البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي

 [الْمَفْهُومُ]
ُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ ظُرُوفٌ حَامِلَةٌ لِلْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا تَارَةً تُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَالتَّصْرِيحِ، وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ.
وَالْأَوَّلُ: يَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ، وَظَاهِرٍ إنْ احْتَمَلَ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَفْهُومُ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَنْطُوقِ. وَسُمِّيَ مَفْهُومًا لَا لِأَنَّهُ مُفْهِمٌ غَيْرَهُ، إذْ الْمَنْطُوقُ أَيْضًا مَفْهُومٌ، بَلْ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مُجَرَّدٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَنْطُوقٍ، فَلَمَّا فُهِمَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُمِّيَ مَفْهُومًا.
قَالَ الْعَبْدَرِيّ: وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إلَى النَّصِّ، وَالْمُجْمَلِ، وَالظَّاهِرِ، وَالْمُؤَوَّلِ، كَانْقِسَامِ الْمَنْطُوقِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: فَمِثَالُ النَّصِّ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . فَإِنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَكَذَا {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] . فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ قَطْعًا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ. وَمِثَالُ الْمُحْتَمَلِ: (لَا صِيَامَ) ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْقَبُولِ أَصْلًا، أَوْ نَفْيَ الْكَمَالِ. وَقَوْلُهُ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَضْلِ الصَّلَاةِ أَوْ حُكْمِهَا أَوْ وَقْتِهَا اهـ.

(5/121)


[تَنْبِيهٌ هَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ اللَّفْظِ]
وَهَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ مِنْ جِهَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، أَوْ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ؟ قَوْلَانِ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ. وَرَدَّهُ الْكَرْخِيّ فِي نُكَتِهِ " بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْعِرُ بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهُ بِالْوَضْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ اللَّفْظَ دَالًّا عَلَى شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَبَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِكَوْنِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صَارُوا إلَى الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ، وَقَدْ يُخْطِئُونَ، فَيَكُونُ إذْنُ نِسْبَتِهِمْ كَنِسْبَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ.

[الْمَفْهُومُ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عَنْ مُفْرَدٍ أَوْ مُرَكَّبٍ]
تَقْسِيمٌ وَهُوَ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عَنْ مُفْرَدٍ أَوْ مُرَكَّبٍ، وَاللَّازِمُ عَنْ الْمُفْرَدِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ أَوْ الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَرِنَ بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ اقْتِرَانُهُ بِهِ لِتَعْلِيلِهِ كَانَ اللَّفْظُ بِهِ قَصْدًا مِنْ الشَّارِعِ فَيُبَيِّنُهُ إيمَاءً كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْقِيَاسِ.
وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ تَحَقُّقُ دَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُفْرَدِ عَلَيْهِ، إمَّا لِوُجُوبِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» أَيْ حُكْمُ ذَلِكَ أَوْ الْمُؤَاخَذَةُ، لِأَنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَوْجُودٌ. وَإِمَّا لِاسْتِحَالَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . فَإِنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُ سُؤَالَ الْجُدَرَانِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛ وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ: اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، لِاسْتِدْعَائِهِ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ، إذْ الْعِتْقُ لَا يَحْصُلُ إلَّا فِي مِلْكٍ.

(5/122)


وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِ الِاقْتِضَاءِ بِأَقْسَامِهِ مِنْ فَنِّ الْمَفْهُومِ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فَجَعَلَاهُ مِنْ فَنِّ الْمَنْطُوقِ، وَكَذَا الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ مَعَ تَفْسِيرِهِمَا الْمَنْطُوقَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَالْمَفْهُومَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ التَّوْجِيهِ، مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: سُمِّيَ الْمَفْهُومُ مَفْهُومًا، لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلِاقْتِضَاءِ وَالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ أَيْضًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَقْسَامُ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ، لَا الْمَنْطُوقِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ، وَلِهَذَا اعْتَرَفَ بِهَا مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ، وَقَدْ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ. هُنَا بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ وَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَكَتَبَا فِيهَا رِسَالَتَيْنِ، وَانْتَصَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ لِابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنْ فَسَّرَ الْمَنْطُوقَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَلَزِمَ مِنْهُ جَعْلُ الثَّلَاثَةِ مَنْطُوقًا، لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَإِنْ لَمْ يُوَضِّحْ اللَّفْظُ لَهَا، بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ، فَلْيُرَاجَعْ كَلَامُهُمَا. وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ أَنْ لَا يَقْصِدَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَمَثَّلَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، أَيْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى بَيَانِهِ، إذْ الْآيَةُ

(5/123)


سِيقَتْ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا مِنْ الْغَنِيمَةِ، لَا لِبَيَانِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ، لَكِنْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، مَعَ إضَافَةِ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ. وَالْفَقِيرُ: اسْمٌ لِعَدِيمِ الْمَالِ، لَا لِمَنْ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ لَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَجَازًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكِنَّ إضَافَةَ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ، إذْ الْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ، فَلَيْسَ حَمْلُهُمْ الْإِضَافَةَ عَلَى التَّجَوُّزِ، وَإِجْرَاءُ التَّسْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ.

[مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ]
ِ وَالْمَعْنَى اللَّازِمُ مِنْ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ فِي الْحُكْمِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَالْأَوَّلُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِلْمَلْفُوظِ بِهِ، وَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا لَحْنَ الْخِطَابِ لَكِنَّ لَحْنَ الْخِطَابِ مَعْنَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] . هَكَذَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ.

(5/124)


وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَاللَّحْنُ مَا لَاحَ فِي أَثْنَاءِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِهِ. اهـ. وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ " أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ: مَا دَلَّ الْمُظْهَرُ عَلَى الْمُسْقَطِ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ: مَا يَكُونُ مُحَالًا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ فِي الْأَصْلِ وَالْوَضْعِ مِنْ الْمَلْفُوظِ، وَالْمَفْهُومُ: مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُظْهَرَ وَالْمُسْقَطَ كَقَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ) ، فَالْمُرَادُ بِهِ إثْبَاتُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا فِي غَيْرِهَا. وَمِثْلُ فَحْوَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَقَوْلُهُ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] . أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ، لِأَنَّ الْفَحْوَى هُوَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ: وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي يُجَوِّزُ الْوَقْفَ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: {فَانْفَلَقَ} فَقُلْت لَهُ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَنْ اضْرِبْ} وَقَوْلَهُ: {فَانْفَلَقَ} بِمَجْمُوعِهِمَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْقَطِ، فَلَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَأَمَّا لَحْنُ الْقَوْلِ فَهُوَ غَيْرُ هَذَا، وَيُسَمَّى بِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يُذْكَرُ

(5/125)


وَيُرَادُ غَيْرُهُ، لَكِنْ بِاللَّحْنِ مِنْ الْقَوْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ} [محمد: 16] . كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَهَذَا هُوَ لَحْنُ الْقَوْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَاذَا قَالَ مُحَمَّدٌ آنِفًا؟ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اسْتِكْشَافَ الْقَوْلِ، وَالْفَحْصَ عَنْ مَعْنَاهُ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، لَكِنَّ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا قَدَّرْنَاهُ، فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيِّنًا فِي لَحْنِ قَوْلِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ، إمَّا فِي الْأَكْثَرِ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَإِنَّ الضَّرْبَ أَكْثَرُ أَذًى مِنْ التَّأْفِيفِ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِأَعْلَاهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِمَّا فِي الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] مَفْهُومُهُ أَنَّ أَمَانَتَهُ تَحْصُلُ فِي الدِّرْهَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، كَدَلَالَةِ جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187] عَلَى جَوَازِ أَنْ يُصْبِحَ الرَّجُلُ صَائِمًا جُنُبًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلصَّائِمِ مَدُّهُ الْمُبَاشَرَةَ إلَى الطُّلُوعِ، بَلْ وَجَبَ قَطْعُهَا مِقْدَارَ مَا يَسَعُ فِيهِ الْغُسْلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

[يَنْقَسِمُ مَفْهُوم الْمُوَافَقَةِ إلَى قَطْعِيٍّ]
وَيَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ كَآيَةِ التَّأْفِيفِ، وَإِلَى ظَنِّيٍّ وَهُوَ مَا فِيهِ

(5/126)


احْتِمَالٌ مَعَ الظُّهُورِ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فَإِنَّ هَذَا عِنْدَ طَائِفَةٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا عَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى، لَكِنْ فِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ جِهَةِ قَصْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُخْطِئِ، لِكَوْنِ ذَنْبِ الْمُتَعَمِّدِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَ، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ إذَا كَانَ جَلِيًّا، وَتَنَازَعُوا فِي الْمَظْنُونِ فِيهِ، فَلَمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ شِئْت فَقُلْ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ. وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي هَذَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى، وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَأَتْبَاعُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِيهِ الْأَوْلَوِيَّةَ، وَهُوَ قَضِيَّةُ مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَوْضِعٍ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ مِنْ الْمَعْنَى فِي الْمَنْطُوقِ فِيهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ لَهُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ كَوْنُ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ أَوْلَى مِنْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ تَسْمِيَتُهُ جَلِيًّا بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ أَخَصُّ مِنْهُ. وَلَوْ سُمِّيَ بِهِ لَكَانَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، وَعَلَيْهِ يُنْزِلُونَ تَسْمِيَةَ الشَّافِعِيِّ،

(5/127)


لَكِنْ يُسَمِّي أَكْثَرُهُمْ الْأَوَّلَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَالثَّانِي بِلَحْنِهِ.

[دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَفْهُوم الْمُوَافَقَة هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ]
وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ: هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ". وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَهُوَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ فِي " الرِّسَالَةِ "، وَأَوْضَحَهُ بِالْأَمْثِلَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُسَمَّى بَيَانًا، لِأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ النَّصِّ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ قِيَاسٌ. وَكَذَا الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ". وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمْ الشَّافِعِيُّ، إلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ عَقْلٌ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ، وَكَانَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ فَرْعُهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَذَكَرَهُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ.
قَالَ: وَأَنْكَرَ دَاوُد الْمَفْهُومَ. قَالَ: وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمْ: الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْفِيفِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُسْتَفَادٌ مِنْ النُّطْقِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى النُّطْقِ لَا مَجْرَى الْقِيَاسِ، وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْفِيفِ مَثَلًا مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى.

(5/128)


وَقِيلَ: إنَّهُ فَهْمٌ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا شَرَطُوا كَوْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ. قَالَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنْ الْقِيَاسِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَامِعَ الْخِطَابِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي طُرُقِ الْقِيَاسِ، وَيُؤْمِنْ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَأَصْلَهُ التَّأْفِيفُ، وَفَرْعَهُ الضَّرْبُ، وَعِلَّتَهُ دَفْعُ الْأَذَى. وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا مِنْ الْفُرُوعِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا أَصْلًا بِمَا يَجْعَلُوهُ فَرْعًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ شَرْعِ الْقِيَاسِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ نَظَرِيٌّ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ؟ وَأَنَّهُ هَلْ يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ؟ .

[تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَة]
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنْ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ

(5/129)


بِهِ؟ إنْ قُلْنَا: لَفْظِيَّةٌ، جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَسَيَأْتِي فِي النَّسْخِ. وَمِنْهَا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ " الْكَشْفِ " أَيْضًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ " الْمَنْحُولِ ": قَالُوا: فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ قِيَاسًا قُدِّمَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ قِيَاسٌ، وَلَكِنْ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي مَنْعِ التَّقْدِيمِ، وَالْخِلَافُ بَعْدَهُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ. انْتَهَى. قُلْتُ: سَيَأْتِي تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ. نَعَمْ، لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ.
وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: مَنْ قَالَ مُسْتَنَدُهُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْفَحْوَى قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] : إنَّ تَقْيِيدَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِهَا فِي الْعَمْدِ أَوْلَى. وَهَذَا ظَاهِرٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَمَنْ قَالَ: مُسْتَنَدُهُ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْفَحْوَى أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَفْظٌ مِنْ الشَّارِعِ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، إنْ قُلْنَا: مَأْخُوذٌ مِنْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَعْتَمِدُ التَّنْبِيهَ أَوْ الْقَرَائِنَ اللَّفْظِيَّةَ تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي جِهَاتِ التَّرْجِيحِ.

[الثَّانِي الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ]
ُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ فِي " الْبُرْهَانِ " وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ

(5/130)


يُنْكِرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بَعْدَ كَلَامٍ ذَكَرَهُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ سَلَّمَ الْفَحْوَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . قَالَ: وَأَمَّا مُنْكِرُو صِيَغِ الْعُمُومِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَفْهُومَ، وَهُوَ بِالتَّوْقِيفِ أَوْلَى، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ مَا يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . وَقَالَ: إذَا ذَكَرَ الْحِجَابَ فِي إذْلَالِ الْأَشْقِيَاءِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فِي السَّعَادَةِ. وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ، فَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ: نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا حَكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مَتَى تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي هَذَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِ اللَّفْظِيِّ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّمْعِ، وَاَلَّذِي يَرُدُّ ذَلِكَ يَرُدُّ نَوْعًا مِنْ الْخِطَابِ.
قُلْتُ: قَدْ خَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ مُكَابَرَةٌ.

[الثَّالِثُ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ مَفْهُوم الْمُوَافَقَة]
الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ هَذَا الْمَفْهُومِ، مِثْلُ: وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَاقْتُلْهُمَا. قَالَ: وَرَأَيْت الْأَذْرِيَّ تَرَدَّدَ فِيهِ، فَسَلَّمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 8] . لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَمِلَ قِنْطَارًا لِمَ رَدَّهُ لِلتَّنَاقُضِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: إنَّمَا يُسْتَفَادُ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِمَا، لِأَجْلِ تَحْدِيدِ النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، وَأَشَارَ إلَى جَوَازِ مُضَامَّةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعْضِهِمَا

(5/131)


لِبَعْضٍ، وَمِنْ الْخِلَافِ يُلْتَفَتُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا: هَلْ هِيَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: نَهْيٌ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ فَاسِدِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْمُؤَجَّلِ فَفِي الْحَالِّ أَجْوَزُ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضَى، وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ بُعْدَهُ عَنْ الْغَرَرِ، فَيَلْتَحِقُ بِهِ الْحَالُّ، وَالْغَرَرُ مَانِعٌ، احْتَمَلَ فِي الْمُؤَجَّلِ، وَالْحُكْمُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ مَانِعِهِ، بَلْ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْغَرَرِ عِلَّةَ الصِّحَّةِ مِمَّا وَجَدْت فِي الْفَرْعِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ؟ .

[الثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ]
وَالثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُ مِنْ جِنْسِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": وَقَدْ بَدَّلَ ابْنُ فُورَكٍ لَفْظَ الْمَفْهُومِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، لِمُخَالَفَتِهِ مَنْظُومَ اللَّفْظِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ: وَهَلْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ

(5/132)


الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَوْ بِنَقِيضِهِ؟ الْحَقُّ الثَّانِي. وَمَنْ تَأَمَّلْ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. قَالَ: وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] إذْ مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مَفْهُومُهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ صَادِقٌ مَعَ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ مِنْ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالنَّقِيضُ أَعَمُّ مِنْ الضِّدِّ.

[أَقْسَامُ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة]
وَأَقْسَامُهُ عَشَرَةٌ: اقْتَصَرَ الْأُصُولِيُّونَ مِنْهَا عَلَى ذِكْرِ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَحَصَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي خَمْسٍ، فَذَكَرَ الْحَدَّ، وَالْعَدَدَ، وَالصِّفَةَ، وَالْمَكَانَ. وَالزَّمَانَ. وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى شُمُولِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالصِّفَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، كَكَائِنٍ، وَمُسْتَقِرٍّ، وَوَاقِعٍ، مِنْ قَوْلِك: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْجَمِيعُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إلَّا اللَّقَبَ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": قَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَخَلَطُوا فِيهِ، وَآخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ "

(5/133)


وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ، فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ كُلَّ الِانْكِشَافِ، فَحَسِبَهَا أَجْوِبَةً مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا، فَقَالَ: إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ، لَا بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ، مِثْلُ مَا ذَكَرَ مِنْ قِلَّةِ النَّمَاءِ، وَقِلَّةِ الْمَئُونَةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، فَتَلَطَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَنْعِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. اهـ.
قَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ ": أَنْكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ، وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ إذَا تَجَرَّدَ، وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْهُ قَرَائِنُ يَدُلُّ مَعَهَا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] . وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] . {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» وَقَالَ: وَقَدْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ مِثْلُ حُكْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . وَقَوْلِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ: وَقَدْ أَضَافَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلَهُ هَذَا إلَى الشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي لِخِلَافِ ذَلِكَ، وَبَنَاهُ عَلَيْهِ. اهـ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ: إنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُضِيفَ إلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ،

(5/134)


وَأَنَّهُ قَالَ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ، لِأَجْلِ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ فِي الْكَافِرِينَ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ ": أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ. قَالَ: وَأَمَّا فِي مُصْطَلَحِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَعَكَسَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا، فَقَالَ: حُجَّةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

(5/135)


[فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِمَفْهُومِ الْمُخَالِفَة فِي مَوَاضِعَ] [الْأَوَّلُ هَلْ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الشَّرْعُ]
فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: هَلْ هُوَ دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَوَضْعُ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي " الْمَعَالِمِ ": لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ. وَذَكَرَ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ اخْتَلَفُوا هَلْ نَفْيُ الْحُكْمِ فِيهِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى؟ ، كَعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ هَلْ هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ؟ حَتَّى نَقُولَ: إنَّ الْعَرَبَ إذَا قَالَتْ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَائِمٌ مَقَامَ كَلَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُهَا فِي السَّائِمَةِ، وَالْآخَرُ نَفْيُهَا عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، أَمْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى؟ قَالَ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا خُصَّ الْمَفْهُومُ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ؟ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفْظِ، فَنَعَمْ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْنَى، فَلَا. اهـ. وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ". وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ: مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

(5/136)


[الثَّانِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَى مَفْهُوم الْمُخَالِفَة]
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ، أَنَّهُ هَلْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فِيهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ اخْتَصَّتْ دَلَالَتُهُ بِمَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ؟ فَإِذَا قَالَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ. فَهَلْ نَفَيْنَا الزَّكَاةَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ، أَوْ لَمْ نَنْفِ إلَّا عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَنْطُوقِ. وَوَجْهُ النَّفْيِ مُطْلَقًا أَنَّ السَّوْمَ كَالْعِلَّةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا، وَكَذَا صَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّ النَّفْيَ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ، لَكِنْ صَحَّحَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ الثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.

[الثَّالِثُ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ]
الثَّالِثُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ. وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا. وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَهَلْ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ حَتَّى يَكُونَ كَإِزَالَةِ الظَّاهِرِ، أَوْ لَا وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ حَتَّى يُرَدَّ إلَى الْبَعْضِ كَمَا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؟ قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِ الْمَفْهُومِ بِكَمَالِهِ بَقِيَ اللَّفْظُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالنُّطْقِ، فَلَمْ يَتَعَطَّلْ اللَّفْظُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ الْعُمُومِ كُلُّ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إسْقَاطَ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ. وَحُكِيَ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ بَقِيَّةٍ كَمَا فِي الْمَنْطُوقِ. قَالَ:

(5/137)


وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ لَيْسَ الْمَفْهُومُ سَائِرُ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ، فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَعَ تَبْقِيَةِ الْمَنْطُوقِ نَسْخٌ، بَلْ هُوَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ. .

[الرَّابِعُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ مَفْهُوم الْمُخَالِفَة فَهَلْ يُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ]
الرَّابِعُ: إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ، فَهَلْ يُسْقِطُ الْمَفْهُومَ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي الْبَقِيَّةِ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ مُجْمَلًا؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَصِيرُ مُجْمَلًا، فَالْمَفْهُومُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ مُجْمَلًا، فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرْكُ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا مُخَالَفَةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ. فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ يُوَافِقُ الْمَنْطُوقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ هِيَ الْفَائِدَةُ، فَيُطْلَبُ فَائِدَةٌ أُخْرَى. وَالْحَقُّ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، كَمَا إذَا قِيلَ: إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَلَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ عَالِمٍ غَيْرِهِ اقْتَصَرْنَا فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْجَدِيدُ، وَيَبْقَى النَّفْيُ فِيمَا سِوَاهُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الشَّامِلَ إذَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ صُورَةٌ بَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا سِوَاهَا، وَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا آكُلُ السَّمَكَ مَثَلًا، وَنَوَى تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِغَيْرِهِ يُقْبَلُ مِنْهُ. .

[الْخَامِسُ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالِفَة قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ]
الْخَامِسُ: هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ مِنْ مَنْطُوقٍ آخَرَ؟ فِيهِ خِلَافُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ. وَحَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْعُمُومِ بِنَظَرِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ بِهِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَذْكُورِ صُيِّرَ إلَيْهِ، وَإِلَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَكَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُخَالِفًا لَهُ. قَالَ: وَصَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَاسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِأَلْفَاظٍ سَرَدَهَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.

(5/138)


[فَصْلٌ شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ إلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهُ]
لِلْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ شُرُوطٌ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلْمَذْكُورِ. فَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ، أَوْ مُسَاوِيًا كَانَ قِيَاسًا جَلِيًّا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ.
وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُعَارَضَ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَصٍّ يُضَادُّهُ وَبِفَحْوَى مَقْطُوعٍ بِهِ يُعَارِضُهُ، كَفَهْمِ مُشَارَكَةِ الْأَمَةِ الْعَبْدَ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَمْ يُجَوِّزُ الْقَاضِي تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، هَكَذَا نَقَلَهُ فِي " الْمَنْخُولِ ". قَالَ: وَلَعَلَّهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ فِي الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ تِلْقَاءَ الظَّاهِرِ، وَالْعُمُومُ قَدْ لَا يُتْرَكُ بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَجْتَهِدُ النَّاظِرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ الْعُمُومُ. اهـ. وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَاضِي التَّوَقُّفُ فِي تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ الْقَرَائِنِ، أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ قَرِينَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِدَلَالَةِ الْخِطَابِ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ شَارِحُ " اللُّمَعِ ": دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ

(5/139)


سَقَطَ، وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قُدِّمَ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ، فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ.
قُلْت: وَمَا صَحَّحَهُ فِي مُعَارَضَةِ الْعُمُومِ هِيَ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي "؛ الْبُوَيْطِيِّ " يُخَالِفُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ صَيْدًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً ضَمِنَهُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَالْحُجَّةُ فِي الْخَطَأِ قَوْلُهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فَدَخَلَ فِي هَذَا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ. اهـ. فَقَدْ قُدِّمَ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ: مُتَعَمِّدًا. وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَهُوَ شَاهِدٌ لَكِنَّ شُبْهَتَهُ قَوِيَّةٌ. فَإِنَّ مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى: {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] . لَا يُعَارَضُ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ وَارِدٌ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَمَا قَالَهُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُمُومٌ مَعْنَوِيٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ عَلَى الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ أَوْلَى. وَيَكُونُ خُرُوجُ صُوَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَخُرُوجِهَا مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِ الْعُمُومِ. وَمِنْهُ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فَذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إلَيْهِ إذْ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ، وَنَظِيرُهُ: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .

(5/140)


[شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ لِلْمَذْكُورِ]
ِ] وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] . فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبَائِبِ كَوْنُهُنَّ فِي حُجُورِ أَزْوَاجِ أُمَّهَاتِهِنَّ، فَذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ لَا لِيَدُلَّ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْخُلْعِ بِحَالِ الشِّقَاقِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، إذْ لَا يَقَعُ غَالِبًا فِي حَالِ الْمُصَافَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِذَا لَاحَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى الْمَنْطُوقِ، فَصَارَ مُجْمِلًا كَاللَّفْظِ الْمُجْمِلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعَارُضُ الْفَوَائِدِ فِي الْمَفْهُومِ، كَتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، فَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ الْمُغَايَرَةَ دُونَ اعْتِبَارِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا حَاجَةَ إلَى دَلِيلٍ فِي تَرْكِ هَذَا الْمَفْهُومِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ، إذْ الشِّقَاقُ يُنَاسِبُ الْخُلْعَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ الْخِلَافِ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ، فَلَا تُرْفَعُ الْفَحْوَى الْمَعْلُومَةُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الْقُوَّةِ مَبْلَغَ مَا يُشْتَرَطُ فِي تَرْكِ مَفْهُومٍ لَا يُقْصَدُ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ مُوهِمَةٌ. اهـ.
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي

(5/141)


شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ مَنْشَؤُهُ طَلَبُ الْفَائِدَةِ فِي التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْمُخَالَفَةُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ أَرْجَحَ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ ظَاهِرًا، ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالذِّكْرِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، لِوُجُودِ الْمُزَاحِمِ الرَّاجِحِ بِالْعَادَةِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ) ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ بِالْمَفْهُومِ، وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ وَالْعَادَةَ السَّوْمُ، فَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَفْهُومٌ.
قُلْت: قَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا السُّؤَالَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ الْعَفْوُ عَنْ الزَّكَاةِ فِيمَا أُعِدَّ لِلْقُنْيَةِ، وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ لِلتَّنْمِيَةِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ. هَذَا أَصْلُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ. لَكِنَّ الْقَفَّالَ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَبَقَ رَدُّهُ. عَلَى أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " يُخَالِفُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: وَإِذَا قِيلَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا، فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا قِيلَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ، وَالشَّيْءُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ، يُؤْخَذُ حَقُّهُ كَذَا، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ صِفَتَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا نَأْخُذُ مِنْ الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةَ الْغَنَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْغَنَمِ، فَهَكَذَا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، لِأَنَّهَا الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ دُونَ مَا سِوَاهَا. اهـ. فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْغَلَبَةَ إلَّا لِذَكَرِ الْغَنَمِ حَتَّى أَلْحَقَ بِهَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، وَلَمْ يَجْعَلْ السَّوْمَ غَالِبًا.

(5/142)


وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغَرَضُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يُلْغِي الْقَيْدَ الَّذِي قَيَّدَ بِهِ الشَّارِعُ كَلَامَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ مَا مِثْلُ إنْ خَرَجَ عَنْ الْمُعْتَادِ الْغَالِبِ فِي الْعُرْفِ كَفَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي " الرِّسَالَةِ " كَلَامًا بَالِغًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ: إذَا تَرَدَّدَ التَّخْصِيصُ بَيْنَ تَقْدِيرِ نَفْيِ مَا عَدَا الْمُخَصَّصَ، وَبَيْنَ قَصْدِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى مَجْرَى الْعُرْفِ، فَيَصِيرُ تَرَدُّدُ التَّخْصِيصِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، كَتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَيُلْحَقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . فَاسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إشْهَادِ الرِّجَالِ خَارِجٌ عَلَى الْعُرْفِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّهْرَةِ، وَهَتْكِ السِّتْرِ، وَعَسُرَ الْأَمْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَجَرَى التَّقْيِيدُ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْغَالِبِ، وَكَقَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ. وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ بِالذَّكَرِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِثْلُهُ بِاللَّقَبِ، وَلَكِنْ إنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْإِشْعَارِ عَلَى مُقْتَضَى حَقَائِقِهِ مِنْ كَوْنِهِ شَرْطًا، فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ بِاحْتِمَالٍ يُؤَوَّلُ إلَى الْعُرْفِ. نَعَمْ، يَظْهَرُ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُؤَوِّلِ، فِي قَرِينَةِ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلتَّأْوِيلِ. وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَزَادَ فَقَالَ: يَنْبَغِي الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ إلَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَالْمُتَكَلِّمُ

(5/143)


يَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَتَى بِهَا مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهَا لِتَدُلَّ عَلَى سَلْبِ الْحُكْمِ عَمَّا يُفْهِمُ السَّامِعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَدْ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ غَالِبًا كَانَ لَازِمًا لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِسَبَبِ الشُّهْرَةِ وَالْغَلَبَةِ، فَذِكْرُهُ إيَّاهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ مَعَ الْحَقِيقَةِ إلَّا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهِ، لِعَدَمِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ حِينَئِذٍ، فَاسْتِحْضَارُهُ مَعَهُ وَاسْتِجْلَابُهُ لِذِكْرِهِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَرْضُ عَدَمُ ظُهُورِ فَائِدَةٍ أُخْرَى، فَيَتَعَيَّنُ التَّخْصِيصُ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا، وَاعْتَرَضَ بِالِاسْتِفْسَارِ.
فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ بِالْغَالِبِ؟ أَعَادَةُ الْفِعْلِ أَمْ عَادَةُ التَّخَاطُبِ؟ فَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ الْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ إلَّا إذَا صَحِبَهَا عَادَةُ التَّخَاطُبِ، وَدَعْوَى أَنَّ عَادَةَ الْفِعْلِ مُسْتَلْزِمَةٌ عَادَةَ التَّخَاطُبِ ضَعِيفَةٌ بِمَنْعِ تَسْلِيمِ اللُّزُومِ. وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ لِغَلَبَتِهَا، وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا. وَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِثْبَاتُهَا فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَى عَسِيرٌ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ، وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ مِنْ إيقَاعِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، إيقَاعُ الْعِلْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ إنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُسَمَّى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ زِيَادَةُ الِامْتِنَانِ عَلَى الْمَسْكُوتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْقَدِيدِ.

(5/144)


الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ لِسُؤَالٍ عَنْ حُكْمِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَلَا حَادِثَةَ خَاصَّةٌ بِالْمَذْكُورِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: كَيْفَ جَعَلُوا هُنَا السَّبَبَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ إعْمَالِ الْمَفْهُومِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ صَارِفًا عَنْ إعْمَالِ الْعَامِّ، بَلْ قَدَّمُوا مُقْتَضَى اللَّفْظِ عَلَى السَّبَبِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالُوهُ، فَهَلَّا جَرَى فِيهِ خِلَافٌ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ. ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ " الْمُسَوَّدَةِ " حَكَى عَنْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٌ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ إلَّا عَنْ النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إذَا حَلَّ دَيْنُهُ يَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَيُضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ وَتَأْكِيدُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ) فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْإِيمَانِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ لَا الْمُخَالَفَةِ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ: (إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) إذْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ إنَّمَا هُوَ النَّسِيئَةُ.
السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا، فَلَوْ ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]

(5/145)


فَإِنَّ قَوْلَهُ: " فِي الْمَسَاجِدِ " لَا مَفْهُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْعِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ مُطْلَقًا.
السَّابِعُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ: " كُلِّ شَيْءٍ " التَّعْمِيمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرُ الْحُكْمِ.
الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ، فَلَا يُحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» إذْ لَوْ صَحَّ، لَصَحَّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ الَّذِي نَطَقَ الْحَدِيثُ بِمَنْعِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطُوقُ مَعْنَاهُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ فِي إبَاحَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، وَسَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، كَتَقْيِيدِ الْفِطْرِ بِالْخَوْفِ، وَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ.
وَقَالَا: عَمَّمَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ الْحُكْمَ فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى النُّصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَلَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مَعَ أَمْنِ إمْلَاقٍ. وَقَالَ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]

(5/146)


وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ، فَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا، وَلَمْ يَصِرْ نَسْخًا، جَازَ أَنْ يَسْقُطَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا سَقَطَ التَّقْيِيدُ كَانَ مُقَيَّدًا؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَأْخُوذًا مِنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، لِيَسْتَعْمِلَهُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا، فَإِنَّ الْحَوَادِثَ غَيْرُ مُنْقَرِضَةٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالدِّينَارِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ. وَإِنْ احْتَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا وَجَبَ النَّظَرُ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ، فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، وَصَارَ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ، وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حُكْمُهُ عَلَى تَقْيِيدٍ، وَجُعِلَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ.

(5/147)


[فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ الْمَفْهُومِ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ]
فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ
وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، أَوْ اسْمِ نَوْعٍ، نَحْوُ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، كَمَا قَالَهُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ. وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ، وَبِهِ اُشْتُهِرَ، وَزَعَمَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا غَيْرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": ثَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ حِكَايَتَهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " التَّلْوِيحِ ": إنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ فُورَكٍ كَانَ يَمِيلُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَالْأَقْيَسُ. وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي " نَتَائِجِ الْفِكْرِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَلَعَلَّهُ تَحَرَّفَ عَلَيْهِ بِالدَّقَّاقِ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي التَّحْقِيقِ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا.

(5/148)


وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَائِلِ الْمَفْهُومِ فِي " الْبُرْهَانِ ": مَا صَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ صَارَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي " التَّمْهِيدِ " عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. اهـ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ أُشِيرَ إلَى مَالِكٍ الْقَوْلُ بِهِ لِاسْتِدْلَالِهِ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ لَيْلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قَالَ: فَذَكَرَ الْأَيَّامَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّيَالِي، وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَالْبَاجِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " قَوْلًا ثَالِثًا عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ فَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، نَحْوُ: فِي السُّودِ مِنْ النَّعَمِ الزَّكَاةُ، وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ، إلَّا أَنَّ مَدْلُولَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ، وَهُمَا فِي الدَّلَالَةِ مُتَسَاوِيَانِ. وَحَكَى ابْنُ حَمْدَانَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ قَوْلًا رَابِعًا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فَيَكُونَ حُجَّةً، كَقَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» إذْ قَرِينَةُ الِامْتِنَانِ تَقْتَضِي الْحَصْرَ فِيهِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَقَدْ سَفَّهُ الْأُصُولِيُّونَ الدَّقَّاقَ، وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ، وَقَالُوا: هَذَا خُرُوجٌ عَنْ حُكْمِ اللِّسَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: رَأَيْت زَيْدًا لَمْ يَقْتَضِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا، وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ، فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّبَا بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَلَوْ قُلْنَا بِهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ.

(5/149)


قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ سَرَفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالِاسْمِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا، وَلَا يَتَعَيَّنُ انْتِفَاءُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ وَرَاءَ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون مِنْ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ فِي التَّخْصِيصِ نَفْيُ مَا عَدَا الْمُسَمَّى بِلَقَبِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ: رَأَيْت زَيْدًا، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ. فَإِنْ هُوَ أَرَادَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّمَا رَأَيْت زَيْدًا، وَمَا رَأَيْت إلَّا زَيْدًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاللَّقَبِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا، وَلَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ. وَالدَّقَّاقُ يَقُولُ: يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُعَيَّنًا. وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " أَنَّهُ حُجَّةٌ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ. قَالَ: وَلِهَذَا رَدَدْنَا عَلَى ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي تَعْلِيلِهِ تَخْصِيصَ الْأَرْبَعَةِ فِي الرِّبَا بِالذِّكْرِ، حَيْثُ عَلَّلَ الرِّبَا بِالْمَالِيَّةِ الْعَامَّةِ، إنْ قُلْنَا: لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ غَالِبَ مَا يُعَامَلُ بِهِ، وَكَانَ [الْحِجَازُ مَصَبَّ التُّجَّارِ] فِي الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ، فَلَوْ ارْتَبَطَ الْحُكْمُ بِالْمَالِيَّةِ لَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا أَسْهَلَ مِنْ التَّخْصِيصِ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» فَكَانَ هَذَا مَأْخُوذًا مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَعَ التَّخْصِيصِ بِاللَّقَبِ. وَهَاهُنَا أُمُورٌ مُهِمَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قَالَ فِي كِتَابِهِ " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ أَلْزَمَ الدَّقَّاقَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ فَالْتَزَمَهُ.
قَالَ: وَكُنَّا نُكَلِّمُهُ فِي هَذَا فِي الدَّرْسِ، فَأَلْزَمْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: صُمْ، يَجِبُ

(5/150)


أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا قَالَ: صَلِّ، يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ كَذَلِكَ أَقُولُ. فَقُلْنَا: إذَا قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ: يَا زَيْدُ تَعَالَ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْتُوهُ. قَالَ: كَذَلِكَ أَقُولُ: فَقُلْنَا: إذَا وَصَلْنَا إلَى هَذَا سَقَطَ الْكَلَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا الَّذِي رَكَّبَهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ مِمَّا يَتَخَالَجُ لِقَبُولِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجْهٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ: وَلَوْ تَصَوَّرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَمْ يَصِرْ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِهِ الْعَامِّ مُقَيَّدًا بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ، نَحْوُ: اُقْتُلْ أَهْلَ الْكِتَابِ الْيَهُودَ مِنْهُمْ.
قَالَ: وَكَانَ الدَّقَّاقُ إذَا جَرَى لَهُ كَلَامٌ فِي مِثْلِهِ يَذْكُرُهُ فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ، وَيُعِيدُهُ، وَيَتَحَجَّجُ لَهُ، وَيَنْصُرُهُ، وَرَأَيْنَاهُ كَأَنَّهُ اسْتَحَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَكَّبَهُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، فَلَمْ نَرَهُ عَادَ إلَيْهِ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فِي كِتَابٍ. اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الدَّقَّاقِ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ أَوْ تَوَقُّفِهِ فِيهِ. وَلَيْسَ مَا أُلْزِمَ بِهِ الدَّقَّاقُ بِعَجِيبٍ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَقُولُ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النُّطْقِ بِخِلَافِهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: إطْلَاقُ أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا قَدْ اسْتَشْكَلَ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ قَالُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ وَاحْتَجُّوا بِهِ كَاحْتِجَاجِهِمْ فِي تَعْيِينِ الْمَاءِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِحَدِيثِ: (حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ) . وَعَلَى تَعْيِينِ التُّرَابِ بِالتَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ: (وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا) . وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ اللَّقَبِ، بَلْ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى انْتَقَلَ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ أَفَادَ الْمُخَالَفَةَ، فَلَمَّا تَرَكَ الِاسْمَ الْعَامَّ وَهُوَ الْأَرْضُ إلَى الْخَاصِّ وَهُوَ التُّرَابُ، جُعِلَ دَلِيلًا. وَأَمَّا فِي الِاسْمِ فَلِأَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمُعَيَّنِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ صِفَةً أَوْ لَقَبًا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عَلَيْهِ

(5/151)


وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَدْ اعْتَرَضَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْمَاءِ فِي النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ) بِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِلَقَبٍ، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَيُقَالُ عَلَيْهِ: مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِضَرُورَةِ الِامْتِثَالِ، وَلَا نَظَرَ هُنَا لِكَوْنِهِ لَقَبًا أَوْ صِفَةً، وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّمُ مَثَلًا. فَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّمِ يَجُوزُ غَسْلُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، عَمَلًا بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّ الدَّمَ لَقَبٌ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. اهـ.
وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ ": احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَا يُطَهِّرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . فَنَقُولُ: الْحُكْمُ غَيْرُ الْمَاءِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْمِ لَا بِالصِّفَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا إنَّمَا عُوِّلَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَجْرِي فِيهَا مَجْرَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ الْمَاءُ، يُخَالِفُ اتِّصَافَهُ، فَأُجْرِيَ مَجْرَى كَوْنِ الْإِبِلِ سَائِمَةً أَوْ عَامِلَةً. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ حُجَّةً، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: (إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا) يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَجْلِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ، فَيَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ جَوَازُ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَا مَوْجُودٌ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ فِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ وَهُوَ مَحَلُّ الْعِبَادَةِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّعَبُّدِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ.

(5/152)


قُلْت: وَلِهَذَا يَنْفَصِلُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ فِي اخْتِصَاصِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا.
وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَفْهُومِ وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ غَانِمًا، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ سَالِمٍ، لَا لِأَجْلِ النَّصِّ عَلَى بَيْعِ غَانِمٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبِيعُ إلَّا بِإِذْنٍ، وَالْحَجْرُ سَابِقٌ، وَالْإِذْنُ قَاصِرٌ، فَيَبْقَى الْحَجْرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِذْنِ.
قُلْت: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذَا مِنْ زَيْدٍ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ مِنْهُ. فَلَا يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ فِي تَخْصِيصِهِ، لِكَوْنِ مَالِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحِلِّ وَنَحْوِهِ. فَفِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ، فَلِهَذَا قُلْنَا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ مَاتَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُحَابَاةً صَحَّ، وَتَعَيَّنَتْ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحَابَاةً فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ حِينَئِذٍ. وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِلْأَوْلِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْبِرِينَ: رَضِيت بِأَنْ أُزَوَّجَ مِنْ فُلَانٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَزْوِيجُهَا مِنْهُ، فَلَوْ عَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاحِدًا، فَهَلْ يَنْعَزِلُ الْآخَرُونَ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِزَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ.
قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ جَحَدَ نُبُوَّتَهُ كَفَرَ. وَحَكَاهُ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ ثَمَّ: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافُهُ، وَفِي هَذَا نَفْيُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ.

(5/153)


الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": يَنْبَغِي تَحَقُّقُ الْمُرَادِ بِاللَّقَبِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْتَجَلَ فَقَطْ، بَلْ الْمُرْتَجَلُ وَالْمَنْقُولُ مِنْ الصِّفَاتِ. وَقَدْ جَعَلَ الْغَزَالِيُّ مِنْهُ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا يُطْعَمُ إذْ لَا يُدْرَكُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَفِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ، وَإِنْ كَانَتْ " الْمَاشِيَةُ " مُشْتَقَّةً. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ إلْحَاقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ بِاللَّقَبِ تَبِعَهُ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ، لِأَنَّ الصِّفَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مُتَخَيَّلَةً، إذْ الطَّعَامُ لَا يُنَاسِبُ حُكْمَ الرِّبَا. لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يَلْحَقُ بِالصِّفَةِ الصَّرِيحَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ يَتَضَمَّنُ صِفَةً. وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ اسْمَ الْجِنْسِ وَالْعَلَمَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ. قَالَ: لِتَخْصِيصِ الرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، وَقَوْلُنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: اللَّقَبُ كَالْأَعْلَامِ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ. قَالَ: وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ فِي الْجَمِيعِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ لِلْآمِدِيِّ.

[تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ]
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى كَالْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَالزَّانِي، وَالْقَاتِلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّفَةِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ. فَإِنْ كَانَ لِمَعْنَى اشْتِقَاقِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ اسْتَعْمَلَ دَلِيلَ خِطَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ دَلِيلَ خِطَابِهِ. فَإِنْ مَا لَا يُؤَثِّرْ فِي الْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: اسْمُ لَقَبٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ حُجَّةٍ.

(5/154)


وَخَالَفَ فِيهِ الدَّقَّاقُ، قَالَ: وَيَلْتَحِقُ بِاللَّقَبِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: فِي هَذَا الْمَالِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْحَجُّ، فَدَلِيلُ خِطَابِهِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَلَا يَدُلُّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى تَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا كَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ. اهـ.

[النَّوْعُ الثَّانِي مَفْهُومُ الصِّفَةِ]
وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ، نَحْوُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى الْحَمْلِ، وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ لِلْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُؤَبَّرَةً، فَيَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْحَامِلِ، وَلَا ثَمَرَةَ لِبَائِعِ النَّخْلَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَمْثِيلُهُمْ بِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ، مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ إنَّمَا هُوَ بِالْإِضَافَةِ فَقَطْ وَقَدْ جَعَلُوهُ صِفَةً. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَمُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ. وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ

(5/155)


عَنْ اخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُد، وَأَبُو ثَوْرٍ. قُلْت: وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَنَقَلَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعْقُولٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَوُصِفَ أَحَدُهُمَا بِصِفَةٍ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ بِخِلَافِهِ. اهـ.
وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ إنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ حَكَى فِي الْقَوْلِ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ: قَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] مَفْهُومُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْفَاسِقِ لَا نَتَبَيَّنُهُ، وَتَمَسَّكَ أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِ {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . قَالَ: مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجِنَانِ، وَهَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ".
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ فِي " اللُّمَعِ "، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ. اهـ. وَبِهَذَا يُرَدُّ نَقْلُ صَاحِبِ " الْمَعَالِمِ " عَنْ مَالِكٍ مُوَافَقَةً أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: وَلَعَلَّهُمَا يُنْقَلَانِ عَنْهُ بِالتَّخْرِيجِ فِي مَسَائِلَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ دَخَلَ النَّارَ» وَقُلْت أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. اهـ. وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنْهُ إلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَطَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى

(5/156)


نَفْيِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقَدْ رَآهُ الْحَنَفِيَّةُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ. اهـ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ، زَادَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ. قَالَ: وَأَضَافَ ذَلِكَ ابْنُ سُرَيْجٍ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَبَاحَ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَأَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَتَلَطَّفَ، وَقَالَ: إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْمَفْهُومِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ. اهـ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيَّ، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " فِيهِ. وَاخْتَارَ فِي " الْمَعَالِمِ " خِلَافَهُ. وَمِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَخْفَشُ، وَابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ "، وَابْنُ جِنِّي. وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ جَوَابَ سُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ حُجَّةً، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ مُوجِبٍ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مَذْهَبًا آخَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَصْلِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ.
وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ: (فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ) ، أَوْ مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ، نَحْوُ: خَبَرِ التَّحَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، أَوْ يَكُونُ مَا عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ، نَحْوُ: الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.

(5/157)


وَفَصَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا نَقَلَهُ الرَّازِيَّ عَنْهُ مِنْ الْمَنْعِ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَهُمَا نَقْلَانِ مُتَنَافِيَانِ. نَعَمْ، صُرِّحَ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ " الْأَسَالِيبِ " بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، فَقَالَ: إذَا عَلَّلْنَا بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ، فَلَا تُشْتَرَطُ الْإِحَالَةُ فِي الْمَفْهُومِ، بَلْ نَقُولُ: إذَا خُصِّصَ مَوْصُوفٌ بِذِكْرٍ أَيَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْدِ إحَالَةً فِي الصِّفَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: وَمِنْ سِرِّ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِلَلِ مِنْ السَّلَامَةِ عَنْ الْقَوَادِحِ، وَصَلَاحِيَّتِهِ اسْتِقْلَالًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إلَى اللَّفْظِ، وَالْمُنَاسَبَةُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ لِتَرْجِيحِ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَقَطْعِ الْإِلْحَاقِ. وَخَالَفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الشَّافِعِيَّ فِي زِيَادَةِ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَالَ: لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا مُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ فَالْمَوْصُوفُ بِهَا كَاللَّقَبِ.
قُلْت: وَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّا إذَا أَثْبَتْنَاهُ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؟ قَوْلَانِ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَهَذَا شَرْطُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَعَلَى هَذَا مَحَلُّ الْقَوْلِ بِهِ إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ تَعْلِيلٌ بِهَا فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ قَضِيَّةُ اخْتِيَارِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ. وَقَدْ رَدَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هَذَا التَّفْصِيلَ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِ

(5/158)


الشَّافِعِيُّ، وَبِأَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الِانْعِكَاسُ. اهـ. وَالْإِمَامُ قَدْ أَوْرَدَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ قَضِيَّةَ اللِّسَانِ هِيَ الدَّالَّةُ عِنْدَ إحَالَةِ الْوَصْفِ عَلَى مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا وَضْعُ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَاهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللِّسَانِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَإِذَا قُلْنَا: حُجَّةٌ، فَهَلْ دَلَّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ أَمْ اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ".
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُمَا فِي صِيَغِ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقْصِدُونَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ. وَأَمَّا انْتِقَاؤُهُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصِّفَةِ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلِانْتِفَاءِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مُمْكِنَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. .

[الصِّفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ]
ثُمَّ إنَّ الصِّفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يُقْتَصَرُ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، وَتَارَةً تُذْكَرُ الصِّفَةُ وَالْمَوْصُوفُ مَعًا كَقَوْلِهِ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ، فَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَقْوَى مِنْ التَّرَتُّبِ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ، إذْ لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِحَالَةِ السَّوْمِ لَوَقَعَ ذِكْرُ السَّوْمِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.

[صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنْ تُذْكَرَ ذَاتٌ، ثُمَّ تُذْكَرَ صِفَتُهَا، كَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ، وَالرَّجُلِ الْقَائِمِ. أَمَّا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْقَائِمِ فَقَطْ، أَوْ السَّائِمَةِ فَقَطْ، فَهَلْ هُوَ كَالصِّفَةِ، أَوْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا جُعِلَ لَهَا مَفْهُومٌ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهَا إلَّا نَفْيُ الْحُكْمِ، وَالْكَلَامُ بِدُونِهَا لَا يُحْتَمَلُ، وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَكَاللَّقَبِ يَخْتَلُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعِبَارَةُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ: الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ يَجْرِي مَجْرَى تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ فِي اسْتِعْمَالِ دَلِيلِهِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْظَرُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، فَإِنْ صَلَحَ لِلْغَلَبَةِ اُسْتُعْمِلَ، وَإِلَّا فَلَا. اهـ.

(5/159)


وَجَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ، فَإِنَّ ذُكِرَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ سَائِمَةِ غَيْرِ الْغَنَمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَلْقَابِ. وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهَا غَنَمًا، وَكَوْنُهَا سَائِمَةً. وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ أَحَدِهِمَا. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ الْوَجْهَانِ.
قَالَ: فَإِنْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ وَشَعْرَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؟ وَهَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. اهـ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: هَذَا إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَقْصُودَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلَى قَوْله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تُذْكَرْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ رَفْعِ الْحَرَجِ عَمَّنْ طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ، هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ إيجَابُ الْمُتْعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُعَلَّقٍ عَلَى الصِّفَةِ. اهـ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْقِيَاسُ تَخْصِيصُ الْمُتْعَةِ لَهَا، لِأَنَّ الصِّفَةَ عُلِّقَ بِهَا حُكْمَانِ، فَاقْتَضَى انْتِفَاءَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بِانْتِفَائِهَا. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: مَوْضِعُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ، كَقَوْلِهِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» ، «وَالسَّائِمَةُ فِيهَا الزَّكَاةُ» . وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَطْرَأُ، وَلَا تَزُولُ، كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، نَحْوُ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» فَفِيهِ خِلَافٌ.

(5/160)


وَجَزَمَ الْعَبْدَرِيّ، وَابْنُ الْحَاجِّ بِاشْتِرَاطِ هَذَا، وَزَادَا شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَقِيضُ الصِّفَةِ يَخْطِرُ بِالْبَالِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ الْعَامَّ ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الْخَاصَّةَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ» وَكَقَوْلِهِ: مَنْ يَلُومُ الْعُلَمَاءَ الصَّالِحِينَ؟ فَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَعُمُّهَا لَمَا أَنْشَأَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاكًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ. نَعَمْ، التَّخْصِيصُ يُفْهِمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْطُوقُ بِهِ، أَمَّا إنَّهُ يَنْفِي الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ فَلَا. اهـ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ السُّهَيْلِيِّ هَذِهِ الصُّورَةُ.

[تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الصِّفَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ]
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ، ثُمَّ الصِّفَةُ فِيهِمَا إمَّا أَنْ تَتَبَدَّلَ أَوْ لَا. وَبَقِيَتْ صُورَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصِّفَةِ، نَحْوُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ وَهَذَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ عَهْدٍ بِمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ التَّقْيِيدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ. وَالْغَنَمُ مَوْصُوفٌ، وَالسَّائِمَةُ صِفَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قِيلَ: وَالظَّاهِرُ تَغَايُرُهُمَا، وَأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ صِلَةٍ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ فِيهِمَا مُتَغَايِرٌ، فَالْمُقَيَّدُ فِي قَوْلِنَا. فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ، إنَّمَا هُوَ الْغَنَمُ. وَفِي قَوْلِنَا: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إنَّمَا هُوَ السَّائِمَةُ، فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ، إذْ لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِالسَّوْمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ الْغَنَمِ.

(5/161)


وَمَفْهُومُ الثَّانِي عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي سَائِمَةٍ غَيْرِ الْغَنَمِ كَالْبَقَرِ مَثَلًا، إذْ لَوْلَا تَقْيِيدُ السَّائِمَةِ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْغَنَمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ السَّائِمَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا التَّرْكِيبِ الثَّانِي فَمِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرٌ.

[الثَّانِي اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ]
الثَّانِي: هَذَا إذَا تَجَرَّدَتْ الصِّفَةُ عَنْ دَلِيلٍ آخَرَ، فَلَوْ اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي دَلِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطْلَقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] قَضِيَّتُهُ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَدَلِيلُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} فَهَلْ يَكُونُ إطْلَاقُ الْمُتْعَةِ مَعْطُوفًا عَلَى الْعِدَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ بِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَصِيرُ الْمُتْعَةُ بِالْعَطْفِ عَلَى الْعِدَّةِ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الدُّخُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَ " مَتِّعُوهُنَّ " لَا يُقَيَّدُ بِمَا تَقَدَّمَ. .

[الثَّالِثُ إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ]
الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ هُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ، ثُمَّ يَرِدُ إخْرَاجُ فَرْدٍ مِنْهُ بِالْوَصْفِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْغَنَمِ مُطْلَقًا، ثُمَّ وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَقَيُّدِهَا بِالسَّائِمَةِ، فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فَيَسْتَصْحِبُهُ، وَلَا يُجْعَلُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْوَصْفِ أَثَرًا مَعَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَرِدَ الْوَصْفُ مُبْتَدَأً كَمَا يَقُولُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطِّوَالَ،

(5/162)


فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطِّوَالِ لَا يَجِبُ إكْرَامُهُمْ، فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ.

[الرَّابِعُ أَصْلُ وَضْعِ الصِّفَةِ أَنْ تَجِيءَ لِلتَّخْصِيصِ فِي النَّكِرَاتِ]
ِ، وَلِلتَّوْضِيحِ فِي الْمَعَارِفِ، نَحْوُ: مَرَرْت بِرَجُلٍ عَاقِلٍ وَزَيْدٍ الْعَالِمِ. وَقَدْ تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ، كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِمُجَرَّدِ الذَّمِّ، نَحْوُ: الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، أَوْ لِلتَّوْكِيدِ، نَحْوُ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا مَفْهُومَ لَهَا. وَقَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّوْضِيحِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَلْيُرَاجَعْ.

[النَّوْعُ الثَّالِثُ مَفْهُومُ الْعِلَّةِ]
ِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، مِثْلُ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا، وَالسُّكْرُ لِحَلَاوَتِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الشَّدِيدِ وَالْحُلْوِ لَا يُحَرَّمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ، بَلْ تَتِمَّةً لِلْعِلَّةِ كَالسَّوْمِ. فَإِنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَالسَّوْمَ مُتَمِّمٌ. قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ: وَالْخِلَافُ فِيهِ وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ، وَصَمَّمَا عَلَى إنْكَارِهِ لَا سِيَّمَا إذَا جَوَّزْنَا تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهَا، وَلَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ فَقَطْ.

(5/163)


[تَنْبِيهٌ فَهْمُ الْعِلَّةِ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ]
تَنْبِيهٌ
أَمَّا فَهْمُ الْعِلَّةِ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] فَإِنَّهُ كَمَا فُهِمَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فُهِمَ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَهُوَ إنْ كَانَ غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحَوَى الْكَلَامِ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ الْمَفْهُومِ، وَأَلْحَقَهُ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أَقْسَامِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ.

[النَّوْعُ الرَّابِعُ مَفْهُومُ الشَّرْطِ]
ِ اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ. وَفِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ: مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ " إنْ، وَإِذَا " أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالظُّرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ وَمُسَبَّبِيَّةِ الثَّانِي.

(5/164)


وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَعْنِي اللُّغَوِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ وَالْعَقْلِيَّ، نَحْوُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ إجْمَاعًا، وَيَنْتَفِي بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ الْمَفْهُومُ. قَالُوا: وَهُوَ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ.
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهُ فَاخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْكَرْخِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إلَى لُزُومِ الْقَوْلِ [بِهِ] ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ - كَمَا نَقَلَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " - إلَى الْمَنْعِ، وَقَالُوا: لَا يَنْتَفِي بِعَدَمِهِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ، وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ.
وَقَدْ احْتَجَّ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي بَابِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ. يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لِمَاذَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا. وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ خِفْتُمْ} ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَعَجَّبْت مِمَّا تَعَجَّبْت مِنْهُ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . قَالَ: وَهُمَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَأَرْبَابِ اللِّسَانِ، وَعَرَفَا مِنْ الْآيَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ يَعْنِي الشَّرْطِيَّ حُجَّةً. وَإِنَّمَا تَرَكَاهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ.

(5/165)


وَقَدْ بَالَغَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِهَذَا الْمَفْهُومِ. وَقَالَ: مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، فَإِنْ سَلَّمَ الْخَصْمُ اقْتِضَاءَ الشَّرْطِ تَخْصِيصَ الْجَزَاءِ بِهِ تَعَدَّيْنَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ، وَإِنْ اسْتَقَرَّ عَلَى النِّزَاعِ اكْتَفَيْنَا بِنِسْبَتِهِ إلَى الْجَهَالَةِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْمُرَاغَمَةِ وَالْعِنَادِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ قَاطِبَةً أَنَّهَا وَضَعَتْ بَابَ الشَّرْطِ لِتَخْصِيصِ الْجَزَاءِ بِهِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَنْ أَكْرَمَنِي أَكْرَمْته، فَقَدْ أَشْعَرَ بِاخْتِصَاصِ إكْرَامِهِ بِمَنْ يُكْرِمُهُ. وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يُكْرِمَ مُكْرِمَهُ، وَيُكْرِمَ غَيْرَهُ أَيْضًا، فَقَدْ آلَ الْكَلَامُ مَعَهُ إلَى التَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ وَالْإِحَالَةِ عَلَى تَعَلُّمِ مَذْهَبِ الْعَرَبِ.
قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ: لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ أَكْرَمَنِي أَكْرَمْته كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ إكْرَامِ مُكْرِمِهِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ إكْرَامِ غَيْرِ مُكْرِمِهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَمْ لَا؟ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوضَعْ لَأَنْ يُكْرِمَ مُكْرِمَهُ وَيُكْرِمَ غَيْرَ مُكْرِمِهِ، فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى إثْبَاتِ إكْرَامِ غَيْرِ مُكْرِمِهِ بِالِاتِّفَاقِ، لَا بِالْمَنْطُوقِ وَلَا بِالْمَفْهُومِ، وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا إكْرَامَ مُكْرِمِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا غَيْرُ مُكْرِمِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْوَعْدِ. وَلَا دَلَالَةَ لِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى إكْرَامِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُحَالٍ وَلَا مُنَافٍ لِاخْتِصَاصِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ.

[تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الشَّرْطَ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ]
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: سَبَقَ فِي التَّخْصِيصِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّرْطِ خِلَافٌ فِي أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْجَزَاءُ، وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ. وَهُوَ أَصْلُ الْخِلَافِ هُنَا. فَعَلَى الثَّانِي يُجْعَلُ التَّعْلِيقُ إيجَادًا لِلْحُكْمِ عَلَى

(5/166)


تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِعْدَامًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ. فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا. وَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ سَكْتًا عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ، فَصَارَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلًا مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلِ عَدَمِ الثُّبُوتِ لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا مُسْتَفَادًا مِنْ النَّظْمِ.
قَالَ فِي الْبَدِيعِ: وَنَصَّ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْخِلَافَ عَلَى حَرْفٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْحُكْمِ، فَالتَّعْلِيقُ سَبَبٌ عِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى عَدَمِ سَبَبِهِ، وَعِنْدَهُ إلَى انْتِفَاءِ شَرْطِهِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ قَبْلَهُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُمْتَنِعٌ، وَطَوْلُ الْحَرَّةِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.

[الثَّانِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ]
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَنْزَعُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِلَّا لَكَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ نَسْخًا، وَلَخَلَا مِنْ الْفَائِدَةِ. وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَيَقُولُ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّك طَالِقٌ، لَا تَطْلُقُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ. فَلَوْلَا أَنَّ الشَّرْطَ يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ قَبْلَهُ لَوَجَبَ الْوُقُوعُ عَمَلًا بِالْمُقْتَضَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ. .

[الثَّالِثُ هَلْ الدَّالُّ عَلَى الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ]
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هُوَ اللُّغَوِيُّ سَبَقَ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِي الْمُسَمَّى بِانْتِفَائِهِ وَلَا يُوجَدُ بِوُجُودِهِ، وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ إلَّا فِي وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِوُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا عَدَمُهُ فَإِمَّا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ

(5/167)


قَبْلَ التَّعْلِيقِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ كَمَا سَبَقَ. فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الشَّرْطِ. وَمَنْ قَالَ: الْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ " إنْ " صَرِيحٌ، فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَيْسَ إلَّا، أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَفْهُومِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ هَلْ الدَّالُّ عَلَى الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ؟ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً، قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ بِالثَّانِي. وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: ثُبُوتُ الْجَزَاءِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ. وَثَانِيهَا: عَدَمُ الْجَزَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. وَثَالِثُهَا: دَلَالَةُ النُّطْقِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَرَابِعُهَا: دَلَالَتُهُ عَلَى الثَّانِي. فَأَمَّا الدَّلَالَةُ الْأُولَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَالرَّابِعُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْجَزَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. لَكِنْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ ثُبُوتُهُ لِدَلَالَةِ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ النُّفَاةِ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَالْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّتِهِ، فَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي دَلَالَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ، لَا عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ. فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ النَّاطِقُ بِكَلَامٍ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سَائِرِ الْمَفَاهِيمِ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ وَهُوَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لَهُ: انْتِفَاءُ الْمُعَلَّقِ حَالَ عَدَمِ الشَّرْطِ، لَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُتَعَلِّقِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ النَّصِّ. قَالَ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هَلْ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ عِلَّةِ الْحُكْمِ؟ فَعِنْدَنَا يَمْنَعُ، وَعِنْدَهُمْ لَا. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، وَالشَّرْطُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْحُكْمِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حَتَّى تُوجِبَ الْحُكْمَ، فَلَمْ يُتَصَوَّرُ اسْتِنَادُ مَنْعِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ.

(5/168)


[فَائِدَةٌ الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ]
فَائِدَةٌ الْغَزَالِيِّ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَرَأَى مُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عُمْدَتُهُ فِيهِ مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] . قَالَ: إنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ انْقِطَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ. وَالْحَامِلُ هِيَ الْمُسْتَثْنَى فَنَفْيُ غَيْرِ الْحَامِلِ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ، فَانْتَفَتْ نَفَقَتُهَا لَا بِالشَّرْطِ، لَكِنْ بِانْتِفَاءِ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ عِلَّةَ النَّفَقَةِ. وَهَذَا نَظِيرُ امْتِنَاعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنْ الْمَفْهُومِ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا، فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْحُكْمِ لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَخْذِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَصَّصًا وَلَا نَاسِخًا يَبْقَى الْجَوَازُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَإِنْ لَمْ يُفْهَمُ مَدْلُولُهُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ هَذِهِ الشُّرُوطِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ. اهـ.

(5/169)


[النَّوْعُ الْخَامِسُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ]
ِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، كَقَوْلِهِ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَهُوَ دَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْقَاضِيَانِ: أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، وَجَرَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ "، وَسُلَيْمٌ. قَالَ: وَهُوَ دَلِيلُنَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَالتَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْجَمَاعَةِ مِنْ " الْمَطْلَبِ ": إنَّهُ الْعُمْدَةُ لَنَا فِي عَدَمِ تَنْقِيصِ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ الثَّلَاثَةِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَتَعَجَّبْت مِنْ النَّوَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ سَبَقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ مِنْ اللَّقَبِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَدُلُّ، وَهُوَ رَأْيِ مُنْكِرِي الصِّفَةِ كَالْقَاضِي، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: «خَمْسٌ

(5/170)


فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» : إنَّهُ يَبْقَى غَيْرُهَا بِالْعَدَدِ. وَأَجَابَ عَنْ (خَمْسِ رَضَعَاتٍ) بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَنْتِفْ تَحْرِيمُ الرَّضْعَةِ، لِثُبُوتِهِ فِي إطْلَاقِ: {أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الصَّرِيحِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ فِي الْمَخْصُوصِ: إنَّهُ حُجَّةٌ، كَقَوْلِهِ: (خَمْسٌ فَوَاسِقُ) . وَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيِّتَةِ غَيْرُ مُبَاحٍ. وَلَقِيت مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ قَدْ احْتَجَّ بِهِ، وَلَا أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْهُ. قَالَ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالْعَدَدِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَكُونَ حُجَّةً، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِهِ كَقَوْلِهِ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الرِّبَا فِي السِّتَّةِ، كَمَا قِيلَ: خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَدَدِ إذَا وَرَدَ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ نَاقَضُوا أَصْلَهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، فَجَعَلُوهُ أَقْوَى النَّصَّيْنِ، وَمَنَعُوا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَقَالُوا: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ التَّغْرِيبِ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ الْعَدَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ بَعْدَ تَفْصِيلٍ سَبَقَهُ إلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ أَيْضًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ، فَإِنَّهُ قَالَ:

(5/171)


الْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِعَدَدٍ إنْ كَانَ مَعْلُولَ ذَلِكَ الْعَدَدِ ثَبَتَ فِي الزَّائِدِ لِوُجُودِهِ فِيهِ كَمَا فِي جَلْدِ مِائَةٍ، أَوْ حُكْمٍ بِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ يَدْفَعَانِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كَمَا أَوْجَبَ مِائَةُ جَلْدَةٍ. وَالنَّاقِصُ عَنْ ذَلِكَ الْعَدَدُ، إنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ وَكَانَ الْحُكْمُ إيجَابًا أَوْ إبَاحَةً ثَبَتَ فِيهِ، كَمَا أَوْجَبَ أَوْ أَبَاحَ جَلْدَ مِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمًا فَلَا يَلْزَمُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيهِ، كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، فَالتَّحْرِيمُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى، وَالْإِيجَابُ وَالْإِبَاحَةُ لَا يَلْزَمَانِ قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا زَادَ أَوْ نَقَصَ إلَّا بِدَلِيلٍ.

[تَنْبِيهٌ الْأَوَّلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ]
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ، وَغَيْرِهِمَا، فَمَا جَرَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ. ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ. وَكَلَامُ الْبَاقِينَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِهِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " مَا إذَا كَانَ فِي الْعَدَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءَ قُلَّتَيْنِ» فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْمَلَ.
الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ نَفْسِهِ، كَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةٍ. أَمَّا الْمَعْدُودُ فَلَا يَكُونُ مَفْهُومُهُ حُجَّةً، كَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ، فَلَا يَكُونُ تَحْرِيمُ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ مَأْخُوذًا مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ. لَكِنَّ النَّاسَ يُمَثِّلُونَ لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْمُ عَدَدٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَدَدَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ، وَالْمَعْدُودَ

(5/172)


يُشْبِهُ اللَّقَبَ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُثَنًّى، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: رِجَالٌ، لَمْ يُتَوَهَّمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَدَدٌ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَا يُفْهَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى، لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِاثْنَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا زَادَ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: (مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ) يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ حِلِّ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَةٌ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ أُخْرَى.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ أَشْهَرِ حِجَجِ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» فَعُلِمَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ قَالَهُ رَجَاءَ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ رَجَاءَهَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، لَا لِأَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ التَّقْيِيدِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِالطَّعْنِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالُوا لَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ بِلَفْظِ سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: فَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ: لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ، فَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ، وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ غُفْرَانُ ذَنْبِ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ: لَوْ عَلِمْت أَنْ يُغْفَرَ لَهُ إذَا زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ لَزِدْت. قُلْت: هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ: «لَوْ عَلِمْت أَنِّي إنْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ، لَزِدْت عَلَيْهَا» .

(5/173)


وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لَا مَعْنَى لِتَوْهِينِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اسْتِغْفَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِيلُ عَقْلًا، وَالْإِجَابَةُ مُمْكِنَةٌ. وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَكَانَ الزَّائِدُ عَلَى السَّبْعِينَ يَقْتَضِي الْغُفْرَانَ؛ لَكِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ.
وَتَلَطَّفَ الْقَاضِي ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَصْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّخْفِيفُ كَمَا فِي دُعَائِهِ لِأَبِي طَالِبٍ. وَقَوْلُهُ: (لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ) أَيْ أَفْعَلُ ذَلِكَ لِأُثَابَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ. وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ، لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ بَلْ هِيَ نُصُوصٌ دَالَّةٌ بِقَرَائِن الْأَحْوَالِ إذَا قَصَدَ الْكَثْرَةَ، كَقَوْلِك: جِئْت أَلْفَ مَرَّةٍ. وَمِنْهُ حَثُّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تِسْعَةُ أَيَّامٍ خَاصَّةً، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ هَذِهِ الْعَشْرِ لَمْ يَكُنْ نَاذِرًا صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا عَاصِيًا بِهَذَا اللَّفْظِ إجْمَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى التِّسْعَةِ تَقْرِيبًا.

[النَّوْعُ السَّادِسُ مَفْهُومُ الْحَالِ]
أَيْ تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]

(5/174)


وَهُوَ كَالصِّفَةِ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إلَى الصِّفَةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " وَإِلْكِيَا. وَمَثَّلَاهُ بِالْآيَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ: هَذِهِ الْوَاوُ تُنْبِئُ عَنْ حَالِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ، وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ بِالرَّفْعِ، أَيْ فِي حَالِ شُرْبِك اللَّبَنَ. فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْحَالِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا حَالَ فِيهِ حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ.

[النَّوْعُ السَّابِعُ مَفْهُومُ الزَّمَانِ]
ِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ "، وَلَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِينَ إذْ ذَاكَ، كَمَا إذَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ الْفِرَاءِ فِي الشِّتَاءِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْعِتْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَعَيَّنَ، وَلَيْسَ لَهُ عِتْقُهُ فِي غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتِي يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ وَقَعَ، وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ. نَعَمْ، لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هَذَا الْمَالِ الْيَوْمَ، لَا يُجْعَلُ مُقِرًّا بِهِ، لِأَنَّ الْأَقَارِيرَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَفْهُومِ، نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ.

(5/175)


[النَّوْعُ الثَّامِنُ مَفْهُومُ الْمَكَانِ]
ِ، نَحْوُ: جَلَسْت أَمَامَ زَيْدٍ، مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَنْ شِمَالِهِ، وَنَحْوُ: اضْرِبْ زَيْدًا فِي الدَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] . وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَلَوْ قَالَ: بِعْ فِي مَكَانِ كَذَا، تَعَيَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَهُنَا بَحْثٌ نَفِيسٌ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَنْ يَكُونَا فِي الظَّرْفِ أَمْ لَا؟ مُقْتَضَى كَلَامِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. وَقَدْ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ قَذَفْت زَيْدًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ قَالَ إنْ قَذَفْت زَيْدًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْقَاذِفِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُشَخِّصَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفَاعِلِ فِي الظَّرْفِ كَالثَّانِيَةِ.
وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَدِيثِ: «صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ» فَهُمْ يَقُولُونَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَسُهَيْلٌ خَارِجَهُ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاقِعِ فَلَيْسَ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ فُرْجَةٌ حَتَّى يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِثْلُهُ: «الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ» ، هَلْ

(5/176)


يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ بِالْمَسْجِدِ أَنْ يَبْصُقَ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ؟ فِيهِ هَذَا الْعَمَلُ.

[تَنْبِيهٌ مَفْهُومُ ظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ رَاجِعٌ إلَى الصِّفَةِ]
ِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ]
أَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى رُجُوعِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ إلَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ الظَّرْفَيْنِ يُقَدَّرُ فِيهِمَا الصِّفَةُ. فَإِذَا قُلْت: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، فَالْمُرَادُ كَائِنٌ فِيهَا. وَإِذَا قُلْت: الْقِيَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَالْمُرَادُ وَاقِعٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْكَوْنُ وَالْوُقُوعُ صِفَتَانِ.

[النَّوْعُ التَّاسِعُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَدُّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى]
كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَقَوْلِهِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَوْلِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ جُعِلَ غَايَةً لِلشَّيْءِ، وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، فَقَالَ فِي " الْأُمِّ ": وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ غَايَةً، فَالْحُكْمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْغَايَةِ فِيهِ غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّهَا. ثُمَّ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101] الْآيَةَ. وَكَانَ فِي شَرْطِ الْقَصْرِ لَهُمْ بِحَالَةٍ مَوْصُوفَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ غَيْرُ الْقَصْرِ. اهـ.

(5/177)


وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ الشَّرْطِيِّ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ، وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ. وَخَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحُرُوفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ وَرَاءَ الْغَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُنَّا قَدْ نَصَرْنَا إبْطَالَ حُكْمِ الْغَايَةِ فِي كُتُبٍ، وَالْأَوْضَحُ عِنْدَنَا الْآنَ الْقَوْلُ بِهَا، فَإِذَا قَالَ: اضْرِبْ عَبْدِي حَتَّى يَتُوبَ، اقْتَضَى ذَلِكَ بِالْوَضْعِ الْكَفَّ عَنْ ضَرْبِهِ إذَا تَابَ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا حُرُوفَ الْغَايَةِ، وَغَايَةُ الشَّيْءِ نِهَايَتُهُ. فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لَمْ تَفْدِ تَسْمِيَتُهَا غَايَةً.
قَالَ: وَهَذَا مِنْ تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّك تَقْدِرُ فِي غَايَةِ الطُّهْرِ فَتَقُولُ فِي: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] تَقْدِيرُهُ فَاقْرُبُوهُنَّ، وَفِي: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَتَحِلُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ لَا الْمَفْهُومِ فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.
وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي، الْمُسْتَوْفَى "، وَابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ الْمُغَيَّا " بِإِلَى، وَحَتَّى " فِي الْمَفْهُومِ جَهْلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ بِمَا يَقْتَضِيهِ " حَتَّى وَإِلَى " لَا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ.

(5/178)


قُلْت: وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مُرْتَبِطٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ كَالْغَايَةِ.
وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ تَصْمِيمًا عَلَى إنْكَارِ الْمَفْهُومِ. وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْأَزْدِيِّ تِلْمِيذِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ مَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ هَاهُنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا كَخِلَافِ مَفْهُومِ الْحَصْرِ، قِيلَ: لَا يُفِيدُ. وَقِيلَ: مَنْطُوقٌ. وَقِيلَ: مَفْهُومٌ. .

[تَنْبِيهٌ فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى]
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ مَدَّهَا بِصَرِيحِ الْكَلَامِ، نَحْوُ: صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ.
الثَّانِي: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ السَّابِقَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا، وَالْكَلَامُ هُنَا فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ. فَلَنَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ثَلَاثُ قَضَايَا: غَسْلُ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ بِالْمَنْطُوقِ، وَغَسْلُ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْغَايَةَ هَلْ تَدْخُلُ؟ وَعَدَمُ غَسْلِ مَا بَعْدَ الْمِرْفَقِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْهُومِ.
الثَّالِثُ: إذَا تُصُوِّرَ فِي الْغَايَةِ تَطَاوُلٌ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهَا أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِهَا؟ هَذَا الْأَصْلُ وَلَّدْته مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَجِبُ عِنْدَنَا

(5/179)


إذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ بِهِ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. وَالدَّلِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فَنَحْنُ نَقُولُ: كَلِمَةُ " إلَى " لِلْغَايَةِ، فَيُكْتَفَى بِأَوَّلِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ، وَالْخَصْمُ يَشْرِطُهُ، وَمَبْنَى حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ شَرْطًا، فَكَذَا هُنَا.

[النَّوْعُ الْعَاشِرُ مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ]
ِ، نَحْوُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إلَّا زَيْدٌ، وَنَحْوُ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ السَّابِقَةُ نَفْيًا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مُثْبَتًا، أَوْ إثْبَاتًا كَانَ مَنْفِيًّا.
وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، كَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيِّ، وَأَصَرَّتْ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا عَمَلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ الثُّبُوتُ فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ، فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الثُّبُوتِ: قِيلَ: بِالْمَفْهُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بِالْمَنْطُوقِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَهُ عَلَيَّ إلَّا دِينَارٌ، كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدِّينَارِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَنْطُوقٌ لَمَا ثَبَتَتْ الْمُؤَاخَذَةُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ.

(5/180)


وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: نَحْوُ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» هِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَعًا بِالْمَنْطُوقِ وَالْآخَرُ بِالْمَفْهُومِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: هُمَا جَمِيعًا بِالْمَنْطُوقِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَا صِيَامَ) نَفْيٌ لِلصِّيَامِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَإِثْبَاتٌ لَهُ عِنْدَ وُجُودِهَا، كَقَوْلِك: لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، فَكَانَ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ هُنَا. اهـ.

[النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَفْهُومُ الْحَصْرِ]
ِ] وَلَهُ صِيَغٌ: الْأُولَى: وَهِيَ أَقْوَاهَا تَقْدِيمُ النَّفْيِ عَلَى إلَّا نَحْوُ: مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِثْبَاتِهِ لَهُ، وَنَحْوُ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ، بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ ذَلِكَ مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ ". وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النَّفْيُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْإِثْبَاتِ فَإِنْ كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ مَا عَدَاهُ، كَقَوْلِهِ: «لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ» فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ. وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً كَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا بِالطُّهُورِ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ فِي " إنَّمَا " مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ مَا عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا.

(5/181)


وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» يُفِيدُ إجْزَاءَ الصَّلَاةِ بِالطُّهُورِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُفِيدُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُفِيدُ إجْزَاءَهَا. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (إلَّا بِطُهُورٍ) يَقْتَضِي رَدَّ جَمِيعِ مَا نَفَاهُ بِقَوْلِهِ: (لَا صَلَاةَ) وَإِثْبَاتُهُ. قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ الدَّقَّاقِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي النَّوَافِلِ، فَيُقَالُ: لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ إلَّا بِطَهَارَةٍ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا بِالطَّهَارَةِ.
وَقَالَ إِلْكِيَا: الْمَفْهُومُ يَجْرِي فِي النَّفْيِ كَالْإِثْبَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ. قَالَ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إذَا قَالَ: لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، كَانَ نَصًّا فِي الْقَطْعِ فِي الرُّبْعِ مَفْهُومًا فِي الَّذِي فَوْقَهُ وَدُونَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " أَمَالِيهِ ": الْإِثْبَاتُ بَعْدَ النَّفْيِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ، أَيْ يَنْفَرِدُ مَا بَعْدَ " إلَّا " بِذَلِكَ دُونَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ. فَإِذَا قُلْت: مَا جَاءَ إلَّا زَيْدٌ، فَزَيْدٌ مُنْفَرِدٌ بِالْمَجِيءِ دُونَ الْآخَرِينَ الْمُقَدَّرِينَ فِي: مَا جَاءَ أَحَدٌ. وَإِذَا قُلْت: مَا زَيْدٌ إلَّا بَشَرٌ، لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَشَرًا غَيْرُهُ، لِأَنَّك إنَّمَا أَثْبَتَّهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهَا عَمَّنْ عَدَاهُ. وَهَكَذَا فِي كُلِّ مُسْتَثْنًى هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ. نَحْوُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا، وَمَا زَيْدٌ إلَّا عَالِمٌ، لَمْ تُرِدْ نَفْيَ الرُّكُوبِ وَالْعِلْمِ عَمَّنْ عَدَاهُ، وَإِنَّمَا أَرَدْت ثُبُوتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ. فَإِنْ قُلْت: فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْفِيٌّ عَامٌّ، وَهَذَا مُثْبَتٌ مِنْهُ دُونَهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى إثْبَاتَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ. وَهُوَ غَيْرُ

(5/182)


مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّك إذَا قُلْت: مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ نَفْيُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَنْ زَيْدٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ الْقِيَاسَ، وَلَكِنَّهُ أَتَى عَلَى غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْبَابِ فِيهِ، فَيَفُوتُ كُلُّ مَعْنَاهُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَصَدُوا إثْبَاتَ ذَلِكَ وَنَفْيَ مَا يَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ مِمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» فَإِنَّ الْمَعْنَى إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، لَا إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لَهَا خَاصَّةً، يَلْزَمُ أَنَّهَا إذَا وُجِدَتْ وُجِدَتْ، إذْ قَدْ تُوجَدُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ آخَرَ.
الثَّانِيَةُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الْقُوَّةِ: الْحَصْرُ بِإِنَّمَا، نَحْوُ: إنَّمَا زَيْدٌ فِي الدَّارِ، مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. قَالَ إِلْكِيَا: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْغَايَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، وَوَالَاهُ، ثُمَّ مَاتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ.
وَالثَّانِي: لَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ عَمَّنْ أَعْتَقَ. وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ.
وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو حَامِدٍ، وَالْمَرْوَرُوذِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي قُوَّةٍ (مَا، وَإِلَّا) ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهَا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ عَلَى وَجْهَيْنِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَإِذَا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ، فَقَدْ

(5/183)


اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُوجِبِ نَفْيِهِ عَنْهُ.
أَحَدُهُمَا: أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً. وَالثَّانِي: أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ جَوَابًا أَوْ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ. اهـ.
وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: " إنَّمَا " لِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ، وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي الْقَوْلَ بِهِ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ قَوْلِك: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَلَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ.
وَقَدْ سَمَّى أَهْلُ اللُّغَةِ ذَلِكَ تَمْحِيقًا وَتَحْقِيقًا، وَنَفْيًا وَإِثْبَاتًا، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اقْتِضَاءُ النَّفْيِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِدَلِيلٍ. فَمَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ، قَالَ: هَذَا نَقِيضُ النَّفْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ تَرَدَّدَ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، مُحْتَمَلٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَاخْتَارَهُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْحُرُوفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى " إنَّمَا " بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ. وَفِيهِ مَا يَتَعَيَّنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا.
الثَّالِثَةُ: حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ مَقْرُونًا بِاللَّامِ نَحْوَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، أَوْ مُضَافًا نَحْوَ: صَدِيقِي زَيْدٌ، يُفِيدُ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ عَهْدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْهَرَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَبِعَهُمْ الْآمِدِيُّ.

[مَفْهُومُ الْحَصْرِ هَلْ يُفِيدُ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ]
وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ؟ فَذَهَبَ

(5/184)


الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَاسْتَدَلَّ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [الحشر: 24] قَالَ: وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى الثَّانِي. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنَّمَا أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْخَبَر أَوْ مُسَاوِيًا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لُغَةً وَعَقْلًا، فَلَا يَجُوزُ: الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ، وَلَا: الزَّوْجُ عَشَرَةٌ، بَلْ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالْعَشَرَةُ زَوْجٌ. وَالْعَرَبُ لَمْ تَتَّبِعْ إلَّا الصِّدْقَ، وَالْمُسَاوِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي مُسَاوِيهِ. وَالْأَخَصُّ مَحْصُورًا فِي أَعَمِّهِ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ أَخَصَّ، وَلَا مُسَاوِيًا. قَالُوا: فَلَوْ لَمْ تَقْتَضِ الْحَصْرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ الْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. بَيَانُهُ: أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْعَالِمُ زَيْدٌ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْجِنْسِ قَطْعًا وَلَا لِلْعَهْدِ، فَتَعَيَّنَ. أَنْ تَكُونَ لِمَاهِيَّةِ الْعَالِمِ، وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِ زَيْدٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ انْحَصَرَتْ الْعَالِمِيَّةُ فِي زَيْدٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ مِنْ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ أَخَصُّ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْبَرْتُمْ عَنْهَا فَلَزِمَ الْإِخْبَارُ بِالْأَعَمِّ عَنْ الْأَخَصِّ، كَمَا ادَّعَيْنَا.
قِيلَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَتِمُّ بِجَعْلِ الْعَالِمِ مُخْبِرًا عَنْهُ. وَزَيْدٌ مُخْبِرًا بِهِ. أَمَّا لَوْ جَعَلَ الْعَالِمَ خَبَرًا مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ الْعَالِمُ. ثُمَّ نَقُولُ: الْعَالِمُ زَيْدٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَأَيْضًا لَوْ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْعَالِمِ لِلْمَعْهُودِ، وَهِيَ مَعْنَى الْكَامِلِ وَالْمُشْتَهِرِ فِي الْعَالِمِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَلَا يُفِيدُ الْحَصْرَ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْرِفَتَيْنِ، وَقَدْ خُيِّرْنَا فِيهِمَا، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، نَحْوُ: زَيْدٌ قَائِمٌ، فَلَا حَصْرَ فِيهَا قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ زَيْدٌ فِي الْقِيَامِ قَطْعًا.
وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: صَدِيقِي زَيْدٌ، فَلَيْسَ

(5/185)


بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا خَاصًّا لَا عَامًّا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي هَذَا الْغَلَطِ كَوْنُ الصَّدَاقَةِ لَفْظًا عَامًّا. نَعَمْ، هُوَ عَامٌّ إذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَقَعْ خَبَرًا وَلَا مُبْتَدَأً وَلَا صِفَةً، فَيُقَالُ: " صَدِيقِي " يَصْلُحُ لِلْخَبَرِيَّةِ عَنْ وَاحِدٍ وَعَنْ أَكْثَرَ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ أَوْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مُبْتَدَأٍ كَانَ مُفْرَدًا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُفْرَدًا. فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُثَنًّى أَوْ جَمْعًا كَانَ هُوَ كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُقَدَّرَةُ فِيهِ، فَإِنَّمَا تُقَدَّرُ عَلَى وَفْقِ مَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ. مِثَالُهُ: زَيْدٌ صَدِيقِي هُوَ، وَالزَّيْدَانِ صَدِيقِي هُمَا، وَالزَّيْدُونَ صَدِيقِي هُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّك إنْ أَخَّرْت صَدِيقِي كَانَتْ الصَّدَاقَةُ غَيْرَ مَحْصُورَةٍ فِي زَيْدٍ، وَإِنْ قَدَّمْته كَانَتْ مَحْصُورَةً فِيهِ، وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَزَعَمَ أَيَّهُمَا قُدِّمَ فَهُوَ الْمُبْتَدَأُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِاسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَوَجَّهَ قَوْمٌ قَوْلَ الْإِمَامِ: إنَّ " صَدِيقِي " مُقْتَضٍ لِلْخَبَرِيَّةِ، لِإِفَادَتِهِ النِّسْبَةَ إلَى زَيْدٍ، فَإِذَا كَانَ خَبَرًا وَأَخَّرْته لَمْ يَلْزَمْ الْحَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَعَمَّ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ عَالِمٌ، فَإِذَا قَدَّمْته مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا فَلَمْ تُقَدِّمْهُ إلَّا لِغَرَضٍ، وَلَا غَرَضَ إلَّا قَصْدُ الْحَصْرِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا كَانَ أَسْبَقُهُمَا الْمُبْتَدَأَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدٌ صَدِيقِي، فَلَا حَصْرَ لِجَوَازِ عُمُومِ الْخَبَرِ، وَإِذَا قُلْت: صَدِيقِي زَيْدٌ أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ صَدِيقِي، فَلَوْ قَدَّرْت الْخَبَرَ عَامًّا لَمْ يَسْتَقِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَابَقَتِهِ، وَأَنْ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ بِقَوِيَّيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُقَدَّمُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ

(5/186)


مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَحِينَئِذٍ: فَقَوْلُك: صَدِيقِي زَيْدٌ أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي، إمَّا أَنْ تُرِيدَ بِالصَّدِيقِ مَعْهُودًا أَوْ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ، فَإِنْ قَصَدَ وَاحِدًا، وَقَدَّمَ زَيْدًا أَوْ أَخَّرَهُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَإِنْ قَصَدَ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَدَّمَ زَيْدًا أَوْ أَخَّرَهُ، وَجَبَ الْعُمُومُ. فَإِذَا قُلْت: صَدِيقِي زَيْدٌ، أَيْ إنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ لِي مَحْصُورَةٌ فِي زَيْدٍ، أَوْ زَيْدٌ صَدِيقِي، فَزَيْدٌ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ، لَا صَدِيقَ سِوَاهُ، وَجَبَ الْحَصْرُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَوْ سَلَّمَ تَعْيِينَ " صَدِيقِي " لِلْخَبَرِيَّةِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْخَاصُّ فَلَا عُمُومَ فِي التَّقْدِيمِ أَوْ التَّأْخِيرِ أَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ. وَإِنَّمَا فُهِمَ التَّغَايُرُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَلَيْسَ هُوَ نَظِيرَهُ.

[الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ]
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُبْتَدَأِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ؟ فَقِيلَ: لَا يُفِيدُ أَصْلًا. وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ «فَلْيَتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . وَقِيلَ: يُفِيدُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يُفِيدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلُوهُ.
قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ الْمُتَلَقَّى مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ. وَمَنْ قَالَ: زَيْدٌ صَدِيقِي لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ الصَّدَاقَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: صَدِيقِي زَيْدٌ اقْتَضَاهُ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَيْهِ،

(5/187)


لِأَنَّهُ غَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ، فَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَحَصْرِ الصَّدَاقَةِ فِيهِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مَنْطُوقٌ، وَجَعَلَهُ دُونَ " إنَّمَا " فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ إِلْكِيَا، وَقَالَ: إنَّ تَلَقِّي الْحَصْرِ فِيهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَجَعَلَ جِنْسَ التَّحْرِيمِ مَحْصُورًا فِي الْمُسْكِرِ. وَالصَّدَاقَةُ مُبْتَدَأً، وَالْمُبْتَدَأُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَضْعًا، وَالصَّدَاقَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِصَرْفِهَا إلَى الْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جِنْسُ الصَّدَاقَةِ مَحْصُورٌ فِي زَيْدٍ. وَلَوْ قَالَ: زَيْدٌ صَدِيقِي، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَاقَةَ خَبَرًا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُبْتَدَأً، فَلَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ. قَالَ: وَيُتَلَقَّى الْحَصْرُ مِنْ فَحَوَى اللَّفْظِ، وَنَظْمِ الْكَلَامِ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ: إنَّ تَلَقِّي الْمَفْهُومِ مِنْ الْفَحْوَى لَا يَسْقُطُ، لِظُهُورِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ الْعَادَةِ أَوْ السُّؤَالِ حَتَّى يَجُوزَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فِي نَفْيِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْمُصَافَاةِ. قَالَ: فَيَرْجِعُ حَاصِلُ نَظَرِ الْإِمَامَ إلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْمُخَالَفَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْفَحْوَى، فَهُوَ يَدُلُّ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ. اهـ.

[مَسْأَلَةٌ فِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ]
مَسْأَلَةٌ هَذِهِ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ أَمَّا الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ أَيْ لِلْعَهْدِ فَلَا. ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الذَّخَائِرِ " مِنْ الْفُقَهَاءِ. قَالَ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى زَوَائِدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي

(5/188)


بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْبَائِعِ فِيمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ.
فَأَجَابَ: لِلْمَذْهَبِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ لِلتَّعْرِيفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْخَرَاجُ فِي مُقَابَلَةِ مِثْلِ هَذَا بِالضَّمَانِ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ قِيَامُ الدَّلِيلِ مِنْ خَارِجِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَاصِبِ وَالْمَقْبُوضِ عَنْ فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الضَّمَانُ فِيهَا، وَلَا خَرَاجَ لِلضَّامِنِ بِالضَّمَانِ. وَقَدْ كَانَتْ قِصَّةُ الْحَدِيثِ فِي بَيْعٍ وُجِدَ فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخَرَاجِ بِمِلْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانًا. إذْ لَا حَصْرَ إلَّا فِي اللَّقَبِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ. هَذَا كَلَامُهُ.

[مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْحَصْرَ]
الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، نَحْوُ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] . {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ ": صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] . فَإِنَّهُ لَمْ يُسَقْ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ الْغَالِبُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] .

(5/189)


{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ إلَّا لِلْفَائِدَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] سِوَى الْحَصْرِ.

[مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا]
تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا، نَحْوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] . وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَغَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحَصْرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا خِلَافَ فِي إفَادَةِ هَذَا الْحَصْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ. وَذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ أَيْضًا. وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ "، وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ. وَقَالَ: الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ. فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعَنَى، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُهْتَمًّا بِهِمَا أَوْ بِعِنَايَتِهِمَا. اهـ.
وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْفَاعِلِ الَّذِي يَتَعَدَّاهُ فِعْلُهُ إلَى مَفْعُولٍ. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُك: ضَرَبَ زَيْدًا عَبْدُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ. . . إلَى آخِرِهِ. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ، لَا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْفَاعِلِ. وَذَكَرَهُ فِي بَابِ: " مَا يَكُونُ فِيهِ الِاسْمُ مَبْنِيًّا عَلَى الْفِعْلِ ". قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُك: زَيْدًا ضَرَبْت، فَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مِثْلُهُ فِي ضَرَبَ زَيْدٌ عُمْرًا، وَضَرَبَ زَيْدًا

(5/190)


عَمْرٌو، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي شَابَهُ بِهَا تَقْدِيمَ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ الْعَكْسِ فِي الْمِثَالَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إلَّا الِاهْتِمَامُ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهَا إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَامِلِ وَهِيَ الْحَصْرُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَقَدْ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَرَائِنَ، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 - 41] فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْأُولَى قَطْعًا. لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي " إيَّاهُ " قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 84] {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] إنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً.
وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ " الْفَلَكِ الدَّائِرِ " الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى. قِيلَ: وَرَدَّ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ " الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] مَعَ قَوْلِهِ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} [الزمر: 2] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَإِنَّهُ حَيْثُ أَخَّرَ الْمَعْمُولَ أَتَى بِمَا يَنُوبُ عَنْ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مُخْلِصًا} وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ التَّقْدِيمِ دَلَّ عَلَى إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، وَهِيَ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] فَقَدْ ذَكَرَ " مُخْلِصًا " فِيهِمَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.

(5/191)


وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ فِي " الْفَلَكِ الدَّائِرِ ": الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ إلَّا بِالْقَرَائِنِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الرَّوَاسِي لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ، فَقَدْ كَانَتْ حَوَّاءُ كَذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَا نَفَشَتْ إلَّا فِيهِ، لِأَنَّ النَّفْشَ: انْتِشَارُ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ رَاعٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فُقِدَ الظَّرْفُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا حُكْمَهُمْ. وَقَالَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصْلِحْ زَوْجَةَ أَحَدٍ غَيْرِهِ. قَالَ: وَفِي الْكِتَابِ أَلْفُ آيَةٍ مِثْلُ هَذِهِ تُبْطِلُ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ. اهـ. وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَيْدَ الْعِلَّةِ سَهُلَ الْأَمْرُ. نَعَمْ، لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَضْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مُقَدَّمًا حَقِيقَةً، كَأَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التَّرْكِيبِ، مِثْلُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ، وَالْحَصْرَ، وَالْقَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مِنْ الْحَصْرِ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُقَيِّدٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ. وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى

(5/192)


أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدْ الِاخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ.
وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ، فَهُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَالْحَصْرُ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لَهُ وَالتَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، فَفِي الِاخْتِصَاصِ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي الْحَصْرِ قَضِيَّتَانِ. فَإِذَا قُلْت: لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَهَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَا إذَا قُلْت بَعْدَهُ: وَعَمْرٌو، وَهَلْ هُوَ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْطُوقِ فَهُوَ نَسْخٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ فَتَخْصِيصٌ.
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَصْرَ غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَقْصُرُ رَحْمَتَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِهَا، لِأَنَّهَا لَا تُخْتَصُّ، بَلْ مَدْلُولُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُعْرِضُ عَنْهُ.
تَنْبِيهٌ
يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مَعْمُولٌ لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى الصَّحِيحِ.

[مَسْأَلَةٌ إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ الْحَصْرَ]
مَسْأَلَةٌ [فِي إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ الْحَصْرَ]
لَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْخَبَرِ، نَحْوُ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ. ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي

(5/193)


نِهَايَةِ الْإِعْجَازِ " وَهُوَ مُقْتَضٍ حَصْرَ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَإِ عَكْسَ الْحَصْرِ فِي الْمُبْتَدَإِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي الثَّانِي. فَإِذَا قُلْت: الصَّدِيقُ هُوَ الْخَلِيفَةُ، وَزَيْدٌ هُوَ الْمُحَدِّثُ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَاللَّازِمُ ثُبُوتُهُ فِي هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ هُوَ النَّقِيضُ لَا الْحَصْرُ، وَلَا الْخِلَافُ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: قَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ لِلْحَصْرِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: " إنَّمَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ "، نَحْوُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلَفْظُ " ذَلِكَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَالْإِضَافَةُ، كَقَوْلِهِ: (تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ لَفْظَةُ: " إنَّمَا ". قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ لِمَالِكٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ لَامَ كَيْ عِنْدَهُ مِنْ حُرُوفِ الْحَصْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَكْلِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ بِقَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] .

[مَسْأَلَةُ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسَبَةِ]
قَالَ الشَّيْخُ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": الْخِلَافِيُّونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ التَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسَبَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: افْعَلْ كَذَا لِكَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فَلَعَلَّهُ لِكَذَا، فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْطَيْت هَذَا لِفَقْرِهِ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَقُولَ: أَعْطَيْته لِعِلْمِهِ.

(5/194)