التبصرة في أصول الفقه مسَائِل الْمُطلق والمقيد
مَسْأَلَة 1
لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي حكمين مُخْتَلفين كآية
الظِّهَار وَالْقَتْل من غير دَلِيل
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِنَفس
اللَّفْظ
لنا هُوَ أَن اللَّفْظ الْمُقَيد لَا يتَنَاوَل الْمُطلق فَلَا
يجوز أَن يحكم فِيهِ بِحكمِهِ من غير عِلّة
أَلا ترى أَن الْبر لما لم يتَنَاوَل الْأرز لم يجز أَن يحكم
فِيهِ بِحكمِهِ من غير عِلّة فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَلِأَن اللَّفْظ الْمُطلق لَا يتَنَاوَل الْمُقَيد فَلَو
جَازَ أَن يَجْعَل الْمُطلق مُقَيّدا لتقييد
(1/212)
غَيره لجَاز أَن يَجْعَل الْقَيْد مُطلقًا
لإِطْلَاق غَيره وَلما لم يجز أَحدهمَا لم يجز الآخر
وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَو جَازَ أَن يَجْعَل مَا أطلق مُقَيّدا
لتقييد غَيره لجَاز أَن يَجْعَل الْعَام خَاصّا لتخصيص غَيره
ولوجب أَن يَجْعَل الْمُطلق مَشْرُوطًا لدُخُول الشَّرْط فِي
غَيره وَهَذَا يمْنَع التَّقْيِيد بالْكلَام وَيبْطل الْفرق
بَين الْعَام وَالْخَاص وَهَذَا لَا يجوز
وَاحْتَجُّوا بِأَن حمل الْمُطلق على الْمُقَيد من جِهَة
اللَّفْظ لُغَة الْعَرَب
أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ {ولنبلونكم بِشَيْء من
الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات}
وَأَرَادَ نقص من الْأَنْفس وَنقص من الثمرات وَلكنه لما قَيده
بالأنفس اكْتفى بِهِ فِي الْبَاقِي وَقَالَ الله تَعَالَى
{والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} فقيافي أحد الجنسين
وَاكْتفى بِهِ فِي الْجِنْس الآخر وَقَالَ الشَّاعِر
وَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا
يليني
هُوَ الْخَيْر الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم الشَّرّ الَّذِي
هُوَ يبتغيني
فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر وَقَالَ الآخر
(1/213)
أَنا الرجل الحامي الذمار وَإِنَّمَا ...
يدافع عَن أحسابهم أَنا أَو مثلي
فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر
وَالْجَوَاب أَن فِيمَا ذَكرُوهُ إِنَّمَا يحمل الْمُطلق على
الْمُقَيد لِأَنَّهُ لَو لم يحمل الثَّانِي على الأول لالتبس
الْكَلَام وَلم يفد فَحمل أَحدهمَا على الآخر لموْضِع
الضَّرُورَة وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَة تَقْتَضِي الْحمل
وَلَفظ أَحدهمَا لَا يتَنَاوَل الآخر فَحمل كل وَاحِد
مِنْهُمَا على ظَاهره
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْقُرْآن من فاتحته إِلَى خاتمته كالكلمة
الْوَاحِدَة فَوَجَبَ ضم بعضه إِلَى بعض
قُلْنَا هَذَا دَعْوَى فَكيف يكون كَذَلِك وَهُوَ يشْتَمل على
معَان مُخْتَلفَة وأصناف شَتَّى من الْقَصَص والأمثال
وَالْأَحْكَام وَغير ذَلِك
ثمَّ لَو كَانَ هَذَا يُوجب حمل بعضه على بعض لوَجَبَ أَن يخص
كل عَام فِيهِ لِأَن فِيهِ مَا هُوَ مَخْصُوص وَيجْعَل كل أَمر
فِيهِ ندبا لِأَن فِيهِ مَا هُوَ مَنْدُوب وللزم أَن يَجْعَل
مَا قَيده فِيهِ مُطلقًا وَلم يكن حمل الْمُطلق على الْمُقَيد
بِأولى من حمل الْمُقَيد على الْمُطلق وَلما بَطل هَذَا بَطل
مَا قَالُوهُ
(1/214)
مَسْأَلَة 2
يجوز حمل الْمُطلق فِي أحد الْحكمَيْنِ على الْمُقَيد فِي
الحكم الآخر
(1/215)
من جِهَة الْقيَاس كالرقبة الْمُطلقَة فِي
كَفَّارَة الظِّهَار على الرَّقَبَة الْمقيدَة فِي كَفَّارَة
الْقَتْل بِالْإِيمَان
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا يجوز
لنا هُوَ أَن هَذَا تَخْصِيص عُمُوم لِأَن قَوْله تَعَالَى
{فَتَحْرِير رَقَبَة} عَام فِي الرَّقَبَة المؤمنة والكافرة
فَإِذا قُلْنَا إِن الْكَافِرَة لَا تجوز خصصنا الْكَافِرَة من
الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَتَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ
جَائِز كَسَائِر العمومات
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذِه زِيَادَة فِي النَّص وَالزِّيَادَة
فِي النَّص نسخ عندنَا والنسخ بِالْقِيَاسِ لَا يجوز
وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِزِيَادَة وَإِنَّمَا هُوَ
نُقْصَان بِالْحَقِيقَةِ لِأَن اللَّفْظ الْمُطلق يَقْتَضِي
جَوَاز كل رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت أَو كَافِرَة فَإِذا منعنَا
الْكَافِرَة فقد أخرجنَا بعض مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر
وَذَلِكَ نُقْصَان وَتَخْصِيص فَأَما أَن يكون زِيَادَة فَلَا
فَإِن قيل التَّخْصِيص هُوَ أَن يخرج من اللَّفْظ بعض مَا
تنَاوله وَقَوله تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} لَا يتَنَاوَل
الْإِيمَان فَمن اعْتبر ذَلِك فقد زَاد شرطا لَا يَقْتَضِيهِ
اللَّفْظ فَدلَّ على أَنه زِيَادَة
قُلْنَا اللَّفْظ وَإِن لم يتَنَاوَل الْإِيمَان فقد تنَاول
الْكَافِرَة فَإِذا قُلْنَا إِن الْكَافِرَة لَا تجزي فقد
أخرجنَا من اللَّفْظ بعض مَا تنَاوله بِعُمُومِهِ فَكَانَ
ذَلِك تَخْصِيصًا
وعَلى أَن الزِّيَادَة عندنَا لَيست بنسخ فَلَا يَصح مَا بنوا
عَلَيْهِ من الدَّلِيل
(1/216)
قَالُوا وَلِأَن الرَّقَبَة فِي الظِّهَار
مَنْصُوص عَلَيْهَا وَفِي الْقَتْل مَنْصُوص عَلَيْهَا
وَقِيَاس الْمَنْصُوص على الْمَنْصُوص لَا يجوز وَلِهَذَا لم
يجز قِيَاس صَوْم التَّمَتُّع على صَوْم الظِّهَار فِي إِيجَاب
التَّتَابُع وَلَا صَوْم الظِّهَار على صَوْم التَّمَتُّع فِي
إِيجَاب التَّفْرِيق
وَلِهَذَا لم يجز قِيَاس حد السّرقَة على حد قَاطع الطَّرِيق
فِي إِيجَاب قطع الرجل
وَلِهَذَا لم يجز قِيَاس التَّيَمُّم على الْوضُوء فِي إِيجَاب
مسح الرَّأْس وَالرجل
وَالْجَوَاب أَن فِي صَوْم التَّمَتُّع وَصَوْم الظِّهَار نَص
على حكمين متضادين فَحمل أَحدهمَا على الآخر إبِْطَال للنَّص
وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن اللَّفْظ فِي الظِّهَار مُطلق
وَفِي الْقَتْل مُقَيّد وَفِي أَحدهمَا عَام مُطلق وَفِي الآخر
خَاص مُبين فَيحمل أَحدهمَا على الآخر
وَأما حد السّرقَة فَإِنَّمَا لم يحمل على قطاع الطَّرِيق
وَلَا آيَة التَّيَمُّم على آيَة الْوضُوء فِي مسح الرَّأْس
وَالرجل لِأَن الْإِجْمَاع منع مِنْهُ وَمن شَرط الْقيَاس أَن
لَا يُعَارضهُ إِجْمَاع وَهَاهُنَا لم يُعَارضهُ إِجْمَاع
وَلَا غَيره فَجَاز قِيَاس أَحدهمَا على الآخر كقياس
التَّيَمُّم على الْوضُوء فِي إِيجَاب الْمرْفقين لما لم
يُعَارضهُ إِجْمَاع وَلَا غَيره أجزناه
(1/217)
|