البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي

 [فَصْلٌ فِي شَرْطِ الْفِعْلِ بِخَبَرِ الْآحَادِ]
ِ مِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْمُخْبِرِ، وَهُوَ الرَّاوِي، وَمِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ. [الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الْمُخْبِرِ] أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ لَا؛ لِعَدَمِ الْوَازِعِ عَنْ الْكَذِبِ، وَاعْتَمَدَ الْقَاضِي فِي رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ الْمُعَلِّقُ عَنْهُ: وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ يَحْكِي وَجْهًا فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ، فَلَعَلَّهُ أَسْقَطَهُ. اهـ. وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مُعْتَرِضًا بِهِ عَلَى الْقَاضِي، بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي إخْبَارِهِ عَنْ الْقُبْلَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ.
وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ الْفُورَانِيُّ فِي الْإِبَانَةِ " فِي كِتَابِ الصِّيَامِ: الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خَبَرًا فِي مُسْتَنَدِ رَدِّ أَحَادِيثِ الصَّبِيِّ، فَقِيلَ هُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ مُلَابَسَةَ الْفِسْقِ تُهَوِّنُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الْكَذِبِ،

(6/140)


وَالصَّبِيُّ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يَخْلُو عَنْ خِيفَةٍ يَسْتَوْحِشُهَا، وَالصَّبِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَهَذَا أَسَدُّ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُرَاجِعُوا صَبِيًّا قَطُّ، وَلَمْ يَسْتَخْبِرُوهُ، وَقَدْ رَاجَعُوا النِّسَاءَ وَرَاءَ الْخُدُورِ، وَكَانَ فِي الصِّبْيَانِ مَنْ يَلِجُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالٍ لَهُ بِحَيْثُ لَوْ نَقَلَهَا لَمْ يَخْلُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مِنْ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، ثُمَّ لَمْ يُرَاجَعُوا قَطُّ. اهـ.
وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ فِي كَلَامِهِ، قَالَ: أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا، كَالْبَالِغِ الْفَاسِقِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَمَنْ دُونَهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ اخْتَلَفُوا، هَلْ ذَلِكَ مَظْنُونٌ أَوْ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَظْنُونٌ. هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى فِي حَالِ صِبَاهُ، فَإِنْ تَحَمَّلَ فِي صِبَاهُ، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَوْلَانِ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَمُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاذِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ رَوَى مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدِيثَ الْمَجَّةِ الَّتِي مَجَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا فِي سَمَاعِ الصَّغِيرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَوْ قِيلَ: هَذَا لِقَبُولِ الْأُمَّةِ رِوَايَاتِ مَنْ سَبَقَ كَانَ عِنْدِي أَوْلَى؛ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصَاغِرَ رَوَوْا لِلْأَكَابِرِ مَا لَمْ

(6/141)


يَعْلَمُوهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَقَبِلُوهُ، وَثُبُوتُ مِثْلِ هَذَا عَنْ كُلِّ الصَّحَابَةِ قَدْ يَتَعَذَّرُ، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ قَدْ قَبِلُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ.
قَالَ: وَالتَّمْثِيلُ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَفِي مُطَابَقَتِهِ لِحَالِ بَعْضِهِمْ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ تَحَمُّلُ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ثُمَّ بَلَغَ، لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَهَذَا إجْمَاعٌ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ سَمِعَ الْمَجْنُونُ، ثُمَّ أَفَاقَ لَمْ تُسْمَعْ رِوَايَتُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إلَّا مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ، وَمَا سَمِعَهُ الصَّبِيُّ فِي حَالِ صِبَاهُ لَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، وَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ، ثُمَّ رَوَى وَهُوَ عَدْلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَحَكَاهُ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرُ هُنَا التَّيَقُّظُ، وَكَثْرَةُ التَّحَفُّظِ، وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَإِنْ كَانَ يُفِيقُ يَوْمًا، وَيُجَنُّ يَوْمًا، فَإِنْ أَثَّرَ جُنُونُهُ فِي زَمَنِ إفَاقَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ.
الثَّانِي: كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إجْمَاعًا، سَوَاءٌ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْكَذِبِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَمَكْرُمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ، سَمِعْت أَبَا طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يَقُولُ: «اُشْكُرْ تُرْزَقْ، وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبَ» ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الصُّرَيْفِينِيُّ وَقَالَ

(6/142)


غَرِيبٌ عَجِيبٌ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[حُكْمُ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبِدَعِ]
[حُكْمُ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبِدَعِ] وَأَمَّا الَّذِي مِنْ أَهْلِهَا وَهُمْ الْمُبْتَدِعَةُ، فَإِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ كَالْمُجَسِّمَةِ إذَا قُلْنَا بِتَكْفِيرِهِمْ، فَإِنْ عَلِمْنَا مِنْ مَذْهَبِهِمْ جَوَازَ الْكَذِبِ إمَّا لِنُصْرَةِ رَأْيِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُمْ قَطْعًا، كَذَا قَالُوهُ. وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ مُطْلَقًا، فَإِنْ اعْتَقَدُوا جَوَازَهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَالْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنُصْرَةِ الْعَقِيدَةِ، أَوْ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ، أَوْ التَّرْهِيبِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ رُدَّتْ رِوَايَتُهُمْ فِيمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ فَقَطْ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا حُرْمَةَ الْكَذِبِ، فَقَوْلَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تُقْبَلُ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيَّ قِيَاسًا عَلَى الْفَاسِقِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يُقْبَلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ حُرْمَةُ الْكَذِبِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ صِدْقُهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْكَافِرِ بِالْبِدْعَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ ". أَطْلَقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي، الْأَوْسَطِ " عَدَمَ قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ مُطْلَقًا، وَقَالَ: لَا خِلَافَ فِيهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ إذَا لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْكَذِبَ وَالتَّدَيُّنَ

(6/143)


بِهِ لَمْ يُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: رَدُّ رِوَايَتِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا يُرَدُّ كَالْفَاسِقِ بِغَيْرِ التَّأْوِيلِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ الْكَافِرُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ ". قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ لِأَنَّ كُتُبَهُمْ طَافِحَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَرِوَايَةُ الْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِي الْفَرْقِ: أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِ، وَذَلِكَ ضَمُّ جَهْلٍ إلَى كُفْرٍ، فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ، وَمَا قَالَهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِهِ بِالْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا مَأْخَذُ الرَّدِّ عِنْدَهُمْ الْفِسْقُ، وَلَمْ يَعْذِرُوهُ بِتَأْوِيلِهِ، وَقَالُوا: هُوَ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ، وَفَاسِقٌ لِجَهْلِهِ بِبِدْعَتِهِ، فَتَضَاعَفَ فِسْقُهُ.
وَالثَّانِي: يُقْبَلُ سَوَاءٌ دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَا، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ، كَمَا سَبَقَ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَدِيٍّ: قُلْت؛ لِلرَّبِيعِ: مَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى مَعَ وَصْفِهِ إيَّاهُ بِأَنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا؟ فَقَالَ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَأَنْ يَخِرَّ إبْرَاهِيمُ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: هَلْ هُوَ إلَّا مِنْ الْخَطَّابِيَّةِ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ قَالَ: وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: إلَى هَذَا مَيْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ وَالْخَوَارِجِ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ الدِّمَاءَ

(6/144)


وَالْأَمْوَالَ لِتَوَقِّيهِمْ الْكَذِبَ وَاعْتِقَادِهِمْ كُفْرَ فَاعِلِهِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِالْكَذِبِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا كُنَّا نَقْبَلُ رِوَايَةَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَذَبَ فَسَقَ، فَلَأَنْ نَقْبَلَ رِوَايَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَذَبَ كَفَرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ: وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى قِيلَ: لَوْ حُذِفَتْ رِوَايَاتُهُمْ لَابْيَضَّتْ الْكُتُبُ. اهـ.
وَقَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ " عَلَى كَوْنِ الْخَطَّابِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بِأَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُمْ قَطْعًا. قَالَ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مُنْقَطِعًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَإِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُ وَانْضَمَّ إلَيْهِ التَّقْوَى الْمَانِعَةُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فَالْمُوجِبُ لِلْقَبُولِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ مَعَ الْعَدَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِظَنِّ الصِّدْقِ، وَالْمَانِعُ الْمُتَخَيَّلُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْمُوجِبَ، بَلْ قَدْ يُقَوِّيهِ كَمَا فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْخُلُودَ بِالذَّنْبِ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَزَالَ الْمَانِعُ، وَجَبَ الْقَبُولُ.

(6/145)


وَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْفُسَّاقُ بِسَبَبِ الْعَقِيدَةِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ رِوَايَاتِهِمْ مَقْبُولَةٌ، فَإِنَّ الْعَقَائِدَ الَّتِي تَحَلَّوْا بِهَا لَا تُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ افْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَصْلُ الثِّقَةُ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُتَأَوِّلِ وَالْمُحِقِّ سَوَاءٌ.
نَعَمْ الشَّافِعِيُّ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّهَادَةَ تَسْتَدْعِي رُتْبَةً وَوَقَارًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهَا إثْبَاتُ الشَّرْعِ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، فَاسْتَدْعَتْ مَزِيدَ مَنْصِبٍ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى بِدْعَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ، وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ "، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو إلَى هَوَاهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْعُ يُقْبَلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَدْعُو لِبَيَانِ سَبَبِ تُهْمَتِهِ، أَيْ لَا تَأْخُذُ عَنْ مُبْتَدِعٍ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَدْعُو إلَى هَوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِهِ. اهـ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ، وَأَوْلَاهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ، وَدَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ نَقَلَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ،

(6/146)


فَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ: فَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّتِنَا خِلَافٌ فِي أَنَّ الصَّدُوقَ التَّقِيَّ إذَا كَانَ فِيهِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْعُو إلَيْهَا، أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِأَخْبَارِهِ جَائِزٌ، فَإِذَا دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ سَقَطَ. الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا الْمَذْهَبَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَهُ. نَعَمْ، فِي هَذَا الْمَذْهَبِ وَجْهٌ أَنَّهُ إذَا رَوَى الْمُبْتَدِعُ الدَّاعِيَةُ مَا يُقَوِّي بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى خَصْمِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ. قَالَ: نَعَمْ، الَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إذَا رَوَى، فَإِمَّا أَنْ يَرْوِيَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُ أَوْ مَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رُوِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ هَاهُنَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ، لَا؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ بَاطِلَةٌ، بَلْ لِإِهَانَتِهِ وَعَدَمِ تَعْظِيمِهِ. اهـ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ.
وَمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ ابْنَ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ": الْخِلَافُ فِي غَيْرِ الدَّاعِيَةِ، أَمَّا الدَّاعِيَةُ فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَفَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ: إنْ ضَمَّ إلَى بِدْعَتِهِ افْتِعَالَهُ الْحَدِيثَ، وَتَحْرِيفَ الرِّوَايَةِ؛ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا وَقْعَ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْرُوكٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ.

(6/147)


تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ [الْمُرَادُ بِالدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ] الْأَوَّلُ: يَتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّاعِيَةِ الْحَامِلُ عَلَى بِدْعَتِهِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الْخِلَافُ فِي الدَّاعِيَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُظْهِرُهَا، وَيُحَقِّقُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا الدَّاعِي بِمَعْنَى حَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَرْكِ حَدِيثِهِ.

[مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ]
الثَّانِي [مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ] إنَّمَا لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إذَا رَوَى فِي حَالِ كُفْرِهِ، أَمَّا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّى فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى وَهُوَ فَاسِقٌ، ثُمَّ أَدَّى وَقَدْ اعْتَدَلَ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَلَمَّا سَمِعَ هَذَا كَانَ كَافِرًا عَقِبَ أَسْرِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ» ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ.

(6/148)


[الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ]
ِ] فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كَمَا لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْعَادِلُ تَوَسُّعًا، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بِهَا. وَالْعَدَالَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ عَدْلٌ، لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ، وَضِدُّهَا الْفِسْقُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ عَلَى تَقْوَاهُ، فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ، فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّ، بَلْ ظَنٍّ لَهُ أَصْلٌ شَرْعًا. هَذَا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ عَلَى فِسْقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا. [تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ، وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ، لَا حَاجَةَ؛ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْحُضُ الطَّاعَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمْحُضُ

(6/149)


الْمَعْصِيَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ. فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ، وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَلَا رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ، وَقَالَ: لَوْ ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ الْكَذِبَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي مَا مَعْنَاهُ: الْمَعْنِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ، فَكُلُّ مَا لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْقَادِحُ مَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ. اهـ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ مَنْ كَانَ مُطِيعًا؛ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ، إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَكُلُّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَاسِقٌ، أَوْ صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وَمَنْ تَتَابَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ، وَكَذَا مَنْ جُهِلَ أَمْرُهُ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْتُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أَنَّهَا عِلْمُ الْإِصْرَارِ؛ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ، كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ، وَعَلَى أَنِّي عَلَى حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا. قَالَ: فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بِهَا وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ: 1 - الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ.

(6/150)


وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ. 3 - وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدْرَ، وَيُكْسِبُ النَّدَمَ. 4 - وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الثِّقَةُ مِنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي، الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ مِنْ حَالِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِذَا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الِاجْتِهَادُ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، أَوْ زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ.

(6/151)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ، وَعَدَالَتِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، بَلْ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ، هَذَا كَلَامُهُ. قُلْت: وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مَنْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاطِنَ.

[أَقْسَامُ الذُّنُوبِ] أَحَدُهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إلَى كَمْ تَنْقَسِمُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إلَى قِسْمَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيُسَاعِدُهُمْ إطْلَاقَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَهُوَ الْكَبَائِرُ تَلِي رُتْبَةَ الْكُفْرِ، وَجَعَلَ الصَّغَائِرَ تَلِي رُتْبَةَ الْكَبِيرَةِ، وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ. الثَّانِي: هُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ وَهُوَ طَرِيقَةُ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَفْيُ الصَّغَائِرِ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي، الْإِرْشَادِ "، وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ "، فَقَالَ: الْمَعَاصِي عِنْدَنَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا: صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: إنْ اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ،

(6/152)


وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، كَفَّرْت عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الَّتِي دُونَ الْكُفْرِ، إنْ شِئْت. ثُمَّ حَكَى انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَلَّطَهُمْ، وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً؛ إجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ: إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٍ، وَكَبِيرَةٍ وَفَاحِشَةٍ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِذَا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ. وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ رُتْبَةَ الْكَبَائِرِ تَتَفَاوَتُ قَطْعًا.

[تَعْرِيفُ الْكَبِيرَةِ] الثَّانِي: إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرَةِ، هَلْ تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أَوْ بِالْعَدِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَى أَوْجُهٍ. قِيلَ: الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ، وَقِيلَ: مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: مَا تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا، وَيَجْمَعُ الْكَبَائِرَ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْعَدِّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ تَنْحَصِرُ؟ فَقِيلَ: تَنْحَصِرُ، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: مُعَيَّنَةٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ

(6/153)


الْعِبَادُ، وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إشَارَةٍ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي اجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، وَنَظِيرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ. اهـ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشْرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ، إذْ لَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ السَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَصْرُهَا، وَقَدْ أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيِّ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ إلَى السَّبْعِينَ. وَمِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ: الْقَتْلُ، وَالزِّنَا وَاللِّوَاطُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَمُطْلَقُ السُّكْرِ، وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ، وَمَالُ الْيَتِيمِ وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ وَتَقَدُّمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا، وَالْكَذِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ، وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ، وَهِيَ الْقِيَادَةُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالْقِيَادَةُ وَهِيَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَالسِّعَايَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالْغُلُولُ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالسِّحْرُ، وَالرِّبَا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ، وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ.
وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ فِي " تَرْكِ الْأَمْرِ " وَمَا بَعْدَهُ، وَنَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ

(6/154)


جَعْلَ الْغِيبَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ، كَيْفَ وَهِيَ أُخْتُ النَّمِيمَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْمُعَذَّبَيْنِ فِي قَبْرِهِمَا، فَذَكَرَ الْغِيبَةَ بَدَلَ النَّمِيمَةِ وَمِنْهَا إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْقُضَاعِيُّ فِي كِتَابِ " تَحْرِيرِ الْمَقَالِ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ ": إنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أُصِرَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ. قَالَ: وَقَدْ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَرُبَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا، وَلَا يَصِحُّ، وَالْإِصْرَارُ يَكُونُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمِيٌّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ كَرَّرَهَا فِعْلًا، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنْهَا، فَلَوْ ذَهَلَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالصِّيَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ.
لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا هَلْ شَرْطُ التَّكْفِيرِ عَدَمُ مُلَابَسَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهُمَا مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَنْ الْجُمْهُورِ الِاشْتِرَاطَ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. قَالَ: وَالشَّرْطُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ

(6/155)


إلَّا الْكَبَائِرَ، وَهَذَا يُسَاعِدُهُ مُطْلَقُ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الْكُفْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، فَنَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، وَتَسْقُطُ الدَّلَالَةُ بِهَا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: الْإِصْرَارُ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: لَمْ أَظْفَرْ فِيهِ بِمَا يُثْلِجُ الصُّدُورَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَحِينَئِذٍ هَلْ تُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّغَائِرِ أَمْ الْإِكْثَارِ مِنْ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟ وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عَنْهُ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُوَافِقُ الثَّانِي قَوْلَ الْجُمْهُورِ: مَنْ تَغْلِبُ مَعَاصِيهِ طَاعَتَهُ كَأَنْ يُزَوِّرَ الشَّهَادَةَ. قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَضُرُّهُ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّوْعِ تَضُرُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ حِكَايَتِهِ قَالَ: إنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَالْإِكْثَارِ مِنْ الْأَنْوَاعِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مَعَهُ التَّفْصِيلُ. نَعَمْ، يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا إذَا أَتَى بِأَنْوَاعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ضَرَّ.

[خَبَرِ الْفَاسِقِ]
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مَسَائِلُ. أَحَدُهَا: عَدَمُ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ. وَالْفِسْقُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ، فَلَا خِلَافَ فِي رَدِّهِ. الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ كَالْمُبْتَدِعَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَحَكَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ. قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ، عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ

(6/156)


وَإِنْ بَاحُوا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَلَمْ يَبُوحُوا بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ، فَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِلْمُقْدِمِ عَلَى الْفِسْقِ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُرْمَةَ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى رَدِّهِ، كَذَا قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ " وَغَيْرِهِ، وَيُتَّجَهُ تَقْيِيدُهُ بِالْمَقْطُوعِ بِكَوْنِهِ فِسْقًا، أَمَّا الْمَظْنُونُ فَيُشْبِهُ تَخْرِيجَ خِلَافٍ فِيهِ، إذْ حَكَوْا وَجْهًا فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَالرِّوَايَةُ مُلْحَقَةٌ بِالشَّهَادَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدَالَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الْفِسْقِ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدٍ فَأَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَظْنُونِ وَالْمَقْطُوعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَظْنُونَاتِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَنَفِيِّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ وَأَحُدُّهُ، وَقَالَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ، وَحُكِيَ فِي " الْمَحْصُولِ " الِاتِّفَاقُ فِي الْمَظْنُونِ عَلَى الْقَبُولِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا مِنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَقْطُوعِ بِهِ إذَا لَمْ يَرَ صَاحِبُهُ جَوَازَ الْكَذِبِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَبِلُوا رِوَايَتَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إذَا كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ، وَقَدْ قَبِلَ التَّابِعُونَ أَخْبَارَ الْخَوَارِجِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَرُدُّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

(6/157)


وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجُبَّائِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَقَدْ نَازَعَ فِي كَوْنِهِ صُورَةَ النَّبِيذِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْفِسْقِ الْمَظْنُونِ طَائِفَتَانِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَيْسَ هُوَ مِنْ الْفِسْقِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ لَا إنْكَارَ فِيهَا عَلَى الْمُخَالِفِ، وَلَا فِسْقَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا نَعْلَمُهُ وَلَا إثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ". وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ التَّفْسِيقِ، وَالْفِسْقُ رَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: أَحُدُّهُ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيُّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشَّافِعِيِّ تَنَاقُضًا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ حَقَّقَ اخْتِلَافَ الْجِهَتَيْنِ، فَقَالَ: الْحَدُّ لِلزَّجْرِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّارِبِ لِلنَّبِيذِ، وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ لِلْكَبِيرَةِ، وَهَذَا يُتَأَوَّلُ فِيمَنْ شَرِبَ مُعْتَقِدًا إبَاحَةً فَعُذِرَ بِتَأْوِيلِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدُمَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ، عَالِمًا بِالْخِلَافِ فِي إبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ، فَيُحَدُّ. وَفِي فِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُمَا فِي الرِّوَايَةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْإِرْشَادِ فِي الشُّبُهَاتِ تَهَاوُنٌ. وَالثَّانِي لَا يَفْسُقُ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِبَاحَةِ أَغْلَظُ مِنْ التَّعَاطِي، وَلَا يَفْسُقُ مُعْتَقِدُ الْإِبَاحَةِ.
الثَّانِيَةُ: مَنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ، لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ عَدَالَةَ الرَّاوِي شَرْطٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ عَدَالَتُهُ، وَلَا إشْكَالَ فِي قَبُولِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ جَرْحُهُ، فَلَا إشْكَالَ فِي رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ.

[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ]
وَلَهُ أَحْوَالٌ:

(6/158)


[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ] أَحَدُهَا: مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الرَّاوِيَانِ أَوْ الرُّوَاةُ عَنْهُ لَا يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا.

[الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ]
[الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ] الثَّانِي: الْمَجْهُولُ بَاطِنًا وَهُوَ عَدْلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْجَرْحُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تُعْلَمْ الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ، وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ جَزْمِ الشَّافِعِيُّ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ: نُصَّ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمَسْتُورِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْعَدْلِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ ": وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جَهَالَةِ الْحَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ

(6/159)


خَصْمًا يُطَالِبُ بِالْعَدَالَةِ، فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كَمَا قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ.
وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، كَمَا رَأَيْت، نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ، فَاقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ، وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ، وَسَنَذْكُرُهُ. قُلْت: وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا مَا سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْعَدَالَةُ، وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقْبَلُ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عَنْهُ السَّلَفُ، وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ. انْتَهَى.
وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي كِتَابِ " الثِّقَاتِ " أَنْ يُوَثِّقَ مَنْ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: اسْتَقْرَيْت ذَلِكَ مِنْهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَصْرِ، مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:

(6/160)


يُوقَفُ، وَيَجِبُ الِانْكِفَافُ إذَا رُوِيَ التَّحْرِيمُ إلَى الظُّهُورِ فَتَحَصَّلْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ. وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " تَصْحِيحَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ إنَّمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ، لَا مَنْزِلَةَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يُقْضَى فِيهِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورٍ، فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ عُدُولٌ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَاقَضَ مَا قَالَهُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَمُعْظَمُهَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ عَدَالَةً فَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ. انْتَهَى.
وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ، وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجْهُولُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَسْتُورِ مَنْ يَكُونُ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ، وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا، قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " أَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ هِيَ الَّتِي تَرْجِعُ فِيهَا الْقُضَاةُ إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ، وَسَبَقَ عَنْ النَّصِّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ. وَفَسَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْتُورَ بِاَلَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَقِيضُ الْعَدَالَةِ، وَلَمْ يَبْقَ الْبَحْثُ عَلَى الْبَاطِنِ فِي عَدَالَتِهِ، وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلُزُومِ أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وَمَا يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ، أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكْفِيهِ اجْتِنَابُ

(6/161)


الْكَبَائِرِ، حَتَّى يَتَوَقَّى مَعَ ذَلِكَ لِمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً كَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، وَتَطْفِيفِ الدَّانِقِ وَنَحْوِهِ.

[الثَّالِثُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ]
ِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ، فَالصَّحِيحُ لَا يُقْبَلُ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَاكْتَفَيْنَا فِي التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ وَالنَّجْدَةِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقِيلَ: إنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَعَ رِوَايَتِهِ وَأَخَذَهُ عَنْهُ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ، صَاحِبِ كِتَابِ " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ". قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَقَلُّ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِ. قُلْت: وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ وَصَحِيحِهِ: " " ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّسَائِيّ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عَنْهُ وَاحِدٌ فَقَطْ فَهُوَ مَجْهُولٌ، وَإِذَا رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَعْلُومٌ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَعْرِفُونَ، وَلَا يُخْبِرُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عَنْهُ، وَلَا تُخْرِجُهُ رِوَايَتُهُمْ عَنْهُ عَنْ الْجَهَالَةِ إذَا لَمْ يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ. قُلْت: مُرَادُ الْمُحَدِّثِينَ ارْتِفَاعُ جَهَالَةِ الْعَيْنِ لَا الْحَالِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ فِي الشَّهَادَةِ.

(6/162)


[قَبُولُ رِوَايَةِ التَّائِبِ عَنْ الْكَذِبِ]
ِ] الرَّابِعَةُ: مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُصَدَّقُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنْ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي " شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ " كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ مِنْهُ، وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا فَارَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ الشَّهَادَةَ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ. قُلْت: وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: مَنْ كَذَبَ فِي حَدِيثٍ رُدَّ بِهِ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ حُدِّثَ فِسْقُهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. اهـ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَفَّالِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ أَبَدًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: مَنْ قَالَ كَذَبْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ فَسَقَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.

(6/163)


قَالَ ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ رَاوٍ غَيْرَهُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاوٍ غَيْرَهُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ ذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ، وَيَقْبَلُهُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِالشَّهَادَةِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْحُكْمُ، وَلَا يُسْمَعُ مَا لَمْ يَنْفُذْ الْحُكْمُ، وَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا حُكِمَ وَفِيمَا لَمْ يُحْكَمْ، يُعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ.
قَالَ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إذَا رُجِعَ عَنْ خَبَرٍ لَا أَحْكُمُ بِهِ، وَمَتَى حَكَمْت بِهِ لَمْ أَنْقُضْ. فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ إذَا فَسَقَ. قَالَ: وَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ أَوْ عَمِلَ بِمَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ أَوْ فِسْقَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ. اهـ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ هُوَ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَهُ فِيمَا رُدَّ، وَيَقْبَلُ فِي غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ: الْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ وَقَبُولِ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا، لَيْسَ بِمُوَافِقٍ.

[اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ]
[اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ] الْخَامِسَةُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: الْعَدَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالسُّنَنِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَلَا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ، " فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ جَازَ قَبُولُهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا، وَكَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الدَّارِ. وَتَأْتِي مَسْأَلَةٌ فِي الصَّبِيِّ. ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ " الْحَاوِي " أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ، فَأَرَادَ الطَّلَبَ قَبْلَ التَّيَمُّمِ، فَأَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ، بِخِلَافِهِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَمِدُهُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ

(6/164)


عَدَمَ الْمَاءِ هُوَ الْأَصْلُ فَيَتَقَوَّى خَبَرُ الْفَاسِقِ بِهِ بِخِلَافِ وُجُودِ الْمَاءِ.

[الرِّوَايَةُ عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي الْمَشَاهِيرِ]
السَّادِسَةُ: قَالَا أَيْضًا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْمَنَاكِيرِ.

[الرِّوَايَة عَنْ أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ]
السَّابِعَةُ: أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، كَالدَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ فِي الدِّينِ، لَا نَصَّ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تَنْبَنِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ قُلْنَا: تُقْبَلُ، فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْبَلُ، فَفِي رِوَايَاتِهِمْ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْقَبُولُ، لِأَنَّ هَذِهِ مَكَاسِبُ مُبَاحَةٌ، وَبِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ، وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ، لِمَا فِيهَا مِنْ اخْتِرَامِ الْمُرُوءَةِ.

[الرِّوَايَة عَنْ مِنْ يَتَعَاطَى الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ]
الثَّامِنَةُ: تَعَاطِي الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ، كَالْجُلُوسِ لِلنُّزْهَةِ عَلَى قَارِعَةِ الطُّرُقِ، وَالْأَكْلِ فِيهِ، وَصُحْبَةِ أَرَاذِلِ الْعَامَّةِ. قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": فَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي. وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَالِمِ وَالْحَاكِمِ.

(6/165)


[فَصْلٌ الطَّرِيقُ الَّذِي تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِهِ]
ِ] وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقِهَا. فَنَقُولُ: تَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ أَوْ التَّزْكِيَةِ. أَمَّا الِاخْتِبَارُ فَهُوَ الْأَصْلُ، إذْ التَّزْكِيَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِ، وَاخْتِبَارِ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُعْثَرْ مِنْهُ عَلَى كَبِيرَةٍ تُهَوِّنُ عَلَى مُرْتَكِبِهَا الْأَكَاذِيبَ وَافْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ وَلَا تُسْقِطُ الثِّقَةَ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَبِأُمُورٍ: مِنْهَا تَنْصِيصُ عَدْلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَأَعْلَاهُ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ مَعَهُ، وَهُوَ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ. وَدُونَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ، وَإِنَّمَا انْحَطَّ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ عَلَى قَوْلٍ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ لِي، وَعَلَيَّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عِنْدَنَا لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ مَرْضِيٌّ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، وَهَلْ تَثْبُتُ بِوَاحِدٍ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا، لِاسْتِوَاءِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْخَبَرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا اثْنَانِ، وَالرِّوَايَةُ يُكْتَفَى فِيهَا

(6/166)


بِوَاحِدٍ، كَمَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَصْلِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ فِي جَرْحِ رِوَايَتِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ تَعْدِيلَ الرَّاوِي: هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ أَوْ مَجْرَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ؟ قَالَا: وَفِي جَوَازِ كَوْنِ الْمُحَدِّثِ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ عُدِلَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّعْدِيلِ، وَجَزَمَا فِي الْجَرْحِ بِالتَّعَدُّدِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِنٍ مَغِيبٍ، وَأَجْرَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ فِيهِ كَالتَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ.

[تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ] وَحَيْثُ اكْتَفَيْنَا بِتَعْدِيلِ الْوَاحِدِ، فَأُطْلِقَ فِي الْمَحْصُولِ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي التَّعْدِيلِ، لَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الرِّوَايَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ قَبُولَ قَوْلِهَا فِيهِمَا، كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا، وَشَهَادَتُهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ قَبُولُهَا فِي الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ، وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ. وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابُهَا لَهُ.

(6/167)


وَمِنْهَا: أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ، وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ إلَّا وَهُوَ عَدْلٌ عِنْدَهُ. قَالَ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ. وَهُوَ قَيْدٌ صَحِيحٌ يَأْتِي فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، أَمَّا إذَا أَجَزْنَا، فَعِلْمُهُ بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ مَعَهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا. قُلْت: وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِ، فَتَعْدِيلٌ، وَأَنْ لَا يَعْلَمَهُ فَلَا، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَبْدَرِيُّ، شَارِحُ الْمُسْتَصْفَى ".

وَمِنْهَا: الِاسْتِفَاضَةُ، فَمَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اُسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ تَعْدِيلِهِ قَضَاءً. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: الْخَطِيبُ، وَنَقَلَهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةَ وَالسُّفْيَانَانِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ. فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ: مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ يَحْتَاجَانِ إلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، وَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا وَيَجُوزُ فِيهِ. الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ فِي تَعْدِيلِهِ.

(6/168)


وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَغَارِبَةِ، وَهَذَا أَوْرَدَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ " مِنْ جِهَةِ مُعَافَى بْنِ رِفَاعَةَ السُّلَامِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذُرِيِّ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ غَيْرَ هَذَا، لَكِنْ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " لِلْخَلَّالِ، سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقِيلَ لَهُ: كَمَا تَرَى إنَّهُ مَوْضُوعٌ. فَقَالَ: لَا، هُوَ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.

وَمِنْهَا: أَنْ يُعْمَلَ بِخَبَرِهِ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي

(6/169)


فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ لَهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَالثَّالِثُ: قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَوَافَقَ عَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ، فَعَمَلُهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ، وَإِنْ بَانَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةٍ إنَّمَا عُمِلَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَمْ يُعْمَلْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِالْخَبَرِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ. وَالثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ عَمَلِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَهُوَ كَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ الثِّقَةَ.
وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنْ كَانَ الَّذِي عُمِلَ بِهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي يَخْرُجُ الْمُتَحَلِّي بِهَا عَنْ سِمَةِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ تَعْدِيلًا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ. قَالَ: هَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا عُمِلَ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَقَدْ يَنْقَدِحُ فِي خَاطِرِ الْفَقِيهِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِقِيَاسٍ أَوْ ظَاهِرٍ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَيُتَّجَهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ رِوَايَةٌ فَلَا مَحْمَلَ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ قَالَ: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا قَبُولُ الْمُرْسَلِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: شَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مِمَّا

(6/170)


لَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي احْتَاطَ لِلْعَمَلِ، بِأَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ. قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا أَوَّلًا، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا عُدِلَ عَنْ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ يُعْمَلَ بِذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ بِالضَّعْفِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ تَعْدِيلًا، وَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ، فَهَلْ يَكُونُ جَرْحًا؟ قَالَ الْقَاضِي: إنْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مَعَ ارْتِفَاعِ الدَّوَافِعِ وَالْمَوَانِعِ، وَتَقَرَّرَ عِنْدَنَا تَرْكُهُ مُوجَبَ الْخَبَرِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا. وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَسُوغُ تَرْكُهُ، وَلَمْ يُتَبَيَّنْ قَصْدُهُ إلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ جَرْحًا، كَمَا لَوْ عَمِلَ بِالْخَبَرِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ.

وَمِنْهَا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَنْ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعْدِيلًا، عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ، وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِشَهَادَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ، فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَنْ الْعَدْلِ، فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ.

(6/171)


قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ، هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي مِنْهَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِهِ فَهُوَ أَقْصَى الدَّرَجَاتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِنَا بِحَالِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَنَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مَنْ عَرَفْنَاهُ إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَهَذَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى. وَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ؟ فِيهِ وَقْفَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ قَارَبَ زَمَانُنَا زَمَانَهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ. اهـ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يُعْرَفُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ صَرِيحًا، أَوْ عَرَفْنَاهُ بِالْقَرَائِنِ الْكَاشِفَةِ عَنْ سِيرَتِهِ. قَالَ: وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَقُولُوا: فُلَانٌ عَدْلٌ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ، أَوْ الزُّهْرِيُّ، أَوْ هُوَ مِنْ رِجَالِ الْمُوَطَّإِ، أَوْ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ رِوَايَتَهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُعْتَقَدْ عَدَالَتُهُ، حَتَّى إذَا اسْتَقْرَى أَحْوَالَهُ، وَعَرَفَ عَدَالَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يَظْهَرُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ عَدَّلَهُ، وَلَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِهِ أَصْلًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالتَّعْدِيلِ لَمْ يُقْبَلْ، فَكَيْفَ إذَا رُوِيَ، وَإِنْ عَلِمْنَا مَذْهَبَهُ فِي التَّعْدِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا، لَمْ يُعْتَمَدْ تَعْدِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا عُمِلَ بِهِ. اهـ.
وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ عَدْلٍ لَكَانَ رِوَايَتُهُ عَنْهُ مَعَ السُّكُوتِ عَبَثًا. وَظَاهِرُ الْعَدْلِ التَّقِيِّ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فِي هَذَا، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهَا، قَالَا: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ

(6/172)


أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَدْلًا، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ بِجَرْحٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ فِيهِ رِوَايَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَنْهُ، أَوْ رِوَايَةُ الْعُدُولِ الْكَثِيرِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ تَعْدِيلٍ لَهُ. قُلْت: وَيَخْرُجُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ " التَّعْدِيلُ إذَا رَوَى عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُدُولِ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ قَوْلٍ بِالتَّفْصِيلِ.
فَائِدَةٌ: [الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ] ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ ثَلَاثَةٌ: شُعْبَةُ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ: مَالِكٌ، وَيَحْيَى. قَالَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ لِخَفَاءِ حَالِهِ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ.

(6/173)


[التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ]
مَسْأَلَةٌ [التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ] التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ، كَقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ وَنَحْوُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهُ لَا يَكْفِي فِي التَّوْثِيقِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ: وَهُوَ كَالْمُرْسَلِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لَوْ سَمَّاهُ لَكَانَ مِمَّنْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ: لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثِقَاتٌ، ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ أَنَّا لَا نَعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ، قَالَ: نَعَمْ، لَوْ قَالَ الْعَالِمُ: كُلُّ مَنْ أَرْوِي عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ، كَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقْبَلُ مُطْلَقًا، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ يُعْرَفُ مِنْ عَادَتِهِ إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ، وَكَانَ ثِقَةً فَيُقْبَلُ، وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ شَارِحُ " اللُّمَعِ " الْيَمَانِيُّ عَنْ صَاحِبِ " الْإِرْشَادِ ".

(6/174)


الثَّالِثُ: وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ عَالِمًا أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي مَذْهَبِهِ. كَقَوْلِ مَالِكٍ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحُكْمِ وَقَدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عَنْهُ.

[الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ]
[الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ] وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِمَّا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا عَلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْلَمَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي بَعْضِهِمْ: إنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَفِي بَعْضِهِمْ عَلِيُّ بْنُ حَسَّانَ، وَفِي بَعْضِهِمْ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ ذُكِرَ فِيمَا يَثْبُتُ مِنْ طُرُقٍ مَشْهُورَةٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَأَمَّا تَعْبِيرُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَدْ اُشْتُهِرَ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ، فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مَالِكًا. وَقِيلَ: بَلْ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَدَرَ، فَاحْتَرَزَ عَنْ التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. اهـ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ:

(6/175)


فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ: قَالَ: اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ فَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ.
وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةَ، فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَيْثُ قَالَ مَالِكٌ: عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْر، وَحَيْثُ قَالَ: عَنْ الثِّقَةِ،

(6/176)


عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقِيلَ: الثِّقَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَقِيلَ: الزُّهْرِيُّ. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ " الْمَعْرِفَةِ " عَنْ الرَّبِيعِ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ، وَإِذَا قَالَ: مَنْ لَا أَتَّهِمُ، فَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، وَإِذَا قَالَ: بَعْضُ النَّاسِ، يُرِيدُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا قَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْحِجَازِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ: قَدْ أَخْبَرَ الرَّبِيعُ عَنْ الْغَالِبِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ هُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ. وَقَدْ قَالَ فِي كُتُبِهِ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ فَصَّلَ ذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَاكِمُ تَفْصِيلًا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، فَذَكَرَ فِي بَعْضِ مَا قَالَهُ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ، وَفِي بَعْضِهِ أَبَا أُسَامَةَ، وَفِي بَعْضِهِ

(6/177)


عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَفِي بَعْضِهِ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، وَفِي بَعْضِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْيَقِينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيَّدَ كَلَامَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. اهـ.

مَسْأَلَةٌ [قَوْلُ " لَا أَتَّهِمُ " هَلْ هُوَ تَعْدِيلٌ؟] فَلَوْ قَالَ: لَا أَتَّهِمُ، فَلَا يُقْبَلُ فِي التَّعْدِيلِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَعْلَامِ " إذَا قَالَ الْمُحَدِّثُ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ عِنْدِي، أَوْ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَهُ، قَدْ لَا يَكُونُ ثِقَةً عِنْدِي، فَأَحْتَاجُ إلَى عِلْمِهِ. اهـ.

[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ]
ِ] الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، هَلْ يُقْبَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ، فِيهِ

(6/178)


خِلَافٌ، مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُعَدِّلَ وَالْمُجَرِّحَ هَلْ هُوَ مُخْبِرٌ فَيُصَدَّقُ، أَوْ حَاكِمٌ وَمُفْتٍ فَلَا يُقَلَّدُ؟ أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ، فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا، بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَالِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ الْجَرْحِ، فَرُبَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا لَا جَرْحَ فِيهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَرَكْت حَدِيثَ فُلَانٍ؟ قَالَ رَأَيْته يُرْكِضُ بِرْذَوْنًا، فَتَرَكْت حَدِيثَهُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ عَلَى رَجُلٍ يَجْرَحُ رَجُلًا فَسُئِلَ، فَقَالَ: رَأَيْته يَبُولُ قَائِمًا. فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَوْلُهُ قَائِمًا؟ قَالَ يَتَرَشْرَشُ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي. فَقِيلَ لَهُ: رَأَيْته بَالَ قَائِمًا يَتَرَشْرَشُ عَلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى؟ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَوَابٌ؛ وَلِأَنَّهُ بَالَ قَائِمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَالثَّانِي: عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ مُبْطِلُ الثِّقَةِ، وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ لِتَسَارُعِ النَّاسِ إلَى الظَّاهِرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَإِلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "،

(6/179)


وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " عَنْ الْقَاضِي، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ أَوْقَعُ فِي مَأْخَذِ الْأُصُولِ، وَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْقَاضِي وَهْمٌ؛ لِمَا سَيَأْتِي.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فِيهِمَا أَخْذًا بِمَجَامِعِ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ الْمُزَكِّي عَنْ أَحْوَالِهِ فَظَهَرَ لَهُ مَا لَا يُكْتَفَى بِهِ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا بِهَذَا الشَّأْنِ لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ، وَرَدَّ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ مَا سَبَقَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَالْقُرْطُبِيُّ فِي " الْأُصُولِ "، وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَالْهِنْدِيُّ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ الْمُزَكِّي عَالِمًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اكْتَفَيْنَا بِإِطْلَاقِهِ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ اطِّلَاعُهُ عَلَى شَرَائِطِهِمَا اسْتَخْبَرْنَاهُ عَنْ أَسْبَابِهِمَا، وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ. قُلْت وَهُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِهِ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ نَصٌّ بِالْإِطْلَاقِ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ قَوْلَانِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ الْأَوَانِي: أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ

(6/180)


طَاهِرٌ، وَأَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالرَّازِيِّ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ كَلَامِ الْخَطِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ، لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ.
وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إلَى هَذَا فِي، التَّقْرِيبِ " أَيْضًا. وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِلَفْظِ: إنْ كَانَ لَا يُطْلَقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْصَاءٍ، كَمَالِكٍ، فَمُطْلَقُ تَعْدِيلِهِ كَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَسَاهِلِينَ فَلَا. ثُمَّ قَالَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ الْعَالِمِينَ بِشَرَائِطِ الْعَدَالَةِ فَالظَّنُّ أَنَّهُ اسْتَقْصَى، وَتَقْدِيرُ خِلَافِ ذَلِكَ فِيهِ نِسْبَةٌ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ. فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ، وَكَلَامُنَا فِي التَّعْدِيلِ الْمُطْلَقِ فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ إلَّا أَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْغَلَطِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ لَنَا الْمُسْتَنَدَ؛ لِئَلَّا نَكُونَ مُقَلِّدِينَ غَيْرَ مَعْصُومٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ. وَالْإِمَامُ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، مَتَى حَصَلَتْ، وَإِذَا لَاحَ لَنَا مِنْ حَالِ مِثْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَسَاهَلُ، حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ، فَيُقَالُ: غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى ضَابِطِ الشَّرْعِ الْوَاضِحِ، وَقَدْ رَوَيْنَا مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ غَيْرُهُ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ قَدَحَ فِيهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَالِهِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عُسْرًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ " وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ:

(6/181)


يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا عِنْدَ التَّعْدِيلِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ اتِّفَاقُ مَذْهَبِهِ مَعَ مَذْهَبِ الْمُعَدِّلِ فِي الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّزْكِيَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَقَدْ يُزَكِّي مَنْ لَا يَقْبَلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَكَذَا إذَا ظَهَرَ فِي مُزَكِّي الرُّوَاةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبٌ لِذَلِكَ الْمُزَكِّي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ.

[هَلْ يَكْفِي فِي الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ]
تَفْرِيعٌ [هَلْ يَكْفِي فِي الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ] وَإِذْ ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ السَّبَبِ فِي الْجَرْحِ شَرْطٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا فُلَانٌ ضَعِيفٌ، وَلَا لَيِّنٌ، مَاذَا بِالْكَذَّابِ؟ اُسْتُفْسِرَ، وَقِيلَ لَهُ: مَا تَعْنِي؟ أَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، تُوُقِّفَ فِي خَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الْكَذِبَ لُغَةً يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ، وَوَضْعَ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي حَدِيثِ الْوِتْرِ. يَعْنِي: غَلِطَ، وَادَّعَى النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عَنْ الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ إلَى أَنْ يُبْحَثَ عَنْ السَّبَبِ. قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَلَا أَثَرَ لِلْجَرْحِ الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَا إذَا كَانَ الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ، وَلَا وَثَّقَهُ مُوَثِّقٌ. قَالَ: فَيُقْبَلُ فِيهِ الْجَرْحُ وَإِنْ لَمْ يُفَسَّرْ مَا بِهِ جَرْحُهُ؛ لِأَنَّا قَدْ كُنَّا نَتْرُكُ حَدِيثَهُ بِمَا عَدِمْنَا مِنْ مَعْرِفَةِ ثِقَتِهِ. قُلْت: وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى.

(6/182)


وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَحَمْلِهِمْ حَدِيثَهُ، فَلَيْسَ يُقْبَلُ فِيهِ تَجْرِيحُ أَحَدٍ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَمْرٍ لَا يُجْهَلُ يَكُونُ بِهِ جَرْحُهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، فَلَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ جَرْحٌ، حَتَّى يُبَيِّنَ مَا قَالَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَوَّزِ، وَقَالَ: بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ قَبُولُ تَعْدِيلِ مَنْ عَدَّلَ، وَتَعْدِيلِ وَتَجْرِيحِ مَنْ جَرَّحَ، لِمَنْ عُرِفَ وَاشْتُهِرَ بِأَمَانَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
إذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ الْمُفَسَّرُ وَالتَّعْدِيلُ فِي رَاوٍ وَاحِدٍ فَأَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ الْجَرْحُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَدَّلَ أَكْثَرَ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَقَالَ: نَقَلَ الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ، وَالْبَاجِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ اعْتِقَادِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرًا، وَبِشَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مَجْزُومٍ بِهِ، أَيْ بِكَوْنِهِ جَارِحًا لَا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ، كَمَا اصْطَلَحَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الِاعْتِمَادِ فِي الْجَرْحِ عَلَى اعْتِبَارِ حَدِيثِ الرَّاوِي مَعَ اعْتِبَارِ حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَالنَّظَرِ إلَى كَثْرَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالتَّفَرُّدِ وَالشُّذُوذِ. اهـ.
وَقَدْ اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا مَا إذَا جَرَحَهُ لِمَعْصِيَةٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا، يُقَدَّمُ التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ.

(6/183)


وَالثَّانِي: عَكْسُهُ، وَهُوَ تَقْدِيمُ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يَجْرَحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا، وَالْمُعَدِّلُ إذَا كَانَ عَدْلًا مُثْبِتًا لَا يُعَدِّلُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِهِ جَزْمًا. حَكَاهُ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْجَرْحِ غَيْرِ الْمُفَسَّرِ.
وَالثَّالِثُ: يُقَدَّمُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْجَارِحِينَ أَوْ الْمُعَدِّلِينَ. حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُولِ "؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُقَوِّي حَالَهُمْ، وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ، فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمُرَجِّحٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ثُمَّ جَعَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْجَرْحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي " الْأَحْكَامِ "، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، فَفِيهِ الْخِلَافُ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَنَّهُ نُصِبَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اسْتَوَى عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَالْجَارِحِينَ. قَالَ: فَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ، وَقَلَّ عَدَدُ الْجَارِحِينَ، تَقَبُّلُ الْعَدَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْلَى.
وَاخْتَارَ الْقَاضِي تَقْدِيمَ الْجَرْحِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ حَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ " الزَّاهِي " الْخِلَافَ عِنْدَ

(6/184)


تَسَاوِيهِمَا فِي الْعَدَدِ. أَمَّا إذَا زَادَ عَدَدُ الْمُجَرِّحِينَ فَلَا وَجْهَ لِجَرَيَانِ الْخِلَافِ وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ: لَا خِلَافَ فِي تَقْدِيمِ الْجَرْحِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا عَلَى نَقْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ عَدْلٌ، وَالْآخَرُ هُوَ مَجْرُوحٌ، قُدِّمَ الْجَرْحُ قَطْعًا، وَلَا يَحْسُنُ فِيهِ إجْرَاءُ خِلَافٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ مَبْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: فَلَوْ نَصَّ الْمُجَرِّحُ عَلَى سَبَبِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَنَفَاهُ الْعَدَدُ، تَعَارَضَا. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ ": مَتَى كَانَ الْجَرْحُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ كَقَوْلِهِ: رَأَيْته يَشْرَبُ أَوْ سَمِعْت مِنْهُ الْكَذِبَ، قُدِّمَ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ، وَلَا نَفَاهَا، فَإِنْ نَفَاهَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ؛ لِعِلْمِنَا بِمُجَازَفَتِهِ وَجَزْمِهِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَزْمُ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبٍ يَنْضَبِطُ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ كَقَوْلِهِ: رَأَيْته قَدْ قَتَلَ فُلَانًا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُعَدِّلُ لِنَفْيِهِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى التَّعْدِيلِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ سَبَبِهِ فَكَالْعَدِمِ وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ بِأَنْ قَالَ: رَأَيْته حَيًّا، بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ بِنَحْوِ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالضَّبْطِ وَزِيَادَةِ الْوَرَعِ وَغَيْرِهَا.

(6/185)


[فَصْلٌ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ]
ِ وَمَا ذَكَرَهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ شَرْطِ الْبَحْثِ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي الرَّاوِي إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَفِي الصَّحِيحِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . فَتُقْبَلُ رِوَايَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَعَلَيْهِ كَافَّةُ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ،

(6/186)


وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بَلْ وَمَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ: وَأَمَّا أَمْرُ أَبِي بَكْرَةَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَقَصَ الْعَدَدُ أَجْرَاهُمْ عُمَرُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) مَجْرَى الْقَذَفَةِ، وَحَدُّهُ لِأَبِي بَكْرَةَ بِالتَّأْوِيلِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَفْسِيقًا؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَذْفِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَسُوِّغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ. فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَالْوَلِيدُ شَرِبَ الْخَمْرَ. قُلْنَا: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. وَالْوَلِيدُ لَيْسَ

(6/187)


بِصَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ.
وَهُوَ غَرِيبٌ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: حُكْمُهُمْ الْعَدَالَةُ قَبْلَ الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: عُدُولٌ إلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا. فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: الْحَدِيثُ بِالْعَدَالَةِ يَخْتَصُّ بِمِنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ، وَالْبَاقُونَ كَسَائِرِ النَّاسِ، مِنْهُمْ عُدُولٌ وَغَيْرُ عُدُولٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا قَالَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ: إنَّهُ لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُلْمَزُ بِالنِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعَدَالَةُ لِمَنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ بِالصُّحْبَةِ دُونَ مَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: لَا نَعْنِي بِالْعَدْلِ كُلَّ مَنْ رَآهُ اتِّفَاقًا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوْ أَلَمَّ بِهِ، وَانْصَرَفَ مِنْ قَرِيبٍ، لَكِنْ إنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَازَمُوهُ، وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ،

(6/188)


وَأَمْثَالِهِمْ، مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يُقِمْ إلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ.

[الْمُرَادُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتُ الْعِصْمَةِ لَهُمْ، وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ، وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ، إلَّا مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ قَادِحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَقَدْ عَمِلُوا بِرَأْيِهِ فِي الْغُسْلِ ثَلَاثًا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ الْوِلَايَاتِ الْجَسِيمَةَ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ حُجَّةً، وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِهِ؛ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَخَالَفَ ابْنُ مَنْدَهْ، فَقَالَ: مِنْ حُكْمِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إذَا رَوَى عَنْهُ تَابِعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا كَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، نُسِبَ إلَى الْجَهَالَةِ، فَإِذَا رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ صَارَ مَشْهُورًا، وَاحْتُجَّ بِهِ. قَالَا: وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ صَحِيحَيْهِمَا، إلَّا أَحْرُفًا تَبَيَّنَ أَمْرُهَا، وَيُسَمِّي

(6/189)


الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الْمَجْهُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ، أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ مَعَ انْتِشَارِهِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ دُونَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ خَبَرَ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ، وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ مَا لَمْ يَرُدُّهُ الْقِيَاسُ؛ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَمَنْ لَمْ تَظْهَرْ.

[تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ] فَإِنْ قِيلَ: أَثْبَتُّمْ الْعَدَالَةَ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا، فَمَنْ الصَّحَابِيُّ؟ قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ مَنْ اجْتَمَعَ - مُؤْمِنًا - بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصَحِبَهُ وَلَوْ سَاعَةً، رَوَى عَنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِي طُولَ الصُّحْبَةِ وَكَثْرَتَهَا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الرِّوَايَةُ، وَطُولُ الصُّحْبَةِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالظَّاهِرُ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطِيلَ الْمُكْثَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ

(6/190)


مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ طَرِيقَةُ الْأُصُولِيِّينَ. أَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَيُطْلِقُونَ اسْمَ الصَّحَابَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ حَدِيثًا، أَوْ كَلِمَةً، وَيَتَوَسَّعُونَ حَتَّى يَعُدُّونَ مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً مَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَذَا لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَوْا كُلَّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ، وَالْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ مَنْ أَكْثَرَ مُجَالَسَتَهُ، وَاخْتُصَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْوَافِدُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَال: فُلَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَقِيَهُ وَرَوَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ وَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْيِيدٍ، وَالْأَوَّلَ بِإِطْلَاقٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَفْظُ الصَّحَابِيِّ مِنْ الصُّحْبَةِ. فَكُلُّ مَنْ صَحِبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْظَةً يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّحَابِيِّ لَفْظًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ اقْتَرَنَ بِهِ، فَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ إلَّا عَلَى مَنْ صَحِبَهُ مُدَّةً طَالَتْ صُحْبَتُهُ فِيهَا. قَالَ: وَلَا تُضْبَطُ هَذِهِ الْمُدَّةُ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ.
[هَلْ لِلصُّحْبَةِ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ] وَحَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَحْدِيدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَشَرَطَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْإِقَامَةَ مَعَهُ سَنَةً، أَوْ الْغَزْوَ مَعَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَائِلَ بْنَ حُجْرٌ، وَمُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ تِسْعٍ وَبَعْدَهُ، فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ لَا خِلَافَ فِي عَدِّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ

(6/191)


إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: هُوَ مَنْ ظَهَرَتْ صُحْبَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُحْبَةَ الْقَرِينِ قَرِينَهُ، حَتَّى يُعَدَّ مِنْ أَحْزَابِهِ وَخَدَمَتِهِ الْمُتَّصِلِينَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " أَنَّ هَذَا قَوْلُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": هُوَ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، فَمَنْ لَمْ تَطُلْ مُجَالَسَتُهُ كَالْوَافِدِينَ، أَوْ طَالَتْ وَلَمْ يَقْصِدْ الِاتِّبَاعَ لَا يَكُونُ صَحَابِيًّا. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الصَّاحِبِ بِالْمَصْحُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: يُشْتَرَطُ تَعَلُّمُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا.

[هَلْ الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِ الصُّحْبَةِ] وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ. حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ نَحْوُ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجَّةً وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَعَدُوُّهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَلَامُ السَّفَاقِسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ

(6/192)


يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ» . قَالَ الشَّارِحُ: إنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا عَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ عَقَلَ عَنْهُ كَلِمَةً كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ شَيْئًا كَانَتْ تِلْكَ فَضِيلَةً، وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ التَّابِعِينَ اهـ.

[اشْتِرَاطُ الرُّؤْيَةِ لِلصُّحْبَةِ] وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِيَدْخُلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَضِرَّاءِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَأَوْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُمَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَاشْتَرَطَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْعَدَالَةَ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. قَالَ: وَالْوَلِيدُ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ. وَهُوَ عَجِيبٌ لِمَا قَرَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ.

(6/193)


مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ] ثُمَّ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: الْعَدَالَةُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعُدُّ الرَّائِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الرُّوَاةِ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ يُثْبِتُ الصُّحْبَةَ بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ لَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْحُكْمُ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ أَمْ لَا. فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى قَبُولِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا الْتَحَقَ مُرْسَلُهُ بِمِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمْثَالُهُمَا، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ اسْمَ الصُّحْبَةِ كَانَ كَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُجْتَهِدًا، أَوْ نُقِلَتْ عَنْهُ فَتَاوَى حُكْمِيَّةٌ، هَلْ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ لَهُمْ، أَوْ يَتَوَقَّفُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ .

[الَّذِي رَأَى الرَّسُولَ كَافِرًا بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ] ثُمَّ هَاهُنَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ رَوَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ

(6/194)


كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمَّادٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَقَفَ مَعَهُ فِي قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ كَوْنِهِ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِذَلِكَ اللِّقَاءِ وَالْكَلَامِ فِي الْكُفْرِ.

[مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَلْقَهُ] الثَّانِيَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَحَادَثَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَلْقَهُ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِاللِّقَاءِ الْأَوَّلِ مَعَ إسْلَامِهِ فِي زَمَنِهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْته أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَان، وَنَسِيت، ثُمَّ إنِّي ذَكَرْت بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْت فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْت عَلَيَّ، أَنَا فِي انْتِظَارِك مُنْذُ ثَلَاثٍ، أَنْتَظِرُك. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أَبِي الْحَمْسَاءِ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ قَطْعًا، وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصُّحْبَةِ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ.

(6/195)


مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ] الرَّابِعَةُ: مَنْ صَحِبَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ: هَلْ تُحْبِطُ رِدَّتُهُ تِلْكَ الصُّحْبَةَ السَّالِفَةَ، يَنْبَنِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ هَلْ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الْوَفَاةِ عَلَى الرِّدَّةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ لَا تَحْبَطُ صُحْبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ تَحْبَطُ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا إسْلَامًا جَدِيدًا يَجِبُ بِهِ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِمَا سَبَقَ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ لَهُ إجْمَاعُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدِّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَجَعْلِ أَحَادِيثِهِ مُسْنَدَةً. وَكَانَ مِمَّنْ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ رَجَعَ بَيْنَ يَدَيْ الصِّدِّيقِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُذَادَنَّ عَنْ حَوْضِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: سُحْقًا، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَك» ، فَسَمَّاهُمْ أَصْحَابًا بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ.

[مَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَرَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ] الْخَامِسَةُ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَرَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لَكِنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ الدَّفْنِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَعَمْ،

(6/196)


لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ؛ لِعَدَمِ وِجْدَانِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ الْمُجَالَسَةِ، وَهَذَا كَأَبِي ذُؤَيْبٍ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، فَإِنَّهُ أُخْبِرَ بِمَرَضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَافَرَ نَحْوَهُ، فَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَسِيرٍ، وَحَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَرَآهُ مُسَجًّى وَشَهِدَ دَفْنَهُ. السَّادِسَةُ: اسْمُ الصَّحَابِيِّ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ.
[أَكْثَرُ صَحَابَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فُقَهَاءَ] السَّابِعَةُ: أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَازَمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فُقَهَاءَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِهِ ": وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طُرُقَ الْفِقْهِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ خِطَابُ اللَّهِ، وَخِطَابُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ، فَخِطَابُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَعَلَى أَسْبَابٍ عَرَفُوهَا فَعَرَفُوا مَنْطُوقَهُ، وَمَفْهُومَهُ وَمَنْصُوصَهُ وَمَعْقُولَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْمَجَازِ ": لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَجَعَ فِي مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/197)


مَسْأَلَةٌ [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابِيِّ] يُعْرَفُ الصَّحَابِيُّ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَبِكَوْنِهِ مُهَاجِرًا أَوْ أَنْصَارِيًّا، وَبِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا كَقَوْلِهِ: كُنْت أَنَا وَفُلَانٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يُعْرَفَ إسْلَامُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيُمَيَّزَ، فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْعَدْلُ الْمَعَاصِرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدْلِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، إذَا لَمْ يَرِدْ عَنْ الصَّحَابَةِ رَدُّ قَوْلِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِهَا بِقَوْلِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ رُتْبَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، لَمْ تُقْبَلْ لِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً، فَكَيْفَ إذَا ادَّعَى الصُّحْبَةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَدَالَةِ؟ .
وَالْأَوَّلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ". قَالَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ عَدَالَتُهُ. فَإِذَا عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ قُبِلَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَآهُ مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لَا أَمَارَةَ مَعَهَا، وَخَالَفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ: وَمَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ صُحْبَتُهُ، فَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: تُعْلَمُ الصُّحْبَةِ إمَّا بِطَرِيقٍ

(6/198)


قَطْعِيٍّ، وَهُوَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ، أَوْ ظَنِّيٍّ وَهُوَ خَبَرُ الثِّقَةِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الصُّحْبَةَ الْيَسِيرَةَ، وَقُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِهَا فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ فَيُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ إذْ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُهُ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَوْ حَالَ رُؤْيَتِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ ادَّعَى طُولَ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةَ التَّرَدُّدِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشَاهَدُ وَيُنْقَلُ وَيُشْتَهَرُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ. وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى نَقْلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ الْمَعَاصِرُ الْعَدْلُ: أَنَا صَحَابِيٌّ اُحْتُمِلَ الْخِلَافُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَحَدٍ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّحَابِيُّ. قُلْت: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُنَيْنِ بْنِ جَمِيلَةَ، قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ. أَمَّا إذَا أَخْبَرَ عَنْهُ عَدْلٌ مِنْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، قَالَ بَعْضُ " شُرَّاحِ اللُّمَعِ ": لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا. قَالَ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ مَرَاسِيلُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ لَمْ يَحْضُرْهَا. اهـ.

(6/199)


وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا حَكَاهُ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ أَوْ لَا، لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الْكُلِّ.

مَسْأَلَةٌ [تَعْرِيفُ التَّابِعِينَ] الْخِلَافُ فِي التَّابِعِيِّ كَالْخِلَافِ فِي الصَّحَابِيِّ، هَلْ هُوَ الَّذِي رَأَى صَحَابِيًّا أَوْ الَّذِي جَالَسَ صَحَابِيًّا؟ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا النَّوَوِيُّ أَوَّلَ تَهْذِيبِهِ ". وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيَّ، وَكَلَامُ الْحَاكِمِ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللِّقَاءِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ نَظَرًا إلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ، وَعِظَمِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَةَ الصَّالِحِينَ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ. فَكَيْفَ رُؤْيَةُ سَيِّدِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا رَآهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ لَحْظَةً انْصَبَغَ قَلْبُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ تَهَيَّأَ لِلْقَبُولِ، فَإِذَا قَابَلَ ذَلِكَ النُّورَ الْعَظِيمَ أَشْرَقَ عَلَيْهِ، وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ.

(6/200)


[الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ]
الشَّرْطُ الرَّابِعُ [مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِي الْمُخْبِرِ] أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ، ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ فِي ضَبْطِهِ، وَقِلَّةِ غَلَطِهِ. فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ، إلَّا فِيمَا نَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ، رُدَّ إلَّا فِيمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ، فَكَوْنُ الرَّاوِي مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِيهِ، بِعَيْنِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ جَوَازِ يَسِيرِ الْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إذَا غَلَبَتْ الْغَفْلَةُ عَلَى أَحَادِيثِهِ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: إنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْحِفْظِ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ، وَعَنَى بِهِ أَنَّ الْغَفْلَةَ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَطَتْ رِوَايَاتُهُ، وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ مَنْ تَنَاهَى بِحِفْظِهِ، وَمَنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ، رُجِّحَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ".
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا لِكُلِّ مَا حَدَّثَ بِهِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ الضَّبْطِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ فِي حَالَةٍ لَا يُرَدُّ حَدِيثُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِي حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَدِيثُهُ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حِفْظِ الْحِكَايَةِ. اهـ. وَهَذَا مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ " عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ:

(6/201)


كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْحَدِيثِ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَانَ مُغَفَّلًا يُخْطِئُ الْكَثِيرَ، فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُشْتَغَلَ مِنْهُ بِالرِّوَايَةِ. اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّهُ إنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ قَطْعًا، وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ عَلَى اخْتِلَالِهِ فَيُقْبَلُ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَخِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الصِّدْقِ رَاجِحَةٌ فِي خَبَرِهِ، لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ. اهـ. قُلْت: وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مِمَّنْ غَلَبَ غَلَطُهُ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ رَدَّ خَبَرِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ مُفَسَّرًا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، وَيُعَيِّنَ وَقْتَ السَّمَاعِ مِنْهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قُلْت: وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ، فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى. قَالَ: وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْغَزَالِيُّ.

[الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعْرَفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيمَا يَرْوِيهِ وَبِالتَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِهِ]
ِ فَرُبَّمَا أَحَالَ الْمَعْنَى بِتَأَوُّلِهِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ فِي مَوْضِعٍ زِيَادَةً يُصَحِّحُ بِهَا فَاسِدَ مَذْهَبِهِ، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَلَوْ رَوَى الْحَدِيثَ وَهُوَ غَيْرُ

(6/202)


وَاثِقٍ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي غَيْرِ الْحَدِيثِ، وَيَحْتَاطُ فِي الْحَدِيثِ، قُبِلَتْ رِوَايَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الرَّاوِي إنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّسَاهُلُ فِي حَدِيثِهِ وَالتَّسَامُحُ لَمْ يُقْبَلْ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنْ نَرَى مِنْهُ غَفْلَةً وَسَهْوًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَادِرًا لَمْ يُؤَثِّرْ، مَا لَمْ يَلُحْ لِلسَّامِعِ فِيهِ ظُهُورُ مَخَايِلِ الْغَفْلَةِ. وَإِنْ كَثُرَتْ فَاخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَخَايِلُ الْغَفْلَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ. وَالثَّالِثُ: يُجْتَهَدُ وَيُبْحَثُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ، حَتَّى يَظْهَرَ ضَعْفُهُ مِنْ قُوَّتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، لَكِنَّهُ مَثَّلَ بِمِثَالٍ فِيهِ نَظَرٌ.

[مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ]
[مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ] لَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ، كَمَا لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ قَلَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: نَعَمْ، إنْ رَوَى كَثِيرًا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَقْوَى فِيهِ، فَيَضْعُفُ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ.

(6/203)


[مَسْأَلَةٌ التَّدْلِيسُ وَحُكْمُهُ]
ُ] مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ الْمُتُونِ، فَهُوَ مَجْرُوحٌ مَطْرُوحٌ وَهُوَ مِمَّنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فَقَالَ: التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ بِالْمُدْرَجِ، وَهُوَ أَنْ يُدْرَجَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامٌ غَيْرُهُ، فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَلَا حُجَّةَ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ.

[تَدْلِيسُ الرُّوَاةِ] وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ الرُّوَاةِ مَعَ صِدْقِهِ فِي الْمُتُونِ كَشَرِيكٍ، وَهُشَيْمٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ - وَقِيلَ: إنَّ التَّدْلِيسَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ - فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي إبْدَالِ الْأَسْمَاءِ بِغَيْرِهَا كَمَا يَقُولُ عَنْ اسْمِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَمْرِو بْنِ بَكْرٍ، فَهُوَ كَذِبٌ يُرَدُّ بِهِ حَدِيثُهُ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. ثَانِيهَا: أَنْ يُسَمِّيَهُ بِتَسْمِيَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ، وَسَهَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ

(6/204)


أَمْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَيْسَ يَجْرَحُ إلَّا أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ: هُوَ جَرْحٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَرْوِي بِاسْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ اسْمِهِ الْمَشْهُورِ صَوْنًا لَهُ عَنْ الْقَدْحِ. فَلَا تُرَدُّ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ، لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَبِلَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ. اهـ.
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا إعْطَاءُ شَخْصٍ اسْمٌ آخَرَ تَشْبِيهًا لَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَيَعْنِي بِهِ بَعْضَ مَشَايِخِهِ تَشْبِيهًا بِالْبَيْهَقِيِّ، يَعْنِي الْحَاكِمَ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ فِي اطِّرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الْحَدِيثِ إلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فَهَذَا قَدْ فَعَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا، لَكِنْ لَا يُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ إذَا رُوِيَ عَنْ فُلَانٍ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: مَنْ قَبِلَ الْمَرَاسِيلَ لَمْ يُرَ لَهُ أَثَرًا، إلَّا أَنْ يُدَلِّسَ لِضَعْفٍ عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِمُطْلَقِ رِوَايَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ سَمِعْته. وَفَصَّلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " بَيْنَ أَنْ يُعْرَفَ بِالتَّدْلِيسِ وَيَغْلِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اُسْتُكْشِفَ لَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، فَهَذَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ، لِأَنَّهُ تَزْوِيرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» ، وَبَيْنَ أَنْ يَرَى اسْمَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كُشِفَ عَنْهُ أَخْبَرَ بِاسْمِهِ وَأَضَافَ الْحَدِيثَ إلَى نَاقِلِهِ، فَهَذَا لَا يُسْقِطَ الْحَدِيثَ، وَلَا يَقْتَضِي الْقَدَحَ فِي الرَّاوِي، وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُدَلِّسُ، فَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ بِالْخَبَرِ نَصَّ عَلَى اسْمِهِ.

(6/205)


وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ اُشْتُهِرَ بِالتَّدْلِيسِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ وَالتَّحْدِيثِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ عَنْ فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِالتَّدْلِيسِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إذَا حَدَّثَ بِالضَّعْفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ وَالِاخْتِصَارِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": كُلُّ مَنْ ظَهَرَ تَدْلِيسُهُ مِنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت، وَمَنْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، قُبِلَ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا حَكَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا فِي الْمُدَلِّسِ لِعَيْبٍ ظَهَرَ لَنَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَلَوْ تَوَقَّيْنَاهَا لَتَوَقَّيْنَا فِي حَدَّثَنَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ قَبِيلَتَهُ وَأَصْحَابَهُ، كَقَوْلِ الْحَسَنِ: خَطَبَنَا فُلَانٌ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا؛ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لَاغٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ عُلِمَ سَمَاعُهُ إذَا كَانَ عَنْ مُدَلِّسٍ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ صَحَابِيٌّ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ وَالْقَائِلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَغْفُلُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْمُدَلِّسُ هُوَ مَنْ يُوهِمُ شَيْئًا ظَاهِرُهُ بِخِلَافِ بَاطِنِهِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ مِنْ الْكَذِبِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ وَاسِطَةٌ. فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ إخْبَارِهِ. وَقَدْ شَدَّدَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِيهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: لَأَنْ أَدْمَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ. قَالَ: وَوَجَدْت ابْنَ أَخِي هِشَامٍ حَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ التَّدْلِيسَ، وَلَا يَقُولُ بِهِ. وَيَقُولُ: هَذَا سُلَيْمَانُ الشَّاذَكُونِيُّ يَقُولُ: مَنْ

(6/206)


أَرَادَ أَنْ يَتَدَيَّنَ بِالْحَدِيثِ، فَلَا يَكْتُبُ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ شَيْئًا إلَّا مَا قَالَا: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ. قَالَ: وَمَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ وُقِفَ فِي خَبَرِهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ عَنْ فُلَانٍ إيهَامَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فَهُوَ غِشٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْفَتْوَى كَقِصَّةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجُنُبِ يَصُومُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ. قَالَ: وَالْكَلَامُ فِي الصُّحُفِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ كِتَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا، فَيُقَالُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ شَرَائِطُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَقِفُ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. اهـ. قَالَ: وَمَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَرْفٌ، حَتَّى يُبَيِّنَ سَمَاعَهُ، وَيُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْ الثِّقَاتِ، وَقَدْ يُعْرَفُ التَّدْلِيسُ بِأَنْ يُكْثِرَ عَنْ الْمَجْهُولِينَ، وَيَصِلَ الْوُقُوفَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تُوَقِّفَ فِي خَبَرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ، لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، حَتَّى يُخْبِرَ بِالسَّمَاعِ، فَيَقُولُ: سَمِعْت أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي وَنَحْوُهُ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: قَالَ فُلَانٌ فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَدْلِيسَهُ ظَهَرَ. فَالْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ فِي خَبَرِهِ، وَإِنَّمَا يُسَامَحُ الثِّقَاتُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِينَ بِالتَّدْلِيسِ فِي قَوْلِهِمْ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالسَّمَاعِ فِي خَبَرِهِ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى السَّمَاعِ عَلَى حَمْلِهِ مَا عُرِفَ مِنْهُمْ، فَصَيَّرَ ذَلِكَ كَاللُّغَةِ الْجَارِيَةِ،

(6/207)


فَأَمَّا مَنْ ظَهَرَ فِيهِ التَّدْلِيسُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَشْفِ، لِيُوقَفَ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُ الْخَبَرَ لِيُنْظَرَ فِي أَحْوَالِهِ. اهـ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَالَ فُلَانٌ إذَا حَكَاهُ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ وَحُمِلَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْمُدَلِّسِ بِحَالٍ، وَجَعَلَهُ جَرْحًا، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْمُدَلِّسِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْزِي الرِّوَايَةِ إلَى رَجُلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَعَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد عَلَى مَا حَكَاهُ الْجَزَرِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَتَهُ لَا تُقْبَلُ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِيمَنْ قَبِلَهَا، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَدَّدَ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ، حَتَّى قَالَ: لَا تُقْبَلُ مِنْهُ إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا لَبْسَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ فِيهِ لَبْسٌ. قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَبُولَ رِوَايَتِهِ، وَالظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ عِنْدِي أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْخِلَافَ فِي قَبُولِ حَدِيثِ الْمُدَلِّسِ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي وَرَعِهِ وَتَحَفُّظِهِ.
وَأَمَّا قَبُولُ حَدِيثِهِ أَوْ رَدِّهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَغَرَضِهِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى التَّدْلِيسِ، وَعَلَى الْفَطِنِ فِي مِقْدَارِ تَغْرِيرِهِ بِالسَّامِعِينَ مِنْهُ، وَهَلْ أَمِنَ أَنْ يَقَعُوا بِمَا حَدَّثَهُمْ فِي نَقْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، لَوْ أَبْدَى لَهُمْ مَا كَتَمَ أَمْ لَا؟

(6/208)


وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": التَّدْلِيسُ يَتَضَمَّنُ الْإِرْسَالَ لَا مَحَالَةَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حَذْفِ الْوَاسِطَةِ. وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّدْلِيسَ يُوهِمُ سَمَاعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُوهِنُ لِأَمْرِهِ، وَالْإِرْسَالُ لَا يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوهِمُ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ مَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوَهُّمِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلُ إذَا أَوْرَدَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوهِمْ ذَلِكَ قُبِلَ.
وَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْإِجَازَةِ قُبِلَ، وَمَنْ لَا يُجَوِّزُهُ لَمْ يَقْبَلْهُ لِإِيهَامِ إرَادَةِ مَا يُجَوَّزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ لَا يُجَوِّزُهُ.

[تَنْبِيهٌ شَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ]
[فَصْلٌ فِي رِوَايَةُ الْأَعْمَى]
تَنْبِيهٌ [شَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ] هَذِهِ الشُّرُوطُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا حَالَةَ التَّحَمُّلِ. وَلِهَذَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَا تَحَمَّلَهُ فِي حَالِ صَبَاهُ وَكُفْرِهِ وَفِسْقِهِ، وَأَدَّاهُ فِي حَالَةِ الْكَمَالِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وُجُودُ التَّمْيِيزِ فَقَطْ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ، قَالَا: وَعَلَى مُتَحَمِّلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا إذَا سُئِلَ عَنْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا إذَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهَا، إلَّا أَنْ يَجِدَ النَّاسَ عَلَى خِلَافِهَا.

(6/209)


فَصْلٌ [رِوَايَةُ الْأَعْمَى] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي بَصِيرًا، بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْأَعْمَى الضَّابِطِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ سَمَاعِهِ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إذَا حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِهِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِلصَّوْتِ، بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَبُولِ حَدِيثِ عَائِشَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) مِنْ خَلْفِ سِتْرٍ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَالْعُمْيَانِ. وَقَدْ قَبِلُوا خَبَرَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَجْهَيْنِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ صَحَّحَا الْمَنْعَ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازُ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا تَحَمَّلَهَا وَهُوَ أَعْمَى، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَ الْعَمَى، فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِي الْعَمَى بِلَا خِلَافٍ، أَيْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ طَرَأَ الْعَمَى عَلَيْهِ.

[رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ]
[رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ] وَهَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مُفْهِمَةً؟ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَصًّا. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنْ يَنْبَنِيَ ذَلِكَ عَلَى

(6/210)


الْوَجْهَيْنِ فِي شَهَادَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُقْبَلُ، فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَفِي رِوَايَتِهِ وَجْهَانِ، وَالظَّاهِرُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ.

[رِوَايَةُ الْمَرْأَةِ]
[رِوَايَةُ الْمَرْأَةِ] وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ، بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَنَقَلَ صَاحِبُ " الْحَاوِي " عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُ النِّسَاءِ فِي الدِّينِ إلَّا أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَكَذَا نَقَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مَانِعًا لَهُنَّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَلَطٌ. اهـ. وَهَذَا النَّقْلُ لَا تَعْرِفُهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: رِوَايَةُ النِّسَاءِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي الشَّهَادَةِ فَوْقَ الْأَعْمَى، وَقَدْ قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى، فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نَعَمْ، فِي تَعْلِيقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِي قَبُولِ فَتْوَى الْمَرْأَةِ لَا يَبْعُدُ جَرَيَانُهُمَا فِي رِوَايَتِهَا، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ. نَعَمْ، فِي تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ خِلَافٌ حَكَاهُ فِي " الْمَنْخُولِ ".

(6/211)


[رِوَايَةُ الْعَبْدِ]
اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ] وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ، بَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ.

[كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا]
[اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا. وَشَرَطَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِقْهَ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلِهَذَا رَدَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ الدَّبُوسِيُّ، وَأَمَّا الْكَرْخِيّ وَأَتْبَاعُهُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، بَلْ قَبِلُوا خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ مِنْهُمْ: وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ صَاحِبُ " التَّحْقِيقِ ": وَقَدْ عَمِلَ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا» ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْت بِالْقِيَاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا جَاءَنَا عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ

(6/212)


فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مُقَلِّدًا لَهُ، فَمَا ظَنُّك بِأَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْ أَنَسٍ. قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ. اهـ.
وَكَذَا قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَلِهَذَا قُلْنَا بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ، وَأَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فِيهَا، وَلَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي الْقِيَاسِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. قُلْت: وَالصَّوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوِيهِ، وَقَالَ شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ: بَلْ كَانَ فَقِيهًا، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ انْتَشَرَ عَنْهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ. اهـ.

[أُمُورٌ أُخْرَى لَا تُشْتَرَطُ فِي الرُّوَاةِ]
[أُمُورٌ أُخْرَى لَا تُشْتَرَطُ فِي الرُّوَاةِ] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا عِلْمُهُ بِمَا رَوَاهُ، وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَدْرِي الْمُرَادَ بِهِ كَالْأَعْجَمِيِّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ضَبْطِهِ لِلْحَدِيثِ، وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ. كَمَا لَا يُرَدُّ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرْوِ غَيْرَ الْقَلِيلِ، كَالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ، وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بِطَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ. قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّاوِي مُخْتَلَفًا فِي اسْمِهِ إلَّا أَنَّ لَهُ كُنْيَةً أَوْ لَقَبًا يُعْرَفُ بِهِ فَلَا يُرَدُّ بِذَلِكَ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْرَفُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْجَهَالَةِ، وَنُقِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ اشْتِرَاطُ مَعْرِفَتُهُ بِهَذَا الشَّأْنِ. قَالَ: وَعَنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ الرِّجَالِ

(6/213)


وَالرُّوَاةِ، وَأَنْ يَعْرِفَ، هَلْ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ بِنَفْيٍ، أَوْ نَقْصٍ مِنْهُ؟ وَالصَّحِيحُ، قَبُولُ رِوَايَةِ مَنْ صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْنِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَلَكِنْ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ اعْتَنَى بِالرِّوَايَاتِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا، فَلَوْ رَوَى خَبَرًا يَنْفَعُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَهُ قُبِلَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ يَصِيرُ شَرْعًا، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ. قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: سَمِعْت، وَلَا أَخْبَرَنَا خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا إذَا قَالَ رَاوِيَةً: سَمِعْت أَوْ أَخْبَرَنَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ الرَّادِّ كِتَابَ الْإِنْذَارِ " ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي رَدَّ أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إذْ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ، وَخَافَ إنْ قِيلَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَبُولَ الْمُرْسَلِ، وَذَهَبَ عَنْ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْتَثْقَلُوا: أَخْبَرَنَا، وَسَمِعْت، فَأَقَامُوا " عَنْ " مَقَامِهِمَا لِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الْخَبَرَ بِالْمُخْبِرِ. اهـ.
وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ يُرَهِّبُ الرَّاوِي الثِّقَةَ، حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى خَبَرِهِ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَلَا يُشْتَرَطُ الِاجْتِمَاعُ بِالرَّاوِي فِي كُلِّ رِوَايَةٍ، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الِاجْتِمَاعِ

(6/214)


وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاشْتَرَطَ الْبُخَارِيُّ الْأَوَّلَ، وَنَقَلَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ فِي أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، وَنَقَلُوا عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ رِوَايَةَ اثْنَيْنِ، وَشَرَطَ عَلَى الِاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إلَى السَّامِعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لِطَلَبِهِمَا الزِّيَادَةَ فِي الرُّوَاةِ، وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْهُ تَعْلِيلَ ذَلِكَ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ تَضَاعَفَتْ الْأَعْدَادُ، حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الْحَصْرِ. كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ أَعْدَادِ بُيُوتِ الشِّطْرَنْجِ، قَالَ: وَلَا يُتَّجَهُ لَهُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَلَعَلَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَخْبَارٍ صَحَّتْ عَنْ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ فِي الْتِمَاسِ شَاهِدٍ آخَرَ مَعَ الرَّاوِي الْوَاحِدِ، كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِلْمُغِيرَةِ: مَنْ شَهِدَ مَعَهُ؟ وَقَوْلِ عُمَرَ الْفَارُوقِ لِأَبِي مُوسَى

(6/215)


مِثْلَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي قَبُولِ الصَّحَابِيِّ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ وَحْدَهُ، وَرِوَايَةِ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، إلَّا أَنَّهُ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَزِيدَ اسْتِقْصَائِهِمْ لِرَيْبٍ اعْتَرَاهُمْ فِي خُصُوصِ أَحْوَالِهِ، كَإِحْلَافِ عَلِيٍّ بَعْضَ الرُّوَاةِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَثْبَتَ مَنْقُولٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ " فَقَالَ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إذَا رَوَى اثْنَانِ خَبَرًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ رَوَاهُ وَاحِدٌ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُعَضِّدَهُ ظَاهِرٌ، أَوْ عَمَلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِهِ أَوْ اجْتِهَادٌ، أَوْ يَكُونَ مُنْتَشِرًا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ فِي الزِّنَا إلَّا خَبَرَ أَرْبَعَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، بَلْ يَعْتَبِرُ مَعَ ذَلِكَ عَاضِدًا لَهُ، وَيَقُومُ الْعَاضِدُ مَقَامَ الرَّاوِي الْآخَرِ. وَهَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ " عَنْهُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ. قُلْت: وَلَا نَظُنُّ أَنَّ مَا نُقِلَ أَوَّلًا عَنْ الْجُبَّائِيُّ هُوَ مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ ذَكَرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي صَحِيحِهِ اشْتَرَطَ رِوَايَةَ عَدْلَيْنِ عَنْ عَدْلَيْنِ مُتَّصِلَةً، أُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ، وَقَدْ ظَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِبْ. وَأَيْضًا فَذَلِكَ احْتِيَاطٌ مِنْهُ لَا اشْتِرَاطٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ.

(6/216)


وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي، جَامِعِ الْأُصُولِ "، أَنَّ بَعْضَهُمْ اشْتَرَطَ أَرْبَعَةً عَنْ أَرْبَعَةٍ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْإِسْنَادُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ عَصْرٍ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِأَصْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ رِوَايَةَ ثَلَاثَةٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ أَرْبَعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ خَمْسَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ سَبْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ عِشْرِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ سَبْعِينَ، وَهَذَا غَرِيبٌ وَإِنَّمَا قِيلَ بِبَعْضِهِ فِي الْمُتَوَاتِرِ.

[مَسْأَلَةٌ الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ الرِّوَايَةِ بِالْإِسْنَادِ]
ِ] ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ سَمَاعُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَحَّ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مَثَلًا، أَوْ مِنْ السُّنَنِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا وَجَدَ النَّاظِرُ حَدِيثًا مُسْنَدًا فِي كِتَابٍ مُصَحَّحٍ، وَلَمْ يَرْتَبْ فِي ثُبُوتِهِ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْكِتَابَ، فَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الْعَمَلِ عَلَى أَنْ تَنْتَظِمَ لَهُ الْأَسَانِيدُ، وَمَنَعَهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَوْ الْبُخَارِيِّ خَبَرًا، وَعَلِمَ ثِقَةَ النُّسْخَةِ فَلَا يُتَمَارَى فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَهُوَ مَحَلُّ إجْمَاعٍ، هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ التَّعْوِيلُ عَلَى الثِّقَةِ، فَلَوْ رَأَى حَدِيثًا فِي كِتَابِ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، عَرَفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُجَازِفُ يَجِبُ

(6/217)


عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ مَذْكُورًا بِإِسْنَادِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَوُجُوبُ الْعَمَلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِسْنَادِ حِسًّا حَتَّى إذَا رَآهُ فِي مَوْضِعٍ يَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ مِنْهُ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمَرَاسِيلِ. اهـ. وَهَكَذَا جَزَمَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ. قَالَا: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَنِدًا إلَى كِتَابٍ، وَكَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَاسْتِنَادًا إلَيْهِ.

[مَسْأَلَةٌ إذَا رُوِيَتْ لِصَحَابِيٍّ غَابَ عَنْ الرَّسُولِ سُنَّةٌ هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا عِنْدَ لُقْيَاهُ]
مَسْأَلَةٌ [إذَا رُوِيَتْ لِصَحَابِيٍّ غَابَ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا عِنْدَ لُقْيَاهُ] لَوْ رُوِيَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ غَابَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ لَقِيَهُ، هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. حَكَاهُمَا ابْنُ فُورَكٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّؤَالُ إذَا حَضَرَ لَلَزِمَهُ الْهِجْرَةُ إذَا غَابَ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كُلِّفُوا بِالظَّاهِرِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَكِنَّ الْأَوْلَى ذَلِكَ.

(6/218)


وَقَالَ صَاحِبُ " الْحَاوِي ": الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ وُجُوبَ السُّؤَالِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ تَغْلِيظًا لَمْ يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَتْ تَرْخِيصًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ الْتِزَامٌ، وَالتَّرْخِيصَ إسْقَاطٌ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَابْنُ فُورَكٍ: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَقِيَ خَلْقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَسْأَلَةٍ مِمَّا كَانَ مُعَاذٌ أَدَّاهُ إلَيْهِمْ، وَلَمَّا أَتَى آتٍ أَهْلَ قُبَاءَ فَأَخْبَرَهُمْ لَمْ يَقُلْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِقَادِ فَحَيْثُ يُمْكِنُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَأَهْلُ قُبَاءَ اسْتَغْنَوْا عَنْ السُّؤَالِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّحْوِيلَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ، وَمِثْلُهُ بِمَا أَتَاهُمْ آتٍ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَرَاقُوهَا، وَلَمْ يَسْأَلُوا، وَبِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ إذَا حَضَرُوا كَانَ السَّمَاعُ لَهُمْ دُونَ الْفَرْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ ثُمَّ حَضَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. اهـ.

[فَرْعٌ رَوَى تَابِعِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَرْوِيُّ لَهُ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ]
فَرْعٌ فَلَوْ رَوَى تَابِعِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ، ثُمَّ ظَفِرَ الْمَرْوِيُّ لَهُ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ؟ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الصَّحَابِيِّ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ.

[مَسْأَلَةٌ إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ]
مَسْأَلَةٌ إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ

(6/219)


سُؤَالٌ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السُّؤَالِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْخَاصَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَزِمَ سَمَاعُ الْحَدِيثِ، لِيَكُونَ أَصْلًا فِي اجْتِهَادِهِ. قَالَا: وَنَقْلُ السُّنَنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا نَقَلَهَا مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا جُرِّحُوا أَجْمَعُونَ.

[فَائِدَةٌ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ]
ُ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ، لِخَبَرِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، حَكَاهُ عَنْهُ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ.

[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّمَاعِ عَنْ الصَّحَابِيِّ]
ِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَقِصَّةُ عَلِيٍّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي أَمْرِهِ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبْطِلُ قَوْلَهُمْ، قَالَهُ السَّفَاقِسِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ.

(6/220)


[مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الشَّيْخِ مَا حَدَّثَ بِهِ]
ِ] إذَا رَوَى ثِقَةٌ عَنْ ثِقَةٍ حَدِيثًا، ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ فَأَنْكَرَهُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَذِّبَ الرَّاوِيَ عَنْهُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ: كَذَبَ عَلَيَّ مَا رَوَيْت لَهُ هَذَا قَطُّ. فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْعُ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَيَصِيرُ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَيُرَدُّ مَا جَحَدَهُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ فَرْعُهُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا قَطْعًا، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ كَذِبُ الْفَرْعِ بِتَكْذِيبِ الْأَصْلِ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ، بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرْحًا لِلْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُكَذِّبُ شَيْخَهُ فِي نَفْيِهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَتَسَاقَطَا.
وَيُرَدُّ مِنْ حَدِيثِ الْفَرْعِ مَا نَفَى الْأَصْلُ تَحْدِيثَهُ بِهِ خَاصَّةً، وَلَا يُرَدُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَصْلِ نَفْسِهِ إذَا حَدَّثَ بِهِ، كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَكَذَا إذَا حَدَّثَ بِهِ فَرْعٌ آخَرُ ثِقَةً عَنْهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ

(6/221)


الْأَصْلُ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الرَّدِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّوَقُّفُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ أَمْرَانِ، قَطَعَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ بِكَذِبِ الرَّاوِي، وَقَطَعَ النَّاقِلُ بِالنَّقْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَنَقَلَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَطَعَ بِالرَّدِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَقَالَ: الَّذِي الْتَزَمَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " التَّوَقُّفُ، وَهُوَ عَيْنُ مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَهَذَا كَخَبَرَيْنِ تَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاقَطَا أَوْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا إنْ أَمْكَنَ.
قُلْت: رَوَى الْخَطِيبُ فِي " الْكِفَايَةِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْقَاضِي مِثْلَ مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَابَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَعْلَمُ أَنِّي مَا حَدَّثْته، فَقَدْ كَذَّبَ، فَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ شَيْخِهِ لَهُ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ. فَيَجِبُ إيقَافُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيَرْجِعُ فِي الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ، وَيُجْعَلُ بِمَثَابَةِ مَا لَمْ يَرِدْ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ الشَّيْخُ مَعَ قَوْلِهِ: إنِّي لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ هَذَا الرَّاوِي عَنِّي، فَيُعْمَلُ فِيهِ بِرِوَايَتِهِ دُونَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ. اهـ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ لَا يُسْقِطَ الْمَرْوِيَّ، وَلِهَذَا لَوْ اجْتَمَعَا فِي شَهَادَةٍ لَمْ تُرَدَّ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. وَأَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ، بِخِلَافِ الْخَبَرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا فَقَالَا: لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَرْعِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْأَصْلِ.

(6/222)


الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَهُ فِعْلًا بِأَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَكُونُ تَكْذِيبًا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّارِيخَ حُمِلَ عَلَيْهِ تَحَرِّيًا لِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ، نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ مَا عُمِلَ بِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا؛ لِأَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْأَخْبَارِ غَيْرُ مَسْدُودٍ، لَكِنْ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ بِرَأْيِهِ لَا يَلْزَمُ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ لَا يَحْتَمِلُ مَا عُمِلَ بِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " شَرْحِ مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ ". وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلِ لِأَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ، وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِهِ مُطْلَقًا. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْكِرَهُ تَرْكًا، فَإِنْ امْتَنَعَ الشَّيْخُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ صِحَّتَهُ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلَهُ حُكْمُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يُصَرِّحَ الْأَصْلُ بِتَكْذِيبِهِ، وَلَكِنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ، أَوْ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنِّي مَا حَدَّثْتُك، وَالْفَرْعُ جَازِمٌ بِهِ. فَهَاهُنَا تَوَقَّفَ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّوَقُّفِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْته فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْفَرْعِ الذَّاكِرِ، أَوْ الْأَصْلِ النَّاسِي؟ فِيهِ قَوْلَانِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْأَوَّلِ، وَوَافَقَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الدَّهْمَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ

(6/223)


وَهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ تَارِكًا لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّاوِي النَّاسِي لِمَا رَوَاهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ بِصِفَةِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ": هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِمْ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَادَّعَاهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ الْحَدِيثِ وَإِيجَابِ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ تَفْصِيلٌ وَنَزَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ: الزُّهْرِيُّ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ، وَكَذَا حَدِيثُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.
وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ شَارِحُ " اللُّمَعِ " عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الَّذِي نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. لَنَا أَنَّ الرَّاوِي عَدْلٌ جَازِمٌ بِالرِّوَايَةِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ لِحُصُولِ الْيَقِينِ، وَتَوَقُّفُ الشَّيْخِ لَيْسَ بِمُعَارِضٍ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الشَّيْخِ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنِّي، وَيُعْمَلُ بِهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حَمَلْتُمْ النِّسْيَانَ عَلَى الْكَلَامِيِّ وَتَعْرِيفَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: النِّسْيَانُ لَمْ يَقَع مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ.

(6/224)


قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ كَرِهَ جَمَاعَةٌ الرِّوَايَةَ عَنْ الْأَحْيَاءِ، مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي " الْكِفَايَةِ "، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةً، فَأَنْكَرَهَا الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَهَا، وَقَالَ: لَا تُحَدِّثْ عَنْ حَيٍّ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَفَصَّلَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَاعْتَادَ ذَلِكَ فِي مَحْفُوظَاتِهِ، فَيُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ.
وَفَصَّلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مِنَّا بَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَسْتَقِلُّ، فَإِنَّ التَّرَدُّدَ وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْ قَطْعَ الرَّاوِي، لَكِنَّهُ يُورِثُ ضَعْفًا. فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ خَبَرَيْنِ يَتَعَارَضَانِ، وَأَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَوْثَقُ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ الثَّانِي لَهُ تُخْرِجُهُ عَنْ أَحَدِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ، وَإِنْ وَجَدْنَا وَرَاءَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، فَهُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ مَزِيدِ وُضُوحٍ لَا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا. قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا إلَّا أَنَّا سَنَذْكُرُ تَرَدُّدًا فِي أَنَّ مَزِيَّةَ الْحَدِيثِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ أَوْ الْقِيَاسِ، وَيَضْطَرِبُ الرَّاوِي فِيهِ، سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا كَاَلَّذِي يُقَرِّرُونَهُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَعَلَى مَاذَا تَعْتَمِدُونَ مَا رَوَاهُ؟ فَقِيلَ: رُوِيَ الْخَبَرُ الَّذِي تَرَدَّدَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ

(6/225)


آخَرَ غَيْرِ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: وَكَانَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَرَى الْخَبَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، مَعَ تَرَدُّدِ الشَّيْخِ، وَلَكِنْ كَانَ يَرَى إذَا قَطَعَ الشَّيْخُ بِالرَّدِّ أَنَّ ذَاكَ يَمْنَعُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ. قَالَ إلْكِيَا: وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكْنَاهُ لَا يَعْدَمُ مِنْ التَّعَرُّضِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ كَلَامًا مُخَيِّلًا، فَإِنَّ قَطْعَ النَّافِي قَدْ لَا يُعَارِضُ قَطْعَ الْمُثْبِتِ، فَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ رَوَاهُ، ثُمَّ نَسِيَ، وَظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ.
تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِلرَّاوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. الثَّانِي: هَذَا كُلُّهُ فِي أَنَّ الْغَيْرَ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ؛ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ لَهُ؟ وَقَدْ تَمَسَّك الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ، مَعَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: لَا أَدْرِي.

[الشَّيْخُ نَفْسُهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ رِوَايَتَهُ وَيَرْوِيَهُ]
أَمَّا الشَّيْخُ نَفْسُهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، هَلْ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ رِوَايَتَهُ وَيَرْوِيَهُ؟ كَمَا يَقُولُ سُهَيْلٌ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِ " نَقْضِ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ ": هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تُتْبَعُ رِوَايَتُهُ تَشَوُّفًا إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ صَاحِبَ " الْأَمْثَالِ " حَكَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الَّذِي نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ الرَّاوِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ وَتَابِعٌ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْفَرْعُ أَصْلًا، وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ جُزْءًا فِيمَنْ رَوَى عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ، يَعْنِي بَعْدَ نِسْيَانِهِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ

(6/226)


وَذَكَرَ مَا أَهْمَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، أَمَّا عَمَلُهُ بِهِ، فَحَكَى الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ اعْتَلُّوا بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا نَسِيَ الْخَبَرَ حَرُمَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ بِمُوجَبِهِ، فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: يُقَالُ لَهُمْ: مَنْ سَلَّمَ لَكُمْ هَذَا؟ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، إذَا أَخْبَرَهُ الْعَدْلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَوَاهُ. الثَّالِثُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي إنْكَارِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِالْجُمْلَةِ، فَأَمَّا فِي اللَّفْظَةِ الزَّائِدَةِ فِيهِ إذَا قَالَ رَاوِيهِ: لَا أَحْفَظُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، أَوْ لَمْ أُحَدِّثْك بِهَا، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَجَعَلَهُ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ أَصْلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: إنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَكَذَا نِسْيَانُ الْإِعْرَابِ. وَكَلَامُ ابْنِ فُورَكٍ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْوَاحِدِ. فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ إذَا نَسَبُوا ذَلِكَ كَانَ قَادِحًا قَطْعًا؛ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ.
الرَّابِعُ: مَحَلُّ الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَجْزِمْ الْأَصْلُ بِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْفَرْعُ. فَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ غَيْرَ جَازِمٍ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ " غَيْرَ ظَانٍّ لَهُ، لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ حَذَفَهُ الشَّيْخُ لِفَقْدِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْجَزْمُ بِهَا أَوْ الظَّنُّ، فَإِنْ كَانَ ظَانًّا، وَالْأَصْلُ شَاكٌّ فِيهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ ظَانًّا عَدَمَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ. قَالَ: فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ. قَالَ: وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ، وَمَهْمَا كَانَ الْفَرْعُ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْخِلَافِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: وَيُتَّجَهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُوجَدْ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْ يُعَارِضُهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال.

(6/227)


الْخَامِسُ: أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ فَمَحَلُّ وِفَاقٍ. فَإِذَا أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ هَذَا الْفَرْعِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ يُخَالِفُ فِيهَا الْمَذْهَبَانِ أُصُولَهُمْ، وَهِيَ مَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْقَاضِي أَنَّك قَضَيْت لِي أَوْ سَجَّلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَأَنْكَرَ الْقَاضِي دَعْوَاهُ، وَقَالَ: مَا قَضَيْت، وَمَا سَجَّلْت، وَمَا عِنْدِي خَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَشَهِدَا بِمُوجَبِ دَعْوَاهُ، لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشُّهُودِ، وَقُصَارَى مَا يَصْدُرُ هَاهُنَا إنْكَارُ الْأَصْلِ، وَإِنْكَارُ الْأَصْلِ عِنْدَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْفَرْعِ فِي مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِسْجَالِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ - أَعْنِي الْقَاضِيَ - أَنْكَرَ وَعِنْدَهُمْ إنْكَارُ الْأَصْلِ يُسْقِطُ الْفَرْعَ.

[مَسْأَلَةٌ رَوَى حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ وَلَيْسَ هُوَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَشَاهِيرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ هَلْ يُقْبَلُ]
مَسْأَلَةٌ إذَا رَوَى حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ، وَلَيْسَ هُوَ مَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَشَاهِيرِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، هَلْ يُقْبَلُ؟ مِثَالُهُ تَمَسَّك الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ فِي الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ: «لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا، وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» . قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ

(6/228)


الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا لِأَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ يُزَاحِمُ أَصْحَابَ قَتَادَةَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ. أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِهِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ دُونَهُمْ، فَأَوْرَثَ شَكًّا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ وَاقِعٌ فِي رَجُلٍ ثِقَةٍ عَدْلٍ فَتُقْبَلُ سَائِرُ رِوَايَاتِهِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ حَدِيثُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَهَذَا مِثْلُهُ.

[مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ]
ِ] إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ حُكْمُهُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إذَا رَجَعَ الرَّاوِي عَمَّا رَوَاهُ، وَقَالَ: كُنْت أَخْطَأْت فِيهِ، وَجَبَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ فِيهِ كَأَصْلِ رِوَايَتِهِ. فَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي أُصُولِهِ: لَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِهِ فِيمَا نُقِلَ.

[مَسْأَلَةٌ إذَا تَشَكَّكَ الرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ]
ُ] فَأَمَّا مَا ذَكَرَ الرَّاوِي شَكًّا مُبْتَدَأً، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَادِحًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شَكَّ بَعْدَمَا رَوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّشْكِيكِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ فِي " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ "، وَنَازَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ. وَقَالَ: تَشْكِيكُ الرَّاوِي بَعْدَ الْيَقِينِ عِنْدِي غَيْرُ قَادِحٍ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا عَلَى الْيَقِينِ. فَإِنَّ شَكَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ

(6/229)


مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْيَانِ، وَتَغَيُّرِ الْحِفْظِ بِالْكِبَرِ وَغَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَاجِعَ الرَّاوِي أُصُولَهُ، وَيَسْتَرِيبَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ مَحْفُوظِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ بَيَانُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ حَمَّلَهُ إيَّاهُ، فَيُقْبَلُ ذَلِكَ عَنْهُ وَيُعْرَفُ.

[مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الرَّاوِي أَظُنُّ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَنِي أَوْ قَالَ هَلْ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ]
ِ؟ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ ": نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ ": هَذَا فِيهِ نَظَرٌ أُصُولِيٌّ، وَلِتَجْوِيزِهِ وَجْهٌ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي الرِّوَايَةِ إلَى الظَّنِّ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَلَى الْخَطِّ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَفِي مُسْلِمٍ فِي بَابِ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي، وَاَلَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ» ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً لَا اعْتِمَادًا. قُلْت: وَهَلْ يُعْمَلُ بِالرِّوَايَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنَدَهُ؟ . يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ إذَا ذَكَرَهَا فِي مُسْنَدِهِ، هَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؟ .

(6/230)


[مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ الْعَدْلُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْعَدْلُ الْمَرَضِيُّ إنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْقَدَحِ]
ِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُعَدِّلَةَ إذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ يَبْقَ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعٌ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ السَّبَبَ. قَالَ: وَبِمِثْلِهِ رَدَدْنَا قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ حَدِيثٌ أَصْلًا، وَإِنْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ مُطْلَقَ قَدَحِهِ يُورِثُ تُهْمَةً؟ قُلْنَا إنَّهُ لَا مُبَالَاةَ بِمُخَايِلِ التُّهْمَةِ، إنَّمَا التَّعْوِيلُ عَلَى الْأَسْبَابِ. اهـ. وَيُتَّجَهُ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِيهِ أَنَّ الْجَرْحَ الْمُطْلَقَ، هَلْ يُقْبَلُ؟ وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذَلِكَ قَادِحٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: قَوْلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَةِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ: هَذَا لَا يَصِحُّ، غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَوِ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ وَالْأَسَانِيدِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ جَرْحٌ مُطْلَقٌ، فَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَ سَبَبَهُ.

[مَسْأَلَةٌ زِيَادَةُ الرَّاوِي الثِّقَةِ]
ِ] إذَا انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ، فَتَارَةً تَكُونُ لَفْظِيَّةً، كَقَوْلِهِ فِي (رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ) ، (وَلَك الْحَمْدُ) ، فَإِنَّ الْوَاوَ زِيَادَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَتَارَةً تَكُونُ مَعْنَوِيَّةً تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا كَرِوَايَةِ (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فِي حَدِيثِ زَكَاةِ

(6/231)


الْفِطْرِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ، أَوْ اتِّحَادُهُ، أَوْ جُهِلَ الْأَمْرُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْلَمَ تَعَدُّدُهُ فَيُقْبَلُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَذْكُرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَلَامَ فِي أَحَدِ الْمَجْلِسَيْنِ بِدُونِ زِيَادَةٍ وَفِي الْآخَرِ بِهَا، وَزَعَمَ الْإِبْيَارِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَجْرَى فِيهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ التَّفْصِيلَ الَّذِي سَنَحْكِيهِ عَنْهُ فِي اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ، فَلَا يَعْلَمُ هَلْ تَعَدَّدَ الْمَجْلِسَ أَوْ اتَّحَدَ، فَأَلْحَقَهَا الْإِبْيَارِيُّ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى يُقْبَلَ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِلَافٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الِاتِّحَادِ، وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِتَصْدِيقِهِ حَاصِلٌ وَالْمُعَارِضَ لَهُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ. قُلْت: وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَّحِدِ، وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ نَظَرًا إلَى احْتِمَالِ التَّعَدُّدِ.

(6/232)


وَأَشَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " إلَى التَّوَقُّفِ، وَالرُّجُوعِ إلَى التَّرْجِيحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا جَرَيَا فِي مَجْلِسَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جَرَى عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ عَدَالَتِهِمَا وَحِفْظِهِمَا أَلَّا تَخْتَلِفَ رِوَايَتُهُمَا، فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: إنْ احْتَمَلَ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ اتِّفَاقًا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَلْفَاظٍ وَقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ، فَكَذَلِكَ إذَا رَجَحَتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إلَى رَاوٍ وَاحِدٍ مَعَ عَدَدِ الْمَرَاتِبِ فِي الرُّوَاةِ، وَإِنْ طَرَأَ التَّعَدُّدُ فَهَاهُنَا ضَعِيفٌ مَرْجُوحٌ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِبُطْلَانِهِ، كَمَا فِي قَضِيَّتِهِ الْوَاهِيَةِ نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ فِي أَلْفَاظٍ فِيهَا، فَالْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْمَجْلِسِ فِي الْوَاقِعَةِ هَاهُنَا مَعَ اتِّحَادِ السِّيَاقِ، وَتَوَافُقِ أَكْثَرِ الْأَلْفَاظِ، وَاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ لِلْحَدِيثِ بَعِيدٌ جِدًّا، فَالطَّرِيقُ الرُّجُوعُ إلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرُّوَاةِ.

(6/233)


[الْمَذَاهِبُ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الرَّاوِي إذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ]
ُ] الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّحِدَ الْمَجْلِسُ، وَيَنْقُلَ بَعْضُهُمْ الزِّيَادَةَ، وَيَسْكُتَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا، وَلَا يُصَرِّحُ بِنَفْيِهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ غَيَّرَتْ الْحُكْمَ الثَّابِتَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَوْجَبَ نَقْصًا ثَبَتَ بِخَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا، وَمَرَّةً بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ مَنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَهِيَ كَالْحَدِيثِ التَّامِّ، يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ، فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، بَلْ تَابِعَةٌ، وَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، مَعَ انْفِرَادِهِ بِرُؤْيَتِهِ، وَقَبِلَ خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنْ انْفَرَدُوا عَنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسْنِدَ الرَّاوِي لِلزِّيَادَةِ وَالتَّارِكِ لَهَا مَا رَوَيَاهُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى مَجْلِسَيْنِ، أَوْ يُطْلِقَا إطْلَاقًا. فَتُقْبَلُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ التَّارِكَ لِلزِّيَادَةِ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَفْلَةُ عَنْهَا، وَكَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا أَنْ لَا يَقْبَلَ رِوَايَةَ رَاوِي الزِّيَادَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": إنَّمَا يُقْبَلُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ نَقَلَ الزِّيَادَةَ وَاحِدٌ، وَمَنْ رَوَاهُ نَاقِصًا جَمَاعَةٌ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَتْ، هَذَا إذَا رَوَيَاهُ عَنْ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَإِنْ رَوَيَاهُ عَنْ مَجْلِسَيْنِ فَإِنْ كَانَا خَبَرَيْنِ عُمِلَ بِهِمَا، قَالَ: فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ لَهَا عَدَدًا

(6/234)


كَثِيرًا فَهِيَ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاحِدًا فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ الضَّابِطِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا ضَابِطَيْنِ ثِقَتَيْنِ كَانَ الْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى، وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " قَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْآمِدِيَّ: إذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ قَدْ انْتَهَى إلَى حَدٍّ لَا يَقْضِي فِي الْعَادَةِ بِغَفْلَةِ مِثْلِهِ عَنْ سَمَاعِهَا، وَاَلَّذِي رَوَاهَا وَاحِدٌ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا إلَى هَذَا الْحَدِّ فَاتَّفَقَ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى قَبُولِ الزِّيَادَةِ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. اهـ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْإِطْلَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَقَالَ: سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ: وَالِاخْتِيَارُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ مِنْ الثِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرَهُ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِشَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ. وَسَيَأْتِي فِي بَحْثِ الْمُرْسَلِ مِنْ كَلَامِ

(6/235)


الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا، وَهُوَ أَثْبَتُ نَقْلٍ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَسَنَذْكُرُ قَرِيبًا عَنْ نَصِّهِ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إذَا خَالَفَ الْأَحْفَظَ وَالْأَكْثَرَ. الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ تَنَاقُضِ الْقَوْلِ الْجَمْعُ بَيْنَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الْقُرْآنِ، وَرَدِّ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَحَقُّ الْقُرْآنِ أَنْ يُنْقَلَ تَوَاتُرًا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. وَمَا كَانَ أَصْلُهُ التَّوَاتُرُ، وَقُبِلَ فِيهِ زِيَادَةُ الْوَاحِدِ، فَلَأَنْ يُقْبَلَ فِيمَا سِوَاهُ الْآحَادُ أَوْلَى، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَوْا الْكَلَامَ فِي الزِّيَادَةِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ» .
وَالثَّالِثُ: الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ بُعْدًا، وَالْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الصُّدُورِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا صِدْقُ الرَّاوِي. وَإِذَا تَعَارَضَا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ. وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً لَمْ تُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَغْفُلُ، أَوْ كَانَتْ الدَّوَاعِي لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى

(6/236)


نَقْلِهَا، وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ كَمَا سَبَقَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْ رَوَاهُ بِالزِّيَادَةِ ثُمَّ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ. نَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي، الْعُدَّةِ " فِيمَا إذَا رَوَى الْوَاحِدُ خَبَرًا ثُمَّ رَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ فِي مَجْلِسٍ قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكَرَّرَتْ رِوَايَتُهُ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، ثُمَّ رَوَى الزِّيَادَةَ، فَإِنْ قَالَ: كُنْت نَسِيتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": إنْ أَسْنَدَ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى مَجْلِسَيْنِ قُبِلَ، وَهَذَا إنْ لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ حُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهَا إلَى مَجْلِسَيْنِ، وَكَانَ قَدْ رَوَى الْخَبَرَ دُفُعَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَرَوَاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِالزِّيَادَةِ، فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ سَهَا فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ؛ وَلِأَنَّ سَهْوَ الْإِنْسَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَغْلَبُ مِنْ سَهْوِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَإِنْ قَالَ: كُنْت قَدْ أُنْسِيت هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَالْآنَ ذَكَرْتهَا، قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ، وَحُمِلَ أَمْرُهُ عَلَى الْأَقَلِّ النَّادِرِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا رَوَاهَا مَرَّةً وَاحِدَةً بِرِوَايَتِهَا مَرَّةً، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تُغَيِّرُ إعْرَابَ الْكَلَامِ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تُغَيِّرُ اللَّفْظَ اُحْتُمِلَ أَنْ يَتَعَارَضَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَدْ وَهِمَ.
قَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ اسْتِهَانَةٌ، فَلَوْ رَوَى الْحَدِيثَ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِحَذْفِهَا اسْتِهَانَةً وَقِلَّةَ تَحَفُّظٍ، سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ. السَّابِعُ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تُغَيِّرُ إعْرَابَ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ رَوَى رَاوٍ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وَرَوَى الْآخَرُ نِصْفَ شَاةٍ، لَمْ يُقْبَلْ، وَيَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ:

(6/237)


لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْوِي غَيْرَ مَا رَوَاهُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ مُنَافِيًا لَهُ مُعَارِضًا، فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ التَّرْجِيحِ. قَالَ: وَخَالَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْمِزِّيُّ، وَفِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ: قَبِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الزِّيَادَةَ سَوَاءٌ أَثَّرَتْ فِي اللَّفْظِ أَمْ لَا، إذَا أَثَّرَتْ فِي الْمَعْنَى، وَقَبِلَهَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إذَا أَثَّرَتْ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا إذَا أَثَّرَتْ فِي إعْرَابِ اللَّفْظِ.
الثَّامِنُ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا أَفَادَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. فَلَوْ لَمْ تُفِدْ حُكْمًا لَمْ تُعْتَبَرْ، كَقَوْلِهِمْ: فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقَ جُرْذَانَ. قَالَ: فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْضِعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: وَقِيلَ: إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا اقْتَضَتْ فَائِدَةً جَدِيدَةً. التَّاسِعُ: عَكْسُهُ، أَنَّهَا تُقْبَلُ إذَا رَجَعَتْ إلَى لَفْظٍ لَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا زَائِدًا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. الْعَاشِرُ: تُقْبَلُ لَوْ كَانَتْ بِاللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الَّذِي قَبِلَهُ. الْحَادِيَ عَشَرَ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهَا حَافِظًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، وَالصَّيْرَفِيِّ. قَالَ الصَّيْرَفِيِّ: وَهُوَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى مَنْ نَقَلَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مُسْتَقِلًّا بِهَا، لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي الرِّوَايَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَوْ انْفَرَدَ بِحَدِيثٍ يُقْبَلُ فَإِنَّ زِيَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ خَالَفَ الْحُفَّاظَ. الثَّانِيَ عَشَرَ: إنْ تَكَافَأَ الرُّوَاةُ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَزَادَ حَافِظٌ عَالِمٌ بِالْأَخْبَارِ زِيَادَةً، قُبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِي الْحِفْظِ لَمْ تُقْبَلْ، وَهُوَ قَوْلُ

(6/238)


ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إنْ كَانَ ثِقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِنَقْلِ الزِّيَادَاتِ فِي الْوَقَائِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ قُبِلَتْ. كَرِوَايَةِ مَالِكٍ: (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ اُشْتُهِرَ بِكَثْرَةِ الزِّيَادَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَامْتِنَاعِ الِامْتِيَازِ بِسَمَاعٍ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَمَذْهَبُ الْأُصُولِيِّينَ قَبُولُ زِيَادَتِهِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ رَدُّهَا لِلتُّهْمَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ".

[شُرُوطُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ] الرَّابِعَ عَشَرَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي تُقْبَلُ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مُنَافِيَةً لِأَصْلِ الْخَبَرِ. ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ. ثَانِيهَا: أَنْ لَا تَكُونَ عَظِيمَةَ الْوَقْعِ، بِحَيْثُ لَا يَذْهَبُ عَنْ الْحَاضِرِينَ عِلْمُهَا وَنَقْلُهَا. أَمَّا مَا يَجُلُّ خَطَرُهُ، فَبِخِلَافِهِ. قَالَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ النَّاقِلُونَ فِي نَقْلِ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: شَهِدْنَا أَوَّلَ الْمَجْلِسِ وَآخِرَهُ مُصْغِينَ إلَيْهِ، مُجَرِّدِينَ لَهُ أَذْهَانَنَا، فَلَمْ نَسْمَعْ الزِّيَادَةَ، فَذَلِكَ مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لِلِاحْتِمَالِ مَجَالٌ لَمْ يُكَذِّبُوهُ عَلَى عَدَالَتِهِ، قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: أَمَّا إذَا صَرَّحَ الْآخَرُونَ بِالنَّفْيِ وَاتَّحَدَ الْمَجْلِسُ. فَقِيلَ: هُوَ مُعَارِضٌ، فَيُقَدَّمُ أَقْوَاهَا. وَقِيلَ الْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ، قَالَ: وَهُوَ الرَّاجِحُ.
رَابِعُهَا: أَنْ لَا يُخَالِفَ الْأَحْفَظَ وَالْأَكْثَرَ عَدَدًا، فَإِنْ خَالَفَتْ، فَظَاهِرُ

(6/239)


كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الشَّرِيكِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ بُلُوغِهِمْ إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ أَمْ لَا، بَلْ اعْتَبَرَ الْمُطْلَقَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى زِيَادَةِ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَدِيثٍ: «وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» : إنَّمَا يَغْلَطُ الرَّجُلُ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ، أَوْ يَأْتِي بِشَيْءٍ فَيَتْرُكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ مَا حَفِظَ مِنْهُ، وَهُمْ عَدَدٌ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ. اهـ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: «وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ» هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهِيَ ذِكْرُ الِاسْتِسْعَاءِ، تَفَرَّدَ بِهَا سَعِيدٌ، وَخَالَفَ الْجَمَاعَةَ، فَلَا تُقْبَلُ، وَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُهُ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا عَلِمُوهُ مِنْهُ فِي قَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، احْتَاجُوا لِتَأْوِيلِهِ، فَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَمْ يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْجِهَةَ، بَلْ إنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَارَضَهَا رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، فَتُرَجَّحُ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ مُطْلَقًا، وَغَيْرُهُ رَوَى الْخَبَرَ، وَقَالَ: " قَالَ قَتَادَةُ: وَيُسْتَسْعَى " فَمَيَّزَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ، فَيَكُونُ هَذَا الرَّاوِي قَدْ حَفِظَ مَا خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ.

(6/240)


وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَنَحْنُ وَإِنْ قَبِلْنَا الزِّيَادَةَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالُ الضَّعْفِ، وَيَخْدِشُ وَجْهَ الثِّقَةِ، فَلَوْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَلَى مُنَاقَضَةٍ لَقُدِّمَ عَلَيْهِ، فَلِأَجْلِهِ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ خَبَرَ السِّرَايَةِ عَلَى خَبَرِ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِنَقْلِ السِّعَايَةِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَسَّمَ ابْنُ الصَّلَاحِ الزِّيَادَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُخَالِفًا مُنَافِيًا لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فَمَرْدُودٌ. ثَانِيهَا: مَا لَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْغَيْرِ كَالْحَدِيثِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ جُمْلَتِهِ ثِقَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ، فَيُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِمَا رَوَاهُ الْغَيْرُ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَادَّعَى الْخَطِيبُ فِيهِ الِاتِّفَاقَ. ثَالِثُهَا: مَا يَقَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ، كَزِيَادَةٍ فِي لَفْظِ حَدِيثٍ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، يَعْنِي وَلَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَلَا نَفَاهَا الْبَاقُونَ صَرِيحًا، وَتَوَقَّفَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي قَبُولِ هَذَا الْقِسْمِ. وَحَكَى الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ عَنْهُ اخْتِيَارَ الْقَبُولِ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا.
[قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ] وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إذَا عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فَالْقَوْلُ لِلْأَكْثَرِ، سَوَاءٌ كَانُوا

(6/241)


رُوَاةَ الزِّيَادَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ، تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّهَا عَنْ الْخَطَأِ أَبْعَدُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْأَحْفَظُ وَالْأَضْبَطُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْمُثْبِتُ عَلَى النَّافِي، وَقِيلَ: النَّافِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ نَافَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ اُحْتِيجَ لِلتَّرْجِيحِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، كَحَدِيثِ: عِتْقِ بَعْضِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) رَوَى الِاسْتِسْعَاءَ، وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَرْوِهِ، بَلْ قَالَ: «وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ، وَهِيَ تُنَافِي الِاسْتِسْعَاءَ، وَإِنْ لَمْ تُنَافِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ، بَلْ يُعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إذَا أُثْبِتَتْ كَمَا فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، كَقَوْلِ أَنَسٍ: «رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» رَوَاهُ بَعْضُهُمْ هَكَذَا مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: «فَأَخَذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ» وَهِيَ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ.

[مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ] قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا الْمُتَقَدِّمِينَ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَمَنْ بَعْدَهُمَا كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَالْبُخَارِيِّ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّيْنِ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، كُلِّ هَؤُلَاءِ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ قَبُولًا وَرَدًّا التَّرْجِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَقْوَى عِنْدَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الصَّوَابُ فِي نَظَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

(6/242)


وَمِنْهُمْ مِنْ قَبِلَ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَوْ تَعَدَّدَ، كَثُرَ السَّاكِتُونَ أَوْ تَسَاوَوْا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، فَقَدْ أَخْرَجَا فِي كِتَابَيْهِمَا اللَّذَيْنِ الْتَزَمَا فِيهِمَا الصِّحَّةَ كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا رَاوٍ وَاحِدٌ، وَخَالَفَ فِيهَا الْعَدَدَ وَالْأَحْفَظَ، وَقَدْ اخْتَارَ الْخَطِيبُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَحَكَاهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ.
وَقَدْ نُوزِعَ فِي نَقْلِهِ ذَلِكَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ. وَعُمْدَتُهُمْ هُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ انْفَرَدَ بِنَقْلِ حَدِيثٍ عَنْ جَمِيعِ الْحُفَّاظِ قُبِلَ، فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ لَا يَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ، بِخِلَافِ تَفَرُّدِهِ بِالزِّيَادَةِ إذَا خَالَفَ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ، فَإِنَّ الظَّنَّ مُرَجِّحٌ لِقَوْلِهِمْ دُونَهُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.

تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: لِتَوْجِيهِ إمْكَانِ انْفِرَادِ الرَّاوِي بِالزِّيَادَةِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضَ لِلرَّاوِي النَّاقِصِ التَّشَاغُلُ عَنْ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ، مِثْلُ بُلُوغِهِ خَبَرًا مُزْعِجًا أَوْ عَرَضَ لَهُ أَلَمٌ أَوْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ، كَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَقَلْت نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَى نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ . قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» ، قَالَ عِمْرَانُ: ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ.

(6/243)


الثَّانِي: أَنَّ رَاوِيَ النَّاقِصِ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُهُ، فَرَوَاهُ مَنْ سَمِعَهُ دُونَهُ كَمَا رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَكَانَتْ نَوْبَتِي أَنْ أَرْعَاهَا فَرَوَّحْتُهَا بَيْتِي، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . فَقُلْت مَا أَجْوَدَ هَذَا، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا يَشَاءُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ وَقَعَ فِي مَجْلِسَيْنِ، وَفِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَرَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَهُ أَوَّلًا بِالزِّيَادَةِ، وَسَمِعَهُ الْوَاحِدُ، ثُمَّ يَذْكُرُهُ بِلَا زِيَادَةٍ اقْتِصَارًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ قَبْلُ، كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْثُ رَوَى حَدِيثَ الَّذِي يُمَنِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ، فَيَنْتَهِي حَيْثُ تَنْقَطِعُ بِهِ الْأَمَانِيُّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ: «فَإِنَّ لَكَ مَنْ تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ» ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمْ أَسْمَعْ إلَّا وَمِثْلَهُ مَعَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ) ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ بِوَحْيٍ أَوْ إلْهَامٍ، سَمِعَ أَبُو سَعِيدٍ: (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، وَشَغَلَ بِعَارِضٍ عَنْ سَمَاعِ الْآخَرِ الَّذِي سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ حَضَرَ أَحَدُهُمَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْآخَرُ أَبُو سَعِيدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ:

(6/244)


حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ، وَأُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي سَعِيدٍ كَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَعَلَّهُ وَافَقَهُ أَوْ تَذَكَّرَهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاَللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، يَعْنِي حَدِيثَ الْمَزَارِعِ، (إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ) سَمِعَ مِنْهُ (يَعْنِي رَافِعًا) قَوْلُهُ: (لَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ) ، يَعْنِي وَلَمْ يَسْمَعْ الشَّرْطَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنْ الْأَسْبَابِ أَنْ يَسْمَعَ الْجَمْعُ الْحَدِيثَ، فَيَنْسَى بَعْضُهُمْ الزِّيَادَةَ وَيَحْفَظُهَا الْبَاقِي. .

الثَّانِي: قَدْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ رَافِعَةً لِلْإِشْكَالِ مُزِيلَةً لِلِاحْتِمَالِ، وَقَدْ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لَا عَلَى خُصُوصِيَّةِ الزِّيَادَةِ أَوْ ضِدِّهَا. مِثَالُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَحْتَمِلُ الضَّيْمَ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ، أَيْ يَضْعُفُ عَنْ حَمْلِهِ لِضَعْفِهِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَرِيضُ لَا يَحْمِلُ الْحَرَكَةَ وَالضَّرْبَ، فَجَاءَ فِي لَفْظِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ: (لَمْ يُنَجِّسْهُ

(6/245)


شَيْءٌ) ، فَكَانَ هَذَا رَافِعًا لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: حَدِيثُ الْوُلُوغِ، «إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» ، وَفِي لَفْظٍ: (أُولَاهُنَّ) ، وَفِي لَفْظٍ (أُخْرَاهُنَّ) . فَالتَّقْيِيدُ بِالْأُولَى، وَالْأُخْرَى تَضَادٌّ مُمْتَنِعُ الْجَمْعِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ غَسْلُ وَاحِدَةٍ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ.

[مَسْأَلَةٌ الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا وَبَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا]
] إذَا اخْتَلَفَ الثِّقَاتُ فِي حَدِيثٍ فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا، وَبَعْضُهُمْ مُرْسَلًا، فَهَلْ الْحُكْمُ لِلْوَصْلِ أَوْ الْإِرْسَالِ، أَوْ لِلْأَكْثَرِ، أَوْ الْأَحْفَظِ؟ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، فَقَالَ: إذَا أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَصَلَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْحُجَّةُ لِمَنْ وَصَلَ إذَا كَانَ حَافِظًا. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ أَقُولُ. انْتَهَى.

(6/246)


وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِيهِ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. قَالَ: وَالْمُرْسَلُ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، رَوَاهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْهُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّصِلًا، فَحَكَمَ الْبُخَارِيُّ لِمَنْ وَصَلَهُ، وَقَالَ: الزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، هَذَا مَعَ أَنَّ مُرْسِلَهُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ، وَهُمَا مَا هُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَ مَنْ أَسْنَدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَرْسَلَهُ، فَالْحُكْمُ لِلْإِرْسَالِ، وَإِلَّا فَالْوَصْلُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْفَظِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرْسَلَ الْأَحْفَظُ، فَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ مَنْ وَصَلَهُ، أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ - أَصَحُّهُمَا وَبِهِ صَدَّرَ

(6/247)


ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُ - الْمَنْعُ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْدَحُ فِي سَنَدِهِ، وَفِي عَدَالَتِهِ وَفِي أَهْلِيَّتِهِ. وَالْخَامِسُ: قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ بِمَثَابَةِ الزِّيَادَةِ مِنْ الثِّقَةِ، فَيُقَدَّمُ الْوَصْلُ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ عَظِيمَ الْوَقْعِ بِحَيْثُ يَزِيدُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ رَاوِي الْإِرْسَالِ.

[الرَّاوِي يَرْوِي الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا]
فَرْعَانِ [الرَّاوِي يَرْوِي الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا] الْأَوَّلُ: لَوْ أَرْسَلَهُ هُوَ مَرَّةً، وَأَسْنَدَهُ أُخْرَى، فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ، فَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهِ، وَإِلَّا فَاخْتَلَفُوا، فَجَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِوَصْلِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لِإِرْسَالِهِ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَإِنْ وَقَعَ وَصْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ إرْسَالِهِ، فَالْحُكْمُ لِلْوَصْلِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي ثِقَةً مُتَذَكِّرًا لِرَفْعِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْسِلَهُ، وَلَا يُعَدُّ اضْطِرَابًا، وَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِحِفْظِهِ فَهُوَ اضْطِرَابٌ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ.

[إرْسَالُ الْأَخْبَارِ إذَا أَسْنَدَ خَبَرًا هَلْ يُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ]
الثَّانِي: مَنْ شَأْنُهُ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ إذَا أَسْنَدَ خَبَرًا، هَلْ يُقْبَلُ أَوْ يُرَدُّ؟ قَوْلَانِ. الصَّحِيحُ الْقَبُولُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت، وَلَا يُقْبَلُ مَا يَأْتِي فِيهِ بِلَفْظٍ مُوهِمٍ. وَقَالَ بَعْضُ

(6/248)


الْمُحَدِّثِينَ: لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا قَالَ: سَمِعْت فُلَانًا. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، فَيَجْعَلُونَ الْأَوَّلَ دَالًّا عَلَى الْمُشَافَهَةِ، وَالثَّانِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَهَذَا عَادَةٌ لَهُمْ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي، يُفِيدُ أَنَّهُ تَوَلَّى إخْبَارَهُ بِالْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً.

[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ الْوَقْفُ وَالرَّفْعُ]
ُ] أَمَّا تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، فَالْحُكْمُ عَلَى الْأَصَحِّ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - لِمَا رَوَاهُ الثِّقَةُ مِنْ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَغَيْرُهُ سَاكِتٌ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوٍ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ رَفَعَ حَدِيثًا فِي وَقْتٍ، ثُمَّ وَقَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَالْحُكْمُ لِرَفْعِهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ مِنْ " الْحَاوِي ": مَذْهَبُنَا أَنْ يُحْمَلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/249)


[فَصْلٌ الْكَلَامُ عَلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ]
ِ] وَإِذَا انْقَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الرَّاوِي، فَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي وَهُوَ الْمَتْنُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ كَوْنُهُ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ، فَإِنْ أَحَالَهُ الْعَقْلُ رُدَّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ، إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَأَمَّا أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ فَكُلُّ مَا صَحَّ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَيْهِ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ قُبِلَ، وَمَا لَا يُؤَوَّلُ، وَأَوْهَمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ، وَلَا مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَهُوَ إمَّا غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي أَوْ مَنْسُوخٌ حُكْمُهُ، وَأَنْ لَا يُخَالِفُهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، فَإِنْ خَالَفَهُ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عُلِمَ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى الشَّارِعِ، وَإِنْ قَبِلَهُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ سَمْعِيًّا، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ الْمَقْطُوعِ عَنْهُ حُمِلَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَأَنْ لَا يَنْفَرِدَ رَاوِيهِ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَنْقُلَهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ، فَإِنْ انْفَرَدَ لَمْ يُقْبَلْ. قَالَهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَكَذَا الْأُسْتَاذَانِ: ابْنُ فُورَكٍ وَأَبُو مَنْصُورٍ قَالَا: وَلِهَذَا رَدَدْنَا رِوَايَةَ الْإِمَامِيَّةِ فِي النَّصِّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَقُلْنَا: لَوْ كَانَ حَقًّا لَظَهَرَ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْفُرُوضِ الَّتِي لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهَا. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ عَلْمُهُ فَجَاءَ بِنَقْلِهِ الْخَاصَّةُ، وَيَرْجِعُ فِيهِ الْعَامَّةُ إلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَمَلًا، فَإِنْ اقْتَضَى عِلْمًا، وَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَمْ يُرَدَّ، وَإِلَّا رُدَّ، سَوَاءٌ اقْتَضَى مَعَ الْعِلْمِ عَمَلًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مِنْهُ، فَالْعِلْمُ مَعَ عَدَمِ

(6/250)


صَلَاحِيَّتِهِ لَهُ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ لَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَصَدَ بِذَلِكَ إيجَابَ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ شَافَهَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَمِنْ هَذَا إثْبَاتُ الْقِرَاءَةِ عَبْرَ الْآحَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ، لَا الْقُرْآنُ.
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ مُعْتَصِمًا مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يُقْطَعُ بِرَدِّهِ، وَمِثَالُهُ إذَا وَرَدَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَصٌّ لِلرَّدِّ، وَلَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْقَبُولِ، قُطِعَ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّ مُعْتَمَدَنَا فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْإِجْمَاعُ، فَحَيْثُ لَا نَجِدُ قَاطِعًا لَا نَحْكُمُ بِالْعَمَلِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ: يَلْتَحِقُ بِالْمُجْتَهِدَاتِ، وَتَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِيهِ الْجَرَيَانُ عَلَى اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثَ قَبِلَهَا بَعْضُهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا آخَرُونَ، ثُمَّ كَانَ الْعَامِلُونَ لَا يُعَابُونَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَدَمُ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، بَلْ يَجُوزُ إنْ عَارَضَهُ الْقِيَاسُ إذَا تَبَايَنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَاتُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةً قُدِّمَ الْقِيَاسُ قَطْعًا، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ظَنِّيَّةً قُدِّمَ الْخَبَرُ قَطْعًا لِقِلَّةِ مُقَدَّمَاتِهِ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ فِيهِ الْخِلَافَ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَعْضُ قَطْعِيًّا وَالْبَعْضُ ظَنِّيًّا، قُدِّمَ الْخَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ، وَهَذَا رَأْيٌ، وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ هَلْ يَأْخُذُ

(6/251)


بِهِ؟ فَقَرَأَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] الْآيَةَ.
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيّ، وَأَبُو الْفَرَجِ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى، وَقَالُوا: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: إنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا قُدِّمَ خَبَرُهُ، وَإِلَّا كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رَدِّ الْخَبَرِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا أَرَى ثُبُوتَهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ يَعِمَنْ: لَا خِلَافَ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَةُ الْقِيَاسِ أَقْوَى، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْعَكْسُ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي إفَادَةِ الظَّنِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: لَمْ أَجِدْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَظْنُونٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ صَارَ إلَيْهِ صَائِرٌ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا. قُلْت: وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ. قَالَ إلْكِيَا: لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَدَّمُوا خَبَرَ الضَّابِطِ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةُ الزَّلَلِ، وَالْوَجْهُ التَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ تَرْكُ الرَّأْيِ لِلْخَبَرِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ لِلْحَدِيثِ. . . أَبُو بَكْرٍ حُكْمًا حَكَمَهُ بِرَأْيِهِ لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ بِلَالٍ، وَمِنْ هَذَا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُصَرَّاةِ وَالْعَرَايَا عَلَى الْقِيَاسِ.

(6/252)


قَالَ: الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِي رَدِّهِ مَعَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الرَّاوِي إذَا كَانَ فَقِيهًا كَابْنِ مَسْعُودٍ قُبِلَ حَدِيثُهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَمْ لَا، وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَيْسَ حُجَّةً خِلَافًا لِقَوْمٍ، لَكِنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْمُرَجِّحَاتِ، فَتُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا عَارَضَ خَبَرُ الْوَاحِدِ خَبَرًا آخَرَ مِثْلَهُ مُعْتَضِدًا بِعَمَلِ الْأَكْثَرِ قُدِّمَ عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ عَمَلُ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ كَالصَّلَاةِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْأَكَابِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا رَأَيْنَاهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَتْرُوكٌ، قَالَ: وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَقُومَ مُعَارِضٌ مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَكَابِرَ مِنْهُمْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَشْيَاءُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَلَا يُرَدُّ بِأَنْ يَفْعَلَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ إثْبَاتَهُ فَيُرَدُّ.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ]
ِ] وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعَ أَنَّهُ الرَّاوِي لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا فُسِّرَ عَمَلُهُمْ بِالْمَنْقُولِ تَوَاتُرًا

(6/253)


كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْمُدِّ وَالصَّاعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَظْنُونِ إذَا عَارَضَهُ قَاطِعٌ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هَذَا لَهُ صُوَرٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ بَلَغَهُمْ، فَقَدْ وَافَقَ الْإِمَامُ عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ فِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَبَرَ، وَهُوَ لَوْ بَلَغَهُمْ لَمَا خَالَفُوهُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ نَجِدَ عَمَلَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْبُلُوغُ وَلَا انْتِفَاؤُهُ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَتْرُوكٌ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، لِقُرْبِ دِيَارِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، وَكَثْرَةِ بَحْثِهِمْ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِحِفْظِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَيَقَعُ فِي قِسْمِ مَا إذَا ظَنَنَّا بُلُوغَ الْخَبَرِ، وَلَمْ نَقْطَعْ بِهِ. وَقَدْ اخْتَرْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سُقُوطَ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ، وَلُزُومَ التَّمَسُّكِ بِالْفِعْلِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَرَوَى حَدِيثَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» .
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ: لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ إلَّا بِمُعَامَلَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ فِي تَعْمِيمِ مُوجَبِ الْيَمِينِ عَلَى حَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ التَّرَاجِيحِ: إنْ تَحَقَّقَ بُلُوغُهُ لَهُمْ، وَخَالَفُوهُ

(6/254)


مَعَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ، بَلْ هُوَ تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ مِنْ الصَّوَابِ، فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُهُمْ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَالتَّعَلُّقُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، وَظَنِّيٌّ بِدِقَّةِ نَظَرِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْخَبَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ بَلَغَهُمْ وَتَحَقَّقْنَا مُخَالَفَةَ عَمَلِهِمْ لَهُ، فَهَذَا مَقَامُ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ فِي الْوَاقِعَةِ سِوَى الْخَبَرِ وَالْأَقْضِيَةِ تَعَلَّقْنَا بِالْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا غَيْرَهُ تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِهِ. قَالَ: وَمِنْ بَدِيعِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهُ لَهُ أَنَّ مَذَاهِبَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ إذَا نُقِلَتْ مِنْ غَيْرِ إجْمَاعٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِذَا نُقِلَتْ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ تَعَلَّقْنَا بِهَا، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَلُّقٌ بِالْمَذَاهِبِ، بَلْ بِمَا صَدَرَتْ عَنْهُ مَذَاهِبُهُمْ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ يَطَّرِدُ فِي أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، وَفِي أَئِمَّةِ كُلِّ عَصْرٍ مَا لَمْ يُوقَفْ عَلَى خَبَرٍ.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ]
ِ] وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَدَّمُوا رَأْيَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجِبُوا التَّسْبِيعَ بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ، لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِهِ وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ إلَّا أَنَّهُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ

(6/255)


وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، بَلْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إلَيْهِ لِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اقْتَضَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَأْخَذِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ، لَا فِي مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى غَيْرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّاوِي، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَذْهَبِهِ عَلَى تَقَدُّمِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ أَوْ عَلَى نِسْيَانِهِ فُعِلَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ قَبُولِ الْحَدِيثِ وَإِحْسَانِ الظَّنِّ، وَإِنْ نُقِلَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، فَالْحَدِيثُ مَتْرُوكٌ. وَلَوْ نُقِلَ مَذْهَبُهُ مُطْلَقًا، فَلَا يُتْرَكُ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ. نَعَمْ، يُرَجَّحُ عَلَيْهِ حَدِيثٌ يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحَرَجِ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ مُتَحَرِّجًا، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِرِوَايَتِهِ وَعَمَلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَفْضَلِ، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرًا ثُمَّ خَالَفَهُ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيِّدًا لِخَبَرِهِ لِإِمْكَانِ تَأْوِيلِهِ، أَوْ خَبَرٍ يُعَارِضُهُ، أَوْ مَعْنًى بِفَارِقٍ عِنْدَهُ. فَمَتَى لَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمْضَيْنَا الْخَبَرَ حَتَّى نَعْلَمَ خِلَافَهُ.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِطَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ]
ِ] وَلَا يَضُرُّهُ طَعْنُ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ

(6/256)


الْقَسَامَةِ بِطَعْنِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيهِ، ثُمَّ نَاقَضُوا، فَعَمِلُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ طَعَنَ فِيهِ، وَعَارَضَهُ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِكَوْنِهِ مِمَّا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ]
ِ] وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. حَكَاهُ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ "، وَلِابْنِ خُوَيْزٍ الْخَارِجِيِّ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَبَنَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا رَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْهَوِيِّ إلَى الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ،

(6/257)


وَإِيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَالْإِفْرَادِ فِي الْإِقَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَحَقُّهُ الِاشْتِهَارُ. وَقَالَ الْكَرْخِيّ: كُلُّ شَرْطٍ لَا تَتِمُّ صَلَاتُهُ إلَّا بِهِ يَجِبُ نَقْلُهُ، كَالْقِبْلَةِ الَّتِي ظَهَرَ نَقْلُهَا نَقْلُ الصَّلَاةِ، وَمَا يَعْرِضُ لِلصَّلَاةِ أَحْيَانَا، فَنَقْلُهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ ": مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا غَيْرَ خَاصٍّ.
[تَحْقِيقُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لِلْمَسْأَلَةِ] قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْكَافَّةَ عِلْمُهُ، فَذَلِكَ يَجِبُ ظُهُورُهُ لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي: مَا يَلْزَمُ أَفْرَادُ النَّاسِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهِ دُونَ الْعِلْمِ، أَوْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِأَسْرِهِمْ الْعَمَلَ بِهِ، نَحْوُ مَا يَرْجِعُ الْعَوَامُّ فِيهِ إلَى الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَكِنَّ الْعَامَيَّ فِيهِ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إلَى الْعَالِمِ، وَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَالِمِ لَمْ يَجِبْ نَقْلُهُ إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ شَيْءٍ اُشْتُهِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَرَّاتِ، كَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَكَانَ النَّاقِلُ مُنْفَرِدًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ

(6/258)


عَلَى رَدِّهِ، وَلِأَجْلِهِ قَالُوا: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَجْهَرُ مَرَّةً، وَيُخَافِتُ أُخْرَى، وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يُنْقَلْ أَصْلًا، وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِظَامِ الْعَزَائِمِ، وَأُمَّهَاتِ الْمُهِمَّاتِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ، فَقَلَّ الِاعْتِنَاءُ بِهِ.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ]
ِ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ. قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أَوْ سَهَا أَوْ أَخْطَأَ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَقَوْلِ الْمُفْتِي.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ]
ِّ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَ فِي النَّسْخِ.

(6/259)


[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ]
َ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْأُصُولِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، أَوْ إجْمَاعٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ، وَرَدُّوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ وَالْقُرْعَةِ، وَخَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي نَفْيِ السُّكْنَى لِلْمُتَغَرِّبَةِ، وَلِذَلِكَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا لَا يَنْسَخُهُ. [السِّرُّ فِي رَدِّ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذِهِ أُصُولٌ مَهَّدُوهَا مِنْ أَجْلِ أَخْبَارٍ احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهَا، فَرَدُّوهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقَالُوا بِأَمْثَالِهَا فِي الضَّعْفِ كَخَبَرِ نَبِيذِ التَّمْرِ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، إذْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَلِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا امْتَنَعَ التَّوَضُّؤُ بِهِ فِي الْحَضَرِ امْتَنَعَ فِي السَّفَرِ.
وَقَبِلُوا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا، وَمَا لَمْ يَنْقُضْ الطُّهْرَ فِي غَيْرِهَا لَا يَنْقُضُ فِيهَا، وَقَبِلُوا خَبَرًا ضَعِيفًا فِي إيجَابِ رُبُعِ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ فِي

(6/260)


عَيْنِهَا تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَطْرَافِهَا؟ وَقَالُوا أَيْضًا: بِإِلْزَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ الدِّيَةَ مَعَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ، تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ الْأَيْمَانِ، فَكَيْفَ أَنْكَرُوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مَعَ صِحَّتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ؟ . أَتَرَاهُ أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَلَا أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ، وَقَالُوا لَنَا مَا لَا بِهِ نَقْلٌ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَزِدْتُمْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ. فَقُلْنَا لَهُمْ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَنَقَلَ مِنْ الْمَاءِ إلَى التُّرَابِ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً فَزِدْتُمْ نَبِيذَ التَّمْرِ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ، وَقُوَّةِ حَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. فَنَحْنُ لَمْ نَجْعَلْ وَاسِطَةً بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إذَا عُدِمَ ذَلِكَ جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْقُرْآنُ لَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَدَلًا مِنْ الشَّاهِدَيْنِ. وَقَالُوا بِحَدِيثِ الْعِينَةِ، وَتَرَكُوا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَخَصَّصُوا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ.
وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ

(6/261)


أَوْ قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ لَهُ، وَلَا تَرَاخِيهِ عَنْهُ. فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَمْ يَسْأَلُوا أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ مُقَارِنَةٍ أَمْ لَا؟ . قَالَ: وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ لَهُ، فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَهُ لَقَبِلَ نَاسِخًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إنْ كَانَ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمُجَالَسَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَنْقُلُ الْأَخْبَارَ عَنْ الْأَعْرَابِ، وَعَمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِمُجَالَسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[مَسْأَلَةٌ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ أَحَدُ رَاوِيهِ وَاحِدًا]
] وَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ أَحَدِ رُوَاتِهِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ، خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ، فَإِنَّهُ طَعَنَ

(6/262)


فِي حَدِيثِ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ» ، فَقَالَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَحْدَهُ، عَنْ أَبِي الْمُعْتَمِرِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ رَاوِيهِ وَاحِدًا، فَهُوَ مَجْهُولٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا لَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْوَاحِدِ.

[مَسْأَلَةٌ عَرْضُ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ]
ِ] لَا يَجِبُ عَرْضُ الْخَبَرِ عَلَى الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ عَرْضِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُعْتَقَدُ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْعَرْضُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَرَوَاجُهُ بِمُوَافَقَتِهِ، فَالْتَبَسَ بِمُخَالَفَتِهِ، ثُمَّ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ، ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْحَادِثَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَالْخَبَرُ شَاذٌّ كَانَ ذَلِكَ وَمُحْرِبُ، وَكَذَا إنْ كَانَ حُكْمُ الْحَادِثَةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ، خِلَافًا ظَاهِرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْحِجَاجِ وَمُحْرِبُ فِيهِ.
قَالَ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» . فَلَوْ صَحَّتْ لَاحْتِيجَ إلَى عَرْضِهَا عَلَى الْكِتَابِ، وَقَدْ عَرَضْنَاهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا بَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهَا؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] .

(6/263)


وَرَدَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَلَامَهُ، وَقَالَ: الْخَبَرُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ إذَا ثَبَتَ، وَلَا يَجِبُ عَرْضُهُ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ. اهـ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ، وَالْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى عَامًّا لَهُ بِقَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ ذَهَبَ عَنَّا وَجْهُهُ. قَالَ: فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إذَا رَوَيْت سُنَّةً عَرَضْتهَا عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ: فَإِنْ خَالَفَتْهُ عَلَى مَعْنَى وُرُودِ الْكِتَابِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَفِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْهُ، أَوْ حَظْرُهُ، فَهَذَا لَمْ يُوجَدْ صَحِيحًا، إلَّا فِيمَا نَسَخَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُنَّتِهِ. قُلْت: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْته، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ» : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَعَمَّنْ لَا يُقْبَلُ [عَنْهُ] مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ. انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» ، الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ:

(6/264)


فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي اتِّبَاعِهِ، وَكَانَتْ مَعَهُ دَلَالَتَانِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ عَامًّا وَخَاصًّا وَدَلَالَةً، عَلَى أَنَّهُمْ قَبِلُوا فِيهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، فَلَا نَعْلَمْ أَحَدًا رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. اهـ. وَفِي ظَنِّي أَنَّهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ.

(6/265)


[فَصْلٌ يَجْمَعُ بَعْضَ مَا سَبَقَ جُمْلَةُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي رُدَّتْ بِهَا أَحَادِيثُ الْآحَادِ]
ِ] لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِنِسْيَانِ الرَّاوِي، وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي: ضَعِيفٌ، وَلَا يُبَيِّنُ سَبَبَ الضَّعْفِ، أَوْ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا، أَوْ أَنْ يَقُولَ: بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَتَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ يَأْبَاهُ، وَلَا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تُنْقَلْ نَقْلَ الْأَصْلِ؛ لِاحْتِمَالِ ذِكْرِهَا فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْضُرْهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فِي الرَّفْعِ، كَقَوْلِ سُهَيْلٍ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ، وَلَا بِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا، كَقَوْلِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ قَوْلًا فَظَنَّهُ أَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فَلَنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، فَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى النَّسْخِ، فَيَذْهَبُ إلَى أَثْبَتِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ تَكَافَأَتَا ذَهَبَ إلَى أَشْبَهِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ، وَلَا نَقْلُهُ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوجَدَ فِيهِمَا هَذَا أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَثْبَتِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ يُرْوَى مِنْ دُونِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ.

(6/266)


[خَاتِمَةٌ أَخْذُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ]
ِ] قِيلَ: الْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنَّهُ رَدَّ بِذَلِكَ احْتِجَاجَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِحَدِيثِ عَمِلْنَا مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَنَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ وَتَوَسُّعٍ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا تَمَثَّلَ أَوْ تَوَسَّعَ. قُلْت: وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّوَسُّعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَلَوْ قَالَ: لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ الْحُكْمِ لَمْ يَبْعُدْ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْعَامِّ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، لَا يَكُونُ عَامًّا؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ. وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا، كَاحْتِجَاجِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ «لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهُ» قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْت ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَدَحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْت مَكَانَهُ» وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَمَّنِي الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِجَوَازِهِ، كَالْإِخْبَارِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا.

(6/267)


وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالِامْتِنَانِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِنْفَاقِ كُنُوزِ كِسْرَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ لَكُمْ مِنْ أَنْمَاطٍ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ» . قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ لَهَا - يَعْنِي امْرَأَتَهُ -: أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَك. فَتَقُولُ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ؟ فَأَدَعُهَا. وَالْأَنْمَاطُ ضَرْبٌ مِنْ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ. فَفَهِمَ الصَّحَابِيُّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْأَشْرَاطِ الْجَوَازَ أَيْضًا.

(6/268)


[فَصْلٌ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ]
ِ] وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِي الْخَبَرِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. فَلِلرَّاوِي فِي نَقْلِ مَا سَمِعَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: [رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ] أَحَدُهَا: أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَنْظُرُ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ، فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَقَوْلِهِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا، فَإِنْ كَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِهِ. فَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذَنْ» .
فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، فَإِذَا نَقَلَ السُّؤَالَ تَعَيَّنَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ، كَمَا «سُئِلَ عَنْ النَّاقَةِ تُذْبَحُ، فَيُوجَدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ، فَقَالَ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ

(6/269)


ذَكَاةُ أُمِّهِ» ، وَلَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ. فَإِذَا ذَكَرَ السُّؤَالَ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، فَالْإِخْلَالُ بِالسُّؤَالِ نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُهُ. قَالَ: وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذِكْرُ السَّبَبِ حَسَنٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: أَكْثَرُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِسَبَبِ السَّبَبِ.

[نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى]
[نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ نَقْلِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ. وَالثَّانِي: الْأَخْبَارُ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى، وَإِذَا نَقَلَهَا بِالْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُهُ كَالنَّقْلِ بِاللَّفْظِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبَ عَشَرَةٍ سَتَأْتِي. وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِشَرَائِطَ.

(6/270)


[شُرُوطُ جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَوَاقِعِ الْكَلَامِ امْتَنَعَ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ، أَوْ الْحَرَامَ إلَى الْحَلَالِ، وَإِذَا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ إحَالَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى الْجَاهِلِ. قُلْت: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ": الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ مَعَ مَا أَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ سَرَدَهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْحَدِيثِ، فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى عَنْهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَادَفَ أَوْ قَاصَّ الْغَنَمَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَأَنَّقَ فِي نَقْلِ لَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَخْرُجُ مِنْهُ قَوْلٌ بَيْنَ أَنْ يَقْوَى بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَ بِمَا يُرَادِفُهُ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ، وَالِاسْتِطَاعَةِ

(6/271)


بِالْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ هَذَا مَحَلَّ وِفَاقٍ فِي الْجَوَازِ، وَلَيْسَ كَالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ، وَشَرْطُ هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ فِي التَّرَادُفِ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَوْ اُحْتِيجَ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، فَيُبْدِلُ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ فِي الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِهِ، وَلَا يُبْدِلُ الْأَجْلَى بِالْجَلِيِّ وَعَكْسُهُ، وَلَا الْعَامَّ بِالْخَاصِّ، وَلَا الْمُطْلَقَ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَا الْأَمْرَ بِالْخَبَرِ، وَلَا الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَارَةً يَقَعُ بِالْمُحْكَمِ، وَتَارَةً يَقَعُ بِالْمُتَشَابِهِ، لِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهِ، فَأَمَّا مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِاللَّفْظِ قَطْعًا، كَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ. وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ، نَقَلَهُ إلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا، وَعَبَّرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ سَامِعَ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِمَوْضُوعِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي اللِّسَانِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ بِهِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، فَإِنْ عُلِمَ تَجَوُّزُهُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ تَرْكَهُ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ، لِيَنْظُرَ فِيهِ.
خَامِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، أَمَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاعِ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ مَا أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، لَا نَدْرِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ هَلْ يُسَاوِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُشَكِّكُ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ بِالْمَعْنَى؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ. سَادِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، «وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ،

(6/272)


«الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ، «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَنَحْوُهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُ جَمِيعِ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ. حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَغَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبْدِلَ اللَّفْظَ بِمُرَادِفِهِ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَظُنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إلَى اللَّفْظِ إمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ بِهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُرَادِفِ، وَكَلَامُ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْأُولَى، وَعَلَى الْمَنْعِ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": يَجُوزُ لِلْعَالِمِ فِيمَا عَلِمَهُ قَطْعًا لَا فِي عِلْمِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَفِي حَقِّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنْ الْعَوَامّ خَاصَّةً.
قَالَ:

(6/273)


وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ تَفْسِيرُ مَقَالِ الشَّرْعِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى يَنْقُلَ إلَيْهِ لَفْظَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَبِلَهُ بِالْمَعْنَى صَارَ مُقَلِّدًا، وَفِي الصَّحَابِيِّ إذَا نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ. اهـ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ، سَوَاءٌ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ، وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَوَهَمَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ "، فَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، أَيْ لِأَجْلِ إنْكَارِ أَصْلِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُنْقَلُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْنَى، بِخِلَافِ حَدِيثِ النَّاسِ، لَكِنْ قَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَدْ نَجِدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْعَالِمِ النَّقْلُ عَلَى الْمَعْنَى.

(6/274)


وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، فَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْهَا، فَمِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ. الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا أَدَاءُ اللَّفْظِ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. وَالْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ اللَّفْظَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ مِنْ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ اللَّفْظَ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ: اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَجَعَلَ الْخِلَافَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَالَ: أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَيَجُوزُ رِوَايَتُهُمَا بِالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ» ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ. وَقَوْلُهُ: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَا: فَهَذَا جَائِزٌ يَعْنِي بِلَا

(6/275)


خِلَافٍ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ، وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ، فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيَّ الْمَعْنَى مُحْتَمِلًا، كَقَوْلِهِ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ، وَلِيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ إلَى الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَهُ، وَيَنْقُلَ مَعْنَاهُ. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ. اهـ.
وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصَّحَابِيِّ، وَبِالْجَلِيِّ مِنْ غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْجَزْمُ فِي الْجَلِيِّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالْفُهُومُ قَدْ تَبَايَنَتْ، وَالْعَوَارِفُ قَدْ اخْتَلَفَتْ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. اهـ.
وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبٌ آخَرُ هُوَ السَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

(6/276)


وَالثَّامِنُ: إنْ كَانَ مُحْكَمًا فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِلْعَارِفِ بِاللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، أَوْ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ وَجَبَّارُ أَوْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا، إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَالْمُتَشَابِهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْ طَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى: قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَقَوْلِهِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَنَحْوُهُ، فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَقْلَهُ بِالْمَعْنَى بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّظْمِ، وَكَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) ، وَذَكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ: اللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا، وَافْعَلْ كَذَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، يَنْكَرُهُمَا وَقَعَدَ، وَقَامَ وَمَضَى، وَذَهَبَ وَصَبَّ، وَأَرَاقَ، وَهَذَا يَجُوزُ تَأْدِيَتُهُ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: مُودَعٌ فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ إلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَيَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَظُنُّهُ الْحَاكِي قَائِمًا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَعَلَّقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَعْنَى إلَى لَفْظٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا يُقْبَلُ خَبَرٌ حَتَّى يَكُونَ رَاوِيهِ عَدْلًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي فَحُكْمُهُ فِي الْأَدَاءِ عَلَى

(6/277)


الْأَلْفَاظِ، وَكُلُّ مَنْ أَدَّى إلَيْنَا شَيْئًا قَبِلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَفْظُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ، حَتَّى عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكِيَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ حَدِيثٍ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُحْذَفُ فَيَذْهَبُ مَعْنَاهُ. اهـ.
وَالتَّاسِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْفُتْيَا، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى، إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَعْنَاهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّبْلِيغَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ اللَّفْظُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، «وَآمَنْتُ بِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْتَ» قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". وَالْعَاشِرُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ، دُونَ الْقِصَارِ. حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، ثُمَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ خَصَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِشْكَالِ " عَنْ مَالِكٍ تَجْوِيزَهُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ، وَمَنْعَهُ فِي كَلَامِ النُّبُوَّةِ.
فَرْعٌ إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ وَرُوِيَ بِالْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الرِّوَايَةُ، قَالَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ ".

[يُنْقِصَ الرَّاوِي مِنْ لَفْظِ الْحَدِيث وَيَحْذِفَهُ]
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْقِصَ مِنْ لَفْظِهِ وَيَحْذِفَهُ، فَيُنْظَرُ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَحْذُوفُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَمْ يَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ. وَالْمَعْنَوِيِّ كَمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَلَّقُ مَذْكُورًا بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، لَا يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِهَا،

(6/278)


كَمَا فِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فَيَنْقُصُ عَنْ الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، فَالْمَانِعُونَ ثَمَّ مَنَعَ أَكْثَرُهُمْ هَاهُنَا، وَأَمَّا الْمُجَوَّزُونَ ثَمَّ فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ.
[الْمَذَاهِبُ فِي جَوَازِ حَذْفِ شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنْ كَانَ نَقَلَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ، جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَغَيْرُهُمَا، وَقَيَّدَ الْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا، كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ "، وَكَذَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَا حَكَيَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوَّلًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُجَوِّزَ حَذْفَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ، وَحَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ طَرِيقَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: إجْرَاءُ خِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِيَةُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، قَالَ: وَهِيَ الْمَذْهَبُ. قَالَ: أَمَّا إذَا رَوَى بَعْضَ الْخَبَرِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهُ بِتَمَامِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ بِأَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِهِ قُبِلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِهِ الزِّيَادَةَ وَكِتْمَانِهَا.

(6/279)


وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": مَتَى خَافَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ أَنَّهُ إذَا رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا أَنْ يُتَّهَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ رِوَايَتُهُ عَلَى التَّمَامِ، دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ التُّهْمَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلرِّوَايَةِ. وَشَرَطَ أَيْضًا لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُتَذَكِّرًا لِتَمَامِهِ، فَإِنْ خَافَ غَفْلَتَهُ أَوْ نِسْيَانَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ تَامًّا.
قَالَ: فَإِنْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ غَيْرُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَى السَّامِعِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا تَامًّا. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَالرَّابِعُ: الْحَدِيثُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ نَقْلُ بَعْضِهِ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ". وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ فَقِيهًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ امْتَنَعَ. قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، فِي كِتَابَيْهِمَا. قَالَا: وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْبَعْضِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إلَى آيَةِ الْكَلَالَةِ. فَقَالَ: تَكْفِيَك آيَةُ الصَّيْفِ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِفَايَةٌ لَمَا وَكَّلَهُ إلَيْهَا. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فِي حَدِيثِ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ، وَلِحَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَرَمَى الرَّوْثَةَ وَتَرَكَ نَقْلَ الْحَجَرِ الْآخَرِ اكْتِفَاءً» ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ائْتِنِي

(6/280)


بِحَجَرٍ ثَالِثٍ» .
وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَالنَّاقِلُ فَقِيهٌ عَالِمٌ بِوَجْهِ التَّمْيِيزِ فَيَجُوزُ، كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْ الْحَجَرَ الثَّالِثَ كَانَ مَقْصُودُهُ مَنْعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُ جَمِيعِهِ. وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ ظَاهِرُ حَالِهِ الِاعْتِنَاءُ بِنَقْلِهِ وَاسْتِيفَاءُ رِوَايَتِهِ، فَظَاهِرُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْقُلَ سِوَاهُ كَقَضِيَّةِ مَاعِزٍ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ اسْتَوْفَاهَا وَلَمْ يَذْكُرْ رَجْمَهُ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى فِي الْمَأْخَذِ وَالْمَنْشَأِ سَوَاءٌ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِمَا إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِمَنْ رَوَاهُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَامًّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ حَافِظٌ لِتَمَامِهِ، فَيَذْكُرُ لَهُ، فَإِنْ بَانَتْ غَفْلَتُهُ وَنِسْيَانُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ عَلَى الْكَمَالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَا عَلَيْهِ لِلْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْجَمْعُ، كَالشَّهَادَةِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِتَتِمَّ فَائِدَةُ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ: «أَعِدْ أُضْحِيَّتَك، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي إلَّا جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ،

(6/281)


فَقَالَ: تُجْزِئُكَ، وَلَمْ تُجْزِئْ لِأَحَدٍ بَعْدَك» ، فَلَوْ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُك، لَفُهِمَ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. اهـ.
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ اخْتِصَارِهِ بِشَرْطِ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ فِي صِفَةِ الْحَجِّ، سَاقَهُ جَابِرٌ سِيَاقًا وَاحِدًا عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ دَخَلَهَا. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا السِّيَاقِ، وَجَزَّأَهُ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى الْأَبْوَابِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: هُوَ عِنْدِي جَائِزٌ، إذَا كَانَ مُفِيدًا وَمُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَغَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي فَهْمِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ كَانَ لَيْسَ يُوجِبُ صِدْقَ مَا حُذِفَ مِنْهُ، تَرَدَّدَ الْمَفْهُومُ عَنْهُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى أَوْ لَا، وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيّ. أَمَّا إذَا كَانَ تَرْكُ بَعْضِهِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ بَيَانِ مَا أَوَّلَهُ، وَيُوهِمُ مِنْهُ شَيْئًا يَزُولُ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا، مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: نَقَلَ بَعْضُ النَّقَلَةِ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي، فَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَمَى الرَّوْثَةَ، ثُمَّ قَالَ: ابْغِ لَنَا ثَالِثًا، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ لَيْسَ يُخِلُّ بِذِكْرِ رَمْيِ الرَّوْثَةِ وَبَيَانِ أَنَّهَا رِكْسٌ، لَكِنْ يُوهِمُ النَّقْلُ كَذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِنْجَاءِ بِحَجَرَيْنِ، وَقَالَ

(6/282)


الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَجُوزُ مَعَ هَذَا الْإِيهَامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْمُقْتَصِرِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الزِّيَادَةُ. وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ، فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ. وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، بِأَنَّ الْإِيهَامَ حَاصِلٌ، وَإِنْ قَصَدَ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) » وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا الرَّجْمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَتَلَقَّى سُقُوطَ الْجَلْدِ عَنْ الثَّيِّبِ مِنْ اقْتِصَارِ الرَّاوِي إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَاسْتَحْضَرَ الرَّاوِي الرَّجْمَ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ، وَفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الزَّوَائِدِ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَكَانَ عَالِمًا بِمَصَادِرِ الْكَلَامِ وَمَوَارِدِهِ جَازَ إنْ قُلْنَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا. قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ".

[فَرْعٌ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لَفْظٌ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ]
ُ] أَطْلَقَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْخَبَرِ لَفْظٌ لَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ لَمْ يَجُزْ لِلرَّاوِي إسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَكَرَهُ إلَّا لِفَائِدَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ.

(6/283)


[تَنْبِيهٌ الْجَزْمُ بِمَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ]
ٌ] مَا جَزَمُوا بِهِ مِنْ مَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ نَظِيرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا} [الحجر: 65] وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ. وَكَذَلِكَ، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فِي سُبْحَانَ، وَفِي الْحِجْرِ، {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42] وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْخَبَرِ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آلِ عِمْرَانَ {إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَجَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الرَّمْزَ لَيْسَ بِكَلَامٍ، فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ إطْلَاقِ امْتِنَاعِ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَّصِلِ.

[فَائِدَةٌ هَلْ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ الْآيَةِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا]
؟] وَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِآيَةٍ، هَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظِهَا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهِ؟ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ، فَفِي " الْوَسِيطِ " فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ، وَفِي كِتَابِ الْبَيْعِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ» وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ: «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» ) وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ: (وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) .

(6/284)


[يَزِيدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الْحَدِيث]
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَزِيدَ فِي لَفْظِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَرْطًا [لِبَيَانِ] الْحَالِ كَنَهْيِهِ عَنْ تَلَقِّي الرَّكْبَانِ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، فَيَزِيدُ ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: فَهَذَا يَجُوزُ مِنْ الصَّحَابِيِّ؛ لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ مِنْ التَّابِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، فَيُفَسَّرُ مَعْنَاهَا فِي رِوَايَتِهِ، قَالَا: فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، لَكِنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ قَوْلُهُ، بِخِلَافِ تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ. قَالَا: وَإِنْ خَرَجَتْ الزِّيَادَةُ عَنْ شَرْحِ السَّبَبِ، وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ، وَهِيَ كَذِبٌ صَرِيحٌ. اهـ.

[مَسْأَلَةٌ فِي الرَّجُلِ يَرْوِي خَبَرًا فَيَجْتَهِدُ فِيهِ]
ِ] كَقَوْلِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: فَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إلَى الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيَّ

(6/285)


قَالَ: رَجَعَ الشَّافِعِيُّ بِبَغْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِصْرَ عَنْ الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَقَالَ: إنَّهُ يُؤَقِّتُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَقَّتِ. وَقَوْلُ خُزَيْمَةَ لَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا، ظَنٌّ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ.

[الرَّاوِي يَسْمَع الْحَدِيث مَلْحُونًا أَوْ مُحَرَّفًا]
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَسْمَعَهُ مَلْحُونًا أَوْ مُحَرَّفًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ، مِمَّنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُصْلِحَهُ لِلصَّوَابِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ سَائِغٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ لُغَةِ قُرَيْشٍ لَمْ يُغَيِّرْ وَإِلَّا غَيَّرَهُ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ " عَنْ النَّسَائِيّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَرْوِيهِ أَصْلًا، لَا عَلَى الصَّوَابِ، وَلَا عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الشَّيْخِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلِعِصْمَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّحْنِ،

(6/286)


وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَحَدِ سَلَاطِينِ الْعُلَمَاءِ.

[مَسْأَلَةٌ إذَا عَمِلَ الصَّحَابِيُّ بِخِلَافِ حَدِيثٍ رَوَاهُ]
ُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصَّهُ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِفُرُوعِهَا فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، فَيُقَيِّدَهُ، وَهُوَ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِلَا فَرْقٍ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ نَسْخَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي آخَرِ بَابِ النَّسْخِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَيَحْمِلُهُ الرَّاوِي عَلَى أَحَدِهِمَا، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا رَجَعَ إلَيْهِ فِيهِ، وَلِهَذَا رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ التَّفَرُّقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالْأَبْدَانِ، وَكَتَفْسِيرِهِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ بِبَيْعِهِ إلَى نِتَاجِ النَّتَاجِ، وَكَفِعْلِ عُمَرَ فِي هَاءٍ وَهَاءٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ:

(6/287)


«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» عَلَى الْمَجْلِسِ دُونَ الْمُقَايَضَةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَوَقَّفَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي، " اللُّمَعِ ".
هَذَا إنْ كَانَ صَحَابِيًّا، فَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَكَالْمُشْتَرَكِ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَإِنْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمَا كَتَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ» ، عَادَةُ الشُّهُورِ مِنْ تِسْعِ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، فَأَوْجَبَ صِيَامَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اسْتِكْمَالَ الثَّلَاثِينَ سَوَاءٌ اللَّيْلَةَ الْمُغَيِّمَةَ أَوْ الْمُصْحِيَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، بَلْ جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُصَرِّحَةً بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ، كَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِكْمَالُهُنَّ ثَلَاثِينَ لَا الْعِدَّةُ الْمُعْتَادَةُ. وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ، كَمَا أَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابٍ جُدُدٍ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُحْشَرُ الْمُؤْمِنُ فِي ثَوْبِهِ» يُوَجَّهُ تَأْوِيلُهُ إلَى الثِّيَابِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً، فَأَوَّلُ مَنْ يَلْبَسُ إبْرَاهِيمُ» فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ

(6/288)


مِنْ صَالِحٍ أَوْ طَالِحٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلَ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ مِنْ الْأَمَارَاتِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى حِكَايَتِهِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ أَوْلَى، فَإِذَا انْكَشَفَ خِلَافُهُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: رُبَّمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَسْمَعُ سَبَبَهُ، أَوْ يَسْمَعُ آخِرَ كَلَامِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ، وَعَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكِيَ مَا سَمِعَ حَتَّى يَسْمَعَ خِلَافَهُ. اهـ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: إذَا حَمَلَ الصَّحَابِيُّ مَا رَوَاهُ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ كَالْعَامِّ، فَتَعُودُ الْمَسْأَلَةُ إلَى التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ بِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ، وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمَشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِمَالِ أَنَّ تَعْيِينَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ. اهـ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَعْيِينَ الصَّحَابِيِّ الْمَشَاهِدِ لِلْحَالِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ شَاهَدَهَا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ مَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا نَقَلَ خَبَرًا وَأَوَّلَهُ، وَذَكَرَ مُجْمَلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مَقْبُولٌ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أَظُنُّ إذَا أَوَّلَ الصَّحَابِيُّ أَوْ خَصَّصَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَالتَّأْوِيلُ الْمُعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ لَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ الْمُؤَوَّلِ.

(6/289)


وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَعْيِينِ تَأْوِيلِ الرَّاوِي وَحَكَوْهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْعَ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ، لِقَوْلِ خُزَيْمَةَ: لَوْ مَضَى السَّائِلُ فِي مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا، فَقَالُوا: هَذَا ظَنٌّ، وَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ. فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْلَمُ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ إلَى ذَلِكَ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا طَرِيقُهُ اللُّغَةُ دُونَ الْأَحْكَامِ، فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ. اهـ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ.
خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ، فَيَحْمِلُهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، إمَّا بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ، أَوْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ أَوْ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ، وَقَوْلُهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَابْنُ فُورَكٍ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ أَقْوَامٍ لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَجَجْتُهُمْ [بِالْحَدِيثِ] . وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَكَ إلَّا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَالْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ اُتُّبِعَ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ

(6/290)


الْأَمْرِ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ بِالْمُحْتَمَلِ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ". وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ، وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَةِ الصَّحَابِيِّ أَثَرٌ. سَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ بِتَرْكِ الْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُلُوغُ سَبْعًا، وَرَأْيُهُ بِالثَّلَاثِ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مِثَالًا لِتَخْصِيصِ الرَّاوِي عُمُومَ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَةً لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ، وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ مِنْهُ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ أَيْضًا، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمْعِ، امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ

(6/291)


الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا اقْتَضَى تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ، لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ لَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ خَبَرًا عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارُ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةَ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ.
وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ لَا تَقْدَحُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ تَجْرِي فِيمَنْ يَبْلُغُهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِيَ فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ إلَّا وَلَهَا الْحَدِيثُ أَوْ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعُلِمَ بِضَعْفِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ، فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ، أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا يُحْمَلُ بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ

(6/292)


فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ. قَالَ: وَلَوْ رَوَى خَبَرًا، ثُمَّ فَسَقَ، وَفِي زَمَانِ الْفِسْقِ خَالَفَ مَا رَوَاهُ، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُجُونِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ ضَعْفَ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى وَخَالَفَ مَا رَوَى قَصْدًا، دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ، وَعَرَفُوا مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا لَمْ نَعْرِفْهُ.
فَأَمَّا الْإِمَامُ الْآنَ إذَا خَالَفَ خَبَرًا رَوَاهُ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ، فَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: إذَا وَرَدَ خَبَرٌ، ثُمَّ خَالَفَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مَعَ ذِكْرِهِ لَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا يُقَوِّي ضَعْفَ الْحَدِيثِ أَوْ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا، فَلَا عَمَلَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، فَلَوْ خَالَفَ أَقْضِيَةَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةَ أَيِّ عَصْرٍ - فَرَضْنَا - الْخَبَرَ وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا يَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ إذْ لَا مَحْمَلَ لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ إلَّا الِاسْتِهَانَةُ، وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ ثَالِثٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِهِمْ عَنْ الِاسْتِهَانَةِ بِالْخَبَرِ. فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِوُرُودِ النَّسْخِ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ، بَلْ هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ عَمَلِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِي الصَّوَابِ، فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْأَمْرِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إذَا نُقِلَ مُفْرَدًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا نُقِلَ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا تَعَلُّقًا بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، بَلْ

(6/293)


هُوَ تَعَلُّقٌ بِمَا عَنْهُ صَدَرَ مَذْهَبُهُ، وَلِهَذَا طَرْدَنَا هَذَا الْكَلَامَ فِي أَمْرِ كُلِّ عَصْرٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ: إنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يُجْمِعُونَ فِي مَظْنُونٍ عَنْ مَسْلَكٍ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ.
وَحَمَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إذْ قَالَ: التَّعْوِيلُ عَلَى الْخَبَرِ لَا عَلَى خِلَافِ الرَّاوِي عَلَى مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ نَاسِيًا لِلْخَبَرِ، أَوْ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ قَصَدَ الْخِلَافَ عَنْ تَعَمُّدٍ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْخَبَرَ بَلَغَهُمْ، وَلَكِنْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، فَلَا يَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ تَرَدَّدَ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ هَذَا، وَقَالَ: إنْ لَمْ نَجِدْ فِي الْوَاقِعَةِ مُتَعَلَّقَا سِوَى الْخَبَرِ، وَقَوْلِ الرَّاوِي، وَهُوَ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهُمَا عَلَى التَّنَاقُضِ فَيُتَمَسَّكُ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا مَسْلَكًا فِي الدَّلِيلِ سِوَى الْخَبَرِ، فَالتَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَوْلَى. قَالَ: وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَعَمِلَ بِهِ قَوْمٌ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَوْمٌ، وَالْفَرِيقَانِ ذَاكِرَانِ لِلْخَبَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ حَيْثُ لَا احْتِمَالَ إلَّا النَّسْخَ، فَاَلَّذِي أَرَاهُ تَقْدِيمَ عَمَلِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ.
وَيُحْمَلُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ الْعُرْفُ يَقْضِي بِأَنْ يَتَّبِعَ الْمُخَالِفُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِوَفَاءِ الْحَدِيثِ، وَكُلُّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ إنْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ، فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَيَتَطَرَّقُ إلَى الْخَبَرِ النَّسْخُ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مَعَ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى مُنَاقَضَتِهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مُنَاقَضَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَقَدْ بَنَى

(6/294)


الْإِمَامُ جُمْلَةَ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يُقَاسَ وَفِي الْمُقَدَّرَاتِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُخَالِفُهُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. وَالْقَاضِي يَأْبَى هَذَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَيَقُولُ: رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا زَلَّ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ.

(6/295)


[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ] [نَقْلِ الصَّحَابِيِّ]
ِ وَيَنْقَسِمُ النَّظَرُ فِيهِ إلَى نَقْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَلْفَاظِ الصَّحَابِيِّ مَرَاتِبُ: الْأُولَى: وَهِيَ أَقْوَاهَا: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ شَافَهَنِي؛ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ " سَمِعْت " آكَدَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدَّثَنَا: حَدَّثَ قَوْمَنَا، كَقَوْلِ الْحَسَنِ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا. وَإِنَّمَا كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ لَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ وُقُوعُهُ، وَذَلِكَ كَسَمَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» ، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: قَالَ، وَكَسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ، وَلَمَّا سُئِلَ

(6/296)


أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا بَيَّنَا مِمَّنْ سَمِعَاهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ، بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " التَّصْرِيحَ، وَالْجَزْمَ بِأَنَّهُ عَلَى السَّمَاعِ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمًا الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " حَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ فِي " التَّبْصِرَةِ " عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَنَسَبَهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا، وَنَحْوُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ السَّمَاعَ، وَلَيْسَ الْمُسْتَنَدُ هَذَا اللَّفْظَ، بَلْ اسْتِقْرَاءُ عَادَتِهِمْ فِي النَّقْلِ.

الثَّالِثَةُ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، أَوْ قَضَى بِكَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ مَعَ احْتِمَالِ ظَنِّهِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا. لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ خِلَافُهُ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَخَالَفَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ، فَقَالَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَكَذَا سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الْحَسَنِ الْحَرِيرِيَّ يَقُولُهُ وَيَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ دَاوُد، وَسَمِعْت ابْنَ بَيَانٍ الْقَصَّارَ وَكَانَ دَاوُد يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ

(6/297)


وَتَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: أَمَرَنَا، وَاحْتَجَّ فِي أَثْنَائِهَا بِأَنَّهُ إذَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ: أَمَرَنَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاعِدَتِهِمْ فِي النَّهْيِ، وَمِمَّا يُسَاعِدُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَرِيرِيِّ مَا رَأَيْته فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ الرَّادِّ عَلَى كِتَابِ الْإِنْذَارِ " لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ السِّرَاجِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ أَوْ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْحَدِيثَ إلَّا إذَا قَالَ رَاوِيهِ: سَمِعْت وَأَخْبَرَنَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا أَوْ أُمِرْنَا بِكَذَا لَيْسَ بِمُسْنَدٍ. وَتَكَلَّمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَقَامَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابِيَّ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ أَمْرًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحُكِيَ فِي هَذِهِ خِلَافُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي طَرِيقِ عِلْمِ الرَّاوِي بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَمْرًا، فَقِيلَ بِقَوْلِهِ: افْعَلُوا، وَأَمَرْتُكُمْ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُرِيدًا الِامْتِثَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ كَذَا، وَبِقَوْلِهِ: افْعَلُوا. وَيَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَصْدُ الرَّسُولِ إلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ كَنَقْلِهِ لَفْظَةَ الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاللُّغَةِ فَلَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَقَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ بِحَيْثُ تَعْتَوِرُ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فَلَا يُجْعَلُ نَقْلُهُ

(6/298)


فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَحُولُ فِيهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ عَلَى كَافَّةِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْوَقْفَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنْ حَالِ الرَّاوِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا بَنَى الْقَاضِي عَلَى مُعْتَقَدِهِ فِي الْوَقْفِ. ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ عَنْهُ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ دَاوُد.

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْنِيَ الصِّيغَةَ لِلْمَفْعُولِ فَيَقُولُ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ مَا يَتَطَرَّقُ لِ " قَالَ "، وَ " أَمَرَ "، وَيَزِيدُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَصُرِفَ الْفِعْلُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَخَالَفَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ

(6/299)


وَالْإِسْمَاعِيلِيّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَّا، وَالْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَالِكِيَّةِ بَغْدَادَ، وَمَنَعُوا إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ قَطْعًا، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " جَامِعِ الْأُصُولِ " قَوْلًا رَابِعًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ ذَلِكَ الصِّدِّيقَ فَمَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ خَامِسٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ غَلَبَةً قَوِيَّةً أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الرَّسُولُ، وَفِي مَعْنَاهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ كَثُرَ إلْمَامُهُ بِالنَّبِيِّ وَمُلَازَمَتُهُ كَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ [تَأَخَّرَ] الْتِحَاقُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَفِدُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ فِيهِمْ قَوِيٌّ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ تَفَاوُتُ الرُّتَبِ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَ. وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ مُطْلَقًا، وَإِضَافَتُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ مُرَادَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: أُمِرْنَا، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ غَيْرُهُ لَا حُجَّةَ فِي أَمْرِهِ.

(6/300)


قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَفِي الزَّمَنِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فَصَّلَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابِيِّ، وَأَمَّا إذَا قَالَهُ مَنْ بَعْدَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ الْأَئِمَّةِ، وَتَرَدَّدَ الْغَزَالِيُّ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ، أَوْ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ.

الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقُولَ رَخَّصَ لَنَا. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَقُولَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَكُونُ حُجَّةً. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عُبَادَةَ وَقَرَأَ بِهَا وَجَهَرَ، وَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ، وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ فَلَا نَجْعَلُهُ أَصْلًا حَتَّى يُعْلَمَ، وَلَمَّا عَدَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ الْحِكَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا إلَى كَلَامٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّنَا عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ،

(6/301)


وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَقَالَ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ مَرْفُوعٌ فِي الظَّاهِرِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَمْ يَرَهُ مُسْنَدًا. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَكَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يُرِيدُ سُنَّةَ النَّبِيِّ. قَالَ: وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: أُمِرْنَا وَنُهِينَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ قَالَ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: وَرَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُنَّةُ الْبَلَدِ، وَسُنَّةُ الْأَمِيرِ، وَأَمَرَنَا الْأَمِيرُ، وَأَمَرَنَا الْأَئِمَّةُ. فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا، حَتَّى يُعْلَمَ جُمْلَتُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى.
وَهَكَذَا قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي " شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " فِي بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ: إنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُفْتَى فِيهَا عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُوَ نَوْعٌ غَرِيبٌ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. قُلْت: لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَقَالَ فِي بَابِ عَدَدِ الْكَفَنِ بَعْدَ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَا يَقُولَانِ السُّنَّةُ إلَّا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ. وَحِينَئِذٍ

(6/302)


فَيَصِيرُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَيْضًا، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ فِي شَرْحِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُودُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ. وَشَرَطَ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي عُلُومِهِمَا كَوْنَ الصَّحَابِيِّ مَعْرُوفًا بِالصُّحْبَةِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ أَنَّ مَنْ قَصُرَتْ صُحْبَتُهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَالصَّيْرَفِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ سُنَّةٌ لِإِسْنَادِهِ إلَى الشَّرْعِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوُقُوفِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. أَمَّا لَوْ قَالَ التَّابِعِيُّ: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَحُمِلَ

(6/303)


قَوْلُ سَعِيدٍ: سُنَّةً، عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ أَخَذَ فِي الْقَدِيمِ فِي الْمَرْأَةِ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ بِقَوْلِ سَعِيدٍ: مِنْ السُّنَّةِ. فَقَدْ تَضَافَرَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي الْجِنَايَاتِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَهُ، وَيُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ. انْتَهَى. فَتَلَخَّصَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَأَطْلَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، حُجَّةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: ثُمَّ إنْ كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُرْسَلَةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": قَوْلُ التَّابِعِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ، إنْ كَانَ قَائِلُهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا.
وَعَنْهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ مِنْ تَعْلِيقِهِ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ صَحَابِيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ سَعِيدٍ خَاصَّةً الْخِلَافُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّقَصِّي ": إذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ، فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهَا غَيْرُهُ مَا لَمْ تُضَفْ إلَى صَاحِبِهَا، كَقَوْلِهِمْ: سُنَّةُ الْعُمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقِيلَ بِظُهُورِهِ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَكُونُ حُجَّةً، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ

(6/304)


وَالْهِنْدِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ ظَاهِرٌ فِي الْوَاسِطَةِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شَيْئًا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَقُولَ: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا. فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ لِعَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَلْفَاظًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُتَّجَهُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ لِتَصْرِيحِهِ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُعْتَضَدِ بِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ دُونَ مَا قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي كُنَّا إلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. قَالَ: فَقَبِلَهُ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ: وَالْوَجْهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ

(6/305)


مَا يَكُونُ شَرْعًا مُسْتَقِرًّا، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» ، الْحَدِيثَ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ، فَلَا يُقْبَلُ، كَقَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى رَوَى لَنَا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ إنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَصْحَبًا يَخْفَى مِثْلُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ بِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَنِدُ إلَى عَادَةٍ يَفْعَلُونَهَا فَمُحْتَمَلٌ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ، كَأَنْ يُورِدَهُ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنْ أَضَافَ فِعْلَهُمْ إلَى زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيقَاعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَكَرُّرُ وُقُوعِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِتَقْرِيرِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُصَرِّحُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ دُونَ الثَّانِيَةِ، لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَفَوْقَهَا الْإِضَافَةُ إلَى

(6/306)


جَمِيعِ النَّاسِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ قَوْلَيْنِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ، أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ، وَهُوَ دُونَ الْكُلِّ؛ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَبِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، قِيلَ: وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إذَا قَالَ التَّابِعِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ، يُحْمَلُ عَلَى إقْرَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ شَرْعًا لَنَا. وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ذِكْرُهُ حُمِلَ عَلَى إقْرَارِهِ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يَكْثُرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَخْرَجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ بِأَنْ قَالَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَى عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ، فَصَارَ الْمَقُولُ شَرْعًا. وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ. فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ إجْمَاعِهِمْ فَيَكُونُ حُجَّةً.

(6/307)


الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدِ الْعَصْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بَاقِيًا فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ مُنْقَرِضًا، فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ عَنْ مَاضٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الصَّحَابَةِ. تَنْبِيهٌ [فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ] فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَمَا لَا يُحْتَمَلُ أَرْجَحُ مِمَّا يُحْتَمَلُ، وَمَا يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا وَاحِدًا أَرْجَحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي.

(6/308)


[فَصْلٌ أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ]
ِّ] وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ فَلِلرَّاوِي حَالَاتٌ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ. [السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ] أَوَّلُهَا: أَنْ يَسْمَعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ كَمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَتَك عَلَى الْمُحَدِّثِ أَقْوَى مِنْ قِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ عَلَيْك. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ مِنْ السَّهْوِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ حِفْظًا وَلَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ يُخْبِرُ عَنْ كِتَابِهِ لَا عَنْ حِفْظِهِ، حَتَّى إذَا كَانَ يَرْوِي عَنْ كِتَابٍ فَالْجَانِبَانِ سَوَاءٌ

(6/309)


فِي نَفْسِ التَّحْدِيثِ بِمَا فِي الْكِتَابِ، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَعَلَّلَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ عِنَايَةَ الطَّلَبِ أَشَدُّ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ كَانَتْ الْمُحَافَظَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَإِذَا قَرَأَ الْأُسْتَاذُ لَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ إلَّا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ أَوْ مِنْ كِتَابٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ اسْتِرْعَاءٍ أَوْ اتِّفَاقٍ أَوْ مُذَاكَرَةٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَعْمَى أَوْ أَصَمَّ، وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ إنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ أَصَمَّ، وَيَصِحُّ إنْ كَانَ أَعْمَى. قَالَا: فَإِنْ حَدَّثَ عَنْ حِفْظِهِ صَحَّ السَّمَاعُ إذَا وُثِقَ بِهِ، وَإِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ، فَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا صَحَّ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ كِتَابُهُ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهُ وَاثِقًا بِهِ، وَذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مِنْ حِفْظِهِ كَالشَّاهِدِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقَدْ صَارَتْ الرِّوَايَةُ فِي عَصْرِنَا مِنْ الْكِتَابِ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحِفْظِ. انْتَهَى.
وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَسْمَعَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، وَأَسْمَعَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَحَدَّثَنَا، هَذَا إنْ قَصَدَ الشَّيْخُ إسْمَاعَهُ، إمَّا خَاصَّةً، أَوْ مَعَ جَمْعٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ إلَّا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ فُلَانًا، وَإِنَّمَا جَازَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِمُطَابَقَتِهَا لِمَا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ. وَلِلْمُحَدِّثِينَ فِيهِ أَدَبٌ، يَقُولُونَ لِمَا سَمِعَهُ مَعَ غَيْرِهِ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَمَا سَمِعَهُ وَحْدَهُ أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا أَدَبٌ لَا يَنْتَهِي

(6/310)


إلَى الْوُجُوبِ. اهـ. وَحَكَى الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي " الذَّرِيعَةِ " وَصَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ بَعْضِهِمْ مَنْعَ لَفْظِ الْجَمْعِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، قَالَا: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ.

[الْعَرْضُ عَلَى الشَّيْخِ]
[الْعَرْضُ عَلَى الشَّيْخِ] الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ عَرْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَأُهُ، وَيَقُولُ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ أَوْ قَبْلَهَا. هَلْ سَمِعْت: فَيَقُولُ الشَّيْخُ نَعَمْ، أَوْ يَقُولُ بَعْدَ الْفَرَاغِ: الْأَمْرُ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مِثْلُ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ "، فَقَالَ: وَبَابُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْهُ سَوَاءٌ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]

(6/311)


وَقَوْلُهُ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] إلَى قَوْلِهِ: {نَعَمْ} «وَقَوْلُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي سَائِلُك، آاللَّهُ أَرْسَلَك إلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . فَقَوْلُهُ: نَعَمْ، بِمَنْزِلَةِ إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَحُجَّ. انْتَهَى. وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا دُونَهُ.

[شَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ]
[شَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ] قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَشَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ عَالِمًا بِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَلَيْهِ، وَلَوْ فُرِضَ مِنْهُ تَحْرِيفٌ أَوْ تَصْحِيفٌ لَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَيُلْتَحَقُ بِهِ مَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ نُسْخَةٌ مُهَذَّبَةٌ، فَلَوْ كَانَتْ بِيَدِ غَيْرِ الشَّيْخِ، وَالْأَحَادِيثُ تُقْرَأُ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ، لَا يَأْلُو جَهْدًا فِي التَّأَمُّلِ فَتَرَدَّدَ فِيهِ جَوَابُ الْقَاضِي، وَبَعْدَ مُدَّةٍ ظَهَرَ لِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَيْسَ عَلَى دِرَايَةٍ مِنْهُ، فَلَا يَنْتَهِضُ مِنْهَا تَحَمُّلًا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ لَا يُحِيطُ بِالْأَخْبَارِ، وَلَا يَنْظُرُ فِي نُسْخَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ، وَلَوْ فُرِضَ التَّدْلِيسُ عَلَيْهِ لَمَا شَعَرَ، لَمْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ شَيْخٍ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَأَجْرَاسًا لَا يَأْمَنُ تَدْلِيسًا وَإِلْبَاسًا، وَبَيْنَ شَيْخٍ لَا يَسْمَعُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ، وَيَصِحُّ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ إجْمَاعٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَا وَفِي الْخَبَرِ «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ

(6/312)


حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .
وَلَوْ شَرَطْنَا عِلْمَ الرَّاوِي بِمَعْنَى الْحَدِيثِ لَشَرَطْنَا مَعْرِفَةَ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَيُسَدُّ بِذَلِكَ بَابُ التَّحْدِيثِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَدَارُ الْأَخْبَارِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْ الصَّبِيِّ وَالْأُمِّيِّ أَخْبَارٌ عَلَى شَيْخٍ، فَتَحَمَّلَهَا هَذَا السَّامِعُ، وَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، وَتُحُمِّلَتْ عَنْهُ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ، وَاشْتِرَاطُ النَّظَرِ فِي النُّسْخَةِ، وَدِرَايَةُ الصَّبِيِّ يُضَيِّقُ الْبِطَانَ فِي الرِّوَايَةِ وَمِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي صِفَةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي صِفَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِجَوَازِ الْإِجَازَةِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمُجِيزُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجُمْلَةِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ، وَقَدْ وَافَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْعِلْمُ بِمَا يُقْرَأُ وَعَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ".
قَالَ الْمَازِرِيُّ: بِشَرْطِ كَوْنِ الشَّيْخِ عَالِمًا بِصِحَّةِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ، غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ مِنْ حِفْظِهِ وَأَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ. وَقَدْ اجْتَازَ بَعْضُهُمْ لِلْحُفَّاظِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ اسْتِظْهَارًا لِلثِّقَةِ وَاحْتِيَاطًا، فَإِنْ كَانَ لَا يُعَوِّلُ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى كِتَابِهِ نُظِرَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ سَمَاعُ جَمِيعِ مَا فِي كِتَابِهِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ عُلِمَ سَمَاعُهُ وَلَكِنْ نَسِيَ مِمَّنْ سَمِعَهُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ خِلَافًا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ لِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْوِي رِوَايَةً مَعْمُولًا بِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ الْكِتَابَ مَعَ عَدَالَتِهِ وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَكَذِبٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْصَى فِي رِسَالَتِهِ بِقَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحَدِّثُ الْمُحَدِّثُ مِنْ كِتَابِهِ، حَتَّى يَكُونَ حَافِظًا لِمَا فِيهِ.

(6/313)


وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ إلَى مَنْ جَهِلَ شَيْخَهُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْكِتَابَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ شَيْخَهُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْكِتَابِ لَمْ يَشْتَرِطْ حِفْظَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْخَهُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَلِمَ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ لِلْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِمَا فِي كِتَابِهِ، وَهَذَا الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى الشَّافِعِيِّ تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنْ رَوَى مِنْ كِتَابِهِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَالثَّانِي يُقْبَلُ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ ": اُخْتُلِفَ فِي الْعَمَلِ بِمَا وُجِدَ فِي الْخَطِّ الْمَضْبُوطِ الْمُحَقَّقِ لِإِمَامٍ إذَا عَمِلَ بِهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَنْعِ النَّقْلِ وَالدِّرَايَةِ بِهِ، فَمُعْظَمُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِهِ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْعَمَلِ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ. وَحَكَى أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْخَبَرِ مِنْ حِفْظِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ. قَالَ: وَحُجَّتُهُ أَنَّ حِفْظَهُ لِمَا فِي كِتَابِهِ، كَحِفْظِهِ لِمَا سَمِعَهُ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا نُورٌ وَلَا بَهْجَةٌ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَلَا ذَكَرَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَعَلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، لَا الرِّوَايَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَوْ يَكُونُ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْ سَمَاعَهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ. اهـ. وَاخْتَارَ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ الْتَحَقَ بِالْمُرْسَلِ،

(6/314)


وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ سَمِعَ الْجَمِيعَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِعَيْنِ كُلِّ لَفْظٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ السَّمَاعَ وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى خَطِّهِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الطَّبَقَاتِ فَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ. فَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةُ أُصُولِ مَالِكٍ. وَأَشَارَ إلَى تَخْرِيجِهَا عَلَى مَنْعِ الشَّاهِدِ مِنْ شَهَادَةِ أَمْرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا عَوَّلَ عَلَى خَطِّهِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهَا. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَوَّزَهُ، كَقَوْلِهِ فِي " الرِّسَالَةِ ": إنَّهُ لَا يُحَدِّثُ الْمُحَدِّثُ بِمَا فِي كِتَابِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَطُّ لَيْسَ بِيَدِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِخَطِّ غَيْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يُعَوِّلُ ثُمَّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هَذَا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عَنْ شَيْخِهِ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ أَنَّهُ سَمِعَ، وَعَلِمَ ثِقَةٌ الْكِتَابَ، فَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْمُحَدِّثُونَ يَقْبَلُونَهَا. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ قُلْنَا: لَا يُعَوِّلُ عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ، فَفِي خَطِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: يُعَوِّلُ ثَمَّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هَذَا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عَنْ شَيْخِهِ، بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَلْبِيسٌ، بَلْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَيَقُولُ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ عَنْ فُلَانٍ لَا شِفَاهًا، وَلَكِنْ تَعْوِيلًا عَلَى خَطِّ فُلَانٍ أَنِّي سَمِعْتُهُ مَعَهُ عَنْ فُلَانٍ، وَخَطُّ فُلَانٍ أَتَحَقَّقُهُ، وَأَتَحَقَّقُ عَدَالَتَهُ، فَيُقْبَلُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَفْتَقِرُ هُنَا إلَى إذْنِ الْكَاتِبِ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ عَنْهُ، كَمَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الشَّاهِدِ فِي أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ شَهَادَتَهُ، إذَا تَحَقَّقْنَا هُنَا أَنَّ هَذَا مَا وَضَعَ خَطَّهُ عَنْ لَبْسٍ.

(6/315)


وَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ نُسْخَةُ الْكِتَابِ بِيَدِهِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ بِيَدِ قَارِئٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ تَرَدَّدَ فِي الْعَمَلِ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَصِحَّةِ إسْنَادِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الشَّيْخُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ مَا حَمَلُوهُ التَّلَامِذَةُ، وَخَالَفَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ: إنَّ الشَّيْخَ يَصِيرُ مُعَوِّلًا فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَحْمِلُهُ لِتَلَامِذَتِهِ عَلَى نَقْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ رَوَى كَذَا. اهـ. وَقَطَعَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ، وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ رِوَايَتُهُ، حَتَّى يَعْلَمَ قَطْعًا مَنْ بَلَّغَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي، وَحَكَى عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُ رِوَايَتَهُ، وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَنْبَغِي لِمَنْ لَمْ يَحْفَظْ الْحَدِيثَ رِوَايَتُهُ مِنْ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُهُ فَالْأَوْلَى ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ وَعِنْدَهُ كِتَابٌ فِيهِ سَمَاعُهُ بِخَطِّهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِلْخَبَرِ، جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ". وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ رَوَى عَلَى خَطِّهِ. قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْكِتَابِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِكِتَابِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ. اهـ.
وَمَا صَحَّحَهُ مِنْ الْمَنْعِ عِنْدَ عَدَمِ الذِّكْرِ صَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يَشْتَبِهُ بِالْخَطِّ.

(6/316)


وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ، بَلْ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ شَيْخِهِ، أَوْ خَطِّ مَوْثُوقٍ بِهِ، فَهَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهِ؟ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمَنْعَ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُحَدِّثِينَ جَوَازُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَظْهَرْ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً، وَاللَّازِمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الظَّنِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ حَمْلُهُ مِنْ السُّنَّةِ، أَوْ أَكْثَرِهَا، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الظَّنِّ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ دَرْءًا لِأَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَحَرَّى بِزِيَادَةِ شَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكِتَابُ عَنْ يَدِهِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ احْتِيَاطٌ حَسَنٌ، وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ إذَا كَتَبُوا أَحَادِيثَ الْإِجَازَةِ إلَى غَائِبٍ عَنْهُمْ يَخْتِمُونَهُ بِالْخَاتَمِ، إمَّا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ. اهـ.

[أَحْوَالُ الشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ]
[أَحْوَالُ الشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ] وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. أَعْلَاهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رِوَايَةِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ نُطْقًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ: هَلْ سَمِعْت؟ فَيُشِيرُ الشَّيْخُ بِأُصْبُعِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ، فَهِيَ كَالْعِبَارَةِ فِيمَا سَبَقَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إنْ قَالَ الْقَارِئُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ: ائْذَنْ لِي أَنْ أَرْوِيَ عَنْك مَا قَرَأْته عَلَيْك. فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، أَوْ أَشَارَ بِرَأْسِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَقْبُولٌ، وَقِيلَ: لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ؛ لِأَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ.

(6/317)


الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْكُتَ الشَّيْخُ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْقَارِئِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ إجَابَتُهُ لَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا، وَكَذَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَشَرَطَ قَوْمٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ إقْرَارَ الشَّيْخِ بِهِ نُطْقًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَوْعُ احْتِيَاطٍ، وَسُكُوتُهُ مَعَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ مِنْ إكْرَاهٍ وَغَفْلَةٍ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ تَصْرِيحِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِذَا نَصَبَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ لِلْقِرَاءَةِ، وَانْتَصَبَ لَهَا مُخْتَارًا، وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ فَهُوَ بِمَثَابَةِ إقْرَارِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِي صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَسَمِعْته؛ لِأَنَّهُ مَا حَدَّثَهُ، وَلَا أَخْبَرَهُ وَلَا سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَذِبًا، وَهَذَا مِنْهُ عَجِيبٌ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ يُنَاقِضُهُ مَا عَلَّلَهُ بِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ.
وَمِمَّنْ شَرَطَ النُّطْقَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": قَطَعَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ لِتَرَدُّدِ السُّكُوتِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُنْسَبُ إلَى السَّاكِتِ قَوْلٌ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَظَاهِرِ الْحَالِ. قَالَ: وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَنُقِلَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ. اهـ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إذَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَيُصْغِي، حَلَّتْ الرِّوَايَةُ إذَا قَالَ الشَّيْخُ: هَذَا الْكِتَابُ سَمَاعِي، وَلَا يُشْتَرَطُ

(6/318)


لَفْظُ الْإِجَازَةِ، وَلَا الْمُنَاوَلَةِ، وَلَكِنْ اصْطَلَحَ الْمُحَدِّثُونَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَقُولُ: هَذَا سَمَاعِي، وَيَعْنِي بِهِ أَكْثَرَهُ، أَوْ رُبَّمَا كَانَ أَحْكَمَ حُرُوفَهُ، فَإِذَا قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي، كَانَ دَالًّا عَلَى الثَّبْتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ تَحَمُّلُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مُحْتَمَلٌ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ إذَا قَالَ: هُوَ سَمَاعِي، صَارَ مُخْبِرًا عَنْ آحَادِ مَا فِي الْكِتَابِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْت عَلَى فُلَانٍ، وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: قَرَأَ عَلَيَّ فُلَانٌ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا، قِرَاءَةً عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَرَأْت عَلَيْهِ، وَهُوَ سَاكِتٌ مُقَرِّرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهُ تَصْرِيحًا، وَأَنْ يَكُونَ مُكْتَفِيًا بِالسُّكُوتِ، فَالِاحْتِيَاطُ التَّمْيِيزُ وَأَمَّا إطْلَاقُ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالنَّسَائِيُّ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْخَ تَوَلَّى الْقِرَاءَةَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَلِذَلِكَ لَا يَقُولُ: سَمِعْت وَالثَّانِي: التَّجْوِيزُ، وَأَنَّهُ كَالسَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا فِيمَا سَمِعُوهُ، وَهِيَ

(6/319)


عِبَارَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَهُشَيْمٍ، وَنَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ: الْأَوْلَى فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ حَدَّثَنَا فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَأَخْبَرَنَا فِيمَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَمِعَ هُوَ قَالَ: حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي، أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا؛ لِتَكُونَ هَذِهِ الْفُرُوقُ مُذَكِّرَةً بِأَحْوَالِ السَّمَاعِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فَلَا يَقُولُ: سَمِعْت فُلَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: كَلَامُ الْإِمَامِ يَعْنِي فَخْرَ الدِّينِ - يَقْتَضِي وُجُودَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ سَمِعْت، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ مِنْ إطْلَاقِ حَدَّثَنَا، وَتَجْوِيزُ أَخْبَرَنَا، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، إذَا قَرَأْت عَلَى الْعَالِمِ، فَقُلْ: أَخْبَرَنَا، وَإِذَا قَرَأَ عَلَيْك، فَقُلْ: حَدَّثَنَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ فِيمَا إذَا قَرَأَ الشَّيْخُ نُطْقًا؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ، وَالتَّحْدِيثَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا سَمِعَ مِنْ فِيهِ.
قَالَ: ابْنُ دَقِيقِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْآخِرِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لُغَوِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَمَنَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ سَمِعْته؛ لِأَنَّهُ مَا حَدَّثَهُ، وَلَا أَخْبَرَهُ، وَلَا

(6/320)


سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا، وَهَذَا مِنْهُ عَجِيبٌ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، يُنَاقِضُهُ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ مِنْ أَنَّ الْإِخْبَارَ لُغَةً لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا السُّكُوتُ قَدْ أَفَادَهُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ السُّكُوتِ يُعْطِي ذَلِكَ، فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِشَارَةِ بِالرِّضَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: بَيْنَ قَوْلِهِ: حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي فَرْقٌ؛ لِأَنَّ أَخْبَرَنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْكِتَابَةِ إلَيْهِ، وَحَدَّثَنِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ السَّمَاعِ.

[كِتَابَةُ الشَّيْخِ إلَى غَيْرِهِ]
[كِتَابَةُ الشَّيْخِ إلَى غَيْرِهِ] الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إلَى غَيْرِهِ: سَمِعْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا، فَلِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ خَطَّهُ، أَوْ ظَنَّهُ، بِأَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ شَاهَدَهُ يَكْتُبُ. أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيَرْوِيَهُ عَنْهُ، إذَا اقْتَرَنَتْ الْكِتَابَةُ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ، بِأَنْ قَالَ: أَجَزْت لَك مَا كَتَبْته إلَيْك، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ الْكِتَابَةُ فَأَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبَالَغَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: إنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ. قَالَ: لِأَنَّ الْكِتَابَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَلِّغُ بِالْكِتَابِ الْغَائِبَ، وَبِالْخِطَابِ الْحَاضِرَ. قَالَ: وَلَوْ بَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَخْبَرَهُ بِالْحَدِيثِ، حَلَّتْ لَهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ

(6/321)


كَلَامَ الْمُرْسِلِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ، بَلْ أَوْثَقُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا فِيهِ، وَالرَّسُولُ نَاطِقٌ، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ تَارَةً وَيُرْسِلُ أُخْرَى، وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ مَالِكٌ يَكْتُبُ إلَى الرَّجُلِ بِالْبَلَدِ الْآخَرِ: قَدْ كَتَبْت كِتَابِي هَذَا، وَخَتَمْته بِخَاتَمِي، فَارْوِهِ عَنِّي.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّةُ ذَلِكَ عَمِلَ بِهِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَرْطِ كِتَابِ الْقَاضِي، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ هُمَا الْوَاسِطَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ ": الْآثَارُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ عَنْ التَّابِعِينَ، وَالِاتِّبَاعُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ، وَكُتُبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَّالِهِ بِالْأَحْكَامِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِمْ. اهـ. قَالَ: إلَّا أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشَّيْخِ فَوَعَاهُ، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ فَحَفِظَهُ، يَكُونُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا كُتِبَ بِهِ إلَيْهِ لِمَا يُخَافُ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالْإِحَالَةِ اهـ. وَكَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ إلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي كِتَابَةً، لِأَنَّ الْكَاتِبَ قَدْ ذَكَرَ الْإِخْبَارَ فِي كِتَابِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنَا. وَجَوَّزَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ قَوْلَهُ: أَخْبَرَنِي مُجَرَّدًا عَنْ قَوْلِهِ كِتَابَةً لِصِدْقِ ذَلِكَ لُغَةً، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ". قَالَ: وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِكِتَابَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَدَبًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا كَانَ مُطَابِقًا جَازَ إطْلَاقُهُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَهِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابَةً وَإِجَازَةً.
وَجَوَّزَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إطْلَاقَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُخْتَارُ

(6/322)


خِلَافُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُجَوِّزُونَ لِلْكِتَابَةِ تَوَسَّعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَجَوَّزَ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالسَّمَاعِ، وَشَرَطَ آخَرُونَ هُنَا التَّعْيِينَ اسْتِعْمَالًا لِلصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِهَا وَوُثُوقُهُ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا. وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ الرِّوَايَةِ بِهَا، مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، قَالَا: وَأَمَّا كُتُبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَتْ تَرِدُ عَلَى يَدِ مُرْسَلِهِ، فَيُعَوَّلُ عَلَى خَبَرِهِمْ، وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ إنْكَارُ قَبُولِهَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَافِظُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ ": كُلُّ كِتَابٍ لَمْ يَذْكُرْهُ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا، فَقَالَ: لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ. نَعَمْ، لَهُ أَنْ يَقُولَ رَأَيْته مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ بِخَطٍّ ظَنَنْت أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ. فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ قَطْعًا بِأَنْ سَمِعَ مِنْهُ يَقُولُ: هَذَا خَطِّي أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، أَوْ قَرَائِنَ تُفِيدُ ذَلِكَ، كَالْجُلُوسِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ، ثُمَّ يَتَشَكَّكُ فِيهِ، وَلَا يَرَى رِوَايَتَهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّهُ يَرَى نَقْلَهُ عَنْهُ، وَمَعَهُ كَيْفَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ؟ . وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْعَمَلَ بِهِ،

(6/323)


وَأَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُ: سَمِعْت وَلَا حَدَّثَنِي، وَقَدْ جَمَعَ الْهِنْدِيُّ بَيْنَ هَذَا وَكَلَامِ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ كَوْنَهُ كَتَبَ إلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى التَّسْلِيطِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيُّ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ، مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُ. وَبِالْمَنْعِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ أَيْضًا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْأَكْمَهِ، فَأَمَّا الْأَكْمَهُ مِثْلُ قَتَادَةَ، فَالْمَنْعُ فِيهِ أَقْوَى.

[الْمُنَاوَلَةُ]
[الْمُنَاوَلَةُ] الرَّابِعَةُ: مُنَاوَلَةُ الصَّحِيفَةِ وَالْإِقْرَارُ بِمَا فِيهَا دُونَ قِرَاءَتِهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ: لَا تَقْرَؤُهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ

(6/324)


إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَلَهَا صُوَرٌ: إحْدَاهَا: أَنْ يَقْرُنَهَا بِالْإِجَازَةِ، بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا بِهِ، وَيَقُولَ: هَذَا سَمَاعِي فَارْوِهِ عَنِّي. وَمِنْ صُوَرِهَا أَنْ يَجِيءَ الطَّالِبُ إلَى الشَّيْخِ بِجُزْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَأَمَّلَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْمُتَيَقِّظُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ، وَيَقُولُ: وَقَفْت عَلَى مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثِي عَنْ فُلَانٍ أَوْ ثَبَتَ عَلَيَّ مَا نَاوَلْتَنِيهِ وَهُوَ مَسْمُوعِي عَنْ فُلَانٍ فَارْوِهِ عَنِّي. وَهَذَا يُسَمَّى عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ، كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ تُسَمَّى عَرْضَ الْقِرَاءَةِ، وَلَهُ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ ".
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ سَأَلَ مَالِكًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِهِ، فَكَتَبَ لَهُ مَالِكٌ بِيَدِهِ أَحَادِيثَ وَأَعْطَاهَا لَهُ، فَقِيلَ لِابْنِ وَهْبٍ: أَقَرَأَهَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَلَى مَالِكٍ؟ فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ. يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ مَالِكٌ بِيَدِهِ وَنَاوَلَهُ إيَّاهَا يُغْنِي عَنْ قِرَاءَتِهِ إيَّاهَا عَلَى مَالِكٍ. قُلْت: لَكِنَّ الصَّيْرَفِيَّ حَكَى الْخِلَافَ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ كِتَابًا، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَحَدَّثَنِي بِجَمِيعِهِ فُلَانٌ، فَاحْمِلْ عَنِّي جَمِيعَ مَا فِيهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا قَالَ، وَلَا يَقُولُ: حَدَّثَنَا، وَلَا أَخْبَرَنَا فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الرَّجُلَ كَرَجُلٍ اعْتَرَفَ بِمَا فِي صَكٍّ، وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِ، لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ، فَأَجَازَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا.

(6/325)


وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، حَتَّى يَقْرَأَ عَلَيْهِ أَوْ يَقْرَأَهُ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي: لَا يَقْبَلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَرَأَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَشْهَدَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَخْتُومًا حَتَّى يُقْرَأَ عَلَيْهِمَا، وَالْحَدِيثُ أَخَفُّ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، إذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ حَدِيثُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَشْيَاعِهِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الصِّكَاكِ. انْتَهَى. وَكَلَامُ الْبَيْهَقِيّ يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ السَّلَفِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ نَصَّ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ قَدْ يُصْنَعُ عَلَى الْخَاتَمِ، وَحَكَى فِي تَبْدِيلِ الْكِتَابِ حِكَايَةً، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ احْتِجَاج مَنْ احْتَجَّ بِقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ التَّبْدِيلَ فِيهَا كَانَ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ، وَهُوَ بَعْدَهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ النَّاسِ مُتَوَهَّمٌ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا فَلْتَمْتَنِعْ. نَعَمْ، اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَلْ هِيَ حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ؟ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُنْحَطَّةٌ عَنْهُ، وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَصَاحِبَيْهِ: الْمُزَنِيّ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مُوَازِيَةٌ لِلسَّمَاعِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ. وَأَثَرُ الْخِلَافِ يَظْهَرُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي. الثَّانِي: أَنَّهَا هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدًا عَلَى الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ؟ فَالْمُحَدِّثُونَ عَلَى إفَادَتِهَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُصُولِيُّونَ، وَرَأَوْا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا، صَرَّحَ

(6/326)


بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ. قَالُوا: الْمُنَاوَلَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَلَا فِيهَا مَزِيدُ تَأْكِيدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ. فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ، وَهُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، كَمَا فِيمَا إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ، هُوَ سَاكِتٌ، بَلْ أَوْلَى.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ الْإِجَازَةِ بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، أَوْ نَاوَلَهُ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي. فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهَا. قُلْت: وَجَوَّزَ ابْنُ الصَّبَّاغِ الرِّوَايَةَ بِهَا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَكَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ، ثُمَّ تَشَكَّكَ فِيهِ، وَمَعَهُ لَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ، فَلَا يُرْوَى عَنْهُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ الْكِتَابَ، فَلَوْ قَالَ: حَدِّثْ عَنِّي، أَوْ ارْوِ عَنِّي مَا فِي الْكِتَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّنِي قَدْ سَمِعْته، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ السَّمَاعُ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِيهِ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّيْخِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ إذَا عَلِمَ أَنَّ النُّسْخَةَ

(6/327)


الْمُشَارَ إلَيْهَا هِيَ النُّسْخَةُ الَّتِي سَمِعَهَا بِعَيْنِهَا، أَوْ عَلِمَ مُوَافَقَتَهَا لَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الْمُتْقَنَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ الشَّيْخُ نُسْخَةً مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْهُ إلَّا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ النُّسَخَ تَتَفَاوَتُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مَا يَقْطَعُ بِسَمَاعِهِ، وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ أَنَّ مَا أَدَّاهُ هُوَ مَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِيهِ خِلَافٌ. فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُنَاوَلَةُ حَقِيقَةٌ فِيمَا يُعْطَى بِالْيَدِ، وَهِيَ صِيغَةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّوَايَةِ، وَجَعَلُوا الْمُنَاوَلَةَ الْإِشَارَةَ وَالْإِخْبَارَ. فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الْمُسَوِّغُ لِلرِّوَايَةِ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْمُنَاوَلَةُ وَحْدَهَا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا. نَعَمْ لَوْ كَانَ مُنَاوَلَةً مِنْ غَيْرِ الْإِعْطَاءِ، فَفِي جَوَازِهِ نَظَرٌ. الثَّانِيَةُ: نَازَعَ الْعَبْدَرِيّ فِي إفْرَادِ الْمُنَاوَلَةِ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لَهَا حَتَّى يَقُولَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجَازَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ إنْكَارِ مَزِيدِ التَّأْكِيدِ فِيهَا.

[حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْإِجَازَةِ]
[حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْإِجَازَةِ] الرَّابِعَةُ: الْإِجَازَةُ: بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، أَوْ هَذَا الْكِتَابَ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا وَالرِّوَايَةِ، أَمَّا الْعَمَلُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ، وَقِيلَ: كَالْمُرْسَلِ، حَكَاهُ

(6/328)


الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى حُصُولِ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ، وَهِيَ هَاهُنَا حَاصِلَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَلَقِّي مِنْهُ سَمَاعُهُ، وَسَوَّغَ لَهُ إسْنَادَ مَسْمُوعَاتِهِ إلَى أَخْبَارِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ الْأَخْبَارَ بِهَا جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الِاتِّفَاقَ، وَلَكِنْ فِيهِ مَذَاهِبُ.

[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ]
[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ] أَحَدُهَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ شُعْبَةُ، وَقَالَ لَوْ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ، وَقَالَ: لَوْ صَحَّتْ لَذَهَبَ الْعِلْمُ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَّا، وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ: إنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقْدِيرُ أَجَزْت لَك أَبَحْتُ لَك مَا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَسْمَعْ. وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا أَرَى هَذَا يَجُوزُ، وَلَا يُعْجِبُنِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، يَعْنِي؛ لِأَنَّ

(6/329)


الرَّبِيعُ قَالَ: هَمَّ الشَّافِعِيُّ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ فَاتَنِي مِنْ الْبُيُوعِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ، فَقُلْت لَهُ: أَجِزْهَا لِي. قَالَ: فَاقْرَأْهَا عَلَيَّ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ، وَرَدَّدَ عَلَيَّ ذَلِكَ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ، فَجَلَسَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ. وَسَمِعْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ عِنْدَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ بِزِيَادَةٍ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا فِي الْحِكَايَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ. قَالَ الْحَاكِمُ: فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَقَدْ كَرِهَ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ عَابَ شَيْخُنَا رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لَهُ بِأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا، قَالَ: وَبِمِثْلِهِ يَذْهَبُ بَهَاءُ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّحْلَةِ. الثَّانِي: - وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - الصِّحَّةُ، وَحَمَلُوا كَلَامَ الْمَانِعِينَ عَلَى الْكَرَامَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ إنَّمَا هُوَ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يُجِيزَ الْعِلْمَ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، وَلَا خَدَمَهُ، وَلَا عَانَى التَّعَبَ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُقِيمَ الْمَقَامَ الْيَسِيرَ، وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ الِاتِّكَالِ عَلَى الْإِجَازَةِ بَدَلًا عَنْ السَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: لَمَّا كَانَ قَدْمَةُ الشَّافِعِيُّ الثَّانِيَةِ إلَى بَغْدَادَ آتَيْته، فَقُلْت لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْكُتُبَ؟ قَالَ: خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْسَخْهَا، فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَك، فَأَخَذْتُهَا إجَازَةً. قُلْت: هَذَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَكَيْفَ يُقْضَى لِلْقَدِيمِ عَلَى الْجَدِيدِ؟ نَعَمْ، الْمَنْقُولُ عَنْ الْجَدِيدِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ. فَلَا تَعَارُضَ، وَقَدْ رَوَى الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْإِجَازَةَ لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُصُولَهُ، أَوْ فُرُوعًا كُتِبَتْ عَنْهَا، وَيَنْظُرُ فِيهَا، وَيُصَحِّحُهَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ.

(6/330)


وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُسْتَجِيزُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ، وَفِي الْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ مَسْمُوعِ الشَّيْخِ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَالْخَامِسُ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ، فَإِنْ خَاطَبَهُ بِهَا صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ ".
التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ. إحْدَاهَا: هَلْ تَجُوزُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطٍ؟ فَأَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَبَقَ عَنْ مَالِكٍ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ إلَّا لِمَاهِرٍ بِالصِّنَاعَةِ، وَفِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُشْكِلُ إسْنَادُهُ. وَقَسَّمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجَازَةَ إلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرِّوَايَةُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَعْلَمُ، وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، فَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ، إذَا كَانَ الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا فَالْمُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، وَلَمْ يَعْلَمْ وَإِذَا كَانَ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ لَهُ إذَا سَمِعَ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ، وَدَفْعًا

(6/331)


لِلْحَرَجِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ إخْبَارًا إجْمَالِيًّا، كَمَا إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى عِدَّةِ مُهِمَّاتٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلرَّاوِي: أَتَعْلَمُ مَا فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ، إلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ، وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّهُ مَنَعَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ. قَالَ: وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيّ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دُونَ السَّمَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَالسَّمَاعِ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ، وَهُوَ غَرِيبٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزٍ مَنْدَادٍ: إنَّا إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ أُطْلِقَ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ لَمْ يَقُلْ إلَّا: أَجَازَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي إجَازَةً. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ، وَيُنْظَرَ مُطَابَقَتُهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَضْعِ. فَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ لَا يَمْنَعُهُ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَيَلِيهِ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا، وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجَازَ لَنَا فُلَانٌ، أَوْ كَتَبَ إلَيْنَا، إنْ كَانَ كِتَابَةً؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ صَحِيحٌ. اهـ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي الْإِجَازَةِ: يَحْكِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا. قَالَ: وَذَهَبَ إلَى هَذَا أَبُو بَكْرٍ اهـ.

(6/332)


وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَلْ يَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا؟ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، حَتَّى يُقَيِّدَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَلَا لَبْسَ فِيهِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَأَقَرَّهُ.

وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَجَازَنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ أَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزَ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، وَهُوَ أَعْلَاهَا. وَثَانِيهَا: لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لَك، أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ مَسْمُوعَاتِي: فَهَذِهِ إجَازَةٌ مُرَتَّبَةٌ عَلَى عَمَايَةٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِهَذَا الْفَرْعِ بِصِحَّةِ سَمَاعِ الشَّيْخِ إلَّا بِالتَّعْوِيلِ عَلَى خُطُوطٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى سَمَاعِ الشَّيْخِ. قَالَ: وَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مُقْنِعًا، فَإِنْ تَحَقَّقَ ظُهُورُ سَمَاعِ مَوْثُوقٍ بِهِ فَإِذْ ذَاكَ، وَهَيْهَاتَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجِيزَ مُعَيَّنٌ لِمُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ، مِثْلُ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي، فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَجَوَّزَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْإِجَازَةَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ عِنْدَ الْإِجَازَةِ.
وَرَابِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ أَوْ بِالْمَجْهُولِ، مِثْلُ أَجَزْت

(6/333)


لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَفِي وَقْتِهِ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، ثُمَّ لَا يُعَيِّنُ الْمُجَازَ لَهُ، أَوْ يَقُولُ: أَجَزْت لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَهُوَ يَرْوِي جَمَاعَةٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ، وَلَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ لِبَعْضِهَا، فَهِيَ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " وَغَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ، وَيَسْتَبِيحُ رِوَايَتَهُ جَمِيعَهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ. خَامِسُهَا: الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ، مِثْلُ: أَجَزْت لِمَنْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَهُوَ كَالنَّوْعِ الرَّابِعِ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ، وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ، وَقَدْ أَفْتَى أَبُو الطَّيِّبِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ إجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِبَعْضِ النَّاسِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيُّ. وَسَادِسُهَا: الْإِجَازَةُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ، وَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ فِيمَا مَضَى لِرِوَايَةِ الْمُجَازِ لَهُ إذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً، أَوْ هِيَ إذْنٌ، فَلَا يَصِحُّ إنْ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ، إذْ كَيْفَ يُجِيزُ مَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ؟ وَإِنْ جُعِلَتْ إذْنًا بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُوَكِّلُ، وَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ. سَابِعُهَا: إجَازَةُ الْمُجَازِ، مِثْلُ: أَجَزْت لَك مُجَازَاتِي أَوْ رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي رِوَايَتُهُ، وَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُ

(6/334)


الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عَنْ الْإِجَازَةِ.
ثَامِنُهَا: الْإِذْنُ فِي الْإِجَازَةِ وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك أَنْ تُجِيزَ عَنِّي مَنْ شِئْت، وَهَذَا نَوْعٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِي عَصْرِنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَكِّلْ عَنِّي. تَاسِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا حِينَ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ صُوَرًا: مِنْهَا الصَّبِيُّ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: سَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ: لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. فَقُلْت لَهُ: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ. فَقَالَ: قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُجِيزَ لِلْغَائِبِ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ لَهُ، وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: الْمَجْنُونُ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ لَهُ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ. وَمِنْهَا: الْكَافِرُ، وَقَدْ صَحَّحُوا تَحَمُّلَهُ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسُ إجَازَتِهِ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ

(6/335)


الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ وَكَانَ طَبِيبٌ يُسَمَّى عَبْدَ السَّيِّدِ بْنَ الزَّيَّاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي حَالِ يَهُودِيَّتِهِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ، وَكَتَبَ اسْمَهُ فِي طَبَقَةِ السَّمَاعِ مَعَ السَّامِعِينَ، وَأَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِمَنْ سَمِعَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَكَانَ السَّمَاعُ وَالْإِجَازَةُ بِحُضُورِ الْمِزِّيِّ، وَبَعْضُ السَّمَاعِ بِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ هَدَى اللَّهُ ابْنَ عَبْدِ السَّيِّدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِسْلَامِ، وَحَدَّثَ وَتَحَمَّلَ الطَّالِبُونَ عَنْهُ، وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهَا، وَأَوْلَى مِنْ الْكَافِرِ. وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْحَمْلِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيبَ قَالَ: لَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِكَوْنِهِ إذَا وَقَعَ: هَلْ تَصِحُّ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ الْمَعْدُومِ، وَيَقْوَى إذَا أُجِيزَ لَهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَيُحْمَلُ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْلَمُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْلَمُ كَانَتْ كَالْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَإِنْ قُلْنَا: يُعْلَمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، صَحَّتْ.
وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَعْدُومِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ

(6/336)


جَوَّزَهُ ابْنُ الْفَرَّاءِ، وَابْنُ عَمْرُوسٍ، وَالْخَطِيبُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَمَأْخَذُهُمْ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِجَازَةَ إذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَثَةٌ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، أَمَّا إجَازَتُهُ عَطْفًا عَلَى الْحَيِّ كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لَك، وَلِوَلَدِك، فَهِيَ إذْنٌ إلَى الْجَوَازِ أَوْلَى، وَلِهَذَا أَجَازَهُ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْفِ.

[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ]
ِ] وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِجَازَةَ فَالشَّرْطُ تَحَقُّقُ رِوَايَةِ الشَّيْخِ لِمَا أَجَازَهُ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ، فَهَلْ يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: نَعَمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا. كَذَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ: فَلَوْ شَكَّ فِي الرِّوَايَةِ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْمَرْوِيُّ بِغَيْرِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ رِوَايَةُ شَيْءٍ مِنْ الْمُخْتَلَطِ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّة أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا شَرَطَا فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ عِلْمَ الْمُجِيزِ بِمَا أَجَازَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَهَذَا لِخَطَرِ أَمْرِ السُّنَّةِ، وَتَصْحِيحُ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ قَبِيحٌ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِهِ: شَرْطُ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مَعْلُومًا لِلْمُجَازِ، وَالْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَجِيزُ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا فِي الْكِتَابِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

(6/337)


[فَصْلٌ فِي الْمُرْسَلِ مِنْ الْحَدِيثِ]
ِ] شَرْطُ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ الِاتِّصَالُ فَالْمُنْقَطِعُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَأَمَّا الْمُرْسَلُ، وَهُوَ تَرْكُ التَّابِعِيِّ ذِكْرَ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. فَلَوْ سَقَطَ وَاحِدٌ قَبْلَ التَّابِعِيِّ، كَقَوْلِ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ سَقَطَ أَكْثَرُ سُمِّيَ مُعْضَلًا، هَذِهِ طَرِيقَةُ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُرْسَلُ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ أَمْ تَابِعُ التَّابِعِيِّ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَتَعْبِيرُ الْأُصُولِيِّينَ أَعَمُّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةُ التِّلْمِيذِ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ الْآخِذِينَ عَنْهُ، وَهَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ الرَّاوِي، بِأَنْ يَحْذِفَ ذِكْرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا، وَقَدْ يَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهِ ذِكْرًا لَا يُفِيدُ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ إرْسَالًا أَيْضًا، كَقَوْلِك: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ فُلَانٍ، وَكَذَا لَوْ أَضَافَ إلَيْهِ الْعَدَالَةَ، كَقَوْلِك: حَدَّثَنِي عَدْلٌ، وَهَذَا يَلْتَحِقُ بِالْمُرْسَلَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ

(6/338)


الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ أَنَّهُ سَمَّى حَذْفَ الرَّاوِي شَيْخَهُ مُنْقَطِعًا، كَقَوْلِ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَوْلِ تَابِعِ التَّابِعِيِّ: قَالَ الصَّحَابِيُّ، وَسَمَّى ذِكْرَهُ عَلَى الْإِجْمَالِ مُرْسَلًا، مِثْلُ قَوْلِ التَّابِعِيِّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إشَارَةٌ إلَى هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ. وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ بِأَنَّ الَّذِي فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرْسَلَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَذَا وَكَذَا. انْتَهَى. فَذَكَرَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا حُذِفَ فِيهِ اسْمُ الرَّاوِي، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَا مُعَيَّنًا وَلَا مُجْمَلًا، لَكِنَّ الْإِمَامَ ثِقَةٌ فِيمَا يَنْقُلُ، فَلَعَلَّ الْمَازِرِيَّ سَقَطَ مِنْ نُسْخَتِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَلَى هَذَا النَّقْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْمُرْسَلُ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يَرْوِي رَجُلٌ عَمَّنْ لَمْ يَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": هُوَ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَابِعِ التَّابِعِيِّ عَنْ الصَّحَابِيِّ، فَأَمَّا إذَا قَالَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ أَوْ وَاحِدٌ مِنَّا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يَقَعُ بِهِ تَرْجِيحٌ فَضْلًا عَنْ الِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ. اهـ. وَقِيلَ: الْمُرْسَلُ: مَا رَفَعَهُ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ، وَمَرَاسِيلُ صِغَارِهِمْ تُسَمَّى مُنْقَطِعَةً. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ، وَقِيلَ: مَا سَقَطَ رَاوٍ مِنْ إسْنَادِهِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. فَعَلَى هَذَا الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا مَنْ رَوَى عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، بَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ، بَلْ تَدْلِيسٌ.

(6/339)


إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إرْسَالِ الْحَدِيثِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ: بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلِ الْوَاحِدِ: قَالَ مَالِكٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ، إذَا وَقَعَ هَلْ يَلْزَمُ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ؟ .

[حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ]
[حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى ضَعْفِهِ، وَسُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَنَقَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ سَمَاعِهِ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِصُحْبَتِهِ. وَقَالَ بِقَبُولِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، ثُمَّ غَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً فَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ، لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ فِي إرْسَالِهِ. وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَغَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَأَنْكَرَ مُرْسَلَ الصَّحَابَةِ إذَا احْتَمَلَ سَمَاعَهُ مِنْ تَابِعِيٍّ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفَصَّلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ.

(6/340)


وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَالسَّرَخْسِيُّ فِي " عُيُونِ الْمَسَائِلِ "، وَقَالَ: إنَّمَا يَعْنِي بِهِ إذَا حَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ الْعِلْمَ، وَجَبَ قَبُولُ مُرْسَلِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ ابْنُ أَبَانَ بِحَمْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبُولَهُمْ مِنْهُ، لَا عَلَى السَّمَاعِ. قَالَ: وَمَنْ حَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ الْمُرْسَلَ، فَمُرْسَلُهُ مَوْقُوفٌ. اهـ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، لَنَا أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ الْحَدِيثُ بِلَا إسْنَادٍ لَفَسَدَ الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَوْلَا الْأَسَانِيدُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ؛ وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يُرْسِلُ عَمَّنْ هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ وَمَجْرُوحٌ عِنْدَ غَيْرِهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَسْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْدِيلَ لِلْحَاكِمِ لَا إلَى غَيْرِهِ. فَكُلُّ الْعَدَالَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَا عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ، لَا عَلَى مَا عِنْدَ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، مَا الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ إلَّا قَالَ: حَدَّثَنِي، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا أَصْدَقَ مِنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَكَانَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ شُهُودِ الْفَرْعِ مِنْ الْمَجَاهِيلِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنُوا أَسَامِيَهُمْ، فَيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّهَادَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالِاحْتِيَاطِ؟ قُلْنَا: فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا كَلَامُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ إذَا كَانَ مُرْسِلُهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ، يُرْسِلُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ

(6/341)


قَالَ: وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حَدِيثِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ. وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقُ

(6/342)


بْنُ الْأَجْدَعِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ الَّذِينَ صَحَّ لَهُمْ لِقَاءُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَنَحْوُهُ مُرْسَلُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي حَازِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسَمَّى مُرْسَلًا، كَمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيثُ هَؤُلَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمَّى مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمْ عَنْ التَّابِعِينَ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ فِي بَعْضِهِ مُنَاقَشَةٌ، فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَشْهَبِ بْنِ سَعْدٍ، وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَسُنَيْنٍ أَبَا جَمِيلَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ

(6/343)


وَرَبِيعَةَ بْنِ عِبَادٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - وَمَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ - بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - بِضَمِّ الْحَاءِ - وَرَجُلًا مِنْ بَلِيٍّ، - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ -، وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَنَفَاهُ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَسَمِعَ أَنَسًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَرْجِسَ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ، وَهُمْ صَحَابَةٌ، وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَسَمِعَ أَنَسًا، وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ. وَتَمْثِيلُ أَبِي عَمْرٍو أَوَّلًا بِأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَنَّهُمْ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يُتَّجَهُ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، كَمَا نَقَلْنَاهُ. إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، أَوْ خَمْسٌ. وَلِهَذَا مَا أَخْرَجَا حَدِيثَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، إنَّمَا رَوَيَا لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَامِرٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَائِشَةَ، وَرَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/344)


وَأَبُو أُمَامَةَ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ سَمَّاهُ، وَرَوَى لَهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ.
وَكَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَبَا أُمَامَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ تَابِعِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ، كَمَا تَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءٌ. قَالَ: مَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: قَالَ: - وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - مَرَاسِيلُ الثِّقَاتِ أَوْلَى، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَسْنَدَ لَك، فَقَدْ أَحَالَك عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَمَّاهُ لَك، وَمَنْ أَرْسَلَ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَك بِصِحَّتِهِ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا الْأَمْرَيْنِ. قَالَ: وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ. وَزَعَمَ الطَّبَرِيِّ أَنَّ التَّابِعِينَ بِأَسْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُمْ إنْكَارُهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ إلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوَّلَ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، فَلَا إجْمَاعَ سَابِقٌ، فَفِي مُقَدَّمَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مُرْسَلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ الثِّقَاتِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَنَنْظُرُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَنَأْخُذُ

(6/345)


عَنْهُمْ، وَإِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا نَأْخُذُ عَنْهُمْ.
وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَنْ إمَامِ التَّابِعِينَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَكِنْ دُونَ الْمُسْنَدِ، كَالشُّهُودِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعَدَالَةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ، وَنَقَلَهُ عَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ الْأَمْصَارِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثُمَّ إنِّي تَأَمَّلْت كُتُبَ الْمُنَاظِرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ مَنْ خَصَمَهُ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِمُرْسَلٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَبَرًا مَقْطُوعًا، وَكُلُّهُمْ عِنْدَ تَحْصِيلِ الْمُنَاظَرَةِ يُطَالِبُ خَصْمَهُ بِالِاتِّصَالِ فِي الْأَخْبَارِ. قَالَ: وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ، وَبَيْنَ مَنْ يَقْبَلُهُ. فَإِنْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقْبَلُهُ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُهُ يَقُولُ لَهُ: فَأْتِ بِحُجَّةٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ عَلَى مَنْ يَقْبَلُهُ، قَالَ لَهُ كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَك؟ وَنَحْوُ هَذَا، وَلَمْ نُشَاهِدْ نَحْنُ مُنَاظَرَةً بَيْنَ مَالِكِيٍّ يَقْبَلُهُ، وَبَيْنَ حَنَفِيٍّ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمَا فِي ذَلِكَ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ خَبَرَ صَاحِبِهِ الْمُرْسَلَ إذَا أَرْسَلَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ مَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ مِنْ الْأُصُولِ مَا يَدْفَعُهُ. قَالَ: وَأَمَّا الْإِرْسَالُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْأَخْذِ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمُسَامَحَةِ فِي ذَلِكَ،

(6/346)


فَلَا يَحْتَجُّ بِهِ، تَابِعِيًّا كَانَ أَوْ مَنْ دُونَهُ وَكُلُّ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَتَدْلِيسُهُ وَمُرْسَلُهُ مَقْبُولٌ. اهـ.
قُلْت: وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ نَعْلَمْ هَلْ يَأْخُذُ عَنْ ثِقَةٍ أَوْ لَا؟ تَوَقَّفْنَا فِيهِ، وَلَا نَقْبَلُهُ لِلْجَهْلِ بِحَالِ شَيْخِهِ. فَمَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عِنْدَهُمْ صِحَاحٌ، وَقَالُوا: مَرَاسِيلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَا مَرَاسِيلُ أَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إرْسَالَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ، أَوْ لَمْ يَلْقَهُ، كَرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَثَابَتِهِ فِي غَيْرِ التَّابِعِينَ، كَمَالِكٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا حُكْمُ مَنْ أَرْسَلَ حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ لَقِيَهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِنْهُ، وَسَمِعَ مَا عَدَاهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مَقْبُولٌ، إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ ثِقَةً عَدْلًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ مِنْ نُقَّادِ الْأَثَرِ.

(6/347)


[مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ]
ِّ] وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، كَقَوْلِ أَنَسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» الْحَدِيثَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ لَا لِلشَّكِّ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الرَّاوِي عَنْ تَابِعِيٍّ، وَعَنْ أَعْرَابِيٍّ لَا يَعْرِفُ صُحْبَتَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَرْوِي لَكُمْ إلَّا مِنْ سَمَاعِي أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ، وَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنْ التَّابِعِينَ، فَقَدْ بَيَّنُوهُ، وَهُوَ أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ، لَا اعْتِبَارَ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَمَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ مَا أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ الصَّحَابِيِّ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي دَرَجَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِمَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ جَمِيعِ التَّابِعِينَ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْعَدَالَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ مَنْ عُرِفَ فِيهِ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ، دُونَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ؛ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ، وَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ: حَدَّثَنِي الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَذْكُرُوا اسْمَهُ. اهـ.

(6/348)


[الْمَذَاهِبُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُرْسَلِ]
ِ] وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: أَحَدُهَا: عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُرْسَلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا، وَقَبُولُ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ كَذَا قُبِلَ، إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. وَالثَّانِي: قَبُولُهُ مِنْ الْعَدْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ حَكَاهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " شَرْحِ الْعُدَّةِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَأَمَّا مَرَاسِيلُ التَّابِعِينَ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُ. وَالرَّابِعُ: لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ فِي " كِتَابِ الْأَوْسَطِ ": إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " تَصْرِيحًا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالْخَامِسُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ هُوَ أَئِمَّةُ النَّقْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالسَّادِسُ: لَا تُقْبَلُ إلَّا إنْ اُعْتُضِدَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ بِأَنْ يُرْسِلَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، أَوْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ يُرْسِلُهُ، أَوْ يُرْسِلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ

(6/349)


الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ فِعْلُهُ، أَوْ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْقِيَاسُ، أَوْ عُرِفَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَهُوَ حُجَّةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ.
السَّابِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ صَغُرَ عَنْهُمْ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ، أَوْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَبُولِ رَدِّ الْمُرْسَلِ. وَالتَّاسِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ. وَالْعَاشِرُ: يُقْبَلُ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْحَادِيَ عَشَرَ: مِنْ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِهِ يُقَدَّمُ مَا أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي دَرَجَتِهِمْ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الثِّقَاتِ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدَاتِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُرْسَلُ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ مُسْنَدِهِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدِ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لِلْمُسْنَدِ مَزِيَّةُ فَضْلٍ لِوَضْعِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ، فَيَقْبَلُ مَرَاسِيلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ.

(6/350)


السَّادِسَ عَشَرَ: مِنْ الْمُنْكَرِينَ لِلْمُرْسَلِ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَخْتَارُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُرْسَلَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّامِنَ عَشَرَ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يُعَضِّدَهُ إجْمَاعٌ فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْنَدِ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ، وَفِي بَعْضِهَا تَدَاخُلٌ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لَا يُقْبَلُ إرْسَالُهُ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً، وَعُرِفَ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ الضُّعَفَاءِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا أَرْسَلَهُ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَمُرْسَلُهُ وَتَدْلِيسُهُ، هَلْ يُقْبَلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ - وَهُوَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْهُمْ: الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يَوْثُقُ بِرِوَايَتِهِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِيُعْلَمَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ ثِقَةً مُتَحَرِّزًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ عَنْ غَيْرِ الْعُدُولِ قَالَ: وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ، وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَوْلُ بِالْمُرْسَلِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا التَّعْدِيلَ بِالْمُطْلَقِ، وَالْمُرْسِلُ إذَا عُلِمَ

(6/351)


مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ. اهـ. وَعَلَى هَذَا فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فَقَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ، وَلَا يُنْكِرُ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ فِي التَّعْدِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَ أَهْلِ مَذْهَبِهِ قَبُولُهُ. وَإِنَّمَا قَالَ الْأَصْحَابُ: مَذْهَبُهُ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ مَذْهَبُهُمْ. اهـ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ، فَأَمَّا مَرَاسِيلُ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِشُرُوطٍ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ الْكَرْخِيّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَرَاسِيلِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: مَنْ اُشْتُهِرَ فِي النَّاسِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسِلًا وَمُسْنِدًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ يَحْمِلُ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ مُسْنَدَهُ يَكُونُ حُجَّةً، وَمُرْسَلُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى مَنْ اُشْتُهِرَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ كَانَ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ (لَيْسَ) حُجَّةً، إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا يَقِظًا، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، فَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ، وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ تَقْتَضِي مَنْعَ الْقَوْلِ بِهِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ.

(6/352)


فَصْلٌ [تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ النَّقْلَ قَدْ اضْطَرَبَ عَنْهُ، فَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِالْمَرَاسِيلِ إلَّا عِنْدَ شَرِيطَةِ أَنْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، أَوْ يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ، أَوْ الْعَامَّةُ، أَوْ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ يَتَطَلَّبُ فِيهِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ، لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي الثِّقَةِ، وَاسْتُنْبِطَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ فِي قَبُولِ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَاسْتِحْسَانِهِ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الرَّاوِيَ الْمَوْثُوقَ بِهِ، الْعَالِمَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَرْضَاهُ، يُوجِبُ الثِّقَةَ بِحَدِيثِهِ، وَإِنْ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، تَوَقَّفَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّاوِي: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا بَالِغٌ فِي ثِقَةِ مَنْ رَوَى لَهُ. قَالَ: وَقَدْ عَثَرْت فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا الْمُرْسَلَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالتَّعْدِيلِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، فَكَانَ إضْرَابُهُ عَنْ الْمُرْسَلِ فِي حُكْمِ تَقْدِيمِ الْمَسَانِيدِ عَلَيْهَا. اهـ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ، وَهُوَ شَيْءٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَاهَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ حُجَّةً مَعَهُ بِحَالٍ. قَالَ: وَأَنَا لَا أَعْجَبُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ كَانَ يَنْصُرُ الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ

(6/353)


فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ. اهـ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": الْمُرْسَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِخَبَرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ عَمَّا أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ، مَا عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي مَا عَدَا مُنْقَطِعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ. اهـ. فَلَمْ يَحْمِلْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ " الْمَرَاسِيلُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُرْسَلَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ " أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ بِنَقْلٍ عَنْهُ وَيَعْتَقِدُهُ، فَيَعْتَمِدُ مَذْهَبَهُ، وَعَنْ هَذَا قَبِلَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ قُبِلَ، فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَوَسَّعُونَ فِي كَلَامِهِمْ، فَقَدْ يَقُولُونَهُ لَا عَنْ ثَبْتٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ.

(6/354)


وَمَنْ قَبِلَ هَذَا قَالَ: هَذَا مَقْبُولٌ مِنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلَا يُقْبَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَقَدْ كَثُرَتْ الرِّوَايَةُ، وَطَالَ الْبَحْثُ، وَاتَّسَعَتْ الطُّرُقُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، إلَّا فِي هَذَا الْأَخِيرِ، فَإِنَّا لَوْ صَادَفْنَا فِي زَمَانِنَا مُتْقِنًا فِي نَقْلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ مَالِكٍ قَبِلْنَا قَوْلَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْأَعْصَارِ. اهـ.
وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي غَرِيبٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " لَهُ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، حَتَّى مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، لَا لِأَجْلِ الشَّكِّ فِي عَدَالَتِهِمْ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَرْوُونَ عَنْ تَابِعِيٍّ، إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُرْسَلِهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ، وَقَالَ بِهَا بِشُرُوطٍ أُخَرَ. وَقَالَ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ: فَاسْتُحِبَّ قَبُولُهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِهَا ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَنَصَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: قَبِلَ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ، صَارَ حُجَّةً. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَقْبَلُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا أَرْسَلَهُ كُلُّ مُعْتَبَرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا قُلْنَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ بِنَفْسِهِ

(6/355)


لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا رَدَّ الْمُرْسَلَ، لِدُخُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ. فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُزِيلُ التُّهْمَةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ مُرْسَلُهُ مُسْنَدَ غَيْرِهِ، أَوْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ انْتَشَرَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ نَكِيرٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَذَلِكَ إذَا اُشْتُرِطَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ، فَيَقْوَى بِهِ حَالُ الْمُرْسَلِ، أَوْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ إنَّمَا هُوَ فِي مُسْنَدٍ آخَرَ، أَوْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، أَوْ اشْتِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ. انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ": حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، قَبِلَتْ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. اهـ. وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْهُ مَذْهَبُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ": الْمُنْقَطِعُ يَخْتَلِفُ، فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَوَى حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَهُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَإِنْ شَرَكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ فَأَسْنَدُوهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى، كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى صِحَّةِ مَنْ قَبِلَ عَنْهُ، وَحَفِظَهُ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِهِ مُرْسَلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ مَنْ يُسْنِدُ قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُنْظَرَ هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ قَوِيَ، وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى.

(6/356)


وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ نَظَرَ إلَى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا لَهُ، فَإِنْ وَجَدْنَا مَا يُوَافِقُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ شَاهِدَةَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ لَمْ يُعْتَبَرْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَيَكُونُ إذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ، وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ. وَمَتَى خَالَفَ مَا وَصَفْت أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ، حَتَّى لَا يَسَعَ أَحَدًا قَبُولُ مُرْسَلِهِ.
قَالَ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وُصِفَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ مَغِيبٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ إذَا سُمِّيَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرِّجُهُمَا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ لَوْ سُمِّيَ لَمْ يُقْبَلْ، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا قَالَ بِرَأْيِهِ لَوْ وَافَقَهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ دَلَالَةً قَوِيَّةً إذَا نَظَرَ فِيهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا غَلَطَ بِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِمُوَافِقِهِ.
قَالَ: فَأَمَّا مِنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا يَقْبَلُ مُرْسَلَهُ، لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا مِمَّنْ يَرْوُونَ عَنْهُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِمْ الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ، وَالْآخَرُ كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِحَالَةُ كَانَ أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ مَنْ يُقْبَلُ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمُورًا:

(6/357)


أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرْسَلَ إذَا أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُرْسَلِ، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُسْنَدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نُظِرَ، هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَنْقَصَ دَرَجَةً مِنْ الْمُرْسَلِ الَّذِي أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إنْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ إسْنَادًا، فَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَإِنْ كَانَ إرْسَالًا فَضَمُّ غَيْرِ مَقْبُولٍ إلَى غَيْرِ مَقْبُولٍ، كَانْضِمَامِ الْمَاءِ النَّجِسِ إلَى مِثْلِهِ، وَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَعَ مِثْلِهِ، لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ وَالْقَبُولَ، وَهَذَا اعْتَرَضَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَتَبِعُوهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْنَدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بِالْمُسْنَدِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ إسْنَادِ الْإِرْسَالِ، حَتَّى تَحْكُمَ لَهُ مَعَ إرْسَالِهِ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَيْضًا لَوْ عَارَضَ الْمُسْنَدَ الَّذِي دُونَ الْمُرْسَلِ مُسْنَدٌ آخَرُ يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْمُرْسَلِ، إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَأَيْضًا فَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُسْنَدِ إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كَانَ بِنَفْسِهِ حُجَّةً، وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ هُنَا بِالْمُسْنَدِ مَا لَا يَنْتَهِضُ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ، وَإِذَا ضُمَّ إلَى الْمُرْسَلِ قَامَ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَصَارَ حُجَّةً، وَهَذَا لَيْسَ عَمَلًا بِالْمُسْنَدِ، بَلْ بِالْمُرْسَلِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ قَبُولِهِ إذَا كَانَ الْقَوِيُّ مُرْسَلًا، لِجَوَازِ تَأْكِيدِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ بِالْآخَرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ مُرْسَلٌ آخَرُ لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ وُجِدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ لَهُ يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَلَا يُطْرَحُ، وَلَا يُرَدُّ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ التَّقْوِيَةُ بِهِ، لَا الِاسْتِقْلَالُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا وُجِدَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ،

(6/358)


دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْأُمَّةَ فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَالْحُجَّةُ حِينَئِذٍ فِيهِ لَا فِي الْمُرْسَلِ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَقَوْلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى عِنْدَهُ، وَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَإِذَا قَوِيَ الظَّنُّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ، فَمُجَرَّدُهُ ضَعِيفٌ، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَالَةُ الِاجْتِمَاعِ قَدْ يَقُومُ مِنْهَا ظَنٌّ غَالِبٌ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ضَعِيفَيْنِ اجْتَمَعَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْمُرْسَلِ، فَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى شَيْخَهُ سَمَّى ثِقَةً لَمْ يُحْتَجَّ بِمُرْسَلِهِ، وَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ، لَكِنَّهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ.
السَّادِسُ: أَنْ يَنْظُرَ إلَى هَذَا الْمُرْسَلِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ إذَا أَشْرَكَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ وَافَقَهُ فِيهِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ، دَلَّ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ أَوْ الْمَتْنِ، كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ وَتَحَرِّيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ بِزِيَادَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَالِاعْتِبَارَ، وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا كَمَا يَظُنُّ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ هَذَا الْمُخَالِفِ أَنْقَصَ مِنْ حَدِيثِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْمُخَالِفَ بِالزِّيَادَةِ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ هَذَا الرَّاوِي مِنْ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ مَا وُصِفَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا، لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مُضِرًّا بِحَدِيثِهِ. السَّابِعُ: هَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَزَعَمَ

(6/359)


بَعْضُ الْأَصْحَابِ اخْتِصَاصَهُ بِسَعِيدٍ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَبِلْتُمْ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُنْقَطِعًا، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ عَنْ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا: لَا نَحْفَظُ لِسَعِيدٍ مُنْقَطِعًا إلَّا وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْدِيدِهِ، وَلَا يَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ فِيمَا عَرَفْنَاهُ عَنْهُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ قَبِلْنَا مُنْقَطِعَهُ.

وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا، وَمِمَّنْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مُرْسَلِ سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَقَالَا: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ. فَقِيلَ: إنَّ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ كُلِّهِمْ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى مُرْسِلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مُرْسَلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ، فَقِيلَ حَسَنٌ فِي التَّرْجِيحِ بِهِ، لَا فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقِيلَ: إنَّمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ الْمُرْسَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. قَالَ: وَإِرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَرَاسِيلَهُ مُتَّبَعَةٌ، فَوُجِدَتْ كُلُّهَا عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.
وَرَدَّ الْخَطِيبُ هَذَا بِأَنَّ مِنْهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مُسْنَدًا بِحَالٍ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَقِيلَ: إنَّهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ فِي الرَّدِّ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْقَدِيمِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَكَذَا نَقَلَ التَّسْوِيَةَ عَنْ الْجَدِيدِ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ " وَفِيهِ نَظَرٌ، لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنْ الْأُمِّ " زَعَمَ أَنَّ

(6/360)


مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ فَقَطْ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ " أَنَّهُ حَسَنٌ، لَكِنْ أَشَارَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ الصَّغِيرَ مِنْ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ "، قَالَ: وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ قَبُولَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إلَى الْقَدِيمِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الرِّبَا فِي تَعْلِيقِهِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ بِهِ، وَفِي الْجَدِيدِ يُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا تُتُبِّعَ وُجِدَ مُتَّصِلًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّ إرْسَالَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ كَشَفَ عَنْ حَدِيثِهِ، فَوَجَدَهُ مُتَّصِلًا، فَاكْتَفَى عَنْ طَلَبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَيَتَقَوَّى بِهِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَى آخِرِهِ، فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ فِي رَدِّهِ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ اسْتَثْنَى سَعِيدًا وَفِيهِ مَا سَبَقَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بِهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ مَنْ مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِثْلُ هَذَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ هَذَا فِي مُرْسَلِ غَيْرِهِ كَمُرْسَلِ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، كَانَ الْكَلَامُ فِيهِمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْخَفَّافَ فِي كِتَابِ الْخِصَالِ ": لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا إلَّا فِي صُورَتَيْنِ:

(6/361)


إحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَلَا يُسَمِّيهِ، فَذَلِكَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: التَّابِعِيُّ إذَا أَرْسَلَ وَسَمَّى، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِرْسَالُهُ وَإِسْنَادُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. انْتَهَى.
وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ يُغْنِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ، أَرَادَ بِهِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، مِنْهَا بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَنَا: " إرْسَالُهُ حَسَنٌ "، أَنَّهُ تَتَبَّعَ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا، فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا مُتَّصِلَةً، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ تَطَلُّبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ مُرَادِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُ عَنْ سَائِرِ الْمَرَاسِيلِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَحْسِنُ إرْسَالَ سَعِيدٍ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا انْعَقَدَتْ وُجِدَ لَهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَوْصُولَةِ أَصْلٌ، وَإِنَّا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الضُّعَفَاءِ أَرْسَلَ عَنْهُ، وَلَا رَوَى عَنْهُ، بَلْ جُمْلَةُ رِوَايَاتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالثِّقَاتِ، مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ " أَنَّ الْحَدِيثَ يُعْتَبَرُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَ فَإِنْ شَرَكَهُ فِيهِ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ، فَأَسْنَدَ

(6/362)


قَوْلَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يُسْنِدُ. وَمِنْهَا: مَا يُؤْخَذُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَا يُوَافِقُ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ، لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، وَلَا مَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا أَشْرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْت أَحْبَبْنَا أَنْ يُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، وَلَا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ.
وَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَلَا أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا ذُكِرَ.

قَالَ: وَأَشَارَ إلَى قُوَّةِ مَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ عَلَى مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِالْمُنْقَطِعِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ، وَمَشْهُورٌ عَلَى لِسَانِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ تَضْعِيفُهُ لِلْمَرَاسِيلِ، وَالْوَجْهُ فِي تَضْعِيفِهِ مَا أَوْمَأْنَا إلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ الْحَاوِي " إنَّ مُرْسَلَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَسَنٌ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ أَوْ بَعْضُهَا يُسَوَّغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ لُزُومَ الْحُجَّةِ بِالْمُتَّصِلِ، وَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسَوِّغُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ": لَمْ نَجِدْ حَدِيثًا ثَابِتًا مُتَّصِلًا خَالَفَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَقَدْ وَجَدْنَا مَرَاسِيلَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهَا، وَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ الْآتِي قَرِيبًا، وَظَنَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ

(6/363)


فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَسِيمَ الْوُجُوبِ. قَالَ: فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِيهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَيْسَتْ بِحُجَّةِ الْمُتَّصِلِ، فَإِذَا انْتَهَضَتْ الْحُجَّةُ، وَجَبَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا عَارَضَهُ مُتَّصِلٌ كَانَتْ التَّقْدِمَةُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَتْ الْأَدِلَّةُ مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ مُسْتَحَبًّا أَبَدًا، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا يَتَفَاوَتُ، وَيَنْفَعُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَقَالَ الرَّبِيعِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَحْبَبْنَا أَنْ تُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، أَرَادَ بِهِ: اخْتَرْنَا، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " فِي بَابِ اللُّقَطَةِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أُحِبُّ وَأُرِيدُ بِهِ الْإِيجَابَ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، إذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بِمُفْرَدِهِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرْسَلَ الْعَارِيَ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَيُطْعِمَ عِيَالَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ غَايَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي عَمَّنْ قَبِلَ هَذَا الْحَدِيثَ.

(6/364)


الْعَاشِرُ: أَنَّ مَأْخَذَ رَدِّ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالُ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ سَمَّاهُ لَبَانَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْ عَادَةِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، كَانَ مُرْسَلُهُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ - وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ فِي الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مُرْسَلًا - قَالَ: يَقُولُونَ: يُحَابِي، وَلَوْ حَابَيْنَا حَابَيْنَا الزُّهْرِيَّ، وَإِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَاكَ أَنَّا نَجِدُهُ يَرْوِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْ غَيْرِهِ، هَلْ هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الثِّقَةَ إنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَانَتْ تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا، كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ هُنَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَبُولِ الشَّافِعِيِّ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ كَوْنُهُ اعْتَبَرَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ الِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فِيهَا، وَيَجِيءُ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ حَالُ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، حُمِلَ هَذَا الْمُرْسَلُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ صَحِيحٌ بِهِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ عَنْ تَابِعِيٍّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، لَا سِيَّمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فَحُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ.

الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ لَا يُقْبَلُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ قَبُولُهُ لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ مُرْسَلُ الْمُحَدِّثِ الْيَوْمَ، وَبَيْنَهُ.

(6/365)


وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاوِزُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا مَا سَبَقَ عَنْ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَنْخُولِ " وَقَدْ رَدَدْنَاهُ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ ظَاهِرَهُ قَبُولُ مُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ صِغَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ " بَعْدَ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِكَلَامٍ: وَمَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ، اسْتَوْحَشَ مِنْ مُرْسَلِ كُلِّ مَنْ دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ فِيهَا. قَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَلِمَ فَرَّقْت بَيْنَ كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ شَاهَدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) : فَقُلْت: لِبُعْدِ إحَالَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَكْثَرَهُمْ قَالَ: فَلِمَ يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ مِنْهُمْ وَمِنْ كُلِّ ثِقَةٍ دُونَهُمْ؟ فَقُلْت: لِمَا وَصَفْت انْتَهَى. فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ دُونَهُمْ كَمَا جَعَلَ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْهُمْ، لَكِنْ هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِهِ.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي الرِّسَالَةِ ": فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا، فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلًا، أَوْ مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ بِنَقْلِ عَامَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عَنْ عَامَّةٍ، وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لَا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ، وَغَابَ عَنِّي بَعْضُ كُتُبِي. انْتَهَى. فَنَبَّهَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُورِدُهُ مِنْ الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، سَوَاءٌ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَوْ غَيْرُهُ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ مَا وَجَدْنَاهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْمَرَاسِيلِ لَا يَقْدَحُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، فَأَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مَا نَجِدُهُ

(6/366)


مِنْ الْمُرْسَلِ هُوَ عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ، وَلَكِنْ تَرَكَ إسْنَادَهُ لِمَا ذَكَرَ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْمُرْسَلِ إذَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِمَا سَبَقَ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ سِوَاهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَيَعْضُدُهُ عَمَلُ الشَّافِعِيِّ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ إذَا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا، لَكِنْ يَلْزَمُهُ طَرْدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

[أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ]
تَنْبِيهٌ [أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ] قَدْ تَرَكَتْ الْمَالِكِيَّةُ مُرْسَلَ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ سِوَى الْإِرْسَالِ، وَتَرَكُوا مُرْسَلَ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالنَّاسِ جَالِسًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ تَابِعُوا فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَرْبَعَتِهِمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/367)


فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ، مَكَانَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ» وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَلَ النَّاسِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

[أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْحَنَفِيَّةُ] وَكَذَلِكَ أَعْرَضَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ مُرْسَلِ سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُرْسَلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ.

مَسْأَلَةٌ [أُمُورٌ مُلْحَقَةٌ بِالْمُرْسَلِ، أَوْ مُخْتَلَفٌ فِيهَا] أَلْحَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمُرْسَلِ قَوْلَهُ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ رَجُلٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَرَأَيْته كَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: إنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْسَلًا، بَلْ مُنْقَطِعًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَوْلُ الرَّاوِي أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، أَوْ عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ، مِنْ الْمُرْسَلِ أَيْضًا. وَكَذَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": إذَا سَمَّى الرَّاوِي الْأَصْلَ بِاسْمٍ لَا يُعْرَفُ، فَهُوَ كَالْمُرْسَلِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَذَلِكَ إضَافَةُ الْخَبَرِ إلَى كِتَابٍ كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ حَمَلَهُ وَنَقَلَهُ.

(6/368)


وَأَلْحَقَ بِهِ الْمَازِرِيُّ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: «نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ، وَقَوْلُهُ: «نَادَى مُنَادٍ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ» ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ إذَا لَمْ يُسَمَّ صَارَ كَكِتَابٍ أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يُسَمِّ حَامِلَهُ وَنَاقِلَهُ، وَلَكِنْ عَلِمَ الْمُحَدِّثُ عَيْنَ النِّدَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى يُعْلَمَ ضَرُورَةً أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ سَمَاعِ الْأَمْرِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ ": كُلُّ كِتَابٍ لَمْ يُذْكَرْ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالشَّافِعِيِّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَمِثْلُهُ مَا يَقَعُ فِي الْأَسَانِيدِ أَنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ كَالْمُرْسَلِ، لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرُهُمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَهَا وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا.

(6/369)


[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ]
ِ قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَقَمْت زَمَانًا أَتَطَلُّبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى وَجَدْته مُحَقَّقًا فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ فَصْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ عَنْ حُكْمٍ عَامٍّ تَعَلَّقَ بِالْأُمَّةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعُ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ. فَالرِّوَايَةُ تَعُمُّ حُكْمَ الرَّاوِي وَغَيْرِهِ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ، وَالشَّهَادَةُ مَحْضُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى التَّضْيِيقِ، وَالرِّوَايَةُ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، فَتَبْعُدُ فِيهِ التُّهْمَةُ، فَلِذَلِكَ تُوُسِّعَ فِيهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ وَالْعَرَافَةِ، وَلَا وُجُودُ الْعَدَدِ، وَالذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَاسْتَشْكَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ عُمُومَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ يُثْبِتُ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ التُّهْمَةُ. بِخِلَافِ الشَّاهِدِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ، فَاحْتِيطَ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوهًا لِمُنَاسَبَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ:

(6/370)


مِنْهَا: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ تِلْكَ
الْمَصْلَحَةُ
الْعَامَّةُ، بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ فِي الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إحَنًا وَعَدَاوَاتٍ، قَدْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي مُنَاظَرَةٍ لَهُ مَعَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي بَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَالْعَامَّةُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ فِيهِ خَلِيًّا وَالْعَامَّةُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَمِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يَلْزَمُ الرَّاوِيَ بِهِ حُكْمٌ، وَيَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَمِنْ الشَّهَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِهَا الْحُكْمُ، كَمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ؟ قُلْنَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا، وَأَرَادَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ اللَّذَيْنِ هُمَا مُؤَبَّدَانِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْطَعُ. وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ

(6/371)


يَسْتَوِي الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا مِنْ الدَّيْنِ مَا يَلْزَمُ الْجَاحِدَ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ مَنْ يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي بِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِمَا قَالَهُ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِمَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ، وَالْغَالِبُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِوَاءُ الْمُخْبِرِ، وَسَائِرِ النَّاسِ فِيهِ. انْتَهَى.

[مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ] وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَثِيرٌ: أَحَدُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةَ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَيُكْتَفَى فِي التَّعْدِيلِ فِي الرِّوَايَةِ بِوَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَرَابِعُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَصَرِ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الشَّهَادَةِ، دُونَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ خَبَرَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَامِسُهَا: مَنْ كَذَبَ ثُمَّ تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ كَذَبَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَالْقَفَّالُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ كَمَا سَبَقَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدَّتْ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ السَّالِفَةِ، وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ

(6/372)


بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ". سَابِعُهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الرَّاوِي وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي السُّنَنِ وَالرِّوَايَاتِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ، وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ رَوَى عَدْلٌ خَبَرًا فِي أَثْنَاءِ خُصُومَةٍ، وَكَانَ فَحْوَاهُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ، فَالرِّوَايَةُ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَجْعَلُ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعًا، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْجَارَّةُ لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَمِثْلُهُ خَبَرُ الرَّاوِي لِنَفْسِهِ نَفْعًا رَاجِحًا لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوعِهِ فِيهَا نَقْلًا، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ قَبْلَ بَابِ الصِّيَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي إعْتَاقَهُ، لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ إعْتَاقَ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ فِيهِ قِيلَ؛ لِأَنَّهُ ضِمْنٌ لَا قَصْدًا وَهَذَا أَحْسَنُ. ثَامِنُهَا: إذَا حَدَّثَ الْعَدْلُ بِحَدِيثٍ رَجَعَ عَنْهُ لِغَلَطٍ وَجَدَهُ فِي أَصْلِ كِتَابِهِ، أَوْ حِفْظٍ عَادَ إلَيْهِ، قُبِلَ مِنْهُ رُجُوعُهُ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ بِاللَّفْظِ. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ يَحْكُمُ بِهَا الْقَاضِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُقُوقًا لِلْآدَمِيِّينَ لَا تَزُولُ بِالرُّجُوعِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِهَا، وَالْمُخْبِرُ بِهَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْعًى يُؤَدِّي مَا اسْتَدْعَى، وَلَيْسَ يُطَعْنَ عَلَى الْمُحَدِّث إلَّا قَوْلُهُ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. تَاسِعُهَا: أَنَّ إنْكَارَ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، لَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ كَمَا سَبَقَ. عَاشِرُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يُعَوَّلُ عَلَى شَهَادَةِ

(6/373)


الْفَرْعِ مَعَ إمْكَانِ السَّمَاعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ شَيْخِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ ": لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مَقْبُولَةٌ، وَشَيْخُهُ فِي الْبَلَدِ. قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ تَعَبُّدِيٌّ غَيَّرَ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَنْ الرِّوَايَةِ، فَلَا يُعَدُّ فِي وَجْهِ الرَّاوِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى.
حَادِي عَشَرَهَا: لَوْ أَشْكَلَتْ الْحَادِثَةُ عَلَى الْقَاضِي، فَرَوَى لَهُ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَقَتَلَ بِهِ الْقَاضِي رَجُلًا، ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي، وَقَالَ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ، وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا. قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالشَّاهِدِ، وَهُوَ أَحْوَطُ. ثَانِي عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " وَالرِّسَالَةِ ": أَقْبَلُ فِي الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا، وَلَا أَقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا سَمِعْتُ، أَوْ رَأَيْتُ، أَوْ أَشْهَدَنِي. ثَالِثَ عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ أَخَذْت بِبَعْضِهَا اسْتِدْلَالًا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِهَا بِحَالٍ. رَابِعَ عَشَرَهَا: قَالَ أَيْضًا: يَكُونُ بَشَرٌ كُلُّهُمْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ مَنْ قِبَلِ مَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَثْرَةِ الْإِحَالَةِ، وَإِزَالَةِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْمَعَانِيَ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ ": لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ حَافِظٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا احْتَطْت فِي

(6/374)


الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا احْتَطْت بِهِ فِي الشَّهَادَاتِ. وَإِنَّمَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ لَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُ لِكِبَرِ أَمْرِ الْحَدِيثِ، وَمَوْقِعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُتْرَكُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَيَخْتَلُّ مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ الْحَامِلُ لِلْحَدِيثِ يَجْهَلُ الْمَعْنَى لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ، هَذَا لَفْظُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ فَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ فِيهِ لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ، فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُخِلَّ مَعْنًى، ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ " فِي بَابِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: إنَّمَا صِرْت لِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ غَيْرِهِ، لِمَا رَأَيْته وَاسِعًا، وَسَمِعْته عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا، كَانَ عِنْدِي أَجْمَعُ، وَأَكْثَرُ لَفْظًا مِنْ غَيْرِهِ، فَأَخَذْت بِهِ. انْتَهَى.
خَامِسَ عَشَرَهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ السَّابِقِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا مَا سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا، فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ، وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْحَاكِمِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَّةِ هَذَا دِرْهَمًا. هَلْ تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُسْمَعُ، وَيُعْمَلُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُتَمَذْهِبًا بِمَذْهَبِ الْقَاضِي سُمِعَتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: زَنَيْت، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا زَانِي، لَمْ يَثْبُتْ الْقَذْفُ. كَمَا لَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَذْفٍ بَلَغَهُ.
حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ " فِي بَابِ الْإِقْرَارِ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ.

(6/375)


قَالَ: وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُك فِي كَذَا، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَذِنْت لَك فِي التَّصَرُّفِ، لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الْمُدَّعِي بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَآخَرُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، فَالْمَذْهَبُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، لَا تَلْفِيقَ، وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: تَلَفُّقٌ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الدُّيُونِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِيفَاءِ، وَقِيلَ بِخِلَافِهِ. قُلْت: لَكِنَّ ابْنَ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. سَادِسَ عَشَرَهَا: يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ الشَّاهِدِ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضُ شُهُودِ الزِّنَا لِنَقْصِ النِّصَابِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، حَتَّى يَتُوبُوا، وَفِي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَجْهَانِ فِي " الْحَاوِي ". قَالَ: الْأَشْهَرُ الْقَبُولُ، وَالْأَقْيَسُ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ.
سَابِعَ عَشَرَهَا: لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا يَحْفَظُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَمَاعَهُ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ؛ لِأَجْلِ إفْتَائِهِمْ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِهِ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِحِفْظِهِ بِمَا سَمِعَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ إمَامُهُ لِحِفْظِهِ مَقَامَ عِلْمِهِ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ.
قَالَ: وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ سَوَاءٌ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ. ثَامِنَ عَشَرَهَا: عَكْسُ مَا قَبْلِهِ، لَوْ تَحَقَّقَ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ،

(6/376)


لَكِنَّ اسْمَهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَوِّزْ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ، وَيَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ كَالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ ".
وَقَالَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا: لَوْ رَأَى اسْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَبَرٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ مِنْهُ، جَوَّزَ لَهُ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ كَالْإِجَازَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ. تَاسِعَ عَشَرَهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا تَعَارَضَتْ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا لِمُرَجِّحٍ، وَأَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، فَالْمَذْهَبُ التَّسَاقُطُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ. الْعِشْرُونَ: عِنْدَ الرِّوَايَةِ فِي الرِّوَايَةِ تُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ يَأْتِي فِي التَّرَاجِيحِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَفِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّحْدِيثِ خِلَافٌ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِجَوَازِ أَخْذِهَا لِمَنْ يَنْقَطِعُ عَنْ الْكَسْبِ.

ضَابِطٌ [أَسْمَاءُ الْخَبَرِ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ] الْخَبَرُ إنْ كَانَ حُكْمًا عَامًّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعَ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الْفَهْمَ مِنْ الْمَسْمُوعِ، فَهُوَ الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ، فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، هُوَ مُسْتَحِقُّهُ، أَوْ نَائِبُهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ تَصْدِيقِ هَذَا الْخَبَرِ، فَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ كَذِبِهِ فَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ، فَهُوَ النَّتِيجَةُ، وَيُسَمَّى قَبْلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ يُقْصَدُ مِنْهُ نَتِيجَتُهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ، وَجُزْؤُهُ مُقَدِّمَتُهُ.

(6/377)