الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ص: الكتاب
الثاني في السنة
وهي أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
ش: لم يذكر في تعريفها تقريره عليه الصلاة والسلام لأنه كف عن
الفعل والكف فعل عن المختار فهو مندرج في الأفعال.
والمراد من أقواله وأفعاله ما لم يكن على وجه الإعجاز.
وقال الشارح: كان ينبغي أن يزيد (وهمه) فقد احتج الشافعي في
(الجديد) على استحباب تنكيس الرداء في الاستسقاء بجعل أعلاه
أسفله فإنه عليه الصلاة والسلام هم بذلك فتركه لثقل الخميصة
عليه.
قلت: وكذلك همه بمعاقبة المتخلفين عن الجماعة، استدل به على
وجوبها، وقد يقال الهم خفي فلا يطلع عليه إلا بقول أو فعل
فيكون
(1/384)
الاستدلال بأحدهما فلا يحتاج حينئذ إلى
زيادة، والله أعلم.
ص: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب
ولو سهوا، وفاقا للأستاذ والشهرستاني/وعياض والشيخ الإمام.
ش: الاستدلال بالسنة متوقف على العصمة فلذلك بدأ بالكلام فيها،
والمراد بالأستاذ هنا أبو إسحاق الإسفرايني/ (109ب/م) وهذا
المذهب أنزه المذاهب، أنه لا يصدر عن الأنبياء ذنب لا كبيرة
ولا صغيرة، ولا عمدا ولا سهوا بل طهر الله ذواتهم عن جميع
النقائص، وقد حكى ابن برهان هذا عن اتفاق المحققين.
ص: فإذن لا يقر محمد صلى الله عليه وسلم أحدا على باطل، وسكوته
ولو غير مستبشر على الفعل مطلقا، وقيل: إلا فعل من يغريه
الإنكار، وقيل: إلا الكافر ولو منافقا، وقيل: إلا الكافر غير
المنافق دليل الجواز للفاعل، وكذا لغيره خلافا للقاضي.
ش: يتفرع على وجوب العصمة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يقر/
(90/أ/د) أحدا على باطل، ولا خلاف في ذلك.
قال الشارح: وإنما قال (أحدا) لئلا يتوهم أنه (لا يقر) بفتح
(1/385)
القاف فيكون خطأ.
واختلفوا فيما إذا فعل فعل بحضرته أو في عصره واطلع عليه ولم
ينكره على مذاهب:
أصحها وبه قال الجمهور: أنه دليل على جواز ذلك الفعل لذلك
الفاعل وهل تتعين الإباحة أو يحتمل الوجوب والندب أيضا؟ لم
يستحضر فيه السبكي نقلا ومال إلى الإباحة لأنه لا يجوز الإقدام
على فعل إلا بعد معرفة حكمه فلذلك دل تقريره على الإباحة، وذكر
الشارح أن أبا نصر ابن القشيري ذكرها في كتابه في الأصول وحكى
التوقف في ذلك عن القاضي ثم رجح حمله على الإباحة لأنها الأصل
انتهى.
ولا فرق في دلالة تقريره على الإباحة بين أن يستبشر عليه
الصلاة والسلام بذلك الفعل أو لا يوجد منه إلا مجرد السكوت
عليه.
الثاني: أن التقرير لا يدل على الجواز إلا في حق من لا يغريه
الإنكار على الفعل، فمن أغراه الإنكار على الفعل لا يجب
الإنكار عليه كما قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
حكاه ابن السمعاني عن المعتزلة وقال: الأظهر أنه يجب إنكاره
ليزول توهم الإباحة.
الثالث: أنه يستثنى من التقرير ما لو كان الفاعل كافرا أو
منافقا فلا يدل تقريره على الإباحة، وبه قال إمام الحرمين.
الرابع: أنه لا يستثنى من ذلك إلا الكافر قاله المازري وكما
يدل على جوازه للفاعل يدل على جوازه لغيره. قاله الجمهور، لأن
الأصل استواء
(1/386)
المكلفين في الأحكام وقال القاضي أبو بكر:
لا يتعداه إلى غيره فإن التقرير لا صيغة له.
أما ما فعل في عصره ولم يعلم هل اطلع عليه أم لا فقال الأستاذ/
(110/أ/م) أبو إسحاق: اختلف فيه قول الشافعي، ولهذا جرى له
قولان في إجزاء الأقط في الفطرة.
ص: وفعله غير محرم للعصمة وغير مكروه للندرة.
ش: قد عرف انقسام السنة إلى قول وفعل، فمباحث القول سبقت في
الكلام على الكتاب، وأما الفعل فلا يمكن أن يصدر منه عليه
الصلاة والسلام فعل محرم لما تقرر من عصمته، ولا مكروه لأنه
نادر من غيره فكيف منه؟ قال الشارح: وأنا أقول: لا يتصور منه
وقوع مكروه فإنه إذا فعل شيئا وكان مكروها في حقنا فليس بمكروه
منه، لأنه قصد به بيان الجواز.
قلت: قد يتصور فيما إذا تكرر منه، فإن البيان حصل منه بالفعل
الأول، فاستفدنا من قولهم: (أنه لا يقع منه مكروه) أنه إذا فعل
المكروه في حقنا لبيان الجواز لا يكره، وكذلك القول/ (91/أ/د)
في خلاف الأولى عند من يفرق بينه وبين المكروه، وقد حكى النووي
عن العلماء في وضوئه عليه الصلاة والسلام مرة مرة ومرتين مرتين
أنه أفضل في حقه من التثليث للبيان.
ص: وما كان جبليا أو بيانا أو مخصصا به فواضح وفيما تردد بين
الجبلي والشرعي كالحج راكبا تردد وما سواه إن علمت صفته فأمته
مثله في الأصح.
ش: فعل النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام:
أحدها: أن يكون جبليا كالقيام والقعود والأكل ونحوها وذكر
المصنف
(1/387)
أن حكمه واضح وكأنه أراد بذلك أنه دال على
الإباحة فقط لأنه القدر المحقق، والحرام والمكروه منتفيان كما
تقدم، وقد قال شيخنا الإمام الإسنوي: إنه لا نزاع في ذلك.
لكن حكى القرافي في (التنقيح) قولا أنه للندب، وجزم به الشارح
فقال: أما في الجبلي فالندب لاستحباب التأسي به، وحكى الأستاذ
أبو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما هذا وعزاه إلى أكثر المحدثين.
قال: والأصل فيه أنه يستدل به على إباحة ذلك.
والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدلالة. انتهى.
الثاني: أن يكون بيانا لمجمل كالصلاة/المبينة لقوله تعالى:
{وأقيموا الصلاة} والقطع من الكوع المبين لقوله تعالى:
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فهو واجب عليه صلى الله
عليه وسلم لوجوب التبليغ/ (110ب/م) عليه، فإن قلت: لا يتعين
التبليغ بالفعل، قلت: لا يخرجه ذلك عن كونه واجبا، فإن الواجب
المخير يوصف كل من خصاله بالوجوب.
الثالث: أن يكون من خصائصه كتخيير نسائه، وغير ذلك، فلا يلحق
به في ذلك أمته.
وقول الشارح: (إن حكم المخصص به الوجوب) ممنوع، فقد يكون
مندوبا وقد يكون مباحا، فالخصائص تنقسم إلى هذه الأقسام، وإلى
قسم رابع وهو المحرم عليه، ولكن ذلك لا يمكن صدوره منه كما
تقدم والله أعلم.
الرابع: ما تردد بين الجبلي والشرعي، ولم يذكره الأصوليون
ومثله المصنف بالحج راكبا، ومن أمثلته أيضا جلسة الاستراحة،
فهل تحمل على
(1/388)
الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو الشرعي
لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الشرعيات، ينبغي أن يتخرج
فيه قولان من القولين في تعارض الأصل والظاهر، ومقتضى ذلك
ترجيح الأصل فيكون كالجبلي، لكن كلام أصحابنا في الحج راكبا
وجلسة الاستراحة وغيرهما يدل على ترجيح التأسي فيه، وقد حكى
الرافعي وجهين في ذهابه إلى العيد في طريق ورجوعه في أخرى،
وقال: إن/ (91/ب/د) الأكثرين على التأسي فيه.
الخامس: أن تعلم صفة ذلك الفعل من الوجوب أو الندب أو الإباحة
فالأصح أن حكم أمته فيه كحكمه، ومقابله أنهم مثله في العبادات
فقط.
ص: وتعلم بنص وتسوية بمعلوم الجهة ووقوعه بيانا أو امتثالا
لدال على وجوب أو ندب أو إباحة.
ش: يعلم جهة الفعل من كونه واجبا أو مندوبا أو مباحا بأمور:
أحدها: التنصيص على أحد هذه الأمور.
الثاني: تسويته بفعل قد علمت جهته وأنه من أي هذه الأقسام
فيكون حكم الآخر كحكمه.
الثالث: وقوعه بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب
والندب والإباحة.
فإن قلت: قد تكرر منه ذكر ما كان بيانا لمجمل.
قلت: لا تكرار فيه فالأول أراد به حكم فعل النبي صلى الله عليه
وسلم إذا كان بيانا لمجمل وهو الوجوب عليه/ (111/أ/م) كما
تقدم، والثاني أراد به حكمه في حقنا، وهو تابع لحكم المجمل.
الرابع: وقوعه امتثالا لنص يدل على أحد هذه الأمور فيلحق به في
ذلك.
(1/389)
ص: ويخص الوجوب أماراته كالصلاة بالأذان
وكونه ممنوعا لو لم يجب كالختان والحد.
ش: لما ذكر ما يعرف به جهة الفعل من الوجوب والندب والإباحة،
ذكر ما يخص الوجوب وهو شيئان.
أحدهما: أن يقترن به أمارة الوجوب أي علامته كاقتران الأذان
والإقامة بصلاة، فيدلان على وجوبها لأنهما شعار مختص بالفرائض.
ثانيهما: أن يكون ذلك الفعل ممنوعا منه لو لم يجب، كالختان
والحد كقطع السرقة، فإن الجرح والإبانة ممنوع منهما، فجوازهما
يدل على وجوبهما ومثل ذلك البيضاوي بالركوعين في صلاة الخسوف،
واعترض بأن النووي ذكر في (شرح المهذب) أنه لو صلى صلاة الكسوف
كسائر الصلوات صح، ومثله بعضهم بإحداد زوجة المتوفى عنها، وقد
نقضت هذه القاعدة بسجود السهو والتلاوة في الصلاة، فإن الأصل
المنع منهما، ومع هذا فلم يدل فعله لهما على وجوبهما وذكر
البيضاوي.
ثالثا: وهو أن يوافق نذرا كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
إن هزم العدو عني فلله علي صوم يوم، ثم يهزم العدو فيصوم يوما
ولم يذكره المصنف لأن النذر لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام
بناء على أنه مكروه.
ص: والندب مجرد قصد القربة وهو كثير.
ش: قوله: (الندب) معطوف على الوجوب فهو منصوب، أي يخص الندب
قصد القربة مجردا عن أمارة دالة على الوجوب، ولا فائدة مقصودة
في
(1/390)
قول المصنف: (وهو كثير) وزاد البيضاوي/
(92/أ/د): أن يعلم كونه قضاء لفعل مندوب لأن القضاء يحكى
الأداء.
ص: وإن جهلت فللوجوب وقيل للندب وقيل للإباحة وقيل بالوقف في
الكل وفي الأولين مطلقا وفيهما إن ظهر قصد القربة.
ش: إذا جهلت جهة الفعل بالنسبة إليه وإلى الأمة ففيه مذاهب:
أحدها: الحمل على الوجوب، وبه قال من الشافعية ابن سريج وأبو
علي بن خيران والإصطخري ومال إليه المصنف، وصححه ابن السمعاني/
(111/ب/م) وقال: إنه الأشبه بمذهب الشافعي، لكنه لم يتكلم إلا
فيما ظهر فيه قصد القربة.
الثاني: الندب، وهو المحكي عن الشافعي.
الثالث: الإباحة، وهو المحكي عن مالك واختاره إمام الحرمين في
(البرهان) واختار ابن الحاجب أنه إن ظهر فيه قصد القربة فالندب
وإلا
(1/391)
فالإباحة.
الرابع: الوقف بين الثلاثة حتى يقوم دليل على حكمه، وصححه
القاضي أبو الطيب، وحكي عن جمهور المحققين، كالصيرفي والغزالي
وأتباعهما، واختاره الآمدي والبيضاوي تبعا للمحصول هنا، لكن
جزم فيه في الكلام على جهة الفعل بالإباحة، واختار في
(المعالم) الوجوب.
الخامس: الوقف بين الأولين فقط، وهما الوجوب والندب.
السادس: الوقف بينهما فقط، إن ظهر فيه قصد القربة، فإن لم يظهر
فيه قصد القربة احتمل الإباحة أيضا وقول المصنف: (وفيهما إن لم
يظهر قصد القربة) معكوس وصوابه: (إن ظهر قصد القربة كما
قررته).
ص: وإذا تعارض القول والفعل ودل دليل على تكرر مقتضى القول فإن
كان خاصا به فالمتأخر ناسخ، فإن جهل فثالثها الأصح الوقف، وإن
كان خاصا بنا فلا معارضة فيه، وفي الأمة المتأخر ناسخ إن دل
دليل على التأسي فإن جهل التاريخ فثالثها الأصح أنه يعمل
بالقول وإن كان عاما لنا وله، فتقدم الفعل أو القول له وللأمة
كما مر إلا أن يكون العام ظاهرا فيه فالفعل تخصيص.
ش: التعارض بين شيئين هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما
مقتضى صاحبه، فإذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله
ودل دليل على تكرر مقتضى القول فله أحوال:
الأولى: أن يكون القول خاصا به، فإن عرف المتأخر منهما فهو
ناسخ للمتقدم، سواء أكان قولا أو فعلا، وإن جهل فأقوال أصحها
الوقف إلى
(1/392)
قيام الدليل، لأن العمل بأحدهما ترجيح من
غير مرجح.
والثاني: العمل بالقول لقوته.
والثالث: العمل بالفعل لوضوحه.
الثانية: أن يكون القول خاصا بنا فلا معارضة بينه وبين الفعل
فيه-/ (92/ب/د) أي في حقه صلى الله عليه وسلم – لعدم تناوله
له، وأما في حقنا فإن لم يقم دليل على التأسي به في الفعل
المتقدم فلا تعارض بالنسبة إلينا، لأن حكم الفعل لم يتعلق
بنا،/ (112/أ/م) وإن دل دليل على وجوب التأسي به فيه فإن عرف
المتأخر منهما فهو الناسخ قولا كان أو فعلا، وإن جهل ففيه
الأقوال المتقدمة، وهي الوقف، وتقديم القول وتقديم الفعل لكن
الأصح هنا العمل بالقول.
قلت: وكأنه إنما رجح هنا لاحتياجنا إلى العمل بأحدهما فقدمنا
القول لقوته وأما في حقه عليه الصلاة والسلام فقد انقطع العمل
فكان الأحوط الوقف والله أعلم.
الثالثة: أن يكون القول عاما متناولا له صلى الله عليه وسلم
وللأمة، ولا بد مع ذلك من أن يدل دليل على وجوب التأسي به في
ذلك الفعل، فإن عرف المتأخر منهما فهو الناسخ قولا كان أو
فعلا، وإن لم يعرف عادت الأقوال، ويكون الأصح في حقه عليه
الصلاة والسلام الوقف، وفي حقنا العمل بالقول كما تقدم، وعبر
المصنف رحمه الله عن هذا بقوله: (فيقدم الفعل أو القول له
وللأمة كما مر) أي من التفصيل بين معرفة التاريخ أم لا، وعود
الأقوال واختلاف الترجيح بالنسبة إليه وإلينا، وشرحه شارحه
بقوله: يعني أن المتأخر ناسخ قولا كان أو فعلا. وفي هذا الشرح
قصور لعدم تناوله لحالة جهل التاريخ ولا شك أن قرمطة عبارة
المصنف هي التي أوجبت للشارح هذا التقصير.
(1/393)
ثم قيد المصنف ما دل عليه الكلام المتقدم
من كون القول المتأخر ناسخا للفعل المتقدم في حقه صلى الله
عليه وسلم بما إذا كان تناول القول له نصا، فإن كان بطريق
الظهور كأن يقول: هذا الفعل واجب على المكلفين، ونقول: إن
المخاطب يدخل في عموم خطابه فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا
العموم، لأن التخصيص عندنا لا يشترط تأخره عن العام.
قال الشارح: وهذا الاستثناء زاده المصنف على المختصرات.
تنبيه:
أما تعارض القولين فسيأتي في التعادل والتراجيح وأما الفعلان
ففي المختصر والمنهاج/الجزم بأنهما لا يتعارضان ووجهه أنه يجوز
أن يكون الفعل في وقت واجبا وفي غيره بخلافه، لأن الأفعال لا
عموم لها.
قال الشارح: لكن حكى جماعة قولا بحصول التعارض وطلب الترجيح من
خارج كما اتفق في صلاة الخوف، ولهذا رجح الشافعي منهما ما هو
أقرب لهيئة الصلاة، وقدم بعضهم الأخيرة منهما إذا علم/
(112ب/م).
قلت: ليس/ (93/أ/د) الترجيح هنا بمعنى إلغاء الآخر، فإن جميع
الهيئات الواردة في ذلك يجوز العمل بها، والترجيح إنما هو في
الأفضلية خاصة، وليس مما نحن فيه، واستثنى ابن الحاجب وغيره من
الفعلين ما إذا دل دليل من خارج على وجوب تكرير الفعل له أو
لأمته فإن الفعل الثاني حينئذ ناسخ لكن العمل في الحقيقة بذلك
الدليل. والله أعلم.
(1/394)
|