الغيث الهامع شرح جمع الجوامع تقسيم الحكم إلى
رخصة وعزيمة
ص: والحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم
الأصلي فرخصة، كأكل الميتة، والقصر، والسلم، وفطر مسافر لا
يجهده الصوم، واجباً ومندوباً ومباحاً وخلاف الأولى وإلا
فعزيمة.
ش: هذا تقسيم للحكم إلى رخصة وعزيمة، ولا يحتاج لتقييده
بالشرعي، فإن كلامه فيه وقد قال قبل ذلك: (ومن ثم لا حكم إلا
لله) وتقديره أن الحكم إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب
للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة.
فخرج بقولنا: (تغير) ما كان باقياً على حكمه الأصلي وبقولنا:
(إلى سهولة) الحدود والتعازير، مع تكريم الآدمي المقتضي للمنع
منها، وبقولنا: (لعذر) التخصيص، فإنه تغير، لكن لا لعذر،
وبقولنا: (مع قيام السبب للحكم الأصلي) ما نسخ في شريعتنا من
الآصار التي كانت على من قبلنا تيسيراً وتسهيلاً، كإباحة
الغنائم والإبل والشحوم، فلا يسمى نسخها لنا رخصة، وفهم من هذا
أن شرط الرخصة أن يكون المقتضي للحكم الأصلي قائماً، وإنما
يرجح معارضه، كأكل الميتة للمضطر، فإن دليل تحريم أكل الميتة
(1/57)
قائم مستمر، ثم قسم حكم الرخصة إلى أربعة
أقسام.
أحدها: أن تكون واجبة، كأكل الميتة للمضطر على الصحيح، وقيل:
بالجواز فقط.
الثاني: أن تكون مندوبة، كقصر الصلاة للمسافر إذا بلغ سفره
ثلاث مراحل، خروجاً من خلاف أبي حنيفة، فإنه يوجب القصر في هذه
الحالة، فإن كان دون ذلك فالإتمام أفضل، للخروج من خلافه
أيضاً، فإنه يمنعه فيما دون ذلك.
(1/58)
الثالث: أن تكون مباحة كالسلم، ولو مثل
بالعرايا لكان أحسن، للتصريح في الحديث بالرخصة فيها، وهو
قوله/ (10أ/م): (وأرخص في العرايا) وقد تردد الغزالي في
(المستصفي) في السلم فقال: قد يقال: إنه رخصة، لأن عموم نهيه
عن بيع ما ليس عنده، يوجب تحريمه، ويمكن أن يقال: هو عقد آخر،
فهو بيع دين، وذاك بيع عين، فافتراقهما في الشرط لا يلحق /
(8ب/د) أحدهما بالرخص، فيشبه أن يكون هذا مجازاً وأن قول
الراوي (نهى عن بيع ما ليس عندك) (وأرخص في السلم) تجوز في
العبارة، انتهى.
الرابع: أن تكون خلاف الأولى، كالفطر في حق المسافر إذا لم
يجهده الصوم، أي لم يحصل له به جهد، وهو المشقة، فإن أجهده
فالأولى له الفطر.
تنبيه: فهم من اقتصاره على هذه الأقسام أنها لا تكون محرمة،
ولا مكروهة، وهو ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحب
أن تؤتى رخصه))
(1/59)
لكن في كلام الأصحاب ما يوهم مجيئهما مع
الرخصة، أما التحريم فإنهم قالوا: لو استنجى بذهب أو فضة أجزأه
مع أن استعمالهما حرام، والاستنجاء بغير الماء رخصة، كذا قال
الشارح.
لكن المنقول جوازه على الصحيح، وأنه يجوز بالديباج قطعاً، وأما
الكراهة فالقصر في أقل من ثلاثة مراحل فإنه مكروه، قاله
الماوردي.
وقوله: (وإلا فعزيمة) أي: وإن لم يتغير الحكم بل استمر على
أصله، أو تغير ولكن لا إلى سهولة، أو لا لعذر، أو لا مع قيام
السبب للحكم الأصلي، فهو العزيمة، فاندرج في العزيمة هذه
الأقسام كلها، وظاهر كلام المصنف انقسامها إلى الأحكام الخمسة،
وهو مقتضى كلام البيضاوي، وجعلها الإمام منقسمة إليها ما عدا
الحرمة، وخصها الغزالي والآمدي وابن الحاجب في مختصره الكبير
بالوجوب، وخصها القرافي بالواجب والمندوب فقط، لأنها طلب مؤكد
فلا يجيء المباح.
وقول والدي رحمه الله في نظم المنهاج (إن لطلب جزم حوى) يحتمل
موافقة الغزالي، ويحتمل اختصاصها بالوجوب والتحريم وله وجه
حسن، وإن لم أر أحداً صرح به، لأن كلاً منهما فيه عزم مؤكد،
الأول في فعله، والثاني في تركه، بخلاف غيرهما من الأحكام.
ص: والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
(1/60)
ش: عبر بقوله: (ما يمكن) ولم يقل: ما
يتوصل، لأن المراد التوصل بالقوة، فقد لا ينظر في الدليل، /
(10 ب/ م) ولا يخرجه ذلك عن كونه دليلاً، وخرج (بصحيح النظر)
فاسده، وتناول قوله: (إلى مطلوب) القطعي والظني، وهو الأمارة،
وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وخطأ من خصه بالقطعي،
وخرج بقوله: (خبري) التصوري كالحد والرسم، فإنهما لبيان
التصور، لا التصديق.
ص: واختلف أئمتنا هل العلم عقيبه مكتسب.
ش: ذهب جمهور أئمتنا إلى أن حصول العلم عقب الدليل مكتسب بقدرة
حادثة، وقال الأستاذ أبو إسحاق والإمام في البرهان: هو واقع
بقدرة الله تعالى اضطراراً، وليس مكتسباً حاصلاً بقدرة حادثة،
إذا لو لم يكن ذلك لأمكنه / (9أ /د) تركه، وليس كذلك، فدل على
أنه مضطر إليه، وعبر بقوله: (أئمتنا) ليبين أن الخلاف في ذلك
بين أهل السنة.
ص: والحد الجامع المانع، ويقال: المضطرد المنعكس.
ش: عقب ذكر الدليل بذكر الحد، لأن المطلوب بالأول التصديق،
(1/61)
وبالثاني التصور، وهم قسما العلم، ولهم في
الحد عبارتان.
إحداهما: أن يكون جامعاً مانعاً، أي جامعاً لأفراد المحدود،
مانعاً من دخول غيره فيه، كقولنا: الإنسان حيوان ناطق، فلو جمع
ولم يمنع كالإنسان حيوان، أو منع ولم يجمع، كالإنسان رجل، لم
يكن حداً صحيحاً.
والثانية: أن يكون مطرداً منعكساً، أي كلما وجد الحد وجد
المحدود، وكلما انتفى الحد انتفى المحدود، وقد يفهم من تقديم
الاطراد على الانعكاس، أن المطرد هو الجامع والمنعكس هو
المانع، وبه قال القرافي وسبقه إليه أبو علي التميمي في
التذكرة في أصول الدين, لكن المشهور عكسه أن المطرد هو المانع,
والمنعكس هو الجامه, وبه قال الغزالي وابن الحاجب وغيرهما.
واعلم أن استعمال المطرد مردود في العربية، وقد نص على ذلك
سيبويه، فقال: يقولون: طردته فذهب، ولا يقولون: فانطرد، ولا:
(1/62)
فاطرد، وفي (الصحاح) أنه يقال في لغة
رديئة، وفي (المحكم) على هذه اللغة.
أتعرف رسما كاطراد المذاهب .....
ص: والكلام في الأزل، قيل: لا يسمى خطاباً، وقيل: لا يتنوع.
ش: فيه مسألتان.
إحداهما: اختلف في أن كلام الله تعالى هل يسمى في الأزل
خطاباً، أو لا يسمى بذلك إلا عند وجود المخاطب؟ والأول محكي عن
الأشعري، والثاني عن القاضي أبي بكر، ولذلك قال الأشعري: إن
المعدوم مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود، ويعترض على
المصنف في جزمه بذلك/ (11/أ/ م) فيما تقدم عن أصحابنا فقال:
ويتعلق الأمر بالمعدوم خلافاً للمعتزلة، وحكي هذا الخلاف من
غير ترجيح مع أن هذه المسألة أصل لذلك.
الثانية: اختلف أيضاً في أن كلام الله تعالى هل يتنوع؟ فقال
الجمهور: لا، وكونه أمراً ونهياً وخبراً، أوصاف للكلام لا
أقسام له، وقال بعضهم: يتنوع إلى أمر ونهي وخبر واستخبار
ونداء، وزاد بعضهم أمرين آخرين وهما: الوعد الوعيد.
ص: والنظر: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن.
(1/63)
ش: هذا الحد للقاضي أبي بكر.
فقوله: (الفكر) جنس، والمراد به الفكر الذي يعد في خواص
الإنسان، وهو حركة الذهن في المعقولات، أي حركة كانت، سواء في
محسوس وهو المتخيل، أو في خلافه، وليس المراد به الفكر المرادف
للنظر، لأنه ليس أظهر منه حتى يفسر به، ولأنه لو أراده لم
يقيده بما قيده به.
وقوله: (المؤدي إلى علم أو ظن) فصل خرج به ما لا يؤدي لذلك،
وهو الحدس، ودخل في إطلاق العلم التصور والتصديق، وأما الظن
فلا يتناول إلا التصديق، ويسمى الأول دليلاً/ (9ب/ د) والثاني
أمارة.
ص: والإدراك بلا حكم تصور، وبحكم تصديق، وجازمه الذي لا يقبل
التغير علم كالتصديق، والقابل اعتقاد صحيح إن طابق فاسد إن لم
يطابق، وغير الجازم ظن ووهم وشك، لأنه إما راجح أو مرجوح أو
مساو.
ش: إدراك الماهية من غير حكم عليها يسمى تصوراً، ومع الحكم
يسمى تصديقاً، لكن هل التصديق مجموع الأمرين، أو الحكم وحده؟
ذهب الإمام فخر الدين إلى الأول، وقال الشيخ تقي الدين: إنه
أقرب.
ثم قسم المصنف الإدراك مع الحكم إلى جازم وغيره، فالجازم إن لم
يقبل التغير ـ أي لا في نفس الأمر، ولا بالتشكيك ـ فهو العلم،
وإن قبل التغير فهو اعتقاد، ثم إن طابق الواقع فهو اعتقاد
صحيح، وإن لم يطابق فهو اعتقاد فاسد، وأما غير الجازم فهو
منقسم إلى ظن ووهم وشك، لأنه إما أن يترجح أحد طرفيه أو لا، بل
يتساويان، فإن ترجح أحدهما فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإن
تساويا يسمى كل منهما شكا، هذه طريقة الأصوليين.
(1/64)
وأما الفقهاء، فالأغلب عندهم إطلاق/ (11 ب/
م) الشك على غير الجازم، ولو راجحاً أو مرجوحاً.
واعترض على المصنف فإنه جعل الشك والوهم من أقسام التصديق، مع
أنه لا حكم فيهما، وأجيب عنه بأن الوهم حاكم بالطرف المرجوح
حكماً مرجوحاً، والشاك حاكم بجواز وقوع كل من النقيضين بدلاً
عن الآخر، والله أعلم.
ص: والعلم قال الإمام: ضروري، ثم قال: هو حكم الذهن الجازم
المطابق لموجب، وقيل: ضروري فلا يحد، وقال إمام الحرمين: عسر
فالرأي الإمساك عن تعريفه.
ش: اختلف في العلم، فقال الإمام في المحصول: هو ضروري، أي:
تصوره بديهي، لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا به فيستحيل أن يكون
غيره كاشفاً له، ثم إن الإمام بعد ذلك ذكر تقسيماً حصر فيه
العلم وأضداده، عرفه فيه بأنه الحكم الجازم المطابق لموجب،
فاقتضى كلامه أنه ضروري، وأنه يحد وهذا متناقض، فإنه إذا كان
تصوره ضرورياً، فكيف يحد ليتصور؟!
فقوله: (الجازم) خرج به الظن والشك والوهم.
وقوله: (المطابق) خرج به الجهل.
وقوله: (لموجب) خرج به التقليد.
ثم حكى المصنف قولاً أنه ضروري فلا يحد، واقتضى كلامه أن هذا
غير مقالة الإمام.
وقال إمام الحرمين: (حده عسر) وإنما يعرف بالتقسيم والمثال،
وهذا
(1/65)
أولى من نقل ابن الحاجب عنه منع حده، فإنه
صرح في البرهان وغيره بإمكان التعبير عنه، وأن العسر الحد
بجميع أنواع التعريف.
وفي المستصفى اختصاص ذلك بالحقيقي، وهو توسط بينهما، ومال
المصنف إلى مقالة إمام الحرمين فقال: فالرأي الإمساك عن
تعريفه.
ص: ثم قال المحققون: لا يتفاوت، وإنما التفاوت بكثرة
المتعلقات.
ش: كذا حكاه إمام الحرمين في (الشامل) عن المحققين، واختاره
هو/ (10/أ/د) والإبياري في (شرح البرهان)، ولكن الأكثرون على
التفاوت، أي يكون علم أجل من علم، ونقله في (البرهان) عن
أئمتنا ومن فوائد الخلاف أن الإيمان هل يزيد وينقص بناء على
أنه من قبيل العلوم لا الأعمال خلافاً للمعتزلة.
ص: والجهل انتفاء العلم بالمقصود وقيل تصور المعلوم على خلاف
هيئته.
ش: هذا الخلاف أخذه المصنف من قصيدة ابن مكي المعروفة بـ
(1/66)
(الصلاحية) لترغيب السلطان صلاح الدين/
(12أ/م) فيها، فصدر كلامه بأنه انتفاء العلم بالمقصود، ثم حكى
قولاً: أنه تصور المعلوم على خلاف هيئته.
والمعروف تقسيم الجهل إلى بسيط ومركب، فالبسيط هو المذكور في
الحد الأول، والمركب هو المذكور في الحد الثاني، هكذا ذكره
الإمام والآمدي وغيرهما، وقال الرافعي في الكلام على قاعدة مد
عجوة: معنى الجهل المشهور الجزم بكون الشيء على خلاف ما هو
عليه، ويطلق ويراد به عدم العلم انتهى.
ويسمى الأول بسيطاً، لأنه جزء واحد، كانتفاء علمنا بما تحت
الأرض، وفي قعر البحر، وسمي الثاني مركباً، لأنه مركب من
جزأين: أحدهما عدم العلم، والثاني اعتقاد غير مطابق، ولو قال
المصنف: (تصور الشيء) لكان أولى من المعلوم، لأن هذا جهل لا
علم فيه، وقوله: (على خلاف هيئاته) أي على خلاف الواقع، وخرج
به تصوره بهيئاته فإنه علم.
قال المصنف: وهذا أحسن من قول إمام الحرمين: (على خلاف ما هو
(1/67)
به) فإن ظاهره التدافع، لأن تصور المعلوم
يعطي وقوع تصوره، وقوله: (على خلاف ما هو به) يعطي أنه لم يقع
تصوره.
قال الشارح: وقد يجاب عن إمام الحرمين بأن المراد بقوله: (تصور
الشيء) على ما في زعمه، وقوله: (على خلاف ما هو به في نفس
الأمر.
قلت: لم يظهر لي التفاوت بين تعبير إمام الحرمين، والمصنف.
ص: والسهو الذهول عن المعلوم.
ش: خرج بقوله: (عن المعلوم) الذهول عما لا يعلم، لا يقال له
سهو، وقال السكاكي: السهو ما ينبه صاحبه بأدنى تنبيه، وقال
بعضهم: زمن السهو قصير، بخلاف النسيان، فإن زمنه طويل
لاستحكامه.
ص: مسألة: الحسن: المأذون واجباً ومندوباً ومباحاً، قيل: وفعل
غير المكلف، والقبيح: المنهي ولو بالعموم، فدخل خلاف الأولى،
وقال إمام الحرمين: ليس المكروه قبيحاً ولا حسناً.
ش: ينقسم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى حسن وقبيح، وعرف
المصنف رحمه الله الحسن بالمأذون فيه، ثم ذكر أنه يندرج فيه
الواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف، وفي اندراج فعل غير
المكلف في ذلك إشكالان:
(1/68)
أحدهما أن كلامه في الفعل/ (12/ب/ م) الذي
هو متعلق الحكم وهو فعل المكلف، فلا يصح أن يدخل تحت أحد قسميه
ـ وهو الحسن ـ فعل غير المكلف، وهذا كما لو قال: فعل المكلف
ينقسم إلى فعل مكلف، وإلى فعل غير مكلف.
وأجيب عنه بأن الحسن مع قطع النظر عن كونه أحد قسمي فعل المكلف
يتناول فعل المكلف وغيره، ومن حيث كونه أحد قسمي فعل المكلف لا
يتناول فعل/ (10 ب/ د) غيره، فكلامه في الحسن مع قطع النظر عن
كون فعل المكلف.
ثانيهما: أن فعل غير المكلف لم يؤذن فيه شرعاً، فكيف يندرج تحت
المأذون.
وفي بعض النسخ ذكر فعل غير المكلف بصيغة التمريض، فقال: (قيل،
وفعل غير المكلف) وكأنه أشار بذلك للبيضاوي، ولو عبر كما عبر
البيضاوي بأنه: (ما لم ينه عنه) لكان اندراج فعل غير المكلف
فيه واضحاً، فإنه لا نهى عنه، ولا أذن فيه.
ثم ذكر المصنف أن القبيح هو المنهي عنه، فاندرج فيه المنهي عنه
بالجزم، وهو الحرام، وبغير الجزم، وهو المكروه، ثم ذكر أنه لا
فرق في النهي
(1/69)
غير الجازم بين أن يكون بخصوص وهو المكروه،
أو بعموم وهو خلاف الأولى.
قال الشارح: وفي إطلاق القبيح على خلاف الأولى نظر، ولم أره
لغير المصنف، وغايته أنه أخذه من إطلاقهم المنهي عنه والأقرب
أنهم أرادوا النهي المخصوص، ولا يساعده قول ابن الحاجب تبعاً
للغزالي وغيره: إن المكروه يطلق على خلاف الأولى، لأنه لبيان
إطلاق حملة الشرع والكلام في حقيقة القبيح، والظاهر أن المصنف
أخذ هذا من كلام الهندي، فإنه قال: القبيح عندنا ما نهي عنه،
ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك بين المحرم
والمكروه، فإن جعل النهي حقيقة فيه فلا كلام وإلا فاستعماله
فيه بطريق التجوز، فيدخل تحته المحرم والمكروه، انتهى.
ثم حكي عن إمام الحرمين أن (المكروه ليس قبيحاً ولا حسناً) وقد
علل ذلك بأن القبح ما يذم عليه، والحسن ما يسوغ الثناء عليه،
وهذا لا يذم عليه، ولا يسوغ الثناء عليه.
قال السبكي: ولم نر أحداً نعتمده خالف إمام الحرمين فيما قال،
إلا أناساً أدركناهم قالوا: إنه قبيح، لأنه منهي عنه، والنهي
أعم من نهي تحريم وتنزيه.
وعبارة البيضاوي بإطلاقها تقتضي ذلك/ (13أ/م) وليس أخذ المذكور
من هذا الإطلاق بأولى من رد هذا الإطلاق، لقول إمام الحرمين،
انتهى.
قلت: وإذا قال إمام الحرمين هذا في المكروه، فكيف يقول في خلاف
الأولى، والله أعلم.
ص: مسألة: جائز الترك ليس بواجب وقال أكثر الفقهاء، يجيب الصوم
على الحائض والمريض والمسافر، وقيل: المسافر دونهما، وقال
الإمام: عليه أحد الشهرين، والخلف لفظي.
ش: صدر المسألة بأن جائز الترك ليس بواجب، لأنه يدخل في ذلك
(1/70)
مسائل، ووجهه أن الواجب مركب من طلب الفعل
مع المنع من الترك، فلو كان جائز الترك واجباً لاستحال كونه
جائزاً، وكان ينبغي أن يزيد: (مطلقاً) ليخرج الواجب الموسع
والمخير، فإنه يجوز تركهما في حالة لا مطلقاً، ومع ذلك فهما
واجبان.
فمن المسائل الداخلة في الأصل أن الحائض والمريض والمسافر لا
يجب عليهم صوم شهر رمضان، لأنهم يجوز لهم تركه، وقد نص الشافعي
على ذلك/ (11/ أ/د) في الحائض، وقال النووي: أجمع المسلمون على
أنه لا يجب عليهم الصوم في الحال، ثم قال الجمهور: ليست مخاطبة
به في زمن الحيض، وإنما يجب القضاء بأمر جديد، وذكر بعض
أصحابنا وجهاً: أنها مخاطبة به في حال الحيض، وتؤمر بتأخيره،
انتهى.
وخالف في ذلك بعض الفقهاء، فأوجب الصوم عليهم، وتبع المصنف في
نقله ذلك عن أكثر الفقهاء صاحب (المحصول) قاله الشارح.
قلت: الذي في (المحصول) نقله عن كثير من الفقهاء، وحكاه الشيخ
أبو حامد في كتابه في الأصول عن مذهبنا، والقول بوجوبه على
المسافر دونهما حكاه ابن السمعاني عن الحنفية.
وقوله: (وقال الإمام عليه) أي على المسافر (أحد الشهرين) أي:
(1/71)
إما الحاضر أو آخر غيره، وأيهما أتى به كان
هو الواجب، كخصال الكفارة، وهذا قول القاضي أبي بكر.
وقوله: (والخلف لفظي) تبع فيه الشيخ أبا إسحاق فقال: لا فائدة
له، لأن تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف، والقضاء بعد
زواله واجب بلا خلاف، وحكى ابن الرفعة عن بعضهم أن فائدة
الخلاف تظهر فيما إذا قلنا: إنه يجب التعرض للأداء والقضاء في
النية.
انتهى.
وقال الشارح: فائدته في أنه هل وجب بأمر جديد أو بالأمر الأول؟
قلت: وقد تظهر فائدته فيما إذا حاضت المرأة بعد الطواف وقبل أن
تصلي ركعتيه، هل تقضيهما؟ / (13/ب/م) وقد نقل النووي في شرح
المهذب عن ابن القاص،
(1/72)
والجرجاني أنها تقضيهما، وأن الشيخ أبا علي
أنكره، قال: هو الصواب، ولكنه جزم في شرح مسلم بمقالة ابن
القاص والجرجاني ونقلها عن الأصحاب.
ص: وفي كون المندوب مأموراً به خلاف، والأصح ليس مكلفاً به.
ش: فيه مسألتان:
إحداهما: في كون المندوب مأموراً به خلاف أكثر أصحابنا، كما
حكاه ابن الصباغ في (العدة) على أنه مأمور به حقيقة، وحكاه
القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي، واختار الشيخ أبو حامد وغيره
أنه ليس مأموراً به حقيقة بل مجازاً.
(1/73)
قال الشارح: وظاهر كلام المصنف أن الخلاف
في كونه مأموراً به أم لا، وإنما الخلاف في أنه حقيقة أو مجاز.
قلت: إذا قلنا: إن الأمر به مجاز صح نفي أنه مأمور به، فإن
علامة المجاز صحة النفي، فصح ما قاله المصنف.
الثانية: في كونه مكلفاً به خلاف أيضاً، الأصح ليس مكلفاً به،
فإن التكليف يشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خيرة، والندب
فيه تخيير، وهذا اختيار إمام الحرمين ومقابله مذهب القاضي.
ص: وكذا المباح، ومن ثم كان التكليف إلزام ما فيه كلفة لا
طلبه، خلافاً للقاضي.
ش: أي اختلف في المباح أيضاً هل هو مكلف به؟ والأصح عند
الجمهور أنه غير مكلف به، ومقابله للأستاذ، ووجهه أنا كلفنا،
باعتقاد إباحته، ورد بأن العلم بحكم الشيء خارج عنه.
فأشار بقوله: (ومن ثم) / (11ب/ د) إلى أن الخلاف في المسألتين
مبني على الخلاف في حقيقة التكليف، فالجمهور على أنه إلزام ما
فيه كلفة، فلا يكون المندوب والمباح مكلفاً بهما.
وقال القاضي أبو بكر: هو طلب ما فيه كلفة، فيكونان مكلفاً
بهما، وما أدري أي طلب في المباح!!
(1/74)
وهذا النقل عن القاضي هو في (البرهان)
لإمام الحرمين، لكنه في التلخيص من (التقريب) للقاضي صرح بأنه
إلزام ما فيه كلفة، وإذا كان المندوب والمباح غير مكلف بهما
فالمكروه أولى بذلك، ففهم الخلاف فيه منهما، وقد صرح بهما ابن
الحاجب في (مختصره).
ص: والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب.
ش: هذا مبني على تفسيره بأنه التخيير بين الفعل والترك، فإنه
لو كان جنساً له لكان نوعه وهو الواجب كذلك، وهذا محال،
ومقابله مبني على تفسيره بعدم الحرج، وثبوت هذا للواجب صحيح،
ولهذا كان الخلاف في ذلك لفظياً، كما ذكره المصنف بعد، وهو
راجع/ (14أ/م) للمسألتين معاً.
ص: أنه غير مأمور به من حيث هو، والخلف لفظي.
ش: الجمهور على أن المباح غير مأمور به.
وقال الكعبي: هو مأمور به لكنه دون الأمر بالندب، كما أن الأمر
بالندب دون الأمر بالإيجاب، كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر
والغزالي، وحكى عنه الإمام الرازي أنه واجب، لأن فعل المباح
ترك الحرام، وترك الحرام واجب، ففعل المباح واجب، ثم رده بأن
فعل المباح ليس هو ترك الحرام، بل هو شيء يحصل به، وفي هذا
تسليم لكلامه لأنه إذا حصل به وبغيره كان من الواجب المخير،
ولهذا قال الآمدي: إنه صادر ممن لم يعرف غور كلامه، وأنه لا
خلاص عنه إلا بمنع وجوب المقدمة، ولهذا لما نفى
(1/75)
المصنف أنه مأمور به قيد ذلك بقوله: (من
حيث هو) أي بالنظر إلى ذاته، أي إما بالنظر إلى غيره، وهو أنه
يحصل به ترك الحرام كما يحصل بغيره، فهو مأمور به أو بغيره،
فهو من الواجب المخير، ولذلك قال: إن الخلاف في ذلك لفظي، ومن
العجب، ما حكاه عنه إمام الحرمين وابن برهان والآمدي من إنكار
المباح في الشريعة، وأنه لا وجود له أصلاً وهو خلاف الإجماع.
ص: وأن الإباحة حكم شرعي.
ش: أي ورد بها الشرع، وهذا مبني على تفسيرها بالتخيير بين
الفعل والترك، والمخالف فيه بعض المعتزلة، وهو مبني على
تفسيرها بنفي الحرج، وهذا ثابت من قبل الشرع، فهذا الخلاف
أيضاً لفظي، فلو أخر المصنف قوله (والخلف لفظي) عن هذه المسألة
لعاد للمسائل الثلاث.
ص: وأن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز أي عدم الحرج، وقيل: الإباحة
وقيل: الاستحباب.
ش: إذا أوجب الشارع شيئاً ثم نسخ وجوبه/ (12أ/ د) فهل يبقى
جوازه؟ قال الأكثرون: نعم. وقال الغزالي: لا، بل يعود الأمر
إلى ما كان عليه قبل الإيجاب، من إباحة، أو تحريم، أو براءة
أصلية.
وحكاه القاضي أبو بكر عن بعض الفقهاء، وقال: تشبث صاحبه بكلام
ركيك تزدريه أعين ذوي التحقيق، وادعى الشارح أنه الذي وجده في
كلام أكثر أصحابنا الأقدمين، ثم حكى المصنف ثلاثة أقوال في
المراد بالجواز هنا:
أشهرها: أنه رفع الحرج، عن الفعل.
والثاني: رفع الحرج عن الفعل والترك مع استواء الطرفين، وهو
المراد بالإباحة.
والثالث: رفع الحرج عنهما، مع ترجيح الفعل وهو الاستحباب، وهذا
غريب.
(1/76)
وكلام الغزالي وغيره/ (14ب/م) يقتضي أنه لم
يقل به أحد، لكن كلام المجد ابن تيمية في (المسودة) يقتضيه،
فإنه قال: إذا صرف الأمر عن الوجوب جاز أن يحتج به على الندب
والإباحة، وبه قال بعض الشافعية والحنفية، كذا قال الشارح،
وفيه نظر، فإن الذي في كلام ابن تيمية هو القول الأول، وهو
بقاء القدر المشترك بين الندب والإباحة، وهو رفع الحرج عن
الفعل، وليس فيه تعيين أن الباقي الندب كما في القول الثالث،
والله أعلم.
وقال بعضهم: الخلاف لفظي، فإنا إن فسرنا الجواز برفع الحرج عن
الفعل فلا شك أنه في ضمن الوجوب، وإن فسرناه برفع الحرج عن
الفعل والترك، فليس هو في ضمن الواجب بل ينافيه.
ص: مسألة: الأمر بواحد من أشياء يوجب واحداً لا بعينه، وقيل:
الكل ويسقط بواحد، وقيل: الواجب معين، فإن فعل غيره سقط، وقيل:
هو ما يختاره المكلف.
ش: الأمر بواحد من أشياء وهو الواجب المخير كخصال الكفارة فيه
مذاهب.
أصحها: أن الواجب منها واحد لا بعينه، وحكى القاضي أبو بكر
إجماع سلف الأمة وأئمة الفقهاء عليه، وحرر ابن الحاجب معنى
الإبهام فيه فقال: إن متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين
الخصال، ولا تخيير فيه، لأنه لا يجوز تركه، ومتعلق التخيير
خصوصيات الخصال، ولا وجوب فيها.
(1/77)
قلت: أراد بالقدر المشترك أحد قسميه وهو
المبهم بين شيئين أو أشياء، كأحد الرجلين، فأما القسم الآخر
وهو المتواطئ، كالرجل فلا إبهام فيه، لأن حقيقته معلومة متميزة
عن غيرها، ولا يقال: إن الوجوب يتعلق بخصوصياته لا على
التعيين، ولا على التخيير، وليس من الواجب المخير في شيء،
والله أعلم.
الثاني ـ وهو قول المعتزلة ـ أن الكل واجب، لا على معنى أنه
يجب الإتيان بجميعها، بل يسقط الواجب بفعل واحد منها، فلا خلاف
بيننا وبينهم في المعنى، لكن فروا من انتفاء وجوب بعضها، لما
فيه من التخيير بين واجب وغيره، بناء على قاعدتهم في أن
الأحكام تابعة للمصالح، فإن كان بعض الخصال ليس فيه مقتضى
الوجوب لم يصح التخيير بينه وبين/ (12ب/د) ما فيه مقتضى الوجوب
وإلا لزم القول بوجوب الكل.
الثالث: أن الواجب معين، أي عند الله تعالى، ويسمى هذا قول
التراجم، لأن كلا من الأشاعرة والمعتزلة ترويه عن الأخرى/
(15أ/م) وهي تنكره، فاتفق الفريقان على بطلانه.
قال والد المصنف: وعندي أنه لم يقل به قائل، وعلى هذا القول
قولان:
أحدهما: أن الآتي ببعض الخصال إن صادف الواجب فذاك، وإلا فقد
أتى ببدله، فيسقط الوجوب بفعل ذلك البدل.
ثانيهما: أن الواجب يتعين باختيار المكلف، فأي خصلة أتى بها
تعينت للوجوب.
ص: فإن فعل الكل فقيل الواجب أعلاها وإن تركها فقيل: يعاقب على
أدناها.
(1/78)
ش: المراد ما إذا فعلها دفعة واحدة، فإنه
إذا أتى بها على التعاقب كان الأول هو الواجب، والقول بأن
الواجب أعلاها، وأنه في الترك يعاقب على أدناها حكاه في
(المحصول).
وقال ابن التلمساني: إنه الحق، وحكاه ابن السمعاني في
(القواطع) عن الأصحاب، وضعفه صاحب (الحاصل) لأنه يوجب تعيين
الواجب، وفيه نظر، فإنه لا يلزم من تعيينه بعد الإيقاع تعينه
في أصل التكليف والمحذور هو الثاني.
ص: ويجوز تحريم واحد لا بعينه، خلافاً للمعتزلة، وهي كالمخير،
وقيل: لم ترد به اللغة.
ش: اختلف في الحرام المخير فأثبته الأشاعرة، ونفاه المعتزلة،
ومثاله نكاح الأختين، ونقل السبكي عن شيخه علاء الدين الباجي
أنه قال: الحق نفيه، لأن المحرم، الجمع بينهما لا إحداهما، ولا
كل واحدة منهما، ثم قال السبكي: وأنا أقول كذلك: إن المحرم في
الأختين الجمع بينهما، وأثبت الحرام المخير، وأمثله، بما إذا
أعتق إحدى أمتيه، فإنه يجوز له وطء إحداهما، ويكون الوطء
تعييناً للعتق في الأخرى، وكذا طلاق إحدى امرأتيه، إذا قلنا
بأحد القولين: إن الوطء تعيين، قال: ففي هذين المثالين الحرام
واحدة، لا بعينها.
وهذه المسألة كالتخيير، وهو الأمر بخصلة مبهمة من خصال معينة،
وبنى المعتزلة نفي الحرام المخير على أصلهم في تبعية الحكم
للمصالح، وقالوا: النهي عن إحداهما يدل على قبحهما، فيجب
اجتنابهما فلا يثبت الحرام المخير، فامتناعه من جهة العقل،
وحكى المصنف قولاً أن امتناعه من جهة اللغة، فإنها لم ترد به،
وأجاب قائل هذا عن قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفوراً}
(1/79)
بأن (أو) بمعنى (الواو) وقال إمام الحرمين:
إنه ساقط لا طائل وراءه.
ص: مسألة: فرض الكفاية، مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى
فاعله.
ش: عرف الغزالي فرض الكفاية بأنه كل مهم ديني، يقصد به الشرع
حصوله، من غير نظر إلى فاعله، وحذف المصنف قوله: (ديني) لأن
فرض/ (15ب/ م) الكفاية يكون في الحرف والصناعات/ (13أ/د) وليست
دينية، وزاد قوله: (الذات) لأنه لا يقال في فرض الكفاية: (إن
فاعله غير مقصود مطلقاً، فإن انتفاء ذلك إنما هو بالذات، لكن
هو مقصود بالعرض، إذ لا بد للفعل من فاعل، ولهذا تعلق به
الثواب، فقوله: (مهم يقصد حصوله) جنس متناول لفرض الكفاية
والعين، وقوله: (من غير نظر إلى فاعله) فصل أخرج فرض العين.
ص: وزعمه الأستاذ وإمام الحرمين وأبوه أفضل من العين.
ش: قال النووي في (زيادة الروضة): قال إمام الحرمين: الذي أراه
أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأن فاعله ساع في
صيانة الأمة كلها عن المأثم، ولا شك في رجحان من حل محل
المسلمين أجمعين في القيام بمهمات الدين، انتهى.
وقوله: (الذي أراه) يوهم أنه تفقه له، وليس كذلك، فقد نقله ابن
الصلاح
(1/80)
في فوائد الرحلة عن الشيخ أبي محمد،
والأستاذ أبي إسحاق، بل نقله الشيخ أبو علي السنجي في أول (شرح
التلخيص) عن المحققين.
وزعم الشارح أن بين تعبير المصنف بأنه أفضل وبين تعبير غيره
بأن القيام به أفضل تفاوتاً، وفيه نظر، فإنه لا يراد تفضيل ذات
العبادة، بل تفضيل القيام بها بمعنى كثرة ثوابه، ولذلك علل
بسعيه في إسقاط الإثم عن الأمة، فلا تفاوت، لأن هذا التقدير
مراد بلا شك، والله أعلم.
ص: وهو على البعض وفاقاً للإمام، لا الكل خلافاً للشيخ الإمام
والجمهور.
ش: اختلف في أن فرض الكفاية يتعلق بجميع المكلفين أو ببعضهم،
فقال بالأول الجمهور، وعليه مشى الشيخ الإمام والد المصنف،
وقال بالثاني الإمام الرازي، كذا في موضع من (المحصول) وفي
موضع آخر موافقة الجمهور،
(1/81)
واحتج المصنف لتعلقه بالبعض بقوله تعالى:
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} وبقوله تعالى {فلولا نفر من
كل فرقة منهم طائفة} واستدل القرافي بهاتين الآيتين على أن
الوجوب متعلق بالمشترك، لأن المطلوب فعل أحد الطوائف، ومفهوم
أحد الطوائف قدر مشترك بينهما لصدقه على كل طائفة، كصدق
الحيوان على سائر أنواعه.
ص: والمختار البعض مبهم، وقيل: معين عند الله تعالى، وقيل: من
قام به.
ش: هذا الخلاف مفرع على تعلقه بالبعض، فحكي عن المعتزلة أنه
يتعلق ببعض مبهم، وهو مقتضى كلام (المحصول) وإذا قلنا ببعض
معين، فهل هو بعض معين عند الله دون الناس، أو هو من قام به؟
قولان، وهو نظير الخلاف في الواجب المخير.
ص: / (16أ/م) ويتعين بالشروع على الأصح.
ش: هذه مسألة فقهية، لم يتعرض لها أهل الأصول، وهذا الترجيح
لابن الرفعة في (المطلب) في باب الوديعة.
وقال البارزي في (التمييز): لا يلزم فرض الكفاية بالشروع في
الأصح، إلا في الجهاد، وصلاة الجنازة، انتهى.
ولم يرجح الرافعي والنووي / (13ب/ د) في هذه القاعدة شيئاً
مخصوصاً، وهي عندهما من
(1/82)
القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح لاختلاف
الترجيح في فروعها.
ص: وسنة الكفاية كفرضها.
ش: هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية، وعين، فالقصد في سنة
الكفاية الفعل من غير نظر إلى الفاعل، كتشميت العاطس، وابتداء
السلام، ويقتضي شيئين آخرين
أحدهما: طرد الخلاف في أنها مطلوبة من الجميع أو البعض.
قال الشارح: ولم أر من تعرض لذلك.
ثانيهما: أنها أفضل من سنة العين.
قلت: قد ينازع في ذلك لانتفاء العلة، وهي السعي في إسقاط الإثم
عن الأمة، وهذا لا يحصل بفعله الثواب لغيره، ولا إثم في الترك،
والله أعلم.
ص: مسألة: الأكثر أن جميع وقت الظهر جوازاً، ونحوه وقت لأدائه،
ولا يجب على المؤخر العزم على الامتثال خلافاً لقوم، وقيل:
الأول، فإن أخر فقضاء، وقيل: الآخر فإن قدم فتعجيل والحنفية:
ما اتصل به الأداء من الوقت وإلا فالآخر، والكرخي، إن قدم وقع
واجباً بشرط بقائه مكلفاً.
ش: اختلف في إثبات الواجب الموسع، وهو ما كان وقته زائداً على
فعله، كصلاة الظهر، فأثبته الجمهور، بمعنى أن جميعه وقت
لأدائه، فأي جزء أوقعه فيه وقع عن الواجب.
وتقييد المصنف وقت الظهر بالجواز ليخرج وقت الضرورة كوقت العصر
في حق المسافر، وهو من زيادة المصنف على غيره.
وقوله: (ونحوه) أي ونحو وقت الظهر من الواجبات الموسع وقتها،
(1/83)
ثم اختلف هؤلاء في أنه إذا أخرها عن أول
الوقت هل يجب عليه العزم على إيقاعها في بقية الوقت أم لا يجب
ذلك؟ فنقل الإمام الرازي وجوب العزم عن أكثر أصحابنا، وأكثر
المعتزلة، ونصره القاضي أبو بكر والآمدي وصححه النووي في (شرح
المهذب) وادعى المصنف أن ذلك لا يعرف إلا عن القاضي ومن تابعه
كالآمدي، وأنه معدود من هفواته، ومن العظائم في الدين، فإنه
إيجاب بلا دليل.
وعلى القول بإنكار الواجب الموسع أربعة أقوال، حكاها المصنف.
أحدها: أن الواجب يختص بأول الوقت، فإن أخره كان قضاء، حكاه
الإمام والرازي في (المعالم) عن بعض الشافعية، وهو غلط، فلم
يقل به أحد منهم، ولعل سبب الاشتباه أن الشافعي حكاه في (الأم)
عن بعض أهل الكلام وغيرهم ممن/ (16ب/م) يفتي.
الثاني: أن الوجوب يختص بآخر الوقت، فإن فعله في أوله كان
تعجيلاً وهو محكي عن الحنفية.
الثالث: أنه يختص بالجزء الذي يتصل به الأداء، وإلا فآخر الوقت
الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه، وحكاه المصنف عن الحنفية تبعاً
لقول والده والصفي الهندي أنه المشهور عندهم.
الرابع: وهو محكي عن الكرخي، أنه إن أوقع العبادة في أول الوقت
وقع فعله واجباً بشرط بقائه/ (14أ/ د) مكلفاً، فإن مات في
أثناء الوقت أو خرج عن التكليف بجنون أو نحوه فما فعله أولاً
نفل، كذا حكاه عنه الإمام والآمدي وابن الحاجب، وحكى عنه الشيخ
أبو إسحاق في شرح اللمع أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان،
وحكى عنه الآمدي القولين معاً، ولم يحك المصنف هذه المقالة
الأخيرة، وبها تكمل في المسألة سبعة مذاهب.
(1/84)
ص: ومن أخر مع ظن الموت عصى، فإن عاش وفعله
فالجمهور أداء، وقال القاضيان أبو بكر والحسين: قضاء.
ش: إذا ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت، تضيق عليه الوقت
اعتباراً بظنه، فإن أخر العبادة عصى فإن تخلف ظنه فعاش وفعلها
في الوقت فقال الجمهور، هي أداء، إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه،
حكاه عنهم ابن الحاجب، وقال السبكي: إنه الحق.
وقال القاضي أبو بكر والقاضي الحسين: هي قضاء.
وقال الشارح: إنه لا يعرف عن القاضي حسين التصريح بذلك،
والظاهر أن المصنف أخذه بالاستلزام من قوله، فيما إذا شرع في
الصلاة ثم أفسدها ثم صلاها في وقتها إنها قضاء لتضيق الوقت
بالشروع، فإنه لا يجوز له الخروج عنها، فلم يبق لها وقت شروع،
فكانت قضاء، وفيه نظر، فإن القاضي أبا بكر قال: إنها قضاء
لاعتقاده أن الوقت خرج، وقال القاضي الحسين: إن الوقت باق مع
كونها قضاء.
قلت: الظاهر أن مراد القاضي حسين بقاء الوقت في حق غيره، لا في
حقه هو، فهي كمقالة القاضي أبي بكر، والله أعلم.
واعلم أن تصوير المسألة بالموت مثال، فلو ظن الفوات بسبب آخر
كإغماء وجنون وحيض فالحكم كذلك، ولهذا قال في (النهاية): لو
اعتادت طرو الحيض عليها في أثناء الوقت من يوم معين تضيق الوقت
عليها.
ص: ومن أخر مع ظن السلامة فالصحيح لا يعصي بخلاف ما وقته العمر
كالحج.
ش: هذا مقابل لقوله فيما تقدم: (ومن أخر مع ظن الموت) والقسمان
في
(1/85)
الواجب المؤقت المحدود الطرفين، فإذا أخر
الصلاة مع ظن السلامة بالاستصحاب فمات في أثناء / (17أ/ م)
الوقت فالصحيح أنه لا يعصي، لأنه مأذون له في التأخير، وقيل:
يعصي، وإلا لم يتحقق الوجوب، أما لو أخر فنام إلى خروج الوقت
عن غير غلبة فإنه يعصي إن غلب على ظنه أنه لا يستيقظ إلا بعد
خروجه، أو استوى عنه الاحتمالان كما صرح ابن الصلاح بالثانية.
أما الموسع بمدة العمر كالحج وقضاء الفائتة بعذر فإنه يعصي فيه
بالموت، على الصحيح، وإن لم يغلب على ظنه قبل ذلك الموت، وقيل:
لا، وقيل: يعصي الشيخ دون الشاب، واختاره الغزالي، وحكى الجوزي
عن الأصحاب تقدير التأخير المستنكر ببلوغه نحوا من خمسين سنة
أو ستين سنة، وهو غريب، والفرق على الصحيح بين هذا وبين
المحدود الطرفين خروج الوقت في الحج بالموت بخلاف الصلاة، فإن
وقتها باق، ونظير/ (14 ب/د) الحج أن يموت آخر وقت الصلاة فإنه
يعصي لخروج الوقت والله أعلم.
ص: مسألة: المقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب،
وفاقاً للأكثرين، وثالثها إن كان سبباً كالنار للإحراق، وقال
إمام الحرمين: إن كان شرطا شرعياً لا عقلياً أو عادياً.
ش: الشيء الذي لا يتم الواجب إلا به، وهو المسمى بالمقدمة هل
هو واجب أم لا؟ حكى فيه المصنف أربعة مذاهب.
الأول ـ وبه قال الأكثرون ـ: أنه واجب، سواء كان سبباً وهو
الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، أو شرطاً وهو الذي
يلزم من عدم العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وسواء
كانا شرعيين أو عقليين أو عاديين.
واعلم أنه دخل فيما لا يتم الواجب إلا به جزء الواجب، وليس
مراداً هنا، لأن الأمر بالكل أمر به تضمنا بلا خلاف.
الثاني: أنه غير واجب.
(1/86)
الثالث: أنه واجب، إن كان سبباً كالنار
للإحراق فيما إذا وجب إحراق زيد فإنه يتوقف على النار التي هي
سبب الإحراق، بخلاف الشرط، فإنه لا يجب.
الرابع: أنه يجب الشرط إن كان شرعياً كالوضوء للصلاة، دون
العقلي والعادي، وبه قال إمام الحرمين، واختاره ابن الحاجب،
وإذا قلنا بالأول، فله شرطان.
أحدهما: أن يكون مقدوراً للمكلف، واحترزنا بذلك عن القدرة
والداعية فإن الإتيان الفعلي متوقف على القدرة، وهي إرادة الله
تعالى له، والداعية وهي العزم المصمم على الفعل، وإلا لكان
وقوعه في وقت دون وقت ترجيحاً من غير مرجح، وهما غير مقدورين
للمكلف، فلا يجبان عليه.
قال الشارح: وهذا الشرط يعتبره من لم يجوز تكليف ما لا يطاق،
دون من يجوزه، كذا قاله الصفي الهندي، وحينئذ فالمصنف ممن
يجوزه كما سيأتي، فكيف يحسن منه هذا التقييد!!
قلت: وبما ذكرنا ينتفي هذا الإيراد لتعييننا/ (17ب/م) أن
الاحتراز عن القدرة والداعية خاصة، وإيضاح ذلك أن ما يتوقف
عليه الفعل إما أن يكون من فعل الله تعالى أو من فعل العبد،
وكل منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب أم لا، فهذه أربعة أقسام.
الأول: ما هو من فعل الله، ويتوقف عليه الوجوب، كالعقل وسلامة
الأعضاء وغيرهما.
والثاني: ما يكون من فعل الله، ولا يتوقف عليه الوجوب، وهو
القدرة والداعية.
والثالث: ما يكون من فعل العبد، ويتوقف عليه الوجوب، كتحصيل
النصاب بالنسبة للزكاة، والإقامة في بلد بالنسبة للجمعة.
(1/87)
والرابع: ما يكون من فعل العبد ولا يتوقف
عليه الوجوب، كالوضوء للصلاة، والسير للحج.
ولا يصح الاحتراز عن الأول والثالث، لانتفاء الوجوب فيهما،
فبقي الثاني والرابع، ولما لم يذكر الرابع علمنا ثبوت وجوبه مع
المقدرة عليه، ومع العجز عنه، فالأول بالاتفاق، والثاني عند من
جوز التكليف بالمحال، فتعين/ (15أ/د) الاحتراز عن الثاني فإنه
غير واجب، لعدم القدرة عليه، والله أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون الإيجاب مطلقاً أي غير مقيد بحالة وجود
السبب والشرط، فلو قيد التكليف بوجودهما فهما غير مكلف بهما
اتفاقاً.
ص: فلو تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره وجب، أو اختلطت منكوحة
بأجنبية حرمتا، أو طلق معينة ثم نسيها.
ش: المقدمة على قسمين.
أحدهما: يتوقف عليها نفس وجود الواجب.
والثاني: يتوقف عليها العلم بوجوده، فهذه فروع من القسم
الثاني.
الأول: إذا لم يمكن الكف عن المحرم إلا بالكف عما ليس بمحرم
كما إذا اختلطت نجاسة بماء طاهر قليل: فيجب الكف عن استعماله،
وحكي عن ابن السمعاني في (القواطع) خلافاً في أنه يصير كله
نجساً، وإنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول المباح لاختلاط
المحرم به، قال: والأول هو اللائق بمذهبنا، والثاني هو اللائق
بمذهب الحنفية.
قلت: ولا ينبغي أن يكون هذا من المقدمة إلا على المذهب الثاني،
وأما على الأول فالكل نجس مقصود بالتحريم.
الثاني: لو اختلطت منكوحة بأجنبية حرمتا: الأجنبية بالأصالة،
(1/88)
والمنكوحة، لأنه لا يتيقن الكف عن الأجنبية
إلا بالكف عنها، ولو عبر بالحلال لكان أولى ليشمل الأمة.
وقوله: (الأجنبية) مثال، فالأجنبيتان كذلك.
الثالث: إذا طلق إحدى زوجتيه بعينها، ثم نسيها، لزم الكف عنهما
حتى يتذكر، فإنه لا يمكن الكف عن المطلقة إلا بذلك.
ص: مطلق الأمر لا يتناول المكروه خلافاً للحنفية، فلا تصح
الصلاة في الأوقات المكروهة، وإن كانت كراهة تنزيه.
ش: مطلق الأمر أي لا بقيد، لا يتناول المكروه، فإنه مطلوب
الترك، والأمر/ (18أ/م) مطلوب الفعل، فيتناقضان، حكى الخلاف في
هذا بيننا وبين الحنفية ابن السمعاني في (القواطع) وقال: تظهر
فائدة الخلاف في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فلا
يتناول عندنا الطواف بغير طهارة، وعلى مذهبهم يتناوله، فإنهم
وإن اعتقدوا كراهة هذا الطواف ذهبوا إلى أنه دخل في الأمر، حتى
يتصل به الإجزاء الشرعي، ونحن لا نقول إنه طواف مكروه، بل لا
طواف أصلاً، لقيام الدليل على أن الطهارة شرط فيه كالصلاة.
وجعل المصنف من فروع ذلك الصلاة التي لا سبب لها في الأوقات
المكروهة، فإن الراجح أنها لا تنعقد، سواء قلنا: إن تلك
الكراهة للتحريم أو للتنزيه، كما اقتضاه كلام (الروضة) وقال في
(المطلب): إنه الحق، لأن المقصود منها طلب الأجر وتحريمها أو
كراهتها يمنع حصوله، وما لا يترتب عليه مقصوده باطل كما تقرر
من قواعد الشريعة.
واستشكل ذلك شيخنا الإسنوي،
(1/89)
فإن الإقدام على المكروه جائز، فكيف لا
ينعقد؟ وجوابه ما تقدم من تنافي رجحان/ (15ب/د) الترك، ورجحان
الفعل، والله أعلم.
ص: أما الواحد بالشخص له جهتان كالصلاة في المغصوب، فالجمهور
تصح ولا يثاب، وقيل: يثاب، والقاضي والإمام: لا تصح، ويسقط
الطلب عندها، وأحمد: لا صحة ولا سقوط.
ش: للواحد بالشخص حالتان:
إحداهما: أن لا يكون له إلا جهة واحدة، فلا خلاف في امتناع
كونه مأموراً به، منهياً عنه، إلا عند من يجوز تكليف ما لا
يطاق، لأن مقتضى الأمر المنع من تركه، ومقتضى النهي المنع من
فعله، وهما متنافيان.
الثانية: أن يكون له جهتان كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهل
يجوز الأمر به من وجه والنهي عنه من وجه؟
فيه مذاهب: أحدها ـ وبه قال الجمهور ـ: أنه يصح لتعدد الجهات،
فهو كاختلاف المحال، فلا تناقض، وأما كونه لا ثواب فيها، فلم
يصرح به الأصوليون، وحكاه النووي في (شرح المهذب) عن أبي منصور
ابن أخي ابن الصباغ في فتاويه التي جمعها عن عمه، أنه قال إنه
المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق، ثم قال: وذكر شيخنا يعني ابن
الصباغ في كتابه (الكامل): أنه ينبغي حصول الثواب عند من
صححها، قال أبو منصور: وهو القياس.
(1/90)
قلت: ينبغي أن يقابل بين ثواب العبادة وإثم
المكث في المغصوب، فإن تكافآ أحبط الإثم الثواب، وإن زاد ثواب
العبادة بقي له قدر من الثواب لا يضيع عليه، وحينئذ فلا يطلق
انتفاء الثواب لحصول بعضه في بعض الأحوال، والله أعلم.
وقد ظهر أن قوله: (وقيل: يثاب) هو بحث لابن الصباغ، وهو المذهب
الثاني.
والمذهب الثالث: أنه لا يصح، ولكن يسقط الطلب عندها، أي لا
بها، وحكاه المصنف عن القاضي أبي بكر والإمام الرازي، وقال
الصفي الهندي: الصحيح أن القاضي/ (18/ب/ م) إنما يقول بذلك لو
ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأما إذا لم يثبت
بذلك فلا يقول بسقوط القضاء بها ولا عندها، انتهى.
والمذهب الرابع: أنها لا تصح، ولا يسقط بها الفرض، وهو المنقول
عن أحمد بن حنبل، وهو وجه عندنا، حكاه القاضي حسين في تعليقه
في باب صلاة المسافر إلا أنه لم يصرح بأن الفرض لا يسقط.
ص: والخارج من المغصوب تائباً آت بواجب، وقال أبو هاشم: بحرام،
وقال إمام الحرمين هو مرتبك في المعصية مع انقطاع تكليف النهي
وهو دقيق.
ش: إذا دخل أرضا مغصوبة ثم ندم وأراد الخروج منها، ففي خروجه
منها أقوال.
أحدها: أنه آت بواجب، فإنه باعتبار شغل بقعة غيره آت بمحرم،
وباعتبار السعي في تفريغها آت بواجب، ولا يمكن التفريغ إلا
بهذا الشغل.
الثاني وبه قال أبو هاشم: إنه آت بحرام، كاللابث فيها، لتصرفه
في ملك غيره بغير إذنه.
الثالث وبه قال إمام الحرمين: إنه مرتبك في المعصية، أي مشتبك
(1/91)
فيها لا يمكنه التخلص ما دام فيها، فهو عاص
باستصحاب التعدي السابق مع انقطاع تكليف النهي، واستبعده ابن
الحاجب/ (16أ/د) وضعفه الغزالي، بأن النهي إذا انتفى فإلى ماذا
تستند المعصية؟
ص: والساقط على جريح يقتله إن استمر وغيره، إن لم يستمر، قيل:
يستمر، وقيل: يتخير، وقال إمام الحرمين: لا حكم فيه، وتوقف
الغزالي.
ش: ذكر هذه عقب ما تقدم، لأن إمام الحرمين قال: إن غرضه يظهر
بمسألة ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء، وهي: أن من
توسط جمعا من الجرحى، وجثم على صدر واحد منهم، وعلم أنه لو بقي
لأهلكه، ولو انتقل لأهلك آخر، قال: لم أتحصل فيها من قول
الفقهاء على ثبت، والوجه: القطع بسقوط التكليف عنه، مع استمرار
حكم سخط الله وغضبه.
وسأله الغزالي عن هذا فقال: كيف تقول: لا حكم، وأنت ترى أنه لا
تخلو واقعة عن حكم؟!
فقال: حكم الله أن لا حكم.
قال الغزالي: فقلت له: لا أفهم هذا.
قال الإبياري: وهذا أدب حسن، وتعظيم للأكابر، لأن هذا تناقض إذ
لا حكم: نفي عام، فكيف يتصور ثبوت الحكم مع نفيه على العموم؟!
فهذا لا يفهم لا لعجز السامع عن الفهم بل لكونه غير مفهوم في
نفسه انتهى.
والقولان اللذان حكاهما المصنف في أنه يستمر أو يتخيرهما
احتمالان
(1/92)
وتوجيه الأول: أن الانتقال فعل مستأنف.
وأشار المصنف بتوقف الغزالي إلى أنه اختلف كلامه في (المنخول)
فمرة قال: المختار أن لا حكم لله فيه، فلا يؤمر بمكث ولا
انتقال، ومرة حكى كلام الإمام ثم قال: ولم أفهمه بعد.
وفرض الشيخ عز الدين/ (19/أ/م) بن عبد السلام في القواعد
المسألة في الساقط على أطفال وقال: ليس في هذه المسألة حكم
شرعي، وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ثم
قال: الأظهر عندي فيما لو كان بعضهم كافراً لزوم الانتقال إلى
الكافر، لأنا نجوز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم.
قال الشارح: ولا يخفى أن هذا التردد في طفل كافر معصوم الدم،
فإن كان حربياً فلا شك في لزوم الانتقال إليه، ويحتمل على بعد
طرده فيه. انتهى.
وأجاب الشارح عن الإمام بأن مراده لا حكم أي من الأحكام
الخمسة، والبراءة الأصلية حكم الله، ولا تخلو واقعة عن حكم
بهذا الاعتبار.
ص: مسألة يجوز التكليف بالمحال مطلقاً، ومنع أكثر المعتزلة
والشيخ أبو حامد والغزالي وابن دقيق العيد ما ليس ممتنعاً،
لتعلق العلم بعدم وقوعه، ومعتزلة بغداد والآمدي: المحال لذاته،
وإمام الحرمين كونه مطلوباً لا ورود صيغة الطلب.
ش: المحال قد يكون امتناعه عادة لا عقلاً، كالطيران في الهواء
ونحوه، وقد يكون عقلاً لا عادة، كمن سبق في علم الله تعالى أنه
لا يؤمن، فإن
(1/93)
العقل يحيل إيمانه لما يلزم عليه من انقلاب
العلم القديم جهلاً، ولو سئل عنه أهل العادة لم يحيلوا إيمانه،
وقد يكون عقلاً وعادة، كالجمع بين النقيضين ونحوه، فالقسم
الثاني يجوز التكليف به/ (16ب/د) بل وقع بالاتفاق، لأن الله
تعالى كلف الثقلين بالإيمان مع علمه بأن أكثرهم لا يؤمنون،
وهذا مفهوم من تقييد المصنف قول المنع بما ليس ممتنعاً لتعلق
العلم القديم بعدم وقوعه، فدل على أن ما امتنع لتعلق العلم
القديم بعدم وقوعه ليس محل خلاف ولا يمنع التكليف به أحد.
وأما القسم الأول والثالث ففيهما مذاهب.
أحدهما ـ وبه قال أكثر أصحابناـ: جوازه مطلقاً، أي سواء كان
محالاً لذاته وهو الممتنع عقلاً، أو لغيره وهو الممتنع عادة.
الثاني: المنع مطلقاً، وبه قال أكثر المعتزلة، ورجحه ابن
الحاجب، وحكي عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ وحكاه المصنف عن
الشيخ أبي حامد والغزالي وابن دقيق العيد، وفي النقل عن
الأخيرين نظر، أما الغزالي فحكى عنه الآمدي: أنه مال إلى القول
الثالث المفصل، وأما ابن دقيق العيد فإنه في (شرح العنوان) بعد
أن اختار عدم جوازه، قال: إن المحال بنفسه هو الذي يمنعه.
الثالث: منع التكليف بالممتنع لذاته وهو المحال عقلاً وعادة،
وجوازه بالممتنع لغيره وهو الممتنع عادة فقط، وبه قال الآمدي
والمعتزلة البغداديون.
الرابع ـ وبه قال إمام الحرمين ـ: أنه/ (19/ ب/م) يمتنع
التكليف بالمحال، أي طلب فعله، ولا يمتنع ورود صيغته غير مراد
بها الطلب مثل: {كونوا قردة خاسئين}
قال الشارح: وهو في الحقيقة تنقيح مناط، ففي جعل المصنف له
مذهباً رابعاً نظر، ولهذا قال ابن برهان: الخلاف على هذا لفظي
بخلافه على قول
(1/94)
المعتزلة، ومن ثم حاول بعض المتأخرين نفي
الجواز عن الأشعري، وزعم أن الذي جوزه ورود صيغة مضاهية لصيغة
الأمر والعرض، منها: التعجيز، وبيان حلول العقاب الذي لا محيص
عنه، وليس المراد طلبا واقتضاء، انتهى.
تنبيه: قال الشارح: في استثناء ما امتنع لتعلق العلم القديم
بعدم وقوعه عن الخلاف خدش، فإنه ليس متفقاً على استحالته، فإن
الغزالي قال في (المنخول) إنه لا يسمى مستحيلاً، لأنه في ذاته
جائز الوقوع فلا يتغير حقيقته بالعلم.
قلت: مراده ليس مستحيلاً في العادة، ولا شك في استحالته عقلاً،
وإلا انقلب العلم القديم جهلاً، وهو الذي ذكرناه أولاً، فلا
خدش، والله أعلم.
ص: والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات.
ش: اختلف القائلون بالجواز في وقوعه على مذاهب: الوقوع مطلقاً،
وعدمه مطلقاً، وحكاه الإمام في (الشامل) عن الجمهور، والتفصيل
بين الممتنع لذاته كقلب الحجر ذهباً مع بقاء الحجرية فيمتنع،
والممتنع لغيره فيجوز وهو ظاهر اختيار الإمام في الشامل، وجرى
عليه البيضاوي.
وقال المصنف: إنه الحق.
ص: مسألة: الأكثر أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطاً في / (17أ/د)
صحة التكليف، وهي مفروضة في تكليف الكافر بالفروع، والصحيح
وقوعه خلافاً لأبي حامد الإسفراييني وأكثر الحنفية
(1/95)
مطلقاً، ولقوم: في الأوامر فقط، ولآخرين:
فيمن عدا المزتد، قال الشيخ الإمام: والخلاف في خطاب التكليف،
وما يرجع إليه من الوضع لا الإتلاف والجنايات وترتب آثار
العقود.
ش: اختلف الأصوليون في أن حصول الشرط الشرعي وهو ما يتوقف عليه
صحة الشيء شرعاً كالوضوء للصلاة، هل هو شرط في صحة التكليف
بالمشروط أم لا؟
فذهب أصحاب الرأي إلى اشتراطه، وذهب الجمهور إلى / (20/ أ/ م)
أنه لا يشترط، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وقد نازع الصفي
الهندي في ذلك، وقال: إن المحدث مكلف بالصلاة بالإجماع، ومقتضى
هذه الترجمة طرد الخلاف في هذه الصورة، لكن المصنف وغيره
قالوا: إن المسألة مفروضة في تكليف الكافر بالفروع، ـ ومقتضاه
أن الخلاف لا يطرد في سائر الشروط الشرعية، ووجه اندارج هذه
المسألة في هذه القاعدة أن الإسلام شرط لصحة العبادات شرعاً
وخرج بالشرط (الشرعي) العقلي، كالتمكن من الأداء الزائل بالنوم
والفهم من الخطاب الزائل بالغفلة والنسيان، فإن حصوله شرط في
صحة التكليف، وفي مسألة تكليف الكفار، بفروع الشريعة مذاهب.
أحدها: وهو قول مذهب الأئمة الثلاثة: نعم.
الثاني ـ وبه قال أكثر الحنفية ـ: لا، وقال به من أصحابنا
الشيخ أبو حامد
(1/96)
الإسفراييني، وحكى أيضاً عن الأستاذ أبي
إسحاق الإسفراييني، وأنه حكاه قولاً عن الشافعي.
الثالث: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، وادعى بعضهم
تكليفهم بالمناهي بلا خلاف.
الرابع: تكليف المرتد خاصة، دون الكفار الأصليين، وفي
(المحصول) في أثناء الاستدلال ما يقتضي أن الخلاف في غير
المرتد، ثم نقل المصنف عن والده الشيخ الإمام السبكي أنه قيد
إطلاق الأصوليين محل الخلاف فقال: إن الخلاف في خطاب التكليف
وما يرجع إليه من خطاب الوضع، ولذلك أمثلة منها:
ما كان سبب الأمر والنهي، ككون الطلاق سبباً لتحريم الزوجة،
فهو من محل الخلاف، والفريقان مختلفان في أنه هل هو سبب في
حقهم أم لا؟
ومنها: تعلق الزكاة بالمال تعلق شركة، كما هو الأصح من مذهب
الشافعي، فالظاهر عدم ثبوته في حقهم، وإن قيل: إنهم مخاطبون
بالزكاة لأمرين.
أحدهما: أن هذا التعلق المقصود به تأكد الوجوب لصيانة الواجب
عن الضياع، وليس المقصود بتكليفهم بالزكاة أخذها منهم.
ثانيهما: أن المعتمد في ثبوت الشركة قوله تعالى: {خذ من
أموالهم صدقة} وهذه غير متناولة لهم، فأما ما كان من خطاب
الوضع لا يرجع
(1/97)
إلى خطاب التكليف، كالإتلاف/ (17ب/د)
والجنايات، وترتب آثار العقود عليها، كصحة البيع والنكاح
وفسادهما فهم داخلون فيه قطعاً / (20 ب/ م)
ص: مسألة: لا تكليف إلا بفعل، فالمكلف به في النهي الكف، أي:
الانتهاء، وفاقاً للشيخ الإمام، وقيل: بفعل الضد، وقال قوم:
الانتفاء، وقيل: يشترط قصد الترك.
ش: لا خلاف أن المكلف به في الأمر الفعل، وأما في المنهي ففيه
أربعة مذاهب.
أصحها عند ابن الحاجب وغيره: أنه كف النفس عن الفعل، والكف
فعل، وفسر المصنف تبعاً لوالده الكف بالانتهاء.
قال: فإذا قلت: لا تسافر، فقد نهيته عن السفر، والنهي يقتضي
الانتهاء، لأنه مطاوعه، يقال: نهيته فانتهى، والانتهاء هو
الانصراف عن المنهي عنه وهو الترك.
قال: واللغة والمعقول يشهدان له، وفرق بين قولنا: لا تسافر،
وقولنا: أقم، لأن أقم أمر بالإقامة من حيث هي، فقد لا تستحضر
معها السفر، ولا تسافر نهي عن السفر، فمن أقام قاصداً ترك
السفر يقال فيه: انتهى عن السفر، ومن لم يخطر له السفر بالكلية
لا يقال: انتهى عن السفر، والانتهاء أمر معقول، وهو فعل، ويصح
التكليف به، وكذلك في جميع النواهي الشرعية، كالزنا والسرقة
والشرب ونحوها، المقصود في جميعها الانتهاء عن تلك الرزائل ومن
لازم ذلك الانتهاء التلبس بفعل ضد من أضداد المنهي عنه، انتهى.
فقوله: (وفاقاً للشيخ للإمام) يحتمل أن يكون في اختيار هذا
القول، وهو أن المكلف به في النهي الكف، ويحتمل أن يكون في
تفسير الكف بالانتهاء،
(1/98)
والله أعلم.
المذهب الثاني: أن المكلف به في النهي فعل ضد المنهي عنه فإذا
قال: لا تتحرك، فمعناه افعل ما يضاد الحركة، وحكي هذا عن
الجمهور، وضعف بأن النهي قسيم الأمر، والأمر طلب الفعل، فلو
كان النهي طلب فعل الضد لكان أمراً، ولكان النهي من الأمر،
وقسيم الشيء لا يكون قسيماً منه.
الثالث وبه قال أبو هاشم: أنه انتفاء الفعل، فالمكلف به في
قولنا: (لا تتحرك) نفس أن لا يفعل، وهو عدم الحركة.
الرابع: أنه يشترط في امتثال النهي قصد ترك المنهي عنه، وهل
يكتفى بنية ترك المنهيات في الجملة، أو لا بد من نية خاصة في
كل منهي؟
فيه نظر، وهذا القول/ (21/ أ/ م) غير معروف، ومقتضاه أنه إذا
لم يقترن بالترك قصد يأثم وهو بعيد، والمتجه نفي الثواب فقط،
والمعروف قول مفصل بين الترك المجرد المقصود لنفسه/ (18/أ/د)
من غير أن يقصد معه ضده كالصوم، فالمكلف به فيه الفعل، ولهذا
وجبت فيه النية، وبين الترك المقصود من جهة إيقاع ضده كالزنا،
فالمكلف به فيه الضد، وهذا هو ظاهر كلام الغزالي في
(المستصفى).
ص: والأمر عند الجمهور يتعلق بالفعل قبل المباشرة بعد دخول
وقته إلزاماً وقبله إعلاماً، والأكثر يستمر حال المباشرة، وقال
إمام الحرمين والغزالي: ينقطع، وقال قوم: لا يتوجه إلا عند
المباشرة، وهو التحقيق، فالملام قبلها على التلبس بالكف
المنهي.
ش: هذه المسألة في وقت توجه الأمر للمكلف، وهي كما قال القرافي
أغمض مسألة في أصول الفقه مع قلة جدواها، وأنه لا يظهر لها
ثمرة في الفروع، وفيها للأشاعرة مذاهب.
الأول: أنه يتوجه قبل مباشرة الفعل بعد دخول وقته على سبيل
الإلزام
(1/99)
وقبله على سبيل الإعلام، ثم اختلف هؤلاء في
أنه يستمر حال المباشرة أو ينقطع، فالأكثرون على الأول.
واعتمد المصنف في نقل هذه عن الجمهور قول الآمدي: اتفق الناس
على جواز كون الفعل مأموراً به قبل حدوثه، سوى شذوذ من
أصحابنا، وعلى امتناع كونه كذلك بعد حدوثه، واختلفوا في جواز
كونه كذلك، وقت حدوثه، فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة، وبه
يشعر كلام الغزالي انتهى.
وقال آخرون: ينقطع توجه التكليف حال المباشرة، وحكاه المصنف عن
إمام الحرمين والغزالي، وهو المذهب الثاني.
والمذهب الثالث: أنه لا يتوجه قبل المباشرة أصلاً، ولا يتوجه
إلا عندها، وادعى المصنف أن هذا هو التحقيق، وحكاه عن الأشعري،
واختاره الإمام فخر الدين والبيضاوي وغيرهما، وقال الصفي
الهندي: وهو الذي يدل عليه صريح نقل الإمام الرازي عن الأصحاب،
قال: ونقل إمام الحرمين في مذهب أصحاب الشيخ ما يقتضي أنه ليس
بمأمور به قبل حدوثه، وهو الذي/ (21ب/م) يقتضيه أصلهم: أن
الاستطاعة مع الفعل لا قبله، لكن أصلهم الآخر وهو جواز التكليف
بالمحال يقتضي جواز الأمر بالفعل حقيقة قبل الاستطاعة، فعلى
هذا يكون المأمور مأموراً قبل التلبس بالفعل، والمأمور به
مأمور به قبل حدوثه، لكن لعلهم فرعوا هذا على استحالته، أو وإن
قالوا بجوازه، لكنهم قالوا ذلك بناء على عدم وقوعه، انتهى.
وقوله: (فالملام قبلها) إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر على هذا
القول الأخير، تقديره: أن القول به يؤدي إلى سلب التكاليف،
فإنه يقول: لا أفعل حتى أكلف، والفرض أنه لا يكلف حتى يفعل،
وجوابه أنه قبل المباشرة متلبس بالترك وهو فعل، فإنه كف النفس
عن الفعل، فقد باشر الترك، فتوجه إليه التكليف بترك الترك حالة
مباشرته للترك، وذلك بالفعل، وصار الملام على ذلك، وهذا/
(18ب/د) جواب نفيس أشار إليه إمام الحرمين في مسألة تكليف ما
لا يطاق، وأما المعتزلة فإنهم متفقون على توجه التكليف قبل
(1/100)
المباشرة وانقطاعه عندها، ولم يحكه المصنف
عنهم، وإنما حكاه عن الغزالي وإمامه.
ص: مسألة: يصح التكليف، ويوجد معلوماً للمأمور إثره مع علم
الآمر، وكذا المأمور في الأظهر انتفاء شرط وقوعه عند وقته كأمر
رجل بصوم يوم علم موته قبله، خلافاً لإمام الحرمين والمعتزلة،
أما مع جهل الآمر فاتفاق.
ش: هل يصح تكليف الإنسان بأمر مع أن شرط وقوعه في وقته منتف
فلا يمكن وقوعه، لانتفاء شرطه، للمسألة ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يعلم الآمر دون المأمور انتفاءه كأمر الله تعالى
رجلاً بصوم يوم وقد علم سبحانه موته قبله، وشرط الصوم الحياة
فلا يمكن وقوعه لانتفاء شرطه.
قال الجمهور: نعم، وقال إمام الحرمين والمعتزلة: لا، فالثاني
مبني على أن فائدة التكليف الامتثال فقط، والأول مبني على أنه
قد يكون فائدته الابتلاء أيضاً، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة
في تركة المجامع في نهار رمضان إذا مات أو جن في أثناء ذلك،
النهار، فيجب على الأول دون الثاني، وعدم وجوبها هو الأصح،
خلاف مقتضى البناء.
الثاني: أن يعلم المأمور أيضاً انتفاءه، فذكر المصنف/ (22/أ/م)
أن الأظهر صحته أيضاً.
قال الشارح: وهذا مما خالف فيه الأصوليين، فإنهم أطبقوا على
المنع، وفرقوا بينهما بانتفاء فائدة التكليف، ونقل الصفي
الهندي الاتفاق
(1/101)
عليه، إلا على رأي من يقول بتكليف ما لا
يطاق، ومستند المصنف في خلافهم قول الفقهاء فيمن علمت أنها
تحيض في أثناء النهار يجب عليها افتتاح النهار بالصوم.
قال الشارح: وقد سبقه إلى ذلك المجد ابن تيمية في المسودة
الأصولية، فقال بعد ذكر الخلاف في الحالة الأولى: (وينبغي على
مساق هذا أن نجوزه، وإن علم المأمور أنه يموت قبل الوقت كما
نجوز توبة المجبوب من الزنا، ويكون فائدته العزم على الطاعة
بتقدير القدرة، قال: وليست هذه المسألة مبنية على تكليف خلاف
المعلوم، ولا على تكليف ما لا يطاق، وإن كان لها به ضرب من
التعلق، لكن تشبه النسخ قبل التمكن، لأن ذلك رفع الخطاب وهذا
رفع للحكم بعجز، وقد نبه ابن عقيل على ذلك، وينبني على أنه قد
يأمر بما لا يريد انتهى.
الثالث: أن يجهل الآمر انتفاءه كأمر السيد عبده بخياطة الثوب
غداً، فهذا يصح بالاتفاق كما قاله المصنف تبعاً لابن الحاجب،
لكن قال الصفي الهندي: في كلام بعضهم إشعار بخلاف فيه، انتهى.
تنبيهان:
أحدهما: اقتصر ابن الحاجب على ذكر الخلاف في صحة هذا التكليف،
وزاد عليه المصنف أن الخلاف أيضاً في وجود التكليف معلوماً
للمأمور إثره، أي إثر، التكليف، أي عقبه من غير توقف على مضي
زمن يمكن فيه الامتثال/ (19/أ/د) وقد ترجم الأكثرون المسألة
بأنه هل يعلم المأمور كونه مأموراً قبل
(1/102)
التمكن من الامتثال أو لا حتى يمضي عليه
زمن الإمكان؟ فمن جوزه قال: قد تحقق ورود الأمر، وهو شك في
رفعه بانتفاء شرطه قبل وقوعه، ومن منع قال: يكون شاكاً في ذلك،
لأن الشرط سلامة العاقبة، وهو لا يتحققها، ويلزمهم أن لا يوجد
من المكلف عبادة لحصول الشك، فلا يصح لهم عمل.
وقوله: (إثره) هو بكسر الهمزة وإسكان الثاء المثلثة وبفتحها
لغتان.
الثاني: منع المعتزلة ورود/ (22ب/م) الأمر مقيداً بشرط، سواء
علم وقوع الشرط أو عدم وقوعه، لأنه مع العلم بالوقوع لا يكون
شرطاً ومع العلم بعدمه لا يكون أمراً إلا على رأي بعض من يجوز
تكليف ما لا يطاق، وقد ظهر بهذا الاعتراض على ابن الحاجب
والمصنف من وجهين.
أحدهما: تقييد المسألة بالعلم، فذكرا بعض أفراد المسألة.
ثانيهما: نقلهما الاتفاق مع جهل الأمر، والمعتزلة تخالف فيه
أيضاً، والله أعلم.
ص: خاتمة: الحكم قد يتعلق بأمرين على الترتيب، فيحرم الجمع أو
يباح أو يسن.
ش: الواجب المرتب على ثلاثة أقسام:
أحدها: يحرم الجمع بين أفراده، كأكل المذكي والميتة، فإنه يجب
على المضطر أكلها عند فقد المذكي.
ثانيها: يباح، ومثله في المحصول بالوضوء والتيمم، وفيه نظر،
فإن التيمم مع القدرة على الوضوء فعل العبادة بدون شرطها،
فتكون فاسدة، ويحرم الإتيان بالعبادة الفاسدة إجماعاً، فإن أتى
بصورة التيمم بدون نيته فليس تيمماً.
قال الشارح: ويمكن تصويره على رأي ابن سريج في الماء المختلف
في
(1/103)
طهوريته، كالمستعمل والنبيذ الذي يجوز أبو
حنيفة الطهارة به، فإنه نص في كتاب الودائع على أنه يتوضأ به
ويتيمم خروجاً من الخلاف، ومثله قول أبي حنيفة في سؤر الحمار،
إن لم يجد غيره توضأ به وتيمم.
وثالثها: كخصال الكفارة المرتبة مثل كفارة القتل، قال السبكي:
هذا يحتاج إلى دليل ولا أعلمه، ولم أر أحداً من الفقهاء صرح
باستحباب الجمع، ولعل مراد الأصوليين الورع والاحتياط بتكثير
أسباب براءة الذمة، ولعلهم أيضاً لم يريدوا أن الجمع قبل فعله
مطلوب، بل إذا وقع كان بعضه فرضاً وبعضه ندباً.
وقال الشارح: في تصويره نظر، فإنه إذا كفر بالعتق ثم صام فقد
سقطت الكفارة بالأولى، فلا ينوي بالثانية الكفارة، لعدم بقائها
عليه، قال: وينبغي أن يكون على الخلاف فيما إذا بطل الخصوص هل
يبطل العموم.
ص: وعلى البدل كذلك.
ش: أي تأتي هذه الأقسام في الواجب المخير أيضاً، ومثل الإمام
وغيره المحرم الجمع/ (23/أ/م) بتزويج المرأة من كفأين، والمباح
بستر العورة بثوبين، والمندوب بالجمع بين خصال كفارة الحنث،
وفيه ما تقدم في الكفارة المرتبة.
(1/104)
|