الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ]
الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ) قَسَّمَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّصَرُّفَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ أَنْ يُجْتَنَبَ فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مَا إذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِهِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ إلَّا مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَادَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْجَهَالَةَ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَالثَّانِي مَا يَحْصُلُ مَعَهُ ذَلِكَ دَنِيًّا وَنَزْرًا وَالثَّالِثُ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ غَالِبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُجْتَنَبُ الْأَوَّلَانِ وَيُغْتَفَرُ الثَّالِثُ.
وَقَسَّمَ أَبُو الْوَلِيدِ الْغَرَرَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ وَوَسَطٍ وَجَعَلَ الْكَثِيرَ عِبَارَةً عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَجُوزُ وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ مِثْلُ مَا إذَا قَالَ لَهُ: أَبِيعُكَ أَحَدُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الْعَبْدَيْنِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَقَدْ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا اخْتَارَ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْخِيَارِ فَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْغَرَرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْكَثِيرِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى بَيْعٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَبَعْضُهُمْ كَمَالِكٍ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ فَيُجِيزُ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّهُ يُجِيزُ الْخِيَارَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْنَافِ الْمُسْتَوِيَةِ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَبَضَ الثَّوْبَيْنِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَخْتَارَ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ مِمَّا يُصِيبُهُ فَقِيلَ: تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ بَلْ يَضْمَنُهُ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ وَقِيلَ يَضْمَنُ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَالثِّيَابِ وَلَا يَضْمَنُ فِيمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَأَمَّا أَخْذُ الْبَاقِي فَقِيلَ: يَلْزَمُ وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ اهـ وَقَالَ قَبْلُ: وَالْغَرَرُ يُوجَدُ فِي الْمَبِيعَاتِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَالْجَهْلُ عَلَى أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الْجَهْلُ بِتَعْيِينِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْعَقْدِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي الْجَهْلُ بِوَصْفِ الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ الْمَبِيعِ أَوْ بِقَدْرِهِ أَوْ بِأَجَلِهِ إنْ كَانَ هُنَالِكَ أَجَلٌ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ أَوْ تَعَذُّرُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ الْجَهْلُ بِسَلَامَتِهِ أَعْنِي بَقَاءَهُ. اهـ.
الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ قُلْت: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إمَّا كَثِيرٌ لَا يُغْتَفَرُ وَإِمَّا قَلِيلٌ يُغْتَفَرُ وَإِمَّا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اغْتِفَارِهِ وَعَدَمِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي مَا هُوَ إحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى

(1/170)


تَنْقَضِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَهَا طُولُ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى إفْسَادِهِ الْفَرْقُ الثَّالِثُ
أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ يَثْبُتُ الْإِحْرَامُ بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لَا يَثْبُتُ الْإِحْرَامُ بَعْدَهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ بَلْ لِضَرُورَةٍ فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا بِأَنْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ مِنْ الْفُرُوقِ الْغَرِيبَةِ.

(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَيُخَصِّصُهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَلَا يُخَصِّصُهَا)
وَذَلِكَ أَنَّ الْعُرْفَ الْقَوْلِيَّ أَنْ تَكُونَ عَادَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ يَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَ فِي مَعْنًى مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لُغَةً وَذَلِكَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ نَحْوَ الدَّابَّةِ لِلْحِمَارِ وَالْغَائِطِ لِلنَّجْوِ وَالرِّوَايَةِ لِلْمَزَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا فِي الْمُرَكَّبَاتِ وَهُوَ أَدَقُّهَا عَلَى الْفَهْمِ وَأَبْعَدُهَا عَنْ التَّفَطُّنِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ تَرْكِيبَ لَفْظٍ مَعَ لَفْظٍ يَشْتَهِرُ فِي الْعُرْفِ تَرْكِيبُهُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَهُ مِثْلُ أَحَدِهِمَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فَإِنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا تَحْسُنُ إضَافَتُهُمَا لُغَةً لِلْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ فَذَاتُ الْمَيْتَةِ لَا يُمْكِنُ الْعُرْفِيَّ أَنْ يَقُولَ هِيَ الْإِحْرَامُ بِمَا هِيَ ذَاتٌ بَلْ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لَهَا كَالْأَكْلِ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِلْأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَمْوَالُ لَا تَحْرُمُ بَلْ أَفْعَالٌ تُضَافُ إلَيْهَا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَّا وَإِنَّ سَفْكَ دِمَائِكُمْ وَأَكْلَ أَمْوَالِكُمْ وَثَلْبَ أَعْرَاضِكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ جَمِيعُ مَا يَرِدُ مِنْ الْأَحْكَامِ كَانَ أَصْلُهُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْأَفْعَالِ وَيُرَكَّبَ مَعَهَا فَإِذَا رُكِّبَ مَعَ الذَّوَاتِ فِي الْعُرْفِ وَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَوْلَا أَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ إنَّ إحْرَامَ الْمُحْرِمِ مِنْ بَلَدِهِ أَفْضَلُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك» وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ بِكَرَاهَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَأْوِيلِهِ لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ إلَّا فِيمَا بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ إنْ لَمْ تُحْمَلْ الْكَرَاهَةُ عَلَيْهِ قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ يَثْبُتُ لِإِحْرَامٍ بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إلَخْ)
قُلْت هَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالِكًا لَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ وَالشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَيُخَصِّصُهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَلَا يُخَصِّصُهَا إلَى قَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَقْلِيلِهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ وَلَمْ يَجِدْهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا وَأَلْحَقَ مَالِكٌ بِهَذَا الْقِسْمِ الْخُلْعَ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِصْمَةِ وَإِطْلَاقِهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ بِالْمُعَاوَضَةِ بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَالْهِبَةِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً صِرْفَةً وَلَا إحْسَانًا صِرْفًا كَالنِّكَاحِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ لِلْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْغَرَرُ الْكَثِيرُ نَحْوُ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ وَعَمَّمَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ.
وَلَوْ كَانَتْ إحْسَانًا صِرْفًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ لَمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِقْهًا جَمِيلًا بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ الْمُغْتَفَرِ فِي النِّكَاحِ هُوَ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي نَحْوِ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ دَيْنًا نُذِرَ إلَّا مَا يُغْتَفَرُ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ غَالِبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ]
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي النَّهْيِ نَظِيرُ الْمُشْتَرَكِ فِي النَّفْيِ فَكَمَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشْتَرَكِ نَفْيُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ لِقَوْلِ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ نَفْيُ الْأَخَصِّ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ الْوُجُودَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فَرْدٌ لَدَخَلَ هُوَ فِي ضِمْنِهِ فَإِنَّ مَعْنَى النَّهْيِ الْأَمْرُ بِإِعْدَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَأَنْ لَا تَدْخُلَ فِي الْوُجُودِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِإِجْرَاءِ حُكْمٍ فِي الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ فَكَمَا أَنَّ الْآمِرَ أَمَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْتَضِي عِتْقَ شَخْصٍ مُبْهَمٍ وَإِخْرَاجَ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا أُمِرَ بِهِ تُعَيِّنُهُ إذْ لَا يُمْكِنُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ.
وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحَقِيقَةِ

(1/171)


بَقِيَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إلَّا مَعَ الذَّوَاتِ فَصَارَ هَذَا التَّرْكِيبُ الْخَاصُّ وَهُوَ تَرْكِيبُ الْحُكْمِ مَعَ الذَّوَاتِ مَوْضُوعًا فِي الْعُرْفِ لِلتَّعْبِيرِ بِهِ عَنْ تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ الْمُضَافَةِ لِتِلْكَ الذَّوَاتِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَفْعَالِ بَلْ فِعْلٌ خَاصٌّ مُنَاسِبٌ لِتِلْكَ الذَّوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَتَحْصِيلُهُ
وَثَانِيهَا أَفْعَالٌ لَيْسَتْ بِأَحْكَامٍ كَقَوْلِهِمْ فِي الْعُرْفِ أَكَلْت رَأْسًا وَأَكَلَ رَأْسًا فَلَا يَكَادُونَ يَنْطِقُونَ بِلَفْظِ الْأَكْلِ كَيْفَمَا كَانَ وَتَصَرَّفَ إلَّا مَعَ رُءُوسِ الْأَنْعَامِ دُونَ جَمِيعِ الرُّءُوسِ بِخِلَافِ رَأَيْت وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ يُرَكِّبُونَهُ مَعَ رُءُوسِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا قَالُوا رَأَيْنَا رَأْسًا احْتَمَلَ ذَلِكَ جَمِيعَ الرُّءُوسِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْأَكْلِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَتَلَ زَيْدٌ عَمْرًا هُوَ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِذْهَابِ الْحَيَاةِ ثُمَّ هُوَ الْيَوْمَ فِي إقْلِيمِ مِصْرَ مَوْضُوعٌ لِلضَّرْبِ خَاصَّةً فَيَقُولُونَ قَتَلَهُ الْأَمِيرُ بِالْمَقَارِعِ قَتْلًا جَيِّدًا وَلَا يُرِيدُونَ إلَّا ضَرْبَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْأَوْضَاعُ الْعُرْفِيَّةُ هِيَ الطَّارِئَةُ عَلَى اللُّغَةِ وَأَمْكَنَ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ الْمَجَازُ هَاهُنَا فِي مُفْرَدٍ لَا مُرَكَّبٍ وَهُوَ لَفْظُ قَتَلَ صَارَ وَحْدَهُ مَجَازًا فِي ضَرَبَ وَأَمَّا التَّرْكِيبُ فَهُوَ عَلَى مَوْضِعِهِ اللُّغَوِيِّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ يَعْصِرُ الْخَمْرَ مَعَ أَنَّ الْخَمْرَ لَا تُعْصَرُ بَلْ صَارَ هَذَا التَّرْكِيبُ مَوْضِعًا لِعَصْرِ الْعِنَبِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْكَلَامُ إلَّا بِمُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فُلَانٌ يَعْصِرُ عِنَبَ الْخَمْرِ لَكِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يَقْصِدُونَ هَذَا الْمُضَافَ بَلْ يُعَبِّرُونَ بِهَذَا الْمُرَكَّبِ عَنْ عَصْرِ الْعِنَبِ كَمَا يُعَبِّرُونَ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَنْ تَحْرِيمِ أَكْلِهَا فَهَذَا مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً مَنْقُولَةً لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَهْلِ الْعُرْفِ قَتَلَ فُلَانٌ قَتِيلًا وَطَحَنَ دَقِيقًا وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي الْعُرْفِ وَفِي اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لَا يُقْتَلُ وَإِنَّمَا يُقْتَلُ الْحَيُّ، وَالدَّقِيقُ لَا يُطْحَنُ وَإِنَّمَا يُطْحَنُ الْقَمْحُ فَعَلَى رَأْيِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَصِحُّ بِمُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طُحِنَ قَمْحُ دَقِيقٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي عِنَبِ خَمْرٍ وَقُتِلَ جَسَدُ قَتِيلٍ وَيُرِيدُونَ بِالْجَسَدِ الْجَسَدَ الْحَيَّ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعُرْفِ فَلَا يَعْرُجُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُضَافَاتِ وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِهِمْ بَلْ صَارَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مَوْضُوعًا عِنْدَهُمْ لِقَتْلِ الْحَيِّ وَطَحْنِ الْقَمْحِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ فَاعْتَبِرْ الْحَقَائِقَ الْعُرْفِيَّةَ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَاعْتَبِرْ اللَّفْظَ هَلْ انْتَقَلَ فِي الْعُرْفِ أَمْ لَا مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ وَالْإِفْرَادِ فَكُلُّ لَفْظٍ مُفْرَدٍ انْتَقَلَ فِي الْعُرْفِ لِغَيْرِ مُسَمَّاهُ وَصَارَ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُ مُسَمَّاهُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ كَالدَّابَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِمَارِ بِإِقْلِيمِ مِصْرَ فَهُوَ مَجَازٌ مُفْرَدٌ وَمَنْقُولٌ عُرْفِيٌّ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَكُلُّ لَفْظٍ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يُرَكَّبَ مَعَ لَفْظٍ فَصَارَ يُرَكَّبُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَوْ رُكِّبَ أَوَّلًا لَكَانَ مُنَكَّرًا وَهُوَ الْآنَ غَيْرُ مُنَكَّرٍ فَهُوَ مَنْقُولٌ عُرْفِيٌّ مِنْ الْمُرَكَّبَاتِ وَمَجَازٌ فِي الْمُرَكَّبَاتِ وَيَكُونُ الْمَجَازُ فِيهِ وَقَعَ فِي التَّرْكِيبِ دُونَ الْإِفْرَادِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْكُلِّيَّةِ أَنْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُثْبِتِينَ لَهَا كَذَلِكَ قَوْلُك إنْسَانٌ فِي الدَّارِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ ذَلِكَ الْفَرْدُ فِيهِ كَانَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَمُطْلَقُ الْحَيَوَانِ وَجَمِيعُ أَجْنَاسِهِ وَفُصُولِهِ تَحْصُلُ مُطْلَقًا فِيهِ فَالْمُشْتَرَكُ فِي النَّهْيِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ وَالْعَامُّ الْمُعَرِّفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُهَا فِي جَمِيعِهَا وَالْكُلِّيُّ الْمُعَرِّفُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ بِمَا لَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ كَالرَّقَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الرِّقَابِ وَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِ وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ فِي اسْتِعْمَالِ النَّكِرَةِ وَالْمُشْتَرَكُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَاهِيَّةُ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ وَالْمُطْلَقُ الْمُعَرَّفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ كَالنَّكِرَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرِ ثَوْبًا يُرِيدُ فَرْدًا مُبْهَمًا مِنْ الْأَشْخَاصِ الَّتِي فِيهَا حَقِيقَةُ الثَّوْبِ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ فِي النَّكِرَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ عَيْنُ الْفَرْقِ الْمَارِّ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَمُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ.
وَعَيْنُ مَا فَرَّقَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ قَالَ الْعَلَّامَةُ الأنبابي عَلَى بَيَانِيَّةِ الصَّبَّانِ: فَعُمُومُ الْعَامِّ شُمُولٌ بِخِلَافِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ نَحْوُ رَجُلٍ وَأَسَدٍ وَإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ بَدَلِيٌّ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ النَّفْيِ أَوْ أَلْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة صَارَ عَامًّا فَلَيْسَ مَاصَدَق الْمُطْلَقُ وَالْعَامُّ وَاحِدًا كَمَا تَوَهَّمَ بَلْ مَاصَدَق الْأَوَّلُ أَلْفَاظُ عُمُومِهَا بَدَلِيٌّ وَمَاصَدَقَ الثَّانِي أَلْفَاظُ عُمُومِهَا شُمُولِيٌّ قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي مَبْحَثِ الْعَامِّ الْعُمُومُ يَقَعُ عَلَى مُسَمَّى عُمُومِ الشُّمُولِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَعَلَى عُمُومِ الصَّلَاحِيَّةِ وَيُقَالُ لَهُ عُمُومُ الْبَدَلِ وَهُوَ فِي الْمُطْلَقِ وَتَسْمِيَتُهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَامٌّ اهـ يَعْنِي أَنَّ تَسْمِيَتَهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَفْرَادَهُ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا عَلَى الْبَدَلِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَإِلَّا فَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْعَامِّ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَامِّ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَعْرِيفِهِ الْعُمُومُ الشُّمُولِيُّ بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ دَفْعَةً وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمُطْلَقِ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الشُّمُولِيَّ هُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ فَتَنَبَّهْ اهـ بِلَفْظِهِ فَمِنْ هُنَا قَالَ قَبْلَ هَذَا مُسَايَرَةً لِغَيْرِهِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ كَعَبِيدِي عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ فَرْدًا أَيْ كَدَلَالَةِ نَحْوِ عَبِيدِي عَلَى ثَلَاثَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ تَضَمُّنِيَّةٌ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْأَفْرَادِ الْأَبْعَاضُ فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا جُزْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ اهـ لَكِنَّهُ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ لَا عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِيمَا عَلَّقْنَاهُ

(1/172)


الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ وَالْإِفْرَادِ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مَجَازٌ مُفْرَدٌ فَقَطْ كَالْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَمَجَازٌ مُرَكَّبٌ فَقَطْ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَإِنَّ السُّؤَالَ اُسْتُعْمِلَ فِي السُّؤَالِ وَلَفْظُ الْقَرْيَةِ اُسْتُعْمِلَ فِي الْقَرْيَةِ وَلَكِنَّ تَرْكِيبَ السُّؤَالِ مَعَ الْقَرْيَةِ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُرَكَّبَ مَعَ أَهْلِهَا وَهَذَا مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ وَلَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ النَّقْلِ بِخِلَافِ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَيَطْحَنُ الدَّقِيقَ فَإِنَّهُمَا وَصَلَا إلَى حَدِّ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ.
وَمِثَالُ اجْتِمَاعِهِمَا مَعًا قَوْلُك أَرْوَانِي الْخُبْزُ وَأَشْبَعَنِي الْمَاءُ فَإِنَّك تَسْتَعْمِلُ أَرْوَانِي فِي الشِّبَعِ، وَالشِّبَعُ فِي رَوَانِي فَيَقَعُ الْمَجَازُ فِي الْإِفْرَادِ وَتَجْعَلُ فَاعِلَ أَرْوَى الْخُبْزَ وَهُوَ خِلَافُ أَصْلِ اللُّغَةِ وَفَاعِلَ الشِّبَعِ الْمَاءَ وَهُوَ خِلَافُ أَصْلِ اللُّغَةِ فَهَذَانِ الْمِثَالَانِ جَمَعَا بَيْنَ الْمَجَازِ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ دُونَ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ إذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ الْعُرْفَ كَمَا يَنْقُلُ أَهْلُهُ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ فَيَنْقُلُونَ أَيْضًا اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ فَمِثْلُ هَذَا النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ يُقَدَّمُ عَلَى مَوْضُوعِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِلُّغَةِ وَالنَّاسِخُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَنْسُوخِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الْحَقَائِقَ الْعُرْفِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ. وَأَمَّا الْعُرْفُ الْفِعْلِيُّ فَمَعْنَاهُ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِمَعْنًى يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ الْعُرْفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى دُونَ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِهِ مِثَالُهُ أَنَّ لَفْظَ الثَّوْبِ صَادِقٌ لُغَةً عَلَى ثِيَابِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالْحَرِيرِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَأَهْلُ الْعُرْفِ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ مِنْ الثِّيَابِ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ فَهَذَا عُرْفٌ فِعْلِيٌّ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخُبْزِ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى خُبْزِ الْفُولِ وَالْحِمَّصِ وَالْبُرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَخِيرَ فِي أَغْذِيَتِهِمْ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ فَوُقُوعُ الْفِعْلِ فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لَا يُخِلُّ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ فَإِنَّ تَرْكَ مُسَمَّى لَفْظٍ لَمْ يُبَاشَرْ لَا يُخِلُّ بِوَضْعِ اللَّفْظِ فَإِنَّا لَمْ نُبَاشِرْ الْيَاقُوتَ وَلَمْ يُخِلَّ ذَلِكَ بِوَضْعِ لَفْظِ الْيَاقُوتِ لَهُ نَعَمْ لَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْيَاقُوتِ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْأَحْجَارِ حَتَّى صَارَ لَا يُفْهَمُ إلَّا ذَلِكَ الْحَجَرُ دُونَ الْيَاقُوتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ بِوَضْعِ لَفْظِ الْيَاقُوتِ لِلْيَاقُوتِ وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلَفْظِ الْيَاقُوتِ عَنْ مُسَمَّاهُ الْأَوَّلِ فَهَذَا الْمِثَالُ يُوَضِّحُ لَك أَنَّ تَرْكَ مُبَاشَرَةِ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُخِلُّ بِالْوَضْعِ وَغَلَبَةَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمُسَمَّى فِي غَيْرِهِ يُخِلُّ، فَهَذَا هُوَ تَحْرِيرُ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ وَتَحْرِيرُ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ، وَتَحْرِيرُ أَنَّ الْعُرْفَ الْقَوْلِيَّ يُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ تَخْصِيصًا وَتَقْيِيدًا وَإِبْطَالًا وَأَنَّ الْعُرْفَ الْفِعْلِيَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ تَخْصِيصًا وَلَا تَقْيِيدًا وَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الْحَقَائِقَ الْعُرْفِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ) قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ. قَالَ (وَأَمَّا الْعُرْفُ الْفِعْلِيُّ فَمَعْنَاهُ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِمَعْنًى يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ الْعُرْفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى دُونَ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِهِ مِثَالُهُ أَنَّ لَفْظَ الثَّوْبِ صَادِقٌ لُغَةً عَلَى ثِيَابِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالْحَرِيرِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَأَهْلُ الْعُرْفِ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ مِنْ الثِّيَابِ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ دُونَ الْأَخِيرِ فَهَذَا عُرْفٌ فِعْلِيٌّ إلَى قَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ. اهـ.
يَعْنِي وَمُقْتَضَى كَوْنِ الْمَقْصُودِ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ لَفْظِ الْعَامِّ كَعَبِيدِي عَلَى الْفَرْدِ كَثَلَاثَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْحَقِيقَةِ فِيهِ مُطَابَقِيَّة وَعَلَى وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ تَضَمُّنِيَّةً وَأَمَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَخَارِجَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْوَضْعِيَّةِ مَا لَمْ تُلَاحَظْ عَلَاقَةٌ وَقَرِينَةٌ وَإِلَّا كَانَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً اتِّفَاقًا وَلَا تَكُونُ دَلَالَةُ لَفْظِ الْعَامِّ عَلَى فَرْدِهِ الْمَذْكُورِ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ تَضَمُّنِيَّةً كَمَا قِيلَ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قُلْت: وَعَلَيْهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى فَرْدِهِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُطَابَقَةً وَالْمُطْلَقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْدِ الْمُبْهَمِ مُطَابَقَةً أَيْضًا هُوَ أَنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَى فَرْدِهِ الْمَذْكُورِ مُطَابَقَةً مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْمَوْضُوعِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَالْمُطْلَقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْدِ الْمُبْهَمِ مُطَابَقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ لَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِيهِ فَافْهَمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلَ لِغُلَامِهِ إذَا قَالَ: أَلْزَمْتُك النَّهْيَ أَوْ النَّفْيَ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ إنْ أَرَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي النَّهْيِ وَالنَّفْيِ الْعَهْدُ فِي الشَّخْصِ أَيْ فِي نَهْيٍ مُعَيَّنٍ وَنَفْيٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْمَدْلُولُ الْتِزَامًا مُعَيَّنًا وَإِنْ أَرَادَ بِهَا فِيهِمَا الْعَهْدُ فِي الْجِنْسِ أَيْ فِي نَهْيٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَفِي نَفْيٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ الِالْتِزَامِيُّ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ كَذَلِكَ أَيْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُعَيَّنًا.
وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا لَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَهُوَ النَّهْيُ أَوْ النَّفْيُ وَقَدْ فُرِضَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا فِيهَا الْعُمُومَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْمُتَعَلِّقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَدْلُولِ الْمُشْتَرَكِ مُطَابَقَةً فِي النَّهْيِ وَالنَّفْيِ وَمَدْلُولِهِ الْتِزَامًا فِيهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَنِثَ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَإِذَا جُعِلَتْ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي الطَّلَاقِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ لِلْعَهْدِ فِي الْجِنْسِ كَانَ الطَّلَاقُ مُطْلَقًا فِي أَفْرَادِهِ مُطَابَقَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّوْجَاتِ الْتِزَامًا أَوْ لِلْعُمُومِ كَانَ الطَّلَاقُ عَامًّا فِي أَفْرَادِهِ مُطَابَقَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَفِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ الثَّلَاثِ وَغَيْرِهَا الْتِزَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي إفْرَادِ الطَّلَاقِ بِحَسَبِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالنَّاسِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ طَلْقَةٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعُمَّهُنَّ الطَّلَاقُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بَلْ يُخَيِّرَ فِي التَّعْيِينِ أَوْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا بِعُمُومِ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ احْتِيَاطًا

(1/173)


إبْطَالًا لِعَدَمِ مُعَارَضَةِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ لِوَضْعِ اللُّغَةِ وَمُعَارَضَةِ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ الْعُرْفَ الْفِعْلِيَّ لَا يُؤَثِّرُ بِخِلَافِ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ وَرَأَيْت الْمَازِرِيَّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ حَاوَلَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ نَقَلَ خِلَافًا فِي ذَلِكَ وَنَقَلَ مَثَلًا عَنْهُ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَقَدْ نَقَلْتهَا فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَبَيَّنْت مَعْنَاهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ خِلَافًا فِي اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ بَلْ لِذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ وَالظَّاهِرُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا جَزَمَ بِحُصُولِ الْخِلَافِ فِيهِ بَلْ رَأَى كَلَامًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَوْجَبَ شَكًّا وَتَرَدُّدًا وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمِثْلِ الْمُشَارِ إلَيْهَا وَأَنَا أُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
إذَا فَرَضْنَا مَلِكًا أَعْجَمِيًّا يَتَكَلَّمُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا لِثِقَلِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَلَا يَأْكُلُ خُبْزًا وَكَانَ حَلِفُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهَا وَعَادَتُهُ فِي غِذَائِهِ لَا يَأْكُلُ إلَّا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا ثِيَابَ الْقُطْنِ فَإِنَّا نُحَنِّثُهُ بِأَيِّ ثَوْبٍ لَبِسَهُ وَبِأَيِّ خُبْزٍ أَكَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُعْتَادِهِ فِي فِعْلِهِ أَمْ لَا وَهَذَا إذَا لَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ اسْتِعْمَالَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ طُولَ أَيَّامِهِ يَقُولُ أَكَلْت خُبْزًا وَأْتُونِي بِخُبْزٍ وَعَجِّلُوا بِالْخُبْزِ وَالْخُبْزُ عَلَى الْمَائِدَةِ قَلِيلٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا يُرِيدُ فِي هَذَا النُّطْقِ كُلِّهِ إلَّا خُبْزَ الشَّعِيرِ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ فَيَصِيرُ لَهُ فِي لَفْظِ الْخُبْزِ عُرْفٌ قَوْلِيٌّ نَاسِخٌ لِلُّغَةِ فَلَا نُحَنِّثُهُ بِغَيْرِ خُبْزٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمِثْلِ الْمُشَارِ إلَيْهَا) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْعُرْفَ الْفِعْلِيَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ مَا أَرَادَ بِنَاءَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَعَادَتُهُ لُبْسُ ثَوْبِ الْكَتَّانِ دُونَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَحْنَثُ بِلُبْسِ غَيْرِ الْكَتَّانِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَهُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ (وَأَنَا أُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا فَرَضْنَا مَلِكًا أَعْجَمِيًّا يَتَكَلَّمُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا لِثِقَلِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَلَا يَأْكُلُ خُبْزًا وَكَانَ حَلِفُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهَا وَعَادَتُهُ فِي غِذَائِهِ لَا يَأْكُلُ إلَّا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا ثِيَابَ الْقُطْنِ فَإِنَّا نُحَنِّثُهُ بِأَيِّ ثَوْبٍ لَبِسَهُ وَبِأَيِّ خُبْزٍ أَكَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُعْتَادِهِ فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت لَا نُسَلِّمُ لَهُ تَحْنِيثَهُ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ اقْتِصَارُهُ عَلَى أَكْلِ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَلُبْسِ الْقُطْنِ مُقَيِّدٌ لِمُطْلَقِ لَفْظِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قُبَيْلِ بِسَاطِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بِالنِّيَّةِ ثُمَّ بِبِسَاطِ الْحَالِ فَإِذَا عُدِمَا حِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ بِالْعُرْفِ ثُمَّ بِاللُّغَةِ إنْ عُدِمَ الْعُرْفُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِلزَّوْجِ وَصَوْنًا لَهَا عَنْ مُوَاقَعَةِ الزِّنَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي عُمُومِهِ لِمُحَالِهِ أَوْ خُصُوصِهِ فَحُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِيمَا إذَا طَلَّقَ وَشَكَّ هَلْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ اسْتِصْحَابًا بِالْأَصْلِ الْعِصْمَةُ كَمَا مَرَّ وَلَا يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُخَيِّرُوهُ إذَا قَالَ: يَلْزَمُنِي الطَّلَاقُ وَإِنْ خَيَّرُوهُ فِي إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَيِّنٌ لِتَعْلِيقِهِ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ فَلَيْسَ التَّخْيِيرُ بِالْبَيِّنِ فَإِنْ نَوَى بِالطَّلَاقِ بَعْضَهُنَّ ذَاهِلًا عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي الْبَعْضِ الَّذِي نَوَاهُ وَحْدَهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِيمَا عَدَا مَا نَوَاهُ إذَا أَتَى بِصِيغَةِ عُمُومٍ نَحْوِ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا لِأَنَّ النِّيَّةَ أَوَّلُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَالِفِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فَاحْفَظْهُ.

(وَصْلٌ) فِي تَحْقِيقِ فِقْهِ هَذَا الْفَرْقِ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أَثْبَتَ الْوُجُوبَ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَعُمُّ بَلْ تَكْفِي رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّصِّ وَبِذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ تَبَعًا لِلنَّصِّ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) لَوْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَنَازِيرِ حَرُمَ كُلُّ خِنْزِيرٍ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْأَعَمِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُهُ بِالْأَخَصِّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إذَا قَالَ: لِنِسَائِهِ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ حَرُمَتْ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأُمُورِ عِبَارَةً عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ نَظَرًا لِلِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْأَكَابِرُ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَوَقِّي الشُّبُهَاتِ وَلَا يَتِمُّ جَوَابُ الْأَصْلِ بِبِنَائِهِ عَلَى ثَلَاثِ قَوَاعِدَ: الْأُولَى أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِ الْأُمُورِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِمُوجِبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لِلْإِبَاحَةِ وَرَافِعُ الْإِبَاحَةِ مُحَرَّمٌ فَالطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ الثَّالِثَةُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُشْتَرَكِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَ أَحُطُّ الْأُمُورِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَلْ هُوَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَلِذَلِكَ صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ

(1/174)


الشَّعِيرِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي ثَوْبِ الْقُطْنِ بِخِلَافٍ إذَا كَانَ لَا يَنْطِقُ بِلَفْظِ الْخُبْزِ وَالثَّوْبِ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ عُرْفٌ مُخَصَّصٌ يُقَدَّمُ عَلَى اللُّغَةِ فَيَحْنَثُ بِعُمُومِ الْمُسَمَّيَاتِ اللُّغَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ. (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُءُوسًا يَحْنَثُ بِجَمِيعِ الرُّءُوسِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِرُءُوسِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ أَشْهَبَ وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ قَدْ نَقَلُوا هَذَا اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ أَكَلْت رُءُوسًا لَا كُلَّ رُءُوسِ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا بِسَبَبِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ فِي هَذَا النَّوْعِ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الرُّءُوسِ فَهَذَا مُدْرَكُ أَشْهَبَ فَيُقَدِّمُ النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَابْنُ الْقَاسِمِ يُسَلِّمُ اسْتِعْمَالَ أَهْلِ الْعُرْفِ لِذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَهُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّقْلِ فَإِنَّ الْغَلَبَةَ قَدْ تَقْصُرُ عَنْ النَّقْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ اسْتِعْمَالًا كَثِيرًا.
وَلَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إلَى حَدِّ النَّقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَضَابِطُ النَّقْلِ أَنْ يَصِيرَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَغَيْرُهُ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى الْقَرِينَةِ فَهَذَا هُوَ مُدْرَكُ الْقَوْلَيْنِ فَاتَّفَقَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّ النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَةِ إذَا وُجِدَ وَاخْتَلَفَا فِي وُجُودِهِ هُنَا فَالْكَلَامُ بَيْنَهُمَا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ رَأَيْت رَأْسًا لَمْ تَخْتَلِفْ النَّاسُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَخْتَصُّ بِرُءُوسِ الْأَنْعَامِ بَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يُسَمَّى رَأْسًا لُغَةً بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ الَّذِي هُوَ رَأَيْت رَأْسًا لَمْ يَكْثُرْ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى صَارَ مَنْقُولًا بِخِلَافِ أَكَلْت رَأْسًا فَيُقَرُّ اللَّفْظُ عَلَى مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ وَلَا نَاسِخٍ وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ رَأْسًا وَسَقَطَتْ وَوَقَعَتْ رَأْسٌ وَهَذِهِ رَأْسٌ وَفِي الْبَيْتِ رَأْسٌ جَمِيعُ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَقَعْ فِيهَا نَقْلٌ عُرْفِيٌّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَكَلْت رَأْسًا وَنَحْوَهُ مِنْ صِيَغِ الْأَكْلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُ حَتَّى صَارَ إلَى حَيِّزِ النَّقْلِ فَقُدِّمَ عَلَى اللُّغَةِ عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ النَّقْلُ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَكَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَالْفُقَهَاءِ إذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقُولُ فِيهَا لَا يُحْنَثُ بِغَيْرِ رُءُوسِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ يَأْكُلُونَ رُءُوسَ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا وَلَا تَجِدُ فِي الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ لِلشُّرَّاحِ غَيْرَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إلَى الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ الْمَلْغِيِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْمُدْرَكُ الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُءُوسًا يَحْنَثُ بِجَمِيعِ الرُّءُوسِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِرُءُوسِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ أَشْهَبَ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ)
قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَلَا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ لِلشُّرَّاحِ غَيْرَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّى اللَّفْظِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِعْلِيِّ مِنْ جِنْسِ الْبِسَاطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِيهِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَافْهَمْ.

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَالَ مَالِكٌ إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَيُعَيِّنُهُ لِلْعِتْقِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَحَدِ الْأُمُورِ عِبَارَةً عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعُمُومِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ مُقْتَضِيهِ وَلَمْ يُنْظَرْ هُنَا لِلِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ مَعَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ الْبِغْضَةُ الَّتِي لَا تَصْدُقُ إلَّا مَعَ النَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» وَأَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ فِي جَمِيعِ الْإِعْصَارِ وَالْأُمَمِ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْعِتْقِ قُرْبَةً لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمًا لِلْوَطْءِ وَأَخْذِ الْمَنَافِعِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبِغْضَةَ فِي الْحَدِيثِ لَا تَصْدُقُ إلَّا مَعَ النَّهْيِ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَرَّحَ بِإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا وَحِينَئِذٍ فَتَصْدُقُ الْبِغْضَةُ مَعَ الْأَمْرِ وَتُحْمَلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْبِغْضَةُ وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ التَّرْكِ وَالْعِتْقَ قُرْبَةٌ وَيَلْزَمُهُ التَّحْرِيمُ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْأَلْفَاظِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مُطَابَقَةً دُونَ مَا تَقْتَضِيهِ الْتِزَامًا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِيهِ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ بِنَاءً عَلَى النَّهْيِ وَأَنَّ كُلَّ نَهْيٍ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِيهِ هُوَ لِلْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ فَلَا تُعْتَبَرُ اللَّوَازِمُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْحَقَائِقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَمَدْفُوعَةٌ بِأَنَّ الطَّلَاقَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِتَحْرِيمٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَبَّدُ أَمَّا غَيْرُ الْمُؤَبَّدِ فَلَا.
وَإِنَّمَا هُوَ حِلٌّ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَحِلُّ عَقْدِ النِّكَاحِ يَسْتَلْزِمُ صَيْرُورَةَ الزَّوْجَةِ أَجْنَبِيَّةً وَصَيْرُورَتُهَا أَجْنَبِيَّةً يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَهَا كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ رَفْعٌ لِلْمِلْكِ عَنْ الْمَمْلُوكَةِ وَرَفْعُ الْمِلْكِ يُصَيِّرُهَا أَجْنَبِيَّةً مَالِكَةً لِنَفْسِهَا وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَحْرِيمُهُمَا فَلَا فَرْقَ قُلْت: نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: الْوَجْهُ فِي نَظَرِ مَالِكٍ فِي الطَّلَاقِ لِلِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ وَإِنْ لَزِمَهُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ وَفِي الْعِتْقِ لِمَا اقْتَضَاهُ الْإِجْمَاعُ وَإِنْ لَزِمَهُ مُخَالَفَةُ الِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ هُوَ أَنَّ اسْتِلْزَامَ الطَّلَاقِ لِلتَّحْرِيمِ لِخُصُوصِ الْوَطْءِ مُطَّرِدٌ إذْ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَم