البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي [الْأَمْرُ]
قُدِّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ فِي النَّهْيِ،
لِتَقَدُّمِ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ
طَلَبُ إيجَادِ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ طَلَبُ الِاسْتِمْرَارِ
عَلَى عَدَمِهِ، فَقُدِّمَ الْأَمْرُ تَقْدِيمَ الْمَوْجُودِ
عَلَى الْمَعْدُومِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ، وَلَوْ
لُوحِظَ التَّقْدِيمُ الزَّمَانِيُّ لَقُدِّمَ النَّهْيُ
تَقْدِيمَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ
أَقْدَمُ. وَجَمَعَهُ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَوَامِرَ،
وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ يُطْلَقُ عَلَى
أَوَامِرَ، وَبِمَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ، وَلَمْ
يُسَاعِدْهُمْ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ
سِوَى الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ "، وَأَمَّا
الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ ": الْأَمْرُ ضِدُّ
النَّهْيِ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي
الْمُحْكَمِ ": أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُكَسَّرُ عَلَى غَيْرِ
أُمُورٍ، وَأَمَّا أَئِمَّةُ النَّحْوِ قَاطِبَةً فَلَمْ
يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ " فَعْلًا " يُكَسَّرُ عَلَى "
فَوَاعِلَ " مَعَ ذِكْرِهِمْ الصِّيَغَ الشَّاذَّةِ
وَالْمَشْهُورَةِ.
وَقَدْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْمَوْضِعِ الْإِمَامُ أَبُو
الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَذَكَرَ
أَنَّ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ
أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي
كِتَابِ " التَّعَاقُبِ " لَهُ نَظِيرًا، وَعَلَّلَ هَاتَيْنِ
اللَّفْظَتَيْنِ أَعْنِي أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ بِمَا يُسَوِّغُ
إجَازَتَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ
(3/257)
أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ آمِرٍ وَهَذَا
فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ حَقِيقَةً هُوَ
الْمُتَكَلِّمُ، وَنَقْلُهُ إلَى الْمَصْدَرِ مَجَازٌ، ثُمَّ
قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ الصِّيغَةُ فَإِنَّهُ قَدْ تُسَمَّى
الصِّيغَةُ آمِرَةً تَجَوُّزًا وَإِذَا كَانَ الْمُفْرَدُ
فَاعِلَهُ، صَحَّ الْجَمْعُ عَلَى أَوَامِرَ " فَوَاعِلَ "
اسْمًا كَانَ الْمُفْرَدُ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، أَوْ
صِفَةً كَكَاتِبَةٍ وَكَوَاتِبَ. قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ فِي
التَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا؛ إذْ
الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ لَا فِي الْأَلْفَاظِ.
وَحَكَى الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ
بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ الْجَمْعِ،
فَالْأَوَامِرُ أَوَّلًا جُمِعَ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى
(أَأْمُرٍ) بِوَزْنِ أَفْعُلٍ ثُمَّ جُمِعَ هَذَا عَلَى
أَوَامِرَ، نَحْوَ كَلْبٍ وَأَكَالِب، فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ لَيْسَ أَفَاعِلَ بَلْ هُوَ
فَوَاعِلُ بِخِلَافِ أَكَالِبَ فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ ثُمَّ
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا لَا يَتِمُّ فِي النَّوَاهِي
فَإِنَّ النُّونَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي الْغَدَايَا
وَالْعَشَايَا، وَيُمْكِنُ رَدُّ النَّوَاهِي أَيْضًا إلَى
أَنَّهُ جَمْعُ نَاهِيَةٍ مَصْدَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْآمِرَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَصَادِرَ
مَسْمُوعَةٌ، وَلَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ. إذَا ثَبَتَ
ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا مَبَاحِثَ: أَحَدُهَا: فِي
لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالثَّانِي: فِي مَدْلُولِهِ،
وَالثَّالِثُ: فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " فَأَمَّا لَفْظُ "
أَمْرٍ " فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى ضِدِّ النَّهْيِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْله
تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]
أَيْ: فِعْلُهُ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لِلْقَوْلِ
الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، وَكُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِشَيْئَيْنِ
فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي
كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ لَا، وَالثَّانِي مَجَازٌ، وَالْأَوَّلُ
إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا، وَهُوَ
الْمُتَوَاطِئُ أَوْ لَا يَتَّفِقَا، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ،
فَهَذِهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ قَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهَا صَائِرٌ.
(3/258)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى
الْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً، وَهُوَ قَوْلُك: "
افْعَلْ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي
وُقُوعِهِ عَلَى الْعَقْلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشَّأْنِ
وَالصِّفَةِ وَالْقِصَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ، عَلَى
مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَإِنَّ
الْقَائِلَ لَوْ قَالَ: " أَمْرٌ " لَا يَدْرِي السَّامِعُ
أَيَّ الْأُمُورِ أَرَادَ فَإِذَا قَالَ: أَمْرٌ بِكَذَا
فُهِمَ الْقَوْلُ فَإِذَا قَالَ: أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ
فُهِمَ الشَّأْنُ وَالطَّرِيقَةُ، فَإِذَا قَالَ: زَيْدٌ فِي
أَمْرٍ عَظِيمٍ فُهِمَ الْفِعْلُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ
عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، قَالَ
صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ أَفْعَالَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:
63] .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ مَجَازٌ فِي
الْفِعْلِ، وَوَجْهُ الْعَلَاقَةِ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ،
فَإِنَّ الْفِعْلَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ فِي الِافْتِقَارِ إلَى
مَصْدَرٍ يَصْدُرُ بِهِ، وَهَذَا يَعُمُّ الْأَفْعَالَ
وَالْأَقْوَالَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ جُمْلَةَ أَفْعَالِ
الْإِنْسَانِ لَمَّا دَخَلَ فِيهَا الْأَقْوَالُ سُمِّيَتْ
الْجُمْلَةُ بِاسْمِ جُزْئِهَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ "
عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ
فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ مَعَ أَنَّهُ
فِي الْإِفَادَةِ " حَكَى الْأَوَّلَ عَنْهُمْ، وَعَنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ
خَاصَّةً. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ
الْإِفَادَةِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَاهُ
صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَالْمَصَادِرِ " عَنْ
الْأَكْثَرِينَ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ
الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ
وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ
وَتَبِعَهُ
(3/259)
ابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا عَلَى جِهَةِ
الْإِلْزَامِ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَارَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ وَالشَّأْنِ
وَالطَّرِيقِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ
وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ. انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ
أَنَّهُ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ،
لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فَسَّرَ الشَّأْنَ
وَالطَّرِيقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ
أَرْبَعَةً، وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ
مَوْضُوعٌ لِلْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا،
وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ
لَهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّأْنِ. وَحَكَى صَاحِبُ
الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُسْتِيِّ أَنَّهُ
حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ دُونَ
آحَادِ الْأَفْعَالِ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ
مَنْ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ،
كَتَحْرِيكِ أَصَابِعِهِ وَأَجْفَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ:
إنَّهُ مَشْغُولٌ بِأَمْرٍ، أَوْ هُوَ فِي أَمْرٍ. قَالَ:
وَاَلَّذِي أَدَّاهُمْ إلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ هِيَ عَلَى
الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي
شَرْحِ اللُّمَعِ ": أَفْعَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَتَضَمَّنُ أَمْرًا؟ فِيهِ
وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فِي
الْمَحْصُولِ " مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَمَرْت فُلَانًا
فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ أَشَارَ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ
مَدْلُولُ الصِّيغَةِ فَإِنْ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ
حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْقَوْلِ لَزِمَ الْعِتْقُ. قَالَ:
وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِمَا إذَا خَرِسَ وَأَشَارَ فَإِنَّهُ
يُعْتَقُ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
(3/260)
[الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي مَدْلُولِ
الْأَمْرِ]
فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ بِحَسَبِ
اخْتِلَافِهِمْ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ
وَنَفْيِهِ، فَصَارَ النُّفَاةُ إلَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ
اللَّفْظِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ، وَالْأَمْرُ وَسَائِرُ
الْكَلَامِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ إلَّا
الْعِبَارَاتِ، فَقَالُوا: إنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى
طَلَبِ الْفِعْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَصَارَ
الْمُثْبِتُونَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِالْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ،
وَهُوَ مَا قَامَ بِالنَّفْسِ مِنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ
الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الطَّلَبُ وَاللَّفْظُ
دَالٌّ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْقَوْلُ
الْمُقْتَضِي بِنَفْسِهِ طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَيُرِيدُ
بِالِاقْتِضَاءِ الطَّلَبَ فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ وَغَيْرُهُ
مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَيُحْتَرَزُ بِقَوْلِهِ "
بِنَفْسِهِ " عَنْ الصِّيَغِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا
لَا تَقْتَضِي بِنَفْسِهَا، بَلْ إنَّمَا يُشْعَرُ مَعْنَاهَا
بِوَاسِطَةِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ، وَقَوْلُهُ: " طَاعَةُ
الْأَمْرِ " لِيَنْفَصِلَ الْأَمْرُ عَنْ الدُّعَاءِ
وَالرَّهْبَةِ. وَهَذَا تَعْرِيفُ النَّفْسَانِيِّ فَإِنْ
أَرَدْت اللِّسَانِيَّ أَسْقَطْت قَوْلَهُ: بِنَفْسِهِ
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ عَرَّفَ الشَّيْءَ بِمَا
يُسَاوِيهِ فِي الْخَفَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ
الْأَمْرَ لَا يَعْرِفُ الْمَأْمُورَ، فَإِنَّهُ تَعْرِيفٌ
لَهُ بِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَإِنَّ
الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، فَمَنْ لَا
يَعْرِفُهُ لَا يَعْرِفُهَا ثُمَّ يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَيُجَابُ مِنْ جِهَةِ الطَّاعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا
الطَّاعَةُ اللُّغَوِيَّةُ. وَالصَّحِيحُ فِيهِ: أَنَّهُ
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ
بِالْوَضْعِ، فَخَرَجَ النَّهْيُ، فَإِنَّهُ طَلَبُ فِعْلٍ
أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ كَفٌّ، وَخَرَجَ " بِالْأَمْرِ " نَحْوَ
أَوْجَبْت عَلَيْك كَذَا فَإِنَّهُ صَادِقٌ عَلَيْهِ مَعَ
كَوْنِهِ خَبَرًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ اسْمٌ
لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الطَّلَبِ الْمَانِعِ
مِنْ النَّقِيضِ لَا لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى
مُطْلَقِ الطَّلَبِ. قَالَ: وَذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ
(3/261)
بِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ،
وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هُوَ
صِيغَةُ " افْعَلْ " وَالصَّوَابُ: تَغَيُّرُهُمَا، وَيَدُلُّ
لَهُ ذَهَابُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي إلَى أَنَّ
الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ صِيغَةَ "
افْعَلْ " حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ. قَالَ الْقَاضِي فِي
مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ مَعْنًى
قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَحَقِيقَتُهُ اقْتِضَاءُ الطَّاعَةِ.
ثُمَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى نَدْبٍ وَوُجُوبٍ لِيَتَحَقَّقَ
الِاقْتِضَاءُ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ
عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، كَقَوْلِ
الْقَائِلِ: " افْعَلْ " فَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ
عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ،
فَيُتَوَقَّفُ فِيهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِقُيُودِ الْمَآلِ أَوْ
بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ
الْمُقْتَضِيَاتِ، فَهَذَا مَا نَرْتَضِيهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ.
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي أَجْوِبَةِ التَّحْصِيلِ ": لَفْظُ " أَمْرٍ "
يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْمَعْنَى
الْقَائِمِ بِالذَّاتِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هَلْ هُوَ طَلَبٌ
أَوْ إرَادَةٌ؟ اخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا
وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ
بِالذَّاتِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ لَا نَصِيرُ مَأْمُورِينَ بِهِ
إلَّا إذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَمْرُ
الْقَوْلِيُّ. فَائِدَةٌ قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى: تَفْسِيرُ أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالطَّلَبِ
مُحَالٌ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ فِي حَقِّنَا مَيْلُ
النَّفْسِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُهُ
بِالْأَدَاةِ وَالصِّيغَةِ مُمْتَنِعٌ، فَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ
بِالْإِخْبَارِ عَنْ الثَّوَابِ عَلَى الْقَوْلِ لَا غَيْرُ
تَارَةً وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ أُخْرَى. حَكَاهُ أَبُو
الْمَحَاسِنِ الْمَرَاغِيُّ فِي كِتَابِ غُنْيَةً
الْمُسْتَرْشِدِ ".
[هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمْرِ الْعُلُوُّ أَوْ
الِاسْتِعْلَاءُ]
وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمْرِ الْعُلُوُّ أَوْ
الِاسْتِعْلَاءُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:
(3/262)
أَحَدُهَا: يُعْتَبَرَانِ، وَبِهِ جَزَمَ
ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي
مُخْتَصَرِهِ الصَّغِيرِ ". وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمُخْتَارُ
لَا يُعْتَبَرَانِ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي
أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا لَكِنْ
احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ
{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] وَهُوَ مَرْدُودٌ؛
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَشُورَةُ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ
الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] وَقَطَعَ بِهِ
الْعَبْدَرِيُّ فِي الْمُسْتَوْفَى " مُحْتَجًّا بِإِجْمَاعِ
النَّحْوِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ،
وَأَنَّهُ لَا رُتْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرُوا أَيْضًا
الدُّعَاءَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَسَّمُوهُ إلَى مَا
يَأْتِي بِلَفْظِ الْأَمْرِ، نَحْوَ ارْحَمْنَا، وَبِلَفْظِ
النَّهْيِ، نَحْوَ لَا تُعَذِّبْنَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: لَهُ الدُّعَاءُ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَعْظَمَ أَنْ يُقَالَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ. انْتَهَى. وَلَمْ
يَذْكُرُوا الْمُقَابِلَ لِلدُّعَاءِ اسْمًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَجِدُوهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ هَذَا أَمْرًا
طَارِئًا عَلَى اللُّغَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا. قَالَ:
فَالصَّوَابُ: أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " ظَاهِرٌ فِي
اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَعْلَى أَوْ مُسَاوٍ
أَوْ دُونَ لَكِنْ يَتَمَيَّزُ بِالْقَرِينَةِ فَإِنْ كَانَ
الْمُخَاطَبُ مَخْلُوقًا كَانَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
حَمْلِهِ عَلَى الدُّعَاءِ بِالِاصْطِلَاحِ الْعُرْفِيِّ
الشَّرْعِيِّ لَا اللُّغَوِيِّ. وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ،
قَوْلُ ابْنِ فَارِسٍ فِي كِتَابِهِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ "
وَهُوَ مِنْ فُرْسَانِ اللُّغَةِ: الْأَمْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ،
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَأْمُورُ بِهِ سُمِّيَ
الْمَأْمُورُ بِهِ عَاصِيًا.
(3/263)
وَالثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ الْعُلُوُّ
بِأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الْمَطْلُوبِ
مِنْهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَالْتِمَاسٌ أَوْ كَانَ دُونَهُ
فَسُؤَالٌ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، وَاخْتَارَهُ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ
فِي الْمُلَخَّصِ " وَنَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَنَقَلَهُ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ،
وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ،
وَسُلَيْمٍ الرَّازِيّ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ،
وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو
الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِهِ شُرُوطِ الْأَحْكَامِ
" وَشُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِمَّنْ تَجِبُ
طَاعَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ لَهُ: أَمْرٌ.
وَالرَّابِعُ: وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ يُعْتَبَرُ الِاسْتِعْلَاءُ لَا الْعُلُوُّ،
وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَالِيًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ
وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي
الْأَوْسَطِ ".
[مَسْأَلَةٌ اعْتِرَاضٌ عَلَى حَدِّ الْأَمْرِ]
[اعْتِرَاضٌ عَلَى حَدِّ الْأَمْرِ] لَمَّا أَخَذُوا الطَّلَبَ
فِي حَدِّ الْأَمْرِ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الطَّلَبَ
أَخْفَى مِنْ الْأَمْرِ، وَالتَّعْرِيفُ بِالْأَخْفَى
يَمْتَنِعُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الطَّلَبُ بَدِيهِيُّ
التَّصَوُّرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ بِالْبَدِيهَةِ
تَفْرِقَةً بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ، ثُمَّ
قَالُوا: مَعْنَى الطَّلَبِ هُوَ غَيْرُ الصِّيغَةِ
لِاتِّحَادِهِ وَاخْتِلَافِهَا وَتَبَدُّلِهِ وَثُبُوتِهَا،
بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ يَجْرِي
مَجْرَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ،
وَهَذِهِ الصِّيَغُ الْمَخْصُوصَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهَا.
(3/264)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ
مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الْأَمْرِ
عَلَى الطَّلَبِ يَكْفِي فِيهَا الْوَضْعُ، وَلَا يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ مُرِيدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ هَذَا
قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ. وَقَالَ
أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ
وَتَبِعَهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ. وَأَبُو
الْحُسَيْنِ: لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ إرَادَةِ الْمَأْمُورِ
بِهِ فِي دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ أَبُو
سُفْيَانَ فِي الْعُيُونِ " عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَقَالُوا: لَا يَنْفَكُّ الْأَمْرُ عَنْ الْإِرَادَةِ
مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الصِّيغَةَ كَمَا تَرِدُ لِلطَّلَبِ
تَرِدُ لِلتَّهْدِيدِ مَعَ خُلُوِّهِ عَنْ الطَّلَبِ فَلَا
بُدَّ مِنْ مُمَيِّزٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُمَيِّزَ سِوَى
الْإِرَادَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَاصِلٌ
بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقِيَّةٌ فِي
الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا كَافٍ
فِي التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ
إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا إلَّا بِالْإِرَادَةِ فَإِنْ
لَمْ تُعْلَمْ إرَادَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا، وَاخْتَلَفُوا
هَلْ تُعْتَبَرُ إرَادَةُ الْأَمْرِ أَوْ إرَادَةُ
الْمَأْمُورِ بِهِ؟ فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ إرَادَةَ الْأَمْرِ
الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إرَادَةَ
الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِرَادَةِ
وَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَمْرِ،
وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَ الْأَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ
بِالْأَمْرِ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ
بِالْإِرَادَةِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَدْ حَرَّرَ ابْنُ
بَرْهَانٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِ
الْأَوْسَطِ ": اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ لِمَصِيرِ الصِّيغَةِ
أَمْرًا ثَلَاثَ إرَادَاتٍ:
(3/265)
إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ مُرِيدًا
لِإِيجَادِ الصِّيغَةِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهَا
بِأَنْ يَكُونَ سَاهِيًا أَوْ ذَاهِلًا أَوْ نَائِمًا لَا
تَكُونُ الصِّيغَةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ أَمْرًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِصَرْفِ صِيغَةِ
الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ
الْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى جِهَاتٍ
كَالتَّعْجِيزِ وَالتَّكْوِينِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ
وَغَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِصَرْفِ
الصِّيغَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ
وَعَبَّرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ
هَذَا فَقَالَ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا
بِالصِّيغَةِ مَا هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ.
وَالثَّالِثَةُ: هِيَ إرَادَةُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ
وَالِامْتِثَالِ، فَأَمَّا الْأُولَى، وَهِيَ إرَادَةُ إيجَادِ
الصِّيغَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهَا
[الثَّانِيَةُ إرَادَةُ صَرْفِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ
الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ]
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، وَهِيَ إرَادَةُ صَرْفِ الصِّيغَةِ
مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ
فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ
إلَى اعْتِبَارِهَا، وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ إلَى
أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ، لَكِنْ إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ
مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرَائِنِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا
الثَّالِثَةُ: فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْمُعْتَزِلَةِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا
تُعْتَبَرُ، وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى اعْتِبَارِهَا.
قَالَ: وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ كَبِيرٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا
وَحَيِّزِهَا لَا تَجْرِي عِنْدَنَا إلَّا بِإِرَادَةِ
اللَّهِ. وَأَمَّا الْمَازِرِيُّ فَنَقَلَ عَنْ
الْمُعْتَزِلَةِ اشْتِرَاطَ الْإِرَادَاتِ الثَّلَاثِ إلَّا
الْكَعْبِيَّ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْأُولَى. قَالَ
الْمُقْتَرَحُ ": فَمَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ مُتَهَافِتٌ
فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِلْإِرَادَةِ عَنْ الْقَدِيمِ تَعَالَى،
وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَارِي - تَعَالَى - آمِرًا.
وَفِيهِ رَفْضُ الشَّرَائِعِ عَنْ آخِرِهَا، وَلَمَّا قِيلَ
لَهُ: إنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَافِحٌ بِنِسْبَةِ
الْإِرَادَةِ إلَيْهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ جَوَابُك؟ قَالَ: إنْ
أُرِيدَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لِأَفْعَالِهِ كَانَ مَعْنَاهُ
أَنَّهُ خَالِقُهَا وَمُنْشِئُهَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ
مُرِيدٌ لِأَفْعَالِ عِبَادِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ
بِهَا، وَهَذَا
(3/266)
الْكَلَامُ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ
الْإِرَادَةُ، ثُمَّ يُجْعَلُ إطْلَاقُ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْآمِرِ. وَلِمَنْ يَنْتَصِرُ
لِلْكَعْبِيِّ أَنْ يَقُولَ: هُوَ لَمْ يَنْفِهَا غَايَتُهُ
أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ
الِاشْتِرَاطِ النَّفْيُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْإِرَادَةِ
لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ مَعْنًى
غَيْرُ إرَادَةِ الْفِعْلِ فَإِنَّا نَجِدُ الْآمِرَ يَأْمُرُ
بِمَا لَا يُرِيدُ، وَهُوَ آمِرٌ، وَإِلَّا لَمَا عُدَّ
تَارِكُهُ مُخَالِفًا. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ
إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَحَدُ
أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ
مَأْمُورًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ، أَوْ لَا يَكُونُ
وُقُوعُهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكُلٌّ
مِنْهُمَا مُحَالٌ. وَلِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ
صَارَ أَصْحَابُنَا إلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ
لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا
لَا يُرِيدُهُ حَقِيقَةٌ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ
صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُمْنَعُ بِمَا سَبَقَ
فَإِنَّهُ يُعَدُّ تَارِكُهُ مُخَالِفًا. وَعِنْدِي: أَنَّ
الْخِلَافَ لَمْ يَتَوَارَدْ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّا
نُرِيدُ بِالْإِرَادَةِ الطَّلَبَ النَّفْسِيَّ الَّذِي لَا
يَتَخَلَّفُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ
لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ:
إنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلطَّلَبِ الَّذِي
يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ،
فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ
لِلْإِرَادَةِ.
وَقَالُوا: الطَّلَبُ الَّذِي يُغَايِرُ الْإِرَادَةَ لَوْ
صَحَّ الْقَوْلُ بِهِ لَكَانَ أَمْرًا خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ إلَّا الْخَوَاصُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ
اللَّفْظُ لِمَعْنًى خَفِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
فِي الْقَوَاطِعِ ": ثُمَّ هُوَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ وَلَيْسَ
بِأَمْرٍ. بِالْإِرَادَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ
أَمْرٌ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهِيَ
تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ كَلَامِيَّةٍ فَإِنَّ عِنْدَنَا
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدَهُ،
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْجُدَ، وَنَهَى آدَمَ عَنْ
أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، وَأَمَرَ
إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُذْبَحَ،
وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا
(3/267)
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ:
افْعَلْ، فَقَالَ: أَمَرْته بِكَذَا وَلَمْ يَعْلَمْ
مُرَادَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ
فَقَطْ. انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ
يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ
الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا
بِمَا يُرِيدُهُ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا
يُرِيدُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا كَإِيمَانِ مَنْ أَمَرَهُ
بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ، وَأَمَرَ خَلِيلَهُ
بِالذَّبْحِ وَلَمْ يَذْبَحْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِخَمْسِينَ
صَلَاةً وَلَمْ يُصَلِّ، وَفَائِدَتُهُ الْعَزْمُ عَلَى
الِامْتِثَالِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى
التَّغَايُرِ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا
دَيْنَهُ غَدًا، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقْضِهِ
لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا
بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَلَوْ كَانَ - تَعَالَى - قَدْ شَاءَ
[لِمَا] أَمَرَهُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ،
وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ يَطْلُبُهُ،
فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَقَدْ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ
الْوَفَاءِ فِي غَدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ غَدًا مَحَلَّ
الْأَجَلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ غَيْرُ
مُطَالَبٍ فَفِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ
لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَ
الدَّيْنِ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ
مَدْلُولُ الْأَمْرِ حَتَّى يَحْنَثَ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ
بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ
اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ،
فَإِنْ صُرِّحَ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ
مَنَعْنَا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ.
[الثَّالِثَةُ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ
النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ]
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ
الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ الدَّالَّةِ
عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا؟
أَقُولُ، كَالْخِلَافِ فِي سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّ
لَفْظَ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفِعْلِ
وَالْقَوْلِ؟ فَإِنَّهُ هُنَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ
الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ.
(3/268)
[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ صِيغَةُ
الْأَمْرِ]
فِي صِيغَتِهِ وَهِيَ " افْعَلْ " وَفِي مَعْنَاهُ "
لِيَفْعَلْ ". قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْأَمْرُ بِلَفْظِ "
افْعَلْ " وَلْيَفْعَلْ نَحْوَ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
[البقرة: 43] {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ} [المائدة: 47]
. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَصْلِ فِعْلِ
الْأَمْرِ هَلْ هُوَ " افْعَلْ " أَوْ لِيَفْعَلْ "؟ فَذَهَبَ
قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ " لِيَفْعَلْ "؛ لِأَنَّ
الْأَمْرَ مَعْنًى، وَالْأَصْلُ فِي الْمَعَانِي أَنْ
تُسْتَفَادَ بِالْحُرُوفِ كَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِ. وَذَهَبَ
الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ " افْعَلْ "؛ لِأَنَّهُ
يُفِيدُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ بِخِلَافِ "
لِيَفْعَلْ " فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّامِ. حَكَاهُ
الْعُكْبَرِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ "، فَأَمَّا مُنْكِرُو
الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ
تَضَعْ لَهُ صِيغَتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ هُوَ
الصِّيغَةُ، فَكَيْفَ تُوضَعُ صِيغَةٌ لِلصِّيغَةِ؟
وَإِضَافَتُهُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ
بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: الصِّيغَةُ
الْعِبَارَةُ الْمَصُوغَةُ لِلْمَعْنَى الْقَائِمِ
بِالنَّفْسِيِّ، فَإِذَا قُلْنَا: هَلْ الْأَمْرُ صِيغَةٌ؟
فَالْمَعْنِيُّ بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ
هَلْ صِيغَتْ لَهُ عِبَارَةٌ مُشْعِرَةٌ بِهِ؟ وَمَنْ نَفَى
كَلَامَ النَّفْسِ إذَا قَالَ: صِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا،
فَنَفْسُ الصِّيغَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْأَمْرُ، فَإِذَا
أُضِيفَتْ الصِّيغَةُ إلَى الْأَوَامِرِ لَمْ تَكُنْ
الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِك:
نَفْسُ الشَّيْءِ ذَاتُهُ، وَلِرُجُوعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ
عِنْدَهُمْ إلَى الْعِبَارَةِ.
(3/269)
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُثْبِتُونَ
لِكَلَامِ النَّفْسِ فَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ
مَخْصُوصَةٌ؟ أَيْ: أَنَّ الْعَرَبَ صَاغَتْ لِلْأَمْرِ
لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ؛ أَيْ: وَضَعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى
مَا فِي النَّفْسِ لَفْظَةً تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا أَمْرًا،
وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ لَهَا صِيغَةً فَمَا مُقْتَضَى تِلْكَ
الصِّيغَةِ؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ،
وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا
قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إلَى أَنَّ لَهُ صِيغَةً
تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ
الْقَرَائِنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ، وَقَالَ ابْنُ
السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
انْتَهَى. وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ تَخْتَصُّ بِهِ،
وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " افْعَلْ " مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ فُرِضَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ
النَّهْيِ، فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ جَمِيعِ
مُحْتَمَلَاتِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَحُكِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَالَ
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ
ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ
قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": لَمَّا قَالَ تَعَالَى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]
احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ؛ قَالَ: فَلَمَّا احْتَمَلَ
الشَّافِعِيُّ الْأَمْرَ فِي تِلْكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ
وُقِفَ بِهِ الدَّلِيلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا
تَعَنُّتٌ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ
يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَيُرِيدُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ
تَرِدَ دَلَالَةٌ تَخُصُّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَلَّى
وَالْإِطْلَاقُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ، كَمَا يَقُولُ بِمِثْلِهِ فِي
الْعُمُومِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا
اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ يَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ. اهـ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَنْزِيلِ مَذْهَبِهِ،
فَقِيلَ: اللَّفْظُ صَالِحٌ لِجَمِيعِ الْمَحَامِلِ
(3/270)
صَلَاحَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ
لِلْمَعَانِي الَّتِي ثَبَتَ اللَّفْظُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا
خِلَافَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ: أَمَرْتُكُمْ وَنَحْوَهُ
دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ
قَوْلَهُ: " افْعَلْ " هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ مُجَرَّدُ
صِيغَتِهِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ؟ وَقِيلَ: أَرَادَ
الْوَقْفَ بِمَعْنَى لَا نَدْرِي عَلَى أَيِّ وَضْعٍ جَرَى
فَهُوَ مَشْكُوكٌ. ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ
عَلَى الْقَوْلِ بِهِ مَعَ فَرْضِ الْقَرَائِنِ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُ
وَقَالَ: لَعَلَّهُ فِي مَرَاتِبِ الْمَقَالِ دُونَ الْحَالِ.
انْتَهَى. وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْعَادِ ذَلِكَ فَإِنَّ
الْقَرَائِنَ لَا تُبَيِّنُ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَفَ
الشَّيْخُ فِيهِ، وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مُرَادَ
الْمُتَكَلِّمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ قَاطِعًا بِهِ
أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ لَا يُنْكِرُ صِيغَةً مُشْعِرَةً
بِالْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ الْقَائِمِ
بِالنَّفْسِ. نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَوْجَبْت أَوْ
أَلْزَمْت وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِيهِ
مُجَرَّدُ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " مِنْ حَيْثُ
وَجَدَهُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ مُتَرَدِّدًا، وَحِينَئِذٍ
فَلَا يُظَنُّ بِهِ عِنْدَ الْقَرِينَةِ نَحْوُ " افْعَلْ "
حَتْمًا. أَوْ وَاجِبٌ. نَعَمْ. قَدْ يَتَرَدَّدُ فِي
الصِّيغَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَلَامُ إذَا قُرِنَتْ بِهَذِهِ
الْأَلْفَاظِ فَالْمُشْعِرُ بِالْأَمْرِ النَّفْسِيِّ
الْأَلْفَاظُ الْمُقْتَرِنَةُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ
" أَمْ لَفْظُ " افْعَلْ "، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَفْسِيرٌ
لَهَا؟ وَهَذَا تَرَدُّدٌ قَرِيبٌ، ثُمَّ مَا نَقَلَهُ
النَّقَلَةُ يَخْتَصُّ بِقَرَائِنِ الْمَقَالِ عَلَى مَا فِيهِ
مِنْ الْخَبْطِ، فَأَمَّا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ فَلَا
يُنْكِرُهَا أَحَدٌ، وَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى سِرِّ
مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَطَبَقَةِ
الْوَاقِفِيَّةِ. انْتَهَى.
وَاسْتَبْعَدَ الْغَزَالِيُّ النَّقْلَ عَنْ الشَّيْخِ
وَالْقَاضِي بِالْوَقْفِ عَنْهُمَا أَنَّ لَهُ صِيغَةً
مُخْتَصَّةً بِهِ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَرْتُك أَوْ
أَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صِيغَةً لِلْأَمْرِ، بَلْ هُوَ إخْبَارٌ
عَنْ
(3/271)
وُجُودِ الْأَمْرِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ
ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ إنْشَاءً فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى
الْمَطْلُوبِ؛ وَهُوَ كَوْنُ الصِّيغَةِ مُخْتَصَّةً بِهِ،
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِخْبَارِ فَلَا تَكُونُ الصِّيغَةُ مُخْتَصَّةً بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّمَا صَارَ شَيْخُنَا أَبُو
الْحَسَنِ إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ لَا يُتَلَقَّى مِنْ الْعَقْلِ؛ إذْ الْعَقْلُ لَا
يَدُلُّ عَلَى وَضْعِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ، وَإِنَّمَا
يُتَلَقَّى مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا
الْعَرَبُ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا
مُشْتَرَكَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ: فَذَهَبَ أَئِمَّةُ
الْفُقَهَاءِ [إلَى] أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ
بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهَا أَمْرًا إذَا تَعَرَّتْ عَنْ
الْقَرَائِنِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ غَيْرَ الْبَلْخِيّ
إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ
بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ
أَمْرًا بِقَرِينَةِ الْإِرَادَةِ.
قَالَ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ
الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا
يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُزَايِلُهَا؟ وَكَذَلِكَ عَنْهُ
سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ
وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذِهِ عِنْدَهُ
مَعَانٍ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ لَا تُزَايِلُهَا؟ كَالْقُدْرَةِ
وَالْعِلْمِ، وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ يَقُولُ: هِيَ حِكَايَةُ
الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ: هِيَ حِكَايَةٌ لِاسْتِلْزَامِهَا أَنْ يَكُونَ
الشَّيْءُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ لَكِنْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ
الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا
خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ
بِالنَّفْسِ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ: إنَّهُ لَهُ
صِيغَةٌ أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ
ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ. وَلَكِنْ يَقَعُ الْخِلَافُ فِي
اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ،
وَلَا دَالًّا عَلَى ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ صِيغَتِهِ، وَلَكِنْ
يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا بَيَّنَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ
دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ
عَنْ الْأَمْرِ حُمِلَ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ
(3/272)
التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ
وَالتَّحْقِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُمِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
احْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ
صِيغَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
قَالَ: فَفِي هَذِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا صِيغَةَ
لِلْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا أَمْرُهُ فَجَعَلَ أَمْرَهُ
" كُنْ "، وَهِيَ صِيغَةٌ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى
الْقَائِلِينَ: إنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ،
فَإِنَّ الْآيَةَ فِيهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ
وَالْأَمْرِ قَالَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ} [يس:
82] .
قَالَ: وَالدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ
أَهْلَ اللُّغَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ
يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ:
ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ
إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ؛
لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ}
[النور: 32] لَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إيجَابِ الْعَقْدِ،
وَعَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ لِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ بَيْنَ
الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ. لَكِنَّ الْوَاقِفِيَّةِ اخْتَلَفُوا
فِي حَقِيقَةِ الْوَقْفِ هَلْ هُوَ وَقْفُ جَهَالَةٍ بِمَا
عِنْدَ الْعَرَبِ، أَوْ وَقْفُ عَارِفٍ بِمَا عِنْدَهُمْ،
وَهُوَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ
الْمَصَارِفِ الْآتِيَةِ فَيَقِفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ:
وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفَ، وَإِنْ
ظَهَرَتْ الْقَرَائِنُ فَقَدْ أَغْلَى، وَلَوْ ثَبَتَ
فَلَعَلَّ الْوَقْفَ فِي الْإِفَادَةِ بِمَا جُعِلَتْ هَذِهِ
اللَّفْظَةُ أَوْ اللِّسَانُ. انْتَهَى.
وَذَهَبَ غَيْرُ الْوَاقِفِيَّةِ إلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي
الْوُجُوبِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ
عَنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ الْأَمْرَ عَلَى أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ
مِنْهَا لِلْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ فِي
بَعْضِهَا عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ، وَمُخْتَارُ إمَامِ
الْحَرَمَيْنِ الْقَطْعُ بِاقْتِضَائِهَا الطَّلَبَ
الْمُنْحَصِرَ مَصِيرًا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ فَصَلَتْ بَيْنَ
قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " لَا
تَفْعَلْ ".
(3/273)
[تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هَلْ لِلْأَمْرِ
صِيغَةٌ]
الْأَوَّلُ: [هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ؟] خَطَّأَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ
بِأَنَّ الْأَمْرَ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ؟ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ
الشَّارِعِ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: نَهَيْتُكُمْ صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
النَّهْيِ، وَقَوْلُهُ: أَوْجَبْت، صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
الْوُجُوبِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا صِيغَةُ "
افْعَلْ " إذَا أُطْلِقَتْ هَلْ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ
بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا
بِقَرِينَةٍ؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ:
لَا مَعْنَى لِهَذَا الِاسْتِبْعَادِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ:
أَمَرْتُك، وَأَنْتَ مَأْمُورٌ لَا يَرْفَعُ هَذَا الْخِلَافَ؛
إذْ الْخِلَافُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ صِيغَةُ
الْإِنْشَاءِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَمَرْتُك وَأَنْتَ
مَأْمُورٌ إخْبَارٌ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْهِنْدِيِّ
فِيهِ.
[الثَّانِي الْمُرَادُ بِصِيغَةِ افْعَلْ]
ْ) ] الْمُرَادُ بِصِيغَةِ " افْعَلْ " لَفْظُهَا وَمَا قَامَ
مَقَامَهَا مِنْ اسْمِ الْفِعْلِ كَصَهْ، وَالْمُضَارِعُ
الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ، مِثْلَ " لِيَقُمْ " عَلَى
الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيهِ. وَصِيَغُ الْأَمْرِ مِنْ
الثُّلَاثِيِّ " افْعَلْ " نَحْوَ اسْمَعْ نَحْوَ احْضَرْ،
وَافْعِلْ نَحْوَ اضْرِبْ، وَمِنْ الرُّبَاعِيِّ فَعْلَلٌّ
نَحْوَ قَرْطِسْ، وَأَفْعِلْ نَحْوَ أَعْلِمْ، وَفَعِّلْ
نَحْوَ عَلِّمْ، وَفَاعِلْ نَحْوَ نَاظِرْ، وَمِنْ
الْخُمَاسِيِّ تَفَعْلَلْ نَحْوَ تَقَرْطَسْ، وَتَفَاعَلْ
نَحْوَ تَقَاعَسْ، وَانْفَعِلْ نَحْوَ انْطَلِقْ، وَافْتَعِلْ
نَحْوَ اسْتَمِعْ وَافْعَلْ نَحْوَ احْمَرَّ، وَمِنْ
السُّدَاسِيِّ اسْتَفْعِلْ نَحْوَ اسْتَخْرِجْ، وَافْعَوْعِلْ
نَحْوَ اغْدَوْدِنْ، وَافْعَالَّ نَحْوَ احْمَارَّ،
وَافْعَنْلِلْ نَحْوَ اقْعَنْسِسْ، وَافْعَوِّلْ نَحْوَ
اعْلَوِّطْ
(3/274)
وَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ الْمَجْعُولُ
جَزَاءَ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] أَيْ: فَحَرِّرُوا،
وَقَوْلُهُ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أَيْ:
فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ، وَقَوْلُهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَافْدُوا، وَقَوْلُهُ:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ:
صُومُوا.
قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي أَوَّلِ بَابِ الرَّهْنِ
مِنْ تَعْلِيقِهِ ". وَإِنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ "
افْعَلْ " بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ.
وَتَرِدُ صِيغَةُ " افْعَلْ " لِنَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مَعْنًى:
أَحَدُهَا: الْإِيجَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . الثَّانِي:
كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
[النور: 33] وَمَثَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ
فِي كِتَابِ " تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ " بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]
وَمَثَّلَهُ ابْنُ فَارِسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَأَشَارَ
الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ إنَّمَا يَصِحُّ
إذَا قُلْنَا: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
الثَّالِثُ: الْإِرْشَادُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَسَمَّاهُ
الشَّافِعِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": الرُّشْدَ.
وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ «سَافِرُوا تَصِحُّوا» وَأَشَارَ إلَى
الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ:
(3/275)
وَفِي كُلِّ حَتْمٍ مِنْ اللَّهِ رُشْدٌ،
فَيَجْتَمِعُ الْحَتْمُ وَالرُّشْدُ. وَسَمَّاهُ
الصَّيْرَفِيُّ: الْحَظَّ، وَفَرَّقَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ
وَغَيْرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّدْبِ بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ
مَطْلُوبٌ لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالْإِرْشَادُ لِمَنَافِعِ
الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ فِيهِ الثَّوَابُ، وَالثَّانِي لَا
ثَوَابَ فِيهِ. الرَّابِعُ: التَّأْدِيبُ وَعَبَّرَ عَنْهُ
بَعْضُهُمْ بِالْأَدَبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] قَالَ:
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُ، وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ "
بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَسَارِ " " أَكْلُ
الْإِنْسَانِ مِمَّا يَلِيهِ " وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ
" بِالنَّهْيِ عَنْ التَّعْرِيسِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ "
وَالْأَكْلُ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ، وَأَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ
التَّمْرَتَيْنِ "، قَالَ: فَيُسَمَّى هَذَا أَدَبًا، وَهُوَ
أَخَصُّ مِنْ النَّدْبِ، فَإِنَّ التَّأْدِيبَ يَخْتَصُّ
بِإِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ وَكُلُّ تَأْدِيبٍ نَدْبٌ مِنْ
غَيْرِ عَكْسٍ.
الْخَامِسُ: الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَأَنْكَرَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي
لُغَةً. وَالتَّمْثِيلُ بِمَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا
كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرَ. السَّادِسُ:
الْوَعْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . السَّابِعُ:
الْوَعِيدُ وَيُسَمَّى التَّهْدِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
[الكهف: 29]
(3/276)
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا
لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] وَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] . وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: التَّهْدِيدُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَعِيدِ، وَمَثَّلَ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:
15] وَقَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ}
[الإسراء: 64] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ فَلْيُشَقِّصْ
الْخَنَازِيرَ» قَالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ يَعَضُّهَا.
الثَّامِنُ: الِامْتِنَانُ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَسَمَّاهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ الْإِنْعَامَ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى
الْإِبَاحَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ تَذْكِيرُ
النِّعْمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ
أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُجَرَّدُ إذْنٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
اقْتِرَانِ الِامْتِنَانِ بِذِكْرِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ
إلَيْهِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ
كَالتَّعَرُّضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ. التَّاسِعُ: الْإِنْذَارُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إبراهيم: 30]
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّهْدِيدِ مِنْ وِجْهَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِنْذَارُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا
بِالْوَعِيدِ كَالْآيَةِ، وَالتَّهْدِيدُ لَا يَجِبُ فِيهِ
ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَقْرُونًا بِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْفِعْلَ الْمُهَدَّدَ عَلَيْهِ يَكُونُ
ظَاهِرُهُ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ، وَفِي الْإِنْذَارِ
قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ.
(3/277)
الْعَاشِرُ: الْإِكْرَامُ {ادْخُلُوهَا
بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] قَالَ الْقَفَّالُ: وَمِنْهُ
«قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي
بَكْرٍ: اُثْبُتْ مَكَانَك» . الْحَادِيَ عَشَرَ:
السُّخْرِيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ
إلَّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ
وَابْنُ فَارِسٍ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّكْوِينِ. قَالَ ابْنُ
فَارِسٍ: وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى،
وَمَثَّلَ بِهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ "
لِلتَّسْخِيرِ، وَمَثَّلَ لِلْإِهَانَةِ بِقَوْلِهِ: {كُونُوا
حِجَارَةً} [الإسراء: 50] قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
أَنَّ التَّسْخِيرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِهِمْ عَلَى جِهَةِ
التَّبْدِيلِ لِمَنْ جَعَلْنَاهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ،
وَالْإِهَانَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْجِيزِهِمْ فِيمَا
يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ أَيْ: أَنْتُمْ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ وَقَعَ فِي عِبَارَتِهِمَا التَّسْخِيرُ،
وَالصَّوَابُ: مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ
الْهُزْءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] ،
وَأَمَّا التَّسْخِيرُ فَهُوَ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}
[إبراهيم: 33] . الثَّانِيَ عَشْرَ: التَّكْوِينُ كَقَوْلِهِ
{كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] ، وَسَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ
وَالْآمِدِيَّ: كَمَالَ الْقُدْرَةِ، وَسَمَّاهُ الْقَفَّالُ
وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
التَّسْخِيرَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّخْرِيَةِ:
(3/278)
أَنَّ التَّكْوِينَ سُرْعَةُ الْوُجُودِ
عَنْ الْعَدَمِ، وَلَيْسَ فِيهِ انْتِقَالٌ إلَى حَالٍ
مُمْتَهَنَةٍ، بِخِلَافِ السُّخْرِيَةِ فَإِنَّهُ لُغَةً:
الذُّلُّ وَالِامْتِهَانُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: التَّعْجِيزُ،
نَحْوَ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
[الطور: 34] .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْخِيرِ أَنَّ
التَّسْخِيرَ نَوْعٌ مِنْ التَّكْوِينِ، فَإِذَا قِيلَ:
كُونُوا قِرَدَةً مَعْنَاهُ انْقَلِبُوا إلَيْهَا،
وَالتَّعْجِيزُ إلْزَامُهُمْ بِالِانْقِلَابِ لِيَظْهَرَ
عَجْزُهُمْ لَا لِيَنْقَلِبُوا إلَى الْحِجَارَةِ، وَمَثَّلَهُ
الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ بِقَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً
أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِمْ قَلْبُ الْأَعْيَانِ،
وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مِمَّنْ يَخْتَرِعُ وَيُسَخِّرُ، عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ
كُونُوا كَذَا، تَعْجِيزٌ أَيْ: أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَمْ تُمْنَعُوا مِنْ جَرْيِ قَضَاءِ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا جَعَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ
وَالْآمِدِيَّ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْجِيزِ، وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ " عِنْدِي فِي التَّمْثِيلِ بِهِ
نَظَرٌ، وَإِنَّمَا التَّعْجِيزُ حَيْثُ يُقْتَضَى بِالْأَمْرِ
فِعْلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ: كَقَوْلِهِ:
{فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168]
وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا كُونُوا
بِالتَّوَهُّمِ، وَالتَّقْدِيرُ كَذَا وَكَذَا.
الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ نَحْوَ
{فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] هَكَذَا
مَثَّلُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُؤَكِّدَةٌ
لِقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] ؛
لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالصَّرِيحِ
أَرْدَفَهُ مُبَالَغَةً فِي الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " أَوْ لَا
" تَفْعَلْ " وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْجِيزَ، وَلَا
اسْتَعَارَ لَهَا بِالتَّسْوِيَةِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ
التَّخْيِيرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ
(3/279)
يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِيمَا خُيِّرَ
الْمُخَاطَبُ بِهِ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ "
وَحْدَهَا لَمْ تَقْتَضِ التَّسْوِيَةَ لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ
الْمُرَكَّبَ مِنْ " افْعَلْ " أَوْ لَا " تَفْعَلْ "، فَعَلَى
هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ صِيغَةُ
الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ، فَلَا يَصِحُّ
جَعْلُهُمْ هَذَا الْمِثَالَ مِنْ صِيغَةِ " افْعَلْ "
وَعُذْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهَا حَيْثُ يُرَادُ
التَّسْوِيَةُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: الِاحْتِيَاطُ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ
وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ النَّوْمِ فَلَا يَغْمِسْ
يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»
أَيْ: فَلَعَلَّ يَدَهُ لَاقَتْ نَجَاسَةً مِنْ بَدَنِهِ لَمْ
يَعْلَمْهَا فَلْيَغْسِلْهَا قَبْلَ إدْخَالِهَا لِئَلَّا
يُفْسِدَ الْمَاءَ. السَّادِسَ عَشَرَ: الدُّعَاءُ
وَالْمَسْأَلَةُ، نَحْوَ {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا} [الأعراف: 89] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:
147] وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ ذَلِكَ فِي
الْأُولَى سُؤَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ
أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] وَأَجَابَ الْعَسْكَرِيُّ فِي
الْفُرُوقِ " بِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَقْفِ فِي
الْكَلَامِ وَاسْتِعْطَافِ السَّامِعِ بِهِ. وَمَثَّلَ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى
الدُّعَاءِ كَقَوْلِك: كُنْ بِخَيْرٍ. السَّابِعَ عَشَرَ:
الِالْتِمَاسُ، كَقَوْلِك لِنَظِيرِك: افْعَلْ. وَهَذَا
أَخَصُّ مِنْ إرَادَةِ الِامْتِثَالِ الْآتِي.
(3/280)
الثَّامِنَ عَشَرَ: التَّمَنِّي. كَقَوْلِك
لِشَخْصٍ تَرَاهُ: كُنْ فُلَانًا كَذَا. مَثَّلَهُ ابْنُ
فَارِسٍ وَنَحْوُهُ تَمْثِيلُ الْأُصُولِيِّينَ، كَقَوْلِ
امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: انْجَلِي بِمَعْنَى الِانْجِلَاءِ
لِطُولِهِ، وَنَزَّلُوا لَيْلَ الْمُحِبِّ لِطُولِهِ
مَنْزِلَةَ مَا يَسْتَحِيلُ انْجِلَاؤُهُ مُبَالَغَةً،
وَإِلَّا فَانْجِلَاءُ اللَّيْلِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ وَيَجِيءُ
مِنْ هَذَا الْمِثَالِ السُّؤَالُ السَّابِقُ فِي
التَّسْوِيَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي التَّمَنِّي هُوَ
صِيغَةُ الْأَمْرِ مَعَ صِيغَةِ " إلَّا " لَا الصِّفَةُ
وَحْدَهَا، فَالْأَحْسَنُ مِثَالُ ابْنِ فَارِسٍ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: الِاحْتِقَارُ. قَالَ: {أَلْقُوا مَا
أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] يَعْنِي أَنَّ السِّحْرَ
وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ فَفِي مُقَابَلَةِ مَا أَتَى بِهِ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَقِيرٌ. الْعِشْرُونَ:
الِاعْتِبَارُ وَالتَّنْبِيهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ
يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:
185] وَقَوْلِهِ {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا}
[الروم: 42] وَمَثَّلَهُ الْعَبَّادِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]
وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَمْثِلَةِ تَذْكِيرِ
النِّعَمِ لَهُمْ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّحْسِيرُ
وَالتَّلْهِيفُ. ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَمَثَّلَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:
119] وقَوْله تَعَالَى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
[المؤمنون: 108] . الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: التَّصْبِيرُ،
كَقَوْلِهِ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
(3/281)
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17]
وَقَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83]
ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ الْقَفَّالُ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْخَبَرُ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا
وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] الْمَعْنَى أَنَّهُمْ
سَيَضْحَكُونَ وَيَبْكُونَ. وَمَثَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] أَيْ: أُذِنْتُمْ
بِحَرْبٍ. أَيْ: كُنْتُمْ أَهْلَ حَرْبٍ، وَمِنْهُ عَلَى
أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ: «إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا
شِئْت» . أَيْ: صَنَعْت مَا شِئْت، وَعَكْسُهُ
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233]
الْمَعْنَى لِتُرْضِعْنَ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ.
وَهَكَذَا أَبْلَغُ مِنْ عَكْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّاطِقَ
بِالْخَبَرِ مُرِيدًا بِهِ الْأَمْرَ كَأَنَّهُ نَزَّلَ
الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: التَّحْكِيمُ وَالتَّفْوِيضُ،
كَقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] ذَكَرَهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَسَمَّاهُ ابْنُ فَارِسٍ
وَالْعَبَّادِيُّ: التَّسْلِيمَ، وَسَمَّاهُ ابْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيِّ: الِاسْتِبْسَالَ. قَالَ: أَعْلَمُوهُ
أَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعَدُّوا لَهُ بِالصَّبْرِ وَأَنَّهُمْ
غَيْرُ تَارِكِينَ لِدِينِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ
بِمَا هُوَ فَاعِلٌ فِي جَنْبِ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ
ثَوَابِ اللَّهِ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ نُوحٍ: {فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَخْبَرَهُمْ بِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّعَجُّبُ، ذَكَرَهُ الصَّفِيُّ
الْهِنْدِيُّ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] وَجَعَلَهُ
الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ مِنْ قِسْمِ التَّعْجِيزِ. وَنَقَلَ
الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ وُرُودَ التَّعَجُّبِ
(3/282)
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَارِسِيِّ،
وَمَثَّلَهُ قَوْله تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأَمْثَالَ} [الإسراء: 48] وَمَثَّلَ ابْنُ فَارِسٍ
وَالْعَلَمُ الْقَرَافِيُّ لِلتَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] {أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] وَهُوَ أَلْيَقُ. السَّادِسُ
وَالْعِشْرُونَ: بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] : {قُلْ
فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلُمَّ
شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [الأنعام: 150]
الْآيَةَ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَشُورَةُ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]
ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ السُّؤَالَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَاجَةِ
إلَى مَا يُسْأَلُ، وَالْمَشُورَةُ تَقَعُ تَقْوِيَةً
لِلْعَزْمِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ
ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [الأعراف: 49] . التَّاسِعُ
وَالْعِشْرُونَ: الْإِهَانَةُ، كَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] {فَكِيدُونِي
جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] وَقَوْلِهِ:
{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] ذَكَرَهُ ابْنُ
الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ. قَالَا: وَلَيْسَ هَذَا أَمْرَ
إبَاحَةٍ لِإِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ
مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ عِبَادِي، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]
وَسَمَّاهُ جَمَاعَةٌ بِالتَّهَكُّمِ.
(3/283)
وَضَابِطُهُ: أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ دَالٍّ
عَلَى الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُرَادُ ضِدُّهُ.
وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ بِأَنَّ
الْإِهَانَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ
أَوْ تَرْكِهِمَا دُونَ مُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ،
وَالِاحْتِقَارُ إمَّا مُخْتَصٌّ بِهِ، أَوْ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ
الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ فِي شَيْءٍ
أَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، يُقَالُ:
إنَّهُ احْتَقَرَهُ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ أَهَانَهُ مَا لَمْ
يَصْدُرْ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْهُ.
الثَّلَاثُونَ: التَّحْذِيرُ وَالْإِخْبَارُ عَمَّا يَئُولُ
إلَيْهِ أَمْرُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي
دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] ذَكَرَهُ
الصَّيْرَفِيُّ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إرَادَةُ
الِامْتِثَالِ كَقَوْلِك عِنْدَ الْعَطَشِ: اسْقِنِي مَاءً
فَإِنَّك لَا تَجِدُ مِنْ نَفْسِك عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ
إلَّا إرَادَةَ السَّقْيِ أَعْنِي طَلَبَهُ، فَإِنْ فُرِضَ
ذَلِكَ مِنْ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ
لِلْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ
إتْحَافُ السَّيِّدِ بِغَرَضِهِ. وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ
فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ:
إرَادَةُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ
الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقْتُلَ،
وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ، وَعَدَمُ
مُلَابَسَةِ الْفِتَنِ
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّخْيِيرُ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
[المائدة: 42] ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ. وَفِيهِ مَا سَبَقَ فِي
التَّسْوِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَقْسَامُ الْأَوَامِرِ كَثِيرَةٌ لَا تَكَادُ
تَنْضَبِطُ كَثْرَةً وَكُلُّهَا تُعْرَفُ بِمَخَارِجِ
الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ وَبِالدَّلَائِلِ الَّتِي يَقُومُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى الْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ
فِي حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ: وَكُلُّ مَا
كَانَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ
فَالْأَمْرُ فِيهِ إرْشَادٌ وَحَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ، كَالْأَمْرِ
بِالْكِتَابَةِ بِالْبَيْعِ، وَقَوْلُهُ:
(3/284)
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ} [البقرة: 194] أَيْ إنْ شِئْتُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]
قَالَ: وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى خُصُوصِ
الْعَامِّ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
لَيْسَ لِلْوُجُوبِ. قَالَ: وَقَدْ تَرِدُ الْآيَةُ
الْوَاحِدَةُ بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ
نَحْوَ قَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلِهِ:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}
[الطلاق: 1] وَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ثُمَّ
قَالَ: {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو
مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مَتَى
كَانَتْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالشَّفَاعَةِ، أَوْ
التَّعْجِيزِ أَوْ التَّهْدِيدِ أَوْ الْإِهَانَةِ أَوْ
التَّقْرِيعِ أَوْ التَّسْلِيمِ وَالتَّحْكِيمِ لَمْ يَكُنْ
أَمْرًا، وَأَمَّا التَّكْوِينُ فَقَدْ سَمَّاهُ أَصْحَابُنَا
أَمْرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]
. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَمْرٌ،
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ لِاخْتِلَافِهِمْ
فِي الْأَمْرِ بِالنَّوَافِلِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى
أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ
غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ. وَاخْتَلَفُوا
فِيهِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ
غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ
بَغْدَادَ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ. انْتَهَى. إذَا عَلِمْت
هَذَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ
هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْ
صِيغَةِ " افْعَلْ " لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا
الْخِلَافُ فِي بَعْضِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: الْخِلَافُ فِي
أُمُورٍ خَمْسَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، لِمَا سَيَأْتِي.
(3/285)
[مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ
وُجُوبِهِ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا]
وَعِبَارَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ
مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا عَلَى
قَوْلَيْنِ. انْتَهَى. وَفِي كِتَابِ الْمَصَادِرِ " عَنْ
الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ
الْفِعْلِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ،
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ مَجَازٌ
فِي الْبَوَاقِي، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةِ
الْمُتَكَلِّمِينَ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ". أَمَّا
الشَّافِعِيُّ فَقَدْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ عَلَى وِفَاقِهِ، وَتَمَسَّكُوا
بِعِبَارَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي كُتُبِهِ حَتَّى اعْتَصَمَ
الْقَاضِي بِأَلْفَاظٍ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ، وَاسْتَنْبَطَ
مِنْهَا مَصِيرَهُ إلَى الْوَقْفِ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنْ
سُنَنِ الْإِنْصَافِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ وَالْمَأْثُورَ مِنْ
مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ ابْنُ
الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ يُحْمَلُ
عَلَى الْوُجُوبِ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ،
فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ ": وَمَا نَهَى عَنْهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ
عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى
[غَيْرِ] ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ يَعْنِي: الشَّافِعِيَّ بَعْدَ
ذَلِكَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْأَمْرُ كَالنَّهْيِ وَأَنَّهُمَا عَلَى الْوُجُوبِ إلَى
أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ قَطَعَ
الْقَوْلَ فِي النَّهْيِ أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَسَوَّى
بَيْنَ الْأَمْرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ وَالثَّانِي. وَذَكَرَ
أَبُو عَلِيٍّ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ
بِذَلِكَ فِي الْأَمْرِ كَتَصْرِيحِهِ إيَّاهُ فِي النَّهْيِ.
فَجُمْلَتُهُ: أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ
الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى الْوُجُوبِ إلَى أَنْ يَدُلَّ
دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا
مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ خَيْرَانَ
وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. انْتَهَى.
(3/286)
قُلْت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ
الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا
حَتَّى يَرِدَ مَا يَصْرِفُهُ، وَأَنَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ
قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْإِبَاحَةَ وَالْوُجُوبَ. الثَّانِي:
أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَقْوَى دَلِيلًا فَإِنَّهُ
قَالَ فِي: أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فِيمَا جَاءَ مِنْ أَمْرِ
النِّكَاحِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
[النور: 32] : وَالْأَمْرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَكَلَامِ النَّاسِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ: أَحَدُهَا: أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ شَيْئًا ثُمَّ
أَبَاحَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2] وَأَنْ يَكُونَ دَلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ
رُشْدُهُمْ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«سَافِرُوا تَصِحُّوا» وَأَنْ يَكُونَ حَتْمًا، وَفِي كُلِّ
حَتْمٍ مِنْ اللَّهِ الرُّشْدُ فَيَجْتَمِعُ الْحَتْمُ
وَالرُّشْدُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْأَمْرُ
كُلُّهُ لِلْإِبَاحَةِ حَتَّى تُوجَدَ دَلَالَةٌ مِنْ
الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ
أُرِيدَ بِهِ الْحَتْمُ فَيَكُونُ فَرْضًا. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَمَا نَهَى اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُ
مُحَرَّمٌ حَتَّى تُوجَدَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ
عَلَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ
الْإِرْشَادُ أَوْ تَنَزُّهًا أَوْ تَأَدُّبًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ
بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْأَمْرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فَيَكُونَانِ لَازِمَيْنِ
إلَّا بِدَلَالَةِ أَنَّهُمَا غَيْرُ لَازِمَيْنِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "،
وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": هُوَ حَقِيقَةٌ فِي
الْوُجُوبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ
(3/287)
وَأَتْبَاعُهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ: وَهُوَ الَّذِي أَمْلَاهُ الشَّيْخُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ بِبَغْدَادَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو
إِسْحَاقَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، فِي تَرْكِهِ دَفْعُ
الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ
قَوْلُ مَالِكٍ وَكَافَّةِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ فِي
الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَقَلِّينَ مِنْ
الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ، هُوَ
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ شَيْخُنَا
أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ
الدَّبُوسِيُّ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ
ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: بَلْ ظَاهِرٌ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ
غَيْرِهِ لَكِنَّ الْوُجُوبَ أَظْهَرُ، وَهَلْ ذَلِكَ بِوَضْعِ
اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ؟ فَقِيلَ: اللُّغَةُ: وَصَحَّحَهُ
أَبُو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي
مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ
الْقَائِلِينَ بِاقْتِضَاءِ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ، وَأَنَّهُ
كَذَلِكَ بِأَصْلِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي
إطْلَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ مَنْ قَدْ خَالَفَ
مُطْلَقَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَتَوْبِيخُهُ بِالْعِصْيَانِ
عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِ الْأَمْرِ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ
دَلَالَةَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ
الْمَازِرِيُّ: صَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ
الْوَعِيدَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ كَمَا يُسْتَفَادُ
مِنْهُ الِاقْتِضَاءُ الْجَازِمُ. وَقِيلَ بِوَضْعِ الشَّرْعِ،
وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ
الْمُرْتَضَى وَاخْتَارَهُ. وَقِيلَ بِضَمِّ الشَّرْعِ إلَى
الْفِقْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ
الْبُرْهَانِ " وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا،
وَنَزَلَ
(3/288)
عَلَيْهِ كَلَامُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَإِنَّ الْوَعِيدَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ
اللَّفْظِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ عَنْهُ.
وَعَنْ الْمُسْتَوْعِبِ " لِلْقَيْرَوَانِيِّ حِكَايَةُ قَوْلٍ
رَابِعٍ أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعَقْلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ: وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ فِي الِاقْتِضَاءِ
بِاللُّغَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ أَنَّا إنْ قُلْنَا: يَقْتَضِيهِ
مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى
الْوُجُوبِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا
مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ. وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ
كَانَ الْوُجُوبُ مَقْصُورًا عَلَى أَوَامِرِ صَاحِبِ
الشَّرْعِ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". وَأَغْرَبَ
صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " فَحَكَى عَنْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِمُجَرَّدِهِ، ثُمَّ حَكَى قَوْلًا
آخَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. قَالَ: وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْ قَالَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَرَادَ
بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ لَا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ
فِي وُجُوبِهِ، وَمَنْ قَالَ: يَقْتَضِي الْإِيجَابَ أَرَادَ
بِهِ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ الْفِعْلُ وَاجِبًا،
وَيُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ
فِي النَّدْبِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ
مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ:
إنَّهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهَا، وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ فِي الْوَاضِحِ ": هُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي
عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَرُبَّمَا
نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ:
كَلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَحَكَاهُ الْفُقَهَاءُ عَنْ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَهُمْ
(3/289)
عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ ذَلِكَ
بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي
الْإِرَادَةَ، وَالْحَكِيمُ لَا يُرِيدُ إلَّا الْحَسَنَ،
وَالْحَسَنُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَنَدْبٍ، فَيُحْمَلُ
عَلَى الْمُحَقَّقِ وَهُوَ النَّدْبُ، فَلَيْسَتْ الصِّيغَةُ
عِنْدَهُمْ مُقْتَضِيَةً لِلنَّدَبِ إلَّا عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى حَقِيقَةِ
مَذْهَبِ الْقَوْمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ:
هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْأَمْرَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ
الْحُسْنُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، وَكَوْنُهُ
نَدْبًا يَقِينٌ، وَفِي وُجُوبِهِ شَكٌّ فَلَا يَجِبُ إلَّا
بِدَلِيلٍ، وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَحْوَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ الَّتِي
هِيَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
سُنَنِهِ " عَنْ حِكَايَةِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ
النِّكَاحِ، فَقَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمْرُ كُلُّهُ
عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْمُرْشَدِ حَتَّى
تُوجَدَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ
الْحَتْمُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ
حَتَّى تُوجَدَ الدَّلَالَةُ بِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ
التَّحْرِيمِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
(إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ) ثُمَّ قَالَ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي
مَعْنَى النَّهْيِ فَيَكُونَانِ لَازِمَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةِ
أَنَّهُمَا غَيْرُ لَازِمَيْنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَنَّ عَلَيْهِمْ الْإِتْيَانَ
بِمَا اسْتَطَاعُوا؛ لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُلْزَمُونَ
بِمَا اسْتَطَاعُوا. وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ طَلَبُ
الدَّلَائِلِ حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
مَعًا. انْتَهَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ
": حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ
لِلنَّدَبِ وَأَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ
عَنْهُمْ بَلْ الْمَعْرُوفُ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إلَى
وَقْتِنَا هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا
هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا
أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، كَمَا نَسَبَ قَوْمٌ
إلَى الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ فِي الْعُمُومِ،
وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَهُ. انْتَهَى. الرَّابِعُ: أَنَّهَا
مُشْتَرَكَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بَيْنَ الْوُجُوبِ
وَالنَّدْبِ.
(3/290)
وَحُكِيَ عَنْ الْمُرْتَضَى مِنْ
الشِّيعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَبَقَ عَنْ صَاحِبِ
الْمَصَادِرِ " حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ:
صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "
بِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ [بَيْنَ] الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَقَدْ
سَبَقَ تَأْوِيلُهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ
بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الطَّلَبُ لَكِنْ يُحْكَمُ بِالْوُجُوبِ
ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ احْتِيَاطًا دُونَ
الِاعْتِقَادِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ
الْمَاتُرِيدِيُّ. السَّادِسُ: حَقِيقَةٌ إمَّا فِي
الْوُجُوبِ، وَإِمَّا فِي النَّدْبِ، وَإِمَّا فِيهِمَا
جَمِيعًا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّا مَا نَدْرِي
مَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ،
وَنَعْرِفُ أَنْ لَا رَابِعَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ
الْوَاقِفِيَّةِ كَالشَّيْخِ وَالْقَاضِي، وَحَكَاهُ
بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَقَالَ: إنَّهُ صَارَ إلَى
التَّوَقُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ وَالتَّوَقُّفُ
عِنْدَهُ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَا
فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ
مَوْضُوعٌ بِالِاشْتِرَاكِ الْعَقْلِيِّ لِلْوُجُوبِ
وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى
التَّوَقُّفِ فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَنَّهُ
لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، أَوْ النَّدْبِ فَقَطْ أَوْ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. السَّابِعُ: مُشْتَرَكَةٌ
بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ
وَالْإِبَاحَةَ، وَهَلْ هُوَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ
أَوْ الْمَعْنَوِيِّ؟ رَأْيَانِ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَمْسَةِ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ
وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ. حَكَاهُ فِي الْمَحْصُولِ ".
(3/291)
التَّاسِعُ: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ
الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِرْشَادِ
وَالتَّهْدِيدِ. حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَنَسَبَهُ
لِلْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِمَا. قَالَ:
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بِحُكْمِ الْوَضْعِ
الْأَصْلِيِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ.
وَغَايَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَيْنَ مَذْهَبِ الشَّيْخِ
وَالْقَاضِي. ذَهَبَ الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ
الْأَمْرَ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَإِنَّمَا قَوْلُ
الْقَائِلِ: " افْعَلْ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّكْوِينُ
لَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ ثُمَّ
ذَكَرَ مَذْهَبَ الْقَاضِي كَمَا سَيَأْتِي. الْعَاشِرُ:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ لِلْوُجُوبِ وَأَمْرَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّدَبِ إلَّا مَا
كَانَ مُوَافِقًا لِنَصٍّ أَوْ مُبَيِّنًا لِمُجْمَلٍ. حَكَاهُ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ
شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ
الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَقَالَ: إنَّ
النَّقْلَ اخْتَلَفَ عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَذَا، وَرُوِيَ
عَنْهُ مُوَافَقَةُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لِلنَّدَبِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي
كَلَامِهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ: وَأَمَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ
الْأَبْهَرِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِهِ " وَهُوَ
كَالْمَتْرُوكِ وَكَانَ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ
الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ،
فَأَضَافُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَبِهَذَا
فَارَقَ بَيَانَ الْمُجْمَلِ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِابْتِدَاءٍ مِنْهُ.
(3/292)
قَالَ: وَالصَّحِيحُ هَذَا الَّذِي كَانَ
يَقُولُهُ آخِرَ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
أَوَامِرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ مِنْ
كَوْنِ جَمِيعِهَا عَلَى الْوُجُوبِ. الثَّانِيَ عَشَرَ:
وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ:
أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَلَيْسَتْ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَدُلُّ
عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ " عَلَى مَعْنًى أَوْ
مُشْتَرَكٍ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عِنْدَ انْضِمَامِ
الْقَرِينَةِ إلَيْهَا، وَنُزُولُ الصِّيغَةِ مِنْ
الْقَرِينَةِ مَنْزِلَةَ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ
عَلَى تَرَكُّبٍ مِنْ الزَّايِ وَالْيَاءِ وَالدَّالِ
حِينَئِذٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى، وَكَذَلِكَ قَوْلُك: "
افْعَلْ " بِدُونِ الْقَرِينَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ
فَإِذَا انْضَمَّتْ الْقَرِينَةُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ دَلَّ
عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَالَ الشَّيْحُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ: ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ
إلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبٍ، وَلَا
غَيْرِهِ، بِمُجَرَّدِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ إلَّا
بِدَلِيلٍ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْبَصْرِيُّ: الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا وَسِيلَةٌ
إلَى الْعَمَلِ فَتَنْتَهِضُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ
الظَّنِّيَّةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَطْعِيَّةٌ؛ إذْ هِيَ مِنْ
قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَبَنَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ
عَلَى هَذَا، فَقَالَ: الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
إنْ كَانَ هُوَ الْقَطْعَ فَالْحَقُّ فِيهَا هُوَ
التَّوَقُّفُ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ
إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ وَهُوَ
الْأَشْبَهُ، فَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْحَقَّ
فِيمَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ مَجَازًا
فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ تُرَدَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ
إلَى الْعَلَاقَةِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: يُمْكِنُ رَدُّهُ
إلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ يُوجَدُ فِيهِ
(3/293)
فَأَشْبَهَ الطَّلَبَ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ
التَّعْجِيزَ وَالتَّكْوِينَ وَالتَّخْيِيرَ طَلَبٌ بِوَجْهٍ
مَا، وَكَذَا النَّهْيُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرِدُ صِيغَةُ الْخَبَرِ لِلْأَمْرِ
نَحْوَ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] وَهُوَ
مَجَازٌ، وَالْعَلَاقَةُ فِيهِ مَا يَشْتَرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهَا فِي تَحْقِيقِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَكَذَا الْخَبَرُ
بِمَعْنَى النَّهْيِ نَحْوَ «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ
الْمَرْأَةَ» نَعَمْ هَاهُنَا بَحْثٌ دَقِيقٌ أَشَارَ إلَيْهِ
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ " وَهُوَ
أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَهَلْ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ
الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، أَوْ يَكُونُ
ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ الْمَعْنِيَّةِ وَهِيَ صِيغَةُ
" افْعَلْ "؟ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. وَهَذَا الْبَحْثُ
قَدْ دَارَ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ
الزَّمْلَكَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَادَّعَى
ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
إلَّا إلَى ثَلَاثٍ» فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ
لِلتَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَنَازَعَهُ
ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ وَقَالَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى
الْأَمْرِ بِصِيغَةِ " افْعَلْ " وَعَلَى النَّهْيِ بِصِيغَةِ
" لَا تَفْعَلْ "؛ إذْ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ دَعْوَى
الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مَوْضُوعًا حَقِيقَةً
لِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَيُفِيدُ مَعْنَى
أَحَدِهِمَا كَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالنَّفْيِ
بِمَعْنَى النَّهْيِ فَلَا يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ
فِي وُجُوبٍ، وَلَا تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ أَوْ
النَّهْيُ، فَدَعْوَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي إيجَابٍ أَوْ
تَحْرِيمٍ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِغَيْرِهِمَا مُكَابَرَةٌ.
(3/294)
قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ كَثِيرٌ
مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَغْتَرُّونَ بِإِطْلَاقِ
الْأُصُولِيِّينَ وَيُدْخِلُونَ فِيهِ كُلَّ مَا أَفَادَ
نَهْيًا أَوْ أَمْرًا، وَالْمُحَقِّقُ الْفَاهِمُ يَعْرِفُ
الْمُرَادَ وَيَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ. قُلْت:
صَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَمْرِ ذِي الصِّيغَةِ.
قَالَ: وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهِ، وَالْأَخْبَارُ
الْمَحْضَةُ لَا يَلْحَقُهَا النَّسْخُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ خَبَرًا لَمْ يُوجَدْ خِلَافُهُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا
الْبَابِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ
إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "
لَا " إذَا كَانَتْ نَافِيَةً أَبْلَغُ فِي الْخِطَابِ مِنْ
النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ
قَدْ كَانَ قَارًّا قَبْلَ وُرُودِهِ، وَالنَّفْيُ يَتَضَمَّنُ
الْإِخْبَارَ عَنْ حَالَتِهِ. وَأَنَّهَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً،
فَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَاهُنَا فَوَائِدُ
إحْدَاهَا: فِي الْعُدُولِ عَنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ إلَى
صِيغَةِ الْخَبَرِ وَفَوَائِدُ: مِنْهَا: أَنَّ الْحُكْمَ
الْمُخْبَرَ بِهِ يُؤْذِنُ بِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ
وَثُبُوتِهِ عَلَى حُدُوثِهِ وَتَجَدُّدِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ
لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا فِعْلًا حَادِثًا فَإِذَا أُمِرَ
بِالشَّيْءِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا
الْمَطْلُوبَ فِي وُجُوبِ فِعْلِهِ وَلُزُومِهِ بِمَنْزِلَةِ
مَا قَدْ حَصَلَ وَتَحَقَّقَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى
الِامْتِثَالِ، وَمِنْهَا: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَإِنْ
دَلَّتْ عَلَى الْإِيجَابِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ الِاسْتِحْبَابُ.
فَإِذَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ
ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَانْتَفَى احْتِمَالُ الِاسْتِحْبَابِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ قِسْمَانِ خِطَابُ وَضْعٍ،
وَأَخْبَارٌ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ
(3/295)
سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا، وَهَذَا
مِنْ النَّوْعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ
الْعِدَّةِ، فَإِذَا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَانَ فِيهِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ
وَالْأَخْبَارِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ سَائِرِ خِطَابِ
التَّكْلِيفِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَوْ
كَانَتْ مَجْنُونَةً ثَبَتَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهَا
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَةً. الثَّانِيَةُ: الْخَبَرُ
الَّذِي هُوَ مَجَازٌ عَنْ الْأَمْرِ فِي مِثْلِ
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] هَلْ هُوَ
مَجْمُوعُ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ، أَوْ خَبَرُ
الْمُبْتَدَأِ وَحْدَهُ؟ كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ يَمِيلُ
إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَالْوَالِدَاتُ
لَيُرْضِعْنَ، وَبَعْضِهِمْ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ
الْمُبْتَدَأِ لَا يَكُونُ جُمْلَةً إنْشَائِيَّةً.
[الثَّالِثَةُ وُرُودِ صِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهَا
الْأَمْرُ]
الثَّالِثَةُ: الْمَشْهُورُ جَوَازُ وُرُودِ صِيغَةِ
الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ: جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَحَسْبُك
دِرْهَمٌ، أَيْ: اكْتَفِ بِهِ. وَمَنَعَهُ السُّهَيْلِيُّ
وَالْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] قَالَ:
وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ
وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنْ
الشَّرْعِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ
- تَعَالَى - عَلَى خِلَافِ مُخْبَرِهِ. وَقِيلَ:
لِتَتَرَبَّصَ بِحَذْفِ اللَّامِ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الْأَمْرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ
فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ]
إذَا دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ، فَهَلْ يُحْمَلُ
عَلَى النَّدْبِ أَوْ يُتَوَقَّفُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ
وَلَا عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
حَكَاهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ "
وَعُزِيَ الثَّانِي لِأَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: فَإِنْ دَلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَانَ
لِلْإِبَاحَةِ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ
الْإِبَاحَةِ فَفِي جَوَازِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
غَيْرَ مَحْظُورٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْبَاطِلِ.
(3/296)
قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ مِنْ
الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا بَعِيدٌ
عَنْهُ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ
الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى النَّدْبِ فَهَلْ هُوَ مَأْمُورٌ
بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا]
إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ
عَلَى النَّدْبِ، فَهَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ
مَجَازًا؟ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَحْثِ النَّدْبِ وَقِيلَ:
إطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْمُشَكَّكِ،
كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُوبِ أَوْلَى.
[مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ
الْوُجُوبِ وَحُمِلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ]
إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ
عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ مَجَازٌ
وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ
الْأُصُولِيِّينَ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فَوَائِدِ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ
حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ فَيَجِيءُ فِيهَا الْخِلَافُ؟ وَحَكَى
ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَمْرٌ، وَالْمُبَاحُ
مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْبَلْخِيّ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ
بِهِ الْوُجُوبُ فَهَلْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ]
إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ
الْوُجُوبُ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؟ ، فِي
الْجَوَازِ فِيهِ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي
الطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ
اللُّمَعِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "
وَصَحَّحُوا الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوضَعْ
لِلْجَوَازِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلْإِيجَابِ، وَالْجَوَازُ
يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ
التَّابِعُ.
(3/297)
وَقَدْ سَبَقَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةُ: إذَا
صَدَرَ مِنْ الشَّارِعِ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَةِ،
وَقُلْنَا: يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَجَبَ الْفِعْلُ لَا
مَحَالَةَ،
[فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْبَحْثِ]
وَفِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْبَحْثِ خِلَافُ
الْعَامِّ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ " فِي بَابِ الْعُمُومِ.
قَالَ: فَعَلَى قَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ يُحْمَلُ الْأَمْرُ
عَلَى الْوُجُوبِ بِظَاهِرِهِ، وَالنَّهْيُ عَلَى التَّحْرِيمِ
بِظَاهِرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ يُتَوَقَّفُ،
وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَقَدْ
تَعَرَّضَ هَاهُنَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ
فَقَالَ: إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ مِنْ مُفْتَرِضِ
الطَّاعَةِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ
قَطْعًا. هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ
الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ مِنْهُمْ
الْمَاتُرِيدِيُّ: إنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ
عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ
أَنْ لَا يُعْتَقَدَ فِيهِ نَدْبٌ وَلَا مَا يُنَافِيهِ، وَلَا
خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي
وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَبُنِيَ عَلَى
هَذَا مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَرِينَةُ
النَّدْبِ، أَوْ الْإِبَاحَةِ، أَوْ التَّهْدِيدِ، فَمَنْ
قَالَ: الْوُجُوبُ عَيْنًا فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عِنْدَهُ،
لِانْعِدَامِ حُكْمِهِ، بَلْ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَمْرِ
عَلَيْهِ مَجَازًا. انْتَهَى. وَأَقُولُ: الْأَمْرُ ضَرْبَانِ:
أَمْرُ إعْلَامٍ وَأَمْرُ إلْزَامٍ، فَأَمَّا أَمْرُ
الْإِعْلَامِ فَمُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ دُونَ الْفِعْلِ،
وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى الِاعْتِقَادِ
بِزَمَانٍ
(3/298)
وَاحِدٍ وَهُوَ وَقْتُ الْعِلْمِ بِهِ،
وَأَمَّا أَمْرُ الْإِلْزَامِ فَمُتَوَجِّهٌ إلَى
الِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ اعْتِقَادِ
الْوُجُوبِ وَإِيجَابِ الْفِعْلِ، وَلَا يُجْزِئُهُ
الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ فَعَلَهُ قَبْلَ
اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ
وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ
تَجْدِيدُ الِاعْتِقَادِ عِنْدَ الْفِعْلِ إذَا كَانَ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِقَادِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ
تَعَبُّدُ إلْزَامٍ، وَالْفِعْلُ تَأْدِيَةُ مُسْتَحَقٍّ،
[تَقْدِيم الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ]
وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى الْفِعْلِ
بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ. وَاخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ
تَقْدِيمِهِ بِزَمَانِ الْمُتَأَهِّبِ لِلْفِعْلِ عَلَى
مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مِنْ
الْفُقَهَاءِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ
بِزَمَانَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَمَانُ الِاعْتِقَادِ،
وَالثَّانِي: زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلْفِعْلِ، وَبِهِ قَالَ
مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ قَبْلَ
الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
يُعْتَبَرُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ بِزَمَانِ
الِاعْتِقَادِ وَحْدَهُ وَالتَّأَهُّبُ لِلْفِعْلِ شُرُوعٌ
فِيهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ
مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ مَعَ
الْفِعْلِ، وَسَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ.
[مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ]
يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ خِلَافًا
لِمَنْ قَالَ: لَا تَكُونُ صِيغَةُ " افْعَلْ " قَبْلَ وَقْتِ
الْفِعْلِ أَمْرًا بَلْ يَكُونُ إعْلَامًا، وَسَبَقَتْ فِي
مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ.
[مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ]
إذَا قَالَ الرَّاوِي: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، قَالَ
(3/299)
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ:
وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ: وَحَكَى الْقَاضِي
أَبُو الْحَسَنِ الْحَرِيرِيُّ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: لَا
حُجَّةَ فِيهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ،
لِاخْتِلَافِ النَّاسِ هَلْ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ
أَوْ النَّدْبَ؟ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي
الْأَوْسَطِ " وَجَعَلَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ
الْمَنْدُوبَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ؟ وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ
بِهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ يَقْتَضِي الْجَوَازَ]
َ؟] الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي قَوْلِ
مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَهُ
الْإِمَامُ فِي التَّلْخِيصِ " قَالَ: وَأَنْكَرَ هَذَا
الْإِطْلَاقَ، وَقَالَ: الْأَمْرُ إذَا اقْتَضَى إيجَابَ
الشَّيْءِ فَمَا الْمَعْنَى بِالْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ
الْإِيجَابِ؟ فَإِنْ قَيَّدْتُمْ الْجَوَازَ بِنَفْسِ
الْوُجُوبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْخِلَافُ فِي
الْعِبَارَةِ، فَإِنَّا لَا نَسْتَحْسِنُ تَسْمِيَةَ
الْوُجُوبِ جَوَازًا، وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْجَوَازِ شَيْئًا
آخَرَ سِوَى الْوُجُوبِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَيُؤَوَّلُ إلَى
أَنَّ الْوَاجِبَ مُبَاحٌ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: الصَّحِيحُ: أَنَّ
مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَثْبُتُ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ
شَرْعًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْجَوَازِ
لِلْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ لَا يَكُونُ إلَّا
بَعْدَ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُ
الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يُثْبِتُ
جَوَازَ الْأَدَاءِ حَتَّى
(3/300)
يَقْتَرِنَ بِهِ دَلِيلٌ، بِدَلِيلِ مَنْ
ظَنَّ طَهَارَتَهُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ
بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَلَا تَكُونُ جَائِزَةً إذَا
أَدَّاهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ
فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ
الْمُؤَدَّى جَائِزًا إذَا أُدِّيَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ حُكْمًا
وَتَوْجِيهًا.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَهَلْ
يَقْتَضِيهَا شَرْعًا أَوْ لُغَةً]
ً؟ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي
النَّهْيِ. مَسْأَلَةٌ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ
الْمَكْرُوهَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَذَا حَكَاه إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ
وَابْنُ بَرْهَانٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَالْبَاجِيُّ، فِي
الْأَحْكَامِ " وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ:
الْوُضُوءَ الْمُنَكَّسَ وَالطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ،
فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ نُهِيَ
عَنْهُ إجْمَاعًا. أَمَّا عِنْدَنَا فَنَهْيُ تَحْرِيمٍ،
وَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَنَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَإِذَا كَانَا
مَنْهِيَّيْنِ لَمْ يَكُونَا مَأْمُورَيْنِ، لِمَا بَيْنَ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ التَّضَادِّ. وَقَالَتْ
الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ
الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ. وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي
" كِتَابِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ " حِكَايَةَ
ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ:
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كَمَا يُثْبِتُ صِفَةَ
الْجَوَازِ وَالْحُسْنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ
الْكَرَاهَةِ.
(3/301)
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَارَ ابْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ،
وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَهِيَ
كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي تَضْمِينِ
الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حَتَّى إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ
الْجَوَازُ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ سَبَقَتْ فِي فَصْلِ
الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ تَلْبِيسٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا هُوَ
بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ تَعَرُّضٌ
لِكَرَاهَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَإِذَا قَارَنَتْهَا
الْكَرَاهَةُ، فَقَالَ قَائِلٌ: صَلِّ صَلَاةً غَيْرَ
مَأْمُورٍ بِهَا كَانَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ
لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَاهَةِ بَلْ أَمْرٌ بِصَلَاةٍ
مُطْلَقَةٍ فَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ مَأْمُورٍ
بِهَا.
[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ هَلْ
تُفِيدُ الْوُجُوبَ]
[مَسْأَلَةٌ] [وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ
هَلْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ؟] إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ مِنْ
اقْتِضَاءِ صِيغَةِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ فَلَوْ وَرَدَتْ
صِيغَةٌ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْأَمْرِ بِحَلْقِ الرَّأْسِ
بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْأَمْرُ
بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ
حَمْلِهِ فِيهَا، فَهَلْ يُفِيدُ الْوُجُوبَ أَمْ لَا؟ فِيهِ
مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَالِهَا فِي اقْتِضَاءِ
الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءً، وَصَحَّحَهُ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ
الْكِفَايَةِ " وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ
السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ
عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ
(3/302)
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ نَصَرَهُ
فِي " كِتَابِهِ " وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا،
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ:
هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ مِنَّا، وَقَالَ سُلَيْمٌ
الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا وَنَصَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي
الْأَوْسَطِ " إلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ
وَنَقَلَهُ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الْقَاضِي، وَاَلَّذِي
قَالَهُ الْقَاضِي كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
لَوْ كُنْت مِنْ الْقَائِلِينَ بِالصِّيغَةِ لَقَطَعْت بِأَنَّ
الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ بَعْدَ الْحَظْرِ مُجْرَاةٌ عَلَى
الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْقَاضِي،
بِالْوَقْفِ هُنَا كَمَا هُنَاكَ، وَحَكَى عَنْ الْقَاضِي
أَنَّهُ لَا يَقْوَى تَأْكِيدُ الْوُجُوبِ فِيهِ عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِهِ كَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ
تَقَدُّمِ حَظْرٍ حَتَّى إنَّ هَذَا يُتْرَكُ عَنْ ظَاهِرِهِ
بِدَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ فِي الْقُوَّةِ مَبْلَغَ
الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُتْرَكُ لِأَجْلِهَا ظَاهِرُ
الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا عَيْنُ مَا اخْتَرْته فِي
الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ كَمَا سَبَقَ. وَحَكَاهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ،
وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشِّيعَةِ، وَقَالَ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ الْأَقْوَى فِي
النَّظَرِ، وَقَالَ فِي الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ إلَيْهِ
الْمُتَكَلِّمُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ
عَلَى الْإِبَاحَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ
" عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبِهِ جَزَمَ
الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ " فِي كِتَابِهِ " وَالْخَفَّافُ فِي
كِتَابِ " الْخِصَالِ " بِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْأَمْرِ أَنْ لَا
يَتَقَدَّمَهُ حَظْرٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ
ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "
وَكَذَا حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي صَارَ إلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ أَجْوِبَتِهِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ
عَنْ الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ
فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ فِي
كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ:
(3/303)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحْكَامِ
الْقُرْآنِ: وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ
تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مِنْهَا الْإِبَاحَةُ، كَالْأَوَامِرِ
الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] قَالَ: فَنَصَّ عَلَى
أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي
الْإِبَاحَةَ دُونَ الْإِيجَابِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَصْحَابِنَا ". انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لِلشَّافِعِيِّ كَلَامٌ
يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ
ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ
مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ
الرَّازِيَّ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْقَاضِي
عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ ": إنَّهُ الَّذِي صَارَ
إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ،
وَأَطْلَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَعَهُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ خِلَافُهُ،
لَكِنْ قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: الشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ
تَقَدُّمَ الْحَظْرِ مِنْ مُوَلِّدَاتِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا
مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْحَظْرِ يُوهِنُ
الظُّهُورَ، وَلَكِنْ لَا يُسْقِطُ أَصْلَ الظُّهُورِ
كَانْطِبَاقِ الْعُمُومِ عَلَى سَبَبٍ. انْتَهَى. وَقَالَ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ وَابْنُ خُوَيْزِ
مَنْدَادٍ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ عَلَى
عَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَقَالَ: هُوَ
تَوْسِعَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2] . وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ
عَارِضًا لِعِلَّةٍ وَسَبَبٍ وَعُلِّقَتْ صِيغَةُ " افْعَلْ "
بِزَوَالِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2] وَكَقَوْلِهِ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ
ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَادَّخِرُوا» فَإِنَّ
الْحَظْرَ السَّابِقَ إنَّمَا يَثْبُتُ
(3/304)
لِسَبَبٍ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إذَا
وَرَدَتْ صِيغَةُ " افْعَلْ " مُعَلَّقَةً بِرَفْعِهِ دَلَّ
فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ لِدَفْعِ الذَّمِّ
فَقَطْ.
وَيَغْلِبُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْوَضْعِ، وَأَمَّا
إنْ كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ قَدْ عَرَضَ لَا لِعِلَّةٍ،
وَلَا أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " عُلِّقَتْ بِزَوَالِ ذَلِكَ،
كَالْجَلْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَقِيبَ الزِّنَا بَعْدَ
النَّهْيِ عَنْ الْإِيلَامِ، فَتَبْقَى صِيغَةُ " افْعَلْ "
عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ:
إنَّهَا لِلْوُجُوبِ قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ لِلْوُجُوبِ
بِحَالِهَا، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَوْقُوفَةٌ قَالَ: هِيَ
أَيْضًا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ،
وَيُرِيدُ هُنَا أَيْضًا احْتِمَالَ الْإِبَاحَةِ، وَلَا
تَنْقُصُ الْإِبَاحَةُ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
هُنَا دَعْوَى عُرْفٍ أَوْ اسْتِعْمَالٍ حَتَّى يُقَالَ
بِأَنَّهُ يَغْلِبُ الْعُرْفُ الْوَضْعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
بِخِلَافِ الْأُولَى بَلْ يَبْقَى التَّرَدُّدُ لَا غَيْرُ،
وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ
وَقَالَ: أَمَّا إذَا أُطْلِقَ غَيْرَ مُعَلَّلٍ بِعَارِضٍ
ثُمَّ تَعَقَّبَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَهُوَ
مَحَلُّ التَّرَدُّدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَظْرِ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ انْتَفَى
التَّعَلُّقُ لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا وَيُحْتَمَلُ، وَأَمَّا
إذَا لَمْ تَرِدْ صِيغَةُ " افْعَلْ " كَقَوْلِك: قَالَ: "
إذَا حَلَلْتُمْ فَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاصْطِيَادِ "
فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ.
وَالرَّابِعُ: الْوَقْفُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْوُجُوبِ
وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ
وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ أَبْطَلَ
الْوَقْفَ فِي لَفْظِهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ
حَظْرٍ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ": إنَّهُ
الْمُخْتَارُ، وَقَالَ
(3/305)
ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ الرَّأْيُ
الْحَقُّ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَبِهِ
جَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مِنْ
تَعْلِيقِهِ ". وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا تَرْفَعُ الْحَظْرَ
السَّابِقَ وَتُعِيدُ حَالَ الْفِعْلِ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ
الْحَظْرِ، فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ،
كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
أَوْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ، كَقَوْلِهِ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] إذَا قُلْنَا
بِوُجُوبِ الْوَطْءِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ
الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَنَسَبَهُ
لِلْمُزَنِيِّ. قَالَ: وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَإِنَّ الصِّيغَةَ رَفَعَتْ
الْحَظْرَ وَأَعَادَتْهُ إلَى مَا كَانَ أَوَّلًا، وَهَذَا
هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ
الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا حُرِّمَ
لِحُدُوثِ مَعْنًى فِيهِ، وَكَانَ قُبَيْلَ حَظْرِهِ غَيْرَ
وَاجِبٍ فِعْلُهُ فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ
الْحَظْرِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِبَاحَةُ، وَرَدُّ
الشَّيْءِ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. أَلَا تَرَى أَنَّ
وَطْءَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ
ثُمَّ حَرُمَ بِحُدُوثِ الْحَيْضِ؟ فَلَمَّا قِيلَ: {فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
[البقرة: 222] لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيجَابًا بَلْ إبَاحَةً
كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ
الْأُولَى، وَكَذَا قَوْلُهُ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ
زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» أَيْ: فَقَدْ أَبَحْت
لَكُمْ الْآنَ مَا حَظَرْته عَلَيْكُمْ.
(3/306)
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَنُكْتَةُ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ عَلَى الْأَمْرِ هَلْ
هُوَ قَرِينَةٌ تُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِالْمَذْهَبِ
الْأَوَّلِ لَا يَرَوْنَهُ قَرِينَةً مُوجِبَةً لِلْخُرُوجِ
عَنْ ذَلِكَ، وَالْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ يَرَوْنَ
تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةً خَارِجَةً لِلْأَمْرِ
الْمُطْلَقِ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَهُمْ مُطَالَبُونَ بِدَلِيلٍ
عَلَى ذَلِكَ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ إلَّا دَعْوَى
الْفَرْقِ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ مُقْتَضَاهُ
أَوْ دَعْوَى أَكْثَرِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ،
وَطَرِيقُهُمْ فِي ذَلِكَ إيرَادُ النَّظَائِرِ، كَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] ، وَإِلَّا فَلَا إشْكَالَ فِي
إمْكَانِ الِانْتِقَالِ مِنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إلَى بَعْضٍ
كَيْفَ كَانَتْ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مَا
قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي هَذِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ
اخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ
لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَالْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا،
وَقَرَّرَ كَوْنَ الْمَوْجُودِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا
بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ مِنْ الْحَظْرِ إلَى
الْوُجُوبِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ جَائِزٌ
مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ يَدَّعِي أَنَّ
الِاسْتِعْمَالَ وَالْعُرْفَ دَالَّانِ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ
عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ
جَوَازُ الِانْتِقَالِ، وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ مُنَازَعَةُ
الْخَصْمِ فِي ذَلِكَ وَإِلْزَامُهُ لِلْحُجَّةِ عَلَى مَا
قَالَ، وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى
اعْتِبَارِ الْإِطْلَاقَاتِ وَأَمْرِ الْعُرْفِ فَإِنْ صَحَّ
عِنْدَهُ مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ قَالَ بِهِ، وَإِلَّا
فَلَا. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ جَعَلَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ "
الْمُعْتَزِلِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ " الشِّيعِيُّ
الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَظْرُ السَّابِقُ
شَرْعِيًّا، قَالَا: فَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا فَلَا خِلَافَ
(3/307)
أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَدْلُولُهُ
عَمَّا كَانَ لِوُرُودِهِ ابْتِدَاءً وَصَرَّحَ أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " بِأَنَّهُ لَا
فَرْقَ فِي الْحَظْرِ بَيْنَ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ،
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ
فِي الْمُلَخَّصِ ": لِلْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا:
أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ إمَّا بِحُكْمِ
الْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُجَوِّزَاتِ
الْعُقُولِ مُبَاحٌ، أَوْ بِتَوَقُّفٍ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى
ذَلِكَ ثُمَّ يَرِدُ حَظْرٌ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ
أَوْ عِلَّةٍ، فَإِذَا وَرَدَ " افْعَلْ " بَعْدَ زَوَالِ مَا
عَلَّقَ الْحَظْرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ
وَيَرْفَعُ الْحَظْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِدَ حَظْرٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ
مُعَلَّلٍ بَعْلَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَا مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ،
وَلَا غَايَةٍ ثُمَّ يَرِدَ بَعْدَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ
فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَمِثْلُهُ بِالْكِتَابَةِ.
قَالَ: وَيَجُوزُ رُجُوعُهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ
الْكِتَابَةِ إنَّمَا كَانَ لِدُخُولِهَا فِي الْغَرَرِ،
وَحَظْرُ الْغَرَرِ مُبْتَدَأٌ.
الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَظْرِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَقَطْ بَلْ الْمُرَادُ
ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَثَّلَهَا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا} [النور: 33] وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ عَلَى خِلَافِ
الْقِيَاسِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالْمُسَاقَاةُ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ
بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ غَيْرُ
سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَنَاقِضِ؛ إذْ الْمُبَاحُ غَيْرُ
مَأْمُورٍ بِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهُ
مَأْمُورًا بِهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَقُولَ: " افْعَلْ "
إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ
الرَّبَعِيُّ فِي شَرْحِ اللَّامِعِ ": هَذِهِ الْعِبَارَةُ
رَغِبَ عَنْهَا الْقَاضِي، وَقَالَ: الْأَوْلَى فِيهَا أَنْ
يُقَالَ: " افْعَلْ " بَعْدَ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ "
يَكُونُ أَمْرًا تَارَةً وَغَيْرَ أَمْرٍ، وَالْمُبَاحُ لَا
يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ.
(3/308)
الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ
بِالْإِبَاحَةِ بِأَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةٌ
صَرَفَتْ لِلْأَمْرِ عَنْ الْوُجُوبِ. وَعَارَضَ ابْنُ عَقِيلٍ
الْحَنْبَلِيُّ، فَقَالَ: إذَا رَاعَيْتُمْ الْحَظْرَ
الْمُتَقَدِّمَ وَجَعَلْتُمُوهُ قَرِينَةً صَارِفَةً لَهُ عَنْ
مُقْتَضَاهُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنَّهُ يَكُونُ
تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا وَيَكُونُ قَرِينَةُ الْحَظْرِ
صَارِفَةً لَهُ إلَى التَّهْدِيدِ حَتَّى تَكُونَ الْقَرِينَةُ
مُبَيِّنَةً لِحُكْمٍ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ
النَّهْيُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ
الْوُجُوبُ الْمُتَقَدِّمُ قَرِينَةً تَصْرِفُهُ عَنْ
ظَاهِرِهِ إلَى الْكَرَاهَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ:
بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّهْدِيدِ لِئَلَّا
يَبْطُلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ فَحُمِلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ
مُرَاعَاةً لَهُ، وَصُرِفَ عَنْ الْوُجُوبِ مُرَاعَاةً
لِلْقَرِينَةِ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ مَا رَاعَى
الْأَمْرَ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ صَحِيحٍ. الْخَامِسُ:
قِيلَ: يُحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَبَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ
لَوْ لَمْ يَجِبْ فَإِذَا جَازَ وَجَبَ كَالْخِتَانِ وَقَطْعِ
الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْجَزْمِ
بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. قُلْنَا: الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ
مَفْرُوضَةٌ فِي شَيْءٍ كَانَ مَمْنُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ
عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْأُصُولِيَّةُ فِيمَا هُوَ مَمْنُوعٌ
مِنْهُ لَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
[مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ]
ِ] أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ
الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ كَالنَّهْيِ الْمُطْلَقِ بِلَا خِلَافٍ.
(3/309)
قَالَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ "
وَالْمَصَادِرِ "، وَأَمَّا الْوَارِدُ بَعْدَ الْوُجُوبِ
فَمَنْ قَالَ هُنَاكَ: يُفِيدُ الْوُجُوبَ، قَالَ هُنَا:
يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، وَحَكَى فِي الْمَنْخُولِ " فِيهِ
الِاتِّفَاقَ، وَمَنْ قَالَ هُنَاكَ بِالْإِبَاحَةِ،
فَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الْخِلَافَ وَحَكَمَ
بِالْإِبَاحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَأْثِيرَ هُنَا
لِلْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ لِلنَّهْيِ بَعْدَ
التَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ وَقَالَ: لَا
يَنْهَضُ الْوُجُوبُ السَّابِقُ قَرِينَةً فِي حَمْلِ
النَّهْيِ عَلَى رَفْعِ الْوُجُوبِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ
فِي تِلْكَ، وَتَبِعَ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْإِمَامَ فِي
التَّلْخِيصِ " وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَمَّا أَنَا فَأَسْحَبُ ذَيْلَ
الْوَقْفِ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْته فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ
بَعْدَ الْحَظْرِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَمَا أَرَى الْمُخَالِفِينَ
الْحَامِلِينَ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ
يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ بَيْنَ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ النَّهْيَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ،
وَالْأَمْرُ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أَوْ اعْتِنَاءُ
الشَّارِعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ اعْتِنَائِهِ
بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ الْمَفَاسِدَ فِي
الْوُجُودِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ
مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ
بِخِلَافِ الْأَمْرِ
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ]
ِ] الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ وَالْإِذْنِ حُكْمُهُ
فِي إفَادَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، مِثْلَ
أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَيَقُولَ: " افْعَلْ
" ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ "، وَهُوَ حَسَنٌ نَافِعٌ فِي
الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُوبِ التَّشَهُّدِ «بِقَوْلِهِ
(3/310)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ
سَأَلُوهُ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ قُولُوا»
الْحَدِيثَ. أَمَّا النَّهْيُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ
«كَقَوْلِ سَعْدٍ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا» ،
وَقَوْلُهُمْ: «أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قَالَ: لَا»
فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ
عَنْ الْخَبَرِ. وَقَدْ تَأْتِي قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
إرَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. إمَّا
الْوُجُوبُ أَوْ الْجَوَازُ أَوْ الِاسْتِحْبَابُ، وَقَدْ
يَكُونُ اسْتِرْشَادًا أَيْضًا كَمَا مَثَّلْنَا، وَالظَّاهِرُ
فِيهَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ الْجَوَازِ، وَلِذَلِكَ
كَانَ الِانْحِنَاءُ حَرَامًا. قَالَ فِي الْبَحْرِ ":
وَتَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَكِنَّ
الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ، وَيُتَّجَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذَا
الْأَصْلِ.
[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِمَرَّةٍ أَوْ
بِتَكْرَارٍ]
ٍ] الْأَمْرُ إنْ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِمَرَّةٍ أَوْ
بِتَكْرَارٍ حُمِلَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَإِنْ وَرَدَ
مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ وَرَدَ
مُطْلَقًا عَارِيًّا عَنْ الْقُيُودِ فَاخْتَلَفُوا فِي
اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ وَعَدَمَهُ وَسَوَاءٌ قُلْنَا:
إنَّهُ لِلْوُجُوبِ، أَوْ الطَّلَبِ عَلَى مَذَاهِبَ:
(3/311)
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِذَاتِهِ
لَا عَلَى التَّكْرَارِ وَلَا عَلَى الْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا
يُفِيدُ طَلَبَ الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إشْعَارٍ
بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُ
الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ بِأَقَلَّ مِنْ مَرَّةٍ،
فَصَارَتْ الْمَرَّةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِتْيَانِ
بِالْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ
عَلَيْهَا بِذَاتِهِ بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ. وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ ": إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ
النَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ
الصَّحِيحُ، وَهُوَ رَأْي الْقَاضِي عَلَى تَوَلُّعِهِ
بِالْوَقْفِ فِي أَصْلِ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْعُمُومِ،
وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْآمِدِيَّ
وَأَتْبَاعُهُمَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ
الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ " مِنْ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ
قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
خِلَافًا عَنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ
التَّكْرَارَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُهُ أَصْلًا،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُهُ. قَالَ: وَهُوَ
الْأَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي
الْبُرْهَانِ " فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهُ فِي الزَّائِدِ عَلَى
الْمَرَّةِ مُتَوَقِّفٌ لَا نَنْفِيهِ وَلَا نُثْبِتُهُ
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ وَلَكِنْ
يَحْتَمِلُ كُلَّ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَقْتَضِيهِ،
غَيْرَ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ،
وَعَلَيْهِ دَلَّتْ مَسَائِلُ عُلَمَائِنَا، وَكَذَا قَالَ
شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ
لِلتَّكْرَارِ الْمُسْتَوْعِبِ لِزَمَانِ الْعُمُرِ إجْرَاءً
لَهُ مَجْرَى النَّهْيِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ أُرِيدَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ
أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ
شَيْخِهِ أَبِي حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيِّ وَعَنْ الْقَاضِي
أَبِي بَكْرٍ.
(3/312)
وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ
الْعَالَمِيَّ نَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ
الْمُزَنِيّ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ
ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ عَنْ
مَالِكٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ
شَيْخِهِمْ. لَكِنْ شَرْطُ هَذَا الْقَوْلِ الْإِمْكَانُ دُونَ
أَزْمِنَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْيَوْمِ وَضَرُورِيَّاتِ
الْإِنْسَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْقَطَّانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْآمِدِيَّ
وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: ثُمَّ لَا
يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّكْرَارِ
هُنَا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ إعَادَةُ الْفِعْلِ
الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْصِيلُ مِثْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُعَبِّرُ عَنْ التَّكْرَارِ
بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ مِمَّا
يَسْتَلْزِمُ فِيهِ الْعُمُومُ التَّكْرَارَ إنْ قُلْنَا: إنَّ
الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ،
وَالْأَزْمِنَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ
فَقَطْ، وَلَا يُحْتَمَلُ التَّكْرَارُ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ
عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ
الْأَكْثَرِينَ وَالْجَمَاهِيرِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ
ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ
بْنُ الْقَطَّانِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِهِ، وَحَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ
"، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي
كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: إنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ
عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ قَالَ:
لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّلَاقِ: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ:
إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا
طَلْقَةً وَاحِدَةً بِالدُّخُولِ إلَى الدَّارِ؛
(3/313)
لِأَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ اقْتَضَى مَرَّةً
وَاحِدَةً: قَالَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ الْأَشْبَهُ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. قُلْت: بَلْ
نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ " صَرِيحًا فِي بَابِ
الْفَرَائِضِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا. قَالَ: فَكَانَ
ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَسْلِ مَرَّةً،
وَاحْتَمَلَ أَكْثَرَ، وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُضُوءَ مَرَّةً فَوَافَقَ
ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الْحَدِيثُ بِهِ
لَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى.
وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "،
وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي
الْأَوْسَطِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَكْثَرِ " الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ اخْتِيَارِ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي
الطَّيِّبِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ
شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ،
وَقَالَ: ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قِيلَ: وَأَكْثَرُ النَّقَلَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا
وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ إلَّا نَفْيَ
التَّكْرَارِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْمَرَّةِ،
وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ مَعَ
حِكَايَةِ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ.
قُلْت: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلَالَتَهُ
عَلَى الْمَرَّةِ هَلْ هِيَ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ
وَالِالْتِزَامِ؟ وَإِنْ عَدِمَ دَلَالَتَهُ عَلَى
التَّكْرَارِ هَلْ هِيَ لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ
أَصْلًا أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ
يَتَعَيَّنْ تَوَقَّفَ فِيهِ؟ .
(3/314)
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ قَطْعًا، وَلَا يُنَبِّئُ عَنْ نَفْيِ
مَا عَدَاهَا، وَلَكِنْ يَتَرَدَّدُ الْأَمْرُ فِي الزَّائِدِ
عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ
الْقَاضِي، كَمَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي
التَّلْخِيصِ ". قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي
قَبْلَهُ: أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَطَعُوا بِأَنَّ الْأَمْرَ
يُحْمَلُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَحْتَمِلُ
مَعْنًى غَيْرَهَا، فَافْهَمْ الْفَصْلَ بَيْنَ هَذِهِ
الْمَذَاهِبِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْقَائِلُونَ
بِاقْتِضَائِهِ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ اخْتَلَفُوا،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِيهَا لَفْظًا، وَمِنْهُمْ مَنْ
نَفَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ اقْتِضَاءَهُ لَهَا إنَّمَا هُوَ
بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا
يُفِيدُ إلَّا الطَّلَبَ بِتَحْصِيلِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ
غَيْرِ إشْعَارٍ بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ، لَكِنْ لَمَّا
لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهَا بِدُونِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ
قُلْنَا: دَلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ
الْكَثْرَةِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظًا وَلَا
مَعْنًى.
قَالَ: وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ
وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ
مُقْتَضَى الصِّيغَةِ الِامْتِثَالُ، وَالْمَرَّةُ
الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَأَمَّا الزَّائِدُ
عَلَيْهَا فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ
الْحَرَمَيْنِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ. انْتَهَى.
وَهَذَا الْأَخِيرُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ
الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ،
وَاَلَّذِي فِي الْبُرْهَانِ " لِلْإِمَامِ أَنَّهُ
يَتَضَمَّنُ الِامْتِثَالَ بِالْمَرَّةِ وَهُوَ فِي
الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَقْفِ بِتَوَقُّفٍ عَلَى
الْقَرِينَةِ، وَهُوَ يَرُدُّ نَقْلَ الْآمِدِيُّ عَنْهُ
الثَّالِثَ فَاعْلَمْهُ. وَالْخَامِسُ الْوَقْفُ فِي الْكُلِّ،
وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةِ
(3/315)
الْوَاقِفِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ
يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَيَحْتَمِلُ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ
زَائِدٍ عَلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي
التَّقْرِيبِ ثُمَّ ادَّعَى قِيَامَ الْإِجْمَاعِ عَلَى
انْتِفَاءِ مَا عَدَا التَّكْرَارَ وَالْمَرَّةَ بِالْحَصْرِ،
وَتَوَقَّفَ حِينَئِذٍ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ، ثُمَّ
ادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَرَّةِ مُتَّفِقٌ
عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، ثُمَّ قَالَ تَفْرِيعًا عَلَى
الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَقْفِ: إنَّ الْمَفْهُومَ فِعْلُ
مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
هَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الْقَاضِي، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ
قَوْلَ الْوَقْفِ، وَقَالَ: هُوَ مُحْتَمِلٌ لِشَيْئَيْنِ:
أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّكْرَارِ وَالْمَرَّةِ
فَيُتَوَقَّفُ إعْمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى قَرِينَةٍ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا نَعْرِفُهُ
فَيُتَوَقَّفُ لِجَهْلِنَا بِالْوَاقِعِ. وَالسَّادِسُ:
أَنَّهُ إنْ كَانَ فِعْلًا لَهُ غَايَةٌ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ
فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِلَّا
فَلَا فَيَلْزَمُهُ الْأَوَّلُ. حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ
عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَنَقَلَ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ وُرُودَ النَّسْخِ
وَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْأَمْرِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ
قَدْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْرَارُ. وَالسَّابِعُ: إنْ كَانَ
الطَّلَبُ رَاجِعًا إلَى قَطْعِ الْوَاقِعِ كَقَوْلِك فِي
الْأَمْرِ السَّاكِنِ تَحَرَّكْ فَلِلْمَرَّةِ، وَإِنْ رَجَعَ
إلَى اتِّصَالِ الْوَاقِعِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَقَوْلِك فِي
الْأَمْرِ الْمُتَحَرِّكِ تَحَرَّكْ فَلِلِاسْتِمْرَارِ
وَالدَّوَامِ. وَيَجِيءُ هَذَا فِي النَّهْيِ أَيْضًا، وَهُوَ
مَذْهَبٌ حَسَنٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ
وَقْتٍ]
ٍ] أَمَّا الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ
وَقْتٍ، نَحْوُ إنْ كَانَ زَانِيًا فَارْجُمْهُ، {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَهَلْ يَقْتَضِي
تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرَارِهَا؟ مَنْ قَالَ:
الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهَاهُنَا
أَوْلَى، وَهُوَ عِنْدَكُمْ آكَدُ التَّكْرَارِ مِنْ
الْمُجَرَّدِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ. حَكَاهُ
الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِمْ. وَحَرَّرَ الْآمِدِيُّ
وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ
الْمُعَلَّقِ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِوُجُوبِ
الْفِعْلِ مِثْلُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
[النور: 2] وَقَوْلُنَا: إنْ كَانَ هَذَا الْمَائِعُ خَمْرًا
فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ
اتِّفَاقًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ
يَثْبُتْ كَوْنُهُ عِلَّةً بَلْ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ
مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَهُ كَالْإِحْصَانِ الَّذِي
يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ.
انْتَهَى.
وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَهُوَ
قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ
فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالصِّفَةِ مَا عَلَّقَ
بِهِ الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَفْظَ تَعْلِيلٍ
وَلَا شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:
92] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَجَزَمَ
بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَقَضِيَّةُ
كَلَامِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ جَرَيَانُ الْخِلَافِ
مُطْلَقًا، وَقَدْ يُجْمَعُ
(3/316)
بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْآمِدِيَّ فَرَضَ
الْكَلَامَ مَعَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ
عَلَى الْوَصْفِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ، وَالْإِمَامُ
تَكَلَّمَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْمُخَالِفِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى سَبَبٍ، كَ {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]
(3/317)
وَاقْطَعُوا، وَاجْلِدُوا فِي الْآيَتَيْنِ
يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ اتِّفَاقًا، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى
شَرْطٍ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَأَمَّا تَكْرَارُ
الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ،
وَتَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ
إلَى الصَّلَاةِ، فَيَرْجِعُ إمَّا إلَى السَّبَبِيَّةِ، أَوْ
بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَيُعْرَفُ السَّبَبُ
بِمُنَاسَبَتِهِ، أَوْ بِعَدَمِ دُخُولِ أَدَاةِ الشَّرْطِ
عَلَيْهِ. وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي
الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ: فَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ
فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا.
ثُمَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَ مَرَّةٍ
إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ. قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: إنَّهُ أَنَظْرُ الْقَوْلَيْنِ،
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ
أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ
وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ
الرَّازِيَّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ
كَالْمُطْلَقِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " وَزَادَ
أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ، وَقَالَ
السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ
الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
(3/318)
وَالْأُصُولِيِّينَ، وَرُبَّمَا نُسِبَ
لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ:
لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا
دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ: إنَّهَا تَطْلُقُ بِكُلِّ
دَخْلَةٍ، وَلَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ، وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ
ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى فِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَرَّقَ
بَيْنَ " إذَا " وَ " كُلَّمَا " وَهَذَا مَوْضِعُ اللِّسَانِ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا لِلتَّكْرَارِ، وَالْأُخْرَى
لَا تَقْتَضِيهِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ
الْحَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَقْتَضِيَهُ كَالنَّهْيِ
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهُوَ أَشْبَهُ
بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ
لِكُلِّ صَلَاةٍ: لِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وَكُلُّ مَنْ قَامَ
وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّلَوَاتِ وُضُوءًا وَاحِدًا
دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ
بِالْمَاءِ، وَبَقِيَ فِي التَّيَمُّمِ فِي الظَّاهِرِ،
وَلِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْعُمُومِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ
الْأَوْقَاتِ. قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ خَرَّجَهَا عَلَى
وَجْهَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا
يَتَكَرَّرُ، وَالْأَظْهَرُ عَلَى الْمَذَاهِبِ: التَّكْرَارُ.
انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْأَظْهَرُ هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي
بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ
فَاعْلَمْهُ. وَحَكَى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ شَمْسُ
الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ
بِقَوْلِهِ
(3/319)
تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أَيْ: مُحْدِثِينَ بِاتِّفَاقِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حُكْمُ الطَّهَارَةِ
بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: مَا
تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ فِي
التَّيَمُّمِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تَكْرِيرِ
التَّيَمُّمِ لَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِذَلِكَ
إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ وُجُوبُ تَكْرِيرِ الصَّلَاةِ
فَيُجْرَى أَمْرُ التَّيَمُّمِ عَلَى مَا يُجْرَى عَلَيْهِ
أَمْرُهَا. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الشَّرْطُ مُنَاسِبًا
لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ عِلَّتُهُ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وَكَآيَةِ الْقَذْفِ وَنَحْوِهِ،
فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى
أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ إلَّا بِدَلِيلٍ
مِنْ خَارِجٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ
مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ لَهُ
وَلَكِنْ يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى
الصَّحِيحِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ
يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَحْصُولِ "
وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ " وَالْخَامِسُ: أَنَّ
الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ،
وَالْمُعَلَّقُ بِصِيغَةٍ يَقْتَضِيهِ مِنْ طَرِيقِ
الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي
مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي
التَّلْخِيصِ ": الَّذِي يَصِحُّ وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَنَّ
الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِشَرْطٍ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْرَارَ
الِامْتِثَالِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا
يَقْتَضِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ عَلَى الْوَقْفِ فِيمَا
عَدَاهَا، وَصَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّكْرَارِ فِي
الْعِلِّيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا فَصَّلَ الْآمِدِيُّ فِي الصِّيغَةِ
التَّفْصِيلَ السَّابِقَ فَصَّلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي
الشَّرْطِ، فَقَالَ: إنْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ، نَحْوُ
كُلَّمَا جَاءَك وَمَتَى مَا جَاءَك فَأَعْطِهِ، فَإِنَّهُ
يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِحُكْمِ الْقَرِينَةِ، وَإِنْ لَمْ
يَقْتَضِهِ فَلَا تَخْرُجُ صِيغَتُهُ عَنْ مَوْضُوعِهَا
الْأَصْلِيِّ.
(3/320)
قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: مَنْشَأُ
الْخِلَافِ أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ هَلْ
تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ مُؤَثِّرًا كَالْعِلَّةِ؟
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ
أَمَارَةً عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ وُضِعَتْ
مُؤَثِّرَةً جَالِبَةً، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: مَا يُضَافُ
الْحُكْمُ إلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَنَاطًا
لِلْحُكْمِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ،
وَأَمَّا فِي تَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا يَقْتَضِي
تَكْرَارًا لِمُجَرَّدِهِ، وَإِنْ كَانَ عِلَّةً فَإِنَّهُ
لَوْ قَالَ: أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَلَهُ عَبِيدٌ
آخَرُونَ سُودٌ لَمْ يُعْتَقُوا قَطْعًا، وَالشَّرْطُ أَوْلَى
كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا
دَخَلَتْ مَرَّةً وَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَانْحَلَّتْ
الْيَمِينُ، ثُمَّ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَكَرُّرِ الْمُعَلَّقِ
عَلَيْهِ إلَّا فِي " كُلَّمَا "، وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ
فَسَادُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ
هَذَا الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ]
مَسْأَلَةٌ أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ نَحْوُ
صَلِّ ثَلَاثًا صَلِّ ثَلَاثًا، فَإِنْ قُلْنَا: فِي الْأَمْرِ
الْوَاحِدِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَهَاهُنَا هُوَ تَأْكِيدٌ
قَطْعًا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ مُطْلَقَهُ لِلْمَرَّةِ
الْوَاحِدَةِ فَفِي تَكَرُّرِهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَهُ فَلَا يَقْتَضِي مِنْ
الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَوْلُ
أَصْحَابِنَا، وَنَسَبَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ وَابْنُ الصَّبَّاغِ لِلصَّيْرَفِيِّ، وَقَدْ
رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى
بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ "، فَقَالَ: مَتَى خُوطِبْنَا
بِإِيجَابِ شَيْءٍ وَكُرِّرَ لَمْ يَتَكَرَّرْ الْفِعْلُ
لِتَكَرُّرِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فِي مَوَاضِعَ
كَثِيرَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: حَدِيثُ الْأَقْرَعِ بْنِ
حَابِسٍ
(3/321)
فِي الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
الْآيَةَ، لَمَّا أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ
الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ يَغْسِلُ كُلَّ
الْأَعْضَاءِ لِلْجَنَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَغْسِلَ
الْأَعْضَاءَ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ الْحَدَثِ أَوْ
الْجَنَابَةِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ
أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا بِالصَّلَاةِ الَّتِي وَضَعَهَا، وَلَمْ
يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحَدَثِ
لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ إنَّمَا هُوَ عَلَمٌ لِنَقْضِ
الطَّهَارَةِ لَا لِإِيجَابِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَكَانَ إذَا أَحْدَثَ وَجَبَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لَا
لِلصَّلَاةِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ
لِلصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْلِ
الْحَدَثِ لَلَزِمَ تَكْرَارُ الْغُسْلِ كَمَا يَلْزَمُ مَنْ
أُمِرَ إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ، وَفَعَلَ
مِثْلَهُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ كَأَمْرِنَا بِالْفِدْيَةِ إذَا
حَلَقَ، وَإِذَا لَبِسَ نَعْلَيْهِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو
الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَمْهِيدِهِ ". وَالثَّانِي:
أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فَيَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَكْرِيرِ
الْفِعْلِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ لِأَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لَهُ
وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ
قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ
الْأَكْثَرِينَ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ "
الْمُعْتَزِلِيُّ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَنَسَبَهُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ لِأَهْلِ الرَّأْيِ، وَقَطَعَ
بِالْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِنَا،
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ
أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ إلَّا
بِدَلِيلٍ، وَنَسَبَهُ لِابْنِ فُورَكٍ، وَرَأَيْت فِي
كِتَابِهِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ
(3/322)
وَهَذَا قَوْلُ الْوَقْفِ الَّذِي حَكَاهُ
ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُ
مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَغَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ
عَلَى الْقَرِينَةِ. قَالَ وَكَلَامُ الْقَاضِي مُتَرَدِّدٌ
فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى الْوَقْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَتَارَةً يَقُولُ: يَقْتَضِي إنْشَاءً لَا مُتَجَدِّدًا.
انْتَهَى.
وَمِمَّنْ حَكَى الْوَقْفَ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْبَصْرِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَيُمْكِنُ
تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ فِيمَا إذَا قَالَ:
أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي
الثَّانِيَةِ نِيَّةٌ هَلْ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ أَوْ
الِاسْتِئْنَافَ؟ قَوْلَانِ. وَلِمَحَلِّ الْخِلَافِ شُرُوطٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ
التَّكْرَارَ، فَإِنْ كَانَ، فَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ قَطْعًا،
كَالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَالْعِتْقِ إذَا تَكَرَّرَا فِي
شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ وَعِتْقُهُ
مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". الثَّانِي: أَنْ يَرِدَ
التَّكْرَارُ قَبْلَ الِامْتِثَالِ فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَهُ
حُمِلَ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قَالَهُ ابْنُ
الْقُشَيْرِيّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا
الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّحِدَ مَدْلُولُ اللَّفْظَيْنِ، نَحْوُ
صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ اخْتَلَفَا
اقْتَضَى التَّكْرَارَ قَطْعًا. قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ
الْوَاضِحِ "، نَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا أَعْطِهِ دِرْهَمًا،
اضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْ عَمْرًا، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صُمْ
يَوْمًا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ
يُقْرَنَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ
التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا
الْهِرَّاسِيّ وَغَيْرُهُ. قَالَ نَعَمْ إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ ذُكِرَ تَأْكِيدًا أَوْ أُفْرِدَ
عَمَّا عَدَاهُ تَفْخِيمًا فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ، نَحْوُ
عَطْفُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": إنْ وَرَدَ
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالنَّكِرَةِ وَالثَّانِي
(3/323)
بِالْمَعْرِفَةِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ
الثَّانِي إلَى مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ
بِالْعَطْفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَرَدَا
بِالْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ مَتَى ظَفِرَا
بِمَعْهُودٍ فَإِنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ إلَيْهِ إلَّا
لِمَانِعٍ، وَلِهَذَا حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعُسْرَ
الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا} [الشرح: 6] حَتَّى قَالَ: " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ
يُسْرَيْنَ ". الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعْطَفَ أَحَدُهُمَا
عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ عُطِفَ فَلَا خِلَافَ فِي حَمْلِ
الثَّانِي عَلَى الِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا
يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ
الْوَاضِحِ "، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ
"، وَلَكِنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
لَامُ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ صَلِّ
رَكْعَتَيْنِ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: فَاخْتَلَفُوا
فِيهِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقِيلَ
بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ،
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ. وَقَالَ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": إذَا أَمَرَ
بِفِعْلٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِآخَرَ فَلِلْمَسْأَلَةِ
أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي خِلَافَ
الْأَوَّلِ، نَحْوَ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضِدَّهُ فَكَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ
كَقَوْلِهِ: لَا تَمَسَّ زَيْدًا بِسُوءٍ، وَلَا تَضْرِبْهُ
ثُمَّ تَقُولُ: اضْرِبْهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَتَعَدَّدَ
الْوَقْتُ، فَلَوْ اتَّحَدَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ وَرَدَ حُمِلَ
عَلَى التَّخْيِيرِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الثَّانِي مِثْلَ مُوجِبِ
الْأَوَّلِ فَهَذَا وَضْعُ الْخِلَافِ، فَذَهَبَ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ مَا لَمْ
يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَهَذَا الَّذِي يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ
أَصْحَابِنَا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ
الْأَوَّلُ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا فِي هَذَا مِنْ اشْتِرَاطِ
كَوْنِ الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ تَكْرَارُهُ. قَالَ: فَإِنْ
كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ
(3/324)
الْجِنْسِ وَالْمَعْطُوفُ مُتَنَاوِلًا
لِبَعْضِهِ، فَقِيلَ بِالتَّغَايُرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
[البقرة: 238] فَقِيلَ: إنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ
الْوُسْطَى غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا؛
لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلتَّغَايُرِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ إلَى الْوَهْمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ،
وَهُوَ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ. وَأَمَّا عَكْسُهُ،
وَهُوَ كَوْنُ الثَّانِي أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ:
اُقْتُلْ أَهْلَ الْأَدْيَانِ، وَاقْتُلْ جَمِيعَ
الْمُشْرِكِينَ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ هُنَا، وَالصَّحِيحُ:
أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ
بِذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ
قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ التَّأْكِيدِ، فَإِنْ قَامَتْ
دَلَالَةٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ صِرْنَا إلَيْهِ. انْتَهَى.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي وَقْتَيْنِ،
كَذَا صَوَّرَ بِهِ سُلَيْمٌ مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ.
وَقَضِيَّتُهُ: أَنَّهُ إذَا كَرَّرَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ
يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ قَطْعًا، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ
الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَتَخَلَّلَهُ زَمَانٌ أَمْ لَا، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ
الْقَاضِي: إنَّ فَرْضَ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
الصَّادِرِ مِنْ الْخَلْقِ، فَلَا يَبْعُدُ التَّفْصِيلُ
بَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَوَامِرِ عَلَى التَّوَالِي أَوْ
مَعَ التَّخَلُّلِ بِزَمَانٍ، فَإِنْ تَخَلَّلَ حُمِلَ عَلَى
التَّجَدُّدِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ،
فَأَمَّا مَا فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَرْقَ،
وَلِذَلِكَ جَازَ التَّخْصِيصُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ:
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ
مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى -
عِبَارَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، فَأَيُّ فَرْقٍ؟ وَلَوْ صَحَّ
هَذَا لَصَحَّ تَأْخِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ. السَّادِسُ: أَنْ تَتَكَرَّرَ صِيغَةُ الْأَمْرِ،
فَإِنْ تَكَرَّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ صِيغَتِهِ، نَحْوُ
صَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا
الْأُصُولِيُّونَ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ
مِنْهَا خِلَافٌ. وَالصَّحِيحُ لَا فَرْقَ فَإِنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، هَلْ
(3/325)
هُوَ بِمَثَابَةِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ
طَالِقٌ، أَوْ تَقَعُ طَلْقَةٌ قَطْعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ.
[مَسْأَلَةٌ تَصْرِيحُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ
شَاءَ]
َ] الْأَمْرُ إنْ صَرَّحَ الْآمِرُ فِيهِ بِالْفِعْلِ فِي
أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، أَوْ قَالَ: لَك التَّأْخِيرُ، فَهُوَ
لِلتَّرَاخِي بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ
لِلتَّعْجِيلِ فَهُوَ لِلْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ
مُطْلَقًا أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ دَلَالَةِ التَّعْجِيلِ أَوْ
التَّأْخِيرِ وَجَبَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى
الْفِعْلِ قَطْعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَهَلْ
يَقْتَضِي الْفِعْلَ عَلَى الْفَوْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ
الْمُبَادَرَةُ عَقِبَهُ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْأُمُورِ بِهِ
أَوْ التَّرَاخِي أَمَّا الْقَائِلُونَ بِاقْتِضَائِهِ
التَّكْرَارَ فَالْفَوْرُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ كَمَا قَالَهُ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا الْمَانِعُونَ فَاخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَبِهِ قَالَتْ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو
بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ
الْمَرْوَرُوذِيُّ وَالدَّقَّاقُ، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ
الرَّازِيَّ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ
الْحَجِّ مِنْ تَعْلِيقِهِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ
مَذْهَبِنَا قَالَ: وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الْحَجِّ
بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَحَكَى فِي كِتَابِهِ الْأَسْرَارِ "
عَنْ الْقَفَّالِ الْجَزْمَ بِهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَمْرَ
يَقْتَضِي
(3/326)
اعْتِقَادًا بِالْقَلْبِ، وَمُبَاشَرَةً
بِالْبَدَنِ، ثُمَّ الِاعْتِقَادُ عَلَى الْفَوْرِ فَكَذَا
الْمُبَاشَرَةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوَامِرَ الْعِبَادِ
حُمِلَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي فِي
بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ التَّتِمَّةِ " وَنَقَلَهُ صَاحِبُ
الْمَصَادِرِ " عَنْ الْمُزَنِيّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَصْرِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهُوَ قَوْلُ
أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَدَاوُد، وَحَكَاهُ
الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَنَصَرَهُ أَبُو
زَيْدٍ الرَّازِيَّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ:
عَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُ أَصْحَابِنَا: وَقَالَ: إنَّهُ
الَّذِي يَنْصُرُهُ أَصْحَابُنَا وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ
قَضِيَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ
الْحَنْبَلِيُّ فِي التَّمْهِيدِ " إنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ. وَالْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِيَّةِ
اخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وَابْنُ فُورَكٍ
وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ " إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ، فَقِيلَ: يَجِبُ بِظَاهِرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي
الثَّانِي، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ، وَلَا
يَقْتَضِي إلَّا إيقَاعَ الْفِعْلِ عَقِبَهُ فَقَطْ
وَسَيَأْتِي: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ
اقْتِضَاؤُهُ الْفَوْرَ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَيْ:
بِاللُّغَةِ أَوْ بِالْعَقْلِ؟ وَزَيَّفَ الثَّانِي، وَقَالَ:
إنَّمَا النِّزَاعُ فِي مُقْتَضَاهُ فِي اللِّسَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا الْفَوْرُ أَوْ الْعَزْمُ
وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي
هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ
الْقَاضِي قِيلَ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُوَسَّعِ
لَكِنَّ الَّذِي رَأَيْته فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي
اخْتِيَارَ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَبُطْلَانَ الْقَوْلِ
بِالْوَقْفِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِهِ ":
وَهُوَ الْأَصَحُّ إذْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى
خَرْقِ الْإِجْمَاعِ أَوْ يَلْزَمُهُ ضَرْبٌ مِنْ
التَّنَاقُضِ.
(3/327)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ
الْفَوْرَ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمُوتَ
حَتَّى يَفْعَلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ
أَصْحَابِنَا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ
وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ فِي الْحَجِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ
الْأَشْعَرِيَّةِ وَسَائِرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا
ذَكَرَهُ فِي تَأْخِيرِ الْحَجِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ: ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ
الْأَمْرَ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى حَسَبِ مَا قَالَهُ فِي
الْحَجِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: عَزَوْهُ إلَى قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اللَّائِقُ بِتَفْرِيعَاتِهِ
بِالْفِقْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي مَجْمُوعَاتِهِ
فِي الْأُصُولِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ":
لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَا أَبِي حَنِيفَةَ
نَقْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ
عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمَا.
قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ فِي نَقْلِ الْمَذَاهِبِ، إذْ
الْفُرُوعُ تُبْنَى عَلَى الْأُصُولِ لَا الْعَكْسُ،
وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ
عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ
صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ " وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي
الْأَوْسَطِ " عَنْ الْقَاضِي، وَزَادَ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا
هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ
الْمُعْتَمَدِ " أَيْضًا: قَالَ: وَجَوَّزُوا تَأْخِيرَ
الْمَأْمُورِ بِهِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ
وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْهِنْدِيُّ
وَأَتْبَاعُهُمْ. وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ ": ذَهَبَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ إلَى مَا اُشْتُهِرَ عَنْ
الشَّافِعِيِّ مِنْ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى اتِّبَاعِ
الِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى وَقْتٍ مُقَدَّمٍ
(3/328)
أَوْ مُؤَخَّرٍ، وَهَذَا يَدْفَعُ مِنْ
قِيَاسِ مَذْهَبِهِ مَعَ اسْتِمْسَاكِهِ بِالْوَقْفِ
وَتَجْهِيلِهِ مَنْ لَا يَرَاهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ
يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، كَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَابْنُ بَرْهَانٍ
وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَوْهُ عَمَّنْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي فِي
التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الْوَجْهُ عِنْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ
السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ قَالَ: وَمَعْنَى
قَوْلِنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى
التَّعْجِيلِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ
عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْفِعْلِ.
قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَهُ: " افْعَلْ " لَيْسَ
فِيهِ عِنْدَنَا دَلِيلٌ إلَّا عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ
فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْوَقْتِ. انْتَهَى. وَعَلَى
هَذَا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ
الَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُ
عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ
عَلَى الْفَوْرِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْجَامِعِ "، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا لَهُ
أَنْ يَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ
يَقُولُ: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ "
عَنْ الْبَزْدَوِيِّ، فَقَالَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو
الْيُسْرِ الْبَزْدَوِيِّ: لَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّ
الْوُجُوبَ مُطْلَقٌ عَلَى حَسَبِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ لَكِنْ
يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَفُوتَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا بَلْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ
عَنْ الْوَقْتِ الْمُبَادَرَةُ، وَإِنَّمَا يُبَيَّنُ هَذَا
فِي بَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ هَلْ يَصِيرُ
مُكَلَّفًا بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَصِيرُ
مُكَلَّفًا بَلْ الْأَدَاءُ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي عُمُرِهِ،
وَعِنْدَهُمْ يَتَحَتَّمُ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ.
(3/329)
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي
التَّقْرِيبِ ": الْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ
بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ وَالْوَقْتِ،
انْتَهَى. وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ.
وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ
بِمَدْلُولِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا،
وَصَحَّحَهُ الْأَصْفَهَانِيِّ فِي قَوَاعِدِهِ "، وَحَكَاهُ
صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى.
فَقَالَ: وَذَهَبَ إلَى الْوَقْفِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ،
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ
عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ افْتَرَقَتْ الْوَاقِفِيَّةُ، فَقِيلَ:
إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ
مُمْتَثِلًا قَطْعًا وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ
لَانْقَطَعَ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَاخْتَارَهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " وَفِي كَلَامِ
الْآمِدِيَّ خَلَلٌ عَنْهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ، وَإِنْ بَادَرَ
إلَى فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ لَا يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ
مُمْتَثِلًا، وَخُرُوجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِجَوَازِ إرَادَةِ
التَّرَاخِي. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ":
وَقَائِلُ هَذَا لَا يُجَوِّزُ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ
لَكِنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ قَبْلَهُ. وَالْحَاصِلُ:
أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَنْسُوبٌ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَاجِبِ
الْمُوَسَّعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ
فَلَا كَلَامَ مَعَهُ، قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ.
(3/330)
الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ
حِكَايَةُ قَوْلِ التَّرَاخِي، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ
وَغَيْرُهُمْ: إنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَدْخُولٌ؛ إذْ
مُقْتَضَاهُ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي
التَّرَاخِي، حَتَّى لَوْ فُرِضَ الِامْتِثَالُ عَلَى
الْبِدَارِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ
أَحَدٌ، فَالْأَحْسَنُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ
أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ مِنْ غَيْرِ
تَخْصِيصٍ بِوَقْتٍ. انْتَهَى. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ: إنَّ الْعِبَارَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُقَالَ:
لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيلَ، قَالَ: وَمَعْنَى
أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، لَا
أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ
ذَلِكَ. انْتَهَى لَفْظُهُ. وَقَدْ سَبَقَ عَنْ ابْنِ
الصَّبَّاغِ حِكَايَةُ قَوْلِ: إنَّ الْمُبَادَرَةَ لَا
يُعْتَدُّ بِهَا، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى "
الْخِلَافَ أَيْضًا فِي الْمُبَادِرِ هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ
أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُبَادِرُ فَمُمْتَثِلٌ
مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا، فَقَالَ: يُتَوَقَّفُ فِي
الْمُبَادِرِ.
وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ
بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ لَا
يُعْتَدُّ مِنْهُ بِمَا فَعَلَ مُؤَخَّرًا قَالَ: وَعَلَى
هَذَا فَالتَّرْجَمَةُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا
ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَالتَّعْبِيرُ بِالْفَوْرِ يُشْعِرُ
بِأَنَّ الْمُؤَخِّرَ لَيْسَ بِمُمْتَثِلٍ، وَقَدْ قَالَ
الْإِمَامُ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ
أَحَدٌ. الثَّالِثُ: قِيلَ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْوَاجِبِ دُونَ
النَّدْبِ. وَقِيلَ: يَكُونُ فِيهِمَا، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهَا لَا تُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ:
الْأَمْرُ لِلدَّوَامِ
(3/331)
وَالتَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ
كَذَلِكَ اسْتَغْرَقَ الْأَوْقَاتَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ
الْفَوْرِيَّةُ، هَلْ يَجِبُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ الْمُدَّعَى
ذَلِكَ فِيهِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ أَوْ بِجُمْلَةِ أَفْعَالٍ؟
فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ:
يَعُمُّهَا، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي وَاحِدًا
إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ إيقَاعَهُ عَقِبَ الْأَمْرِ هَلْ
يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مِثْلُهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ بِنَفْسِ
الْأَمْرِ بِهِ أَوْ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ؟
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي هَلْ يَجُوزُ
تَأْخِيرُهُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ:
يَجُوزُ إلَى غَايَةٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ مَاتَ
قَبْلَ الْأَدَاءِ مَاتَ آثِمًا، وَقِيلَ: لَا إثْمَ إلَّا
أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ فَوَاتُهُ إنْ لَوْ لَمْ
يَفْعَلْ، وَفَصَّلَ آخَرُونَ، فَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ إلَى
غَايَةٍ، وَهِيَ أَنْ لَا يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ
يَمُوتُ فَإِنْ مَاتَ كَانَ مَعْذُورًا غَيْرَ آثِمٍ، وَقَدْ
يَكُونُ إلَى غَايَةٍ مُحَدَّدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى
ظَنِّهِ الِاخْتِرَامُ عِنْدَ حُصُولِهَا، فَحِينَئِذٍ
يَتَعَجَّلُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: حَيْثُ قُلْنَا:
لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ فَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا
يَمُوتَ حَتَّى يَفْعَلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَخَّرَ
لَمْ يَأْثَمْ فَلِمَ أَثَّمْتُمُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟
قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّأْخِيرَ عَلَى وَصْفٍ،
فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ التَّأْخِيرُ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ رَامِي
الْغَرَضِ يَرْمِي عَلَى غَرَرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ
وَأَنْ لَا يُصِيبَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ
وَالْكَفَّارَةِ فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ عَاصِيًا؟ قِيلَ:
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَكُونُ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ
عَاصِيًا، كَمَا يَقُولُ فِي السُّكْرِ: إنَّهُ لَمْ يَقَعْ
بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ
الْأَقْدَاحِ كَذَلِكَ هَذَا، وَكَانَ أَبُو حَفْصٍ يَقُولُ:
إذَا مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ
يَفْعَلْ وَمَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عُلِمَ أَنَّ
حَجَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَكَانَ
عَاصِيًا، فَإِذَا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى فَأَخَّرَ
عَنْهَا وَمَاتَ، عُلِمَ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ لَهُ وَمَاتَ
فَكَانَ عَاصِيًا بِهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ
الْأُولَى.
(3/332)
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ
بِالْفَاءِ]
ِ] هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا مَا
عُلِّقَ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] «فَإِذَا وَجَدْت
الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك» . قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ
بْنُ الْقَطَّانِ: فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ
الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالثَّانِي لَا يَقْتَضِيهِ. قَالَ:
وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ
الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَوْ خُلِّينَا وَالظَّاهِرَ فِي
قَوْلِهِ: «إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك»
لَعَمِلْنَا بِهِ، لَكِنْ صِرْنَا إلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
[مَسْأَلَةٌ وَرَدَ الْخِطَابُ بِفِعْلِ عِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ
مُعَيَّنٍ فَخَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ]
مَسْأَلَةٌ إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مِنْ الشَّارِعِ بِفِعْلِ
عِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَخَرَجَ ذَلِكَ الْوَقْتُ
وَلَمْ يَفْعَلْ، فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ
ابْتِدَاءً أَمْ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ
الْأَدَاءُ، وَهُوَ الْأَمْرُ السَّابِقُ أَيْ: يَتَضَمَّنُهُ
وَيَسْتَلْزِمُهُ لَا أَنَّهُ عَيْنُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى
الْأَوَّلِ. مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ
الْقُشَيْرِيّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ
وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ
الصَّحِيحُ، وَنَقَلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ،
وَقَالَ الْعَالَمِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ اللَّائِقُ
بِفُرُوعِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ
الصَّحِيحُ. وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ
خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ:
إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا.
(3/333)
وَوَجْهُهُ أَنَّ صِيغَةَ التَّأْقِيتِ
تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْوَقْتِ فِي الِاعْتِدَادِ
بِالْمُؤَقَّتِ، فَإِذَا انْقَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ فِي
الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ أَمْرٌ بِالْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ
أَمْرٍ ثَانٍ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ مُقْتَضَى
الْأَمْرِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ، وَالصِّيغَةُ
لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى الْأَمْرِ فِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ
فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْفِعْلِ فِي غَيْرِهِ قَاصِرَةٌ
عَنْهُ، وَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَبِدَلِيلٍ مِنْ
خَارِجٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ
إلَى الثَّانِي مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالْجَصَّاصُ
وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ
وَأَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَاهُ
الْآمِدِيُّ عَنْ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ
فِي الْكَشَفِ " عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ
فَإِنَّهُ قَالَ: فِيمَا إذَا ظَاهَرَ عَنْهُمَا ظِهَارًا
مُؤَقَّتًا: إنَّ الْعَوْدَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ
قَالَ: وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَاسْتَقَرَّتْ لَا لِأَجْلِ
اسْتِحْلَالٍ لِلْوَطْءِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ طَلَّقَهَا
بَعْدَ الْعَوْدِ أَوْ لَاعَنَهَا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ عَلَى
الْأَبَدِ وَلَزِمَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
مَاتَتْ أَوْ ارْتَدَّتْ فَقُتِلَتْ عَلَى الرِّدَّةِ،
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
[المجادلة: 3] وَقْتٌ لَأَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ
فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ
الْمُمَاسَّةُ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ لَمْ
تَبْطُلْ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِيهَا، كَمَا
يُقَالُ: لَهُ أَدِّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَبْلَ
وَقْتِ كَذَا، فَيَذْهَبُ الْوَقْتُ
(3/334)
فَيُؤَدِّيهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ
عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا فِي الْوَقْتِ وَأَدَّاهَا
بَعْدَهُ فَلَا يُقَالُ لَهُ: زِدْ فِيهَا، لِذَهَابِ
الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ
الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " وَهَذَا مِنْ الشَّافِعِيِّ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ
بَلْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، إذْ لَوْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا
بِأَمْرٍ جَدِيدٍ عِنْدَهُ لَمْ يَقِسْهُ عَلَى الصَّلَاةِ؛
لِأَنَّ الْأَمْرَ الْجَدِيدَ وَرَدَ فِيهَا، لَكِنَّ إمَامَ
الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّطَوُّعِ مِنْ النِّهَايَةِ "
قَالَ: إنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ يُجَدَّدُ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّهُ فِي الرِّسَالَةِ ":
عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ،
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَنَقَلَ
الْهِنْدِيُّ عَنْ صَاحِبِ التَّقْوِيمِ " قَوْلًا ثَالِثًا،
أَنَّهُ يَجِبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْفَائِتَةِ
عَنْ وَقْتِهَا الْوَاجِبِ قَضَاؤُهَا فِي الشَّرْعِ،
فَإِنَّهُ الْأَكْثَرُ بِجَامِعِ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ
الْفَائِتَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ أَنَّ
وُجُوبَ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ،
وَأَضَافَهُ إلَى الشَّرْعِ لِتَخْرُجَ الْمُقَدِّمَتَانِ
وَالنَّتِيجَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قِيَاسُ الْعَقْلِ،
وَالْمُرَادُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ رَدُّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ
بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. فَكَأَنَّهُ قَاسَ
الْقَضَاءَ عَلَى الْمُعَاوَضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى وُجُوبِهِ بِالْأَمْرِ
الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِمَا يَقُولُهُ
الْحَنَابِلَةُ، وَبُرْهَانُهُ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِالْأَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِيلُ
وُقُوعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَاتَه مَعْدُومَةٌ فِي
الْمَوْجُودَيْنِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِ كُلِّفَ
بِمَا لَا يُطَاقُ، فَإِذَنْ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ
بِالْفِعْلِ الَّذِي يُسَمَّى قَضَاءً، وَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ،
وَهُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ؛ إذْ لَا
أَدَاءَ هُنَاكَ وَلَا فَائِتَ لِعَدَمِهِ فِي
الْمَوْجُودَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، وَمَعْنَى
هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَفَادُ مِنْ الْأَمْرِ
ضِمْنًا الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ؟ أَيْ: يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ
كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْفَوَائِدِ
(3/335)
الضِّمْنِيَّةِ أَوْ لَا يُسْتَفَادُ،
هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَازِرِيُّ
وَغَيْرُهُ.
وَزَعَمَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " أَنَّ
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ
يَقُولُونَ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً، وَأَنَّ
هَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَيُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ ابْنِ
بَرْهَانٍ: هَلْ بَقِيَتْ وَاجِبَةً بِالْأَمْرِ السَّابِقِ
أَمْ وَجَبَتْ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؟ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ:
مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ بِمَثَلٍ مَعْقُولٍ،
فَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَثَلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَلَا يُمْكِنُ
إيجَابُهُ إلَّا بِنَصٍّ جَدِيدٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا
كُلُّهُ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَمَّا
الْمُطْلَقَةُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ
الْإِمْكَانِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُ الْأَمْرَ
لِلْفَوْرِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ بَعْدَهُ لَيْسَ قَضَاءً عِنْدَ
الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَمِنْ
فُرُوعِهِ: مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَلَدُ سَنَةً
مُعَيَّنَةً، ثُمَّ لَمْ يُسَلِّمْهُ حَتَّى مَضَتْ انْفَسَخَ
الْعَقْدُ، وَلَا يَجِبُ بَدَلَهَا سَنَةٌ أُخْرَى اعْتِبَارًا
بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ عَقْدٍ
جَدِيدٍ إنْ أَرَادَهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ "
الْمُعْتَزِلِيُّ: هَذَا الْخِلَافُ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْ
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ،
وَأَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لِلتَّرَاخِي فَلَا؛ لِأَنَّ
عِنْدَهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي
وَالثَّالِثِ وَفِيمَا بَعْدَهَا مُرَادٌ، وَأَنَّ لَفْظَ
الْأَمْرِ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ فِي أَيِّ
وَقْتٍ شَاءَ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي
الْمُعْتَمَدِ "، فَقَالَ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِنَفْيِ
الْفَوْرِ فَيَقُولُونَ بِاقْتِضَائِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَلَا
يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ثَانٍ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ
بِالْفَوْرِ هَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ،
لَا؟ .
(3/336)
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ
الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامَ فِي أَعْيَانِ
الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقْنَا فِيهَا عَلَى وُجُوبِ
الْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَالصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ إثْبَاتِ هَذَا
الْأَصْلِ مِنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فِي مَوْضِعٍ
لَا إجْمَاعَ فِيهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَسَائِلِ
الْأُصُولِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ
أَصْلٍ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ الْقَرَائِنِ. قَالَ
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ
الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَدَاءِ
الْعِبَادَةِ عَلَى قَضَائِهَا إنْ قُلْنَا: يَجِبُ مَا يَجِبُ
بِهِ الْأَدَاءُ، وَمَنْعُهُ، وَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِأَمْرٍ
جَدِيدٍ. قِيلَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى
قَاعِدَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُرَكَّبِ
أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْفِعْلَ فِي
وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ
بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَنْ لَاحَظَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى
قَالَ: الْقَضَاءُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَضَى
شَيْئَيْنِ الصَّلَاةَ وَكَوْنَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ،
فَهُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُ جُزْأَيْ
الْمُرَكَّبِ وَهُوَ خُصُوصُ الْوَقْتِ بَقِيَ الْجُزْءُ
الْآخَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ فَيُوقِعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ
وَمَنْ لَاحَظَ الثَّانِيَةَ قَالَ: الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ
جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَعَيَّنَ الْوَقْتُ
لِمَصْلَحَةٍ فَقَدْ لَا يُشَارِكُهُ الزَّمَنُ فِي تِلْكَ
الْمَصْلَحَةِ، وَإِذَا شَكَكْنَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ
الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ فِي وَقْتٍ آخَرَ بِدَلِيلٍ
مُنْفَصِلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْجَدِيدِ إجْمَاعٌ
أَوْ خِطَابٌ جَلِيٌّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ مِثْلِ الْفَائِتِ
خَارِجَ الْوَقْتِ، لَا أَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عِنْدَ فَوَاتِ
كُلِّ وَاجِبٍ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ زَمَنَ
الْوَحْيِ قَدْ انْقَرَضَ.
(3/337)
[مَسْأَلَةٌ فَوَاتُ الِامْتِثَالِ
بِالْأَمْرِ]
ِ] إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَأَخَّرَ
عَنْهُ، فَهَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ
الْأَوَّلِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ؟ قَالَ ابْنُ
الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": إنْ قُلْنَا: الْمُؤَقَّتُ لَا
يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ
قُلْنَا: يَسْقُطُ: ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى
قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ أَيْضًا بِفَوَاتِ
الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا
مَاتَ سَقَطَ كَالْمُؤَقَّتِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ؛
لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مُطْلَقًا لَا
لِوَقْتٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفَوْرُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ
وُجُوبَهُ.
[مَسْأَلَةٌ احْتِيَاجُ الْإِجْزَاءِ إلَى دَلِيلٍ]
ٍ] إتْيَانُ الْمُكَلَّفِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى
الْمَشْرُوعِ مُوجِبٌ لِلْإِجْزَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ
حَيْثُ قَالَا: الْإِجْزَاءُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ
الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ خِلَافٌ مَرْدُودٌ
بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ
قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا
يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ وَنَسَبَاهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ.
(3/338)
قَالَ سُلَيْمٌ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ
مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ: وَهُوَ
أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ مِنْ حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ،
وَلَا يَقْتَضِيهِ مِنْ حَيْثُ وَضْعُ اللُّغَةِ: حَكَاهُ فِي
الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى. وَخَامِسٌ:
وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يَقَعُ عَلَى الشُّرُوطِ
الْمُعْتَبَرَةِ، كَالصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ بِشُرُوطِهَا
وَأَرْكَانِهَا فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالْإِجْزَاءِ، وَبَيْنَ مَا
يَدْخُلُهُ ضَرْبٌ مِنْ الْخَلَلِ إمَّا مِنْ جِهَةِ
الْمُكَلَّفِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ
وَالصَّوْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ. حَكَاهُ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". ثُمَّ
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا آخَرَ؛
لِأَنَّا لَا نَقُولُ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ
وَقَعَ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ
الْمُعْتَبَرِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى "
إذَا قُلْنَا: إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ،
وَأَنَّهُ مِثْلُ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ، فَالْأَمْرُ
بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ مِثْلِهِ بَعْدَ
الِامْتِثَالِ، لَكِنْ إنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً إذَا كَانَ
فِيهِ تَدَارُكُ الْفَائِتِ مِنْ أَصْلِ الْعِبَادَةِ
وَوَضْعِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوَاتٌ اسْتَحَالَ
تَسْمِيَتُهُ قَضَاءً يَعْنِي شَرْعًا لَا عَقْلًا. وَلَا
بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ:
الْإِجْزَاءُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الِامْتِثَالُ. وَالثَّانِي: إسْقَاطُ الْقَضَاءِ،
فَالْمُكَلَّفُ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ عَلَى وَجْهِهِ
فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مُجْزِئٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى
الثَّانِي هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ "
وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَغَيْرُهُمَا، أَيْ
هَلْ يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ؟ لَا يَسْتَلْزِمُ
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ:
افْعَلْ كَذَا، فَإِذَا فَعَلْت أَدَّيْت الْوَاجِبَ،
وَيَلْزَمُك مَعَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ.
(3/339)
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي
الْمُعْتَمَدِ ": وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ
غَيْرُ مُجْزِئٍ، وَلَا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمْتَثَلْ،
وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ وَقَعَ
مَوْقِعَ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي، هَذَا تَحْرِيرُ
مَذْهَبِ عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمِمَّنْ
اعْتَنَى بِهِ أَيْضًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ "، فَقَالَ:
وَتَحْرِيرُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِفِعْلِ
الْمَأْمُورِ بِهِ هَلْ هُوَ مِنْ مَدْلُولِ الْأَمْرِ
وَمُقْتَضَاهُ أَوْ هُوَ مِنْ مَجْمُوعِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ
بِهِ وَأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْغَيْرِ؟ وَأَمَّا
كَوْنُهُ إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَبْقَى مَطْلُوبًا
فَمَا زَادَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ
انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عَمَّا عَدَا الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَوْ
بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ لَزِمَ
أَنْ لَا يَكُونَ مُنْقَطِعًا فِي تَعَلُّقِهِ، وَفِيهِ جَمْعٌ
بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ. انْتَهَى. وَقَدْ
وَقَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ
إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَفَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ
الْخِلَافَ فِي أَنَّ الِامْتِثَالَ هَلْ يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ
وَعَبْدُ الْجَبَّارِ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْإِجْزَاءِ،
بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ
بِالثَّانِي، وَالْخِلَافُ فِي الْأَوَّلِ بَعِيدٌ،
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَعَلَى هَذَا
تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛
لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ
عِبَارَةً عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ، فَلَا
يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ سُقُوطُ الْقَضَاءِ، بَلْ
يَنْبَغِي تَرْجَمَتُهَا عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ
وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ
بِالْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ
الْمُتَكَلِّمُونَ: لَا
(3/340)
يَقْتَضِي، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ
عَلَى هَذَا بِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي هَاشِمٍ
وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: الْإِجْزَاءُ
لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّفْسِيرِ
الْمُتَقَدِّمِ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ
كَوْنِ الْفِعْلِ مُجْزِئًا سُقُوطُ الْقَضَاءِ وَلَعَلَّ
الْأَقْرَبَ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي سُقُوطِ
الْقَضَاءِ لَا فِي سُقُوطِ التَّعَبُّدِ بِهِ، وَكَوْنُهُ
امْتِثَالًا وَطَاعَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالتَّنَاقُضِ
فَيَبْعُدُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهُمْ
تُشْعِرُ بِذَلِكَ.
الثَّانِي أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَلْزِمُهُ
أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ
بِالْقَضَاءِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى
الْإِجْزَاءِ وَإِنَّمَا الْإِجْزَاءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ عَدَمِ
دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَلَا خِلَافَ
بَيْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ فِي بَرَاءَةِ
الذِّمَّةِ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ. وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ اقْتَضَتْ الْعَدَمَ
السَّابِقَ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ يَقُولُ: الْعَدَمُ
اللَّاحِقُ الْكَائِنُ بَعْدَ الْفِعْلِ مُسْتَفَادٌ أَيْضًا
مِنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، كَالْأَعْدَامِ
الْكَائِنَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ
هَذَا الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ،
كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَنْ
نَفَاهُ قَالَ: عَدَمُ عِتْقِهِ مَا لَمْ يَأْتِ
بِالْمَشْرُوطِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَمَنْ
أَثْبَتَهُ قَالَ: هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ
مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَيْضًا. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ
الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ عَلَى
وَجْهِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُمْكِنُ إيرَادُ أَمْرٍ
ثَانٍ بِعِبَادَةٍ يُوقِعُهَا الْمَأْمُورُ عَلَى حَسَبِ مَا
أَوْقَعَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ شَرْعٍ
وَتَعَبُّدٍ ثَانٍ. وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا
الْأَمْرِ الثَّانِي قَضَاءٌ لِلْأَوَّلِ، فَالْجُمْهُورُ
يَنْفُونَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُمْ مَا فُعِلَ بَعْدَ
وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ وُجُوبُهُ،
وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ،
(3/341)
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بِنَاءُ مَنْ بَنَى
عَلَيْهِ صَلَاةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ
أَحَدِهِمَا هَلْ يُعِيدُ؟ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي
مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ ": إنْ أَرَادَ عَبْدُ الْجَبَّارِ
أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ بَعْدَهُ بِمِثْلِهِ
فَمُسَلَّمٌ، وَمَرْجِعُ النِّزَاعِ فِي تَسْمِيَتِهِ قَضَاءً،
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ
فَسَاقِطٌ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْخِلَافُ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ
الْمُرَادُ لُزُومَ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ
التَّكْرَارِ، وَالْأَوَّلُ يُجْزِئُ عَنْ الْآخَرِ لَكِنْ
لَمْ يَسْتَكْمِلْ، وَإِنْ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ
الْمَوْقِعَ فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْلُوبَةٌ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى،
وَهِيَ كَوْنُ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ.
[مَسْأَلَةٌ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِمُعَيَّنٍ]
ٍ] الْأَمْرُ إنْ تَعَلَّقَ بِمُعَيَّنٍ لَمْ يَخْرُجْ
الْمُكَلَّفُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِهِ
قَطْعًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقٍ وَهُوَ الْمُتَنَاوِلُ
وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطْلُوبِ بِهِ
هَلْ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ أَوْ جُزْءٌ مِنْ
جُزْئِيَّاتِهَا؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَمْرٌ يُجْزِئُ
مُعَيَّنٌ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لَا بِالْكُلِّيِّ
الْمُشْتَرَكِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: هُوَ
أَمْرٌ بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ لَا
بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، لِأَنَّ
الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ،
فَإِذَا قَالَ فِي الدَّارِ جِسْمٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
حَيَوَانٌ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ
أَبُو الْمَنَاقِبِ الزَّنْجَانِيّ عَنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْهَبُ
(3/342)
أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَ الثَّانِيَ
أَيْضًا الْقَرَافِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحَا
الْمَحْصُولِ " وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هِيَ، وَلَا لَازِمَةً لَهَا فَلَمْ
يَدُلَّ عَلَيْهَا لَا مُطَابَقَةً وَلَا الْتِزَامًا، فَعَلَى
هَذَا، الْأَمْرُ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَيْءٍ
مِنْ أَنْوَاعِهِ أَلْبَتَّةَ، وَذَلِكَ كَالْمَأْمُورِ
بِالْبَيْعِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ
أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَحَيْثُ حُمِلَ عَلَى
مُعَيَّنٍ كَالْأَمْرِ مِنْ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ
بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْءِ
بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنَّمَا هُوَ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ،
وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يُخَيَّرُ؛
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاهِيَّةِ، وَلَا
يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا فِي ضِمْنِ جُزْئِيٍّ.
وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَتَعَيَّنُ
التَّخْيِيرُ. وَتَوَسَّطَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فَقَالَ:
الْمَطْلُوبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، لَا
بِقَيْدِ الْجُزْئِيَّةِ وَلَا بِقَيْدِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا
يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ
الْآخَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، بَلْ هُوَ
مَوْجُودٌ فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ. قَالَ: وَيُوَضِّحُ
هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ
بِشَرْطِ شَيْءٍ وَبِشَرْطِ لَا شَيْءٍ وَلَا بِشَرْطٍ.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَسْتَدْعِي
تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِمَسْأَلَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ
الْكُلِّيَّ إمَّا مَنْطِقِيٌّ أَوْ طَبِيعِيٌّ أَوْ
عَقْلِيٌّ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: الْبَيْعُ كُلِّيٌّ،
فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: مَاهِيَّةُ
الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ الطَّبِيعِيُّ
الثَّانِي: قَيَّدَ كَوْنَهُ كُلِّيًّا أَيْ: يَشْتَرِكُ فِي
مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ، وَهِيَ الْمَنْطِقِيُّ.
(3/343)
وَالثَّالِثُ: تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ
بِقَيْدِ كَوْنِهَا كُلِّيَّةً، وَهُوَ الْعَقْلِيُّ. فَأَمَّا
الطَّبِيعِيُّ: فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ
هَذَا الْبَيْعَ مَوْجُودٌ، وَجُزْءُ هَذَا الْبَيْعِ نَفْسُ
الْبَيْعِ بِالضَّرُورَةِ، وَجُزْءُ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ.
وَأَمَّا الْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ: فَفِي وُجُودِهِمَا
فِي الْخَارِجِ خِلَافٌ يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ،
وَهُوَ أَنَّ الْأُمُورَ النِّسْبِيَّةَ هَلْ لَهَا وُجُودٌ
فِي الْخَارِجِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ
الْعُقَلَاءِ. قَالَ: وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَبَيَّنُ
ضَعْفُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ
وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْبِيَاعَاتِ هُوَ
الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ فِي
الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْكُلِّيَّيْنِ
الْآخَرَيْنِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ عَدَمُ تَصَوُّرِهِ فِي
نَفْسِ الطَّلَبِ وَلُزُومِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ غَيْرُ الْقَيْدِ
فِي اللَّفْظِ بِقَيْدٍ أَوْ وَصْفِهِ، بَلْ أَطْلَقَ إنْ
طُلِبَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا
يُطْلَبُ إيقَاعُهُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا؛
لِأَنَّ الْكُلِّيَّ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وَلَا يَقْبَلُهُ
الْخَارِجُ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ
جُزْئِيًّا.
قُلْنَا: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا مُعَيَّنًا
عِنْدَ الْمُكَلَّفِ تَقَعُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ قَطْعًا فَإِذَنْ يَكُونُ
الْمَطْلُوبُ جُزْئِيًّا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِثْلَ النَّكِرَاتِ
كُلِّهَا كَمَا تَقُولُ: إذَا لَقِيت رَجُلًا فَأَكْرِمْهُ،
فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَلْقَاهُ هُوَ جُزْئِيٌّ إلَّا
أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَيُفَسِّرُ اللِّقَاءُ
بِمُعَيَّنٍ، وَالْقَائِلُ الْآخَرُ يَقُولُ: الْمَطْلُوبُ
الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَيَتَفَسَّرُ بِجُزْءٍ مِنْهَا
أَوْ جُزْئِيَّاتٍ.
(3/344)
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ
بِالشَّيْءِ]
ِ] الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِذَلِكَ
الشَّيْءِ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ
التَّخَلُّفُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» كَذَا قَالَ
الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا كَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
بِوَسَطٍ، وَبِغَيْرِ وَسَطٍ جَعَلُوا الْأَمْرَ بِوَسَطٍ
لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، وَنَقَلَ الْعَالَمِيُّ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَمْرٌ، وَنَصَرَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَابْنُ
الْحَاجِّ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى الْمُسْتَصْفَى " وَقَالَا:
هُوَ أَمْرٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا بِدَلِيلِ «قَوْلِ
الْأَعْرَابِيِّ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا فَقَالَ: نَعَمْ»
فَفَهِمَ الْأَعْرَابِيُّ الْجَافِي، مِنْ أَمْرِ
(3/345)
اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ
بِذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ،
وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَبَادَرَ إلَى الطَّاعَةِ. قَائِلًا: وَأَيُّ
فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلنَّاسِ: افْعَلُوا كَذَا،
وَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: مُرْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا؟ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «مُرْهُ
فَلْيُرَاجِعْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَمَرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
يُرَاجِعَهَا» ، فَفِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ الْأَمْرُ
لَهُ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ
الْأُولَى: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دَالًّا عَلَى أَنَّهُ
مَأْمُورٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمَا كَانَ مَرْوِيًّا فِي الرِّوَايَتَيْنِ
الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ
مُخْتَلِفًا حِينَئِذٍ، وَكَلَامُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ فِي
التَّقْرِيبِ " يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي
الْفِعْلُ جَزْمًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهِ
أَمْرًا أَمْ لَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ
يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَجِبُ
فِعْلُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَكَذَا إذَا
أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الْوَاحِدَ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ
كَانَ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وُرُودِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً عَلَيْهِ.
انْتَهَى.
وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُنْتَهَى " مَوْضِعَ
الْخِلَافِ نَحْوَ مُرْ فُلَانًا بِكَذَا. أَمَّا لَوْ قَالَ:
قُلْ لِفُلَانٍ: افْعَلْ كَذَا، فَالْأَوَّلُ آمِرٌ،
وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ قَطْعًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ: الْخِلَافُ فِي أَمْرِ الِاسْتِصْلَاحِ نَحْوُ
«مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَأَمَّا مَا أُرِيدَ بِهِ
التَّبْلِيغُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الثَّالِثَ مَأْمُورٌ
بِذَلِكَ
(3/346)
الْأَمْرِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي
الْحَيْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ الدُّخُولِ اُسْتُحِبَّ لَهُ
أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»
فَلَوْ كَانَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَجَالٌ
لَجَرَى خِلَافٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ. وَفَصَّلَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: إنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ التَّبْلِيغُ كَانَ
ذَلِكَ أَمْرًا لِلثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ حَسَنٌ
وَالْحَقُّ: التَّفْصِيلُ: إنْ كَانَ لِلْأَوَّلِ بِأَمْرِ
الثَّالِثِ فَالْأَمْرُ الثَّانِي بِالْأَمْرِ الثَّالِثِ
وَإِلَّا فَلَا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ مُبَلِّغًا بِشَيْءٍ، فَهَلْ هُوَ
أَمْرٌ لِلْمَأْمُورِ الثَّانِي بِذَلِكَ كَمَا لَوْ تَوَجَّهَ
نَحْوَهُ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ؟ وَالْجُمْهُورُ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَنُقِلَ فِيهِ خِلَافٌ،
وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ. نَعَمْ الْخِلَافُ بَيْنَ
أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ مَشْهُورٌ فِي أَنَّ الصَّبِيَّ
مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ فَقَطْ أَوْ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ
الشَّارِعِ، وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ نَظَرٌ إلَى
وَضْعِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وَجُنُوحٌ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ
خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِّ
الْحُكْمِ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ
الْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَحْسَنُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ
وَمَثَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ.
وَقَالُوا: إنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ
الْإِعْطَاءِ إلَّا مِنْ جِهَةِ وُجُوبِ طَاعَةِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمْلَةِ وَفِيهِ
نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا إلَّا بِطَرِيقِ
التَّضَمُّنِ الَّذِي اقْتَضَاهُ وُجُوبُ طَاعَةِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ
تَرْجِعُ إلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ الْمَأْمُورُ
بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ هَلْ يَكُونُ
مَأْمُورًا بِهِ أَمْ لَا؟ وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
(3/347)
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ]
ِ] الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ
بِالشُّرُوعِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِتْمَامُ إلَّا بَعْدَ
الشُّرُوعِ، وَلِهَذَا احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ
الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] .
[مَسْأَلَةٌ إيجَابُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ شَيْئًا]
] إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ شَيْئًا لَا
يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ
أَخْذَ الزَّكَاةِ، فَهَلْ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَمْرُ
إيجَابَ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ،
فَقَالَ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ
بِنَفْسِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَعَلَّهُمْ يُقَرِّبُونَ هَذَا
مِنْ قَوْلِنَا: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالْوُضُوءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
الِابْتِدَارُ إلَى الْإِعْطَاءِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ
بِأَخْذِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ
عَلَى الرَّسُولِ إيجَابُ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بَلْ
بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ
فَيَأْمُرُ بِالْإِعْطَاءِ، وَأَمْرُهُ وَاجِبٌ، وَأَجْمَعَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ
الْأَخْذِ عَلَيْهِ حُكْمًا لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ]
ِ؟ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآمِرَ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ
الْأَمْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. حَكَاهُمَا
(3/348)
ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "
وَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ، وَكَذَا نَصَرَهُ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَقَالَ: الْقَوْلُ
بِالدُّخُولِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، وَقَطَعَ بِهِ
الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ: قَالَ: لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُهُ. وَلَا بُدَّ مِنْ
تَحْرِيرِ النِّزَاعِ فَنَقُولُ: لَهُ حَالَاتٌ: إحْدَاهَا:
أَنْ يَقُولَ لِنَفْسِهِ: " افْعَلِي " مُرِيدًا ذَلِكَ
الْفِعْلَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ وَهَلْ
يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا؟ قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْحَقُّ:
الْمَنْعُ؛ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا؟
إنْ شَرَطْنَا الْعُلُوَّ أَوْ الِاسْتِعْلَاءَ امْتَنَعَ،
وَإِنْ لَمْ نَشْرِطْهُ، فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ أَيْضًا؛
لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ
مُعْتَبَرَةٌ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ هَاهُنَا، فَإِنْ لَمْ
نَعْتَبِرْهَا سُمِّيَ بِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بِهِ لَا
يَتَنَاوَلُهُ، فَلَا يَدْخُلُ الْآمِرُ تَحْتَهُ قَطْعًا
سَوَاءٌ أَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عَنْ
غَيْرِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ عَامٍّ
مُتَنَاوِلٍ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ الْغَيْرِ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي
دُخُولِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ كَمَا إذَا تَلَا النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ
بِأَمْرِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ "
أَوْ " يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ افْعَلُوا كَذَا " فَهَذَا
هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى دُخُولِهِ
نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ أَمْرًا لَا
يَصْلُحُ مُعَارِضًا لَهُ، وَلِهَذَا دَخَلَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ، وَالْأَصْلُ
عَدَمُ دَلِيلٍ آخَرَ. كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَسَيَأْتِي فِي الْعُمُومِ، لَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ - وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ. وَقَالَ
صَاحِبُ الْوَاضِحِ " الْمُعْتَزِلِيُّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ إذَا أَمَرَ عَنْ
نَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ،
كَقَوْلِهِ
(3/349)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ:
(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِصَوْمِ يَوْمٍ) فَاخْتَلَفُوا
فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالصَّحِيحُ: دُخُولُهُ. قَالَ:
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي
الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ قَعَدَ فِي الْمَطَرِ ابْتَلَّ،
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ؛
لِأَنَّهُ عَبَثٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْبِرًا
لِغَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ،
وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَبَرَ مَحَلُّ
وِفَاقٍ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالَ:
وَلِهَذَا قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
وَمَرْتَبَتُهُ كَوْنُهُ مُخَاطِبًا لَا يَخُصُّهُ، وَكَذَا
فِي الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ
بِمَزِيدِ تَتِمَّةٍ فِي بَابِ الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ]
ِ] الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ أَمْرٌ بِالْمَوْصُوفِ فَإِذَا
أَمَرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَانَ
أَمْرًا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ
إلَّا بِهِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ
الشِّيرَازِيُّ قَالَ: وَغَلِطَتْ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ
اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ
بِمَا رُوِيَ أَنْ «جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ
عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَك لِيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ
بِالتَّلْبِيَةِ» ، فَجَعَلُوا النَّدْبَ إلَى الصِّفَةِ،
وَهِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ دَلِيلًا عَلَى
وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ
(3/350)
يُنْدَبُ إلَى صِفَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ
وَمُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ فِي نَدْبِهِ إلَى الصِّفَةِ مَا
يَقْتَضِي إيجَابَ الْمَوْصُوفِ، وَاَلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ
بِصَرِيحِهِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَنَفْسُ
التَّلْبِيَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ ضَمِيمِهِ عَلَى سَبِيلِ
التَّبَعِ لَهُ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ
فَلَأَنْ لَا يَجِبَ مَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ ضِمْنِهِ
الْمُتَوَصَّلِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَفِيمَا أُطْلِقَ
حِكَايَتُهُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ نَظَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ: إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَيْئَةٍ أَوْ صِفَةٍ
لِفِعْلٍ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ جَازَ
التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْفِعْلِ
لِتَضَمُّنِهِ الْأَمْرَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ
وُجُوبُهَا، فَإِذَا خُولِفَ فِي الصَّرِيحِ بَقِيَ
التَّضَمُّنُ عَلَى أَصْلِ الِاقْتِضَاءِ. قَالَ: ذَكَرَهُ
أَصْحَابُنَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَيْثُ تَمَسَّكَ
عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ.
وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ: لَا
يَبْقَى دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْأَمْرُ
بِإِيجَادِ الصِّفَةِ وَإِدْخَالِهَا فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي
الْأَمْرَ بِالْمَوْصُوفِ لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِ الصِّفَةِ
فِي الْوُجُودِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ، وَمَا لَا يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ
الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ،
وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْحَالُ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ
بَيْنَكُمْ» هَلْ الْمُرَادُ إدْخَالُ إفْشَاءِ السَّلَامِ فِي
الْوُجُودِ فَيَكُونُ أَمْرًا بِأَصْلِ السَّلَامِ، أَوْ
الْمُرَادُ إفْشَاؤُهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ أَيْ: إذَا
سَلَّمْتُمْ فَلْيَكُنْ فَاشِيًّا؟ .
(3/351)
[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِيجَادِ
الْفِعْلِ]
ِ] إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ فِعْلٍ فَهَلْ يَقَعُ
الِاكْتِفَاءُ بِمَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ
إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ،
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ،
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الشَّيْءِ
يَتَضَمَّنُ وُجُوبَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ ذَلِكَ
الْفِعْلِ، وَقِيلَ: يَقْتَضِي الْأَكْثَرَ. لَنَا: أَنَّ
الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا وَرَدَ مُطْلَقُ
الْأَمْرِ تَعَلَّقَ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَالزِّيَادَةُ
مَشْكُوكٌ فِيهَا، قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ
فَزَادَ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ، وَعَنْ
الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ
ضِدِّهِ]
ِ؟ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَصَوْمِ الْعِيدِ
فَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِهِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ. وَهُوَ الْفِطْرُ
فَلَا خِلَافَ، وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ،
وَمِثْلُهُ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ،
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فَإِنَّ
لَهُ أَضْدَادًا مِنْ الْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالِاضْطِجَاعِ وَنَحْوِهَا، وَكَالزِّنَى فَإِنَّ مِنْ
أَضْدَادِهِ الصَّلَاةَ وَالنَّوْمَ وَالْمَشْيَ وَغَيْرَهَا،
فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ.
(3/352)
قِيلَ: نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ،
وَقِيلَ: عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهِ. حَكَاهُ عَبْدُ
الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ". وَاعْلَمْ أَنَّ
الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: النَّفْسَانِيُّ، وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ
لَهُ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ هَلْ هُوَ نَهْيٌ
عَنْ ضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا:
أَنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ لَا لَفْظًا وَلَا
يَقْتَضِيهِ عَقْلًا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ
وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَسُلَيْمٌ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ "
وَالْمُعْتَمَدِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ "
عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي اعْتِبَارِ
إرَادَةِ النَّاهِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. لَكِنْ نَقَلَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " عَنْهُمْ أَنَّهُ
يَتَضَمَّنُهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اللِّسَانِ كَمَا
سَيَأْتِي فَتَفَطَّنْ لَهُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ ":
إنَّ هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي
أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ
ضِدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْسُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ
مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَاتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا
وَنَهْيًا بِمَثَابَةِ اتِّصَافِ الْكَوْنِ الْوَاحِدِ
بِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ شَيْءٍ، بَعِيدًا مِنْ شَيْءٍ.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ،
وَالْقَاضِي، وَأَطْنَبَ فِي نُصْرَتِهِ فِي التَّقْرِيبِ "
وَنَقَلَهُ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ النَّافِينَ لِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ
أَبِي إِسْحَاقَ وَالْكَعْبِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ
فِي
(3/353)
الْأَوْسَطِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ
قَاطِبَةً، وَقَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ ": هُوَ قَوْلُ أَبِي
بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": هُوَ قَوْلُ
الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ
نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى،
لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا
يَتَأَتَّى مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْقَوْلُ؛
لِأَنَّ إحْدَى الصِّيغَتَيْنِ لَا تَكُونُ عَيْنَ الْأُخْرَى
قَطْعًا فَلْيُؤَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ.
انْتَهَى. وَهُوَ عَجَبٌ؛ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ بَنَاهُ
عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ كَمَا سَبَقَ
نَقْلُهُ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِ،
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ:
بَنَى الْأَشْعَرِيُّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ
الْأَمْرَ لَا صِيَغَهُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ
بِالنَّفْسِ، وَكَذَلِكَ لِلنَّهْيِ، فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ
هُوَ نَفْسُ النَّهْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: لَمْ يُرِدْ الْقَائِلُ أَنَّ صِيغَةَ "
تَحَرَّكْ " مَثَلًا غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَسْكُنْ " فَإِنَّ
ذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ بَلْ يَعْنِي
أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِ تَحَرَّكْ عَيْنُ
الْمَعْنَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ لَا تَسْكُنْ، وَقَالُوا:
إنَّ كَوْنَهُ أَمْرًا وَنَهْيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ
وَضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ قُرْبًا
وَبُعْدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جِهَتَيْنِ، وَقَدْ وَجَّهَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَهُ مُتَعَلِّقَانِ
مُتَلَازِمَانِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَالْإِيقَاعِ،
وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ وَالِاجْتِنَابُ، وَتَرْكُ
الْفِعْلِ فِعْلٌ آخَرُ، وَهُوَ ضِدُّ الْمَتْرُوكِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُهُ
مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي
التَّبْصِرَةِ " وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "
وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ
وَسُلَيْمٌ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً وَقَالَ ابْنُ
السَّمْعَانِيِّ: هُوَ
(3/354)
مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ
عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا،
وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ
عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ
فَخْرُ الدِّينِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي
التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو
مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، فَقَالَ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ
ضِدِّهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَكَذَا اقَالَ
الْبَزْدَوِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ، وَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ: إنَّ
الْقَاضِيَ مَالَ إلَيْهِ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": وَقَصَدَ الْفُقَهَاءُ مِنْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَلِهَذَا
قَالُوا: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ثُمَّ رَدَّ الْإِمَامُ
عَلَى مَنْ قَالَ: هُوَ عَيْنُهُ بِأَنَّهُ جَحْدٌ
لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ " بِ
افْعَلْ " مُغَايِرٌ لِلْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ " لَا تَفْعَلْ "
قِيلَ: وَهَذَا مِنْهُ غَلَطٌ أَوْ مُغَالَطَةٌ؛ إذْ لَيْسَ
الْكَلَامُ فِي " افْعَلْ " وَ " لَا تَفْعَلْ " بَلْ فِي "
افْعَلْ " وَ " لَا تَتْرُك " وَلَيْسَ بُطْلَانُ اتِّحَادِ
مَدْلُولِهِمَا ضَرُورِيًّا، وَأُبْطِلَ مَذْهَبُ التَّضَمُّنِ
بِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ لَا يَخْطِرُ لَهُ الضِّدُّ، وَلَوْ
خَطَرَ لَهُ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي تَرْكِهِ إلَّا عَلَى
مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ،
وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَرَى اسْتِلْزَامَ الْوُجُوبِ
الْوَعِيدَ عَلَى التَّرْكِ فَكَيْفَ لَا يَخْطِرُ لَهُ
الضِّدُّ مِنْ التَّرْكِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ؟ ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْكَلَامِ
النَّفْسِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ؛ لِأَنَّهُ
الَّذِي يَغْفُلُ عَنْ الضِّدِّ، وَأَمَّا اللَّهُ - تَعَالَى
- فَكَلَامُهُ وَاحِدٌ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذُهُولٌ كَمَا
صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ.
وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: مُعَيَّنٌ عَنْ الْوَاجِبِ
الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِهِمَا
لَيْسَ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ.
وَالْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ
صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ
وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ". وَاحْتَرَزْنَا
بِالْوُجُودِيِّ عَنْ التَّرْكِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ
نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ بِطَرِيقِ
(3/355)
التَّضَمُّنِ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ
الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ
هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ؟ الْمَقَامُ
الثَّانِي بِالنَّسَبِ إلَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ عِنْدَ
مَنْ رَأَى أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ
الضِّدِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ
الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ. قَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ
لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ، وَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ
لَيْسَ إلَّا الْعِبَارَاتُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ
يَقُولُوا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ،
لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا، فَقَالُوا: إنَّهُ
يَقْتَضِيهِ وَيَتَضَمَّنُهُ، وَلَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ
إشْعَارًا لُغَوِيًّا أَوْ أَمْرًا لَفْظِيًّا فَقَطْ،
وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ
دُونَهُ: " افْعَلْ " مَعَ إرَادَاتٍ، وَمُرِيدُ الشَّيْءِ لَا
بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِضِدِّهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ
يَكُونَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ.
وَفَرَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ
وَقَوْلِ الْقَاضِي آخِرًا بِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ
يَقُولُونَ: صِيَغُهُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي النَّهْيَ، وَذَلِكَ
الِاقْتِضَاءُ رَاجِعٌ إلَى فَهْمِ مَعْنًى مِنْ لَفْظِ مَنْ
يُشْعِرُ بِهِ، وَالْقَاضِي يَقُولُ بِالْكَلَامِ
النَّفْسِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ لَا إشْعَارَ لَهُ
بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: إذَا قَامَ بِالنَّفْسِ
الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ فَمِنْ ضَرُورَاتِهِ أَنْ يَقُومَ
بِالنَّفْسِ مَعَهُ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِ
الْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا يَقْتَضِي قِيَامَ الْعِلْمِ
بِالْمَحَلِّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ
لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا. وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي
الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ
هُنَا أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ هُوَ، فَإِنْ صِيغَةِ " تَحَرَّكْ
" غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَسْكُنْ " قَطْعًا.
(3/356)
وَلِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مَذْهَبٌ
ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيجَابِ يَكُونُ نَهْيًا
عَنْ أَضْدَادِهِ وَمُقَبِّحًا لَهَا، لِكَوْنِهَا مَانِعَةً
مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ الْمَنْدُوبِ فَإِنَّ أَضْدَادَهُ
مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، وَلَا تَنْزِيهَ
غَالِبًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ
جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ
لَيْسَ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ
عَنْهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْفِعْلِ وَبِضِدِّهِ
فِي الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ مُنِعَ فَالْأَمْرُ
بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ
بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ، لَا أَنَّهُ وَضِدَّهُ
يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ بَلْ مَعَ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ
أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ،
لَوْ قِيلَ: بِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَقَالَ
أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " لَيْسَ الْخِلَافُ فِي
تَسْمِيَةِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً لِبُطْلَانِهِ، وَلَا فِي
أَنَّ صِيغَةَ " لَا تَفْعَلْ " مَوْجُودَةٌ فِي الْأَمْرِ؛
لِأَنَّ الْحِسَّ يَدْفَعُهُ، بَلْ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ
ضِدِّهِ فِي الْمَعْنَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي دَلَّنَا عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ
الْمَقَامَيْنِ وَتَنْزِيلِ خِلَافِ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى
حَالَةٍ أَنَّ الشَّيْخَ وَالْقَاضِيَ لَمْ يَتَكَلَّمَا إلَّا
فِي النَّفْسِيِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمَا: إنَّ
اتِّصَافَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا سَبَقَ
وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " اخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ
يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
كَلَامَهُ فِي اللِّسَانِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالصِّيغَةِ،
وَخِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ
لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ النَّفْسِيَّ، وَلَا أَمْرَ
عِنْدَهُمْ إلَّا بِالْعِبَارَةِ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَقَدْ
اُسْتُشْكِلَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ
الْكَلَامُ فِي
(3/357)
النَّفْسَانِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى
اللَّهِ - تَعَالَى، فَاَللَّهُ - تَعَالَى - بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ، وَكَلَامُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ
وَخَبَرٌ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ مُتَعَدِّدٌ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ،
وَحِينَئِذٍ فَأَمْرُ اللَّهِ عَيْنُ نَهْيِهِ، فَكَيْفَ
يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافٌ؟ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ فَقَطْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فَكَيْفَ يُقَالُ: هُوَ
أَوْ يَتَضَمَّنُهُ مَعَ احْتِمَالِ ذُهُولِهِ عَنْ الضِّدِّ
مُطْلَقًا؟ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ كَمَا
سَبَقَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ أَجْرَاهُ
مَجْرَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُتَلَازِمَيْنِ كَيَمِينٍ
وَشِمَالٍ وَفَوْقَ وَتَحْتَ، فَإِنَّ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ
عِلْمَ الْفَوْقِ وَجَهْلَ التَّحْتِ وَعَكْسَهُ، وَكَذَلِكَ
يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِالنَّفْسِيِّ
بِاقْتِضَاءِ فِعْلٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ عَنْ
تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ
بِتَضَمُّنِهِ النَّهْيَ.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ
هَؤُلَاءِ لَا يَعْنُونَ بِالِاقْتِضَاءِ مَا يُرِيدُهُ
الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ
الْأَمْرَ النَّفْسِيَّ مُقَارَنَةُ نَهْيٍ نَفْسِيٍّ أَيْضًا
يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْحَيَاةِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّ
الْعِلْمَ إذَا وُجِدَ اقْتَضَى وُجُودَ الْحَيَاةِ. وَمِمَّنْ
جَزَمَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا
هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ لَا
النَّفْسَانِيِّ الْقَرَافِيُّ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ
التَّبْرِيزِيُّ فِي التَّنْقِيحِ "، فَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ
هَذَا الْخِلَافُ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ
مُثْبِتِي كَلَامِ النَّفْسِ مُطْبِقُونَ عَلَى اتِّحَادِ
كَلَامِ اللَّهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ
وَاسْتِفْهَامٍ إلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْوَاقِعَةِ فِي
الْكَلَامِ، فَهُوَ - تَعَالَى - آمِرٌ بِعَيْنِ مَا هُوَ
نَاهٍ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "
تَحَرَّكْ " غَيْرُ قَوْلِهِ: " لَا تَسْكُنْ " وَإِنَّمَا
النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: " افْعَلْ " إنَّمَا يَتَضَمَّنُ
ذَلِكَ - عَلَى خِلَافٍ فِيهِ - طَلَبَ الْفِعْلِ فَهُوَ
طَالِبٌ تَرْكَ ضِدِّهِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا قَالَ الصَّفِيُّ
الْهِنْدِيُّ: هَذَا النِّزَاعُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي
كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى
اتِّحَادَهُ، بَلْ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَفِي كَلَامِ
اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى تَعَدُّدَهُ.
(3/358)
وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: الْكَلَامُ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُثْبِتِي كَلَامِ النَّفْسِ
أَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ
عَيْنُ النَّهْيِ فَإِنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " غَيْرُ صِيغَةِ
" لَا تَفْعَلْ " لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يَقْتَضِيهِ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى قَالَ: وَصَارَ إلَى هَذَا ضَعَفَةُ
الْفُقَهَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ كَلَامُ
النَّفْسِ.
ثُمَّ قَالَ: الْخِلَافُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِ، أَمَّا
كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ قَدِيمٌ، وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ
يَكُونُ أَمْرًا بِكُلِّ مَأْمُورٍ، وَنَهْيًا عَنْ كُلِّ
نَهْيٍ، خَبَرًا عَنْ كُلٍّ مُخْبَرٍ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ
الْمَسْأَلَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ
نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى
مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ارْتِكَابِ
الْمُبَاحِ أَنْ يَتْرُكَ مَحْظُورَاتٍ، فَوَجْهُ النَّظَرِ
إلَى مَقْصُودِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي وَالْمُبِيحِ لَا فِيمَا
يَقَعُ مِنْ ضَرُورَةِ الْجِبِلَّةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ
الْمَسْأَلَةِ.
[النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ إنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ]
[النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ إنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ] أَمَّا
النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَأَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ
ضِدٌّ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْحَرَكَةِ
يَكُونُ أَمْرًا بِالسُّكُونِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ،
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقِيلَ: نَفْسُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ
كَمَا فِي جَانِبِ الْأَمْرِ قَالَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ مَالَ
آخِرًا إلَى أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ فِي
جَانِبِ الْأَمْرِ لَا النَّهْيِ، فَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": الَّذِي
ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ،
وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِ
الْمَأْمُورِ بِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ
الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي
الْقَوَاطِعِ " وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ "
فَقَالُوا: إنْ كَالَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ فَهُوَ أَمْرٌ
بِذَلِكَ الضِّدِّ أَيْ: تَضَمُّنًا، كَمَا قَالَهُ
(3/359)
سُلَيْمُ كَالصَّوْمِ فِي الْعِيدَيْنِ،
وَكَقَوْلِهِ: لَا تَكْفُرْ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِيمَانِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِضِدٍّ
وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ إلَّا بِهِ، فَأَمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرِ بِسَائِرِ
الْأَضْدَادِ فَلَا مَعْنَى لَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ
فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً. وَقَالَ
صَاحِبُ اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: النَّهْيُ
يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ ذَا ضِدٍّ وَاحِدٍ،
فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَقْتَضِي أَمْرًا بِهَا. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: يَقْتَضِي أَمْرًا بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ
عَامَّةِ أَصْحَابِنَا. انْتَهَى.
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّهُ
لَيْسَ بِأَمْرٍ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا، وَشَنَّعَ عَلَى مَنْ
قَالَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذِي أَضْدَادٍ أَمْرٌ بِأَحَدِ
أَضْدَادِهِ، فَقَالَ: مَنْ قَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَقَدْ اقْتَحَمَ
أَمْرًا عَظِيمًا، وَبَاحَ بِالْتِزَامِ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ
فِي نَفْيِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ
مِنْ حَيْثُ قَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ
الْأَضْدَادِ، وَيَتَضَمَّنُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ تَفَطَّنَ
لِغَائِلَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ نَاقَضَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ
كَمَا يَسْتَحِيلُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ
الِانْكِفَافِ عَنْ أَضْدَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ الِانْكِفَافُ
عَنْ الْمَنْهِيِّ [عَنْهُ] دُونَ الِاتِّصَافِ بِأَحَدِ
أَضْدَادِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا
أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ هَاهُنَا
شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ
هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: الْمَأْمُورُ
بِشَيْءٍ مَنْهِيٌّ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَأَنَّ
الْآمِرَ بِهِ نَاهٍ عَنْ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ.
(3/360)
فَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ نَقَلَ
الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ
الْقُشَيْرِيّ: أَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ،
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: إنْ مَنَعَ ذَلِكَ
مَانِعٌ قِيلَ لَهُ: هَذَا خَرْقُ مَا عَلَيْهِ الْكَافَّةُ
مَعَ أَنَّا نُلْجِئُهُ إلَى مَا قِيلَ لَهُ بِهِ، فَنَقُولُ:
إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ عَلَى الْجَزْمِ بِشَيْءٍ وَهُوَ
مُقَيَّدٌ بِالْفَوْرِ وَانْتَفَى عَنْهُ سِمَةُ التَّخْيِيرِ،
فَتَحْرِيمُ ضِدِّ الِامْتِثَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ إذْ لَوْ
لَمْ يَحْرُمْ فَمَا مَعْنَى وُجُوبِ الِامْتِثَالِ؟ انْتَهَى.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مَعَ
تَجْوِيزِ عَدَمِ خُطُورِهِ بِالْبَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ
الْخُطُورِ فَلَيْسَ الضِّدُّ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ،
وَإِنَّمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ دَعَا إلَيْهِ تَحَقُّقُ
الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضَرُورِيٍّ لِلشَّيْءِ
يُقَالُ لَهُ: إنَّهُ مَدْلُولُهُ أَوْ يَتَضَمَّنُهُ. قَالَ:
وَهَذَا التَّحْقِيقُ تَحْرِيرٌ فِي أَنَّ الْآمِرَ
بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَاهِيًا عَنْ أَضْدَادِهِ؛ لِأَنَّ
الْأَمْرَ لِلْقِيَامِ طَالِبٌ لَهُ، وَقَدْ يَخْطِرُ لَهُ
ضِدُّهُ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّ
الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا
يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلْ يُوجِبُ
حُكْمًا فِي ضِدِّ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ؟ فَذَهَبَ أَبُو
هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ إلَى
أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي ضِدِّهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ
مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَعَبْدِ
الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ
حُرْمَةَ ضِدِّهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي
الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِي
تَحْرِيمَ الضِّدِّ، قَالَ: إذَا أَدَّى الِاشْتِغَالُ بِهِ
إلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرُمَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ
الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ، فَلَمَّا نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ
لُبْسِ الْمَخِيطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ لُبْسَ
الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ.
(3/361)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَطْلَقُوا
الْأَمْرَ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَبِهِ
صَرَّحَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَجَعَلَهَا
نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا، وَنُقِلَ
تَخْصِيصُهُ بِالْوَاجِبِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ
الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي
الْمُلَخَّصِ " عَنْ الشَّيْخِ، فَقَالَ: ذَهَبَ الشَّيْخُ
إلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ إنْ
كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، وَأَضْدَادُهُ إنْ كَانَ ذَا
أَضْدَادٍ. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ - يَعْنِي الشَّيْخَ -
شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا نَدْبًا. قَالَ:
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ
كُتُبِهِ: إنَّ النَّدْبَ حَسَنٌ وَلَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ،
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِ
الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ؛ إذْ هُوَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ
إلَّا وَاجِبًا، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي
أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ وُجُوبٍ
وَنَدْبٍ. قَالَ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّيْخُ فِي
ذَلِكَ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ وُجُوبِهِ
مُضَيِّقًا، مُسْتَحِقَّ الْعَيْنِ لِأَجْلِ أَنَّ الْوَاجِبَ
الْمُوَسِّعَ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ ضِدِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَضِدُّ
الْبَدَلِ مِنْهُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ لَا مَا إذَا كَانَ
أَمْرٌ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّخْيِيرِ. انْتَهَى. وَهَذَا
الشَّرْطُ الثَّانِي قَدْ سَبَقَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ
بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا كَانَ شَيْءٌ
وَاحِدٌ مُضَيِّقٌ مُعَيَّنٌ لَا بَدَلَ لَهُ، وَذَكَرَهُ
ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا، فَقَالَ: هَذَا فِي الْأَمْرِ
بِالشَّيْءِ عَلَى التَّنْصِيصِ لَا عَلَى التَّخْيِيرِ،
فَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّخْيِيرِ قَدْ يَتَعَلَّقُ
بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا لَا
بِعَيْنِهِ.
(3/362)
وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ
الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ
عَنْ ضِدِّهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُضَيَّقَ
الْوُجُوبِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا تَخْيِيرٍ، كَالصَّوْمِ،
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَهْيًا
عَنْ ضِدِّهِ، كَالْكَفَّارَاتِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَاجِبَةٌ
مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ تَرْكِهَا، لِجَوَازِ
رَدِّهَا إلَى غَيْرِهَا، كَمَا فِي الْأَمْرِ. وَقَدْ
احْتَرَزَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا فَقَالَ: الْأَمْرُ
بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ
وَبَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ إنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ،
فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى
التَّخْيِيرِ. انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ "
أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ بِمَا إذَا كَانَ الْأَمْرُ
يُوجِبُ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا
بُدَّ مِنْ تَرْكِ ضِدِّهِ عَقِبَ الْأَمْرِ كَمَا لَا بُدَّ
مِنْ فِعْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ
الْأَمْرُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ
إنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ إذَا اقْتَضَى
التَّحْصِيلَ عَلَى الْفَوْرِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاسْتُشْكِلَ وَجْهُهُ الْمُوَسَّعُ إنْ
لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَأَيْنَ الْأَمْرُ
حَتَّى يُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ
نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ؟ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ الْوَقْتِ عَنْهُ
فَضِدُّهُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ، تَفْوِيتُهُ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ إنْ صَدَقَ الْأَمْرُ
عَلَيْهِ انْقَدَحَ كَوْنُهُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَإِلَّا
فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَائِهِ كَمَا قُلْنَا فِي
الْمُخَيَّرِ. الثَّانِي: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ
إنَّمَا هُوَ فِي الضِّدِّ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ
الْوُجُودِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نَقِيضِ الشَّيْءِ
الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هَلْ هُوَ
نَهْيٌ عَنْ نَفْسِ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ ضِدٌّ أَمْ لَا؟
هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَمَّا النَّقِيضُ فَلَا
خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ
عَنْ نَقِيضِهِ، فَإِنَّ الْحَرَكَةَ نَقِيضُ اللَّا حَرَكَةَ
فَاللَّا حَرَكَةَ نَقِيضٌ، وَلَيْسَ بِضِدٍّ بَلْ ضِدُّ
الْحَرَكَةِ هُوَ
(3/363)
السُّكُونُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ
إلَّا أَنَّهُ لَازِمٌ مُسَاوٍ لِنَقِيضِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا
وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ فَهَذَا بِعَيْنِهِ نَهْيٌ
عَنْ نَقِيضِهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ نَقِيضِهَا هُوَ
سَلْبٌ لِسَلْبِهَا، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عِبَارَةٌ عَنْ
سَلْبِ الْحَرَكَةِ وَسَلْبُ سَلْبِ الْحَرَكَةِ هُوَ نَفْسُ
الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّ سَلْبَ السَّلْبِ إثْبَاتٌ، وَطَلَبُ
سَلْبِ الْحَرَكَةِ هُوَ طَلَبُ سَلْبِ نَفْسِ الْحَرَكَةِ
فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ نَهْيًا
عَنْ نَقِيضِهَا، وَهُوَ سَلْبُ الْحَرَكَةِ. الثَّالِثُ:
ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إذَا لَمْ
يَقْصِدْ " الضِّدَّ " بِالنَّهْيِ فَإِنْ قَصَدَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَإِنَّ الضِّدَّ مِثْلُ هَذِهِ
الصُّورَةِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.
(3/364)
|