجماع على أن المرجوح ساقط الاعتبار.
ثم للترجيح شروط:
الأول : أن يكون بين الأدلة, فالدعاوى لا يدخلها الترجيح
وانبنى عليه أنه لا يجري في المذاهب, لأنها دعاوى محضة تحتاج
إلى الدليل والترجيح بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة فليس هو
دليلا, وإنما هو قوة في الدليل.
وحكى عبد الجبار في العمدة "عن بعض أصحابهم دخول الترجيح منها,
وضعف بأن الترجيح ينشأ من منتهى الدليل, فإذا لم يكن دليلا لم
يثبت الترجيح والحق أن الترجيح يدخل المذاهب باعتبار أصولها
ونوادرها وبيانها, فإن بعضها قد يكون أرجح من بعض, ولذلك جرى
الترجيح في البينات وأما إذا تعارض عند عامي قول مجتهدين,
وقلنا: يجب تقليد الأعم, فليس هو من باب الترجيح.
الثاني : قبول الأدلة التعارض في الظاهر, ويبنى عليه مسائل:
" أحدها ": أنه لا مجال له في القطعيات, لأن الترجيح عبارة عن
تقوية أحد الطرفين على الآخر كي يغلب على الظن صحته والأخبار
المتواترة مقطوع بها فلا يفيد الترجيح فيها شيئا وما يوجد من
ذلك في كتب المتكلمين فإنما هو تعارض بين دليل وشبهه, وهذا وإن
أطبقوا عليه لكن سبق أن التعادل بين القطعيين ممكن في الأذهان,
فهلا قيل: يتطرق الترجيح إليه, بناء على هذا التعارض, كما في
الأمارات.
ثم رأيت أبا الحسين صرح بأن العلة المعلومة تقبل الترجيح, ولا
شك في جريان هذا النص, وإلا فلا فرق ولا بعد فيه, فإن ما
مقدماته أعلى وأوضح راجحا على
(4/426)
ما ليس كذلك ورأيت القاضي في التقريب "صرح
بأنه منع ذلك, بناء على أن العلوم لا تتفاوت وهي مسألة خلافية
سبقت أول الكتاب.
و "الثانية": قيل: إن الظنيات لا تتعارض, والمراد به اجتماع
ظنين بحكم واحد بأمارتين وسيأتي في أول "ترجيح الأقيسة" عن
القاضي أنه يمتنع الترجيح في الأقيسة المظنونة وتأولناه.
" الثالثة ": لا مجال له في العقليات, أعني التقليد نقله إمام
الحرمين عن إطلاق الأئمة, وحكاه في "المنخول" عن الأستاذ وقال:
هذا إشارة منه إلى أنها معارف, ولا ترجيح في المعارف, قال:
"والمختار أن العقائد يرجح البعض بالبعض فإنها ليست علوما
والثقة بها مختلفة1.
وفصل إمام الحرمين بين عقائد العامة وغيرهم2, فيجوز في عقائد
العامة, بناء على أنهم مكلفون بالاعتقاد لا بالعلم وقال
الأرموي: الحق أنا إن جوزنا للعوام التقليد فيها لم يمتنع ذلك,
وقال ابن النفيس في الإيضاح": ينبغي أن يكون المنع مختصا
بالبرهانية منها أما التي تكون فيها الحجج الظنية فلا مانع من
دخوله فيها.
وكذا قال الهندي: القطعي منها لا يقبل الترجيح, لكنه ليس
مخصوصا به, بل القطعيات الشرعيات أيضا لا تقبل الترجيح.
الثالث : أن يقوم دليل على الترجيح وهذا على طريقة كثير من
الأصوليين, لكن الفقهاء يخالفونهم وتابعهم في المحصول.
وشرطوا أن لا يمكن العمل بكل واحد منهما, فإن أمكن, ولو من
وجه, امتنع, بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من إلقاء أحدهما,
والاستعمال أولى من التعطيل قال في المحصول": العمل بكل منهما
من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر, لأن دلالة
الدليل على بعض مدلولاته تابعة لدلالته على كلها, لأن دلالة
التضمن تابعة لدلالة المطابقة, وترك التبع أولى من ترك الأصل
فإذا عملنا بكل واحد منهما من وجه دون وجه فقد تركنا العمل
بالدلالة التضمينية, وإن عملنا بأحدهما دون الثاني فقد تركنا
العمل بالدلالة السمعية.
إذا علمت هذا فالعمل بكل واحد منهما من وجه يقع على ثلاثة
أوجه:
" أحدها ": توزيع متعلق الحكم إن أمكن, كما تقسم الدار المدعى
ملكها عند
ـــــــ
1 انظر المنخول ص "426".
2 انظر البرهان "2/1357, 1358".
(4/427)
تعارض البينتين.
" ثانيها ": ينزل على الأحكام بعض كل واحد عند التعدد, بأن
يكون كل واحد منهما مقتضيا أحكاما, فيعمل بواحد منهما في
بعضها, وبالآخر في البعض الآخر, كالنهي عن الشرب والبول قائما
ثم فعله, فإن فعله يقتضي عدم الأولوية والحرج, ونهيه بالعكس
فيحمل النهي على عدم الأولوية والفعل على رفع الحرج وبيان
الجواز وكنهيه عن الاغتسال بفضل وضوء المرأة ثم فعله مع عائشة.
" ثالثها ": التنزيل على بعض الأحوال عند الإطلاق, كقوله: "ألا
أخبركم عن خير الشهود؟ أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 1 وقوله
في حديث آخر: " ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 2
فيحمل الأول على حق الله تعالى والثاني على حق الآدميين.
وهذه الطريقة أطبق عليها الفقهاء, أعني الجمع المستقل بنفسه من
غير إقامة دليل, وعزوا ذلك إلى تعارض القراءتين, كقراءة
"أرجلكم" بالنصب والخفض, فحملوا إحداهما على مسح الخف والأخرى
على غسل الرجلين, وحمل بعضهم قوله "يطهرن "و "يطهرن "إحداهما
على ما دون العشرة, والأخرى على العشرة.
وقد ذكر ذلك من أصحابنا الأصوليين الشيخ في اللمع "فقال: إذا
تعارض عامان, فإن أمكن استعمالهما في حالين استعملا, وإلا وجب
التوقف وكذا قال سليم في التقريب": إذا ورد مثل "اقتلوا
المشركين", "لا تقتلوا المشركين "فإنهما يستعملان, فيحمل كل
منهما على بعض ما تناوله, ويخص في الثاني وقيل: يتوقف فيهما.
وأما إمام الحرمين فنقل ذلك عن الفقهاء وقال: هو مردود عند
الأصوليين, بل لا بد من دليل خارج عن ذلك وأما أن يجعل أحدهما
دليلا في تخصيص التالي, والثاني في تخصيص الأول فلا سبيل إليه
وهذا تابع فيه القاضي, ثم قال: وكأن الفقهاء رأوا تصرفا في
الظواهر مستقلا بنفسه, والظاهر أنهما على تعارضهما إلا أن يتجه
تأويل وينتصب عليه دليل. قال ابن المنير: وكأن الإمام ظن أن
الفقهاء يتحكمون بتعيين
ـــــــ
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه "3/1344" كتاب الأقضية باب بيان
خير الشهود حديث "1719".
2 رواه ابن ماجة "3/791" كتاب الأجكام باب كراهية الشهادة لمن
لم يستشهد حديث "2363". وهو حديث صحيح.
(4/428)
صورة من صورة حتى تكون هذه ثابتة وهذه
مخرجة وليس كذلك, بل صنيعهم راجع إلى أن العمل مع الإمكان خير
من التعطيل والقائل بالتعارض عطلهما جميعا, والقائل بتخصيص كل
منهما ببعض صوره عمل بهما جميعا حسب إمكانه.
ثم لهم في التعيين طريقة مستأنفة, وذلك لأن صور العام لا بد أن
تتفاوت باعتبار ثبوت ذلك الحكم, فتعيين الفقهاء أولى الصور
بالحكم لأنهم لو عينوا القسم الآخر لزم عموم الحكم ضرورة أن
ثبوته في الأدنى يقتضي ثبوته في الأعلى, مثاله: إذا قابلنا بين
حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" 1 مع
قوله: " خذ من كل حالم دينارا" 2 كان الحديث الأول يقتضي أن لا
تقبل الجزية من أحد, والثاني يقتضي قبولها من كل أحد, فإذا
حملنا كلا منهما على بعض صوره نظرنا في صور الكفار وجدناها
قسمين: كتابيا وغير كتابي, فعينا الكتابي للجزية, وغيره للسيف
وليس هذا احتكاما, ولكن لما لم يكن بد من التخصيص وجدنا
الكتابي أولى بالقبول من غيره, لأنه أقرب إلى أن يستبقى, إذ له
عقيدة ما ولهذا أجاز الشرع نكاح الكتابيات دون الوثنيات, ولهذا
لما نشبت الحرب بين فارس والروم كان المسلمون يتمنون نصرة
الروم, لأنهم أهل كتاب, وكان المشركون يتمنون نصرة فارس, لأنهم
مثلهم بلا كتاب فبهذه الطريقة يعين الفقهاء صور الإثبات من صور
الإخراج, لا بالاحتكام وبذلك يزول عنهم ألسنة الطاعنين.
وأما قول الإبياري: تخصيص العمومين تعطيل لهما فلا يصح قول
الفقهاء: في الجمع عمل بهما فهذا ينتقض عليه بما إذا تعارض عام
وخاص, فإنه وافق على أن القضاء بالخاص على العام يتعين لأنه
عمل بهما.
قلت: والتحقيق إنه إذا لم نجد متعلقا سواهما تصدى لنا الإلغاء
والجمع, والأليق بالشرع الجمع وإن وجدنا متعلقا سواهما
فالمتعلق هو المتبع وهو الظاهر من تصرف الشافعي, فإنه حمل حديث
ابن بريدة على عمومه في أهل الكتاب وحديث أبي هريرة في أهل
الأوثان, فقال: لا يقضي بأحدهما على الآخر, لتساويهما في
القضاء, إلا أنه
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الإيمان باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ...} حديث "25" ورواه مسلم "1/53" كتاب الإيمان باب
الأمر بقال الناس حتى يقةلةا: لا إله إلا الله ......... حديث
"22".
2 رواه أبو داود "2/101" كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة حديث
"1576" عن معاذ ورواه الترمذي كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة
البقر حديث "2450" وابن ماحة "1803" مختصرا وهو حديث صحيح.
(4/429)
ليس له أن يقول "حتى يقولوا لا إله إلا
الله أو يعطوا" إلا وللآخر أن يقول: إنه أمره أن يدعوهم إلى
إحدى خلال إذا كانوا من أهل الكتاب وإذ تعارضا رجعنا إلى دلالة
الكتاب فقد قال تعالى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}
[التوبة: 29] فدل على أن من لم يكن من أهل الكتاب لا تؤخذ منه
الجزية, ولهذا امتنع عمر من أخذها من مجوس هجر. ومثله اختلاف
قوليه في إتمام وضوء الجنابة لأجل اختلاف روايتي عائشة وميمونة
ولم يجمع بينهما كما فعل مالك بل رجح حديث عائشة لموافقته
تشريع العبادة وكذلك فعل في القراءتين فإنه اختلف قولاه في
انتقاض وضوء الملموس لأجل تعارض قراءة "لمستم" و "لامستم" ورجح
النقض بأمر خارجي.
تنبيهان
الأول: لما كثر على عادات المتأخرين طريقة الجمع وتقديمها على
طريقة الترجيح أخذها الشيخ في شرح الإلمام" مسلمة وزاد فيها
قيدا فقال: هو عندي فيما إذا كان التأويل في طريقة الجمع
مقبولا عند النفس مطمئنة به, فإن لم يكن كذلك فالأشبه تقديم
رتبة الترجيح على رتبة الجمع, فينظر إلى الترجيح بين الرواة
بحسب حالهم في الحفظ والإتقان, لأن الأصل في الترجيح هو سكون
النفس, وسكونها إلى احتمال الغلط في بعضهم أقوى من سكونها إلى
التأويلات المستبعدة المستنكرة عندها, لا سيما مع من كانت
روايته خطأ قال: فهذا هو الذي استقر عليه رأيي ونظري, ولا أقول
هذا في كل تأويل ضعيف مرجوح بالنسبة إلى الظاهر, وإنما ذلك حيث
يشتد استكراهه ذكر ذلك في "اختلاف الأحاديث "في تقدير مدى حوض
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ولقد سمعت الشيخ أبا محمد بن عبد السلام يقول قولا أوجبته
شجاعة نفسه, لا أرى ذكره وإن كان صحيحا قلت: وذلك أن الشيخ سئل
عن حديث أنس المخرج في الصحيحين: "ما بين ناحيتيه كما بين
جرباء وأذرح" 1 قال عبد الله: فسألت عنهما فقال: هما قريتان
بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال, فأجاب الشيخ: المراد
بالناحيتين في حديث الحوض المقدر بما بين مكة وبصرى, ناحيتاه
من العرض قلت:
ـــــــ
1 الحدديث رواه البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض حديث
"6577" عن ابن عنر رصي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه عليه
وسلم قال: "أمامكم حوض كما بين جرباء وأذرج" ورواه مسلم كتاب
الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم حديث "2299"
بلفظ "إن أمامكم حوض ما بين جرباء وأذرج" والحديث مروي عن ابن
عمر رضب الله عنه.
(4/430)
وهذا الجواب ليس بصحيح, كما زعمه الشيخ,
للأحاديث المصرحة بالتسوية بين العرض والطول وفي صحيح مسلم:
"عرضه مثل طوله" 1, وفي الصحيحين روايات: "سواء", أي: عرضه
وطوله "سواء"2.
الثاني : سبق أن طريقة التنزيل على حالتين ليست على الحكم,
فعلى هذا إذا تعارض الخبران وأمكن استعمالهما في موضع الخلاف
فهو أولى من استعمالهما في غير المختلف فيه ذكره ابن القطان
قال: وهذا يقوله أصحابنا في قوله: "لا نكاح إلا بولي" 3 على
الصغار والمجانين, وحملوا "الأيم أحق بنفسها من وليها, وليس
للولي مع الثيب أمر"4 فاستعمله أهل العراق في المرأتين, وحملوا
قوله: "لا نكاح إلا بولي" على الصغار والمجانين, وحملوا "الأيم
أحق بنفسها" على البالغة العاقلة قال أصحابنا: ونحن نستعملها
في الموضع المختلف فيه, وهي البالغة, لأنا استفدنا كون الصغار
لا يعتمد عليهن إلا الولي بالإجماع, ولا وجه لتخصيص النكاح
بذلك دون غيره, فإذا صح هذا كان حملنا أولى, لأنه أكثر فائدة.
الشرط الرابع:
أن يترجح بالمزية التي لا تستقل وهل يجوز الترجيح بالدليل
المستقل؟ فيه قولان: "أحدهما": نعم, كالمزية, بل أولى, فإن
المستقل أقوى من غير المستقل و "الثاني":
ـــــــ
1 الحديث رواه مسلم "4/1798" كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا
صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر قال: قالت: يا رسول الله ما آنية
الحوض؟ فال: "والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم
السماء وكوكبها ألا في الليل المظلمة المصحية من شرب منها لم
يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الحنة من شرب منه لم
يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من
اللبن وأحلى من العسل" .
2 الحديث رواه بهذا اللفظ مسلم "4/1793" كتاب الفضائل حديث
"2292" عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "حوضي مسيرة شهروزواياه سواء وماؤه أبيض من
الورف وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه
فلا يظمأ بعده أبدا" وقوله " وماؤه أبيض من الورق" أي من
الفضة.
3 رواه أبو داود "2/229" كتاب النكاج باب في الولي حديث
"20085" والترمذي حديث "1101" وابن ماجة حديث "1881" وهو حديث
صحيح.
4 هذان حديثان ساقهما المصنف مساق حديث واحد والأول رواه مسلم
"2/1037" كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق ....
حديث "1421" عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم فال/
"الأيم أحق بنفسه من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها
صماتها" والثاني رواه أبو داود "2/233" حديث "2100" وهو حديث
صحيح.
(4/431)
واختاره القاضي وعزاه إلى الأكثرين, المنع,
لأن الرجحان وصف للدليل, والمستقل ليس وصفا له, ولأنه إن كان
دونه فهو باطل لا ترجيح فيه, وإن كان فوقه فهو مستمسك به لا
بطريق الترجيح, وإن كان مثله رجع البحث إلى الترجيح بالعدد,
ولأن الأدلة إذا تماثلت سقط الزائد, لأن أثره مثل الأول, وإلا
يلزم اجتماع المثلين والفرق بينه وبين المزية أن الفضلة مستغنى
عنها لا اتصال لها بالدليل, بخلاف الدليل, فإنه لا يمكن
الاستغناء عنه والصحيح الأول, بناء على رجوعه إلى أوصاف لا إلى
ذوات, وهو كثرة النظائر, وكثرتها وصف في الدليل, ولأن المزية
أيضا مستغنى عنها ولهذا لو فرضنا خلو الدليل منها لاستقل وقول
النافي: يلزم اجتماع المثلين, ممنوع, بل التقوية ترجع إلى
الترجيح بأوصاف لا بذوات, وهو كثرة النظائر, فإن ذلك وصف في
الدليل, وكأنا رجحنا بالتأكيد لا بالتأسيس, لأن التأكيد يبعد
احتمال المجاز.
وفصل صاحب المقترح "فقال: إن كان الدليل المستقل مغنيا عن
الأول لم يصح الترجيح به, لأنه تطويل بلا فائدة وإن لم يكن
مغنيا عنه صح الترجيح به, لأنه مانع منه ومثل الأول بما إذا
تمسك بقياس فعورض بقياس, فرجح قياسه بالنص, فهذا لا يصح, لأن
النص الذي رجح به يغني عن القياس, فإن ذكر القياس تطويل بلا
فائدة ومثل الثاني بما إذا تمسك بنص وهذا التفصيل لا يرجع إلى
أمر أصولي, بل إلى أمر جدلي اصطلاحي.
وانبنى على هذا الخلاف في هذا الأصل مسائل كثيرة:
"منها": أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة عندنا, خلافا للحنفية,
لأن الظنين أقوى من الظن الواحد, فيعمل بالأقوى.
و "منها": ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواية, لأن
العدد إذا كثر قرب من التواتر فالتحق بتقديم المتواتر على
الآحاد والخلاف في هذا أضعف ولهذا وافق هنا من خالف ونقل إمام
الحرمين عن بعض المعتزلة المنع, كالشهادة, وقال: الذي ذهب إليه
الأكثرون الترجيح به, لأنه يورث مزيدا في غلبة الظن وسيأتي فيه
مزيد كلام.
و "منها": أنه انضم إلى أحد الخبرين قياس, قال إمام الحرمين:
فالذي ارتضاه الشافعي تقديم الحديث الموافق للقياس وقال
القاضي: لا مرجح به, لأنه ظن مستقل فتساقطا, ويرجع إلى القياس,
فالمسلكان يفضيان إلى حكم القياس, ولكن الشافعي يرى تعليق
الحكم بالخبر الراجح بموافقة القياس فالقاضي يعمل بالقياس
ويسقط
(4/432)
الخبر.
فإن قلت: فالخلاف لفظي قلت: بل يرجع إلى أن المسألة توقيفية أو
قياسية, ويظهر أثر ذلك فيما لو حكم به حاكم ينقض والصورة أنه
غير جلي.
وفي المسألة مذهب ثالث حكاه أبو العز في شرح المقترح": التفصيل
بين ما يظهر من قصد الشارع إرادة المجمل الظاهر فلا يصح عضده
بقياس, وإن لم يظهر قصده لذلك فيصح, تفرقة بين تأييده ظهور
اللفظ في المعنى لظهور القصد وبين ما لم يتأيد بذلك.
وقال إلكيا: إن كان مع أحدهما قياس, وفي الجانب الآخر مزيد
وضوح كزيادة الرواة والعدالة فيحتمل أن يعمل بالقياس,
لاستقلاله, ويحتمل خلافه من جهة أن القياس حجة ضرورة عند فقد
النص, ودلالة النص ثابتة في أحد الجانبين, إلا أن يقال: إنها
ضعفت بالتعارض والقياس مستقل فيتعارض النظران, قال: والأشبه
بمذهب الشافعي تقديم الخبر الراجح, ثم حكى قولا أنه كالحكم قبل
ورود الشريعة, فيجيء فيه الخلاف المشهور.
و "منها": أن يكون أحد الخبرين أقرب إلى القواعد, والفرق بين
هذا والذي قبله أن في هذا له مخالفة القياس, فإذا ثبت أن مخالف
القياس يرجح فكلما كان أقل مخالفة كان أكثر قربا, فكان أرجح,
فإنا لو أردنا أن نثبت القياس على وفق أحد الخبرين لعجزنا ولا
يجيء هنا خلاف القاضي بالتساقط, إذ لو أسقطناها لم نقدر على
إثبات هيئة القياس, فتعين العمل بأحدهما بمرجح القرب.
مسألة
قال ابن كج: يقع الترجيح بوجوه: ذكرها الشافعي:
أحدها : بكثرة الرواة, على اختلاف القولين
ثانيها : بالنقل, فإنه يكون أحدهما موافقا لما قبل الشرع,
والآخر ناقلا, فيقدم, لأن معه زيادة, كما لو شهدا بأن هذه
الدار لزيد خلفها لورثته, وشهد آخران بأنه باعها من عمرو, تقدم
بينة البيع, لأن أولئك بنوا على الحال الأول.
ثالثها : أن يتقدم أحدهما, فالمتأخر أولى, لقول ابن عباس: كنا
نأخذ بالأحدث فالأحدث.
رابعها : أن يكون أحدهما أشبه باستعمال الصحابة.
(4/433)
خامسها : أن يكون أحدهما أشبه باستعمال
الفقهاء.
سادسها : أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن, لأن السنن أكثرها
لها أصل في الكتاب إما نصا أو استدلالا.
سابعها : أن يكون أشبه بالقياس.
وهذا كله سيأتي مفصلا, ولكن أحببت معرفته من كلام الشافعي
مجموعا قال ابن كج: وإذا اجتمع مرجحات في خبر, واثنان في خبر,
فالذي اجتمع فيه الثلاثة أولى, لأنه أكثر.
(4/434)
مسألة :
إذا تعارض نصان1, فإما أن يكونا عامين أو خاصين, أو أحدهما
عاما والآخر خاصا, أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه
آخر. فهذه أربعة أنواع وكل واحد من هذه الأنواع ينقسم ثلاثة
أقسام: لأنهما إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما
معلوما والآخر مظنونا, فحصل اثنا عشر, وكل منها إما أن يعلم
تقدمه أو تأخره أو يجهل فتصير القسمة من ستة وثلاثين:
أما النوع الأول: فهو أن يكونا معلومين, ويقع على ثلاثه أضرب:
"الضرب الأول": أن يكونا معلومين وعلم التاريخ, فالمتأخر ناسخ
للمتقدم2, سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا
عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس. أما من يمنعه فيمنع الفسخ
في هذا الأخير, قاله الهندي. وقال الأرموي الشافعي: وإن لم نقل
بوقوع نسخ الخبر المتواتر بالكتاب, ولا بالعكس, ولكنه إذا
تعارضا وأحدهما متقدم تعين المتأخر, وهذا إذا كان حكم المتقدم
قابلا للنسخ, وإلا كصفات الله تعالى قال الإمام: فيتساقطان,
ويجب الرجوع إلى دليل. واعترض عليه النقشواني, فإن المدلول إذا
لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر, فلا يعارض المتقدم, بل
يجب إعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر.
قلت: وهذا إذا كان نقل التاريخ متواترا أيضا, فإن كان النصان
متواترين والنسخ آحادا فيتجه فيه طريقتان:
ـــــــ
1 انظر فواتح الرحموت "2/189" المستصفى "2/395" إرشاد الفحول ص
"173".
2 انظر المنخول ص "429" شرح تنقيح الفصول ص "421" المستصفى
"2/393".
(4/434)
" إحداهما ": إجراء خلاف مبني على النسخ
بالآحاد, فإن جوزناه نسخنا بما دلت الآحاد على أنه متقدم,
وعملنا بالمتأخر. وإن منعناه حكمنا بتعارض الظنين ورجعنا إلى
الأصل أو التخيير.
و" الثانية ": القطع بقبول الآحاد في تاريخ المتواتر, وهي
الصحيحة, لأن انسحاب العمل بالمتواتر في سائر الأزمنة مظنون,
فما رفضنا إلا مظنونا بمظنون, وأما عكس هذه الصورة, أن يفرض
التاريخ متواترا, أو المتن آحادا, فهذا غير متصور.
هذا كله إذا علم المتقدم, فإن علم مقارنتهما, فإن أمكن التخيير
بينهما تعين القول به, فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا
التخيير, وإن جهل التاريخ تساقطا ووجب الرجوع إلى غيرهما,
لجواز أن يكون كل واحد منهما هو المتأخر فيكون ناسخا, إذ
التقدم يكون منسوخا. هكذا أطلقوه.
وهذا إذا لم يمكن تطرق النسخ إلى أحدهما, فإن أمكن فالشافعي
يرجح ما لا يتطرق إليه ذلك, ورآه أولى من الحكم بتساقطهما,
حكاه عنه الإمام في البرهان "وذكر له مثالين تخرج منهما
صورتان: "إحداهما": إذا أرخ أحدهما وسكت الآخر عن التاريخ,
كحديث "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" 1 مع جلوس النبي صلى
الله عليه وسلم في مرض وفاته والمقتدون به قيام2. والحديث
الأول مطلق, فغلب على الظن أنه كان قاله في صحته. و "الثانية":
أن يكون إسلام راوي أحدهما متأخرا عن إسلام الآخر, كحديث قيس
بن طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر3, وهو متقدم الإسلام,
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الأذان باب إنما جعل الإمام ليؤنم به حديث
"689" ورواه مسلم حديث "411".
2 يشير إلى ما رواه البخاري كتاب الأذان باب من قام إلى حنب
الإمام لعلة حديث "683" ورواه مسلم كتاب الصلاة باب استخلاف
الإمام – إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرها – من يصلي بالناس
.... حديث "418" عن عائشة رضي الله عنها وفيه "ثم إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فحرج بين رجلين – أحدهما
العباس – لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر
ذهب ليتأحر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأحر
وقال لهما: "اجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى حنب أبي بكر وكان
أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس
يصلون بصلاة أبي بكر والنبيي صلى الله عليه وسلم قائد.
3 يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود في سننه "1/46" كتاب
الطهارة حديث "182" عن فيس بن طلق قال: قدمنا على نبي الله صلى
الله عليه وسلم فجاء رجل كان بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في
مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال "هل هو إلا مضغة منه" أو قال
"بضعة منه" ورواه الترمذي حديث "85" والنسائي حديث "165" وابن
ماحة حديث "483" وهو حديث صحيح.
(4/435)
مع حديث أبي هريرة بالنقض1, وهو متأخر
الإسلام, فيتطرق النسخ إلى حديث قيس.
ثم حكى الإمام عن قوم بقاء التعارض, إذ لا يصار إلى الفسخ
بمجرد الاحتمال, ثم توسط فقال: إن عدم المجتهد متعلقا سواه
فكقولي. الشافعي, لأنه أولى من تعطيل الحكم وتعرية الحادث عن
موجب الشرع, وإن وجد غيرها ووجد القياس مضطربا عدل عنهما وتمسك
بالقياس, ثم الخبر الذي بعد ظن النسخ يستعمل مرجحا لأحد
القياسين على الآخر.
وهذا التفصيل يفرض المسألة في قياسين تعارضا أو خبرين كذلك.
وهو مخالف لتصويره السابق في تعارض خبرين مطلقا, سواء وجد
القياس مع كل منهما أو مع أحدهما أو لم يوجد ألبتة. وأورد
الإبياري على تفصيله أنه هلا عمل بالخبر الراجح وجعل القياس
الموافق له مرجحا؟ وأجاب ابن المنير بأنه لما لم يجد في
التوقيف مستندا استأنف الظن في الأقيسة فوجدها أيضا متعارضة,
ولكن وجد أحد قياسيه على وفق الخبر الراجح, فجعل القياس
مستندا, لأنه لو جعل الخبر الراجح مستندا بعد أن سبق منه إلغاء
كونه مستندا لكان نقضا لحكم ثبت. وحاصل الخلاف يرجع إلى أن
المسألة توقيفية أو قياسية, ويظهر أثره في نقض حكم الحاكم.
ونقل ابن المنير في الصورة الأولى أن مذهب مالك يقدم المؤرخ
على المهمل, لأن المؤرخ يقطع به في وقت معين, بخلاف المهمل
فإنه ما من وقت إلا ويحتمل فيه الثبوت والعدم, فيقدم المقطوع
به في تاريخ معين, لأن المبين مقدم على المجمل, فالترجيح في
هذه الصورة مبني على المقابلة بين البيان والإجمال, والترجيح
في الثانية مبني على المقابلة بين الإجمال القوي والضعيف. وهذا
يرد إيراد الإبياري على المنقول عن الشافعي احتمال أن متأخر
الإسلام تحمل في حال الكبر. وجوابه: أن التحمل في حال الإسلام
أغلب, وقبل الإسلام أندر, فيقدم الغالب على النادر, وليس كل
احتمال واقعا, فتأمل هذا الفصل, فإن معرفته من غايات الآمال.
"الضرب الثاني": أن يكونا مظنونين, فإن علم تقدم أحدهما على
الآخر نسخ المتأخر المتقدم, وإلا وجب الترجيح, فيعمل بالأقوى.
الضرب الثالث": أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا, فإن علم
تقدم أحدهما, وكان هو المظنون, كان
ـــــــ
1 لم أجده من رواية أبي هريرة.
(4/436)
المعلوم المتأخر ناسخا وإن كان المعلوم
متقدما, ما لم ينسخه المظنون فنعمل بالمعلوم. وإن جهل عمل
بالمعلوم, سواء علمت المقارنة أو لا.
النوع الثاني: أن يكونا خاصين, فإما أن يكونا معلومين أو
مظنونين, أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا, والحكم فيها ما تقدم
في النوع الأول. قال سليم: إن تعارض نصان فإن كانا من أخبار
الآحاد وعلم تقدم أحدهما نسخه المتأخر, وإلا قدم أحدهما على
الآخر بضرب من الترجيح. وإن كانا قطعيين, كالآيتين والخبرين
المتواترين, وعلم تقدم أحدهما نسخه المتأخر, وإن لم يعلم توقف
فيهما ولم يقدم أحدهما على الآخر بترجيح, لأن الترجيح طريقة
غلبة الظن فلا يدخل في تقوية ما طريقه القطع.
النوع الثالث: أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصا, كقوله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [لبقرة:
221] مع قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ففيه الأقسام
الثلاثة. فإن كانا معلومين فإن علم تقدم العام وتأخر الخاص,
فأطلق في المحصول وغيره أن الخاص يكون ناسخا, أي: العام في ذلك
الفرد الذي تناوله الخاص. وهذا حكاه الشيخ في اللمع "عن بعض
الأصحاب, وقال: إنه بناء على أن تأخر البيان عن وقت الخطاب لا
يجوز, وهو قول المعتزلة.
قال: والمذهب أن يقضي بالخاص على العام مطلقا. وقيل: يتعارضان,
وهو قول القاضي. وقالت الحنفية: إن كان الخاص مختلفا فيه
والعام مجمعا عليه لم يقض به على العام. وإن كان متفقا عليه
قضى به على العام.
وقال الهندي: ما قال في المحصول موضعه إذا ورد بعد مظنون وقت
العمل بالعام, فإن ورد قبل حضور وقته كان الخاص المتأخر مخصصا
للعام المتقدم. وأما من لا يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت
الخطاب فعنده في الصورتين يكون الخاص خاصا, وعليه يحمل إطلاق
المحصول", وبذلك صرح سليم في التقريب", وإن علم تقدم الخاص
فعندنا يبنى العام على الخاص, وعند الحنفية: ينسخه, وإن علم
مقارنتهما فيكون الخاص مخصصا للعام.
وإن جهل يبنى العام على الخاص عندنا, وعندهم يتوقف فيه. وقال
سليم: الحكم في المسألتين - أعني المقارنة وجهل التاريخ - أن
يبنى العام على الخاص. وقال عيسى بن أبان والكرخي: إن علم
للصحابة فيه استعمال عمل به, وإلا وجب
(4/437)
التوقف.
وإن كانا مظنونين فالحكم فيه كما كانا معلومين. إن كان أحدهما
معلوما والآخر مظنونا قال الإمام: فهاهنا اتفقوا على تقديم
المعلوم على المظنون, إلا إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا
ووردا معا, وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد
والقياس.
قال الهندي: وهو غير مرضي, لإشعاره بأن ذلك يختص بحالة ورودهما
معا, لكنه ليس كذلك لأمرين: " أحدهما ": لو تأخر الخاص المظنون
عن العام المعلوم, وكان قبل حضور وقت العمل بالعام المعلوم,
كان أيضا مخصصا وكان اختلاف الناس فيه كما في المتقارنين. نعم,
يستقيم ذلك على مذهب المعتزلة.
و" ثانيهما ": لو تقدم الخاص المظنون على العام المعلوم فإنه
يبنى العام عليه عندنا, وهو تقديم الخاص المظنون على العام
المعلوم, مع أنهما لم يردا معا. وحينئذ فالحكم في هذا تقديم
المعلوم على المظنون إلا في هذه الصور الثلاث: الصورة التي
ذكرها الإمام, والصورتين اللتين ذكرناهما.
النوع الرابع: أن يكون كل منهما عاما من وجه خاصا من وجه,
فيمكن أن يخص كل واحد منهما عموم الآخر, كقوله تعالى: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مع قوله: {أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3], فإن الأولى خاصة في
الأختين عامة في الجمع في ملك اليمين, والثانية عامة في
الأختين وغيرهما, خاصة في ملك اليمين. وكقوله عليه السلام: "من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1 مع نهيه عن الصلاة
في الوقت المكروه2. فإن الأول خاص في وقت القضاء عام في
الأوقات, والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات. ففيه الأقسام
الثلاثة أيضا.
فإن كانا معلومين وعلم المتقدم فالمتأخر ناسخ عند من يقول: إن
العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم, بل هنا أولى, لأنه لم يخلص
خصوص الأول. وأما عند من لا يقول به فاللائق بمذهبه أن لا يقول
بالنسخ هنا كما في الأول من جهة الخصوص, وفي
ـــــــ
1 لم أجده بهذا اللفظ.
2 يشبر إلى الحديث الذي رواه مسلم "1/568" كتاب صلاة المسافرين
باب الأوقات التي نهي عن الثلاة فيها حديث "831" عن عقبة بن
عامر الحهني قال "ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم
ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس
بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين
تضيف الشمس للغروب" .
(4/438)
الثاني من جهة العموم, بل يذهب في الترجيح
وإن لم يعلم ذلك, سواء علمت المقارنة أو لم تعلم أيضا فاللائق
بالمذهبين أن يصار إلى الترجيح بكون أحدهما حظرا والآخر إباحة,
أو بكون أحدهما مثبتا والآخر منفيا, أو شرعيا والآخر فعليا.
لأن الحكم بذلك طريقه الاجتهاد, وليس في ترجيح أحدهما على
الآخر إطراح الآخر, بخلاف المتعارضين من كل وجه.
وأما إذا كانا مظنونين فكما في المعلومين, إلا أنه يرجح فيها
بقوة الأشباه. وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا, فإن علم
تقدم المعلوم عمل به لكونه معلوما, وإن علم تأخيره عمل به
لكونه ناسخا1. وهذا على رأي من ينسخ الخاص بالعام.
وأما على رأينا فالعمل بالمعلوم لكونه معلوما لتعذر النسخ وإن
لم يعلم ذلك, سواء علم التقارن أو جهل, فإنا نحكم بالمعلوم
لكونه. معلوما.
هذا حاصل ما ذكره أبو الحسين في المعتمد", وتابعه صاحب المحصول
وغيره. وأطلق الشيخ في اللمع "وسليم في التقريب "وغيرهما أنهما
يتعارضان ولا يقدم أحدهما على الآخر بدليل, وفي جواز خلو مثل
هذا عن الترجيح قولان. وإذا خلا سقطا ورجع المجتهد إلى
البراءة, ونقل سليم عن أبي حنيفة - رحمه الله - تقديم الخبر
الذي فيه ذكر الوقت, لأن الخلاف واقع في الوقت, فقدم ما فيه.
وذكر الصيرفي في "الدلائل" في تعارض الآيتين أنه إن كان هناك
توقيف صرنا إليه, وإن لم يكن إلا العموم ففيها وجهان:
"أحدهما": أنا ننظر إلى أيهما أعم اللفظين بوجه, فيجعل الآخر
في الخاصة. و "الثاني": إلى أي اللفظتين ابتدئ بها فالأخرى
معطوفة عليها, لأنك لو أثبت اللفظة الثانية كان فيها رفع ما
ابتدئ بذكره, فلا يجوز أن يثبت من الثانية إلا ما لا يبطل
الأولى فيكون موافقا للثاني على ما قلنا في الترتيب كأنا قلنا:
كل ملك يمين فهو مباح, لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فذكر عموم الزوجات وعموم ملك
اليمين, فكان أخص مما ذكرت من الزوجات وملك اليمين, فثبت أن
الجمع بين الأختين الملك والنكاح مستثنى من عموم قوله: {إِلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
[المؤمنون: 6] ولم يصح أن تقابل الآية بالآية الأخرى لما
وصفته, انتهى.
قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة من مشكلات الأصول, والمختار
عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة
إلى الآخر. قال: وكأن
ـــــــ
1 انظر المنخوب ص "427" اللمع ص "66" الإحكام للآمدي "4/241".
(4/439)
مرادهم الترجيح العام الذي لا يخص مدلول
العموم, كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول
العموم من حيث هو مدلول العموم.
وذكر أبو الحسين في المعتمد "التفصيل السابق ثم قال: وقال
الفاضل أبو سعيد محمد بن يحيى, فيما وجدته معلقا عنه: العامان
إذا تعارضا فكما يخصص هذا بذاك لمعارضته أمكن أن يخصص ذلك
بهذا, وليس أحدهما بأولى من الآخر فينظر فيهما: إن دخل أحدهما
تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص. وكذلك إذا كان أحدهما
مقصودا بالعموم رجح على ما كان عمومه اتفاقا. انتهى.
قلت: وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة
في الوقت المكروه, فإنه قال: لما دخلها التخصيص بالإجماع في
صلاة الجنازة ضعفت دلالتها تقدم عليها أحاديث المقضية وتحية
المسجد وغيرها. ولذلك نقول: دلالة {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] على تحريم الجمع مطلقا في النكاح
والملك أولى من دلالة الثانية على جواز الجمع باليمين, لأن هذه
الآية ما سيقت لبيان حكم الجمع.
مسألة
إذا عارض قياس مستنبط من نص كتاب ما في حديث آحاد, فقيل: إن
سميناه قياسا رجحنا عليه الخبر, لأن مستنده مقطوع به, قال في
المنخول": والمختار أنه لا يرجح عليه, لأن تسميته قياسا يرجع
للقب وهو مقطوع به كالمنصوص, وأخبار الآحاد تقدم على قياس
المستنبط من القرآن.
مسألة
قال الصيرفي: كل متعارضين لا يخرجان عن وجه من أوجه ثلاثة:
" أحدها ": أن لا يكون لها في الأصل حكم معلوم, كالواقع
بابتداء الشرع, مثل الإحداث في الوضوء, فيترك اعتقاد الأمر
بأحدهما والنهي عن الآخر, لأنا لا ندري أيهما الأولى, ويصار
إلى ما عضده الدليل أو رجحه بقياس أو حفظ أو كثرة عدد.
و" ثانيها ": أن يكون مما يجب إباحته أو حظره فأي الخبرين جاء
بخلاف ما كان متقدما في العقل والشرع فالخبر هو الذي معه دليل
الانتقال, لأن الخبر إنما جاء بتوكيد ما تقدم, وقد علم زوال
الأول إلى الثاني ولم يعلم زوال الثاني, كقوله عليه
(4/440)
السلام: "فيما سقت السماء العشر" 1 وقوله:
"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 2.
و" ثالثها ": أن يكون مباحا, فيأتي بمثل ما جاء به الحكم,
كالمزارعة, فإن الناس كانوا يستبيحون المزارعة بالثلث والربع,
فنهى عنهما, وورد الخبر بإجازتهما, ولم يفد شيئا أفاد فيما كان
الناس عليه, فخبر النهي أولى بالاستعمال, هذا إذا علم تقريره
على المزارعة مدة ثم جاء الخبران, فإن كانوا مستعملين لها ولا
يعلم أنهم أقروا عليها, فإذا جاء النهي عنها ثم جاء الخبر
بإجازتها نظر فيهما على هذا الحال.
فأما آي القرآن, فكل آية وردت بإباحة شيء في جملة الخطاب,
كقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] فأخبر بتحريم شيء مما تضمنته الآية
فهي مخصوصة لا محالة. ولو جاء خبر بتحليل ما جاء الخبر الآخر
بتحريمه نظر في الخبرين, لأن أحدهما يوجب خصوص الآية والآخر
يوجب عمومها وليس هذا مما يصلح أن يأتي بعد الحظر ولا قبله ولا
في الأخبار, لأن السنة لا تنسخ القرآن, فإن كان الحظر بيان
الآية لم يجز أن يرفع ذلك بالخبر, لأنه يكون نسخا للقرآن,
ويكون خبر التحليل بإزاء خبر التحريم, فكأنه لم يقم دليل
الخصوص, فإن قوي أحدهما على صاحبه فالحكم له, قال: ويجيء
الخبران مختلفين, والإنسان مخير بينهما, كالإفراد والقران
والتمتع للحاج, فلا يضر ذلك الاختلاف وإن كان محالا أن يفعله
النبي صلى الله عليه وسلم في حجة واحدة, وإن لم يمكن
استعمالهما كخبر ميمونة "نكحها وهو محرم" و "ما نكحها إلا وهو
حلال"3. فأحدهما غلط من الراوي فيصار إلى الدليل يعضد أحدهما.
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الزكاة باب العشر فيما يسقي من ماء
السماء.... حديث "1483".
2 حديث صحيح سبق تحريجه.
3 روى مسلم في صحيحه "2/1031" حديث "1410" عن ابن عباس "أن
النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميموتة وهو محرم" زاد ابن نمير
فحدثت به الزهير فقال: أخبرني يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو
حلال.
(4/441)
سبب الاختلاف في
الروايات
قال الشافعي - رحمه الله - في الرسالة"1: ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول القول عاما يريد به العام, وعاما يريد به
الخاص, ويسأل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة, ويؤدي عنه
المخبر الخبر مبعضا, والخبر مختصرا, والخبر يأتي ببعض معناه
دون بعض, ويحدث الرجل عنه الحديث قد أدرك جوابه ولم يدرك
المسألة على حقيقة الجواب
ـــــــ
1 أنظر: الرسالة ص (213).
(4/441)
لمعرفته السبب الذي يخرج عليه الجواب, ويسن
في الشيء سنة وفيما يخالفه أخرى فلا يخلص بعض السامعين من
اختلاف الحالتين اللتين سن فيهما, ويسن سنة في نص معناه
فيحفظهما حافظ آخر في معنى, يخالفه في معنى, ويجامعه في معنى
سنة غيرها لاختلاف الحالين فيحفظ غيره تلك السنة, فإذا أدى كل
ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافا, وليس فيه شيء. ويسن بلفظ
مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو تحليله, وليس في غيره خلاف
الجملة فيستدل على أنه لم يرد بما حرم ما أحل, ولا بما أحل ما
حرم. قال: ولم نجد عنه شيئا مختلفا فكشفناه إلا وجدنا له وجها
يحتمل به أن لا يكون مختلفا, وأن يكون داخلا في الوجوه التي
وصفت. انتهى.
(4/442)
القول في ترجيح
الظواهر من الأخبار المتعارضة
وهو إنما يكون بالنسبة إلى ظن المجتهد, أو بما يحصل من خلل
بسبب الرواة, كما سبق.
وأما التعارض في نفس الأمر بين حديثين صحيحين فغير صحيح, قال
ابن خزيمة: لا أعرف أنه روي عن الرسول حديثان بإسنادين صحيحين
متضادين, ومن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما. وقال الشافعي
في الرسالة"1: ولم نجد حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج, أو على
أحدهما دلالة إما موافقة كتاب الله أو غيره من السنة أو بعض
الدلائل. انتهى.
وهو باعتبارين: "أحدهما" أن يرجح أحدهما على الآخر من جهة
الإسناد, و "الثاني" بالمتن.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "216".
(4/442)
أما الترجيح
بالإسناد فله اعتبارات
أولها: بكثرة الرواة.
فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل بخلافه, كاحتجاج الحنفية
على عدم الرفع في الركوع, بحديث إبراهيم, عن علقمة, عن ابن
مسعود, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة
الإحرام, ثم لا يعود1 فيقول: قد روى الرفع ثلاثة وأربعون
ـــــــ
1 يشير إلى مارواه أبو داود في سننه "1/200" حديث "749" عن
البراء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة
رفع يديه إلى قريب من أذنه ثم لا يعود" وهو حديث ضعيف, وليس
بهذا اللفظ من رواية ابن ممسعود من رواية الراء والذي رواه أبو
داود "1/199" حديث "748" عن ابن مسعود أنه قال: "ألا أصلي بكم
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فصلى فلم يرفع يديه
إلا مرة", قال أبو داود: هذا حديث مختصر من حديث طويل وليس هو
بصحيح على هذا اللفظ.
قال في تحفة الأحوذي احنجت الحنفية على عدم استحباب رفع الأيدي
في غير تكبيرة الإحرامك بهذا الحديث لكنه لا يصلح للاحتجاج
لأنه ضعبف غير ثابت قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير
"1/221" قال ابن مبارك: لم يثبت عندي وقال ابن حاتم عن أبيه
قال: هذا حديث خطأ. وقال أحمد بن حنبل وشيخه يخيى بن آدم: هو
ضعيف نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك وقال أبو داود ليس
هو بصحيح وقال الدارقطني لم يثبت. وقال ابن حبان في الصلاة:
هذا أحسن خبر روي لأهل الكوفة في نفيص رفع اليدين في الصلاة
عند الركوع وعند الرفع منه وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه
لأن له عللا تبطله. وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق
عاصم بن كليب الأولى. أما طريق محمد بن جابر فذكره ابن الجوزي
في الموضوعات وقال عن أحمد: محمد بن جابر لا شيء ولا يحدث عنه
إلا من هو شر منه. انتهى.
(4/442)
القول في الترجيح من
جهة المتن
وهو باعتبارات:
الأول - الترجيح بحسب اللفظ:
ويقع بأمور:
" أولها " فصاحة أحد اللفظين, مع ركاكة الآخر وهذا إن قبلنا
كلا منهما, فإن لم نقبل الركيك, كما صار إليه بعضهم, لم يكن
مما نحن فيه.
وقال قوم: يرجح الأفصح على الفصيح, لأن الظن بأنه لفظ النبي
عليه الصلاة والسلام أقوى. والصحيح أنه لا يرجح به, لأن البليغ
قد يتكلم بالأفصح والفصيح, لا سيما إذا كان مع ذوي لغة لا
يعرفون سوى. تلك الفصيحة, كرواية: "ليس من امبر امصيام في
امسفر" 1.
" ثانيها " يرجح الخاص على العام. قال إلكيا: والفقه على ذلك
يدور, كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 24] ثم روي أنه نهى عن نكاح المتعة, والشغار,
والمحرم, ونكاح المرأة على عمتها, والنكاح بلا ولي وشاهد. وقال
تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}
[البقرة: 275] ثم نهى عن بيع الغرر, والحصاة, وبيعتين في بيعة,
وبيع وسلف. وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الآية, ثم نهى عن أكل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير2, ولئن حمل حامل النهي على التنزيه
بدلالة العموم وجد مقالا, ولكن يقال: الخاص يقضي على العام,
فإن الخاص أقرب إلى التعيين من الجملة إذ لا يبعد أن يقصد بها
تمهيد الأصول.
" ثالثها " يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي خص. نقله
إمام الحرمين عن المحققين, وجزم به سليم وعللوه بأن دخول
التخصيص يضعف اللفظ, ولأنه يصير به مجازا على قول. وقال الإمام
الرازي: لأن الذي قد دخله قد أزيل عن
ـــــــ
1 بهذا اللفظ رواه أحمد في مسنده "3/319" خديث "14466" وهو
حديث صحيح.
2 الحديث رواه مسلم كتاب الصيد والذبائح باب تجريم أكل ذي ناب
من السباع ...حديث "1934" عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من
الطير" ورواه البخاري حديث "5530" عن أبي ثعلبة مختصرا.
(4/458)
تمام مسماه, والحقيقة تقدم على المجاز,
واعترض الهندي بأن المخصوص راجح من حيث كونه خاصا بالنسبة إلى
ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص. وحكى ابن كج التقديم عن قوم,
ووجهه بإجماعهم على التعلق بما لم يخص. واختلفوا فيما خص.
قال: وعندنا: أنهما سواء, ولا فرق بينهما لاستوائهما في حكم
سماع الحادثة من هذا اللفظ كهو من اللفظ الآخر. وأيضا فإن
المخصوص يدل على قوته, لأنه قد صار كالنص على تلك العين, قال:
وقد أجمعوا كلهم على أن العموم إذا استثني بعضه صح التعلق به.
واختار ابن المنير مذهبا ثالثا, وهو تقديم العام المخصوص على
العام الذي لم يخص, لأن المخصوص قد قلت أفراده حتى قارب النص,
إذ كل عام لا بد أن يكون نصا في أقل متناولاته, فإذا قرب من
الأقل بالتخصيص فقد قرب من التنصيص فهو أولى بالتقدم.
" رابعها " يتقدم العام المطلق على العام الوارد على سبب, إن
قلنا: العبرة بعموم اللفظ لأنه يوهنه ويحطه عن رتبة العموم
المطلق, ومبنى الترجيح على غلبة الظنون, قاله الإمام في
البرهان", وسبق مثله عن إلكيا, وقطع به الشيخ في اللمع "وسليم
في التقريب", وصاحب المحصول وغيرهم, قالوا: لأن الوارد على غير
السبب متفق على عمومه, والوارد على سبب مختلف في عمومه.
قال الهندي: ومن المعلوم أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة
إلى ذلك السبب, وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت
العامين فلا, والمراد من قولهم الوارد على سبب راجح, أي
بالنسبة إلى المسبب, لا بالنسبة إلى الأفراد, وإن كان كلامهم
مطلقا غير مقيد بحالة دون حالة, قلت: وإليه أشار ابن الحاجب
بقوله في المسبب.
" خامسها " ترجيح الحقيقة على المجاز, لتبادرها إلى الذهن,
وهذا ظاهر إذا لم يغلب المجاز, فإن غلب كان أظهر دلالة منها,
فلا تقدم الحقيقة عليه.
" سادسها " أن يكون مجاز أحدهما أشبه بالحقيقة, فيقدم على ما
مجازه يشبهها.
" سابعها " المشتمل على الحقيقة العرفية أو الشرعية على
المشتمل على الحقيقة اللغوية1. قال في المحصول": وهذا ظاهر في
اللفظ الذي صار شرعيا, أي بأن
ـــــــ
1 انظر ان الحاجب والعضد عليه "2/313" الإحكام للآمدي "4/252".
(4/459)
يكون اللفظ واحدا والمعنى في أحد الخبرين
يدل على المعنى الشرعي, وفي الآخر على اللغوي. أما الذي لم
يثبت ذلك فيه, مثل أن يدل هذا اللفظ بوضعه الشرعي على حكم
واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم, وليس للشرع في هذا اللفظ
اللغوي عرف شرعي, فلا يسلم ترجيح الشرعي على اللغوي, لأن هذا
اللغوي إذا لم ينقله الشرع فهو لغوي عرفي شرعي. وأما الثاني
فهو شرعي وليس بلغوي ولا عرفي, والنقل خلاف الأصل.
" ثامنها " والخبر المستغنى عن الإضمار في الدلالة على المفتقر
إليها.
" تاسعها " يقدم الخبر الدال على المراد من وجهين على الدال
عليه من وجه واحد, كقوله عليه السلام: " إنما الشفعة فيما لم
يقسم " فقضيته أن ما يقسم لا شفعة فيه, ثم قال: "فإذا وقعت
الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" 1 فيقدم على رواية "الجار أحق
بشفعته" 2 لأن هذا الحديث يدل بوجه, وحديثنا يدل بوجهين.
" عاشرها " ترجيح الخبر الدال على الحكم بغير واسطة على ما يدل
عليه بواسطة, لزيادة غلبة الظن بقلة الواسطة, كقوله عليه
الصلاة والسلام: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها
فنكاحها باطل" فإنه لا يدل على بطلان نكاحها إذا نكحت نفسها
بإذن وليها إلا بواسطة الإجماع, أو يقال: إذا بطل عند عدم
الإذن بطل بالإذن, إذ لا قائل بالفرق. والحديث الآخر "الأيم
أحق بنفسها من وليها" فإنه يدل على بطلان نكاحها إذا نكحت
نفسها مطلقا من غير واسطة, فالحديث الثاني أرجح.
"حادي عشرها" يرجح الخبر المذكور من لفظ موم إلى علة الحكم على
ما ليس كذلك. لأن الانقياد إليه أكثر من الانقياد إلى غير
المعلل, لأن ظهور التعليل من أسباب قوة التعميم, كتقديم قوله
عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" 3 على حديث النهي عن قتل
النساء4, من جهة أن التبديل إيماء إلى العلة.
ـــــــ
1 رواه ابن ماجة "2/834" كتاب الأحكام باب إذا وقعت الحدود فلا
شفعة حديث "2497" عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" وهو
حديث صحيح.
2 بهذا اللفظ أخرجه الترمذي "3/651" كتال الأحكام باب ما جاء
في الشفعة للغائب حديث "1369" وؤواه أبو داود "3518" بلفظ
"الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان
طريقهما واحدا" وهو حديث صحيح.
3 رواه البخاري كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة
حديث "6922".
4 رواه البخاري كتاب الحهاد والسير باب قتل النساء في الحرب
حديث " 3015" عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي
رسول الله صلى الله عليه وسلم "فنهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن قتل النساء والصبيان" .
(4/460)
"ثاني عشرها" المتقدم فيه ذكر العلة على
الحكم, وعكس النقشواني.
"ثالث عشرها" المذكور مع معارضة أولى مما ليس كذلك, كحديث
"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 1, فيرجح على الدال على
تحريم الزيارة.
"رابع عشرها" المقرون بنوع من التهديد, لأنه يدل على تأكد
الحكم الذي تضمنته, كقوله عليه السلام: "من صام يوم الشك فقد
عصى أبا القاسم" 2.
"خامس عشرها" المقرون بالتأكيد بأن يكرر أحدهما ثلاثا, والآخر
لم يؤكد, فيرجح المؤكد على غيره, لأن التأكيد يبعد احتمال
المجاز والتأويل, كقوله: "أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل
باطل باطل" فإنه راجح على ما يرونه الحنفية "الأيم أحق بنفسها
من وليها" , لو سلم دلالته على المطلوب.
"سادس عشرها" المقصود به بيان الحكم, كقوله: "فيما سقت السماء
العشر من التمر" مع قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر
صدقة" ولا يجوز أن يتأول فيقال: معناه ليس فيها صدقة يأخذها
العامل. بدليل الخبر الآخر, لأن أحدهما قصد فيه بيان المزكى,
والآخر بيان الزكاة. وهذا معنى قول الشافعي: الكلام يجمل في
غير مقصوده ويفصل في مقصوده, ومنه قوله: "في سائم الغنم زكاة"
مع قوله: "في أربعين شاة شاة" وكذلك "ليس فيما دون خمسة أوسق
من الورق صدقة " مع قوله: "في الرقة ربع العشر" فيحمل الأمر
على بيان المزكى والزكاة, لا على ما لم ينقل له الخبر ولم يدل
عليه المسموع, ذكره إلكيا. ثم قال: نعم: قد يرد على صورة
البيان وإن لم يكن بيانا حقا, كقوله في حديث ماعز: "أشهدت على
نفسك أربعا" , وفي لفظ: أنت تشهد؟ وأنه ردده, فقال أهل العراق:
إنه لما ردده مرارا ثم قال: "أشهدت على نفسك أربعا" , دل على
أن قوله: "فإن اعترفت فارجمها" أي اعترفت أربعا. فقلنا: لم يكن
التردد والرد لأنه لا يجب الحد بالاعتراف الأول, ولكن لم يفصح
أولا بما يلزمه الحد ورأى فيه دلائل الخبل والجنون, ولذلك قال:
" لعلك لمست" , وسأل عن النون والكاف فقلنا في مثل ذلك: رواية
ماعز مقدمة, وقلبوا الأمر فلم يجعلوا البيان في
ـــــــ
1 رواه مسلم كتاب الجنائز حديث "977".
2 رواه الترمذي "3/70" كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية صوم
يوم الشك حديث "686" عن عمار بن ياسر قال: "من صام اليوم الذي
يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" قال
الترمذي: حديث عمار حديث حسن صحيح ورواه أبو داود حديث "2334"
والنسائي "2188" وابن ماجة "1645" وهو حديث صحيح.
(4/461)
القسم المتقدم معتبرا, قدموا العموم عليه,
وقدموا البيان على العموم هاهنا. ومن هذا اختلاف الروايات في
سجود السهو قبل السلام وبعده, فكان ما رواه الشافعي أولى, لأن
فيما رواه: "واسجد سجدتي السهو قبل السلام, فإن كان أربعا
فالسجدتان ترغيما للشيطان وإن كان خمسا شفعتها بالسجدتين" 1
فذكر الترغيم, والشفع لا يكون مع الفصل والتخلل, فكان ما
نقلناه إيماء إلى بيان السبب على ما ردده.
وله وجه آخر من الترجيح, وهو ورود الأمر والفعل, ونقلوا الأمر
فقط, والأمر أبين من الفعل الذي يمكن تقدير اختصاصه برسول الله
صلى الله عليه وسلم.
"سابع عشرها" مفهوم الموافقة على المخالفة:
على الصحيح, لأنه أقوى. وقيل تقدم المخالفة لأنها تفيد تأسيسا,
والموافقة للتأكيد, والتأسيس أولى. وقيل: يتعارض مفهوم الغاية
والشرط. وينبغي أن يمثل له بقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [لبقرة: 222] فإن مفهوم
الغاية يقتضي حل القربان قبل الغسل, ومفهوم الشرط يقتضي المنع
قبل الغسل.
ـــــــ
1 رواه مسلم في صحيحه كتاب المساجد باب السهو في الصلاة
والسجود له حديث "571" عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اله
صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى
ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيفن ثم يسجد
سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان
صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان".
(4/462)
الثاني -
الترجيح بحسب مدلوله
وهو الحكم, ويقع على أمور:
أولها: أن يكون أحد الخبرين مفيدا لحكم الأصل والبراءة والثاني
ناقلا, فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل, وبه جزم الأستاذ
أبو إسحاق, ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحابنا, وجزم به
ابن القطان في كتابه. قال: وإنما لم نقل: إنهما سواء لأن
الناقل زائد على المقرر, ومن أصلنا قبول الزيادة, كما لو شهدا
على رجل بألف درهم, وشهد آخران بالبراءة أو القضاء, فالإبراء
أولى, لأنهما قد شهدا بما شهد الأولان وزاد النقل على تلك
الحالة, وكما قلنا في الجرح والتعديل: إذا اجتمعا فالجرح أولى,
انتهى. وقيل: يجب ترجيح المقرر, واختاره الإمام الرازي
والبيضاوي, كحديثي مس الذكر, فإن الناقض ناقل عن حكم الأصل,
والآخر مقرر له.
(4/462)
تنبيه :
قال القاضي عبد الجبار: هذا الخلاف ليس من باب الترجيح, بل من
باب النسخ, لأنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ, ولأنه لو كان من
باب الترجيح لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه لكنا إنما نحكم
بحكم الأصل, لدلالة العقل, لا لأجل الخبر, والصحيح أنه من باب
الترجيح, ولهذا أوردوه في بابه لا في باب النسخ, لأنا لا نقطع
بالنسخ, بل نقول: الظاهر ذلك وإن كان خلافه فهو داخل في باب
الأولى, وهو ترجيح.
ثانيها - أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط:
بأن يقتضي الحظر, والآخر الإباحة, فيقدم مقتضى الحظر, لأن
المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن, ولحديث: "دع ما يريبك إلى ما
لا يريبك" 1 قال الشيخ في اللمع وابن برهان: هذا هو الصحيح.
وقيل: يرجح المقتضي للإباحة, لأنها تستلزم "نفي الحرج" الذي هو
الأصل, واختاره القاضي عبد الوهاب في الملخص" وأشار الآمدي إلى
القول به بحثا, وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين.
وقال القاضي والإمام والغزالي: يتساويان, فلا يقدم أحدهما على
الآخر, لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة,
وصححه الباجي ونقله عن شيخه القاضي أبي جعفر. وصور في "الحاصل"
المسألة بأن يقتضي العقل حرمة وإباحة ما أباحه أحد الخبرين,
وحرمه الآخر. ثم نقل فيه التساوي, ثم قال: لا يستقيم ذلك على
أصلنا العازل للعقل عن أحكام الشرع. أما على أصل المعتزلة
فنعم.
وقال سليم: إن كان للشيء أصل إباحة وحظر, وأحد الخبرين يوافق
ذلك الأصل, والآخر بخلافه, كان الناقل عن ذلك الأصل أولى,
كتقديم الخبر في تحريم النبيذ. وإن لم يكن له أصل من حظر ولا
إباحة فيرد خبر يقتضي الإباحة, وآخر الحظر, فوجهان: "أحدهما"
أن الحظر أولى للاحتياط, ولأن الحرام يغلب.
ـــــــ
1 رواه الترمذي "4/668" كتاب صفو القيامة حديث "2518" ورواه
النسائي "8/327" كتاب الأشربة باب الحث على ترك الشبهات حديث
"5711" والدارمي في البيوع حديث "2532" وهو حديث صحيح.
(4/463)
و"الثاني" أنهما سواء لأن تحريم المباح
كتحليل الحرام, فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
وقد روينا في المعجم الكبير للطبراني عن محمد بن عبد الله
الحضرمي, حدثنا يحيى الحمامي, حدثنا موسى بن محمد الأنصاري, عن
يحيى بن الحارث التميمي, عن أم معبد مولاة قرظة بن كعب قال, أي
نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إن المحرم ما أحل الله كالمستحل
ما حرم الله" 1 والله أعلم.
وقال إلكيا: إن كانت الإباحة هي الأصل فالحظر أولى, وهذا ليس
من المتعارض, فنقدم الإباحة على طريان الحظر, فكأن الإباحة في
حكم المنسوخ. وإن كان الحظر هو الأصل فالأخذ بالإباحة أولى.
أما إذا تعارضا ولم يعلم أصل أحدهما فهو موضع التوقف:
- فذهب عيسى بن أبان إلى أن الحظر يرجح, وقيل: إنه مذهب
الكرخي, لأن الحرام يغلب.
- وقال أبو هاشم: يستحيل ورود الخبرين في الحظر والإباحة ولا
يمكن تقدير المستحيل.
ثم قال إلكيا: والحق ما قاله أبو هاشم إذا أمكن من تعارضهما من
هذا الوجه والرجوع إلى وجه آخر في الترجيح إما من حيث الاحتياط
إذا أمكن القول به في الترجيح على ما بيناه, أو بوجه آخر
قدمناه.
فائدة :
من أمثلة هذا القسم أن القاضي بكارا والمزني اجتمعا في جنازة,
وكان القاضي يريد أن يسمع كلام المزني, فسأل بعض أصحابه المزني
فقال: يا أبا إبراهيم, جاء في الأحاديث تحريم النبيذ, وجاء
تحليله, فلم قدمتم التحريم على التحليل؟ فقال المزني: لم يذهب
أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراما في الجاهلية ثم نسخ,
ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا. فهذا يعضد صحة الأحاديث
بالتحريم, فاستحسن ذلك منه.
ـــــــ
1 رواه البيهقي في الكبرى "9/326" من قول عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه ورواه القضاعي في مسند الشهاب "2/106" مرفوعا عن
عبد الله بن عمر بلفظ "إن محرم الحلال كمحلل الحرام" والصحيح
أنه موقوف انظر كتاب الوقوف على الموقوف "1/63".
(4/464)
ثالثها - أن يقتضي أحدهما التحريم والآخر
الإيجاب:
ورجح الآمدي وغيره المقتضي للتحريم, لأنه يستدعي دفع المفسدة,
وهي أهم من جلب المصلحة, ورجح البيضاوي التساوي, وهي أقرب,
لتعذر الاحتياط, لأنه بالعقل بخلاف التحريم بالترك, بخلاف
الإيجاب, فكلاهما يوقع في العقاب, وجزم به الأستاذ أبو منصور
وقال: لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بدليل.
ومثاله: حديث ابن عمر: "إنما الشهر تسع وعشرون, فلا تصوموا حتى
تروه, فإن غم عليكم فاقدروا له" 1 قال نافع: فكان عبد الله إذا
مضى من شعبان تسع وعشرون بعث من ينظر, فإن رأى فذاك, وإن لم ير
ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا, وإلا أصبح صائما.
وهذا يستدل به من يقول بوجوب صوم يوم الشك. ويعارضه خصمه بحديث
عمار بن ياسر: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" صححه
الترمذي وغيره. وذكر القاضي في مختصر التقريب "في تعارض العلة
المقتضية للإيجاب مع العلة المقتضية للندب أن بعضهم قدم
الإيجاب, قال: وفيه نظر, فإن في الوجوب قدرا زائدا على الندب.
والأصل عدمه.
رابعها: أن يكون أحدهما مثبتا والآخر نافيا:
وهما شرعيان, قال فالصحيح تقديم المثبت, ونقله إمام الحرمين عن
جمهور الفقهاء, لأن معه زيادة علم ولهذا قدموا خبر بلال في
صلاته عليه الصلاة والسلام داخل البيت على خبر أسامة أنه لم
يصل.
وقيل: بل يقدم النافي.
وقيل: بل هما سواء, لاحتمال وقوعها في الحالين, واختاره في
المستصفى", بناء على أن الفعلين لا يتعارضان, وهو قول القاضي
عبد الجبار. قال الباجي: وإليه ذهب شيخه أبو جعفر, وهو الصحيح.
وقيل: إلا في الطلاق والعتاق.
وفصل إمام الحرمين فقال: النافي إن نقل لفظا معناه النفي, كما
إذا نقل أنه
ـــــــ
1 رواه مسلم كتاب الصيام باب صوم رمضان لرؤية الهلال حديث
"1080" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا جتى
تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" ورواه البخاري في كتاب الصوم
حديث "1907" بلفظ "الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه
فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" .
(4/465)
لا يحل, ونقل الآخر أنه يحل, فهما سواء,
لأن كل واحد منهما مثبت وإن لم يكن كذلك بل أثبت أحدهما فعلا
أو قولا, ونفاه الآخر بقوله: "ولم يقله", أو "لم يفعله",
فالإثبات مقدم, لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي والمستمع وإن كان
محدثا.
وحكى ابن المنير عن إمام الحرمين أنه فصل بين إمكان الاطلاع
على النفي يقينا بضبط المجلس وتحقق السكوت, أو لا, فإن اطلع
على النفي يقينا وادعى سببا يوصل لليقين تعارضا ولا يرجح
الإثبات والنفي.
وقال إلكيا: إذا تعارض رواية النفي والإثبات وكانا جميعا
شرعيين استفسر النافي, فإن أخبر عن سبب علمه بالنفي صار هو
والمثبت سواء, ولهذا لم يرجح الشافعي رواية نفي الصلاة على
شهداء أحد على رواية الإثبات1, لأن النفي اعتضد بمزيد ثقة, وهو
أن الراوي جابر وأنس2, والمقتول عم أحدهما ووالد الآخر, ولا
يخفى ذلك عليهما. وإن قال النافي: لم أعلم بما يزيله, فعدم
العلم لا يعارض الإثبات, كرواية عائشة أنه صلى الله عليه وسلم
قبلها وهو صائم3, وأنكرته أم سلمة, لأنها أخبرت عن علمها
ـــــــ
1 مذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يصلي على الشهيد قال في الأم
"8/131" الذين قتلهم المشركون في المعترك يكفنون بثيابهم التي
قتلوا بها إن شاء أولياؤهم وتنزع عنهم الخفاف والفراء والجلود
وما لم يكن من عام لباس الناس ولا يغسلون ولا يصلى عليهم وروي
عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يم يصل عليهم ولم يعسلهم وقال أيضا في الأم "1/305" قد جاء
من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم
وقال: "زملوهم بكلومهم" .
وانظر في مذهب الشافعية في ترك الصلاى على الشهيد: أسنى
المطالب في شرح روضة الطابب "1/314" الغرر البرية في شرح
البهجة "2/100" حاشيى قليوبي وعميرة "1/395" تحفة المحتاج
"3/163, 164" مغني المحتاج "2/34" نهاية المحتاج "2/497" حاشيى
البجيرمي "1/487, 488" وبهذا يتبين أن قول الزركشي "رحمه الله"
"ولهذا لم يرجح الشافعي رواية نفي الصلاة على شهداء أحد على
رواية الإثبات" خطأ والصواب هو "ولهذا رجح الشافعي ..." والله
تعالى أعلم.
2 رواية جابر أخرجها البخاري في صحيحه كتاب الجنائز باب الصلاة
على الشهيد حديث "1343" عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول:
"أيهم أك=بر أخذا للقرآن؟" فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد
وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم
ولم يصل عليهم ولم يعسل ..." الحديث ورواية أنس أخرجها أبو
داود "3/195" كتاب الجنائز باب في الشهيد يغسل حديث "3135" عن
أنس قال: "إن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل
عليهم" وهم جديث حسن.
3 الحديث رواه الببخاري كتاب الصوم باب المباشرة للصائم جديث
"1927" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان التبي صلى الله عليه
وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه" ورواه أحمد
"6/223" حديث "25909" بفظ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبلها وهو صائم".
(4/466)
فلا يدفع حديث عائشة, وكحديث الصلاة في
الكعبة1.
وحاصله: إن كان النافي قد استند إلى العلم فهو مقدم على
المثبت, وفي كلام الشيخ عز الدين نحوه, وهو حينئذ كالمثبت, وهو
نظير النفي المحصور. وقد صرح أصحابنا بقبول الشهادة فيه. وكذلك
لو شهد اثنان بالقتل في وقت معين, وآخران أنه لم يقتل في ذلك
الوقت لأنه كان معنا ولم يغب عنا, تعارضا.
وبحث فيه الرافعي, ورده النووي وقال: الصواب أن النفي إن كان
محصورا يحصل العلم به, قبلت الشهادة. وما قاله النووي صحيح,
والنفي المحصور والإثبات سيان. وقال ابن فورك: إن كان المثبت
حكما شرعيا, والنافي على حكم العادة فالمثبت أولى, وإن كان
الحكمان شرعيين فقد تساويا إلا أن يكون ما ورد بالنفي بين أنه
لم يعلم ثبوت الحكم, فيكون المثبت أولى, كرواية عائشة في
تقبيلها وهو صائم, وأنكرته أم سلمة لأنها أخبرت عن عدم علمها,
وذلك لا يدفع حديث عائشة, قال: وإن كان النافي أخص من المثبت
فالحكم للأخص.
وتحصل أن المثبت يقدم إلا في صور:
" أحدهما ": أن ينحصر النفي, فيضاف الفعل إلى مجلس واحد لا
تكرار فيه, فحينئذ يتعارضان.
" الثانية ": أن يكون راوي النفي له عناية به, فيقدم على
الإثبات, كما قدم حديث جابر في ترك الصلاة على قتلى أحد, على
حديث عقبة بن عامر أنه صلى عليهم, لأن أباه كان من جملة
القتلى, وكما قدم حديثه في الإفراد على حديث أنس في القران,
لأنه صرف همته إلى صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم منذ خرج من
المدينة إلى آخره.
"الثالثة": أن يستند نفي النافي إلى علم.
ـــــــ
1 اختلف الرواية عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة
النبي في جوف الكعبة فروي البخاري في صحيحه حديث "397" عن
مجاهد قال: أتى ابن عمر فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل الكعبة فقال ابن عمر: فأقبلت والنبي صلى الله عليه
وسلم قد خرج وأجد بلالا قائما بين البابين فسألت بلالا فقلت
أصلى النبي صلى الله عليه وسلم قي الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين
الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه
الكعبة ركعتين" وروى البخاري أيضا حديث "398" عن ابن عباس
قال:" لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه
كلها ولم يصل حتى خرج منه, فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة
وقال: هذه القبلة.
(4/467)
خامسها - ترجيح الخبر النافي للحد والعقاب
على موجب لهما:
- على أصح الوجهين, كحديث "درءوا الحدود بالشبهات" 1.
- الثاني : أنهما سواء, حكاه سليم.
وذكر الغزالي أن ذلك مما يعد ترجيحا وليس بترجيح, قال: لأن هذا
لا يوجب تفاوتا, في صدق الراوي فيما نقله من لفظ الإيجاب أو
الإسقاط, وضعف قول من يقول: الرافع أولى وإن كان الحد يسقط
بالشبهة. وهذا الخلاف يجري في أنه هل ترجح العلة المثبتة للعتق
على النافية له, لتشوف الشارع إلى العتق.
سادسها - المثبت للطلاق والعتاق مقدم على النافي:
لأن الأصل عدم التغيير. وعكس قوم لموافقة التأسيس.
سابعها - إذا كان أحد الخبرين أخف وحكم الآخر أثقل:
فقيل: إن الأول أولى. وقيل بالعكس.
ثامنها - أن يكون حكم أحدهما لا تعم به البلوى:
والآخر تعم به. فالأول راجح للاتفاق فيه.
تاسعها - أن يكون أحدهما موجبا لحكمين:
والآخر موجبا لحكم واحد, فالأول أولى, لاشتماله على زيادة علم
ينفيها الثاني. وفي تقديم الثاني عليه إبطالها.
عاشرها - الحكم المثبت للحكم الوضعي:
أولى من الحكم المثبت للحكم التكليفي, لأن الوضعي لا يتوقف على
ما يتوقف
ـــــــ
1 الحديث رواه ابن ماجة "2/950" كتاب الحدود باب الستر على
المؤمن ودفع الحدود بالشبهات حديث "2545" عن أبي هريرة مرفوعا
بلفظ "ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا" ورواه أبو يعلى في
مسنده "11/494" حديث "6618" وهو حديث ضعيف ورواه الترمذي
"4/33" حديث "1424" ورواه الحاكم في المستدرك "4/426" حديث
"8163" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه والبيهقي في
الكبرى "8/238" حديث "16837" عن علي مرفوعا وفي إسناد المختار
بن نافع وهو منكر الحديث كما قال البخاري. ورواه البيهقي أيضا
عن ابن مسعود مرفوعا عليه. وفيه انقطاع وهذا الحديث يعد من
القواعد الفقهية الجامعة والمحكمة في كثير من الفروع الفقهية
في مذاهب أهل العلم انظر الأشباه والنظائر في فروع الشافعية
للسيوطي بتحقيقي مع أخي الأستاذ حافظ عاشور "1/281"
(4/468)
عليه التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه
وتمكنه, لأن غير المتوقف أولى من المتوقف. وقيل: التكليفي
أولى, لأنه أكثر مثوبة, وأنه مقصود الشارع بالذات, وأنه الأكثر
من الأحكام, فكان أولى.
(4/469)
الثالث -
الترجيح بحسب الأمور الخارجية
وله أسباب:
أولها - اعتضاد أحد الخبرين بقرينة الكتاب:
كتقديم "الحج والعمرة فريضتان" 1 على رواية "العمرة تطوع" 2
لموافقته لحكم القرآن من كتاب الله تعالى, وهو قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وهذا قاله الشافعي فعارضه القاضي وقال: وقوله أتموا "دليل
مستقل. ونحن نقول للقاضي: يجوز الترجيح بالمستقل وإن منعناه
لكنا أخذنا من المستقل وصفا في الدليل, وهو تراخي النظم. وكان
الشافعي يقول: ما وافق ظاهر الكتاب كانت النفوس أميل إليه,
والقاضي يقول: بل الذي يخالف ظاهر الكتاب لا ينقل ما نقل إلا
عن زيادة الثبت. وما ذكره القاضي أقرب إلى قياس الأصول, وما
ذكره الشافعي أوفق للعرف وهو المعتبر.
وقال إمام الحرمين: ما ذكروه عن الشافعي فيه نظر, فإن إتمام
الحج ليس فيه تعرض للابتداء, وهما مفترقان في وجوب إتمامهما
بعد الشروع فيهما. قال: ولم يذكر هذا لأن الشافعي ذكره متنمقا
بإيراد كلامه: ونحن نقول للإمام: الإتمام يطلق تارة على أصل
الفعل وعلى إتمامه بعد الشروع فيه, لكن المراد هنا الأول, فإن
الآية نزلت في عام الحديبية ولم يكن صلى الله عليه وسلم محرما
بالحج حتى يؤمر بإتمامه.
ـــــــ
1 رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء "4/144" في ترجمة عبد
الله بن لهيعة برقم "977" عن جابر مرفوعا وفي إسناده ابن لهيعة
وهو ضعيف وقال الحافظ ابن حجر: ولا يثبت في هذا الباب عن جابر
شيء.
2 رواه ابن ماجة "2/995" كتاب المناسك باب العمرة حديث "2989"
وفيه عمر بن قيس وهو متروك الحديث وروى الترمذي "3/270" حديث
"935" عن جابر "أن التبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة
أواجبة هي؟ قال: "لا،وأن تعتمروا هو أفضل" قال أبو عيسى: هذا
حديث صجيج وقال الحافظ ابن حجر: في إسناده الحجاج بن أرطأة وهو
ضعيف. والحديث ضعفه الشيخ الألباني.
(4/469)
ومن مثله التغليس بالفجر, فإنه موافق لقوله
تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل
عمران: 133]. وكترجيح حديث ابن عباس في التشهد, لموافقته
لقوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}
[النور: 61], وترجيح حديث عائشة في البكاء على الميت, لقوله:
{لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] وهذا
يستعمله الشافعي كثيرا, وبنى عليه هذه الأصول.
وكذا قدم حديث خوات في صلاة ذات الرقاع على رواية ابن عمر,
لأجل الحذر المأمور به في القرآن, وجعله في "المنخول" من أصله,
فوافق الأصول, لأن رواية خوات, الأفعال فيها قليلة, قال: وقال
القاضي للشافعي: إن كنت تتهم ابن عمر بحيده عن القياس فمحال,
وليس القياس مناسبا لمأخذ الدليل حتى يقدح فيه. وإن قلت: إن
الغالب على الرسول الجري على قياس الأصول فيعارضه أن الغالب أن
الناقل عن القياس يكون أثبت في الرواية من المستمر عليه. ولهذا
تقدم شهادة الإبراء على شهادة أصل الدين.
قال إلكيا: وما ذكره الشافعي أوجه في مطرد العادة والعرف ولا
يظهر للمسألة فائدة في الحكم, وإنما الخلاف في الطريق, وهذا
الخلاف بين الشافعي والقاضي فيما يرجع إلى النص, أما إذا تعارض
ظاهران واعتضد أحدهما بقياس فلا شك أن الذي لم يتجه فيه تأويل
متأيد للقياس لا يبالى به.
ولو تعارض قياسان عاضدان للتأويل وأحدهما أجلى قدم الأجلى, ولو
تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى الاحتياط فالقاضي يرى
تعارضهما أخذا مما تقدم, والشافعي يرى تقديم الأحوط, لأنه أقرب
إلى مقصود الشارع, كرواية خوات مع ابن عمر, وكإحدى الآيتين إذا
تضمنت إحداهما تحليلا والأخرى تحريما.
وقد قال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فلا يتجه في ذلك إلا
الحكم بالاحتياط.
ثانيها - أن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم موافقا له:
فإنه يقدم على الآخر, كحديث التغليس.
ثالثها - أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا:
فيقدم القول, لأن له صيغة, والفعل لا صيغة له, وقد سبق في
الأفعال الخلاف في ذلك.
(4/470)
رابعها - أن يكون أحدهما مصرحا بالحكم:
والآخر على طريق ضرب المثال, كاحتجاجنا في وجوب الصلاة بأول
الوقت وجوبا موسعا بحديث: "صلى بي جبريل" 1 الحديث, واستدلالهم
بحديث: "ما مثلكم مع من كان قبلكم إلا كمن استأجر أجيرا" 2 إلى
آخره. فاحتجوا به على أن وقت العصر آخر الوقت, ذكره ابن برهان
وغيره.
وقال بعض الحنفية: ترجح العبارة على الإشارة, فإن حديث الإجارة
سيق لبيان فضيلة هذه الأمة, وفيه إشارة إلى أن وقت الظهر أكثر
من وقت العصر, بأن يبقى وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء
مثليه. كما قاله أبو حنيفة, لأنه لو انتهى لصيرورة ظل الشيء
مثله لكان وقت العصر أكثر من وقت الظهر, لكنه متعارض بصلاة
جبريل وهي عبارة ترجحت على الإشارة.
خامسها - أن يكون أحدهما عليه عمل أكثر أهل السلف:
فيقدم على ما ليس كذلك, لأن الأكثر يوفق للصواب ما لا يوفق له
الأقل, كتقديمنا حديث تكبيرات العيد في الركعة الأولى وأنها
سبعة سوى تكبيرة الإحرام, وفي الثانية خمس سواها أيضا على حديث
الحنفية أنها في الأولى خمس, وفي الثانية أربع, لعمل الخلفاء
الأربعة وغيرهم على الأول.
وقيل: لا يرجح, وبه قال الكرخي والجبائي, لأنه لا حجة في قول
الأكثر, وكذلك الحكم فيما إذا تعارضا وعمل بأحدهما بعض الصحابة
ولم ينقل مثل ذلك في الآخر, فيرجح الأول. قال في المنخول": وإن
كنا لا نرى تقديم عمل الصحابة على الحديث, خلافا لمالك. وقال
إمام الحرمين: استشهد الشافعي بما رواه أنس في نصب
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "1/107" كتاب الصلاة باب في المواقيت
حديث "393" بلفظ "أمني جيريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى
بي الظهر حين زالت الشمس ....الحديث وهو حديث صحيح.
2 الحديث رواه البخاري في مواضع كثيرة ومنها ما رواه في كتاب
مواقيت الصلاة باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب حديث
"557" ورواه في كتاب الإجارة باب الإجارة إلى صلاة العصر حديث
"2269" بلفظ "إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا
فقال: "من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود على
قيراط قراط ثم عملت النصارى على قراط قراط ثم أنتم الذين
تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قراطين قراطين فغضب
اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء!!! قال: هل
ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا لا فقال: فذلك فصلي أتيه من أشاء"
.
(4/471)
النعم وقدمه على رواية علي فيها, لأن عمل
الشيخين يوافق رواية أنس, فقال رضي الله عنه: أقدم حديث أنس.
قال الإمام: وهذا مما يجب التأني فيه, فليس هذا من باب عمل
الصحابة بخلاف الخبر, إذ لم يصح عندنا بلوغهم حديث علي ثم لم
يعملوا به. والرأي تعارضهما ويقدم حديث أنس من جهة أن النصب
مقادير لا مجال للرأي فيها, فيقدم من هذه الجهة.
قال إلكيا: والذي قاله المحققون أنا إن تحققنا بلوغ الحديثين
الصحابة وخالفوا أحدهما فمخالفة الصحابة للحديث قادحة فيه,
سواء عارضه غيره أم لا, وفيه خلاف. وإن لم يتحقق بلوغ الحديث
إياهم فالشافعي يرجح به, وفيه نظر على الجملة, فإن الحديث
الآخر إذا لم يبلغهم لم يكونوا مخالفين له حتى يقال: لعلهم
عملوا بناسخ, إلا أن يقال: ما عملوا به مدة عمرهم يدل على أنه
الأصح والأوضح.
سادسها - أن يكون أحدهما يتوارثه أهل الحرمين:
والآخر لم يتوارثوه, فيقدم الأول على الثاني, كتقديم رواية
الترجيع في الأذان. قاله ابن برهان.
سابعها - أن يكون مع أحدهما عمل أهل المدينة:
ذكره الأستاذ أبو إسحاق. قال: واختلف أصحابنا في عمل أهل
الكوفة والبصرة إذا انضاف إلى إحدى الروايتين ولم يكن مع
الأخرى عمل أهل الحجاز ولا الكثير الظاهر, فقيل: موافقة العمل
من هذه الجهة يوجب التقديم ويرجح, وقال الأكثرون: إنه لا يكون
ترجيحا.
ثامنها - أن يكون مع أحدهما مرسل عن ثقة:
فتقدم به الرواية التي توافقه.
تاسعها - أن يكون أحدهما موافقا للقياس.
والآخر مخالفا له, كحديث "الضحك ينقض الوضوء" 1 مع حديث: "يبطل
ـــــــ
1 ضعيف رواه الدارقطني في سننه "1/173" عن جابر مرفوعا بلفظ
"الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" وهو جديث ضعيف انظر ضعيف
الجامع للألباني "3/برقم 3598" والمغير على الأحاديث الموضوعة
في الجامع الصغير "3/88".
(4/472)
الصلاة ولا يبطل الوضوء" 1 قاله ابن برهان
وغيره. ووجهه أن المعقول المعنى أغلب شرعا, فالإلحاق بالغالب
أولى من الإلحاق بالنادر, وسبق ما فيه من الخلاف.
عاشرها - أن يكون مع كل منهما تأويل وقياس أحد التأويلين أوضح:
فهو مقدم. قال في "المنخول": واختلفوا في أن هذا هل يكون
ترجيحا بالقياس؟ قال القاضي: جوز الشافعي ترجيح النص بالقياس,
والظاهر بالقياس, وأنا أجوز ترجيح الظاهر دون النص. وقال
الغزالي: المختار أن هذا تقديم حديث غير مؤول على حديث مؤول,
ولكن من التأويل بالقياس.
ـــــــ
1 ضعيف.
(4/473)
الكلام على تراجيح
الأقيسة
وهي إما أن تكون قطعية فيدخلها الترجيح, وإن قلنا بتفاوت
المعلوم, وإما أن تكون ظنية فكذلك على المشهور.
وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة
تقديم ولا تأخير, وإنما الظنون على حسب الاتفاق قال: وبناه على
أصله أنه ليس في مجال الظنون مطلوب, وإذا لم يكن مطلوب فلا
طريق على التعيين, وإنما المظنون على حسب الوفاق ثم عظم الإمام
النكير على القاضي وقال: هذه هفوة عظيمة, وألزمه القول بأنه لا
أصل للاجتهاد.
والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه الإمام عنه, كيف وقد عقد فصولا
في التقريب في تقديم بعض العلل على بعض, فعلم أنه ليس يعني
إنكار الترجيح فيها, وإنما مراده أنه لا يقدم نوعا على نوع على
الإطلاق, بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما يظنه المجتهد
راجحا, والظنون تختلف, فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء
يتأخر عن النوع الضعيف, وهذا صحيح, وهو راجع إلى ما قاله
الإمام عن تقديم الشبه الجلي على المعنى الخفي, مع أن غالب
المعنى مقدم على غالب الشبه, وكأنه يقول: الترجيح في الأقيسة
الظنية ثابت بالنسبة إلى عموم آحاد كل نوع, لا بالنسبة إلى
غالب كل نوع.
وأما قول الإمام: إنه بناه على أصله في أنه ليس في المجتهدات
حكم معين فضعيف, وشبهة الإمام في ذلك أنه إذا قال: لا حكم,
فكأنه قال: لا مطلوب,
(4/473)
فنقول: إن كان كما قلت استحال الظن, والحكم
بأن الظنون لا تقديم فيها ولا تأخير فرع وجودها نعم, القاضي
يقول: لا حكم في المجتهدات قبل الظن, ولكن فيها مطلوب, وهو
السبب الذي يبنى على ظنه وجود الحكم, كصحة خبر الواحد أو
الظاهر أو القياس مثلا, فيطلب المجتهد ظن وجود ذلك, والظنون
تختلف.
ويكون باعتبارات:
الأول - بحسب العلة1
قال ابن السمعاني: تعارض العلتين ضربان: "أحدهما" أن يتعارضا
في حق مجتهدين, فلا يوجب التعارض فسادهما, لأن كل واحد يأخذ
بما أداه إليه اجتهاده و "الثاني" تعارضهما في حق مجتهد واحد
فيوجب التعارض فسادهما, إلا أن يوجد ترجيح لإحداهما على الأخرى
ثم إن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم, ولا بين دليل
يوجب العلم وآخر يوجب الظن, وإنما يتعارضا المفيدان للظن, ولا
بد من ترجيح, انتهى. فنقول: له اعتبارات:
أولها - يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة
الحكمة:
على القياس المعلل بنفس الحكمة, للإجماع من القياسين على صحة
التعليل بالمظنة, فيرجع التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة
على التعليل بنفس المشقة.
ثانيها - ترجيح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي:
لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة,
فالداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة إنما هو الحكمة, وإذا كانت
العلة الحكمة لا ذلك العدم كان التعليل بها أولى, وقضية هذه
العلة أن يكون التعليل بالحكمة راجحا على التعليل بالوصف
الوجودي الحقيقي, لكن التعليل بالحقيقي راجح عليه من جهة كونه
منضبطا ولهذا اتفقوا عليه بخلاف التعليل بالحكمة والحاجة, فإنه
غير منضبط.
ثالثها - يرجح المعلل حكمه بالوصف العدمي:
على المعلل حكمه بالحكم الشرعي, لأن التعليل بالعدمي يستدعي
كونه مناسبا للحكم, والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى
الأمارة, والتعليل بالمناسب أولى من
ـــــــ
1 انظر ابن الحاجب والعضد عليه "2/317" الإحكام للآمدي
"4/271".
(4/474)
التعليل بالأمارة هذا اختيار صاحب المنهاج
"والتحصيل" والفائق "وذكر الإمام في المسألة احتمالين بلا
ترجيح أحدهما, هذا, والثاني عكسه, لأن الحكم الشرعي أشبه
بالوجود.
رابعها - يرجح المعلل بالحكم الشرعي على المعلل بغيره.
خامسها - يرجح المعلل بالمتعدية على المعلل بالقاصرة.
في قول القاضي والأستاذ أبي منصور وابن برهان وقال إمام
الحرمين: إنه المشهور, فإنه أغزر فائدة.
وقال أبو إسحاق: القاصرة متقدمة, لأنها معتضدة بالنص, ومال
إليه في المستصفى "فقيل له: الحكم هو المعتضد دون العلة وقيل:
هما سواء, واختاره ابن السمعاني, ونقله إمام الحرمين عن
القاضي.
واختار في "المنخول" أنهما إن تواردا على حكم واحد يجمع بينهما
فلا ترجيح, وإن تنافيا فلا يلتقيان, نعم يكفي طرد المتعدية عكس
القاصرة, ولا يقاوم الطرد العكس أصلا, وإن فرض ازدحام على حكم
تقدير الاتفاق على اتحاد العلة فالمتعدية أولى, لما ذكره
القاضي والمسألة مبنية على جواز التعليل بأكثر من علة واحدة,
فإن منعناه - كما اختار إمام الحرمين وغيره - فلا تعارض.
ثم أورد على نفسه سؤالا مضمونه وقوع التعارض بينهما, واستمد
منه أن الشافعي رجح القاصرة, وذلك أن الشافعي وأبا حنيفة اتفقا
على أن الأمة تخير إذا عتقت تحت العبد واختلف إذا عتقت تحت
الحر ونشأ اختلافهما من الاختلاف في علة الأصل, فعند الشافعي
إنما خيرت تحت العبد لفضلها حينئذ عليه بالحرية, فلا تخير تحت
الحر, فالعلة حينئذ قاصرة, وعند أبي حنيفة إنما خيرت لأنها
ملكت نفسها فتخير تحت الحر, لأن العلة مطردة متعدية.
ثم انفصل عن هذا السؤال بإبطال العلتين جميعا, أما علة أبي
حنيفة فقال القاضي: لا معنى لتعليل الخيار بتملكها نفسها,
لأنها إن ملكت مورد النكاح انفسخ فلا اختيار, وإن ملكت غيره
فهو أجنبي فلا تختار في غير ما ملكت.
تنبيه:
قد ينازع في دخول الترجيح من هذين في القياس, لأن القاصرة لا
وجود لها في غير محل النص, ولا يخفى امتناع القياس بناء على
علة يختص بها محلها, فكيف
(4/475)
صورة الترجيح؟. والجواب أن نتيجة الترجيح
بينهما إمكان القياس وعدم إمكانه مثاله: الثمنية والوزن في
النقدين لمن رجح الوزن مرتب على ترجيحه إمكان القياس, فترتب
على ترجيح الثمنية امتناع القياس وهذه فائدة.
سادسها - إذا فرعنا على تقديم التعدية, فتعارضت علتان
متعديتان, وفروع إحداهما أكثر من فروع الأخرى, يقدم ما مجال
تعديه أكثر لكثرة الفائدة1 قاله الأستاذ أبو منصور, وزيفه في
"المنخول" وقال ابن دقيق العيد: فيه نظر وكلام إمام الحرمين
يقتضي أن لا ترجيح فيها2, ثم قال: ومن اعتقد أن كثرة الفروع
تقتضي الترجيح, فلو كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى, ولكن
القليلة الفروع اعتضدت بنظائر تضاهي في عدتها فروع العلة
الكثيرة كانت كثيرة النظائر في مقابلة كثيرة الفروع ثم مثلها
بعلتي الشافعي وأبي حنيفة في إيجاب الكفارة في الجماع, فالعلة
عند الشافعي وطء المرأة في قبلها, وفروعه قليلة, وهي الإتيان
في الدبر, وإتيان البهيمة, لكن نظائره كثيرة فإن الشرع رتب
الأحكام على الوطء, كالإحلال والإحصان والحد وإفساد الحج وغير
ذلك والعلة عند أبي حنيفة إفساد الصوم, وفروعها كثيرة, وهي
الأكل والشرب وكل سبب يفسد به الصوم, وأسباب فساد الصوم واسعة.
ثم تكلم الإمام على هذا المثال بما يبطل اندراجه تحت القاعدة
فقال: النظائر المذكورة لا اعتبار بها ألبتة, وليست كالنظائر
التي اعتد بها في الأشباه, كضرب العقل القليل اعتبارا بضرب حصص
الشركاء, لأن ذلك في غير الحكم المطلوب, وهذه الأحكام المرتبة
على الوطء نائبة عن إيجاب الكفارة لا يجمع بينها وبين الحكم
المنظر إلا اسم الحكم ولقبه خاصة, وهذا الذي قاله الإمام صحيح,
فإنا لو اعتبرنا الاشتراك في عموم الحكم للزم أن يكون حكمه
ملائما, ولاستحال الغريب ثم حكي عن جماعة من أصحابنا أنه إذا
كانت إحداهما أكثر فروعا, والأخرى مطبقة على الأصل والفرع بلا
تأويل, والكثيرة الفروع تحتاج إلى تأويل في بعض مجاريها, فهذا
نقص من جريانها, ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها, كاعتبارنا في
القرابة المقتضية للنفقة, والعتق بالتعصيب, وهذا يجري في
الأصول والفروع على انطباق واعتبر أبو حنيفة الرحم والمحرمية
وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر, فإنما تتناول الأصل والفرع,
غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل من الذكرين
والأنثى, وهو من ركيك الكلام.
ـــــــ
1 انظر المستصفى "2/403".
2 انظر البرهان "2/1265".
(4/476)
سابعها - ترجح العلل البسيطة على العلل
المركبة:
كتعليل الشافعي في الجديد الربا بالطعم في الأشياء الأربعة مع
ضمه في القديم النقدية إلى الطعم, على القول بأن العلة في الحد
بسيطة, وهو أحد الأوجه عندنا. هذا ما عليه الجدليون وأكثر
المتأخرين من الأصوليين وبه جزم ابن برهان, إذ يحتمل في
المركبة أن تكون العلة هي الأجزاء, لا هي جملتها ولأن البسيطة
تكثر فروعها وفوائدها, ولأن الاجتهاد فيها يقل فيقل خطره, ولأن
الخلاف واقع في جواز التركيب في العلل, فالمتفق عليه أولى قال
الإمام: هذا المسلك باطل عند المحققين وقيل: بل ترجح المركبة
وقيل: هما سواء. قال القاضي في مختصر التقريب": ولعله الصحيح.
ثامنها - ترجح العلة القليلة الأوصاف على الكثيرة الأوصاف:
كتعليل الشافعي في الجديد والقديم على القول بأنها مركبة وحكى
الشيخ أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" إجماع النظار
والأصوليين عليه, قال: وإنما رجحت بذلك لأن الوصف الزائد لا
أثر له في الحكم, وصح تعلق الحكم مع عدمه, ولأن الكثيرة
الأوصاف يقل فيها إلحاق الفروع فكان كاجتماع المتعدية
والقاصرة, قال: ولا أعرف خلافا بين أصحابنا في ذلك, إذ القليلة
الأوصاف داخلة تحت الأكثر, فإن كانت غير داخلة, مثل أن تكون
أوصاف إحداهما غير أوصاف الأخرى, مثل أن تجعل إحداهما العلة
الطعم والأخرى الكيل والجنس, فاختلفوا فيه فقيل: القليلة
الأوصاف أولى, لأنها أكثر فروعا, وهو الأصح من أصحابنا من قال:
هما سواء.
تاسعها - القياس الذي يكون الوصف فيه وجوديا:
على ما إذا كان أحدهما عدميا, أو كانا عدمين, ويرجح تعليل
العدمي بالعدمي على ما إذا كان أحدهما وجوديا للمشابهة بين
التعليل بالعدمي للعدمي هكذا قال في المحصول وقال ابن برهان:
إذا كانت إحدى العلتين محسوسة والأخرى حكمية فقيل: تقدم
المحسوسة لقوتها, وقيل: الحكمية, لأن الكلام في الحكم الشرعي,
فيقدم الحكمي على الحسي ومثاله: ترجيح علتنا في مسألة المني
أنه مبدأ خلقة الآدمي على علتهم أن المني ليس في عينه ولا في
حكمه ما يدل على النجاسة.
عاشرها - أن تكون إحدى العلتين أقل مقدمات:
والأخرى موقوفة على أكثرها, فالموقوفة على الأقل أرجح, لأن ما
توقف على
(4/477)
مقدمات أقل صدقه أغلب في الظن مما يتوقف
على أكثر, والعمل بأرجح الظنين واجب وقال الشيخ أبو إسحاق:
ترجح العلة القليلة الأوصاف على الكثيرة الأوصاف, وقيل:
الكثيرة أولى, وقيل: هما سواء.
حادي عشرها - أن تكون إحدى العلتين مطردة منعكسة:
والأخرى غير منعكسة, فالأولى أولى لأنه قد اشترط الانعكاس في
العلل, فتكون هذه العلة مجمعا على صحتها, والأخرى ليست كذلك
هكذا حكاه إمام الحرمين عن معظم الأصوليين أن الانعكاس من
الترجيحات المعتمدة, قال: وهو متجه على قولنا أن الانعكاس دليل
صحة العلة معنى, فأما إذا جعلناه شرطا فلا تعارض فلا ترجيح,
لأن التي لم تنعكس حينئذ باطلة, لفقدان شرطها, فاعترضه ابن
المنير بقوله: إن الأدلة لا يرجح بعضها بعضا, فإذا بنينا على
أن الإخالة والعكس كل منهما دليل مستقل على صحة العلة فكيف
نرجح مستقلا بمستقل وجوابه أن الترجيح باعتبار وصفها لا بذاتها
ثم اختار أن العكس لا يرجح به, لأن النفي ما جاء من قبل العلة,
بل من الأصل, فلا يكون دليلا عليها ولا مرجحا.
ثاني عشرها - أن تكون إحداهما صفة ذاتية, والأخرى حكمية:
قال ابن السمعاني: فالحكمية أولى ومن أصحابنا من قال: الذاتية
أولى, لأنها ألزم والأول أصح, لأن الحكم بالحكم أشبه, فيكون
بالدليل عليه أولى.
ثالث عشرها: أن تكون إحداهما موجبة الحكم:
والأخرى للتسوية بين حكم وحكم, فالتي أوجبت الحكم أولى من
العلة التي توجب التسوية, لأن العلماء اختلفوا في جواز
الاستدلال بالعلل الموجبة للتسوية, ولم يختلفوا في الموجبة
للحكم حكاه السهيلي قال: وذكر الشيخ الإمام سهل الصعلوكي في
بعض المناظرات أن علة التسوية أولى, لكثرة الشبه فيه والأول
أظهر.
الاعتبار الثاني - بحسب الدليل الدال على وجود العلة
فنقول: الذي يدل على العلية إما قطعي أو ظني أما الأول فاعلم
أن العلة المعلومة مقدمة على العلة المظنونة1.
ـــــــ
1 انظر: العضد على ابن الحاجب "2/317" الإحكام للآمدي "4/280".
(4/478)
سواء أكان العلم بوجودها بديهيا أو ضروريا
وإنما الغرض أن ما علم وجوده بشيء من هذه الطرق هل يرجح بعضه
على بعض؟ كما إذا علم وجود كله بالبديهة والحس, هل يرجح على ما
علم بالنظر والاستدلال؟ فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجزئ الترجيح
بين العلتين المعلومتين سواء كانت إحداهما معلومة بالبداهة
والأخرى بالنظر والاستدلال وهو قياس ما سبق في النصين أنه لا
يجري بينهما الترجيح لعدم قبولهما احتمال النقيض قال في
المحصول": وكلام أبي الحسين يدل على أن العلة المعلومة تقبل
الترجيح.
قلت: وعلى هذا فالبديهيات والحسيات راجحة على النظريات وأما أن
البديهيات ترجح على الحسيات أو العكس فمحل نظر ولا شك في ترجيح
بعض البديهيات على بعض, وكذلك الضروريات والنظريات والضابط أن
كل ما كان أجلى وأظهر عند العقل فهو راجح على ما ليس كذلك وأما
الثاني فقد قيل: كلما كانت المقدمات المنتجة له أقل فهو أولى
قال الهندي: وهو غير مرضي على إطلاقه, لأنه قد تكون المقدمات
المنتجة له أقل وهو مرجوح بالنسبة إلى ما تكون مقدماته أكثر,
بكون كل واحد من تلك المقدمات مظنونا ظنا قويا, والمقدمات
القليلة تكون مظنونة ظنا ضعيفا, بل الأقل إنما يرجح إذا ساوى
الأكثر في كيفية الظن, فحصل إن كان ما يفيد ظنا أرجح من الذي
يفيده الآخر فهو أولى, ويختلف ذلك بقلة المقدمات وكثرتها
وضعفها وقوتها.
إذا علمت هذا فالدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما أن
يكون نصا أو إجماعا أو قياسا: أما النص فالكلام فيه كما في
الأول وأما الإجماع فيستحيل تعارضهما إن كانا قطعيين, أو
أحدهما قطعيا, وإن كانا قطعيين فهما في محل الترجيح وأما
القياس فإذا عارض الخصم قياس المستدل بقياس آخر وكان وجود
الأمر الذي جعل علة الحكم في الأصل في أحد القياسين معلوما,
وفي الآخر مظنونا, كان الأول أولى.
الاعتبار الثالث - بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم
وذلك بأمور:
أولها - يرجح القياس الذي تثبت عليته الوصف بحكم أصله:
بالنص القاطع, على ما لم يثبت بالقاطع, لأنه لا يحتمل فيه عدم
العلية,
(4/479)
بخلاف ما ليس بقاطع, وقال في "المستصفى"1:
ذكروا في الترجيح أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع, وهو ضعيف,
لأن الظن يمحى في مقابلة القاطع ولا يبقى معه حتى يحتاج إلى
ترجيح, إذ لو بقي معه لتطرق إليه الشك ويخرج عن كونه معلوما,
وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم, ولا مظنون على مظنون.
ثانيها - يرجح ما يثبت علي ة الوصف بالظاهر:
على ما لم يثبت بالظاهر من سائر الأدلة سوى النص القاطع,
والألفاظ الظاهرة في إفادة العلية ثلاثة: اللام, وإن, والباء
وأقواها اللام, وتردد الإمام في تقديم "الباء" على "إن" واختار
الهندي تقديمها.
ثالثها - يرجح ما يثبت علية الوصف فيه بالمناسبة:
على ما عداها من الدوران وأشباهه, لقوة دلالة المناسبة
واستقلالها في إفادة العلية. وقيل: ما دل عليه الدوران أولى
وعبروا عنه بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك,
لشبهها بالعقلية, وهو ضعيف, لأن الظن بغلبة المناسبة أكثر من
الدوران, ويرجح الثابت عليته بالمناسبة على ما ثبت بالسبر,
خلافا لقوم وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع به فإن العمل به
متعين, ولا يدخله ترجيح, لوجوب تقديم المقطوع به على المظنون,
بل في السبر المظنون2 الذي كل مقدماته ظنية فإن كان بعضها
قطعيا اختلف حاله بحسبها وإذا ثبت رجحان المناسبة على الدوران
والسبر كان رجحانه على الباقي أظهر.
ثم المناسبة تختلف مراتبها, فيرجح منها ما هو واقع في محل
الضرورة على ما هو في محل الحاجة, وهو المصلحي, أو التتمة, وهو
التحسيني والضرورية الدينية على الدنيوية ويرجح في هذا ما هو
أقرب اعتبارا في الشرع, فيرجح ما ثبت اعتبار نوع وصفه في نوع
الحكم على المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم.
وأما المرجح فيهما فقال الإمام: هما كالمتعارضين وقال الهندي:
الأظهر تقديم المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم على عكسه.
ـــــــ
1 انظر المستصفى ص "379".
2 انظر الإبهاج "3/165".
(4/480)
تنبيه :
لو تعارض قياسان كل منهما يدل بالمناسبة لكن مصلحة أحدهما
متعلقة بالدين, والأخرى بالدنيا, فالأولى مقدمة, لأن ثمرة
الدينية هي السعادة الأبدية التي لا يعادلها شيء, كذا جزم به
الرازي والآمدي وحكى ابن الحاجب قولا أن المصلحة الدنيوية
مقدمة, لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة ولم يذكر الآمدي
ذلك قولا, وإنما ذكره سؤالا.
رابعها - يرجح القياس الذي ثبت علية وصفه بالدوران:
على الثابت بالسبر وما بعده, لاجتماع الاطراد والانعكاس في
العلة المستفادة من الدوران دون غيره, بل قدمه بعضهم على
المناسبة, لأن الاطراد والانعكاس شبيه بالعلل العقلية.
ثم الثابت بالدوران الحاصل في محل واحد على الحاصل في محلين
لقلة احتمال الخطأ في الأول.
خامسها - يرجح الثابت علته بالسبر على الثابت بالشبه وما بعده:
لأنه أقوى في إفادة الظن وقيل: يقدم على المناسبة لإفادته لظن
الغلبة وبقي المعارض, بخلاف المناسب, فإنها لا تدل على نفي
المعارض, اختاره الآمدي وابن الحاجب, ويلزم منه تقديمه على
الدوران أيضا عند من يقدم الدوران على المناسبة, والمنازعة في
غير المقطوع به.
سادسها - يترجح الثابت علته على الثابت علته بالطرد, لضعف الظن
الحاصل منه قال البيضاوي: وكذا على الثابت علته بالإيماء والذي
في المحصول اتفاق الجمهور على أن ما ثبت علته بالإيماء راجح
على ما ظهرت علته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران
والسبر, وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان.
وقال الهندي: هذا ظاهر إن قلنا: لا تشترط المناسبة في الوصف
المومى إليه وإن قلنا: يشترط فالظاهر ترجيح بعض الطرق العقلية
عليها, كالمناسبة, لأنها تستقل بإثبات العلية, بخلاف الإيماء
فإنه لا يستقل بذلك بدونها فكانت.
وقال الإبياري شارح البرهان": وقد يعكس, كما فعلوا في قوله
عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإن في الحديث إيماء
إلى خصوص الغضب, لكن قدموا عليه العلة المستنبطة وهو الدهش
والحيرة, وليس كما قال: وإنما تمسك بالإيماء
(4/481)
المجرد ولا استنباط, فإنه أدى بالغضب إلى
الدهش الذي اشتمل الغضب عليه, والغضب طرد لا خصوصية له, وإنما
ذكر لخروجه مخرج الغالب نعم, إن قوي اجتهاد به فليوكل إلى نظر
المجتهد قوة وضعفا.
واعلم أن القاضي مع قوله ببطلان قياس الأشباه قال هنا: الأظهر
أنه يجوز الترجيح به وإن لم يجز التمسك به ابتداء.
الاعتبار الرابع - بحسب دليل الحكم
فيرجح من القياسين المتعارضين ما دليل حكم أصله أقوى من دليل
حكم الأصل الآخر.
" فمنها " أنه يرجح القياس الثابت حكم أصله بالإجماع,
على الثابت بالنص, فإن الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل
اللفظية يقبل التخصيص والنسخ والتأويل, والإجماع لا يقبلها
هكذا نقله الإمام ثم قال: ويحتمل تقديم الثابت بالنص على
الإجماع, لأن الإجماع فرع النص, لكون المثبت له النص, والفرع
لا يكون أقوى من الأصل وبهذا جزم صاحب الحاصل "والمنهاج" وهو
ضعيف, لأن الأصل الذي ثبت به الإجماع معلوم أنه لم ينسخ فلا
يكون الإجماع أقوى من ذلك, وأما ما لا يحتمل النسخ فلا شك أنه
أقوى منه.
" ومنها " قال ابن برهان: إذا كان أحد القياسين مخرجا من أصل
منصوص عليه, والآخر مخرجا من غير منصوص عليه قدم الأول على
الثاني, كقولنا في جلد ما لا يؤكل لحمه: يطهر بالدباغ, كجلد
الميتة, وهي منصوص عليها أولى من قول المخالف: لا يطهر قياسا
على جلد الكلب, لأنه غير منصوص عليه.
" ومنها " قال في "المنخول": إذا عارض قياس عام تشهد له
القواعد قياسا هو أخص منه بالمسألة, فالأخص مقدم فيما قاله
القاضي مثاله: توجيه قولنا: لا تتحمل العاقلة قيمة العبد, لأن
الجاني أولى بجنايته ويعضد هذا سائر الغرامات, يعارضه قياس أخص
وهو أن الغالب على العبد الذمة, بدليل الكفارة والقصاص, وضرب
العقل سببه مسيس حاجة العرب إلى معاطاة الأسلحة, وإيقاف هفوات,
ونقل الأروش عن الجناة, فإن هذا مثال فاسد, فإن ضرب العقل
مستثنى عن القياس وهذه الحكمة تعويل عليها
(4/482)
الاعتبار الخامس - بحسب كيفية الحكم
وقد سبق في ترجيح الأخبار فليأت مثله هاهنا, فإذا كانت إحدى
العلتين ناقلة عن حكم العقل والأخرى مقررة على الأصل, فالناقلة
أولى على الصحيح كما قاله الغزالي وابن السمعاني وغيرهما, لأن
الناقلة أثبتت حكما شرعيا, والمقررة ما أثبتت شيئا ومنهم من
قال: المبقية أولى, لاعتضادها بحكم العقل المستقل بالنفي لولا
هذه العلة وكذا قال الأستاذ أبو منصور: ذهب أكثر أصحابنا إلى
ترجيح الناقلة عن العادة, وبه جزم إلكيا, لأن الناقلة مستفادة
من الشرع, والأخرى ترجع إلى عدم الدليل فلا معارضة بينهما.
وقيل: الناقلة والموافقة للعادة سيان, لأن النسخ بالعلل لا
يجوز, بخلاف الخبرين لأن النسخ لأحدهما بالآخر جائز والغالب في
النسخ نسخ ما يوافق العادة لما ينقل عنها, فلذلك قلنا في
الأخبار: إن الناقل أولى قال الأستاذ أبو منصور: وكان علي بن
حمزة الطبري يفرق بين العلل والأخبار, فيقول في الخبر: الناقل
أولى, وفي العلل: إن المبقية فيها على العادة أولى من الناقلة.
فأما إذا كانت إحداهما مثبتة والأخرى نافية فقال الأستاذ أبو
إسحاق وغيره: تقدم المثبتة, قال: ويعبر عن هذا بتقديم الناقلة
على المبقية للأصل على ما كان قال: وربما خلط في هذين من لا
تحقيق له, وهما يجريان على معنى واحد.
وقال الغزالي رحمه الله: قدم قوم المثبتة على النافية, وهو غير
صحيح, لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات, وإن كان نفيا
أصليا رجع إلى ما قدمناه في الناقلة والمقررة, وقال الأستاذ
أبو منصور: الصحيح أن الترجيح في العلة لا يقع بذلك, لاستواء
المثبت والنافي في الافتقار إلى الدليل قال: وإلى هذا القول
ذهب أصحاب الرأي, وهو كما قال.
وكأن من رجح به لاحظ إلحاقها بالخبر, وبينهما فرق, فإن مدار
الترجيح في الأخبار على أن العقلية أشبه من الاختلاف, ومدار
الترجيح في العلل على غير ذلك من قوة المناسبة وتوفر الشواهد
وهذا أجنبي عن النفي والإثبات, فالحق - كما قال ابن المنير -
إن قلنا: إن النفي فيها مستفاد من النفي الأصلي أن يلتمس
الترجيح من خارج والصحيح أن النفي لا يكون مقتضى, لأن العدم لا
يقتضى كما لا يقتضي.
(4/483)
وقال ابن السمعاني: والصحيح أن التي تقتضي
الحظر أولى من التي تقتضي الإباحة وقيل: هما سواء.
وإن كانت إحداهما تقتضي حدا والأخرى تسقطه, أو توجب العتق
والأخرى تسقطه, فقيل: الموجبة للعتق والمسقطة للحد أولى, لأن
العتق مبني على الاتساع والتكميل, والحد مبني على الإسقاط
والدرء وقيل: على السواء.
ولو كانت إحداهما مبقية للعموم على عمومه, والأخرى توجب تخصيصه
قال القاضي في التقريب "فقيل: يجب ترجيح المبقية للعموم, لأنه
كالنص في وجوب استغراق الجنس, ومن حق العلة أن لا ترفع النصوص,
فإذا أخرجت ما اشتمل عليه العام كانت مخالفة للأصول التي يجب
سلامتها عنه وذهب الجمهور إلى أن المخصصة له أولى, لأنها
زائدة.
الاعتبار السادس - بحسب الأمور الخارجية
وهو بأمور:
أولها - أن يكون أحد القياسين موافقا للأصول في العلة:
بأن تكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع, فيرجح على
موافقة أصل واحد, لأن وجودها في الأصول الكثيرة دليل على قوة
اعتبارها في نظر الشرع فهي أولى وهذا ما صححه الشيخ أبو إسحاق
وابن السمعاني وغيرهما.
وقيل: هما سواء, وهو اختيار القاضي في التقريب, كما لا ترجيح
بكثرة العدد في الرواية عنده أما إذا كانت إحداهما أكثر فروعا
من الأخرى فهل الكثيرة أولى لكثرة فائدتها, أو هما سيان؟ فيه
وجهان حكاهما ابن السمعاني, وجزم الأستاذ أبو منصور بتقديم
الكثيرة, وزيفه الغزالي, لأن تقديم المتعدية على القاصرة
تلقيناه من مسلك الصحابة رضوان الله عليهم, ولم يظهر ذلك عند
كثرة الفروع.
ثانيها - يرجح الموافق للأصول في الحكم:
بأن يكون حكم أصله على وفق الأصول المقررة على ما ليس كذلك,
للاتفاق على الأول.
ثالثها - يرجح الذي يكون مطردا في الفروع:
بأن يلزم الحكم عليه في جميع الصور على ما ليس كذلك.
(4/484)
رابعها - انضمام علة أخرى إليها:
لأنها تزيد قوة الظن والحكم في المجتهدات بقوة الظن, واختاره
في القواطع "وحكي عن أبي زيد تصحيح عدم الترجيح بذلك, لأن
الشيء لا يتقوى إلا بصفة في ذاته, أما بانضمام غيره إليه فلا.
خامسها - أن يكون مع إحداهما فتوى صحابي:
فيرجح على ما ليس كذلك, لأنه مما يثير الظن باجتماعهما وقد
سبقت المسألة في تفاريع مذهب الصحابي, فإن جعلنا مذهبه حجة
مستقلة كان هذا من الترجيح بدليل آخر وإن قلنا: ليس بحجة
مطلقا, فهل تكون له مزية ترجيح الدليل أو لا؟ اختلفوا على
ثلاثه مذاهب:
أحدها - أنه بمزية كغيره, وإليه ذهب القاضي.
والثاني - نعم, مطلقا.
والثالث - وهو رأي إمام الحرمين: التفصيل بين أن يكون ذلك
الصحابي مشهورا بالمزية في ذلك الفن, كزيد في الفرائض, وعلي في
القضاء, اقتضى الترجيح, وإلا فلا وعزاه بعضهم إلى الشافعي,
وبنى الإبياري الخلاف على قول المصوبة والمخطئة فقال: على قول
التصويب بعدم الترجيح, وعلى الثاني بالترجيح وجعل إمام الحرمين
المراتب أربعا: أعلاها الشهادة لزيد في الفرائض, لأنها تامة ثم
يليه معاذ, ثم يليه علي, ثم يليه. الشيخان في قوله "اقتدوا
باللذين من بعدي" ثم قال الشافعي رحمه الله: "قول علي في
الأقضية كقول زيد في الفرائض" وقول معاذ في الحلال والحرام إذا
لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض.
(4/485)
|