الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

ص: الكتاب الثالث في الإجماع
وهو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان.
ش: قدم الإجماع على القياس لعصمته عن الخطأ بخلافه وهذا التعريف بديع يستخرج منه جميع مسائل هذا الكتاب.
فالاتفاق جنس يشمل القول والفعل والاعتقاد وما في معناها من السكوت عند القائل به.
وخرج بالمجتهد اتفاق بعض المجتهدين، واتفاق العوام.
ولفظ المجتهد مفرد أريد به الجنس، وليس جمعا فلا يكتب بالياء كما قاله المصنف وانفصل بذلك عن قول القائل: أقل الجمع ثلاثة، فيخرج ما إذا لم يكن في العصر إلا مجتهدان مع أن اتفاقهما إجماع وإذا كان مفردا مضافا عم.

(1/485)


وقد أورد عليه حينئذ أنه يتناول المجتهد الواحد إذا لم يكن في العصر سواه، والمختار أنه ليس إجماعا، وأجيب عنه بخروج هذه الصورة/ (142/ب/م) بلفظ الاتفاق، فإنه إنما يكون من اثنين فصاعدا وخرج بإضافة المجتهد للأمة اتفاق الأمم السالفة فليس حجة على الأصح، وعلى القول بأنه حجة فالكلام فيما هو حجة الآن، وتلك حجة انقرضت.
والألف واللام في الأمة للعهد، والمراد هذه الأمة، وخرج بالوفاة الإجماع في عصره عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينعقد، ودل بقوله: (في عصر) على أنه يكفي اتفاق المجتهدين في عصر من الأعصار، ثم يصير حجة عليهم وعلى من بعدهم، ودفع به توهم إرادة اجتماع كلهم في جميع الأعصار إلى يوم القيامة.
وهذا من زيادة الآمدي، وأجاب من لم يذكره بأن المقصود العمل وإنما يكون في عصر.
وقوله: (على أي أمر كان) يعم الإثبات والنفي والأحكام الشرعية واللغوية، والعقلية، والدنيوية، فهي حجة فيها كما جزموا به في الأولين، ورجحوه في الآخرين.
وأدخل المصنف على أمر صيغة عموم ولم يفعل ذلك في عصر تأكيدا للتعميم في الأمر، فإنه قد يتخيل الفرق بين بعض الأمور/ (117/ب/د) وبعض، كما منع بعضهم الإجماع في العقليات وفيما أصله أمارة، ولا يتخيل الفرق بين عصر وعصر، ولا يقال: لولا اختلاف الأعصار لما اختص الإجماع بأعصار هذه الأمة وبعصر الصحابة عند القائل به، لأن ذلك ليس لاختلاف الأعصار بل لاختلاف أهلها، ولذلك لو كان بين الصحابة تابعي مجتهد لم يعتد بخلافه من يخص الإجماع بالصحابة، مع أنه في عصرهم، هذا معنى كلام المصنف في انفصاله عن سؤالين والله أعلم.

(1/486)


ص: فعلم اختصاصه بالمجتهدين، وهو اتفاق، واعتبر قوم وفاق العوام مطلقا، وقوم في المشهور بمعنى إطلاق أن الأمة اجتمعت لا افتقار الحجة إليهم، خلافا للآمدي، وآخرون: الأصولي في الفروع.
ش: علم من أخذ المجتهد في التعريف اختصاص الإجماع بالمجتهدين، وأنه لا اعتبار بقول العوام في وفاق ولا خلاف وبهذا قال الأكثرون، واعتبر قوم وفاقهم مطلقا، أي: في المسائل المشهورة والخفية وآخرون: وفاقهم في/ (143/أ/م) المسائل المشهورة دون الخفية كدقائق الفقه.
ثم بين المصنف أنه ليس معنى اعتبار وفاقهم أن قيام الحجة تفتقر إلى ذلك، وإنما معناه: أنه لا يصدق إطلاق اجتماع الأمة مع مخالفتهم وإن كان الآمدي خالف في ذلك، فجعله في افتقار الحجة إليهم.
وحكاه الإمام وغيره عن القاضي أبي بكر، وهو غلط عليه، فقد صرح في غير موضع من مختصر (التقريب): بعدم اعتبار قولهم، بل زاد على هذا: أن نقل الإجماع على عدم اعتباره وأن الخلاف إنما هو في أنه هل يصدق أن يقال: أجمعت الأمة، أو لا يقال إلا أجمع علماء الأمة؟ لا في أن لقول العلماء مع مخالفة العوام حجة أم لا.
وبهذا التحقيق يظهر أنه لا خلاف في المسألة في المعنى، ولهذا قال المصنف في أول كلامه: إن اختصاصه بالمجتهدين اتفاق، ثم رتب المصنف على عدم اعتبار قول العوام مسألة أخرى، وهي اعتبار قول المجتهد في فن فيما ليس مجتهدا فيه لأنه في غير فنه كالعامي.
لكن اختلفوا في اعتبار قول الأصولي الذي ليس بفقيه والفقيه الذي ليس

(1/487)


أصوليا في الفروع على أربعة أقوال:
الاعتبار مطلقا.
وعدمه مطلقا.
والثالث: اعتبار قول الأصولي، لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد واستنباط الأحكام من مآخذها، وليس من شرط الاجتهاد حفظ الأحكام، بخلاف الفقيه الحافظ للأحكام، وهذا القول هو المحكي في كلام المصنف، واختاره القاضي أبو بكر، وقال الإمام: إنه الحق.
والرابع: عكسه وهو اعتبار قول الفقيه/ (118/أ/د) دون الأصولي، لأنه أعرف بمواقع الاتفاق والاختلاف.
ص: وبالمسلمين فخرج من نكفره.
ش: علم من اعتبار مجتهد الأمة اختصاصه بالمسلمين.
قلت: بناء على أن المراد بالأمة أمة الإجابة لا أمة الدعوة، فلا اعتبار بقول الكافر في علم من العلوم، ولو بلغ رتبة الاجتهاد فيه، سواء في ذلك المعترف بالكفر وغيره، وهو المبتدع إن فرعنا على تكفيره ببدعته، فإن لم نكفره/ (143/ب/م) فالمختار: أنه لا ينعقد الإجماع دونه لدخوله في مسمى الأمة.
وقيل: ينعقد دونه، وقيل: لا ينعقد عليه بل على غيره، فيجوز له مخالفة إجماع من عداه، ولا يجوز ذلك لغيره.

(1/488)


قلت: كذا حكاه الشارح، وينبغي عكسه: أنه ينعقد إجماع غيره عليه ولا ينعقد إجماعه على غيره، والله أعلم.
قال الشارح: إذا كان الإجماع في أمر دنيوي فلا يبعد أن لا يختص بالمسلمين لا سيما إذا بلغ المجمعون حد التواتر ولم يشترط في نقل المتواتر الإجماع
قلت: ليس هذا نقلا ورواية وإنما هو اجتهاد واستنباط فلا معنى لما ذكره آخرا. نعم أول بحثه قريب في انعقاد الإجماع بالكافر في الأمور الدنيوية، والله أعلم.
ص: وبالعدول، إن كانت العدالة ركنا، وعدمه إن لم تكن وثالثها: في الفاسق يعتبر في حق نفسه ورابعها: إن بين مأخذه.
ش: ويعلم أيضا من اعتبار الاجتهاد الاختصاص بالعدول إن فرعنا على أن العدالة ركن في الاجتهاد.
فإن قلنا: ليست بركن لم يختص الإجماع بالعدول.
وفهم عنه حكاية خلاف في اعتبار قول الفاسق وبناؤه على اشتراط العدالة في الاجتهاد، وسيأتي في باب الاجتهاد تصحيح عدم اشتراطها فيلزم منه اعتبار الفاسق في ذلك لكن الأكثرون على عدم اعتباره.
وفي المسألة قول ثالث: أنه يعتبر خلافه في حق نفسه دون غيره.

(1/489)


ورابع: إن بين مأخذه اعتبر وإلا فلا.
قال ابن السمعاني: ولا بأس به، ثم هذا في الفاسق بلا تأويل، أما المتأول فكالعدل وقد تقدم من نص الشافعي قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية.
ص: وأنه لا بد من الكل، وعليه الجمهور، وثانيها: يضر الاثنان وثالثها: الثلاثة، ورابعها: بالغ عدد التواتر، وخامسها: إن ساغ الاجتهاد في مذهبه، وسادسها: في أصول الدين، وسابعها: لا يكون إجماعا بل حجة.
ش: علم من قوله (مجتهد الأمة) أنه لا بد من اتفاق جميعهم، لأنه مفرد مضاف فيعم، فلا ينعقد الإجماع مع مخالفة بعض مجتهدي العصر، ولو كان واحدا، هذا هو الصحيح وقول الجمهور.
القول الثاني: أنه إن كان المخالف اثنين قدح في الإجماع، أو واحدا فلا.
الثالث: إنما يضر الثلاثة، حكاه الإمام/ (118/ب/د) عن محمد بن جرير الطبري وأبي بكر الرازي وأبي الحسين الخياط من المعتزلة ونقل عنهم البيضاوي: أنه لا يضر مخالفة الأقل، ومقتضاه أن العبرة بقول الذين هم أكثر من النصف، وإن كثر عدد المخالفين ولم يحك المصنف هذا القول.

(1/490)


الرابع: إن بلغ المخالفون عدد التواتر قدحت مخالفتهم في الإجماع، وإلا فلا.
وقال القاضي أبو بكر: إنه الذي يصح عن ابن جرير.
الخامس: إن كان مذهب المخالف في ذلك مما يسوغ الاجتهاد فيه عند الأكثرين قدح في الإجماع، وإلا فلا.
ومثل الشارح الأول بخلاف ابن عباس في العول/.
والثاني: بخلافه في المتعة وربا الفضل.
قال: وهو قول الجرجاني من الحنفية، وحكاه السرخسي عن أبي بكر الرازي.
السادس: إن كان في أصول الدين قدح، وإلا فلا.
السابع: إن ندر المخالف لم يكن إجماعا قطعيا لكنه حجة لأنه يبعد أن يكون الراجح مع الأقلين، صححه ابن الحاجب.
قال الشارح: وحكي ثامن: أنه إجماع وحجة.

(1/491)


وتاسع: أنه ليس بحجة ولا إجماع، لكن الأولى اتباع الأكثر وإن كان لا تحرم مخالفتهم.
قلت: وعاشر تقدمت حكايته عن البيضاوي والله أعلم.
ص: وأنه لا يختص بالصحابة وخالف الظاهرية وعدم انعقاده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأن التابعي المجتهد معتبر معهم فإن نشأ بعد فعلى الخلاف في انقراض العصر.
ش: فيه مسائل:
الأولى: أن الإجماع لا يختص بالصحابة، وهذا مفهوم من إطلاق مجتهد الأمة، وبه قال الجمهور، خلافا للظاهرية.
قال ابن حزم: ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط، وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف.
فإن قيل: فما تقولون في إجماع من بعدهم أيجوز أن يجمعوا على خطأ؟
قلنا: هذا لا يجوز لأمرين.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمننا من ذلك بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).
والثاني: أن سعة الأقطار بالمسلمين وكثرة العدد لا يمكن أحد ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لم يخف على أحد كذبه. انتهى.

(1/492)


ومقتضاه: أن الظاهرية لا يمنعون الاحتجاج بإجماع من بعد الصحابة ولكن يستبعدون العلم به/ (144/ب/م)
الثانية: أنه لا ينعقد الإجماع في حياته عليه الصلاة والسلام كما صرح به في التعريف، لأنه إن كان مع المجمعين فالحجة في قوله، وإلا فلا اعتبار بقولهم.
الثالثة: إذا كان في عصر الصحابة تابعي بلغ رتبة الاجتهاد اعتبر قوله معهم، وهذا مأخوذ من إطلاق المجتهد، فلا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته خلافا لقوم، ولا يخفى أن هذا مبني على اعتبار مخالفة النادر، فإن لم يتصف بصفة الاجتهاد/ (119/أ/د) إلا بعد إجماعهم فنشأ له الاجتهاد، وخالف قبل انقراضهم بني على الخلاف في اعتبار انقراض العصر، فإن لم نعتبره لم يعتد بخلافه، وإن اعتبرناه اعتد بخلافه.
ص: وأن إجماع كل من أهل المدينة وأهل البيت والخلفاء الأربعة والشيخين وأهل الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة غير حجة.
ش: علم من العموم في قوله: مجتهد الأمة، انتفاء الإجماع في كل من هذه المسائل الست.
فالأولى: خالف فيها مالك، فأخذه أكثر أصحابه على ظاهره، وأوله بعضهم على ترجيح روايتهم على غيرهم.

(1/493)


وخالف في الثانية الشيعة، والمراد بأهل البيت علي وفاطمة وأبناؤهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وحكى الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) عن الشيعة أيضا أن قول علي – رضي الله عنه – وحده حجة.
فإن قلت: كيف يجتمع هذا النقل عن الشيعة مع أنه اشتهر عنهم إنكار حجية الإجماع؟
قلت: أنكروا كونه حجة على تفسيره المعروف، لا مطلقا.
وخالف في الثالثة القاضي (أبو خازم بالخاء والزاي المعجمتين) وهو من أئمة الحنفية ولهذا لم يعتبر خلاف زيد في منع توريث ذوي الأرحام بناء على أن الخلفاء الأربعة يورثونهم وأنفذ المعتضد حكمه بذلك، وكتب به إلى الآفاق، وكان قاضيا في زمنه.
وقال بإجماعهم أيضا الإمام أحمد كما نقله ابن الحاجب.
ومدرك المخالف في الرابعة قوله عليه الصلاة والسلام: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) رواه الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان والحاكم.
ومدرك المخالف في الأخيرتين انتشار الصحابة – رضي الله عنهم – في هذه البلاد دون غيرها./ (145/أ/م)
ص: وأن المنقول بالآحاد حجة.

(1/494)


ش: إذا نقل الإجماع لنا بطريق الآحاد فالصحيح عند الإمام والآمدي وابن الحاجب وغيرهم: أنه حجة كنقل السنة وهذا مفهوم من إطلاق التعريف/ المتقدم.
وحكى الآمدي عن الأكثرين: أنه لا يكون حجة، إلا إذا نقل إلينا بطريق التواتر.
ص: وهو الصحيح في الكل.
ش: أي أن ما ذكرناه هو الصحيح في جميع المسائل المتقدمة، وعلم من ذلك نقل الخلاف في المسائل الست المتقدمة، وإن لم يصرح به هناك.
ص: وأنه لا يشترط عدد التواتر، وخالف إمام الحرمين.
ش: علم من إطلاق مجتهد الأمة أنه لا يشترط للمجمعين عدد وذلك يقتضي أنه لا يشترط بلوغهم عدد التواتر وبه قال الأكثرون خلافا لإمام الحرمين.
قال الشارح: والذي رأيته في (البرهان) بعد حكاية الخلاف في ذلك: والذي نرتضيه – وهو الحق – أنه يجوز انحطاط عددهم، بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة.
وأما/ (119/ب/د) القول بأن إجماع المنحطين عن التواتر حجة فهو غير مرضي، قاله الشارح.
فعلى هذا، هنا مسألتان: جواز ذلك، وهل هو حجة أم لا؟.
والإمام يوافق على الأول ويخالف في الثاني.

(1/495)


وكلام المصنف فيه.
قلت: فلا اعتراض على المصنف، والله أعلم.
ص: وأنه لو لم يكن إلا واحد لم يحتج به، وهو المختار.
ش: علم من لفظ الاتفاق أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد لم يكن قوله حجة، واختاره المصنف.
وقال أبو إسحاق: إنه حجة، وعزاه الصفي الهندي للأكثرين. وقال بعضهم: لا خلاف في أنه ليس بإجماع.
وقال الغزالي: إن اعتبرنا موافقة العوام: فإن ساعده العوام فهو إجماع الأمة، وإن لم يلتفت إلى قولهم فلم يوجد ما يتحقق به اسم الإجماع، لأنه يستدعي عددا حتى يسمى إجماعا.
ص: وأن انقراض العصر لا يشترط، وخالف أحمد وابن فورك وسليم فشرطوا انقراض كلهم أو غالبهم أو علمائهم، أقوال اعتبار العامي والنادر، وقيل: يشترط الانقراض في السكوتي, وقيل: إن كان فيه مهلة وقيل: إن بقي منهم كثير، وأنه لا يشترط تمادي الزمن واشترطه إمام الحرمين في الظني.
ش:/ (145/ب/م) علم من قوله: (في عصر) أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين، لحصول مسمى اتفاقهم في عصر، وبهذا قال الأكثرون.

(1/496)


والثاني: اشتراطه فلو رجع بعضهم قبل موتهم فله ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل وابن فورك وسليم الرازي من الشافعية.
وإذا قلنا بهذا فهل يشترط انقراض كلهم أو غالبهم أو علمائهم؟
فيه ثلاثة أقوال:
فالأول: قول من يعتبر قول العامي والفرد النادر.
والثاني: قول من لا يعتبر قول النادر.
والثالث: قول من لا يعتبر قول العامي.
القول الثالث: أنه لا يشترط انقراضهم في الإجماع السكوتي دون القولي، وهو قول الأستاذ، واختاره الآمدي.
الرابع: اشتراطه فيما فيه مهلة، فأما ما لا مهلة فيه، ولا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج فلا يشترط فيه انقراضهم.
الخامس: أنه إن بقي كثير منهم، وضبط بعدد التواتر لم يكن إجماعهم حجة, وإن كان الباقي منهم قليلا, وهو دون عدد التواتر انعقد الإجماع قبل انقراضهم.
وقوله: (وأنه لا يشترط تمادي الزمن) مفرع على الأول، وهو عدم اشتراط الانقراض أي: لا يشترط أيضا في حصول الإجماع مرور الأزمنة

(1/497)


وطول المدة، وهذا مفهوم من إطلاق الاتفاق المذكور في التعريف، واشترطه إمام الحرمين إن كان الحكم ظنيا، فإن قطعوا بالحكم فلا. ويرد على المصنف أن إمام الحرمين لم يقتصر على طول الزمان بل شرط/ (120/أ/د) معه تكرار الواقعة وعبارته في (البرهان): وشرط ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة وترداد الخوض فيها فلو وقعت الواقعة، فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناسوها إلى ما سواها فلا أثر للزمان، والحالة هذه. ثم بنى على ذلك أنهم لو قالوا عن ظن، ثم ماتوا على الفور، لا يكون إجماعهم إجماعا، ثم أشار إلى ضبط الزمن فقال: المعتبر زمن لا يعرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأي إلا عن قاطع أو نازل منزلة القاطع انتهى.
وظهر بذلك أن نقل ابن الحاجب عن إمام الحرمين/ (146/أ/م) أنه إن كان عن قياس اشترط انقراض العصر، وإلا فلا – غلط عليه، فإنه لا ينظر إلى الانقراض وإنما تعتبر طول المدة وتكرر الواقعة، والله أعلم.
ص: وأن إجماع السالفين/غير حجة وهو الأصح.
ش: علم من لفظ الأمة – وهو للعهد كما تقدم – أن إجماع الأمم السالفة ليس حجة وبه قال الجمهور، لأن العصمة لم تثبت إلا لهذه الأمة وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن إجماع كل أمة حجة.
قال الشارح: ولم يثبتوا أن الخلاف في كونه حجة عندنا أو عندهم. ويحتمل أنه عندنا، وهو مفرع على كونه حجة عندهم، ويتفرع على حجيته عندهم الخلاف في أنه شرع عندنا أم لا، فإن قلنا: نعم، كان إجماعهم عندنا حجة، وإلا فلا.

(1/498)


وفيه نظر. انتهى.
ص: وأنه قد يكون عن قياس خلافا لمانع جواز ذلك أو وقوعه مطلقا أو في الخفي.
ش: علم من إطلاق الاجتهاد أنه قد يكون مستنده نصا ولا خلاف فيه أو قياسا وهو جائز واقع عند الجمهور.
وقيل: إنه غير ممكن وقيل: إنه ممكن إلا أنه غير واقع وقيل: إن كانت الأمارة جلية جاز، أو خفية فلا.
وعلى القول الأول: فاختلفوا في تحريم مخالفته إذا وقع مع إطباقهم على أنه حجة.
ص: وأن اتفاقهم على أحد القولين قبل استقرار الخلاف جائز، ولو من الحادث بعدهم، وأما بعده منهم فمنعه الإمام، وجوزه الآمدي مطلقا، وقيل: إلا أن يكون مستندهم قاطعا، وأما من غيرهم فالأصح ممتنع إن طال الزمان.
ش: إذا اختلف أهل العصر على قولين فهل يجوز بعد ذلك الاتفاق على أحدهما؟
للمسألة حالان.
إحداهما: أن يكون قبل استقرار الخلاف، فجزم المصنف بجوازه، سواء

(1/499)


أكان الاتفاق منهم أو ممن حدث بعدهم من المجتهدين، وهو مفهوم من إطلاق الاتفاق، وبه قال الجمهور لرجوع الصحابة إلى الصديق رضي الله عنهم في قتال/ (120/ب/د) مانعي الزكاة بعد الاختلاف قبل ذلك وخالف فيه الصيرفي.
قلت: ولك أن تقول: إن أريد بالاستقرار الخلاف جزم كل بقوله، فقبل الجزم لا خلاف، وإن أريد موتهم فيرده أن المسألة/ (146/ب/م) أعم من اتفاقهم واتفاق من بعدهم كما تقدم، ولست أرتضي قول من قال: إن المراد اشتهاره وأن يصير مذهبا يعزى إلى قائله، لأن شهرة القول لا تحدث له حكما لم يكن له قبل شهرته.
ولعل المراد باستقراره طول الزمان، وتكرر الواقعة مع تصميم كل على قوله، ولا يلزم من كون ذلك غير مشترط في انعقاد الإجماع عدم اشتراطه في هذه الصورة الخاصة عند بعضهم، والله أعلم.
الثانية: أن يكون بعد استقرار الخلاف وتحته صورتان:
إحداهما: أن يكون الاتفاق من أهل ذلك العصر بعينه، ففيه مذاهب.
أحدها: المنع، وهو اختيار الإمام.
والثاني: الجواز، وهو اختيار الآمدي.
والثالث: أنه يجوز إن كان مستندهم ظنيا، ولا يجوز إن كان قطعيا ولا يخفى أن محل الخلاف إذا لم يشترط انقراض العصر، فإن شرطناه جاز قطعا.
الثانية: أن يكون الاتفاق من أهل العصر الذي بعدهم ففيه مذاهب:
الجواز مطلقا وبه قال الإمام وأتباعه وابن الحاجب.

(1/500)


والمنع مطلقا وبه قال الإمام أحمد، والشيخ أبو الحسن، والصيرفي وإمام الحرمين، والغزالي والآمدي ونقل كل منهما عن الجمهور والأصح عند المصنف: الامتناع إن طال الزمان، والجواز إذا قرب وحكي عن إمام الحرمين.
والفرق أن استمرار الخلاف مع طول الزمان يقتضي العرف فيه، بأنه لو كان ثم وجه لسقوط أحد القولين لظهر.
ص: وأن التمسك بأقل ما قيل حق.
ش: من الأدلة التي اعتمدها الشافعي الأخذ بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلا سواه، ووافقه القاضي أبو بكر والجمهور، وذلك كدية الكتابي قيل: إنها كدية المسلم، وقيل: على النصف منها، وقيل:/الثلث، فأخذ الشافعي بالثلث، وهو مركب من الإجماع والبراءة الأصلية، فإن إيجاب الثلث مجمع عليه، ووجوب الزيادة عليه مدفوع بالبراءة الأصلية، والصورة أنه لم يقم دليل على إيجاب الزيادة، ولذلك أدخله المصنف في مسائل الإجماع، وأشار إلى أنه مفهوم من التعريف المتقدم، وقد عرفت أنه ليس إجماعا محضا بل مركب من أمرين، وقال القاضي أبو بكر: إن الناقل عن الشافعي/ (147/أ/م) أنه من الإجماع لعله زل في كلامه.
وقال الغزالي: هو سوء ظن به، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه، والمختلف فيه سقوط الزيادة ولا إجماع فيه، وحينئذ فليس تمسكا

(1/501)


بالإجماع بل مجموع هذين/ (121/أ/د) الدليلين.
قال شارحه العبدري: قوله: (ليس تمسكا بالإجماع) أي: في إبطال الزيادة على أقل ما قيل، أما في أقل ما قيل فهو تمسك بالإجماع بدليل قوله: المجمع عليه وجوب هذا القدر، ولا مخالف، فيه انتهى.
أما إذا قام دليل على الزيادة فإن الشافعي يأخذ به، كما قال بالتسبيع في غسلات الكلب، لقيام الدليل عليه، ولم يتمسك بأقل ما قيل، وهو الاقتصار على ثلاث غسلات. والله أعلم.
ص: أما السكوتي فثالثهما حجة لا إجماع ورابعها: بشرط الانقراض وقال ابن أبي هريرة: إن كان فتيا، وأبو إسحاق المروزي عكسه، وقوم: إن وقع فيما يفوت استدراكه، وقوم: في عصر الصحابة، وقوم: إن كان الساكتون أقل، والصحيح: حجة، وفي تسميته إجماعا خلاف لفظي، وفي كونه إجماعا تردد، مثاره أن السكوت المجرد عن أمارة رضا وسخط مع بلوغ الكل ومضي مهلة النظر عادة عن مسألة اجتهادية تكليفية هل يغلب ظن الموافقة؟
ش: ما تقدم في الإجماع القولي، أما السكوتي وهو أن يفتي بعض المجتهدين ويبلغ الباقين فيسكتوا من غير تصريح بموافقة ولا إنكار، ففيه مذاهب:
أحدها: أنه ليس بإجماع، ولا حجة، لاحتمال توقف الساكت في ذلك أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد، واختاره القاضي أبو بكر، ونقله عن الشافعي، وقال: إنه آخر أقواله وإمام الحرمين وقال: إنه ظاهر مذهبه، ولهذا قال: لا ينسب إلى ساكت قول.

(1/502)


قال إمام الحرمين: وهي من عباراته الرشقة.
وقال الغزالي في (المنخول): نص عليه في الجديد، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه.
الثاني: أنه إجماع وحجة، ويوافقه استدلال الشافعي بالإجماع السكوتي في مواضع، وأجاب من نقل عنه الأول: بأنه إنما استدل به في وقائع تكررت كثيرا بحيث انتفت/ (147/ب/م) فيها الاحتمالات التي اعتل بها من منع كونه حجة.
ويمكن الجواب بأن تلك الوقائع ظهرت من الساكتين فيها قرينة الرضى فليست من محل النزاع، كما ادعى الاتفاق على ذلك الروياني من أصحابنا والقاضي عبد الوهاب من المالكية.
الثالث: أنه حجة وليس بإجماع، وهو قول أبي هاشم والصيرفي وهو معنى قول الآمدي: إنه إجماع ظني يحتج به, ووافقه ابن الحاجب في مختصره الكبير وتردد في مختصره الصغير بين القول بكونه إجماعا، والقول بكونه حجة.
الرابع: أنه إجماع بشرط انقراض العصر وبه قال أبو علي الجبائي والبندنيجي من أصحابنا وفي (اللمع) للشيخ أبي إسحاق: إنه المذهب، قال: فأما قبل انقراضه فهل نقول: ليس إجماعا/ (121/ب/د) قطعا أو على الخلاف؟ طريقان.
الخامس: أنه إجماع إن كان فتيا لا إن كان حكما، وبه قال ابن أبي هريرة، كذا حكاه الآمدي، والذي في (المحصول) عنه: لا، إن كان من حاكم، وبينهما فرق، فلا يلزم من صدوره من حاكم أن يكون حكما فقد يكون فتوى.

(1/503)


السادس: عكسه، وبه قال أبو إسحاق المروزي، لأن الأغلب أن الصادر من الحاكم لا يصدر إلا عن تشاور.
السابع: أنه إجماع إن كان في أمر يفوت استدراكه كإباحة/فرج وإراقة دم، وإلا فلا، حكاه ابن السمعاني.
الثامن: إنه إن كان في عصر الصحابة فإجماع، وإلا فلا، حكاه الماوردي.
التاسع: أنه إجماع إن كان الساكتون أقل، وإلا فلا، حكاه السرخسي من الحنفية.
ولما حكى المصنف هذه المذاهب صحح منها كونه حجة، اقتداء بالرافعي فإنه قال في كتاب القضاء: إنه المشهور.
قال: وهل هو إجماع؟ فيه وجهان.
ثم أشار المصنف إلى أن الخلاف في كونه إجماعا مع الجزم بأنه حجة خلاف لفظي، أي: هل نسميه بذلك أم لا؟ وأن التردد في كونه إجماعا حقيقة مثاره ومنشؤه: أن السكوت المجرد عن أمارة الموافقة والمخالفة مع علم جميع مجتهدي العصر بفتوى أولئك وبمضي مدة يمكن من حيث العادة الاجتهاد فيها في تلك المسألة هل يغلب على الظن الموافقة/ (148/أ/م) أم لا؟
وقيد المصنف ذلك بقيدين:
أحدهما: أن يكون السكوت عن مسألة اجتهادية، أي واقعة في محل الاجتهاد ليخرج مسائل الوفاق فليست من ذلك.
ثانيهما: أن يكون من مسائل التكليف ليخرج به ما لو كانت المسألة في تفضيل شخص على آخر.
وفاته قيد ثالث أن يتكرر مع طول الزمان.
ورابع: وهو أن يكون بعد استقرار المذاهب.

(1/504)


ص: وكذا الخلاف فيما لم ينتشر.
ش: تقدم الكلام في فتوى البعض وسكوت الباقين مع علمهم به، فإن انتشر ولم يدر هل علموا به أم لا، فيجري فيه الخلاف المتقدم أيضا، لكن الظاهر هنا أنه ليس بحجة، وهو المحكي عن الأكثرين، واختاره الآمدي وهو خلاف ما يقتضيه عبارة المصنف.
وقال الإمام فخر الدين: الحق أنه إن كان فيما تعم به البلوى –أي: تقع فيه الناس كثيرا كنقض الوضوء بمس الذكر – فهو حجة وإلا فلا، وجزم به البيضاوي.
واعلم أن المراد بالانتشار الشهرة لا العلم ببلوغ الخبر للباقين، وألا تتحد مع المسألة التي قبلها.
واشترط الآمدي وابن الحاجب عدم الانتشار يريدان به نفي العلم باطلاعهم ولم يريدا به عدم/ (122/أ/د) الشهرة، فلا خلاف في المعنى.
ص: وأنه قد يكون في دنيوي وديني وعقلي لا تتوقف، صحته عليه.
ش: علم من قوله: (على أي أمر كان) أن الإجماع حجة في الأمور الدنيوية كالآراء والحروب وتدبير الجيوش، وأمور الرعية، وللقاضي عبد الجبار فيه قولان: وجه المنع اختلاف المصالح بحسب الأحوال، فلو كان حجة للزم ترك المصلحة وإثبات المفسدة، وقطع به الغزالي وصححه ابن السمعاني وأما الأمور الدينية فلا خلاف فيها، وأما العقلية فإنها تكون حجة فيما لا يتوقف الإجماع عليه، كحدوث العالم ووحدة الصانع لإمكان تأخر معرفتهما عن الإجماع دون ما يتوقف الإجماع عليه كإثبات الصانع والنبوة، فإن إثبات

(1/505)


ذلك بالإجماع يلزم منه الدور.
ص: ولا يشترط فيه إمام معصوم.
ش: المخالف في ذلك/ (148/ب/م) الرافضة بناء على زعمهم أنه لا يجوز خلو الزمان عنه، وحينئذ فالحجة به لا بالإجماع.
ص: ولا بد له من مستند وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد معنى.
ش: الجمهور على أنه لا بد للإجماع من مستند، أي دليل شرعي من كتاب أو سنة أو قياس على خلاف فيه تقدم، وذلك معلوم من قوله في التعريف: (مجتهد الأمة) وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد فائدة.
وجوز قوم حصوله مصادفة بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير توقيف على مستند، لكن وافقوا على أنه غير واقع كما قاله الآمدي.
ص: الصحيح إمكانه وأنه حجة، وأنه قطعي حيث اتفق المعتبرون لا حيث اختلفوا كالسكوتي وما ندر مخالفه وقال الإمام والآمدي: ظني مطلقا.
ش: فيه ثلاث مسائل:
الأولى:/الصحيح إمكان الإجماع، وأحاله النظام، واعترف بعضهم بإمكانه، ولكن قال: لا سبيل إلى الاطلاع عليه.
الثانية: إذا ثبت إمكانه فهو حجة، خلافا لمن أنكر ذلك، لتضافر أدلة الكتاب والسنة عليه.

(1/506)


الثالثة: إذا ثبت كونه حجة فهل هو حجة قطعية بحيث يكفر أو يضلل مخالفه أو ظنية؟
ذهب الأكثرون إلى الأول، والإمام والآمدي إلى الثاني، واختار المصنف التفصيل بين أن يتفق المعتبرون على أنه إجماع، فيكون قطعيا وبين أن يكون مختلفا فيه كالإجماع السكوتي، وما ندر مخالفه فيكون ظنيا عند القائل به، وقد عرفت أن الأصح أن الأول حجة دون الثاني، ولهذا جمع المصنف بينهما.
ص: وخرقه حرام، فعلم تحريم إحداث ثالث، والتفصيل إن خرقاه، وقيل: خارقان مطلقا، وأنه يجوز إحداث دليل أو تأويل أو علة إن لم يخرق وقيل: لا.
ش: خرق الإجماع حرام، للتوعد عليه في قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} وهو متفق عليه إذا/ (122/ب/د) كان مستنده نصا، فإن كان عن اجتهاد فالصحيح كذلك، وحكى القاضي عبد الجبار قولا: إنه يجوز لمن بعدهم مخالفتهم.
ويتفرع على هذا الأصل مسائل:
الأولى: إذا اختلف أهل العصر على قولين/ (149/أ/م) فهل لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟
فيه مذاهب:

(1/507)


أحدها – وبه قال الجمهور -: المنع، كما لو أجمعوا على قول واحد فإنه يحرم إحداث قول ثان.
والثاني: الجواز.
والثالث – واختاره الإمام والآمدي وابن الحاجب وغيرهم -: أنه إن لم يرفع مجمعا عليه جاز، وإلا فلا، وهو المفهوم من قول المصنف: (إن خرقاه) فإنه متعلق بهذه المسألة والتي بعدها.
ومثل ذلك بمسألة الجد والإخوة، فإن العلماء بين حاجب للإخوة وبين مشرك لهم معه في الإرث، فالقول بحجبهم له مطلقا خارق لما أجمعوا عليه من توريثه بكل حال.
فإن قلت: في (المحلى) لابن جزم قول بحجب الجد بهم؟ قلت: يحتمل أن هذا إن ثبت سابق أجمعوا بعده على خلافه، أو متأخر عن الإجماع فهو حينئذ فاسد غير معتد به، والله أعلم.
تنبيه:
أشار المصنف بالفاء الدالة على التفريع في قوله: (فعلم) إلى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث مع اعتقاد أنه خارق، بل من جوزه اعتقده غير خارق.
الثانية: إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين بل أجابوا فيهما بجواب واحد، فليس لمن بعدهم التفصيل بينهما، وجعل حكمهما مختلفا إن لزم منه خرق الإجماع، وذلك في صورتين:
الأولى: أن يصرحوا بعدم الفرق بينهما.
الثانية: أن يتحد الجامع بينهما كتوريث العمة والخالة، فإن العلماء بين مورث لهما ومانع، والجامع بينهما عند الطائفتين كونهما من ذوي الأرحام، فلا يجوز منع واحدة وتوريث أخرى، فإن التفصيل بينهما خارق لإجماعهم في

(1/508)


الأولى نصا، وفي الثانية تضمنا، ويجوز التفصيل فيما عدا هاتين الصورتين.
ثم حكى المصنف قولا بمنع التفصيل بينهما مطلقا، وأن ذلك خارق للإجماع، وكلام القاضي أبي بكر والإمام فخر الدين يدل على ذلك.
وقول الآمدي: إنه لا خلاف هنا في الجواز – مردود.
تنبيه:
توهم بعضهم أنه لا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها، لأن الآمدي وابن الحاجب جمعا بينهما وحكما عليهما بحكم واحد ولأن في كل منهما/ (149/ب/م) إحداث قول ثالث، لكن الفرق بينهما أن هذه فيما إذا كان محل الحكم متعددا وتلك فيما إذا كان متحدا كذا فرق القرافي وغيره ويمكن أن يقال: تلك مفروضة في الأعم من كون المحل متعددا، وكونه متحدا وهذه في كونه متعددا، فالأولى أعم.
الثالثة: إذا استدل المجمعون على/ (123/أ/د) حكم بدليل أو ذكروا له تأويلا أو علة فلمن بعدهم إحداث/دليل، وتأويل وعلة، إن لم يكن في ذلك إبطال ما أجمعوا عليه، هذا قول الأكثرين ومنعه بعضهم مطلقا لأن ذلك الدليل ليس سبيلا للمؤمنين فلا يقبل، أما إذا كان فيه إبطال مجمع عليه فلا يجوز.
ص: وأنه يمتنع ارتداد الأمة سمعا وهو الصحيح، لا اتفاقها على جهل ما لم تكلف به على الأصح لعدم الخطأ.
ش: فيه مسألتان:
إحداهما: اختلف في أنه هل يمكن ارتداد جميع الأمة في عصر من الأعصار؟ والصحيح امتناعه لأنه ضلال، وهو منفي عن هذه الأمة، وأشار المصنف بقوله: (سمعا) إلى أن محل الخلاف في امتناعه من جهة السمع ولا يمتنع عقلا قطعا.

(1/509)


الثانية: اختلف أيضا في أنه هل يمكن اتفاق الأمة على الجهل بما لا تكلف العلم به كتفضيل عمار على حذيفة أو عكسه؟
والصحيح: أنه لا يمتنع، فإنه ليس في ذلك خطأ لعدم التكليف به، أما ما كلفوا به فيمتنع جهل جميعهم به، ككون الوتر واجبا أم لا.
ص: وفي انقسامها فرقتين كل مخطئ في مسألة تردد مثاره هل أخطأت.
ش: هل يجوز انقسام الأمة فرقتين كل فرقة مخطئة في مسألة، مخالفة للأخرى، كاتفاق شطر الأمة على أن الترتيب في الوضوء واجب، وفي الصلوات الفائتة غير واجب، والفرقة الأخرى على عكس ذلك في الصورتين؟
ذهب الأكثرون إلى المنع، لأن خطأهم في المسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ، ولو في المسألتين، وهو منفي عنهم، وجوزه المتأخرون لأن المخطئ في كل مسألة بعض الأمة، ومثار الخلاف أن المخطئين في المسألتين/ (150/أ/م) معا كل الأمة أو بعضهم وهو معنى قول المصنف: (هل أخطأت) أي كل الأمة.
ص: وأنه لا إجماع يضاد إجماعا سابقا، خلافا للبصري.
ش: ذهب الجمهور إلى أنه إذا انعقد الإجماع في مسألة على حكم لم يجز أن ينعقد بعده إجماع يضاده لاستلزامه تعارض دليلين قطعيين، وجوزه أبو

(1/510)


عبد الله البصري، وقال: لا امتناع في تخصيص بقاء كون الإجماع حجة قطعية، بما إذا لم يطرأ عليه إجماع آخر، لكن لما أجمعوا على وجوب العمل بالمجمع عليه في جميع الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز، فاستفيد عدم الجواز من الإجماع الثاني دون الإجماع الأول.
ص: وأنه لا يعارضه دليل إذ لا تعارض بين قاطعين ولا قاطع ومظنون.
ش: لا يعارض الإجماع دليل قطعي ولا ظني، أما القطعي فلأن تعارض القاطعين محال، لأن التعارض يقتضي خطأ أحدهما وأما الظني فإنه لا يعارض القطعي، وفهم منه أن محل ذلك في الإجماع القطعي أما الظني فتجوز معارضته/ (123/ب/د) فالإجماع المتفق عليه أولى من المختلف فيه.
ص: وأن موافقته خبراً لا تدل على أنه عنه بل ذلك الظاهر، إن لم يوجد غيره.
ش: إذا وجدنا إجماعا موافقا لخبر، ولم نجد للإجماع دليلا سواه، فلا يتعين كون الإجماع ناشئا عن ذلك الدليل، لاحتمال أن يكون له مستند آخر استغني عن ذكره بالإجماع، وإن كان الظاهر أنه ناشئ عنه.
وقال أبو عبد الله البصري: بل يتعين أن يكون هو مستنده وأوله بعضهم على أن ذلك هو الظاهر، لا أنه لازم، وحكاه ابن برهان في (الوجيز) عن الشافعي أيضا.
قال القاضي عبد الوهاب: ومحل الخلاف في خبر الواحد، فإن كان متواترا فهو عنه، بلا خلاف.
تنبيه:
قال الشارح: لينظر في هذه المسألة مع قول المصنف في باب

(1/511)


(الأخبار) وأن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه.
وثالثها:/ (150/ب/م) إن تلقوه بالقبول بأن كونه مستندا لإجماع، ودلالة الإجماع على صدقه متقارب.
قلت: تلك المسألة في الاستدلال بذلك على صحة الخبر وهي كعمل العالم على وفق خبر لا يدل على صحته، فالبحث هناك عن الأخبار وصحتها/وهذه المسألة بعد صحة الخبر لا تدل موافقة الإجماع له على أنه ناشئ عنه فهذا من مباحث الإجماع، هل يتعين أن يكون سنده هذا الخبر أو يجوز أن يكون غيره؟ والله أعلم.
ص: خاتمة: جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر قطعا، وكذا المشهور المنصوص في الأصح، وفي غير المنصوص تردد، ولا يكفر جاحد الخفي ولو منصوصا.
ش: من جحد حكما من أحكام الشرع مجمعا عليه فله أحوال:
أحدها: أن يكون معلوما من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس فهو كافر.
واعلم أن أحكام الشرع – على قاعدة الأشاعرة – لا يعرف منها شيء إلا بالدليل السمعي فهي نظرية لكن لعدم تطرق الشك إليها واستواء الخلق فيها أشبهت الضروري فسميت باسمه.
ثانيها: أن لا يبلغ رتبة الضروري لكنه مشهور، وفيه نص، فالأصح يكفر جاحده فإن لم يكن منصوصا ففي الحكم بكفره تردد، وهو خلاف لأصحابنا صحح النووي في باب: (الردة) التكفير، وحكى الرافعي في باب (حد الخمر) عن الإمام أنه لم يستحسن إطلاق القول بتكفيره وقال: كيف نكفر من

(1/512)


خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلله؟ وأول كلام الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم خالفه فإنه يكون رادا للشرع.
ثالثها: أن لا يكون من مشهورات الأحكام، بل من خفياتها فلا يكفر جاحده ولو كان فيه نص مثل كون بنت الابن لها/ (124/أ/د) مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين، فإنه مجمع عليه، وفيه نص، ومع ذلك فلا يكفر جاحده لخفائه، وأنكر على ابن الحاجب حيث أوهمت عبارته حكاية قول فيه/ (150/أ/م) بالتكفير.

(1/513)