التلخيص في أصول الفقه (8) القَوْل فِي حَقِيقَة النّظر
[28] إِن قيل: مَا حَقِيقَة النّظر؟
قيل: النّظر لفظ يتَرَدَّد بَين معَان، فقد يُطلق وَالْمرَاد
بِهِ الرُّؤْيَة، وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ الِانْتِظَار
والرقبى وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التحنن والتعطف وَقد يرد
وَالْمرَاد بِهِ الِاعْتِبَار.
[29] فَإِن قيل: فَمَا المُرَاد بِهِ فِي اصْطِلَاح
الْمُتَكَلِّمين؟
قيل: أَكثر النَّاس فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ هُوَ التَّأَمُّل
والتفكر فِي الدَّلِيل وَهَذَا مَدْخُول، فَإِن التدبر فِي
الشُّبْهَة يُسمى نظرا حَقِيقَة على اصْطِلَاح الْقَوْم.
(1/122)
وَالأَصَح فِي ذَلِك أَن يُقَال هُوَ
الْفِكر الَّذِي يطْلب بِهِ معرفَة الْحق فِي ابْتِغَاء
الْعُلُوم وغلبات الظنون وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ رَضِي الله
عَنهُ.
[30] ثمَّ يَنْقَسِم النّظر إِلَى الصَّحِيح وَالْفَاسِد مَعَ
اندراج الْقسمَيْنِ فِي حَقِيقَة النّظر.
[31] فَإِن قيل: قد أنْكرت طَائِفَة من الْعُقَلَاء إفضاءه
إِلَى الْعلم
(1/123)
فحققوا مذهبكم.
قيل: المطالب بذلك لَا يَخْلُو من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن
يكون قَاطعا بِبُطْلَان النّظر حاصرا للعلوم فِي مدارك
الْحَواس على مَا اشْتهر من مَذْهَب نفاة النّظر وَإِمَّا أَن
يكون مستريبا غير قَاطع.
[3 / أ] فَإِن كَانَ قَاطعا قيل لَهُ / ... من جحد النّظر
إِلَى جحد الضروريات.
وَأما ... النّظر وَبطلَان الْمصير إِلَى حصر الْعُلُوم فِي
مدارك الْحَواس. وَكَانَ السَّائِل قَاطعا فَإِن [قَالَ] لست
أقطع بِمذهب وَلَكِن أوضحُوا لي صِحَة افضاء الدَّلِيل على
الْمَدْلُول فأهون الطّرق عَلَيْهِ أَن نقُول: اعْتبر
الْأَدِلَّة فِي الْمسَائِل واختبرها تجدها سائقة إِلَى الْعلم
بالمدلولات. فَهَذَا من أحسن مَا يتَمَسَّك بِهِ على نفاة
النّظر.
(9) فصل
[32] النّظر على مَذَاهِب أهل الْحق لَا يُولد الْعلم بالمنظور
فِيهِ. وَقد
(1/124)
صَارَت الْقَدَرِيَّة إِلَى أَن النّظر
يُولد الْعلم وَقد صحت الْأَدِلَّة عَلَيْهِم فِي إِفْسَاد
التولد فِي جملَة الديانَات.
[33] فَإِن قَالُوا: النّظر إِذا صَحَّ وَارْتَفَعت
الْعَوَائِق فيعقبه الْعلم بالمنظور فِيهِ لَا محَالة فَدلَّ
أَنه يَقْتَضِيهِ وَلَا معنى لاقْتِضَائه إِيَّاه إِلَّا
التولد فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ تعلق الْعلَّة بمعلولها
بِدَلِيل أَن الْعلم بالمنظور لَا
(1/125)
يساوق النّظر.
قيل لَهُم: قد يجب وجود الشَّيْء مَعَ الشَّيْء أَو بعده من
غير إِيجَاب عَنهُ وَثُبُوت تولد. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ وجوب
وجود الْكَوْن مَعَ وجود الْجَوْهَر. ثمَّ لَا يدل ذَلِك على
أَن أَحدهمَا يُولد الآخر. وَكَذَلِكَ إِرَادَة الشَّيْء لَا
تتَحَقَّق دون الْعلم ثمَّ لَا يُوجب ذَلِك تولداً. وَمن أوضح
مَا يتَمَسَّك بِهِ عَلَيْهِم أَن نقُول: قد وافقتمونا معاشر
الْمُعْتَزلَة على أَن من نظر وَعلم ثمَّ ذهلت نَفسه عَن
النّظر وتذكر فيعقب التَّذَكُّر الْعلم كَمَا يعقب ابْتِدَاء
النّظر ثمَّ اجْتَمَعْتُمْ على أَن تذكر
(1/126)
النّظر لَا يُوجب الْعلم.
فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي يصدهم عَن ارْتِكَاب ذَلِك؟
قيل: لَو قَالُوهُ نسبوا إِلَى هدم مُعظم أصولهم. وَذَلِكَ
أَنهم وافقونا على أَن التَّذَكُّر للدليل السَّابِق قد يحصل
ضَرُورِيًّا من فعل الله عز وَجل فَلَو كَانَ مولودا للْعلم
بالمدلول لزم مِنْهُ كَون الْعلم بالمدلول فعلا لله تَعَالَى و
... ذَلِك يسوقهم إِلَى تَجْوِيز كَون معرفَة الله تَعَالَى من
فعل الله وَهَذَا من أعظم مَا ينكرونه.
(10) فصل
[34] فَإِن قيل: إِذا صَحَّ النّظر فِي الدَّلِيل تضمن
الْإِفْضَاء إِلَى الْعلم بالمدلول فَهَل تَقولُونَ: إِن
النّظر الْفَاسِد والفكر فِي الشُّبْهَة يُؤَدِّي إِلَى
الْجَهْل والريب؟
قيل: النّظر فِي الشُّبُهَات لَا يَقْتَضِي جهلا وَلَا شكا
وَكَذَلِكَ كل نظر فَاسد لَا يتَضَمَّن شَيْئا من أضداد
الْعلم. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الدَّلِيل يتَعَلَّق
بمدلوله على وَجه يُؤَدِّي النّظر فِيهِ إِلَى الْعلم
بالمدلول. وَأما الشُّبْهَة فَلَا تعلق
(1/127)
لَهَا بأضداد الْعُلُوم حَتَّى تقتضيها
لتعلقها بهَا اقْتِضَاء الدَّلِيل الْعلم بالمدلول.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَيْضا أَن النّظر فِي الشُّبْهَة لَو
كَانَ يَقْتَضِي جهلا لزم اطراد هَذَا الِاقْتِضَاء. وَنحن
نعلم أَن الْعَالم بحقائق الشُّبُهَات إِذا نظر لم تسقه إِلَى
الْجَهْل وَالدَّلِيل لما كَانَ مقتضيا للْعلم بالمدلول يَقُود
كل من صَحَّ نظره فِيهِ إِلَى الْعلم [بالمدلول] .
(11) القَوْل فِي شَرَائِط صِحَة الْوُجُوه الَّتِي مِنْهَا
تدل النَّاظر
[3 / ب] [35] اعْلَم أَن النّظر إِنَّمَا / يَصح بشرائط ...
أَن لَا يكون النَّاظر
(1/128)
عَالما [بالمطلوب] لِأَن الْعلم بالشَّيْء
يُنَافِي الا [ستدلال] .
[فَإِن قيل:] الْعَالم منا ينصب طرقا من الْأَدِلَّة على مَا
علمه بعد حُصُول إِلَّا ...
قيل: الْأَدِلَّة الَّتِي ينصبها لَا تُفْضِي بِهِ إِلَى
الْعلم. وَلَيْسَ مقْصده التَّوَصُّل بهَا إِلَى الْعلم
فَإِنَّهُ متصف بِهِ، وَإِنَّمَا [مرامه] أَن يتَوَصَّل إِلَى
تمهيد الطّرق وليعلم أَنَّهَا تنزل منزلَة أول دَلِيل اعْتصمَ
بِهِ فمطلوبه جعلهَا أَدِلَّة لَا التَّوَصُّل إِلَى مدلولها.
وَمن شَرَائِط النّظر كَمَال عقل النَّاظر.
وَمن شَرَائِطه أَيْضا أَن يعلم الْوُجُوه الَّتِي مِنْهَا تدل
الْأَدِلَّة وَلَا يَكْفِيهِ الْعلم بِذَات الدّلَالَة مَعَ
الذهول عَن الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ تدل الدّلَالَة.
فَإِذا تجمعت هَذِه الشَّرَائِط فأنهى النَّاظر وَلم يعقه عائق
وَلم يعقب كَمَال النّظر آفَة تضَاد حُصُول الْعلم بالمنظور
فِيهِ فَيحصل الْعلم لَا محَالة وَإِذا اخْتَلَّ شَرط من هَذِه
الشَّرَائِط فسد وَلم يفض إِلَى الْعلم.
(12) القَوْل فِي وجوب النّظر
[36] فَإِن قيل: هَل يجب النّظر عنْدكُمْ؟
(1/129)
قيل: أجل.
فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على وُجُوبه أبموجب الْعقل تدركونه
أم بقضية السّمع؟
قيل: لَا تدْرك الْوَاجِبَات على أصُول أهل الْحق بقضية
الْعقل. وَلكنهَا تدْرك بموجبات الْأَدِلَّة السمعية.
فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على وجوب النّظر سمعا؟
قيل: قد ثَبت وجوب المعارف اتِّفَاقًا. وَقد ثَبت تعلق
التَّكْلِيف بهَا ثمَّ تحقق انقسام الْعُلُوم إِلَى الضرورية
والكسبية، وَثَبت توقف الكسبية على قَضِيَّة الْأَدِلَّة فَفِي
الِاتِّفَاق على وجوب المعارف مَعَ توقفها على صَحِيح النّظر
أوضح الدّلَالَة على وُجُوبه فَإِن وجوب الشَّيْء يَقْتَضِي
وجوب مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ.
(1/130)
(13) فصل
[37] فَإِن قيل: فَهَل تطلقون اسْم الدّلَالَة على أَخْبَار
الْآحَاد والمقاييس والعبر الْمُقْتَضِيَة وجوب الْعَمَل دون
الْعلم؟
قيل: مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين أَن اسْم
الدّلَالَة يتخصص بِمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَدِلَّة
السمعية والعقلية. فَأَما مَا لَا يَقْتَضِي الْعلم فَسمى
أَمارَة
(1/131)
وَهَذَا لَو رد إِلَى حَقِيقَة اللُّغَة
فِي الْإِطْلَاق لم يبعد. فَإِن الْعَرَب لَا تفصل فِي هَذَا
الْمَقْصد بَين الْإِمَارَة وَالدّلَالَة. وَلَو قلب قالب مَا
قدمْنَاهُ فِي التَّرْتِيب فَسمى الدّلَالَة المفضية إِلَى
الْعلم أَمارَة، وَمَا يَقْتَضِي غَلَبَة الظَّن دلَالَة، لم
يكن مُبْعدًا أَن أَرْبَاب الْحَقَائِق اصْطَلحُوا على مَا
قدمْنَاهُ. وراموا بذلك تَحْقِيق الجنسين. وَهَذَا اخْتِلَاف
هَين الْمدْرك.
وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى تَسْمِيَة الْكل دلَالَة.
[38] ثمَّ أعلم أَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي وسمعي.
فاما الْعقلِيّ فينقسم إِلَى مَا يَقْتَضِي الْقطع وَإِلَى مَا
لَا يَقْتَضِيهِ.
فَأَما مَا يَقْتَضِي الْقطع فنحو الْأَدِلَّة فِي أصُول
العقائد.
وَأما مَا لَا يَقْتَضِي الْقطع ويتشبث فِيهِ بشواهد الْعقل
فنحو تَقْوِيم
(1/132)
المقومات وَحصر مبالغ النَّفَقَات المترتبة
على مقادير الْحَاجَات فَهَذَا / ... [4 / أ] [" وَكَذَلِكَ
السمعي يَنْقَسِم إِلَى مَا يَقْتَضِي الْقطع وَهُوَ يتَضَمَّن
الْعلم، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ كأخبار الْآحَاد
والمقاييس السمعية، فَكَمَا لَا يُوصف باقتضاء الْعلم، لَا
يُوصف باقتضاء غَلَبَة الظَّن، و "] هَذَا مِمَّا يزل فِيهِ
مُعظم الْفُقَهَاء وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك يداني مَا
قدمْنَاهُ من عدم إفضاء الشُّبْهَة إِلَى الْجَهْل. وَفِيمَا
قدمْنَاهُ مقنع وَلَكِن قد تعم الْعَادة بِحُصُول غلبات الظنون
فِي أَثَرهَا من غير أَن تكون متضمنة لَهَا.
(14) القَوْل فِيمَا يعلم عقلا وسمعا تَخْصِيصًا أَو جمعا
[39] اعلموا وفقكم الله أَن من الْعُلُوم مَا لَا يتَوَصَّل
إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة الْعُقُول.
وَمِنْهَا مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة السّمع،
وَمِنْهَا مَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بِدلَالَة سمعية تَارَة
وعقلية أُخْرَى.
فَأَما مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ من الْعُلُوم الكسبية
إِلَّا بأدلة الْعُقُول فَهِيَ كل علم لَا تتمّ معرفَة
الوحدانية والنبوات إِلَّا
(1/133)
بِهِ ثمَّ المعارف تَنْقَسِم فِي ذَلِك على مَا يستقصى فِي
الديانَات. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن دلَالَة السّمع لَا
تثبت فِي حق من لم يحط علما بِثُبُوت الْمُرْسل والمرسل،
فاستحال تلقي هَذِه الْعُلُوم من الدّلَالَة الَّتِي لَا تثبت
إِلَّا بتقديمها. وَأما مَا ينْحَصر دركه فِي الدّلَالَة
السمعية فَهُوَ جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي
مِنْهَا التقبيح والتحسين وَالْوُجُوب وَالنَّدْب
وَالْإِبَاحَة والحظر إِلَى غَيره من مجاري الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة. وَأما مَا يَصح أَن يعلم بِالْعقلِ تَارَة
وبالسمع أُخْرَى فَهُوَ كل علم لَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام
التَّكْلِيف وَلَا يتَوَقَّف التَّوْحِيد والنبوة على
الْإِحَاطَة بِهِ. وَذَلِكَ نَحْو دَرك جَوَاز الرُّؤْيَة
وَالْعلم بِجَوَاز الغفران للمذنبين وَالْعلم بِصِحَّة
التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِلَى
غير ذَلِك من الشواهد. |