البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي [فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنِ الْعَامِّ
الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ]
ُ اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا
لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ
فِيهِ مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
فَقَدْ وَقَعَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَاخْتَلَفَ
قَوْلُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
[البقرة: 275] : هَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَوْ عَامٌّ
أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ؟
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي كِتَابِ
الْبَيْعِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ
بِهِ الْخُصُوصُ مَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَقَلَّ، وَمَا
لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَكْثَرُ. قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ،
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَا لَيْسَ
بِمُرَادٍ هُوَ الْأَقَلُّ. قَالَ: وَيَفْتَرِقَانِ فِي
الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمْكِنُ التَّعَلُّقُ
بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ.
وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " بَيْنَهُمَا مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامَ الْمَخْصُوصَ مَا يَكُونُ
الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ
بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَالْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ
الْخُصُوصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَمَا
لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ، وَالثَّانِي: أَنَّ
الْمُرَادَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى
اللَّفْظِ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ
اللَّفْظِ أَوْ يَقْتَرِنُ بِهِ. وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ
لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ
تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ،
(4/336)
فَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِمَامِ ": يَجِبُ
أَنْ يَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ
أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ
مَخْصُوصٌ، فَإِنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ. أَلَا
تَرَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا
مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْعُمُومِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْدَ
ذَلِكَ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَانَ عَامًّا
مَخْصُوصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
ثُمَّ يُقَالُ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ
الَّذِي أُخْرِجَ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إذَا قَصَدَ
الْعُمُومَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْصِدَ
الْخُصُوصَ بِخِلَافِ مَا إذَا نَطَقَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ
مُرِيدًا بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ فِي هَذَا. وَفَرَّقَ
الْحَنَابِلَةُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَهُمَا
بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ
الْعَامَّ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا فَهُوَ
الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَإِنْ أَرَادَ
سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضٍ مِنْهُ فَهُوَ الْعَامُّ
الْمَخْصُوصُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ: قَامَ النَّاسُ، فَإِذَا
أَرَدْت إثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرُ
فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَدْت سَلْبَ
الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
إنَّمَا يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ مَعْنَوِيٍّ يَمْنَعُ إرَادَةَ
الْجَمِيعِ، فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْبَعْضُ. وَالْعَامُّ
الْمَخْصُوصُ يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ غَالِبًا
كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْغَايَةُ وَالْمُتَّصِلُ،
نَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي
أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ هُوَ أَنْ يُطْلَقَ الْعَامُّ
وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ. هُوَ مَجَازٌ
قَطْعًا، لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ
مَدْلُولِهِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَشَرْطُ
الْإِرَادَةِ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِ
اللَّفْظِ، وَلَا يَكْفِي طُرُوءُهَا فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى
غَيْرِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَلَيْسَتْ
الْإِرَادَةُ فِيهِ إخْرَاجًا لِبَعْضِ الْمَدْلُولِ، بَلْ
إرَادَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ
مَوْضُوعِهِ، كَمَا يُرَاد بِاللَّفْظِ مَجَازُهُ.
(4/337)
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ فَهُوَ
الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخَرَّجًا مِنْهُ
بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِالْإِرَادَةِ، إرَادَةً لِلْإِخْرَاجِ
لَا إرَادَةً لِلِاسْتِعْمَالِ. فَهِيَ تُشْبِهُ
الِاسْتِثْنَاءَ، فَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ
اللَّفْظِ، وَلَا تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا
فِي أَثْنَائِهِ، كَالْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ.
وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ خِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْعَامَّ
الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ، وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ
أَنَّ إرَادَةَ إخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ هَلْ تُصَيِّرُ
اللَّفْظَ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَوْ لَا؟ وَهُوَ يُقَوِّي
كَوْنَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْمَجَازِ،
وَالنِّيَّةُ فِيهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي نَقْلِ اللَّفْظِ عَنْ
مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ عَدَّ
ابْنِ الْحَاجِبِ الْبَدَلَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ لَيْسَ
بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْأَوْلَى فِي قَوْلِنَا: أَكَلَتْ
الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَنَّهُ مِنْ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ
الْخُصُوصُ، لَا الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ
عِيسَى النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " الْعَرَضُ وَالْآلَةُ ":
إذَا أَتَى بِصُورَةِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ
الْخُصُوصُ، فَهُوَ مَجَازٌ إلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
إذَا صَارَ الْأَظْهَرُ الْخُصُوصَ، كَقَوْلِهِمْ: غَسَلْت
ثِيَابِي، وَصَرَمْت نَخْلِي، وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ،
وَجَاءَتْ الْأَزْدُ. انْتَهَى.
(4/338)
|