البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي

 [فَصَلِّ فِي تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ]
فَصْلٌ سَنَتَكَلَّمُ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ عَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُنَا عَلَى تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ؛ لِتَعَلُّقِهِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. [تَعَارُضُ الْفِعْلَيْنِ] أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَعْضُ مِنْهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ، أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبًا، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، وَتَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ هُوَ النَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْأَوَّلَ لَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ " الْمَحْصُولِ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: التَّخْيِيرُ. وَثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ كَالْأَقْوَالِ إذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا. وَالثَّالِثُ: حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ. قَالَ: كَمَا اتَّفَقَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، صُلِّيَتْ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةٍ، يَصِحُّ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ خَيَّرَ أَحْمَدُ فِيهَا، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَتَرَجَّحُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ،

(6/43)


وَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ الْأَخِيرَ مِنْهَا إذَا عُلِمَ، وَحَكَى صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ ابْنِ رُشْدٍ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَقْوَالِ، وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ وَائِلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ «رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَعَدَمُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالنَّسْخُ، وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ، وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي " الْمَنْخُولِ " إذَا نُقِلَ فِعْلٌ، وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِمُدَّةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَيُتَوَقَّفُ فِي كَوْنِهِ نَاسِخًا، وَنَعْلَمُ انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ. قَالَ: وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّهُ نَسْخٌ، وَتَرَدَّدَ فِي الْقَوْلِ الطَّارِئِ عَلَى الْفِعْلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْفَرْقِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَطْلَقَ إلْكِيَا عَدَمَ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا عُلِمَ بِدَلَالَةٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إدَامَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ. قَالَ: وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ. فَقَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ آخَرُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ يُؤْخَذُ مِنْ

(6/44)


مَرَاسِيمِ الرَّسُولِ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا وَقَعَ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: « (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) » فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ، كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ. اهـ. وَهَذَا مِنْ صُوَرِ مَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا. وَصَرَّحَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَا يَقَعُ فِيهَا التَّعَارُضُ هِيَ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ مِنْ الرَّسُولِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فِيهَا الْوَاقِفِيَّةُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا التَّعَارُضُ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ صِيَغٌ فِيهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَغَايِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِيُصْرَفَ التَّعَارُضُ إلَى مُوجِبَاتِ الْأَحْكَامِ.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ مَوْقِعَ الْبَيَانِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا وَتَنَافَيَا، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَالتَّعَارُضُ فِي مُوجِبِهِمَا كَالتَّعَارُضِ فِي مُوجِبِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ: وَلَا يَرْجِعُ التَّعَارُضُ إلَى ذَاتَيْ الْفِعْلَيْنِ، بَلْ التَّلَقِّي وَالْبَيَانِ الْمَنُوطِ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ فِي مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَا نَقُولُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ تَجْوِيزُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِهِمَا مَا يَتَضَمَّنُ حَظْرًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا أَمْ لَا. قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا صِيَغَ لَهَا. ثُمَّ فَصَّلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بَيْنَ مَا يَقَعُ بَيَانًا، وَمَا لَا يَقَعُ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بَيَانًا فَإِنْ كَانَ فِي مَسَاقِ الْقُرَبِ فَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ، فَلْيَجْرِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، كَالْقَوْلَيْنِ الْمُؤَخَّرَيْنِ.

(6/45)


وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ قَبْلُ، فَرَأَى الْعُلَمَاءُ الْأَخْذَ بِذَلِكَ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا، وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ. وَقَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ: صَحَّ فِيهَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَةُ خَوَّاتٍ. ثُمَّ رَأَى الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ مُتَأَخِّرَةٌ، وَقَدَّرَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي غَزْوَةٍ سَابِقَةٍ. وَرُبَّمَا سَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فَسُلِّمَ اجْتِمَاعُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَآهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا، فَرَجَّحَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِقُرْبِهَا مِنْ الْأُصُولِ، فَإِنَّ فِيهَا قِلَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْأَفْعَالِ، وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَخَوَّاتٌ مُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةِ وَالسِّنِّ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا لِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ أَقْوَى فِي مُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ.
وَنَقَلَ إلْكِيَا فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْهُمَا جَوَازَ الْفِعْلَيْنِ، وَيُحْتَاجُ فِي تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إلَى دَلِيلٍ. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرُ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ.

(6/46)


وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ [إنْ] اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْفِعْلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ [تَوَقَّفْنَا فِي الْأَفْضَلِ] ، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ [يَتَمَسَّكُ] بِرِوَايَةٍ بُطْلَانَ مَذْهَبِ صَاحِبِهِ [فَيُتَوَقَّفُ] وَلَا يُفْهَمُ الْجَوَازُ فِيهِمَا، [فَإِنَّهُمَا] مُتَعَارِضَانِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ [مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أَحَدُهُمَا، وَلَا يُرَجَّحُ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ وَاحِدٍ [فَنَحْكُمُ بِهِ وَنَتَوَقَّفُ] فِي الْآخَرِ. وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ، وَقَدْ رَجَّحَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ [لِقُرْبِهِ] إلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا طُلِبَ التَّأْرِيخُ حَتَّى يُعْلَمَ الْآخِرُ، فَيَكُونُ هُوَ النَّاسِخَ، كَتَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّ النُّسَخَ هَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ كَمَا دَعَتْ فِي الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَلَيْسَ كَالصِّيَغِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ. فَإِذَا وَجَدْنَا فِعْلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، حَمَلْنَاهُمَا عَلَى التَّجْوِيزِ وَالْإِبَاحَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ الْقَاضِي مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ. قَالَ: وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِتَأَخُّرِ رِوَايَةِ خَوَّاتٍ، فَإِنَّهَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَرِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ فِي غَيْرِهَا، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ بَعْدَهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَدَّمَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَفِي التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ، فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَأَشَارَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْأَخْذِ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ تَارِيخًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) قَدَّمُوا الْمُتَأَخِّرَ تَقْدِمَةً أَوْلَى وَأَفْضَلَ، لَا تَقْدِمَةَ نَاسِخٍ عَلَى مَنْسُوخٍ. اهـ.

(6/47)


وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُخَالِفُ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَكَرُّرِ هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ فِي حَقِّهِ، وَحَقِّ الْأُمَّةِ، فَحِينَئِذٍ إذَا تَرَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَتَى بِمُنَاقِضٍ لَهُ، أَوْ أَقَرَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى عَمَلٍ يُنَاقِضُهُ، كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِنَسْخِ الثَّانِي، وَعَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطْلَقًا أَوْ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. فَمَتَى وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَقِيضُ ذَلِكَ الْفِعْلِ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ الثَّانِي أَيْضًا، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مَشْرُوعًا لَهُمْ، لَكِنْ هَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ نَسْخَ الْأَوَّلِ وَإِزَالَةَ الْحُكْمِ، أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ جَائِزًا؟ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ؟ هَذَا هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ الْإِمَامِ وَالْمَازِرِيُّ يَمِيلُ إلَى النَّسْخِ.
أَمَّا إذَا نُقِلَ إلَيْنَا أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا أَحَدُهَا كَيْفَ كَانَ، فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي الْكُلِّ، كَسُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ، فَهُنَا يُرَجَّحُ مَا يَتَأَيَّدُ بِالْأَصْلِ، فَنُرَجِّحُ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْلِيلُ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَقَلُّ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا التَّرْجِيحُ حُكِمَ بِالتَّخْيِيرِ، كَأَخْبَارِ قَبْضِ الْأَصَابِعِ فِي التَّشَهُّدِ.

[التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ]
[التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ] وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ: وَيَتَحَصَّلُ مِنْ أَفْرَادِهِ

(6/48)


سِتُّونَ صُورَةً، وَبَيَانُهُ بِانْقِسَامِهَا أَوَّلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ، أَوْ يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَهَذَانِ قِسْمَانِ آخَرَانِ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوَخَاصًّا بِهِمْ. وَالْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِهِ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِيهِ، وَإِمَّا أَلَا يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أَوْ الْعَكْسُ. هَذَا حَصْرُ التَّقْسِيمِ فِيهَا، وَبَيَانُ ارْتِقَائِهَا إلَى الْعَدَدِ الْمُتَقَدِّمِ، أَنَّك إذَا ضَرَبْتَ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ أَوْ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ أَوْ تَرَاخِيهِ عَنْهُ فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ إلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ يَعُمُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ الْأُمَّةَ حَصَلَ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا، وَمَجْهُولُ الْحَالِ مِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ [لَهُ ثَلَاثَةٌ] أَيْضًا. فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قِسْمًا، تَضْرِبُهَا فِي أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي أَوْ عَدَمِهَا أَوْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَنْتَهِي إلَى السِّتِّينَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ تَدَاخُلٍ، وَأَكْثَرُهَا لَا يُوجَدُ فِي السُّنَّةِ، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ يَخْتَلِفُ، وَيَطُولُ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ السِّتُّونَ مَجْمُوعَةً هَكَذَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْخَطِيبِ فِي الْمَحْصُولِ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْ يَتَرَاخَى عَنْهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ

(6/49)


فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ الْقَوْلُ إلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ عَامًّا لَنَا وَلَهُ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوْ خَاصًّا بِنَا، فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا، وَالْمَجْهُولُ الْحَالِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ أَيْضًا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي الْإِحْكَامِ انْقِسَامَ الْفِعْلِ إلَى الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرِهِ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ أَوْ لَا، أَوْ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أَوْ عَكْسُهُ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَضَرَبْتَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ صُورَةً فِي الْأَرْبَعَةِ حَصَلَ سِتُّونَ، وَقَدْ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ السِّتِّينَ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَقَدْ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطْلَقًا، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعُمُومِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَاتُهُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْبُيُوتِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِفِعْلِهِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي خُصِّصَ بِهَا الْعُمُومُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أَوْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَبُنِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ الْقَوْلُ عَلَى نَسْخِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْمَانِعِينَ لَهُ. وَالثَّانِي: جَعْلُ الْفِعْلِ خَاصًّا بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِمْضَاءُ الْقَوْلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى جَعْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَرَنَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» أَوْلَى مِمَّا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طَافَ طَوَافَيْنِ، لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ قَوْلًا، وَالثَّانِي: حِكَايَةَ فِعْلٍ.

(6/50)


وَالثَّالِثُ: التَّوَقُّفُ، كَدَلِيلَيْنِ تَعَارَضَا فِي الظَّاهِرِ وَيُطْلَبُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " الْخِلَافَ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ، ثُمَّ صَدَرَ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ كَانَ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ إنْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنْ الْخِلَافِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ. كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «كُلْ مِمَّا يَلِيك» ) وَتَتَبُّعُهُ الدُّبَّاءَ فِي جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ. وَكَنَهْيِهِ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَعَنْ الِاسْتِلْقَاءِ، وَوَضْعِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي مِثْلِ هَذَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِقُوَّتِهِ بِالصِّيغَةِ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَجَزَمَ بِهِ إلْكِيَا. قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَقُّ قَوْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، " فَإِذَا اجْتَمَعَا تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ، وَحَمَلْنَا فِعْلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَالْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَالْآمِدِيَّ فِي " الْأَحْكَامِ "، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ.

(6/51)


وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَنَصَرَهُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَحَلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ فِي بَيَانِ مُجْمَلٍ، دُونَ مَا إذَا كَانَا مُبْتَدَأَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى ". وَعَكَسَ الْقُرْطُبِيُّ، فَجَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ، وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ مَحَلَّ هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ عَلَى تَكَرُّرِ هَذَا الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ، وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمُعَارِضَ لَهُ خَاصٌّ بِهِ أَوْ بِالْأُمَّةِ، وَجُهِلَ التَّارِيخُ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ تَقْدِيمَ الْقَوْلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إذَا كَانَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْوَقْفُ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مِثْلِ مَا مَثَّلْنَا بِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْأُصُولِ هُنَا، وَهُوَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَجَعْلُ الْفِعْلِ بَيَانًا لِذَلِكَ، أَوْ حَمْلُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَجِيءُ فِي الْأُخْرَى كَالِاسْتِلْقَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا بَدَتْ مِنْهُ الْعَوْرَةُ، وَجَائِزٌ إذَا لَمْ تَبْدُ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِحَالَةِ تَعَذُّرِ إمْكَانِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَقَعُ فِيهَا التَّعَارُضُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَّجِهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ، فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الْقَوْلِ

(6/52)


مُطْلَقًا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَإِلْكِيَا: إنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ وَمَضَى وَقْتُ وُجُوبِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ فَعَلَ ضِدَّهُ عَلِمْنَا نَسْخَهُ، كَتَرْكِهِ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ. وَإِنْ فَعَلَ مَا يُضَادُّهُ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ قَوْلِهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ، وَلَمْ يُنْسَخْ عِنْدَ مَنْ مَنَعَهُ، وَإِنْ قَدَّمَ الْفِعْلَ كَانَ الْقَوْلُ نَاسِخًا لَهُ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ جَعْلُ الْفِعْلِ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ النَّاسِخِ مُسَاوَاتُهُ لِلْمَنْسُوخِ، أَوْ أَقْوَى، وَالْفِعْلُ أَضْعَفُ، وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ فِعْلًا، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفَصَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُقَالُ: الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ إنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِحَضْرَتِهِ، فَقَدْ اسْتَوَيَا، وَإِنْ نُقِلَا إلَيْنَا تَعَيَّنَ أَنْ لَا يُقْضَى بِالنَّسْخِ إلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْآخَرُ آحَادًا مَنَعْنَا نَسْخَ الْآحَادِ لِلْمُتَوَاتِرِ. قَالَ: وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَمَّا الْقَوْلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْفِعْلُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا تَعَارَضَا، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْفِعْلُ عَلَى خَصَائِصِهِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.

(6/53)


[الْقِسْمُ الثَّالِثُ التَّقْرِيرُ]
ُ وَصُورَتُهُ: أَنْ يَسْكُتَ النَّبِيُّ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ -) عَنْ إنْكَارِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ قِيلَ، أَوْ فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلِمَ بِهِ. فَذَلِكَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ فِي كَوْنِهِ مُبَاحًا، إذْ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: هُوَ أَنْ يَرَاهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ، أَوْ يُخْبَرُ عَنْهُمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الطَّاعَةَ مِنْ عَمَلٍ فِي فَرْضٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْحِلَّ أَوْ التَّحْرِيمَ عِنْدَهُمْ، لَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، كَأَكْلِهِمْ الضَّبَّ بِحَضْرَتِهِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ ": هُوَ عَلَى النَّدْبِ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَالْمَانِعُونَ مِنْ التَّعَلُّقِ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُسَلِّمُونَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لِغَيْرِهِ شُرِعَ لِنَفْيِ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ التَّقْرِيرِ بِالْمُقَرَّرِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ

(6/54)


بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُرِّرَ، أَوْ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَعُمُّ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ارْتَفَعَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، وَذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّقْرِيرُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْنًى يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا قُرِّرَ. وَقَالَ الرَّازِيَّ: إنْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْوَاحِدِ حُكْمُهُ فِي الْكُلِّ، كَانَ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ تَخْصِيصًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى قَطْعَ الْإِلْحَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ بِمَنْ قُرِّرَ فَقَطْ، وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ التَّعَدِّيَ إلَى الْكُلِّ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَبْقَى تَقْرِيرُهُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْرِيرَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ لَكَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ تَقْرِيرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلصَّلَاةِ قِيَامًا خَلْفَهُ وَهُوَ جَالِسٌ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ السَّابِقِ بِالْقُعُودِ.

(6/55)


الْأَمْرُ الثَّانِي: إذَا تَضَمَّنَ رَفْعَ الْحَرَجِ إمَّا خَاصًّا أَوْ عَامًّا، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، أَوْ لَا، يَقْضِي بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ نَدْبًا، بَلْ يُحْتَمَلُ، فَيَتَوَقَّفُ؟ ذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الثَّانِي، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِمَا أَقَرَّ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا إلْكِيَا، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِسَبَبٍ، وَهَذَا مِنْهُمْ تَعَلُّقٌ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالشَّرْعِ حِينَ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَهُمَا الْوَجْهَانِ فِي أَصْلِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، هَلْ كَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى حَظَرَهَا الشَّارِعُ أَوْ عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى أَبَاحَهَا؟ وَلَمْ يَقِفْ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَسَأَلَهُ الصَّدْرُ بْنُ الْوَكِيلِ، فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ فِيهِ نَصًّا، وَرَجَّحَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ، حَتَّى يُعْرَفَ حُكْمُهُ. فَمِنْ هُنَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ

[شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ]
[شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ حُجَّةً بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ التَّقْرِيرِ، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا مَا فُعِلَ فِي عَصْرِهِ مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَالِبًا، كَقَوْلِهِمْ: كُنَّا نُجَامِعُ وَنَكْسَلُ، وَمَا فُعِلَ فِي عَهْدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمْ يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ انْتِشَارًا يَبْلُغُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهَلْ يُجْعَلُ ذَلِكَ سُنَّةً وَشَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِهِ؟ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُلَخَّصِ " بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي

(6/56)


شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَقِطِ: هَلْ يَجُوزُ فِي الْفِطْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانُوا يُخْرِجُونَهُ فِي الزَّكَاةِ فِي الْأَقِطِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ أَقِطٍ» ، فَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، وَأَضَافَهُ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ حُمِلَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَيَكُونُ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى، فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذِكْرُهُ حُمِلَ عَلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا كَثُرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ» قَالَ: وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَّجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ الْكَثِيرِ بِأَنْ قَالَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَى عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَصَارَ كَالْمَنْقُولِ شَرْعًا، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ التَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِ: فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ. أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَطْلَقَ فَسَيَأْتِي.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِنْكَارِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ خَصَائِصِهِ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَعَدَمَ السُّقُوطِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: وَإِنَّمَا اخْتَصَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوُجُوبِهِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]

(6/57)


الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ لَكَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِلَّا لَأَمَرَ بِتَرْكِهِ. اهـ.
وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْقَلُ هَذَا الشَّرْطُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمُقَرِّ عَلَى الْفِعْلِ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ، سَامِعًا مُطِيعًا، فَالْمُمْتَنِعُ كَالْكَافِرِ لَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ فِي حَقِّهِ دَالًّا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَلْحَقَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُنَافِقَ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ؛ لِأَنَّا نُجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ظَاهِرًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " فِي تَقْرِيرِ الْمُنَافِقِ خِلَافًا، وَمَالَ إلْكِيَا إلَى مَا قَالَهُ إمَامُهُ. قَالَ:؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْكُتُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ الْعِظَةَ لَا تَنْفَعُ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ حَقِيقًا بِهِمْ، وَشَرَطَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ كَوْنَ التَّقْرِيرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا مَا كَانَ يُقِرُّ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، حِينَ كَانَ دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي، وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إنْكَارٌ سَابِقٌ قَالَ: وَإِذَا ذَمَّ الرَّسُولُ فَاعِلًا بَعْدَ إقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ، دَلَّ عَلَى حَظْرِهِ بَعْدَ إبَاحَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الذَّمُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، دَلَّ عَلَى الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ. قَالَ: وَإِذَا عُلِمَ مِنْ حَالِ مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ يَزِيدُهُ إغْرَاءً عَلَى مِثْلِهِ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ غَيْرُ الرَّسُولِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ؛ لِئَلَّا يَزْدَادَ مِنْ الْمُنْكَرِ بِالْإِغْرَاءِ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ فَفِي إنْكَارِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِمَا ذُكِرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ إنْكَارُهُ لِيَزُولَ بِالْإِنْكَارِ تَوَهُّمُ الْإِبَاحَةِ. قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ

(6/58)


أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ شَرْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ، وَشَرَطَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَنْ لَا نَجِدَ لِلسُّكُوتِ مَحْمَلًا سِوَى التَّقْرِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ. فَلَوْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِبَيَانِ حُكْمٍ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ، فَرَأَى إنْسَانًا عَلَى أَمْرٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ ذَلِكَ تَقْرِيرًا إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَقْرِيرُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَلِهَذَا أَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي صَدْرِ الشَّرْعِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ لَا يُدَّعَى فِيهِ النَّسْخُ، بَلْ إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ فَهُوَ النَّسْخُ. فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَرَّرَ الرَّسُولُ فِيهِ حُكْمًا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا ثُمَّ نُسِخَ، إذْ رُبَّمَا لَمْ يَتَفَرَّغْ الرَّسُولُ لِبَيَانِهِ، أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ.
مِثَالُهُ: قَوْلُ الْخَصْمِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ: كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ انْتِفَاءُ الْحَظْرِ فِي الْمَنْكُوحَاتِ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَظْرُ، فَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَهَذَا مُجَازَفَةٌ: إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّهُمْ كَانُوا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْعًا، بَلْ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ بَيَانًا مُبْتَدَأً، وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، لَمْ يُقْطَعْ بِمَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، بَلْ يُقَالُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ إذْ لَا عُثُورَ فِيهِ عَلَى شَرْعٍ؛ لِانْدِرَاسِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ بِحُكْمٍ أَصْلًا. اهـ.

[صُوَرُ التَّقْرِيرِ]
[صُوَرُ التَّقْرِيرِ] ثُمَّ فِي التَّقْرِيرِ صُوَرٌ تَعَرَّضَ لَهَا الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إحْدَاهَا: أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ وُقُوعِ فِعْلٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، هَلْ هُوَ مِنْ

(6/59)


لَوَازِمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ بَيَانِ كَوْنِهِ لَازِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِإِتْلَافٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ أَوْ عَدَمِهِ، كَإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَثَلًا، فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ عَلَى وَجْهٍ مَا، وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
وَثَانِيَتُهَا: أَنْ يُسْأَلَ عَنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، لَا يَلْزَمُ مِنْ سُكُوتِهِ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ظَنُّ الْفَاعِلِ أَوْ الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ امْتِنَاعِهِ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ، بِنَاءً عَلَى ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْمُطَلِّقَ إنَّمَا أَرْسَلَ الثَّلَاثَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ بَقَاءَ النِّكَاحِ، فَيَقْضِي ظَنُّهُ بِكَوْنِ الْمَفْسَدَةِ وَاقِعَةً عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْإِرْسَالِ. هَذَا إذَا ظَهَرَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالْحَاضِرِينَ عَقِبَ طَلَاقِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ الْبَيَانُ وَاجِبًا لِمَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ فِي الْإِرْسَالِ. وَمِثَالُهُ أَيْضًا: اسْتِبْشَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسَبَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ إلْحَاقَ الْقَائِفِ يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْإِلْحَاقَ مَفْسَدَةٌ

(6/60)


فِي صُورَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَنَسَبُ أُسَامَةَ لَاحِقٌ بِالْفِرَاشِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الطَّاعِنُونَ فِي النِّسْبَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ إلْحَاقَ الْقَافَةِ صَحِيحٌ، اقْتَضَى ذَلِكَ الظَّنُّ مِنْهُمْ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي إلْحَاقِ الْقَائِفِ. وَثَالِثَتُهَا: أَنْ يُخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَسْكُتُ عَنْهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ بِحَضْرَتِهِ: هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أَوْ مَحْظُورٌ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ. وَرَابِعَتُهَا: أَنْ يُخْبَرَ بِحَضْرَتِهِ عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ دَلِيلًا عَلَى مُطَابَقَتِهِ؟ كَحَلِفِ عُمَرَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ؟ وَفِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا أَعْنِي كَوْنَ التَّقْرِيرِ حُجَّةً هُوَ الْعِصْمَةُ مِنْ التَّقْرِيرِ عَلَى بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ تَحَقُّقُ الْعِصْمَةِ. نَعَمْ، التَّقْرِيرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْيَمِينِ عَلَى حَسَبِ الظَّنِّ، وَأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حَلَفَ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ. اهـ.
وَيَلْتَحِقُ بِالتَّقْرِيرِ صُوَرٌ أُخْرَى. إحْدَاهَا: ذَكَرَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَهِيَ مَا يَبْلُغُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُمْ، وَيَعْلَمُهُ ظَاهِرًا مِنْ حَالِهِمْ، وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ عَادَاتِهِمْ، مِمَّا سَبِيلُهُ الِانْتِشَارُ وَالِاشْتِهَارُ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَكِيرٍ، كَنَوْمِ الصَّحَابَةِ قُعُودًا يَنْتَظِرُونَ

(6/61)


الصَّلَاةَ، فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَكَعِلْمِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ. قَالَ: وَيَتَّصِلُ بِهَذَا مَا اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهِ مِنْ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي أَشْيَاءَ سَكَتَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهَا مِنْ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَهَا كَمَا يَتَّخِذُونَ الْكُرُومَ وَالنَّخِيلَ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي إرْسَالِهِ الْمُصَدِّقِينَ وَالسُّعَاةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ظَاهِرًا بَيِّنًا، وَكَانَ إذَا بَعَثَهُمْ كَتَبَ لَهُمْ الْكُتُبَ، فَتُقْرَأُ بِحَضْرَتِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ، وَلَوْ أَمَرَ لَظَهَرَ كَمَا ظَهَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا الْوُجُوبُ لِلْأَخْذِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبِيعُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهَا لَمْ تَجْرِ بِهَذَا الْمَجْرَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ كَانَ يَبْلُغُهُ هَذَا الْفِعْلُ عَنْهُمْ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ بَيْعِهِنَّ مِنْ وُجُوهٍ، فَلَمْ يُعْتَرَضْ بِهِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ مِنْ صُوَرِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ فِيهِ بِالْأَخْذِ وَالْإِيجَابِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْخَضْرَاوَاتِ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ أَوْ أَوْجَبَهَا. قَالَ: وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ تَرْكُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ، فَأَمَّا الْمُبَايَعَاتُ وَالْإِجَارَةُ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِيهَا النُّصُوصُ الْمُبَيِّنَةُ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاتِ، وَقَدْ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النُّصُوصِ، وَلَا يَكْفِي إقَامَةُ الدَّلَالَةِ فِي مِثْلِ الْخَضْرَاوَاتِ، بَلْ الْأَخْذُ وَالتَّقَدُّمُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كَانَ فِيهَا فَرْضٌ. اهـ.

(6/62)


[أَحْكَامُ سُكُوتِ النَّبِيِّ]
أَحْكَامُ سُكُوتِهِ] ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَحْكَامِ سُكُوتِهِ، وَقَدْ نَقَلَهَا إلَى دَلِيلِ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَلْتُرَاجَعْ، وَقَدْ ذَكَرَهَا إلْكِيَا، وَهُوَ أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ، وَمِمَّا ذُكِرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُسْتَفْتِي لَيْسَ خَبِيرًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ بَصِيرًا بِالْأَحْكَامِ. قَالَ: فَسُكُوتُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ. وَمِثَالُهُ: مَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا جَاءَ إلَى الرَّسُولِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: انْزِعْ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِي حَجَّتِك مَا تَصْنَعُ فِي عُمْرَتِك» ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا؛ لِجَهْلِ الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ جَوَازَ اللُّبْسِ، فَهُوَ بِالْفِدْيَةِ أَجْهَلُ، وَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ فِي قَضِيَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَجَامِعِ عَنْ بَيَانِ حَالِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَحْدَاثِ؛ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُقْصَاةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَحْدَاثِ لَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَوْ كَانَ حَدَثًا كَانَ

(6/63)


مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَاقْتِبَاسُ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: بَيَّنَ جِبْرِيلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَيْنِ، وَلَمْ يُبَيِّنُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُبَيِّنًا لِلْأَوْقَاتِ، فَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتَانِ لَبَيَّنَهُ جِبْرِيلُ.
قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَمْ تَشْمَلْهُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ ذِكْرٌ فِيهَا، كَمَا لَوْ أَتَى بِزَانٍ فَأَمَرَ بِالْجَلْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ، وَالْعِدَّةَ وَنَحْوَهُمَا، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَالُ بِهِ عَلَى الْبَيَانِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا سُكُوتُ الرَّاوِي، قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَإِذَا سَاقَ الرَّاوِي قَضِيَّةً ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّهُ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهَا بِالْحِكَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يُغَادِرُ مِنْ مَشَاهِيرِ أَحْكَامِهَا شَيْئًا كَمَا نَقَلَ الرَّاوِي قَضِيَّةَ مَاعِزٍ مِنْ مُفْتَتَحِهَا إلَى مُخْتَتَمِهَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ جَلَدَ، وَرُدَّ عَلَى هَذَا مِنْ ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَتَشَوَّفُ إلَى نَقْلِهِ عِنْدَ نَقْلِ الرَّجْمِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفَلٍ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَيُجَابُ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِغْرَاقَهُ بِتَفَاصِيلِهَا بِالْحِكَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْجَلْدِ، إذْ لَوْ جَرَى الْجَلْدُ لَنَقَلَهُ. وَمِنْهُ: حِكَايَةُ الْمَوَاقِعِ فِي الصُّوَرِ النَّادِرَةِ، وَالظَّنُّ بِالرَّاوِي أَنَّهُ إذَا نَقَلَ الْحَدِيثَ أَنْ يَنْقُلَ بِصُورَتِهَا إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ نَادِرَةً، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهَا فَسُكُوتُهُ حُجَّةٌ.
مِثَالُهُ: مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: لَعَلَّ كَافِرًا قَتَلَ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى نُدُورٍ، وَتَشَوُّفِ الطِّبَاعِ إلَى نَقْلِ الْغَرَائِبِ، وَهَذَا حَسَنٌ. اهـ.
الثَّانِيَةُ: إذَا اسْتَبْشَرَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ قَوْلِهِ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ جَائِزًا حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْسِنُ مَمْنُوعًا مِنْهُ. يَبْقَى أَنَّهُ هَلْ اسْتَحْسَنَهُ

(6/64)


لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا؟ أَوْ لِكَوْنِهِ لِغَرَضٍ عَادِيٍّ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَأَمَّا غَضَبُهُ، وَتَغَيُّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ شَيْءٍ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ الْمَنْعُ عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهِيَةِ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَالْمَرْجِعُ فِي هَذَا النَّظَرُ فِي قَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَقْتَ غَضَبِهِ، فَيُحْكَمُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ السُّكُوتِ، وَلِذَلِكَ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَافَةِ وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا بِاسْتِبْشَارِ النَّبِيِّ بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَقَدْ بَدَتْ لَهُ أَقْدَامُ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاسْتَضْعَفَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَقَالَ: إنَّمَا سُرَّ بِكَلِمَةِ صِدْقٍ صَدَرَتْ مِمَّنْ هُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ عَلَى مُنَاقَضَةِ قَوْلِهِمْ لَمَّا قَدَحُوا فِي نِسْبَةِ أُسَامَةَ إلَى زَيْدٍ، إذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَأَذَّى بِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَسَبَهُ بِمَعْلُومٍ عِنْدَهُ. اهـ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَقَالَ: لَوْ احْتَجَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ لَدُحِضَتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُمْ، وَلَقَالُوا: كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِالرَّمْزِ وَالْقِيَافَةِ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ؟ وَنَقَلَ إلْكِيَا أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ أُورِدَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالرَّسُولِ، وَقَوْلُ مُجَزِّزٍ لَغْوٌ، إذْ الْقَائِفُ يُقْضَى بِهِ

(6/65)


فِي بَيَانِ نَسَبٍ مُلْتَبِسٍ، وَلَكِنْ كَانَ الِاسْتِبْشَارُ لِانْقِطَاعِ مَظَاهِرِ الْكُفَّارِ عَنْ نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَقَالَ مُجِيبًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَافَةِ أَصْلٌ لَمْ يَسْتَبْشِرْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ النَّكِيرِ عَلَى الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَمَنْ لَا يَسْتَنِدُ قَوْلُهُمْ إلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً، لَكَانَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

(6/66)


[الْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ]
الْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا هَمَّ بِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ لِلْخَطِيبِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَعَ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ تَنْكِيسَهُ بِجَعْلِ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ مُحْتَجًّا «بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا، فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ قَالَ الْأَصْحَابُ - وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْرَامِ نَقْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ -: إنَّهُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ الْهَمُّ.

(6/67)


[الْقِسْمُ الْخَامِسُ الْإِشَارَة]
الْقِسْمُ الْخَامِسُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ كَإِشَارَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ الْكَامِلِ، حَيْثُ قَالَ: «الشَّهْرُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَشَارَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ» ، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: " الشَّهْرُ " عَامٌّ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا مَعْهُودَ يَصِيرُ إلَيْهِ، وَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ رَمَضَانَ لَا يَنْقُصُ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ".

(6/68)


[الْقِسْمُ السَّادِسُ الْكِتَابَةُ]
ُ: مِثْلُ كِتَابَتِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَزَادَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: التَّنْبِيهَ عَلَى الْعِلَّةِ، كَحَصْرِهِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ، تَنْبِيهًا عَلَى جَرَيَانِهِ فِي كُلِّ مَا شَارَكَهَا. قَالَ: وَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ، ثُمَّ الْفِعْلُ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ، ثُمَّ الْكِتَابَةُ، ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ، فَذَكَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعٍ: الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَالتَّقْرِيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرَوْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَفْعَلُ أَوْ يَتْرُكُ، فَيَفْهَمُهُ أَخِصَّاؤُهُ عَنْهُ، وَمَا أَرَادَ بِهِ، فَيَتَدَيَّنُوا بِذَلِكَ؛ لِفَهْمِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ مُرَادَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ فِي الظَّاهِرِ أَقَلَّ مِنْ الْمَعْنَى كَنَهْيِهِ عَنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ طَعَامٍ لَهُ مَرْجُوعٌ وَاحِدٌ، يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ فِي الرَّبَّا، وَأَجْمَعُوا فَقَالُوا: كُلُّ مَا لَمْ يُسَمِّهِ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ فَهُوَ لَنَا مُبَاحٌ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ فِي الْبَقَرِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ.

(6/69)


[الْقِسْمُ السَّابِعُ التَّرْكُ]
ُ] لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَرْكِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ لَدَلَّ التَّرْكُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إذَا تَرَكَ الرَّسُولُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا قُدِّمَ إلَيْهِ الضَّبُّ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَرَكَ أَكْلَهُ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: إنِّي أَعَافُهُ» ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَعْنًى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا فَعَلَهُ لِمَعْنًى زَالَ، هَلْ يَبْقَى سُنَّةً، وَمِثَالُهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرَكَهَا خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى زَالَ بَعْدَهُ، فَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهَا.

[الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ لَمْ يَحْكُمْ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَظِيرِهَا بِشَيْءٍ] إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: تَرْكُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحُكْمَ فِي حَادِثَةٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الْحُكْمِ فِي نَظِيرِهَا، وَقَالَ: هَذَا كَرَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا شَجَّةً، فَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/70)


بِحُكْمٍ، فَيُعْلَمُ بِتَرْكِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ الشَّجَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ التَّوَقُّفُ، وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ نَصِّ اللَّهِ فِي الْحَادِثَةِ عَلَى حُكْمٍ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الْحُكْمِ فِي نَظِيرِهَا، فَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ.

(6/71)


[الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ] [الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ مَدْلُولِ الْخَبَرِ]
ِ اعْلَمْ أَنَّ أَسَاسَ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْأَخْبَارِ، وَأَكْثَرُ الْأَخْبَارِ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَحَقِيقٌ الِاهْتِمَامُ بِهِ؛ لِمَا يُؤَمَّلُ لِمَعْرِفَتِهِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْكَلَامُ فِي الْخَبَرِ فِي مَوَاطِنَ: الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِ أَمَّا لُغَةً: فَمُشْتَقٌّ مِنْ الْخَبَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ، كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ، وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: الْمُحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ. وَثَانِيهَا: عَلَى مُقَابِلُ الْمُبْتَدَأِ نَحْوُ: قَائِمٍ، مِنْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ نَحْوِيٌّ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُهُمَا، وَاَلَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ إنَّمَا هُوَ الْمُرَكَّبُ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ لَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْلَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْإِفْرَادُ،

(6/72)


وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا ضُعِّفَ مَنْعُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كَوْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ طَلَبِيَّةً، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالطَّلَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، وَمَا عُلِّلَ بِهِ بَاطِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَثَالِثُهَا: عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْشَاءِ وَالطَّلَبِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: أَخْبَارُ الرَّسُولِ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الْحَدِيثِ بِالْخَبَرِ، وَمُعْظَمُ السُّنَّةِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِهَا آيِلٌ إلَى الْخَبَرِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمُخْبَرِ عَنْ وُجُوبِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّوَاهِي. قَالَ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ آمِرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَإِنَّمَا الْآمِرُ حَقًّا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَصِيَغُ الْأَمْرِ مِنْ الْمُصْطَفَى فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ عَنْ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: إنَّمَا سُمِّيَتْ أَخْبَارًا لِنَقْلِ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّنْ يَرْوِي لَهُمْ، وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ كَانَ إذَا بَلَغَهُ لَا يَقُولُ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَلْ يَقُولُ: أَمَرَنَا، فَالْمَنْقُولُ إذًا اسْتِجْدَادُ اسْمِ الْخَبَرِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى.
تَعْرِيفُ الْخَبَرِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: فَيُطْلَقُ الْخَبَرُ عَلَى الصِّيغَةِ، كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، ثُمَّ

(6/73)


قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي النَّفْسَانِيِّ، مَجَازٌ فِي اللِّسَانِيِّ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، كَالْخِلَافِ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْخَبَرِ، وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ خَبَرًا إذَا انْضَمَّ إلَى اللَّفْظِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، كَمَا قَالُوا فِي الْأَمْرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ صِيغَةً تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَا أَشْبَهَهُ.

وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ، هَلْ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ؟ فَاخْتَارَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ التَّعْرِيفِ، وَكَذَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ. قَالَ:؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَهُ ضَرُورِيٌّ، إذْ تَصَوُّرُنَا مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ، وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ، وَالْعَامُّ جُزْؤُهُ، فَتَصَوُّرُهُ تَابِعٌ لِتَصَوُّرِ الْكُلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بَيْنَ مَعْنَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الْخَبَرُ قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، إذْ الضَّرُورِيُّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ، كَمَا فُعِلَ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ، لَا بِالْخَبَرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا، وَقَوْلُهُمْ: الْعَامُّ هُوَ جُزْءُ الْخَاصِّ، قُلْنَا يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْأَعَمِّ فِي الْأَخَصِّ، وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْعَرَضِ الْعَامِّ، كَالْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ السَّوَادُ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِقَاضُهُ بِالْحَدِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ أَوْ الْكَذِبَ لِذَاتِهِ، أَيْ الصَّالِحَ؛ لَأَنْ يُجَابَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ: بِصِدْقٍ، أَوْ كَذَبَ.

(6/74)


وَقُلْنَا: لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ، كَمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ فِي النِّدَاءِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمُرَادُ مَا يَحْتَمِلُهُ بِصِيغَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْعَوَارِضِ لِكَوْنِ مُخْبِرِهِ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، وَأَتَى بِصِيغَةٍ " أَوْ " لِيَحْتَرِزَ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَهَذَا إنَّمَا يَرِدُ إذَا ذُكِرَ بِالْوَاوِ، وَأَمَّا إذَا قِيلَ بِاحْتِمَالِهِ أَحَدَهُمَا فَلَا يَرِدُ وَقَدْ فَسَّرْنَا الِاحْتِمَالَ بِالْقَبُولِ الَّذِي يُقَابِلُهُ عَدَمُ الْقَبُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ الْوُجُوبُ بِأَنَّ كُلَّمَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ " أَوْ " فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ فِي أَقْسَامِ الْمَحْدُودِ لَا الْحَدِّ، وَالِاعْتِرَاضُ بِلُزُومِ اجْتِمَاعِهِمَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّعْبِيرِ اتِّحَادُ الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إلَّا فِي الْجُزْئِيِّ، وَالْمَحْدُودُ إنَّمَا هُوَ الْكُلِّيُّ.

[حَدُّ الْخَبَرِ]
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ ": فَإِنْ قِيلَ: مَا حَدُّ الْخَبَرِ؟ قُلْنَا: مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّهُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَمَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَرَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ يُشْعِرُ بِقَبُولِ الضِّدَّيْنِ، وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا، لَا هُمَا مَعًا، فَالْمُقْتَضِي الْمَجِيءُ " بِأَوْ " وَغَلَّطَهُ الْقَرَافِيُّ، وَقَالَ: بَلْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الضِّدَّيْنِ مَعًا، كَمَا يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ بِعَدَمِ هَذَا وُقُوعُ الْآخَرِ الْمَقْبُولِ، لَا قَبُولُهُ، وَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الْمَقْبُولَيْنِ لَا إجْمَاعُ الْقَبُولَيْنِ، وَهَذَا وَاجِبٌ، وَالْأَوَّلُ: مُسْتَحِيلٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ.
وَلِهَذَا يُقَالُ: الْمُمْكِنُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَهُمَا

(6/75)


مُتَنَاقِضَانِ، وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا لَهُ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْوُجُودَ كَانَ مُسْتَحِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْعَدَمَ كَانَ وَاجِبًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ، وَإِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَانِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ الْتِبَاسَ الْمَقْبُولَيْنِ بِالْقَبُولَيْنِ قُلْت: لَمْ يَنْفِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَّا الْمَقْبُولَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْحَدَّ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَقْبُولَيْنِ، وَقِيلَ: مَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ يَرْجِعَانِ إلَى نِسْبَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُمَا الْمُطَابَقَةُ فِي الصِّدْقِ، وَعَدَمُهَا فِي الْكَذِبِ، وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ نِسْبَتَانِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فَيَرْجِعَانِ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا، فَقَدْ يُوجَدُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مَعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ لِلْوَاقِعِ وَبِدُونِهِمَا إنْ كَانَ كَذِبًا، فَقَدْ يَصْدُقُ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ، وَيَكْذِبُ وَلَيْسَ بِكَاذِبٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا الْحَدُّ سَلِمَ مِمَّا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي كُلِّ خَبَرٍ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَدِّ مَا زَادَ عَلَى أَنْ وَسَّعَ الدَّائِرَةَ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِهِ، فَلَوْ عُرِفَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ نَوْعِيَّتِهِمَا، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ عَارِضَتَانِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لِلْإِنْسَانِ.

(6/76)


[مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الْكَذِبِ]
ِ] الْكَذِبُ: الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، مَعَ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَشَرَطَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعَمْدَ، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» .

[تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا أَيْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ]
وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ، وَلَيْسَ لَنَا خَبَرُ كَذِبٍ. قَالَ: وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَظَنَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَبَرِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ؛ لِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ عَلَى أَنَّ

(6/77)


مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ، وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مُصَادِمٌ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ الْحُكْمِ بِحُصُولِ الْقِيَامِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ.

[الثَّانِي الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا]
الثَّانِي: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِالْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ "، وَلِابْنِ قُتَيْبَةَ، حَيْثُ خَصَّا الْكَذِبَ بِمَا مَضَى، وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَيُقَالُ لَهُ: خُلْفٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: كَذِبٌ. لَنَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ الَّذِينَ نَافَقُوا: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] وَكَذِبُهُمْ فِي خَبَرِهِمْ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُوا حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، وَفِي جَانِبِ الصِّدْقِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» فَاسْتَعْمَلَ الصِّدْقَ فِي الْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِمَا مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا، لَكِنْ لَهُ وَصْفٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْخُلْفُ وَالْوَفَاءُ.

(6/78)


وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي إذْ قَالَ: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَضَعَّفَ سُؤَالَ مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: غَدًا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، فَكَيْفَ لَا يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ؟ فَقَالَ: وَالْحَالَةُ هَذِهِ آيَةٌ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا كَذِبَ فِيهِ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ الْمُنَافِقِ: «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» ، فَسَمَّاهُ مُخْلِفًا، لَا كَاذِبًا، وَلَوْ كَانَ الْإِخْلَافُ كَذِبًا دَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ» . وَقَدْ يُقَالُ: إذَا لَمْ يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ، لَا يَكُونُ خَبَرًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مَا يُفِيدُ الْكَذِبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا تَقُولُ: سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ، وَيَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ.

[الثَّالِثُ الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَهُ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ]
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَهُ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ أَمْ يَجْرِي فِي لَفْظِ " خَ بَ رَ "؟ وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الثَّانِي، فَجَعَلُوهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَخْصُوصًا بِالصِّدْقِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ هَذَا النَّوَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ التَّمْيِيزَ، فَلَا يَكْتَفِي بِأَيِّ عَدَدٍ كَانَ، إنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِخْبَارِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي ": أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالْخَبَرِ، فِيمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الصِّدْقُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبِشَارَةِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فِيهِ، فَقَدْ قَالُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِمَجِيءِ زَيْدٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَجِيئِهِ كَاذِبَةً أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ؛ لِوُجُودِ الْإِخْبَارِ بِقُدُومِهِ، وَهُوَ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ الْمُطَابَقَةَ.
وَلَوْ

(6/79)


قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَأَخْبَرَتَاهُ صَدَقَتَا أَوْ كَذَبَتَا طَلُقَتَا، وَجَعَلَ الْفُورَانِيُّ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ فَقَطْ إذَا قُرِنَ بِحَرْفِ الْبَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ، فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ حَتَّى يُلْصَقَ بِهِ الْخَبَرُ، فَإِذَا قَالَ: إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَأَخْبَرَهُ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ أَخْبَرْتِنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْفُورَانِيِّ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ " لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: إنْ أَخْبَرْتَنِي بِخُرُوجِ فُلَانٍ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَلَكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَأَخْبَرَهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعَشَرَةَ؟ نُظِرَ، إنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْبَلَدِ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَالنُّكْتَةُ فِي الْجَعَالَةِ، فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ بَحَثَ مَعَهُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَتَقَيَّدُ الْخَبَرُ بِالصِّدْقِ؟ فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ. قُلْت: وَلَعَلَّ الْقَفَّالَ يَخُصُّ ذَلِكَ بِحَالَةِ وُجُودِ الْبَاءِ، كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ تِلْمِيذِهِ الْفُورَانِيِّ، وَالثَّانِي: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ هَلْ يَنَالُهُ تَعَبٌ أَمْ لَا؟ قُلْت: وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " مِنْ زَوَائِدِهِ قَبْلَ هَذَا تَصْرِيحَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا، فَلَهُ كَذَا، فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ

(6/80)


لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عَمَلٍ. اهـ. فَجُعِلَ هَذَا مِنْ زَوَائِدِهِ، وَأَقَرَّ الرَّافِعِيَّ عَلَى الْبَحْثِ الثَّانِي هُنَاكَ، وَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا: إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ وَإِلَّا فَلَا.

[الْمَوْطِنُ الثَّانِي صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ]
الْمَوْطِنُ الثَّانِي فِي أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ؟ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُضَافُ إلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا، وَكَذِبَهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ، وَعَنْ صُورَةِ الْجَهْلِ احْتَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ النَّظَّامُ: صِدْقُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْوَاقِعَ أَمْ لَا، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ، يُقَالُ لَهُ: مَا كَذَبَ، وَلَكِنْ أَخْطَأَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَنْ شَأْنُهُ كَذَلِكَ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، لَا الْكَذِبُ مُطْلَقًا. الثَّانِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] مَعَ كَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهُ، فَلَوْ كَانَتْ الْعِبْرَةُ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَكَاذِبُونَ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، فَهِيَ إخْبَارٌ عَنْ اعْتِقَادِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ

(6/81)


مَوْجُودٍ، أَوْ كَاذِبُونَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ إخْبَارَهُمْ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إذَا خَلَا عَنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةً، أَوْ لَكَاذِبُونَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، فَيَكُونُ كَذِبًا عِنْدَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْمَشْهُورِ بِ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] وَلَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ لِذَلِكَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ، وَأَصْرَحُ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَذِبِ بِالْمُطَابَقَةِ الْخَارِجِيَّةِ، أَوْ بِهَا مَعَ الِاعْتِقَادِ.

[أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً ثُمَّ قَالَ هِيَ كَذِبٌ]
فَائِدَةٌ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً، ثُمَّ قَالَ: هِيَ كَذِبٌ، امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ " نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّخْصُ ذَلِكَ وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِكَذِبِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ. فَلَهُمْ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ إذْ رَضَوْا بِخَبَرٍ يُجَوِّزْنَ كَذِبَهُ جَوَازًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وَذَلِكَ رِضًى بِالْكَذِبِ.

(6/82)


[الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ انْحِصَارِ الْخَبَرُ فِي ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ]
الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ فِي انْحِصَارِهِ فِي ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» لِدَلَالَتِهِ عَلَى انْقِسَامِ الْكَذِبِ إلَى عَمْدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَذَبَ نَوْفٌ أَيْ الْبِكَالِيُّ لَيْسَ صَاحِبَ الْخَضِرِ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْجَاحِظِ أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، وَكَذِبَهُ عَدَمُهُمَا، وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، وَكَأَنَّهُ أَجْرَى الصِّدْقَ مَجْرَى الْعِلْمِ فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ، فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ رَاعَى أَصْلَهُ الْفَاسِدَ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، فَرَاعَى فِي كَوْنِهِ صِدْقًا وُقُوعَهُ حَسَنًا لِمُفَارَقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي حُسْنِ أَحَدِهِمَا وَقُبْحِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ حَسَنًا إلَّا مَعَ الْمُخْبِرِ بِحَالِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ يَقْتَضِي قُبْحَهُ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ قَدْ يَقْبُحُ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً لِحُسْنِهِ، كَكَوْنِهِ كَذِبًا عِلَّةٌ لِقُبْحِهِ.
بَلْ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً تَقْتَضِي الْحُسْنَ، لَكَانَ الْحُسْنُ إنَّمَا ثَبَتَ إذَا انْتَفَتْ وُجُوهُ الْقُبْحِ. الثَّانِي: أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ أَوْ لَا، وَكَذِبُهُ عَدَمُهُمَا، فَالسَّاذَجُ وَاسِطَةٌ، وَالثَّالِثُ: هُوَ قَوْلُ الرَّاغِبِ: إنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا، فَإِنْ فُقِدَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا، بَلْ لَا يَكُونُ

(6/83)


صِدْقًا، وَقَدْ يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلِاعْتِقَادِ، كَقَوْلِ الْكَافِرِ: أَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفُهُمْ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَنَى بِالْخَبَرِ الصِّدْقَ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِالْكَذِبِ مَا لَا يَكُونُ مُطَابِقًا كَيْفَمَا كَانَ، فَالْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيٌّ. وَإِنْ عَنَى بِهِمَا مَا يَكُونُ مُطَابِقًا وَغَيْرَ مُطَابِقٍ، لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِمَا، فَإِمْكَانُ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِمُطَابَقَتِهِ وَعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ. قُلْتُ: يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ مَا تَدَّعِيهِ، وَهِيَ عِبَارَةُ التَّنْبِيهِ "، أَوْ لَسْتُ مُنْكِرًا لَهُ، وَهِيَ عِبَارَةُ " الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ " فَهُوَ إقْرَارٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا وَسَاطَةَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ. فَإِنْ قُلْنَا: بَيْنَهُمَا وَسَاطَةٌ، وَهِيَ السُّكُوتُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

[الْمَوْطِنُ الرَّابِعُ فِي مَدْلُولِ الْخَبَرِ]
ِ مَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا بِثُبُوتِهَا، فَإِذَا قِيلَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، فَلَيْسَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ فِي الْخَارِجِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ كَذِبًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّكَ حَكَمْتَ بِقِيَامِ زَيْدٍ، وَأَخْبَرْتَ عَنْهُ، ثُمَّ إنْ طَابَقَ ذَلِكَ الْوَاقِعَ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَإِلَّا فَلَا، هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ.

(6/84)


وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لَا الْخَارِجِيَّةِ، لَكِنْ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ إبْهَامٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قِيلَ: الْعَالَمُ حَادِثٌ، فَمَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، لَا نَفْسُ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، إذْ لَوْ كَانَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ، لَكَانَ حَيْثُمَا وَجَدْنَا قَوْلَنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، كَانَ الْعَالَمُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ خَبَرًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ هُوَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ، لَا نَفْسِ النِّسْبَةِ. انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالتَّحْصِيلِ " عَلَى قَوْلِهِ: " وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ خَبَرًا "، وَقَالُوا: صَوَابُهُ الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَحَقُّقَ الْكَذِبِ لَا بِصِيغَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ، وَالْوَاقِعُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، انْتِفَاءُ الْكَذِبِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ:؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ إذَا تَعَذَّرَ لَا يَتَّصِفُ الْخَبَرُ أَبَدًا إلَّا بِالصِّدْقِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا، وَأَمَّا الْكَذِبُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَذَّرٌ مُطْلَقًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِنَا: لَا يَكُونُ الْكَذِبُ خَبَرًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ خَبَرٍ، وَالتَّعَذُّرُ فِي نَفْسِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُوجَدُ مَعَ الْخَبَرِ، وَلَا مَعَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: الصَّوَابُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ، وَالِانْتِقَادَاتُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهِ، أَمَّا تَقْرِيرُ عِبَارَتِهِ، فَلِأَنَّ مَدْلُولَ النِّسْبَةِ لَوْ كَانَ ثُبُوتِيًّا، لَكَانَ الْكَذِبُ غَيْرَ خَبَرٍ، لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ وَكَذِبٌ، فَالْمَلْزُومُ مُنْتَفٍ، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ ثُبُوتَ النِّسْبَةِ وَوُقُوعَهَا فِي الْخَارِجِ قَدْ يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ كَذِبًا، وَهُوَ وَاضِحٌ.

(6/85)


وَأَمَّا تَبْيِينُ فَسَادِ عِبَارَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ كَذِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ مِنْ الْخَبَرِ صِدْقٌ، كَمَا أَنَّ مِنْهُ كَذِبًا. نَعَمْ، اسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا، بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ بِكَذِبٍ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَرَافِيُّ انْتِفَاءَ الْمُلَازَمَةِ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ، وَسَبَقَ الرَّدُّ عَلَيْهِ.

[الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ]
الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ النِّسْبَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ لَا وَاحِدٌ مِنْ طَرَفَيْهَا. فَهُمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَا إلَى صِفَتِهِ، فَإِذَا كَذَّبْت الْقَائِلَ فِي قَوْلِهِ: زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو كَرِيمٌ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى كَوْنِهِ ابْنَ عَمْرٍو، بَلْ إلَى كَوْنِهِ كَرِيمًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ حَالَ النَّفْيِ ثُبُوتَهَا حَالَ الْإِثْبَاتِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمُتَكَلِّمِ إيَّاهَا لَهُ، وَأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِهَا لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، فَلَا يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهَا، وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا إلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ، فَقِيلَ: صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ، انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ زَيْدٍ، لَا إلَى ذَلِكَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْقِيَامِ، هَلْ اسْمُهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا لَوْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي اسْمِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّك حَاكِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ اُسْتُشْكِلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] بِإِسْقَاطِ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ الِابْنَ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ هُوَ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ إلَهُنَا، إمَّا بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ الْخَبَرِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ عَنْ مَوْصُوفٍ غَيْرِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَنْصَرِفُ إلَى الْخَبَرِ، وَتَبْقَى الصِّفَةُ عَلَى أَصْلِ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى كَوْنُهُ ابْنًا لِلَّهِ ثَابِتًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

(6/86)


وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَبَقَ لِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مِثْلِ هَذَا؛ بَلْ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ إذْ ادَّعَوْا الْوَلَدِيَّةَ فِيهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ دَعْوَى الشَّرْطِ أَسْهَلُ مِنْ إثْبَاتِ الْوَلَدِيَّةِ لَهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ، أَيْ قَالُوا: هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْمُنْكَرَةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا قَالُوا خَبَرًا عَنْهَا، فَلَا يُقَدَّرُ هُنَاكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنْته فِي كِتَابٍ الْبُرْهَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكِيلُ فُلَانٍ: إنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالتَّوْكِيلِ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبُنُوَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ إنْ نُوزِعَ فِي مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى فِي الْبُنُوَّةِ أَنْ يَقُولَ: هَذَانِ شَهِدَا لِي بِالْبُنُوَّةِ لِقَوْلِهِمَا فِي شَهَادَةِ التَّوْكِيلِ: إنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَهُ بِالْوَكَالَةِ أَصْلًا وَبِالنِّسْبَةِ ضِمْنًا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " فِي بَابِ التَّحَفُّظِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَالْهَرَوِيُّ فِي الْأَشْرَافِ ". فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْتُ: لَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّا لَمَّا صَدَّقْنَا الشَّاهِدَيْنِ كَانَ قَوْلُهُمَا مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ. نَعَمْ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] وَبِقَوْلِهِ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] . فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا امْرَأَةً لِكَافِرٍ، وَلَفْظُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا زَوْجَةٌ لَهُمَا، فَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ صِدْقُ الْخَبَرِ لِلطَّرَفَيْنِ وَالنِّسْبَةِ.

(6/87)


[الْمَوْطِنُ السَّادِسُ يَقَعُ الْخَبَرُ الْمُوجَبُ بِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ]
ِ فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي الْوَاقِعِ قَدْ يَكُونُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10 - 11] ثُمَّ قَالَ: {يَغْفِرْ لَكُمْ} وَالْمَعْنَى: آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ، هَكَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ يَغْفِرْ جَوَابًا لِ {تُؤْمِنُونَ} ؛ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ آمِنُوا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِ {هَلْ أَدُلُّكُمْ} عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: هَلْ تَأْتِينِي أُكْرِمْكَ؛ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَقِيلَ: إنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ، وَلَكِنْ ضُمَّتْ السِّينُ إتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] الْمَعْنَى: مَدَّ. وَقَوْلُهُمْ فِي التَّعَجُّبِ: أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، كَقَوْلِهِ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] قِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ مَنْفِيٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ النَّهْيِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَمَنَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالسُّهَيْلِيُّ وُرُودَ الْخَبَرِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ، وَقَالَ: هُوَ بَاقٍ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْخُلْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُصَاةِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ أَيْ أَنَّ حُكْمَهُنَّ أَنْ يَجِبَ أَوْ يُشْرَعَ رَضَاعُهُنَّ أَوْ عَلَيْهِنَّ الرَّضَاعَةُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، بَلْ قِيلَ: إنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْضِ. إذَا عَلِمْتَ هَذَا، وَوَرَدَ الْخَبَرُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ؟ أَوْ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ

(6/88)


الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ افْعَلْ؟ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": فِيهِ نَظَرٌ. قُلْتَ: الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ، كَذَا رَأَيْتُ التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْأَمْرِ.

[الْمَوْطِنُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ]
الْمَوْطِنُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ، فَإِنَّ الْعُقُودَ إنْشَاءَاتٌ مَدْلُولَاتُهَا وَمَنْطُوقَاتُهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا، وَالْإِخْبَارَاتِ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا، فَإِنَّ الْمِلْكَ وَالطَّلَاقَ مَثَلًا يَثْبُتَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيَغِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ، وَفِي الْخَبَرِ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ: صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ يَقَعُ مَنْقُولًا غَالِبًا عَنْ أَصْلِ الصِّيَغِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ يَجْعَلُ الثَّانِي خَبَرًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ إنْشَاءً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإِنَّهَا لِلطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ.

(6/89)


وَيَفْتَرِقَانِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ عَبَّرَ عَنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ وَالْجِنَانِ، فَإِنَّهُ إذَا قَامَ بِالنَّفْسِ طَلَبٌ مَثَلًا، وَقَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْبِيرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالْجِنَانِ، قَالَ: طَلَبْتُ مِنْ زَيْدٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، قَالَ: افْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهُ، إذْ هُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُمَا حَيْثُ لَا كَلَامَ، وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا هُوَ فِي النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ جُزْأَيْ الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ النِّسْبَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ.

[أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ]
[أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ] إذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقْسَامَ الْإِنْشَاءِ: الْقَسَمُ، وَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَالتَّرَجِّي، وَالتَّمَنِّي وَالْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ: أَنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ، بِخِلَافِ التَّحْضِيضِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَالتَّمَنِّيَ يَكُونُ فِيهَا وَفِي الْمُمْكِنَاتِ، وَقَالَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ": الْمُتَمَنَّى يَكُونُ مُتَشَوَّفًا لِلنَّفْسِ، وَالْمَرْجُوُّ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَيَكُونُ الْمَرْجُوُّ مُتَوَقَّعًا، وَالْمُتَمَنَّى قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالتَّرَجِّي أَعَمُّ مِنْ التَّمَنِّي مِنْ وَجْهٍ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ: بِاَللَّهِ هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ قَسَمٌ، وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ خَبَرًا.

(6/90)


وَأَمَّا النِّدَاءُ نَحْوُ يَا زَيْدُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إنْشَاءٌ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ أُنَادِي، أَوْ الْحَرْفُ وَحْدَهُ مُفِيدٌ لِلنِّدَاءِ. فَقِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ كَانَ الْفِعْلُ مُضْمَرًا لَقَبِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَأَجَابَ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُضْمَرٌ، وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقْبَلُهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِيَغِ الْعُقُودِ كَمَا سَبَقَ فِي مَبَاحِثِ اللُّغَةِ، وَمِمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لِهَذِهِ الصِّيَغَ نِسْبَتَيْنِ: نِسْبَةٌ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إنْشَاءَاتٌ مَحْضَةٌ، وَنِسْبَةٌ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ خَبَرٌ عَمَّا قُصِدَ إنْشَاؤُهُ، فَهِيَ إخْبَارَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مَعَانِيهَا الذِّهْنِيَّةِ، وَإِنْشَاءَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارًا؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَمَعْنَاهُمَا مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِمُخْبِرِهِ أَوْ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ، وَهُنَاكَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ حَصَلَ بِالْخَبَرِ حُصُولُ الْمُسَبَّبِ لِسَبَبِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ؛ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فِي خَبَرٍ لَا يَحْصُلُ مُخْبَرُهُ وَلَمْ يَقَعْ بِهِ، كَقَوْلِكَ: قَامَ زَيْدٌ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي كُتُبِهِ النَّحْوِيَّةِ: وَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: وَهِيَ مَاضِيَةُ اللَّفْظِ حَاضِرَةُ الْمَعْنَى، وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الظِّهَارُ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَقِيلَ فِي تَقْرِيرِهِ: لَوْ كَانَ خَبَرًا لَمَا أَحْدَثَ حُكْمًا، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي التَّعَلُّقِ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهًا أَنَّهُ إخْبَارٌ، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ " وَنَصَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَغَلِطَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]

(6/91)


وَبِقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثَمَّ أَلْفَاظًا أَبْقَاهَا الشَّارِعُ عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ قَالَهَا يُلْزَمُ بِأَمْرٍ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ كَذِبٌ، وَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ: زُورًا، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ كَذَبَ هَذَا الْكَذِبَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَكَانَتْ " عَلَيَّ حَرَامٌ " بَاقٍ عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ كَذِبٌ، وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ قَالَهُ عِنْدَنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَبِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ. فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَهُمَا لِإِحْدَاثِ مَا دَلَّا عَلَيْهِ، فَالْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةٌ: نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ خَبَرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَحْوُ: بِعْتُ، وَذَلِكَ إنْشَاءٌ مَحْضٌ، وَنَحْوُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَذَلِكَ خَبَرٌ. وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَلَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ، نَعَمْ يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ عَلَى صِيغَتِهِ إنْشَاءً فِي صُوَرٍ: مِنْهَا إذَا أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حَتَّى يَحْرُمَ بِهِ بَاطِنًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَهُوَ تَلْبِيسٌ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ، فَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَهَذَا إحْدَاثٌ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَمِنْهَا حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي إنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْرِضِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ، كَقَوْلِهِ: لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، وَفُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ: أَرَدْتُ الْحُكْمَ فَيَتَّجِهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَعَدَمُ نَقْلِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاهِدِ: أَشْهَدُ إنْشَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ شَرْعًا، وَقِيلَ: إخْبَارٌ، وَقِيلَ: إنْشَاءٌ تَضَمَّنَ الْإِخْبَارَ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.

(6/92)


وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الْمُلَاعِنِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، هَلْ هُوَ يَمِينٌ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، أَوْ يَمِينٌ فِيهَا ثُبُوتُ شَهَادَةٍ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ.

[الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ فِي تَقْسِيمَاتِ الْخَبَرِ]
الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ فِي تَقْسِيمَاتِهِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، لَكِنْ قَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ أَوْ لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُظَنُّ الصِّدْقُ، وَقَدْ يُظَنُّ الْكَذِبُ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ. الْأَوَّلُ: مَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ النَّظَرِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَالثَّانِي: ضَرْبَانِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فِي نَفْسِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا، وَهُوَ ضُرُوبٌ. أَحَدُهَا: خَبَرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ لَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِي: مَنْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا الصِّدْقَ، وَظَهَرَتْ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى الْوَفْقِ. الثَّالِثُ: مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ، وَهُوَ خَبَرُ كُلِّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ قَطْعِيٌّ. الرَّابِعُ: خَبَرُ الْعَدَدِ الْعَظِيمِ عَنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِعَدَمِ تَوَارُدِهِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالثَّابِتُ فِي الْمَعْنَوِيِّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ.

(6/93)


[الْمُتَوَاتِرُ]
ُ] الْخَامِسُ: الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ لُغَةً: تَرَادُفُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمُهْلَةٍ، وَاصْطِلَاحًا: خَبَرُ جَمْعٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: " مِنْ حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ " لِيَحْتَرِزَ بِهِ عَنْ خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ لِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ الْكَثْرَةِ، وَلَهُ شُرُوطٌ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ. [شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ] فَاَلَّذِي رَجَعَ إلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غَيْرَ مُجَازِفِينَ، فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ الْقَطْعَ، هَكَذَا شَرَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْجَمِيعِ فَبَاطِلٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ظَاهِرًا وَمَعَ ذَلِكَ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ، وَإِنْ أُرِيدَ

(6/94)


عِلْمُ الْبَعْضِ فَلَازِمٌ مِنْ شَرْطِ الْحِسِّ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةٍ، إمَّا بِعِلْمِ الْحِسِّ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ، وَإِمَّا أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يُحْتَمَلُ دُخُولُ الْغَلَطِ فِيهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا إذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عَنْ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ، بِالنَّظَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ عَنْ شُبْهَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ، وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ صُدُورٌ عَنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، ثُمَّ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَوَاسِّ وَدَرْكِهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ عَنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَلَا أَثَرَ لِلْحِسِّ فِيهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يُمَيِّزُ احْمِرَارَ الْخَجَلِ وَالْغَضْبَانِ عَنْ اصْفِرَارِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَرْغُوبِ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ يُدْرِكُ تَمْيِيزَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قَالَ: فَالْوَجْهُ اشْتِرَاطُ صُدُورِ الْأَخْبَارِ عَنْ الْبَدِيهَةِ وَالِاضْطِرَارِ، هَذَا كَلَامُهُ وَغَايَتُهُ الْحِسُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْحِسِّ.
ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةُ الشَّاهِدَيْنِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ حَقِيقَةً وَصَحِيحَةً، فَلَا تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ، فَلِذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. خَامِسُهَا: أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إلَى مَبْلَغٍ يَمْتَنِعُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى

(6/95)


الْكَذِبِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْوَقَائِعِ وَالْمُخْبِرِينَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ هَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمْ تَنْفِي عَنْ مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةَ وَالْغَلَطَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ، وَإِنَّمَا الضَّابِطُ حُصُولُ الْعِلْمِ، فَمَتَى أَخْبَرَ هَذَا الْجَمْعُ، وَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا فَلَا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، وَلَمْ يَقْطَعْ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، فَقَالَ بِعَدَمِ إفَادَةِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ لَهُ، وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، فَمَا زَادَ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فِي الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْعِلْمِ. اهـ.
وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ، وَهُمْ عَلَى الْأَشْهَرِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالْمُشْتَرِطُونَ لِلْعَدَدِ اخْتَلَفُوا وَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا كَثِيرًا، فَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ، وَنُسِبَ لِلْإِصْطَخْرِيِّ، وَاَلَّذِي فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِالْعَشَرَةِ فَمَا زَادَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا جَمْعُ الْآحَادِ فَاخْتَصَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا زَادَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ.

(6/96)


قَالَ: وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّ مَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمْ عَدَدُ النُّقَبَاءِ.
وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ غَيْرِهِ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ بِعَدَدِ بَيْعَةِ أَهْلِ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي، وَقِيلَ: عِشْرُونَ، أَيْ إذَا كَانُوا عُدُولًا، كَذَا قَيَّدَهُ الصَّيْرَفِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا} [الأعراف: 155] ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَوَقَعَ فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي وَالْبُرْهَانِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا تَقْيِيدُهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَحَكَى الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ، وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِلْمُقَاتَلَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْغَزْوَةَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَدْخَلَهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حُكْمِ عِدَادِ الْحَاضِرِينَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُمْ، فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قُلْتُ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ، وَقَالَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.

(6/97)


وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ خَبَرِ كُلِّ الْأُمَّةِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا، أَيْ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ سَرَفٌ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ لِتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ عَنَّ مُرَجِّحٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَدْلُولِ الْخَبَرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَاتِ ثَمَرَاتُهَا غَلَبَةُ الظُّنُونِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَمْثَلُ الْأَقَاوِيلِ، وَالْبَاقِي لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَيْ فَإِنَّهَا تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ، لَا تُنَاسِبُ الْغَرَضَ وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ أَبِي الْهُذَيْلِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِإِزَاءِ الِاثْنَيْنِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعِشْرِينَ أَنْ يَقُومُوا لِمِائَتَيْنِ مَنْسُوخٌ، وَصَارَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ، فَلَوْ اُحْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَدِلَّةِ، وَبَاقِي الْأَدِلَّةِ لَا تَدُلُّ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ. فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّعْيِينِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِمْ الْعِلْمُ. وَهَلْ ذَلِكَ الْعَدَدُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ فِي وَاقِعَةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يُفِيدَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى؟ قَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ مُحَالٌ، بَلْ لَا بُدَّ إلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، الْعِلْمُ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ، وَمَهْمَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ لِشَخْصٍ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُوجَبِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ، وَمَنْعُ إفَادَتِهِ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ

(6/98)


انْضِمَامُ الْقَرَائِنِ الَّتِي لَمْ يُجْعَل لَهَا أَثَرٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ يَجُوزُ أَنْ يُورِثَ الْعِلْمَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ، وَمُجَرَّدُ الْقَرَائِنِ أَيْضًا قَدْ تُورِثُ الْعِلْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا إخْبَارٌ كَعِلْمِنَا بِخَجَلِ الْخَجِلِ، وَوَجِلِ الْوَجِلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُضَمَّ الْقَرَائِنُ إلَى الْأَخْبَارِ، فَيَقُومُ بَعْضُ الْقَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ الْعَدَدِ، فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِهِمَا قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ، وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَتَوَسَّطَ الْهِنْدِيُّ، فَقَالَ: الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي حَصَلَ الْعِلْمُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ احْتِفَافِ قَرِينَةٍ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِينَ، وَلَا مِنْ جِهَةِ السَّامِعِينَ، حَالِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً، كَانَ الْإِطْرَادُ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْإِطْرَادُ. سَادِسُهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى بَطَلَ تَوَاتُرُهُمْ.
وَشَرَطَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالشَّرَائِطِ " فِي النَّاقِلِينَ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدَالَةُ، قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ التَّوَاتُرُ مِنْ الْفُسَّاقِ، وَمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَبِلَهُ. وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ، قَالَ: فَالتَّوَاتُرُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ، فَالتَّوَاتُرُ الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ تَوَاتُرُ الْكُفَّارِ. اهـ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ مَا قَالَ. قَالَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": لَا يُشْتَرَطُ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ صِفَاتُ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ،

(6/99)


وَالْكَفَّارِ وَالْعُدُولِ وَالْفُسَّاقِ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ فِي الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ لِلْعِصْمَةِ، وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا غَلِطَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ، فَنَقَلَتْ مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ إلَى مَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا رَدَدْنَا خَبَرَ النَّصَارَى بِقَتْلِ عِيسَى؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ؛ لِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُ عَنْ خَبَرِ: وَلَوْ مَا. وَمَارِقِينَ، ثُمَّ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَقَلَتُهُ مُؤْمِنِينَ أَوْ عُدُولًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِيمَانَ وَالْعَدَالَةَ فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَاعْتُبِرَ فِي أَهْلِهِ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي بَابِ السَّلَمِ مِنْ الشَّامِلِ ". فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ ": وَلَوْ وَقَّتَ بِفَصْحِ النَّصَارَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَامًا فِي شَهْرٍ وَعَامًا فِي غَيْرِهِ، عَلَى حِسَابٍ يَنْسَئُونَ فِيهِ أَيَّامًا، فَلَوْ اخْتَرْنَاهُ كُنَّا قَدْ عَمِلْنَا فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى، وَهَذَا غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، فَإِنْ بَلَغُوهُ بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ قَوْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيُعْتَبَرُ الْإِسْلَامُ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ، وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ. حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ مَا طَرِيقُهُ الدَّيَّانَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِيهِ، وَمَا طَرِيقُهُ الْأَقَالِيمُ وَشَبَهُهَا فَهَلْ لَهُمْ مَدْخَلٌ بِالتَّوَاتُرِ فِيهِ؟ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. وَقَدْ سَبَقَ

(6/100)


عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي التَّوَاتُرِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ. وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ، وَذَكَرَ وَجْهَيْنِ فِي انْفِرَادِ الصِّبْيَانِ بِهِ مَعَ شَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ الْمُوَاطَأَةِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى وُجُوهٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْبِرِينَ أَنْ لَا يَحْصُرَهُمْ عَدَدٌ، وَلَا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ، خِلَافًا لِقَوْمٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ سُقُوطِ الْمُؤَذِّنِ عَنْ الْمَنَارَةِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ لَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِي الْأَدْيَانِ، وَالْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُهُمْ وَاحِدًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ سَكَنُهُمْ وَاحِدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ أَنَّ قَبِيلَةً مِنْ الْقَبَائِلِ الْمُتَّفِقَةِ أَدْيَانُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ لَوْ أَخْبَرُوا بِوَاقِعَةٍ فِي نَاحِيَتِهِمْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ضَرُورَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَلِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا بُدَّ مِنْهَا، سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، أَوْ لَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ، بَلْ عَنْ سَمَاعٍ مِنْ آخَرِينَ، فَأَمَّا إذَا حَصَلَ الْوَسَائِطُ فَيُعْتَبَرُ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ وُجُودُ الشُّرُوطِ فِي كُلِّ الطَّبَقَاتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا بُدَّ مِنْ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، فَيَرْوِي الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عَنْ مِثْلِهِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ مَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَوَّلِينَ كَحَالِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا عَلِمُوهُ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ النَّقَلَةُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ الثَّالِثَةِ ثُمَّ الرَّابِعَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْنَا، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ مَا نَقَلَهُ النَّصَارَى عَنْ صَلْبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عَنْ عَدَدٍ لَا تَقُومُ بِهِمْ الْحُجَّةُ ابْتِدَاءً.
وَكَذَا مَا نَقَلَتْهُ الرَّوَافِضُ مِنْ النَّصِّ عَلَى إمَامَةِ عَلِيٍّ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَنْقَلِبُ آحَادًا، وَرُبَّمَا انْدَرَسَ دَهْرًا. فَالْمُتَوَاتِرُ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا اطَّرَدَتْ الشَّرَائِطُ فِيهِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا، وَهَذَا لَا خَفَاءَ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَكِنَّهُ لَيْسَ

(6/101)


مِنْ شَرْطِهِ التَّوَاتُرُ. قَالَ: بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّوَاتُرَ قَدْ يَنْقَلِبُ آحَادًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُقُوعِ التَّوَاتُرِ فَلَا يَصِحُّ تَعْبِيرُهُمْ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: مَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهِ، لَا مِنْ شَرْطِ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ تَوَاتُرٍ، وَقَدْ يَنْبَنِي عَلَى التَّوَاتُرِ.

[شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ]
[شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ] وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ مَجْنُونًا وَلَا غَافِلًا. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَدْلُولِهِ ضَرُورَةً، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، فَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهَذَا إنَّمَا نَشْرُطُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ نَظَرِيٍّ. فَإِنْ قُلْنَا: ضَرُورِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَنَازَعَ الْجَزَرِيُّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ فِي تَمْثِيلِهِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا ثَبَتَ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَهُ السَّامِعُ، صَارَ مَعْلُومًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ، كَإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْفَكًّا عَنْ اعْتِقَادِ مَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ إذَنْ؛ لِشُبْهَةِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدِ إمَامٍ. ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ مُشْكِلَةٌ فِي صِدْقِ الْخَبَرِ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ.
وَمُرَادُ الشَّرِيفِ

(6/102)


بِذَلِكَ إثْبَاتُ إمَامَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ لَنَا لِاعْتِقَادِ مُتَابِعِي النَّصِّ لِأَجْلِ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ لَنَا عَنْهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَقْوَى عَلَى دَفْعِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عَقِبَ التَّوَاتُرِ بِالْعَادَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ، فَجَازَ إخْلَافُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّامِعِينَ، فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ اعْتَقَدَ نَقِيضَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ إذَا اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ بَاطِلُ بِآيَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَوَى فِي الْعِلْمِ بِتَوَاتُرِهَا مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: هَذَا وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَوَّزَ صِدْقُ مَنْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْكِبَارِ، وَالْحَوَادِثَ الْعَظِيمَةَ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ اعْتَقَدَهَا فِي نَفْيِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ بَاطِلٌ.

[الْأَوَّلُ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ]
ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ. الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَزَعَمَ النَّظَّامُ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا، وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيمَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْخَبَرِ الَّذِي يَضْطَرُّ سَامِعُهُ إلَى أَنَّهُ صِدْقٌ، سَوَاءٌ أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ أَوْ وَاحِدٌ. وَأَجَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَاقِعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

[الثَّانِيَةُ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ]
الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانِنَا كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، كَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَتْ السُّمَنِيَّةُ.

(6/103)


وَالْبَرَاهِمَةُ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، بَلْ الظَّنَّ. وَجَوَّزَ الْبُوَيْطِيُّ فِيهِ. وَفَصَّلَ آخَرُونَ، فَقَالُوا: إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَوْجُودٍ أَفَادَ الْعِلْمَ، أَوْ عَنْ مَاضٍ فَلَا يُفِيدُهُ لَنَا أَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ وُجُودَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَبَغْدَادَ، وَالْأَشْخَاصَ الْمَاضِيَةَ كَالشَّافِعِيِّ، فَصَارَ وُرُودُهُ كَالْعِيَانِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ اضْطِرَارًا، وَقَدْ قَالَ الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ مَعَ أَعْرَابِيَّتِهِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَقَادَ إلَيْهِ الطَّبْعُ، فَقَالَ:
تَأَوَّبَنِي هَمٌّ مِنْ اللَّيْلِ مُنْصِبٌ ... وَجَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُكَذَّبُ
تَظَاهَرْنَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِي رِيبَةٌ ... وَلَمْ يَكُ عَمَّا أَخْبَرُوا مُتَعَقَّبُ
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمَا نُقِلَ عَنْ السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ، وَإِنْ كَثُرَ، فَلَا اكْتِفَاءَ بِهِ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْقَرِينَةِ مِنْ انْتِفَاءِ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُضِيفُوا وُقُوعَهُ إلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ، بَلْ إلَى قَرِينَةٍ، وَوُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْ الْقَرَائِنِ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَصْفَى ": لَمْ يَقَعْ خِلَافٌ فِي أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْيَقِينَ، إلَّا مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة، وَجَاحِدُ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عُقُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِلِسَانِهِ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ

(6/104)


فِي جِهَةِ وُقُوعِ الْيَقِينِ عَنْهُ، فَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالذَّاتِ، وَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالْعَرَضِ وَقَوْمٌ مُكْتَسَبًا. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُنْضَبِطًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، فَفِي الْبَحْرِ " قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ: فِيهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا كَالْمَرْئِيِّ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

[الثَّالِثَةُ الْعِلْمَ الْمُتَوَاتِرُ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى كَسْبٍ]
الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، وَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إلَى كَسْبٍ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْكُلِّ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ قَوْلُ الْكَافَّةِ، إلَّا الْبَلْخِيّ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": إنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ مُتَكَلِّمِينَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مُفْتَقِرٌ إلَى تَقَدُّمِ اسْتِدْلَالٍ، وَيُثْمِرُ عِلْمًا نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَوَافَقَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الدَّقَّاقِ. وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَاَلَّذِي فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُصُولِهِ إلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ

(6/105)


مُفْضِيَةٍ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا، وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مُقَدِّمَتَيْنِ فِي النَّفْسِ: عَدَمُ اجْتِمَاعِ هَذَا الْجَمْعِ عَلَى الْكَذِبِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ يَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ قَدْ كَثُرَ الطَّاعِنُ عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ إنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ تَنْزِيلُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ عَلَى النَّظَرِ فِي ثُبُوتِ أَمَارَاتٍ جَامِعَةٍ وَانْتِفَائِهَا، فَلَمْ يَعْنِ الرَّجُلُ نَظَرًا عَقْلِيًّا، وَفِكْرًا سَبْرِيًّا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتَائِجَ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا الْحَقَّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ تَوَارُدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَتِلْمِيذِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنْزِيلُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْعِلْمِ، يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُلْ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي هَذَا، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَبَرَ إذَا حَصَلَ بِشَرَائِطِهِ هَلْ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يُخَالَفَ فِي هَذَا، فَإِنَّا نَرَى الْعِلْمَ يَحْصُلُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَإِلَّا فَالْكَعْبِيُّ لَا يُنْكِرُ الْمَحْسُوسَ وَيَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ الْبِلَادَ الْغَائِبَةَ إلَّا بِالنَّظَرِ، وَمَا كَانَ ضَرُورِيًّا يُعْلَمُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبِطُ النَّظَرَ.
قَالَ: وَقَاضِينَا أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: أَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ ضَرُورَةٌ، وَأَعْلَمُ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، فَجَعْلُ الْعِلْمِ بِهِ بِالنَّظَرِ يُدْرَكُ، وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي وَهُوَ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ مُدْرَكًا بِالنَّظَرِ وَوَجْهُ النَّظَرِ تَيْسِيرُ مَدَارِكِ الْبَحْثِ الَّذِي يَظُنُّ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ إلَى الْعِلْمِ، وَإِذَنْ بَطَلَ تَعَيُّنُ كَوْنِهِ مُدْرَكًا بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، فَبَطَلَ مَا رَآهُ الْقَاضِي، وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ إنَّمَا ادَّعَى النَّظَرَ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، لَا فِي الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ. اهـ.

(6/106)


وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ احْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَا يَزِيدُ الْمُعْجِزَةَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْلَمْهَا إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ، فَكَذَا الْخَبَرُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْمُكْتَسَبِ وَالضَّرُورِيِّ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْمُكْتَسَبِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الضَّرُورِيِّ. قَالَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ". وَرَابِعٌ: وَهُوَ الْوَقْفُ ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَإِلَّا فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ؛ لِتَرَتُّبِهِ عَلَى فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ، وَوَجْهُ الْآخَرِ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ.

[الرَّابِعَةُ ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْهُ وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ أَيْ الْمُتَوَاتِر]
الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، فَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَسْتَنِدُ؟ فَالْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِاسْتِنَادِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَرَأَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْقَرَائِنِ. وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْعَدَدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَطَرْدُ أَصْلِهِ. هَذَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ، وَقَالَ: إنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ.

[الْخَامِسَةُ الْعِلْمَ الْمُتَوَاتِر عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ]
الْخَامِسَةُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ، وَإِنْ عَظُمَ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ عَادِيَةٌ.

[السَّادِسَةُ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ]
السَّادِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ ": اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ غَيْرَ شُذُوذٍ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ. لَنَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَمُمْكِنٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ لَيْسَ إلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَقَعُ مُبْتَدَأً مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ عَنْ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَلُّدِ بَاطِلٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِ خَلْقِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ.

(6/107)


[السَّابِعَةُ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ وَلَمْ يَكْذِبُوهُ]
السَّابِعَةُ: إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَمْ يَكْذِبُوهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلِمُوهُ، وَلَا حَامِلَ لَهُمْ عَلَى سُكُوتِهِمْ، كَالْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَبِهَذَا النَّوْعِ أَثْبَتْنَا كَثِيرًا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ نَظَرِيٌّ، بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَقِيلَ: لَيْسَ صِدْقُهُ قَطْعِيًّا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ اطِّلَاعٌ عَلَى كَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ، أَوْ اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ سُكُوتَ هَذَا الْبَعْضِ، وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ الْكُلِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَانِعًا مَنَعَهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِتَكْذِيبِهِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِتَصْدِيقِهِ. وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عِنْدَ انْتِفَائِهَا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، فَحِينَئِذٍ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ: صَدَقْت.
وَفَصَّلَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا: إنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ دَلَّ عَلَى الصِّدْقِ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ نَظَرِيٍّ، فَسَكَتُوا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ تَصْرِيحِهِمْ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ. وَفَصَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بَيْنَ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، فَيَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضَافًا إلَى حَالٍ قَدْ شَاهَدَهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ وَاحِدٌ

(6/108)


وَاثْنَانِ، وَيَسْمَعُ بِرِوَايَاتِهِ سَائِرُ مَنْ شَهِدَ الْحَالَ، فَلَا يُكْرَهُ، فَيَدُلُّ تَرْكُ إنْكَارِهِمْ لَهُ عَلَى صِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي جَارِي الْعَادَةِ إمْسَاكُهُمْ جَمِيعًا عَنْ رَدِّ الْكَذِبِ، وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا وَرَدَتْ أَكْثَرُ سِيَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ فِي مَغَازِيهِ. قَالَ: وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ جِدًّا.

[الثَّامِنَةُ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيّ وَلَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْكَذِبِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ]
الثَّامِنَةُ: إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَيَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا فِي الْمُخْتَارِ، خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، لَكِنَّ شَرْطًا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ، وَلَا يُكَذِّبَهُ وَقِيلَ: إنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ، أَوْ دِينِيٍّ دَلَّ. وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ بِشُرُوطِ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَتَقْرِيرُ الرَّسُولِ عَلَى إخْبَارِهِ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى انْتِفَاءِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّمَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ قَدْ دَخَلَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.

(6/109)


ثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ تَقَدَّمَهُ بَيَانُ حُكْمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ الْبَيَانِ كُلَّ وَقْتٍ، فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ؛ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَيَانِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَعَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ الطَّيَرَانَ أَوْ تَرْكَ التَّنَفُّسِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ عَنْ الْإِنْكَارِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّا لَا يُصْغَى إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إنَّهُ يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إذَا عُلِمَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْوَاقِعَةِ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، وَقَالُوا: الرَّسُولُ لَا يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَاذِبِ إذَا لَمْ يَحْلِفْ. تَنْبِيهٌ: الْعِلْمُ فِي هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ نَظَرِيٌّ؛ لِوُقُوعِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ ".

[التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا صَارَ إلَى التَّوَاتُرِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ]
ِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَخَالَفَ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَمِثْلُهُ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ.

(6/110)


وَالشَّفَاعَةِ وَخَبَرِ الرَّجْمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَنَحْوِهِ.

[الْعَاشِرَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْمَحْصُورَةِ إذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ]
ِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَفِي إنَّهُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَفِي أَنَّهُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا» يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ قَطْعًا عِنْدَ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَتِلْمِيذِهِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " عَنْ الْأُصُولِيِّينَ. وَنَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنُقِلَ عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ ": إنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى إثْبَاتِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ «فِي خَمْسِ أَوَاقٍ، وَخَمْسِ ذَوْدٍ، وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . قَالَ: كَمَا أَنَّهَا إذَا أَجْمَعَتْ عَلَى تَرْكِ الْخَبَرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ، وَإِنْ تَلَقَّوْهُ

(6/111)


بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا، وَقُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ. وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا اسْتَجْمَعَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ الصِّحَّةَ، فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَقِيلَ: بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، وَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا حُكِمَ بِصِدْقِهِ. وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْإِنْصَافُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ لَاحَ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مَخَايِلُ الْقَطْعِ وَالتَّصْمِيمِ وَأَنَّهُمْ أَسْنَدُوا التَّصْدِيقَ إلَى يَقِينٍ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّشْكِيكِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا، إمَّا بِأَخْبَارٍ نُقِلَتْ مُتَوَاتِرَةً، ثُمَّ انْدَرَسَتْ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ لَاحَ مِنْهُمْ التَّصْدِيقُ مُسْتَنِدًا إلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعُدُولِ بِالْبِدَارِ إلَى الْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ. اهـ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى مَشْهُورًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَسَطُهُ وَآخِرُهُ عَلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَأَوَّلُهُ مَنْقُولٌ عَنْ الْوَاحِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً، فَإِنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهُ ثَبَتَتْ حُجَّةُ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوس فِي أَشْيَاءَ نَقَلُوهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ. وَقَدْ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: إنَّ تَوَافُقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ بِهِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِيمَا قَبِلُوهُ مِنْ الْأَخْبَارِ قَدْ جَرَتْ بِأَنَّ مَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا يُطْبِقُونَ عَلَى قَبُولِهِ، فَلَمَّا أَطْبَقُوا عَلَى قَبُولِهِ فَقَدْ عَظَّمُوا النَّكِيرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَمِنْهُ أَخْبَارُ أُصُولِ الزَّكَاةِ

(6/112)


وَالْعِبَادَاتِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ الْأَخْبَارِ، كَرِوَايَةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَبِمِثْلِهِ احْتَجَجْنَا بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ، وَلَكِنْ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَمَنَعَتْ بِسَبَبِهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ، وَشَدَّدَتْ النَّكِيرَ عَلَى الْمُخَالِفِ. فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، وَلَا يَتَّفِقُ جَمْعٌ لَا يُحْصَوْنَ عَلَى الظَّنِّ، كَمَا لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْقِيَاسِ؟ قِيلَ: الصَّحِيحُ جَوَازُ اسْتِنَادِ الْإِجْمَاعِ إلَى الْقِيَاسِ، وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى انْقِطَاعِ الِاحْتِمَالِ حَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ بَرْهَانٍ، فَقَالَ: عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ عَنْ الْوَاحِدِ لَمْ يَصِرْ مُتَوَاتِرًا، وَهَلْ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ، وَالظَّنِّيُّ لَا يَنْقَلِبُ قَطْعِيًّا. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ لَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالصِّدْقِ لِلِاحْتِمَالِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ قِيلَ لِلْقَاضِي: لَوْ دَفَعُوا هَذَا الظَّنَّ، وَبَاحُوا بِالصِّدْقِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ، وَلَوْ نَطَقُوا لَكَانُوا مُجَازِفِينَ، وَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى بَاطِلٍ.

(6/113)


قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ حُكِيَتْ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا أَجْمَعَتْ أَوْ أَجْمَعَ أَقْوَامٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ. قَالَ: فَهَذَا عَكْسُ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِهَذَا عَنْ أَمْرٍ عَلِمُوهُ، ذَلِكَ كَلَامٌ لَا يَسْتَنِدُ لِأَنَّا لَا نُطَالِبُ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ بِمُسْتَنِدِ إجْمَاعِهِمْ. وَقَالَ: وَلَعَلَّ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ. اهـ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَأْبَاهُ. وَجَزَمَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " بِصِحَّةِ مَا إذَا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَجْمَعَتْ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِ الْخَبَرِ لِأَجْلِهِ، هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ بِمُوجَبِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ عَدَلَ عَنْهُ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ فِي الرِّبَا، وَتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِذَلِكَ، وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّتِهِ. قَالَ: فَهَذَا فَرْعُ الْكَلَامِ فِي خِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، هَلْ يَكُونُ خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ؟ وَالصَّحِيحُ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ. اهـ.

(6/114)


وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّ جَمِيعَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِمَا، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِمَا مَظْنُونُ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا الْقَطْعَ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ.

[مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْخَبَرِ]
ِ] أَمَّا إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ، فَلَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ بِهِ، فَقَدْ يَعْمَلُونَ عَلَى وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ. جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا إذَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ شَطْرَيْنِ، شَطْرٌ قَبِلُوهُ، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ، وَالشَّطْرُ الْآخَرُ اشْتَغَلَ بِتَأْوِيلِهِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي اللُّمَعِ " يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَإِنَّهُ قَالَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، سَوَاءٌ عَمِلَ الْكُلُّ بِهِ أَوْ الْبَعْضُ وَتَأَوَّلَهُ الْبَعْضُ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ".

(6/115)


[الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفُ بِالْقَرَائِنِ]
ِ، ذَهَبَ النَّظَّامُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَيَكُونُ الْعَمَلُ نَاشِئًا عَنْ الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَرِينَةِ وَالْخَبَرِ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ.

[الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ يَنْقَسِمُ التَّوَاتُرُ بِاعْتِبَارَاتٍ]
ٍ. أَحَدُهَا: إلَى مَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْكَافَّةِ، وَإِلَى مَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ، كَمَسْأَلَةِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ مُنْكِرُهُ مُعَانِدٌ كَافِرٌ كَمُنْكِرِ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ. إذْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحَدِيثِ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُك فِي الْبَسْمَلَةِ إذَا ادَّعَيْتُمْ التَّوَاتُرَ بِكَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَخَالَفَكُمْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ؟ قُلْنَا: لَمْ يَقَعْ النِّزَاعُ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ لِيَكُونَ جَاحِدُهَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي تَعَدُّدِ الْمَوْضِعِ وَاتِّحَادِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَوَاتُرِ أَصْلِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَهُ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ جَوَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ. ثَانِيهَا: التَّوَاتُرُ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ عَلَى أَخْبَارٍ تَرْجِعُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وُجُودِ حَاتِمٍ.
قَالُوا: وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ تَثْبُتُ بِهَذَا النَّوْعِ، وَهُوَ دُونَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ؛ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي طَرِيقِ النَّقْلِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ الطَّرِيقِ السَّالِمِ ": وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ مُتَقَوَّلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْآحَادَ

(6/116)


كُلَّهَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ صَحِيحَةٍ، حَكَمَتْ الْعُقُولُ بِكَذِبِهِ، وَنَطَقَتْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا مُتَقَوَّلَةً، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَا يَكَادُ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ وَمَسَائِلَ قَلِيلَةٍ فِي الْفُرُوعِ، كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الرَّوَافِضِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ الْخَوَارِجِ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي التَّمْثِيلِ بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ بِأَنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُحَصِّلِينَ، فَشَجَاعَتُهُ مُتَوَاتِرَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.

[تَنْبِيهٌ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ]
ِ] الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ ذَكَرَهُ. فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ أَهْلَ الْحَدِيثِ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَادَّعَى ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَشْمَلْهُ صِنَاعَتُهُمْ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي رِوَايَاتِهِمْ؛ لِنُدْرَتِهِ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ مِثَالٍ لَهُ أَعْيَاهُ طَلَبُهُ. قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهُ حَدِيثُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ إسْنَادِهِ. نَعَمْ، حَدِيثُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مُتَوَاتِرٌ، رَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ.

(6/117)


قُلْت: وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ، فَقَالَ: وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ؛ لِأَنَّ لَيْسَ يُوجَدُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرٌ مِنْ رِوَايَةِ عَدْلَيْنِ، رَوَى أَحَدُهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا اسْتَحَالَ هَذَا وَبَطَلَ، ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، وَمَنْ رَدَّ قَبُولَهُ فَقَدْ رَدَّ السُّنَّةَ كُلَّهَا؛ لِعَدَمِ وُجُودِ السُّنَنِ إلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ. اهـ. وَفِي هَذَا مَا يَرُدُّ عَلَى الْحَاكِم دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اشْتَرَطَا أَنْ لَا يَرْوِيَا الْحَدِيثَ إلَّا بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ، وَهَكَذَا.

(6/118)