الرسالة للشافعي

 [باب العلم] (1)

(1/355)


قال "الشافعي": فقال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟
فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ.
قال: ومِثْل ماذا؟
قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى [ص:358] هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه.
وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً (2) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
[ص:359] وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ.
قال: فما الوجه الثاني؟
قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا.
قال: فيَعْدُو هذا أن يكون واجِبًا وجوبَ العلم قبله؟ أوْ مَوْضوعاً عن الناس عِلْمُه، حتَّى يكونَ مَنْ عَلِمَهُ مُنْتَفِلاً، [ص:360] ومَنْ تَرَكَ علْمَه غيرَ آثِمٍ بِتركه، أو مِنْ وَجْهٍ ثالثٍ، فتُوجِدُنَاهُ خَبَرًا أو قياسا؟
فقلت له: بلْ هو مِن وجه ثالثٍ.
قال: فصِفْهُ واذْكر الحجَّةَ فيه، ما يَلْزَمُ منه، ومَنْ يَلْزَمُ، وعنْ مَنْ يَسْقُطُ؟
فقلت له: هذه درجةٌ مِن العلم ليس تَبْلُغُها العامَّةُ، ولم يُكَلَّفْهَا كلُّ الخاصَّة، ومَن احتمل بلوغَها مِن الخاصة فلا يَسَعُهُمْ كلَّهم كافةً أنْ يُعَطِّلُوهَا، وإذا قام بها مِن خاصَّتِهم مَنْ فيه الكفايةُ لم يَحْرَجْ غيرُه ممن تَرَكَها، إن شاء الله، والفضْل فيها لمن قام بها على مَنْ عَطَّلَهَا.

(1/357)


فقال: فأوْجِدْنِي هذا خبراً أو شيئاً في معناه، ليكون هذا قياساً عليه؟
[ص:361] فقلتُ له: فَرَضَ اللهُ الجِهادَ في كتابه وعلى لسانِ نبِّيه، ثم أكَّدَ النَّفِير مِن الجهاد، فقال: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالقُرَآن، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) " [التوبة] .
وقال: " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) " [التوبة] .
وقال: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) " [التوبة] .
وقال: " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [ص:362] مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) " [التوبة] .
أخبرنا "عبد العزيز" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سَلَمَةَ" عن "أبي هريرة" قال: قال رسولُ الله: " لاَ أزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ " (1) .
وقال الله - جَلَّ ثناؤه -: " مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ؟ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) " [التوبة] .
وقال: " انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ [ص:363] وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) " [التوبة] .
قال: فاحتملت الآيات أن يكون الجهاد كلُّه والنفيرُ خاصة منه: على كل مُطِيقٍ له، لا يَسَعُ أحَدًا منهم التخَلُّف عنه، كما كانت الصلوات والحجُّ والزَّكاة، فلم يخرج أحَدٌ وَجَبَ عليه فرْضٌ منها مِنْ أنْ يؤدِّيَ غيرُهُ الفرْضَ عن نفسه، لأنَّ عَمَلَ أحَدٍ في هذا لا يُكْتب لغيره.
واحتملت أن يكون معنى فرْضِها غيرَ معنى فرْضِ الصلوات، وذلك أن يكون قُصِدَ بالفرض فيها قصْدَ الكِفاية، فيكونَُ مَن قام بالكفاية في جهاد مَنْ جُوهِدَ مِن المشركين مُدْرِكًا تأديةَ الفرض ونافِلَةَ الفضْل، ومُخْرِجًا مَن تَخَلَّفَ مِن المَأْثَمِ.
ولمْ يُسَوِّي (2) اللهُ بينهما، فقال الله: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ص:364] بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) " [النساء] ، فأما الظاهر في الآيات فالفَرْضُ على العامَّة.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان/24؛ مسلم: كتاب الإيمان/32؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3264؛ النسائي: كتاب تحريم الدم/3908.
(2) هكذا هي بإثبات الياء وقدمنا مراراً أنه جائز.

(1/360)


قال: فأبِنِ الدِّلالة في أنه إذا قام بعضُ العامَّةِ بالكِفاية أخْرَجَ المُتَخَلِّفينَ مِنَ المَأْثَمِ؟
فقلت له: في هذه الآية.
قال: وأين هو منها؟
[ص:365] قلتُ: قال اللهُ: " وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "، فوَعَدَ المتخلفين عن الجِهاد الحُسْنَى على الإيمان، وأبان فضيلةَ المجاهدين على القاعِدين، ولو كانوا آثمين بالتخلف إذا غَزَا غيرُهم: كانت العقوبة بالإثم - إن لم يعفو اللهُ - أوْلَى بهم مِنَ الحُسنى.
قال: فهل تجد في هذا غيرَ هذا؟
قلت: نعم، قال الله: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) " [التوبة] ، وغَزَا رسولُ الله، وَغَزَّى معه مِن أصْحابه جماعةً وخَلَّفَ أُخْرَى، حتى تَخَلَّفَ [ص:366] "علي بن أبي طالب" في غزوة تبوك، وأخْبَرَنا اللهُ أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَنْفِرُوا كافَّةً: " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ "، فأخْبَرَ أنَّ النَّفِيرَ على بعضهم دون بعضٍ، وأنَّ التَّفَقُّهَ إنما هو على بعضهم دون بعض.
وكذلك ما عَدَا الفرْضَ في عُظْمِ الفرائض التي لا يَسَعُ جَهْلُها، والله أعْلَمُ.
وهكذا كلُّ ما كان الفرْضُ فيه مَقْصوداً به قصْدَ الكِفاية فيما يَنوبُ، فإذا قام به من المسلمين مَنْ فيه الكفاية خَرَجَ مَنْ تَخَلَّفَ عنه مِنَ المَأْثَمِ.
ولو ضَيَّعُوهُ مَعًا خِفْتُ أنْ لا يَخرج واحِدٌ منهم مُطِيقٌ فيه مِن المأثم، بَلْ لا أشُكُّ، إن شاء الله، لِقوْله: " إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
[ص:367] قال: فَمَا معناها؟
قلت: الدِّلالة عليها أنَّ تخلُّفَهمْ عَن النَّفير كافَّةً لا يَسَعُهم، ونَفِيرَ بعْضهم - إذا كانت في نفيره كفايةٌ - يُخْرِجُ مَنْ تَخَلَّفَ مِن المأثم، إن شاء الله، لأنه إذا نَفَرَ بعضُهم وقع عليهم اسم "النَّفِير".

(1/364)


قال: ومثلُ ماذا سِوى الجِهادِ؟
قلت: الصلاة على الجنازة ودفْنُها، لا يحل تركها، ولا يجب على كُلِّ مَنْ بِحَضْرَتِهَا كلِّهم حُضورُها، ويُخْرِجُ مَن تَخَلَّفَ مِن المأثم مَن قام بكِفايتها.
[ص:368] وهكذا رَدُّ السلام، قال الله: " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) " [النساء] .
وقال رسولُ الله: " يُسَلِّمُ القَائِمُ عَلَى القَاعِدِ " (1) ، و" إِذَا سَلَّمَ مِنَ القَوْمِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ " (2) ، وإنما أُريدَ بهذا الرَّدُّ، فَرَدُّ القليل جامِعٌ لاسم "الرَّدّ"، والكفاية فيه مانعٌ لِأنْ يكونَ الرَّدُّ مُعَطَّلاً.
ولم يَزَلِ المسلمون على ما وصفْتُ، مُنْذُ بعثَ اللهُ نَبِيَّهُ - فيما بَلَغَنا - إلى اليوم، يَتَفَقَّهُ أقَلُّهُمْ، ويَشْهَدُ الجنائِزَ بعضُهم، ويجاهدُ ويرُدُّ السلامَ بعضُهم، ويتخلف عَنْ ذلك غيرُهم، فيعرفون [ص:369] الفضْلَ لمن قام بالفقه والجهاد وحضورِ الجنائز وردِّ السلام، ولا يُؤَثِّمُونَ مَنْ قَصَّرَ عن ذلك، إذا كان بهذا قائمون بكِفَايَتِهِ.
__________
(1) بلفظ: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير" في: الالبخاري: كتاب الاستئذان/5774؛ مسلم: كتاب السلام/4019؛ الترمذي: كتاب الإستئذان والآداب/2627.
(2) مالك: كتاب الجامع/1512.

(1/367)


[باب خبر الواحد] .

(1/369)


فقال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم، حتى يَثْبَتَ عليهم خبرُ الخاصَّة.
فقلت: خبرُ الواحد عن الواحد حتى يُنْتَهَى به إلى [ص:370] النبي أو مَنْ انتهى به إليه دونه.
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يَجْمَعَ أُموراً:
- منها أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه، معروفاً بالصِّدق في حديثه، عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به، عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ، وأن يكون ممن يُؤَدِّي الحديث بحروفه كما سَمِعَ، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدَّث على المعنى وهو غيرُ [ص:371] عالمٍ بما يُحِيلُ به معناه: لم يَدْرِ لَعَلَّهُ يُحِيل الحَلاَلَ إلى الحرام، وإذا أدَّاه بحروفه فلم يَبْقَ وجهٌ يُخاف فيه إحالتُهُ الحديثَ، حافظاً إن حدَّث به مِنْ حِفْظِه، حافظاً لكتابه إن حدَّث مِنْ كتابه. إذا شَرِكَ أهلَ الحفظ في حديث وافَقَ حديثَهم، بَرِيًّا مِنْ أنْ يكونَ مُدَلِّساً، يُحَدِّثُ عَن من لقي ما لم يسمعْ منه، ويحدِّثَ عن النبي ما يحدث الثقات خلافَه عن النبي.
ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّن حدَّثه، حتى يُنْتَهَى بالحديث مَوْصُولاً إلى النبي أو إلى مَنْ انْتُهِيَ به إليه دونه، لأنَّ كلَّ [ص:372] واحد منهم مثْبِتٌ لمن حدَّثه، ومثبت على من حدَّث عنه، فلا يُسْتَغْنَى في كل واحد منهم عمَّا وصفْتُ.
فقال: فأوْضِحْ لي مِن هذا بشيء لعَلِّي أكونُ به أعرَفَ مِنِّي بهذا، لِخِبْرَتي به وقِلَّة خبْرَتي بما وصفْتَ في الحديث؟
فقلت له: أتريد أن أخبرك بشيء يكون هذا قياساً عليه؟
قال: نعم.
قلت: هذا أصلٌ في نفْسِهِ، فلا يكون قياساً على غيره، لأن القياس أضْعَفُ مِن الأصْل.
قال: فلسْتُ أريد أن تجعله قياساً، ولكنْ مَثِّلْه لي على شيء من الشهادات، التي العِلْم بها عامٌّ.
قلت: قد يخالف الشهاداتِ في أشْياءَ، ويُجَامِعُها في غيرها.
[ص:373] قال: وأيْن يُخالِفها؟
قلت: أقْبَلُ في الحديث الواحدَ وَالمَرْأَةَ، ولا أقْبل واحِداً منهما وحْدَه في الشهادة.
وأقبلُ في الحديث: (حدَّثَنِي فُلانٌ عَنْ فُلاَنٍ) ، إذا لم يكن مُدَلِّسًا، ولا أقبل في الشهادة إلا: (سَمِعْتُ) أو (رَأيْتُ) أو (أَشْهَدَنِي) .
وتختلف الأحاديث، فآخُذُ بِبَعْضها، استدلالاً بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذا لا يُؤْخَذُ به في الشهادات هكذا، ولا يُوجد فيها بحال.
ثم يكون بشرٌ كلُّهم تجوز شهادتُه ولا أقْبَلُ حديثَه، مِنْ قِبَلِ ما يَدْخُلُ في الحديث مِنْ كثْرة الإحالة، وإزالة بعض ألفاظ المعاني.
ثم هو يُجَامِعُ الشهاداتِ في أشياءَ غيْرِ ما وصفْتُ.

(1/369)


فقال: أمَّا ما قُلْتَ مِن ألاَّ تَقْبَلَ الحديثَ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ حافِظٍ عالِمٍ بما يُحِيلُ معنى الحديث: فكَما قلْتَ، فَلِمَ لمْ تَقُلْ هكذا في الشهادات؟
فقلْتُ: إنَّ إحالةَ معنى الحديث أخْفَى مِن إحالة معنى الشهادة، وبهذا احْتطتُ في الحديث بأكثرَ مما احتطتُ به في الشهادة.
قال: وهكذا كما وصفْتَ، ولكِنِّي أنْكرْتُ - إذا كان مَنْ يُحَدَّثُ عنه ثِقةً فحَدَّثَ عنْ رجلٍ لم تعرِفْ أنْت ثقتَه -: [ص:375] امْتِناعَكَ من أنْ تُقَلِّدَ الثقةَ، فَتُحْسِنَ الظَّنَّ به، فلا تترُكَه يَرْوِي إلاَّ عن ثقةٍ، وإنْ لم تعْرِفْهُ أنْتَ؟!
فقلتُ له: أرأيْتَ أربعَةَ نَفَرٍ عُدولٍ فُقَهاءَ شَهِدوا على شهادة شاهدَين بِحَقٍّ لِرَجُلٍ على رجل: أكنْتَ قاضِيًا به ولم يقل لك الأربعةُ: إنَّ الشاهدَين عَدْلانِ؟
قال: لا، ولا أقطع بشهادتهما شيئاً حتى أعْرِفَ عدْلَهُما، إمَّا بتعديل الأربعة لهما، وإمَّا بتعديل غيرِهم، أو مَعْرِفَةً مِنِّي بِعدْلهما.
فقلتُ له: ولِمَ لَمْ تَقْبَلْهُما على المعنى الذي أمرْتني أن أقْبَلَ عليه الحديثَ، فتقولَ: لم يكونوا لِيَشْهَدوا إلاَّ عَلَى مَنْ هو أعْدَلُ عندهم؟
فقال: قد يَشْهدون على مَنْ هو عدْلٌ عنْدهم، ومَنْ [ص:376] عَرَفوه ولمْ يَعْرِفوا عدْلَه، فلَمَّا كان هذا موْجوداً في شهادَتهم لم يكن لي قبولُ شهادةِ مَنْ شهِدوا عليه حتى يُعَدِّلوه، أوْ أعرِفَ عدْلَه وعدْلَ مَنْ شَهِدَ عِنْدي على عدْل غيْرِه، ولا أقْبَلُ تعديلَ شاهِدٍ على شاهدٍ عَدَّلَ الشاهدُ غيرَه ولمْ أعْرف عدْلَهُ.
فقلتُ: فالحجة في هذا لكَ الحُجَّةُ عليك: في ألاَّ تَقْبَلَ خبَرَ الصَّادِق عَن منْ جَهِلْنا صدْقَه.
والناس مِن أنْ يشْهَدوا على شهادَة مَنْ عرَفوا عدْلَه: أشَدُّ تَحَفُّظًا مِنْهُمْ مِنْ أنْ يَقْبَلُوا إلاَّ حديثَ مَنْ عرَفوا صِحَّةَ حديثه.
وذلك: أنَّ الرجل يَلْقَى الرجُلَ يَُرَى عليه سِيما الخير، فيُحْسنُ الظنَّ به، فيَقْبلُ حديثَه، ويقْبَلُه وهو لا يَعْرِف [ص:377] حالَه، فيَذْكُرُ أنَّ رجُلاً يُقال له: (فلان) حدَّثَنِي كذا، إمَّا على وجْهٍ يرْجو أنْ يجِدَ عِلْمَ ذَلِك الحديث عنْدَ ثِقة فيقبَلَه عن الثقة، وإمَّا أن يحدث به على إنكاره والتعجب منه، وإمَّا بِغفْلةٍ في الحديث عنه.
ولا أعْلَمُنِي لَقِيتُ أحَداً قَطُّ بَرِيًّا مِن أنْ يحدث عنْ ثِقةٍ حافِظٍ وآخَرَ يُخَالِفه.
ففَعَلْتُ في هذا ما يجبُ عليَّ.
ولم يكن طَلَبِي الدَّلائلَ على معرفة صِدق مَنْ حدَّثني بأوْجَبَ عليَّ مِن طلبي ذلك على معرفة صدْقِ مَن فَوْقَه، لأني أحتاجُ في كلهم إلى ما أحتاج إليه فيمن لقِيتُ مِنهم، لأنَّ كلَّهم مُثْبِتٌ خَبَرًا عن من فوقه ولِمَنْ دونه.

(1/374)


فقال: فما بالُك قبِلْتَ ممن لم تعرفه بالتَّدْليسِ أن يقول: (عن) ، وقد يُمْكِنُ فيه أنْ يكونَ لمْ يسْمَعْه؟
فقلت له: المسلمون العُدول عُدولٌ أصِحَّاءُ الأمْر في أنفسهم، وحالُهُم في أنفسهم غيرُ حالهم في غيرهم، ألا ترى أنِّي إذا عرَفتهم بالعدل في أنفسهم قَبِلْتُ شَهادَتهم، وإذا شَهِدوا على شهادة غيرِهم لمْ أقْبلْ شهادَة غيرِهم حتى أعرف حاله؟! ولم تكن معرفتي عدْلَهم معرفتي عدلَ من شَهِدوا على شهادَتِه.
وقولُهم عن خبر أنفسهم وتسميتُهم: على الصِّحة، حتى نسْتَدِلَّ مِنْ فِعلهم بما يخالف ذلك، فَنَحْتَرِسَ منهم في الموضع الذي خالَف فِعْلُهم فيه ما يجب عليهم.
ولم نَعْرِفْ بالتدليس بِبَلدنا، فيمن مضى ولا مَنْ [ص:379] أدْرَكْنا مِن أصحابنا، إلاَّ حديثاً فإن منهم من قبله عن من لو تركه عليه كان خيراً له.
وكان قول الرجل: (سمعتُ فلاناً يقول سمعت فلاناً) وقولُه: (حدّثَني فلانٌ عنْ فُلان) : سَواءً عنْدهم، لا يحدِّثُ واحد منهم عن من لَقِيَ إلاَّ ما سَمِع منه ممن عَنَاه بهذه الطريق، قَبِلْنا منه: (حدثني فلان عن فلان) .
ومَن عرَفْناه دلَّس مَرَّةً فقَدْ أبَان لَنَا عوْرَته في رِوايتِه.
وليستْ تلك العورةُ بالكذب فنَرُدَّ بها حديثَه، ولا النَّصيحَةِ في الصِّدق، فنقْبَلَ مِنه ما قَبِلْنا مِن أهل النصيحة في الصدق.
[ص:380] فقلْنا: لا نقبل مِن مُدَلِّسٍ حديثاً حتى يقولَ فيه: (حدثني) أو (سمعْتُ) .

(1/378)


فقال: قَدْ أراكَ تقْبَل شهادَة من لا يُقْبَل حديثُه؟
قال: فقلتُ: لِكِبَرِ أمْر الحديث ومَوْقِعه مِن المسلمين، ولمعنى بَيِّنٍ.
قال: وما هو؟
قلت: تكون اللَّفْظةُ تُتْركُ مِن الحديث فتُحيلُ معناه، أو يُنْطَقُ بها بِغير لَفْظَة المُحَدِّث، والناطِق بها غيرُ عامِدٍ لإحالة الحديث: فيُحِيلُ معْناه.
فإذا كان الذي يحملُ الحديثَ يجهَلُ هذا المعنى، كان غيرَ عاقِل للحديث، فلمْ نقْبَل حديثَه، إذا كان يحمل ما لا يَعْقِلُ، إن [ص:381] كان ممن لا يُؤَدِّي الحديثَ بِحُروفِه، وكان يَلْتَمِس تأديته على معانيه، وهو لا يعقِلُ المعنى.
قال: أفيكونُ عَدْلًا غَيْرَ مَقْبول الحديث؟
قلت: نَعَمْ، إذا كان كما وصفْتُ كان هذا مَوْضِعَ ظِنَّةٍ بَيِّنَةٍ يُرَدُّ بها حدُيثه، وقد يكون الرجل عدلاً على غيره ظَنِينَاً في نفسه وبعض أقْرَبِيه، ولعلَّه أنْ يَخِرَّ من بُعْدٍ أهْوَنُ عليه مِن أنْ يَشْهَد بِبَاطلٍ، ولكنْ الظِّنَّةُ لَمَّا دَخَلَتْ عليه تُرِكَتْ بها شهادتُه، فالظِّنَّةُ ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه: أبْيَنُ منها في الشَّاهِد لمن تُرَدُّ شهادتُه فيما هو ظَنِينٌ فيه بحال.
وقد يُعْتَبَرُ على الشُّهود فيما شهدوا فيه، فإن استدللنا على مَيْلٍ نسْتَبِينُهُ أو حِيَاطَةٍ بمُجاوزة قصْدٍ للمشهود له: [ص:382] لمْ نَقْبَلْ شهادَتهم، وإنْ شهِدوا في شيء مما يَدِقُّ ويذْهَبُ فَهْمُه عليهم في مِثْل ما شهِدوا عليه: لمْ نقْبَلْ شهادَتهم، لأنهم لا يعقلون معنى ما شهدوا عليه.
ومَنْ كَثُرَ غَلَطُه مِن المحدثين ولم يكن له أصْلُ كِتَابٍ صحيح: لم نقبل حديثَه، كما يكون مَنْ أكْثَرَ الغَلَطَ في الشهادة لم نقبل شهادَته.
وأهلُ الحديث مُتَبَايِنُونَ:
- فمِنْهم المعروف بعِلْمِ الحديث، بطلَبه وسماعه مِن الأب والعمِّ وذَوِي الرَّحِمِ والصَّدِيقِ، وطُولِ مُجالَسَة أهلِ التَّنازُع فيه، ومَنْ كان هكذا كان مُقَدَّمًا في الحِفْظ، إنْ خالَفه مَنْ يُقَصِّرُ [ص:383] عنه كان أوْلَى أنْ يُقْبَل حديثُه ممن خالفه مِنْ أهل التقصير عنه.
ويُعْتَبَرُ على أهْلِ الحديث بأنْ إذَا اشْتَرَكُوا في الحديث عن الرَّجُل بِأنْ يُسْتَدَلَّ على حِفْظ أحدِهم بِمُوَافَقَةِ أهْل الحِفْظ، وعلى خلاف حِفْظه بخلاف حفظ أهْلِ الحِفْظِ له.
وإذا اختلفَت الروايةُ استدللنا على المحفوظ منها والغَلَط بهذا، ووُجُوهٍ سِواه، تدُلُّ على الصدق والحفظ والغلط، قد بيَّناها في غير هذا الموضع، وأسأل الله التوفيق.

(1/380)


فقال: فما الحجَّةُ لك في قَبول خبر الواحد وأنْتَ لا تُجِيز شَهادَة واحِدٍ وحْده؟ وما حجتك في أنْ قِسْتَهُ بالشهادَة في أكْثَرِ أمْره، وفَرَّقْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشهادَةِ في بعْض أمْره؟
[ص:384] قال: فقلْتُ له: أنتَ تُعِيدُ ما قد ظَنَنْتُكَ فَرَغْتَ مِنه!! ولمْ أَقِسْهُ بالشَّهادَة، إنَّمَا سألْتَ أنْ أمَثِّلَهُ لَكَ بشيء تعرفه، أنتَ به أخبرُ منك بالحديث، فَمَثَّلْتُهُ لك بذلك الشيء، لا أنِّي احْتَجْتُ لأنْ يكون قياساً عليه.
وتَثْبِيتُ خبر الواحد أقْوى مِنْ أنْ أحْتاج إلى أنْ أُمَثِّلَهُ بغيره، بَلْ هُوَ أصْلٌ في نفْسِه.
قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارِقُ بعْضَ معانِيها في غيره؟
فقلت له: هو مخالف للشهادة - كما وصفْتُ لك - في بعض أمْره، ولو جَعَلْتُهُ كالشهادة في بعض أمره دون بعضٍ كانت الحجة لي فيه بَيِّنَةً، إنْ شاء الله.
[ص:385] قال: وكيْف ذلك، وسبيلُ الشهادات سبيلٌ واحِدة؟
قال: فقلْتُ: أتعني في بعض أمرها دون بعض؟ أمْ في كلِّ أمْرها؟
قال: بلْ في كلِّ أمْرِها.
قلتُ: فَكَمْ أقَلُّ ما تَقْبَلُ علَى الزِّنا؟
قال: أربعة.
قلتُ: فإن نَقَصُوا واحِد جَلَدْتَهم؟
قال: نعم.
قلت: فكم تقبل على القتل والكفر وقطع الطريق الذي تَقْتُلُ به كلِّه؟
قال: شاهِدين.
قلت له: كم تقْبل على المال؟
[ص:386] قال: شاهِدًا وامْرأتَيْنِ.
قلت: فكَمْ تقبل في عُيوب النِّساء؟
قال: امْرَأةً.
قلت: ولَوْ لم يُتِمُّوا شاهِدَيْن وشاهِدًا وامْرأتين: لم تَجْلِدْهُم كما جَلَدْتَ شُهودَ الزِّنا؟
قال: نعم.
قلت: أفَتَراها مُجْتَمِعَةً؟
قال: نعم، في أنْ أقْبَلَهَا مُتَفَرِّقَةً في عَدَدِهَا. وفي أنْ لاَ يُجْلَدَ إلاَّ شاهِدُ الزِّنا.
قلت له: فلَوْ قلْتُ لك هذا في خَبَرِ الواحِدِ، وهو مُجَامِعٌ للشَّهادة في أنْ أقْبَلَه، ومُفَارِقٌ لها في عَدَدِهِ، هلْ كانتْ لك حجَّةٌ إلاَّ كَهِيَ عَلَيْكَ؟!
[ص:387] قال: فإنما قلْتُ بالخلاف بَيْنَ عدَد الشهادات خَبَرًا واستدلالاً.
قلت: وكذلك قلْتُ في قبول خبر الواحد خبًرا واستدلالاً.
وقلتُ: أَرأيْتَ شهادَة النِّساء في الوِلادَة، لِمَ أَجَزْتَهَا ولا تُجِيزُهَا في دِرهمٍ؟
قال: اتِّبَاعًا.
قلتُ: فإنْ قيل لك: لَمْ يُذْكَرْ في القُرَآن أقَلُّ مِنْ شاهد وامرأتين؟

(1/383)