الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ص: مسأَلةٌ: الاستحسَانُ قَالَ بِهِ أَبُو
حَنِيفَةَ، وأَنكَرَه البَاقُونَ، وفُسِّر بدليلٍ يَنْقَدِحُ
فِي نَفْسِ المُجْتَهِدِ تقصُرُ عَنْهُ عبَارَتُهُ ورَدَّ
بأَنَّهُ إِنْ تحقَّقَ فَمُعْتَبَرٌ، وبِعُدُولٍ عَن قِيَاسٍ
إِلَى أَقوَى ولاَ خِلاَفَ فِيهِ، أَو عَنِ الدَّلِيلِ إِلَى
العَادةِ، ورَدَّ بأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا حقٌّ فَقَدْ
قَامَ دليلُهَا وإِلاَّ رُدَّتْ فإِنْ تحقَّقَ اسْتِحْسَانُ
مُخْتَلِفٌ فِيهِ فمَنْ قَالَ بِهِ فقد شَرَعَ أَمَّا
استحسَانُ الشَّافِعِيُّ/ (199/أَ/م) التَّحْلِيفُ علَى
المصحفِ وَالحطُّ فِي الكتَابةِ ونحوِهمَا فَلَيْسَ منه.
ش: مِنَ الأَدلَّةِ المُخْتَلَفِ فِيهَا الاستحسَانُ، ونَقَلَ
المُصَنِّفِ إِنكَارَه عَنِ الجميعِ، إِلا عَن أَبِي
حَنِيفَةَ، لكنْ نَقَلَ الآمِدِيُّ وَابْنُ الحَاجِبِ القَوْلَ
بِهِ عَنِ الحنَابلةِ أَيضًا، وحكَى أَبُو الخطَّابِ مِنَ
الحنَابلةِ عَن أَحمدَ أَنَّهُ قَالَ: أَصحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ إِذَا قَالُوا شيئًا خِلاَفَ القِيَاسِ قَالُوا:
نَسْتَحْسِنُ هذَا وَنَدَعُ القِيَاسَ، فَيَدَعُونَ مَا
يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الحقُّ بِالاستحسَانِ، وأَنَا أَذهبُ
إِلَى كلِّ حديثٍ جَاءَ ولاَ أَقيسُ عليه.
قَالَ أَبُو الخطَاب: وعندي أَنَّهُ أَنكر عَلَيْهِم
الاستحسَانَ مِنْ غَيْرِ دليلٍ، فلو
(1/648)
كَانَ عَن دَلِيلٍ لَمْ يُنْكِرْه لأَنَّهُ
حقٌّ وهو معنَى قَوْلِه: أَنَا أَذْهَبُ إِلَى كلِّ حديثٍ
جَاءَ ولاَ أَقيسُ عَلَيْهِ؛ أَي: أَتْرُكُ القِيَاسَ
بِالخبرِ، وهو الاستحسَانُ بِالدليلِ، انْتَهَى.
وذكَرَ المُصَنِّفُ فِي تفسيرِه ثلاَثَ مقَالاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ المجتهدِ،
وتقصُرُ عَنْهُ عبَارتُهُ.
وردَّهُ ابْنُ الحَاجِبِ بأَنَّهُ إِن لَمْ يتحقَّقْ كَوْنُه
دَلِيلاً فمردُودٌ اتِّفَاقًا، وإِنْ تحقَّقَ فمعتبَرٌ
اتِّفَاقًا، وردَّه البَيْضَاوِيُّ بأَنَّهُ لاَ بُدَّ من
ظهورِه لِيُمَيِّزَ صحيحَه مِنْ فَاسدِه، فإِنَّ مَا
يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ المجتهدِ/ (161/ب/د) قَد يَكُونُ
وَهْمًا لاَ عِبْرَةَ بِهِ. الثَانِيَة: أَنَّهُ العدولُ عَن
قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقوَى مِنْهُ، وعلَى هذَا فَلاَ
خِلاَفَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ إِذَا تعَارَضَ قيَاسَانِ عُمِلَ
بأَقوَاهِمَا.
الثَالثةُ: أَنَّهُ العدولُ عَن حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى
العَادةِ لمصلحةِ النَّاسِ، كدخولِ الحمَّامِ مِنْ غَيْرِ
تقديرٍ المَاءِ وشُرْبِ المَاءِ مِنَ السّقَاءِ بعوضٍ مَعَ
اخْتِلاَفِ أَحوَالِ النَّاسِ فِي الشُّرْبِ، ورُدَّ بأَنَّ
العَادةَ إِن ثَبَتَ أَنَّهَا حقٌّ لجريَانِهَا فِي زمنِه
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فهو ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ،
أَو فِي زمَانِ المجتهدينَ من غَيْرِ إِنكَارٍ، فهو إِجمَاعٌ،
وإِلاَّ فهو مردودٌ، فقد ظهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يتحقَّقُ
استحسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فإِنْ تَحَقَّقَ استحسَانٌ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَنْ/ (199/ب/م) قَالَ بِهِ فَقَدْ شَرَعَ.
قَالَ الشَّارِحُ: وهو بتشديدِ الرَّاءِ، لو جَازَ أَنْ
يُسْتَحْسَنَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لكَانَ هذَا +نصبَ شريعةٍ علَى
خِلاَفِ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ ورسولُه؛ لأَنَّهُ لاَ
دَلِيلَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ تَرْكُهُ.
قُلْتُ: لاَ معنَى لِجَزْمِهِ بتشديدِ الرَّاءِ فِي قَوْلِهِ:
(فَقَدْ شَرَّعَ) وَالذي أَحفظُه بِالتخفِيفِ.
(1/649)
ويقَالُ فِي نصبِ الشّريعةِ: شرَعَ
بِالتخفِيفِ، قَالَ اللَّهُ تعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآيةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (أَمَا اسْتِحْسَانُ الشَّافِعِيِّ) إِلَى آخرِهِ،
فأَشَارَ بِهِ إِلَى الجوَابِ عَن قَوْلِ القَائلِ: قَد
اسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسَائِلَ كثيرةٍ، فقَالَ:
أَسْتَحْسِنُ التَّحْلِيفَ علَى المصحفِ، وأَستحسنُ أَنْ
يُتْرَكَ للمَكَاتَبِ شَيْءٌ من نجومِ الكتَابةِ.
فأَجَابَ عَنْهُ بأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الاستحسَانِ الذي
أَنْكَرْنَاهُ، وهو مَا يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ المُجْتَهِدِ،
وتقصُرُ عَنْهُ عبَارتُهُ، ولم يَقُلْ ذَلِكَ إِلا بدليلٍ
لكنَّهُ سمَّاهُ استحسَانًا؛ لأَنَّهُ عدَّهُ حسنًا لمَا قَامَ
عندَه ممَّا يَقْتَضِي ذَلِكَ، ولاَ يُنْكِرُ التّعبيرَ
بِذَلِكَ عَنْ حُكْمٍ ثبَتَ بدليلٍ وفِي التَّنْزِيلِ:
{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} ونقَلَ أَبُو
الوليدِ البَاجيُّ فِي (فصولِ الأَحكَامِ) عَن محمَّدِ بْنِ
خُوَيْزِ مَنْدَادِ: أَن معنَى الاستحسَانِ الذي ذَهَبَ
إِلَيْهِ أَصحَابُ مَالِكٍ القَوْلُ بأَقوَى الدَّلِيلينِ،
وكذلك تقدَّمَ عَن أَبِي الخطَّابِ الحنبليِّ تقريرُ كلاَمِ
أَحمَدَ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاه، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّارِحُ: لَكِنْ رَأَيْتُ فِي سُنَنِ الشَّافِعِيِّ
وَقَدْ ذكَرَ خِيَارَ الشُّفْعَةِ ثلاَثًا قَالَ
الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ هذَا استحسَانًا مني لَيْسَ بأَصلٍ ولاَ
بُدَّ من تأَويلِه.
انْتَهَى.
ص: مسأَلةٌ: قَوْلُ الصّحَابيِّ علَى صحَابيٍّ غَيْرِ حُجَّةٍ
وفِاقًا وكذَا علَى غَيْرِه قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ إِلَّا
فِي التّعبُّدِيِّ وفِي تقليدِه قولاَن لارتفَاعِ الثِّقَةِ
بمذهبِهِ إِذ لَمْ يُدَوَّنْ وَقِيلَ حُجَّةٌ فوقَ القِيَاسِ
فإِنِ اخْتَلَفَ صحَابِيَّانِ فَكَدَلِيلَيْنِ وَقِيلَ دُونَه
وفِي تَخْصِيصِهِ العمومَ
(1/650)
قولاَن وَقِيلَ إِنِ انْتَشَرَ، وَقِيلَ
إِنْ خَالَفَ القِيَاسَ وَقِيلَ إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ
قِيَاسُ تقريبٍ، وقيلَ/ (200/أَ/م) قَوْلُ الشَّيْخينِ فَقَطْ
وَقِيلَ الخلفَاءُ الأَربعةُ وعنِ الشَّافِعِيِّ إِلا عليًّا
أَمَّا وِفَاقَ الشَّافِعِيِّ زيدًا فِي الفرَائضِ
فلِدَّلِيلِ/ (162/أَ/د) لاَ تقليدًا.
ش: مَذْهَبُ الصَّحَابيِّ لَيْسَ حُجَّةً علَى صحَابيٍّ آخرَ
بِالاتِّفَاقِ، كذَا قَالَ ابْنُ الحَاجِبِ وَغَيْرُه، لكن فِي
(اللُّمَعِ) للشيخِ أَبِي إِسْحَاقَ إِذَا اختلفُوا علَى
قولينِ بُنِيَ علَى القولينِ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ أَمْ لاَ؟
فإِن قُلْنَا: إِنَّهُ حُجَّةٌ فهمَا دليلاَنِ تعَارَضَا
يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا علَى الآخرِ بكثرةِ العَدَدِ مِنْ أَحدِ
الجَانِبَيْنِ أَو يَكُونُ فِيهِ إِمَامٌ.
قُلْتُ: كَذَا نَكَتَ بِهِ الشَّارِحُ علَى نَقْلِ
الاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ فِيهِ تصريحٌ بأَنَّهُمَا كدليلينِ
تعَارَضَا فِي حقِّ الصَّحَابةِ، وإِنَّمَا ذَلِكَ فِي حقِّ
مِنْ بعدِهم، وقيَّدَ بَعْضُ الحنَابلةِ الصّحَابيَّ
بِالعَالِمِ، ولم يُقَيِّدْه المُصَنِّفُ؛ لأَنَّ غَيْرَ
العَالِمِ لاَ قَوْلَ لَهُ لِكَوْنِهِ نشَأَ عن غَيْرِ نَظَرٍ،
وَهَلْ قَوْلُ الصّحَابي حُجَّةٌ علَى غَيْرِ الصّحَابيِّ؟
فِيه مَذَاهِبُ: أَصحُّهَا ـ وهو الجديدُ مِنْ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ ـ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وكذَا عَنْ أَحمدَ
قولاَن.
وقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ يَسْتَثْنِي من
قَوْلِه فِي الجديدِ لَيْسَ بحُجَّةِ التّعبُّدِيِّ الذي لاَ
مجَالَ لِلقِيَاسِ فِيهِ، لأَنَّهُ قَالَ: اخْتِلاَفُ الحديثِ:
روي عَن عليٍّ رضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ صلَّى فِي ليلةٍ
ستَّ ركعَاتٍ فِي كلِّ ركعةٍ ستَّ سجدَاتٍ، ولو ثَبَتَ ذَلِكَ
عَن عليٍّ قُلْتُ بِهِ، لأَنَّهُ لاَ مجَالَ لِلقِيَاسِ فِيهِ،
وَالظَاهرُ أَنَّهُ فعلَه توقيفًا. انْتَهَى.
(1/651)
قَالَ الشَّارِحُ: ولاَ نُقِلَ عِنْدَ
المُصَنِّفِ ووَالدِهِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ
الصّبَّاغِ فِي (الكَاملِ) بِالكَافِ وَالإِمَامُ فِي
(المَحْصُولِ) فِي بَابِ الأَخبَارِ.
قُلْتُ: لَيْسَ هذَا عَمَلًا بقولِ الصّحَابيِّ، وإِنَّمَا هو
تحسينٌ للظَّنِّ بِهِ، فِي أَنَّهُ لاَ يقولُ مثلَ ذَلِكَ
إِلَّا توقيفًا، فهو مرفوعٌ حُكْمًا، وهو نظيرُ مَا اشْتَهَرَ
مِنْ أَنَّ قَوْلَ الصّحَابيِّ فِيمَا لاَ مجَالَ للاَجتهَادِ
فِيهِ مرفوعٌ حُكْمًا؛ لِحَمْلِهِ علَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ
النَّبِيِّ صلَى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، فذَاكَ فِي القَوْلِ
وهذَا فِي الفعلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وإِذَا فَرَّعْنَا علَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَهَلْ
يَجُوزُ لغيرِ المُجْتَهِدِ تقليدُه؟ فِيهِ خِلاَفٌ حَكَاهُ
إِمَامُ الحَرَمَيْنِ، وقَالَ: إِنَّ المُحَقِّقِينَ علَى
الامتنَاعِ، وَلَيْسَ هذَا لأَنَّهُمْ دُونَ المُجْتَهِدِينَ
غَيْرِ الصَّحَابةِ فَهُمْ أَجَلُّ قَدْرًا، بَلْ لأَنَّ/
(200/ب/م) مَذَاهِبَهم لاَ يُوثَقُ بِهَا؛ فإِنَّهَا لَمْ
تَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ كَمَا تَثْبُتُ مَذَاهِبُ
الأَئِمَّةِ الذَّينَ لَهم أَتبَاعٌ، وبِهذَا جَزَمَ ابْنُ
الصّلاَحِ، ولَمْ يَخُصُّهُ بِالصحَابةِ بَلْ عَزَاهُ إِلَى
كُلِّ مَنْ لَمْ يُدَوُّنْ مَذْهَبُهُ.
وقَالَ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ تقليدُ الأَئِمَّةِ الأَربعةِ؛
لأَنَّ مَذَاهِبَهم انتشََرَتْ وَانبَسَطَتْ حتَّى ظَهَرَ
تقييدُ مُطْلَقِهَا، وتخصيصُ عَامِّهَا، بِخلاَفِ غيرِهم،
وصَحَّحَ المُصَنِّفُ جَوَازَ تقليدِ الصَّحَابِيِّ، قَالَ:
غَيْرَ أَنِّي أَقولُ: لاَ خِلاَفَ فِي الحقيقةِ، بَلْ إِنَّ
تَحَقُّقَ ثُبُوتِ مذهبٍ عَنْ وَاحدٍ مِنْهُم جَازَ تقليدُهُ./
(162/ب/د) وِفَاقًا وإِلاَّ فلاَ، لاَ لِكَوْنِهِ لاَ
يُقَلَّدُ؛ بَلْ لأَنَّ مذهبَهُ لَمْ يَثْبُتْ حَقَّ
الثُّبُوتِ.
قُلْتُ: المُرَادُ بِكونِهَا لَمْ تَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ؛
أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلقولِ شَرْطٌ لَمْ نَعْرِفُهُ أَوْ
مَحْمُولٌ علَى حَالةٍ، وإِنْ ثَبَتَ أَصْلُ القولِ.
قَالَ الشَّارِحُ: الخِلاَفُ يَتَحَقَّقُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي (الأَوْسَطِ) فَقَالَ: تَقْلِيدُ
الصَّحَابِيِّ مَبْنِيٌّ علَى جَوَازِ الانتقَالِ فِي
المَذَاهِبِ؛ فَمَنْ
(1/652)
مَنَعَهُ مَنَعَ تقليدَهم؛ لأَنَّ
فَتَاوِيهم لاَ يُقْدَرُ علَى استحضَارِهَا فِي كُلِّ وَاقعةٍ.
القولُ الثَّانِي: أَنَّهُ حُجْةٌ مُطْلَقًا، وهو القَوْلُ
القديمُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وقَالَ بِهِ مَالكٌ وأَكثرُ
الحَنَفِيَّةِ، وإِذَا قُلْنَا بهذَا فَهَلْ هو فوقَ القِيَاسِ
أَو دُونَهُ؟
قولاَنِ، فَإِذَا تعَارَضَ مَعَ القِيَاسِ قُدِّمَ عَلَيْهِ
علَى الأَوَّلِ، وقُدِّمَ القِيَاسُ علَى الثَّانِي، ومَا
أَدْرِي هَلْ قَالَ أَحدٌ إِنَّهُ كَالقِيَاسِ بِحَيْثُ
يَتَعَارَضَانِ أَمْ لاَ.
وفَرَّعَ المُصَنِّفُ علَى كَوْنِه فوقَ القِيَاسِ أَنَّهُ
إِذَا اخْتَلَفَ صَحَابِيَّانِ كَانَا كَدَلِيلَيْنِ
تَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِدليلٍ، وعلَى كَوْنِهِ
دُونَ القِيَاسِ أَنَّهُ هَلْ يُخَصَّصُ العمومُ بِهِ أَمْ
لاَ؟
فِيه قولاَنِ، وهُمَا وَجْهَانِ لأَصحَابِنَا، حكَاهُمَا
الرَّافِعِيُّ فِي الأَقْضِيَةِ.
أَحَدُهُمَا: الجوَازُ؛ لأَنَّهُ حُجْةٌ شَرْعِيةٌ.
وَالثَّانِي: المَنْعُ؛ لأَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِالعمومِ، وَقَدْ
كَانَتْ الصَّحَابةُ يَتْرُكُونَ أَقوَالَهم إِذَا سَمِعُوا
العمومَ.
قُلْتُ: ويَنْبَغِي جَرَيَانُ التَّفريعِ الأَوَّلِ، سَوَاءٌ
قُلْنَا: إِنَّهُ فوقَ القِيَاسِ أَو دُونَهُ، ولاَ يُخَصُّ
بِمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ فوقَه، وأَمَّا تخصيصُ التّفريعِ
الثَّانِي بِمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ دُونَه فَإِنَّه إِذَا
كَانَ فوقَهُ فَقُطِعَ بِالتخصيصِ بِهِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
وَغَيْرَهُ يَقْطَعُونَ بِالتخصيصِ بِالقِيَاسِ/ (201/أَ/م)
فمَا فوقَهُ أَوْلَى.
قَالَ المُصَنِّفُ: وهذه المَسْأَلَةُ غَيْرُ التي سَبَقَتْ
فِي التَّخصيصِ، حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ العَامَّ لاَ يُخَصُّ
بِمذهبِ الرَّاوِي ولو كَانَ صَحَابِيًّا، أَيْ: سَوَاءٌ
أَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةٌ أَمْ لاَ.
وَالمذكورُ هَهُنَا أَنَا إِنْ فَرَّعْنَا علَى أَنَّ قَوْلَه
حُجَّةٌ دُونَ القِيَاسِ فَفِي التّخصيصِ بِهِ قولاَنِ، هذَا
سَوَاءٌ كَانَ الصَّحَابِيُّ رَاوِيًا أَمْ لاَ.
(1/653)
قَالَ الشَّارِحُ: لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي
الأَولَى: (لاَ يُخَصُّ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُه حُجَّةٌ
أَمْ لاَ) ـ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقٍ
وَغَيْرَه قَالُوا هنَاك: إِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ
امْتَنَعَ التّخصيصُ بِهِ قَطْعًا.
وإِنْ قُلْنَا: حُجَّةٌ، فَفِي التّخصيصِ بِهِ وَجْهَانِ.
القولُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِنْ انْتَشَرَ ولَمْ
يُخَالِفِ القِيَاسَ وإِلاَّ فلاَ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي
القديمِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي (العُدَّةِ) عَنِ الجَدِيدِ؛
فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ
عُثْمَانَ فِي الجَدِيدِ فِي مسأَلةِ البَرَاءَةِ مِنَ
العيوبِ؛ لأَنَّ مذهبَه أَنَّهُ إِذَا انْتَشَرَ ولَمْ
يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ حُجَّةً، وقَالَ/ (163/أَ/د)
الغَزَالِيُّ: السُّكُوتُ لَيْسَ بِقولٍ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ
بَيْنَ أَنْ يَنْتَشِرَ أَمْ لاَ؟!
قَالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: وَالعَجَبُ تَمَسُّكُهُ
بِمِثْلِ هذَا الإِجمَاعِ عَلَى حُجِّيَّةِ خَبَرِ الوَاحِدِ
وَالقِيَاسُ.
الرَابِعُ: أَنَّهُ إِنْ خَالفَ القِيَاسَ فهو حُجَّةٌ،
وإِلاَّ فلاَ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي (الْوَجِيزِ) إِنَّهُ الحقُّ
البَيِّنُ، وإِنَّ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ تَدُلُّ عَلَيْهِ.
الخَامِسُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِنْ انْضَمَّ إِلَيْهِ قِيَاسُ
التَّقْرِيبِ، حَكَاهُ المَاوَرْدِيُّ قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ.
السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ-
رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا- حُجَّةٌ دُونَ غيرِهمَا.
السَّابِعُ: قَوْلُ الخُلَفَاءِ الأَربعةِ حُجَّةٌ دُونَ
غيرِهم.
(1/654)
الثَامِنُ: قَوْلُ الخُلَفَاءِ الأَربعةِ
إِلاَّ عَلِيًّا- رٍَضِي اللَّه عَنْهُ- حُجَّةٌ، وهذَا
مأَخوذٌ مِنْ كلاَمِ الشَّافِعِيِّ فِي الرّسَالةِ القديمةِ؛
فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ ولم
يَذْكُرْ عَلِيًّا، فَقِيلَ: حُكْمُهُ كَحُكْمِهم، وإِنَّمَا
تَرَكَهُ اختصَارًا أَوْ اكتفَاءً بِذِكْرِ الأَكثرِ،
وَاخْتَارَهُ ابْنُ القَاصِّ، وَقِيلَ: لأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى
الكوفةَ، ومَاتَ كَثيرٌ مِنَ الصّحَابةِ، وتَفَرَّقُوا فِي
البلدَانِ، فَعُدِمَ ذِكْرُهُ لاَ لِنَقْصِ اجتهَادِهِ بَلْ
لاجتمَاعِ الصّحَابةِ مَعَ الثّلاَثةِ، فَكَانَ قَوْلُهم
كَالإِجمَاعِ أَو قَوْلِ الأَكثرِ، وصَحَّحَهُ الْقَفَّالُ.
وَقَوْلُهُ: (أَمَّا وِفَاقُ الشَّافِعِيِّ) إِلَى آخِرِهِ ـ
أَشَارَ بِهِ إِلَى الجوَابِ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وهو
أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّحيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ/ (201/ب/م)
فَكَيْفَ احْتُجَّ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي
الفرَائضِ.
فأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَمْ يأَخُذْ بِقَوْلِهِ علَى سبيلِ
التّقليدِ، بَلْ لدليلٍ قَامَ عَنْدَهُ فَوَافَقَهُ،
وَاستأَنسَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ: ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ)) ولأَنَّهُ لَمْ
يُهْجَرْ لَهُ قَوْلٌ فِي الفرَائضِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ
الصّحَابةِ.
ص: الإِلهَامُ إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الصّدرِ؛ يَثْلَجُ بِهِ
الصّدرُ، يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ تعَالَى بَعْضَ أَصفِيَائِهِ،
وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِعَدَمِ ثِقَةِ مَنْ لَيْسَ معصومًا
بِخَوَاطِرِهِ خِلاَفًا لِبعضِ الصّوفِيَّةِ.
ش: مِمَّا قِيلَ إِنَّهُ مِنَ الأَدِلَّةِ الإِلهَامُ،
فَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي (القَوَاطِعِ) عَنْ أَبِي
زَيْدٍ مِنَ الحَنَفِيَّة أَنَّهُ قَالَ: (الإِلهَامُ مَا
حَرَّكَ القلبَ بِعلمٍ يَدْعُوكَ إِلَى العَمَل بِهِ مِنْ
غَيْرِ استدلاَلٍ بِآيةٍ، ولاَ نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ.
(1/655)
قَالَ: وَالذي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
العُلَمَاءِ أَنَّهُ خِيَارٌ لاَ يَجُوزُ العَمَلُ بِهِ إِلَّا
عِنْدَ فَقْدِ الحُجَجِ كُلِّهَا فِي بَابِ مَا أُبِيحَ لَهُ
عَمَلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وقَالَ بَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ: إِنَّهُ حُجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ
الوَحْيِ المسموعِ عَنْ رسولِ اللَّهِ- صَلُّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاحَتَجَّ بِقَوْلِهِ تعَالَى: {وَنَفْسٍ
ومَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا}.
أَيْ: عَرَّفَهَا بِالإِيقَاعِ فِي القلبِ، وبِقَوْلِهِ
تعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وبِقولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ: ((اتَّقُوا فِرَاسَةَ (163ب/د) الْمُؤْمِنِ))
وقولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((الإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي قَلْبِكَ، فَدَعْهُ وَإِلاَّ أَفْتَاكَ النَّاسُ
وَأَفْتُوكَ)) فَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
شَهَادةَ قَلبِه بِلاَ حُجَّةٍ أَوْلَى مِنَ الفَتْوَى،
فَثَبَتَ أَن الإِلهَامَ حَقٌّ، وأَنَّهُ وَحْيٌ بَاطِنٌ،
إِلاَّ أَنَّ العبدَ إِذَا عَصَى رَبَّهُ، وعَمِلَ بِهَوَاهُ
حُرِمَ هذه الكرَامةُ.
قُلْتُ: ولاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا استدلُوا بِهِ،
لأَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ الإِيقَاعَ فِي القلبِ بِلاَ دليلٍ،
بَلِ الهدَايةُ إِلَى الحقِّ بِالدليلِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ-
رَضِي اللَّهُ تعَالَى عَنْه-ُ: (إِلاَّ أَنْ يُؤْتِي اللَّهُ
عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ).
وكَانَ شيخُنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ يَقُولُ: إِنَّ
الفُتُوحَاتِ التي يُفْتَحُ بِهَا علَى العُلمَاءِ فِي
الاهتدَاءِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ المَسَائِلِ المُشْكِلَةِ مِنَ
الأَدِلَّةِ أَعَمُّ نَفْعًا وأَكثرُ فَائِدَةً مِمَّا
يُفْتَحُ بِهِ عَلَى الأَوليَاءِ مِنَ/ (202/أَ/م) الاطِّلاَعِ
علَى بَعْضِ الغُيوبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ
النّفْعِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِهذَا.
قُلْتُ: وأَيضًا، فهذَا موثوقٌ بِهِ لِرجوعِهِ إِلَى أَصْلٍ
شَرْعِيٍ، وذَاكَ قَدْ يَضْطَرِبُ
(1/656)
الأَمرُ فِيهِ ويَشْتَبِهُ بِتَسْوِيلِ
الشّيطَانِ؛ لِعَدَمِ رُجوعِهِ إِلَى قَاعدةٍ شرعيَّةٍ، وإِنْ
كَانَ الغَالِبُ أَنَّ الخوَاطِرَ المَلَكِيَّةَ تَسْتَقِرُّ،
وَالشّيطَانِيَّةَ تَضْطَرِبُ، وعلَى كُلِّ حَالٍ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ مِنْهَا علَى مَا لَيْسَ لَهُ دَلِيلٍ
شرعيٍّ.
قَالَ الشَّارِحُ: ومِمَّنْ أَثْبَتَهُ الإِمَامُ شِهَابُ
الدّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ قَالَ: قَالَ فِي بَعْضِ
أَمَالِيهِ: هو عُلُومٌ تَحْدُثُ فِي النّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ
الزّكِيَّةِ، وفِي الحديثِ: ((إِنَّ مِنْ أُمَّتِي
مُحَدِّثِينَ، وإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ)) وقَالَ تعَالَى:
{فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا} أَخْبَرَ أَنَّ
النّفوسَ مُلْهَمَةٌ؛ فَالنفسُ المُلْهَمَةُ عُلُومًا
لَدُنِّيَّةً هي التي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا، وَاطْمَأَنَّتْ
بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَمرٍ
حَسَنٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الخِلاَفُ، فَقَالَ: وهذَا النّوعُ لاَ
يَتَعَلَّقُ بِهِ المصَالحُ العَامَّةُ مِنْ عَالَمِ المُلْكِ
وَالشّهَادةِ، بَلْ تَخْتَصُّ فَائدُتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ
غيرِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَرَةُ السّرَايةِ إِلَى
الغيرِ علَى طريقِ العمومِ، وإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ
تَتَعَلَّقُ بِالأَغيَارِ علَى وَجْهٍ خَاصٍ؛ وذلكَ لأَنَّ
مَحَلَّهُ النّفسُ، وقُرْبُهَا مِنَ الأَرضِ وَالعَالَمِ
السُّفْلِيِّ، بِخلاَفِ المرتبةِ الأُولَى، وهي الوحيُ الذي
قَامَ بِهِ المَلَكُ المُلْقِي؛ لأَنَّ مَحَلَّهُ القلبُ
المُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ العُلْوِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا حَكَاهُ مِنْ عِبَارتِه
أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ دَلِيلاً شَرْعِيًّا مُسْتَقِلاًّ،
وإِنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ الإِنسَانُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ
إِذَا لَمْ يُخَالِفْ شريعةً، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الدَّقَّاقُ: كُلُّ حقيقةٍ لاَ تَتَّبِعُ شريعةً فَهِي كُفْرٌ.
وَقَوْلُ المُصَنِّفِ: (يَثْلَجُ بِهِ/ (164/أَ/د) الصّدرُ)
أَيْ: يَطْمَئِنُ، وفِيه لغتَانِ: ثَلَجَ بِفتحِ اللاَّمِ،
يَثْلُجُ بِضمِهَا، وثَلِجَ بِكسرِهَا، يَثْلَجُ بِفتحِهَا.
(1/657)
ص: خَاتمةٌ: قَالَ القَاضِي حُسَيْنٌ،
مَبْنَى الفِقْهِ عَلَى اليقينِ لاَ يُرْفَعُ بِالشَّكِّ،
وَالضَّرَرُ يُزَالُ، وَالمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التّيسيرَ،
وَالعَادةُ مُحَكِّمَةٌ، قِيلَ: وَالأُمُورُ بِمقَاصدِهَا.
ش: ذَكَرَ القَاضِي حُسَيْنُ أَنَّ مَبْنَى الفِقْهِ علَى هذه
القوَاعدِ الأَربعِ، وَالمُرَادِ بِالقَاعدةِ مَا لاَ يَخُصُّ
بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الفِقْهِ؛ فَإِنْ اخْتُصَّ بِبِعْضِ
الأَبوَابِ سُمِّيَ ضَابِطًا، وذَكَرَ بعضُهم أَنَّهُ أَهْمَلَ
قَاعدةً خَامسةً، وهي: الأُمُورُ/ (202/ب/م) بِمقَاصدِهَا،
وَاسْتَحْسَنَهُ بعضُهم لِقولِ الشَّافِعِيِّ- رَضِي اللَّه
عَنْه-: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي حديثِ (الأَعمَالُ بِالنبَاتِ)
ثُلُثُ العملِ.
وَاعتذَرَ بعضُهم عَنِ القَاضِي حُسَيْنٍ بِرجوعِهَا إِلَى
تحكيمِ العَادةِ؛ فَإِنَّهَا تَقْضِي أَنَّ غَيْرَ المَنْوِيِّ
مِنْ غُسْلٍ وصَلاَةٍ وكِنَايةٍ فِي عَقْدٍ لاَ يُسَمَّى
غُسْلاً ولاَ قرَابةً ولاَ عقدًا، وَقَدْ رَدَّ الشَّيْخُ
عِزُّ الدّينِ أَحكَامَ الشَّرْعِ إِلَى جَلْبِ المصَالحِ
ودَرْءِ المفَاسدِ، وبَحَثَ بعضُهم أَنَّ دَرْءَ المفَاسدِ
مِنْ جُمْلَةِ جَلْبِ المصَالحِ، وفِي رجوعِ جَمِيعِ الفِقْهِ
إِلَى هذه القوَاعدِ تَعَسُّفٌ؛ فَإِنَّ أَصولَهُ مُنتشِرةٌ
تَتَّضِحُ بِالتفصيلِ.
فأَمَا القَاعدة الأَولَى وهي أَنَّ اليقينَ لاَ يُرْفَعُ
بِالشّكِ فأَصلُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ: ((لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ
يَجِدُ رِيحًا)) وهي مُتَوَغِّلَةٌ فِي أَكثرِ أَبوَابِ
الفِقْهِ، بَلْ تجرِي فِي أَصولِه أَيضًا، كَكَوْنِ
الاستصحَابِ حُجَّةً، ْ ْوأَنَّهُ لَيْسَ علَى المَانعِ فِي
المُنَاظِرةِ دليلٌ.
وأَمَّا الثَّانِيةُ: وهي أَنَّ الضّررَ يُزَالُ، فهي أَيضًا
كثيرةُ التّوغُّلِ فِي أَبوَابِ
(1/658)
الفِقْهِ كَالحُدُودِ، فهي لِدَفْعِ
الضّررِ عَنِ الضّروريَاتِ الخمسةِ المُعْتَبَرَةِ
بِالإِجمَاع.
وأَمَّا الثَّالثةُ: وهي أَنَّ المشقةَ تَجْلِبُ التّيسير فهي
دَاخلةٌ أَيضًا فِي العبَادَاتِ وَالمعَاملاَتِِ
وَالأَنْكِحَةِ وَالجِنَايَاتِ؛ ففِي العبَادَاتِ كَوْنُ
الصّلوَاتِ خَمْسًا فَقَطْ، وتفريقُهَا علَى الأَوقَاتِ،
وإِبَاحةُ القَصْرِ وَالجَمْعِ فِيهَا للمسَافرِ، وَاغتفَارِ
الفعلِ الفَاحشِ فِي الصّلاَةِ لِلخَائفِ، وكيفَ أَمْكَنَهُ
فِي حَالةِ شِدَّةِ الخوفِ.
وأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كثيرةٌ فَاعْتَبِرْ بِمَا ذَكَرَتْهُ
بِقِيَّةُ الأَحكَامِ.
وأَمَّا الرَّابعةُ: وهي تحكيمُ العَادةِ، وذَكَرَ القَاضِي
حُسَيْنُ أَنَّ أَصلَهَا حديثُ: (مَا رَآهُ المُسْلِمُونَ
حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) لَكِنَّ المَعْرُوفَ
عِنْدَ المُحَدِّثِينَ فِي هذَا أَنَّهُ موقوفٌ علَى ابْنِ
مَسْعُودٍ.
وَالأَحسنُ الاحتجَاجُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ لِهِنْدٍ ((خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بَالمَعْرُوفِ)) وقولُه تعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ
وَامُرْ بِالْعُرْفِ}.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ فِي (القَوَاطِعِ) العُرْفُ فِي
الآيَةِ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ/ (164/ب/د) ويَتَعَارفونه
فِيمَا بينهم، وكذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: معنَاه بِكُلِّ
مَا عَرَفَتْهُ النُّفُوسُ فِيمَا، لاَ تَرَاهُ الشّريعةُ.
وقَالَ ابْن ظُفَرٍ فِي (اليَنْبُوعِ): العُرْفُ مَا
عَرَّفَتْهُ العَقْلاَءُ أَنَّهُ حَسَنٌ،
(1/659)
وأَقَرَّهُمُ الشَّارعُ عَلَيْهِ، فَمِنْه
الرّجوعُ إِلَى العُرْفِ وَالعَادةِ فِي معرفةِ أَسبَابِ
الأَحكَامِ مِنَ الصّفَاتِ الإِضَافِيِّةِ كَصِغَرِ صَبِيَّةٍ
وكِبَرِهَا، وإِطلاَقِ مَاءٍ وتقييدِهِ وكثرةِ تَغَيُّرِهِ،
وقِلَّتِهِ، وغَالبِ/ (203/أَ/م) الكثَافةِ، ونَادرِ العُذْرِ
ودَائِمِهِ، وطُولِ الفَصْلِ فِي السّهْوِ وقِصَرِهِ،
وأَمْثِلَتُهُ كثيرةٌ.
وأَمَّا الخَامسةُ: وهي كَوْنُ الأُمُورِ بِمقَاصدِهَا
فدليلُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:
((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) فَمِنْهُ العبَادَاتُ
لاَ يُمَيِّزُهَا عَنِ العَادَاتِ، ولاَ يُمَيِّزُ رُتَبَ
بعضِهَا عَنْ بَعْضٍ إِلَّا النِّيَّةُ، ولاَ يَحْصُلُ
الثّوَابُ إِلاَّ بِهَا، ومِنْهُ المُعَامَلاَتُ
بِالكنَايَاتِ، لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ نِيَّةٍ، ومِنْهُ جَمِيعُ
المُبَاحَاتِ تَتَمَيَّزُ عَنِ المَعَاصِي وَالقُرُبَاتِ
بِالنِّيَّةِ.
(1/660)
|