الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ فِي الْأَيْمَانِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَقْيِيدُ الْمُطْلَقَاتِ إذَا حَلَفَ لَيُكْرِمَنَّ رَجُلًا وَنَوَى بِهِ زَيْدًا]
الْفَرْقُ الثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ فِي الْأَيْمَانِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ)
النِّيَّةُ تَكْفِي فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَتَعْمِيمِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَعْيِينِ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرِكَاتِ وَصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقَائِقِ إلَى الْمَجَازَاتِ وَلَا تَكْفِي عَنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ شَرْعًا كَالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَنْ لَفْظٍ مَقْصُودٍ لِلْحَالِفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا شَرْعِيًّا كَلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَكْفِي فِي خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ وَتُؤَثِّرُ فِيهَا وَلَا تَكْفِي

(3/87)


أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فِيهَا إذَا نُذِرَتْ لِأَجْلِ الرُّجْحَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ قُلْت سُؤَالٌ جَلِيلٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ رَاجِحًا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ ضَمُّهُ لِرَاجِحٍ آخَرَ فِي نَفْسِهِ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَقَدْ يَكُونُ ضَمُّهُ رَاجِحًا فَمِنْ الْأَوَّلِ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ رَاجِحَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ ضَمُّهُمَا رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ رَاجِحَانِ مُنْفَرِدَيْنِ وَلَيْسَ ضَمُّهُمَا رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلَانِ رَاجِحَيْنِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَضَمُّهُمَا مَرْجُوحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ كَالصَّوْمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالتَّنَفُّلُ فِي الْمُصَلَّى مَعَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالرُّكُوعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا» وَالدُّعَاءُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا قَبْلَ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِ وَمِمَّا رُجِّحَ مُنْفَرِدًا وَمُجْتَمِعًا الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ وَالتَّسْبِيحُ وَالرُّكُوعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَاعْتِقَادُ رُجْحَانِ الْمَسَاجِدِ عَلَى غَيْرِهِمَا أَوْ رُجْحَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ ضَمِّ الصَّلَاةِ إلَيْهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ الرُّجْحَانِ الشَّرْعِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَرِدْ بَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ رُجْحَانَهَا إنَّمَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ فِيهَا فَإِنِّي أَمْنَعُ ذَلِكَ بَلْ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى رُجْحَانِهَا بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ مِنْ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَسَاجِدُ مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَكْتُوبَةِ أَيْضًا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ فَإِنَّ الرُّجْحَانَ الشَّرْعِيَّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ اقْتَضَى عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ إلَى مَسْجِدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْمَعْلُومِ مِنْ الدَّيْنِ ضَرُورَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ بَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بِعَدَمِ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ وَرَدَ بِعَدَمِ إعْمَالِ الْمَطِيِّ لَا بِعَدَمِ الْمَشْيِ جُمْلَةً فَإِنَّ إعْمَالَ الْمَطِيِّ أَخَصُّ مِنْ الْمَشْيِ مُطْلَقًا وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ.
قَالَ (وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ رُجْحَانَهَا إنَّمَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَجِبُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ نَذَرَهُ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَكْتُوبَةِ مَعَ تَسْلِيمِهِ قَبْلَ هَذَا أَنَّ بَعْضَهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَعْنَاهُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْأَعْمَالُ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلَ مِنْ الْأَعْمَالِ فِي غَيْرِهِ فَمَا الْمُرَادُ بِفَضْلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدْرَكٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي نَوْعَيْنِ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِمَا وَتَتَّضِحُ هَذِهِ السَّبْعَةُ بِذِكْرِ عَشْرِ مَسَائِلَ، لِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ بِلَا خِلَافٍ مَسْأَلَةٌ، وَلِتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ بِلَا خِلَافٍ مَسْأَلَةٌ، وَلِلتَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَى الْخِلَافِ هَلْ يُؤَثِّرُ بِالنِّيَّةِ أَمْ لَا مَسْأَلَةٌ، وَلِتَعْمِيمِ الْمُطْلَقَاتِ مَسْأَلَةٌ، وَلِتَعْيِينِ مُسَمَّيَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرِكَاتِ مَسْأَلَةٌ، وَلِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقَائِقِ إلَى الْمَجَازَاتِ مَسْأَلَةٌ، وَلِعَدَمِ كِفَايَتِهَا عَنْ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ مَسْأَلَةٌ، وَلِعَدَمِ كِفَايَتِهَا عَنْ لَفْظٍ مَقْصُودٍ لِلْحَالِفِ وَلَيْسَ هُوَ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ ثَلَاثُ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
إذَا حَلَفَ لَيُكْرِمَنَّ رَجُلًا وَنَوَى بِهِ زَيْدًا لَمْ يَبَرَّ بِإِكْرَامِ غَيْرِهِ لِأَنَّ رَجُلًا مُطْلَقٌ وَقَدْ قَيَّدَهُ بِخُصُوصِ زَيْدٍ حَتَّى صَارَ مَعْنَى الْيَمِينِ لَأُكْرِمَنَّ زَيْدًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَأُكْرِمَنَّ رَجُلًا وَنَوَى بِهِ فَقِيهًا أَوْ زَاهِدًا لَمْ يَبَرَّ بِإِكْرَامِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا مَوْطِنُ إجْمَاعٍ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا وَنَوَى بِهِ مَا عَدَا الْكَتَّانَ خَاصَّةً لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَبِسَ الْكَتَّانَ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا لَبِسَ غَيْرَ الْكَتَّانِ لِأَنَّ نِيَّتَهُ خَصَّصَتْ الثَّوْبَ الْمَحْلُوفَ بِعَدَمِ لُبْسِهِ بِمَا عَدَا الْكَتَّانَ وَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُحَاشَاةُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُطَابِقِيَّةِ فَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ تَقْيِيدًا وَلَا تَخْصِيصًا وَقَالَتْ بَقِيَّةُ الْفِرَقِ تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا وَتَضَمُّنًا تَقْيِيدًا وَتَخْصِيصًا كَالْمُطَابَقَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَمَثَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت فَقَالَتْ الْفِرَقُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ النِّيَّةِ هَا هُنَا وَإِنْ نَوَى بَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَحَنِثَ بِأَيِّ مَأْكُولٍ أَكَلَهُ لِأَنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الْمَأْكُولُ بَلْ وَلَا عَلَى الْفَاعِلِ بِالْمُطَابِقَةِ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إمَّا بِالتَّضَمُّنِ وَإِمَّا بِالِالْتِزَامِ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِ النِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الشَّاطِّ وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْعَضُدِ وَالْعِصَامِ وَالسَّيِّدِ والفتري وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ

(3/88)


غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ نَذَرَهُ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي إلَى الْقَرِيبِ فَمُرَاعَاةً لِضَرُورَةِ النَّذْرِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ دُونَ الْإِلْزَامِ وَقَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ يَمْشِي إلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ مُشْكِلٌ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَاعِدَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يَمْشِي إلَى الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ ظَاهِرٍ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ فَإِنْ قُلْت الْقَاعِدَةُ فِي النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إذَا نَذَرَهُ فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرَغِيفٍ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَقْعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا لَمْ يُجِزْهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يُجِزْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِآلَافٍ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ السِّنِينَ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَيْفَ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ إذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا وَلَا يَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَفْضُولَ لِفِعْلِ الْفَاضِلِ وَالْقَاعِدَةُ مَنْعُ ذَلِكَ فَكَيْفَ سَاغَ ذَلِكَ هُنَا قُلْت ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالْحَرَمَيْنِ إذَا كَانَ مُقِيمًا بِهِمَا حَالَةَ النَّذْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَذَرَ الْخُرُوجَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي إلَى الْقَرِيبِ فَمُرَاعَاةٌ لِضَرُورَةِ النَّذْرِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ دُونَ الْإِلْزَامِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا قَالَ (وَقَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ يَمْشِي إلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ مُشْكِلٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ الْقَاعِدَةِ) قُلْت إنْ ثَبَتَ لَهُ دَلِيلٌ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا أُشْكِلَ قَالَ (وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يَمْشِي إلَى الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ) قُلْت كَلَامُهُ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ اسْتِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ مُدْرَكٍ وَهَلْ الِاسْتِحْسَانُ إلَّا مُدْرَكٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ.
قَالَ (فَإِنْ قُلْت الْقَاعِدَةُ فِي النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى إلَى قَوْلِهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ) قُلْت إنَّمَا لَمْ يُجِزْهُ فِعْلٌ الْأَعْلَى عَنْ فِعْلِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى أَعْظَمَ قَدْرًا لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْأَدْنَى الْمَنْذُورِ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ وَإِذَا خُولِفَ الْمَنْذُورُ حَصَلَ ارْتِكَابُ الْمَمْنُوعِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا الْتَزَمَ لِوَجْهِهِ.
قَالَ (وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَيْفَ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ إلَى قَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ) قُلْت نَقُول إذَا كَانَ النَّاذِرُ مُقِيمًا بِالْحَرَمَيْنِ كَانَ فِي ضِمْنِ نَذْرِهِ الصَّلَاةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ تَرْكُ الرَّاجِحِ وَهُوَ الصَّلَاةُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِالظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ التَّنَفُّلَ بِالْمَسْجِدَيْنِ جَائِزًا أَمَّا وَتَرْكُ التَّنَفُّلِ بِهِمَا جَائِزٌ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ وُرُودُ السُّؤَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَأْيِيدُ التَّفْتَازَانِيِّ قَوْلُ الْعَضُدِ بِاسْتِعَارَةِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى دُخُولِهَا فِيهِ أَوْ غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِيهِ وَهُوَ مُفَادُ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيْ الْفِعْلِ إلَخْ وَعَزَاهُ الْفَنَارِيُّ فِي فُصُولِ الْبَدَائِعِ إلَى ابْنِ الْحَاجِبِ وَالصَّبَّانِ فِي حَوَاشِي الْأُشْمُونِيِّ لِلْجُمْهُورِ كَمَا فِي بَيَانِيَّةِ الصَّبَّانِ وَالْأُنْبَابِيُّ عَلَيْهَا وَقَالَ الصَّبَّانُ فِي بَيَانِيَّتِهِ فِي شَرْحِ شَيْخِنَا إنَّ الْحَقَّ عَدَمُ دُخُولِهَا فِيهِ نَعَمْ الْفِعْلُ مَلْحُوظٌ فِيهِ النِّسْبَةُ إلَى الْفَاعِلِ أَوْ نَائِبِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِهِ أَوْ خَارِجَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ اهـ الْمُرَادُ وَحَيْثُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمَأْكُولِ إلَّا بِالتَّضَمُّنِ أَوْ الِالْتِزَامِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ النِّيَّةِ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ
(أَحَدُهَا) أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الْمَنْطُوقِ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَخَالَفْنَا ذَلِكَ فِيمَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً وَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَحْكِيمَ النِّيَّةِ فِي اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ فَرْعُ تَنَاوُلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالتَّنَاوُلُ إنَّمَا هُوَ مُحَقَّقٌ فِي الْمُطَابِقَةِ وَأَمَّا التَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ فَتَبَعٌ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ وَضْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَمْ يُوضَعْ لَفْظُ الْمَسْجِدِ مَثَلًا إلَّا لِجُمْلَتِهِ لَا لِجُمْلَتِهِ وَبَعْضِهِ الَّذِي هُوَ السَّقْفُ مَثَلًا وَلَازِمِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ فِيهِ مَثَلًا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَلَا دَلَالَةَ لِلَفْظِ الْمَسْجِدِ عَلَى السَّقْفِ وَلَا عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا نَعَمْ هُنَا أَمْرٌ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَذْكُرُ لَهُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ بِالْوَضْعِ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ فَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا الْقَدْرَ وَسَمَّى هَذَا التَّذَكُّرَ دَلَالَةً فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَدْخُلُ اللُّبْسُ فِي كَلَامِهِ عَلَى سَامِعِ ذَلِكَ مِنْهُ حِينَ يَذْكُرُ هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَعْنَاهُمَا تَذَكُّرُ الشَّيْءِ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّيْءِ مَعَ ذِكْرِهِ الدَّلَالَةَ الْوَضْعِيَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوقِعْهُ عَلَى الْوَضْعِيَّةِ وَالتَّذَكُّرِ بِالتَّوَاطُؤِ بَلْ بِالِاشْتِرَاكِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوقِعُ الْغَلَطَ كَثِيرًا وَإِذَا كَانَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْجُزْءِ وَاللَّازِمِ تَبَعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْكُلِّ، وَالْمَلْزُومُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ وَالْأَلْفَاظُ إنَّمَا تَدُلُّ وَضْعًا لَا عَقْلًا كَانَ تَقْرِيرُ اللَّفْظِ فِي الْجُزْءِ وَاللَّازِمِ ضَعِيفًا فَيَكُونُ تَصَرُّفُ النِّيَّةِ فِيهِ كَذَلِكَ فَلَا يُتْرَكُ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ لِهَذَا الضَّعِيفِ

(3/89)


الْحَرَمَيْنِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ نَذَرَ الْمَرْجُوحَ وَالنَّذْرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَرْجُوحِ بَلْ فِي الْمَنْدُوبِ الرَّاجِحِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا وَنَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يُقَالَ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْعُدُولُ فِيهَا عَنْ الصِّفَةِ الدُّنْيَا إلَى الصِّفَةِ الْعُلْيَا لَا يَقْدَحُ فِي مُوجَبِ النَّذْرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ خَلَقٍ أَوْ غَلِيظٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً بَلْ هِيَ مَرْجُوحَةٌ فِي الثِّيَابِ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الْجَيِّدَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ فَإِنَّ النَّذْرَ لَمَّا وَرَدَ عَلَى الثَّوْبِ الْخَلَقِ وَرَدَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ الثَّوْبِ وَالْآخَرُ صِفَتُهُ فَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِأَصْلِ الثَّوْبِ فَقُرْبَةٌ فَتَجِبُ.
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِوَصْفِ الْخَلَقِ فَلَيْسَ فِيهِ نَدْبٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّذْرُ فَيُجْزِئُ ضِدُّهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَمَّا نَذَرَ الصَّلَاةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ نَذَرَ الصَّلَاةَ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «الصَّلَاةَ فِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ» وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخَرَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (أَوْ يُقَالُ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَيُجْزِئُ ضِدُّهُ) قُلْت كَأَنَّهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ رَامَ الْفَرْقَ فِيمَا بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ فَفِي الْجِنْسَيْنِ لَا يَنُوبُ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الصِّفَتَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ تَنُوبُ الصِّفَةُ الْعُلْيَا عَنْ الدُّنْيَا وَهَذَا الْوَجْهُ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصِّفَةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ رَاجِحَةً فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّذْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ قَالَ (فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَمَّا نَذَرَ الصَّلَاةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ نَذَرَ أَصْلَ الصَّلَاةِ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ) قُلْت لَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ هَذَا مِنْ الْمُسَامَحَةِ فِي قَوْلِهِ مَوْصُوفَةً بِخَمْسِمِائَةٍ صَلَاةٍ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَنْذُورِ حَقِيقَةً كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْخَلَقِ بَلْ هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَنْذُورِ إضَافَةً بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ وَتَنْظِيرُ الْوَصْفِ الْإِضَافِيِّ بِالْحَقِيقِيِّ فِيهِ مَا فِيهِ.
قَالَ (وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ) قُلْت لَيْسَ وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ هِيَ بِعَيْنِهَا الَّتِي فِي الْحَرَمَيْنِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ كَيْفَ وَالْأَفْعَالُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ كُلِّ فِعْلَيْنِ دَاخِلَيْنِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ لَيْسَتْ أَفْعَالًا وَاقِعَةً مِنْ الْمُكَلَّفِ بَلْ هِيَ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَكُلُّ كَلَامِهِ هَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ وَلَا مُحَصِّلَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْمُجْزَى عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُجْزَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمُخْتَلَفِ فِيهِ
(وَثَانِيهَا) أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا فِيمَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً وَاعْتِبَارُ النِّيَّاتِ فِي الْأَلْفَاظِ أَمْرٌ يَتْبَعُ اللُّغَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللُّغَةَ لَمَّا لَمْ تُجَوِّزْ النِّيَّةُ فِي صَرْفِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ إلَى الْمَجَازَاتِ امْتَنَعَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُطْلِقَ الْعَشَرَةَ وَتُرِيدَ بِهَا التِّسْعَةَ
(وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ لَوْ صَحَّ دُخُولُ النِّيَّةِ فِي الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ وَالتَّضَمُّنَ لَصَحَّ الْمَجَازُ فِي كُلِّ لَازِمٍ أَوْ جُزْءٍ الْمُسَمَّى بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسَدَ يَلْزَمُهُ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْبَخَرِ وَالْحُمَّى وَالْوَبَرِ وَكِبَرِ الرَّأْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ التَّجَوُّزُ عَنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الشَّجَاعَةِ خَاصَّةً وَلَا يَصِحُّ دُخُولُ النِّيَّةِ فِي غَيْرِهَا حَتَّى تُصْرَفَ لِلْمَجَازِ لِأَنَّا نَشْتَرِطُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجَازِ وَهُوَ مَجَازُ الْمُشَابَهَةِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُشَابَهَةُ أَظْهَرَ صِفَاتِ الْمَحَلِّ الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ فَافْهَمْ (وَحُجَّةُ الْمَالِكِيَّةِ) وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ وُجُوهٍ
(أَحَدُهَا) أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت أَكْلًا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ بَعْضَ الْمَآكِلِ وَيُخْرِجَ الْبَعْضَ بِنِيَّتِهِ مَعَ أَنَّ أَكْلًا مَصْدَرٌ وَأَجْمَعَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ بَعْدَ الْفِعْلِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ ضَرَبْت ضَرْبًا فَإِنَّ الْفِعْلَ دَلَّ عَلَيْهِ فَذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا لِذِكْرِهِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا وَحَقِيقَةٌ التَّأْكِيدِ تَقْوِيَةُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَإِلَّا لَكَانَ إنْشَاءً لَا تَأْكِيدًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْكِيدُ مُنْشَأً كَانَتْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ لَكِنَّ الثَّابِتَ مَعَهُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فَالثَّابِتُ قَبْلَهُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
(وَثَانِيهَا) أَنَّ النِّيَّةَ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ مَعَ قُوَّةِ الْمُعَارِضِ لَهَا فِي الْمُطَابَقَةِ إجْمَاعًا فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ مَعَ ضَعْفِ الْمُعَارِضِ لَهَا فِي دَلَالَتَيْ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَوْنُ الْمُطَابَقَةِ أَقْوَى مُعَارِضٍ لِلنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ وَغَيْرُهَا إنَّمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ تَبَعًا لَهَا وَالْأَصْلُ أَقْوَى مِنْ التَّابِعِ
(وَثَالِثُهَا) أَنَّا وَجَدْنَا الِاسْتِثْنَاءَاتِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ دَخَلَتْ عَلَى اللَّوَازِمِ وَالْعَوَارِضِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمَدْلُولِ الْمُطَابِقِيِّ وَلَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ لِأَجَلِهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ اللَّفْظَ تَابِعٌ لِإِرَادَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ إفْهَامُ السَّامِعِ مَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ فَمَتَى دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِ النِّيَّةِ قَبْلَهُ فِي الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ، وَبَيَانُ

(3/90)


فَكُلُّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا وَلَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ وَتَرْكُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا نَذْرٌ وَيَكُونُ وِزَانُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ وِزَانُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَصَلَّى لِأَنَّ خُصُوصَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ مَطْلُوبٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْصُلُ هَذَا الْخُصُوصُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا حَصَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ أَلْبَتَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
عَلَيْهِ بِأَلْفٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ فَلِذَلِكَ وَجْهٌ إلَّا أَنَّ عِبَارَتَهُ بَعِيدَةٌ عَنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ جِدًّا.
قَالَ (فَكُلُّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا وَلَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ أَجْرَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْهُوبٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِي زِيَادَةِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى تَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَرَمَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ قَدْرُ مَا يَفْضُلُ بِهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدَ الْمَقْدِسِ مِثْلُ قَدْرِ مَا يَفْضُلُ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ (وَتَرْكُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا نَذْرٌ) قُلْت تِلْكَ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمُكَلَّفِ أَصْلًا فَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ إلَيْهَا وَلَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّدْبِ أَصْلًا وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَالَ (وَيَكُونُ وِزَانُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبَيْنِ) قُلْت لَيْسَ وِزَانُهُ مَا ذَكَرَ وَكَيْفَ يُنَظَّرُ بَيْنَ جَزَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِ فِعْلِهِ هَذَا خَلَلٌ وَاضِحٌ.
قَالَ (فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إجْمَاعًا) قُلْت لَا يَخْلُوَا نَاذِرُ التَّصَدُّقِ بِثَوْبٍ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِثَوْبَيْنِ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ بِأَحَدِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَعًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ يُجْزِئْهُ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ قَصَدَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ بِهِمَا مَعًا فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَمَا أَرَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ تَصِحُّ فِي ذَلِكَ.
قَالَ (وَلَا يَكُونُ وِزَانُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فَصَلَّى) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ وِزَانُهُ مَا ذَكَرَ قَبْلُ وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا وِزَانَهُ فَظَاهِرٌ قَالَ (لِأَنَّ خُصُوصَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ مَطْلُوبٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْخُصُوصُ فِي الصَّلَاةِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ (كَمَا حَصَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ) قُلْت لَوْ كَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ وَالْأَلْفُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لَمَا صَحَّ حُصُولُ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْأَلْفِ فَإِنَّ الْخَمْسَمِائَةِ مُقَيَّدَةٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا وَالْأَلْفُ مُقَيَّدَةٌ بِتَمَامِهَا وَالْقَيْدَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ (مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ أَلْبَتَّةَ) قُلْت وَأَيُّ خَلَلٍ أَعْظَمُ مِنْ خَلَلٍ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا أَوْ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ مِنْ وَجْهَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ إلَّا فِي حَالَةِ الْإِحَاطَةِ بِكُمْ فَإِنِّي لَا أُلْزِمُكُمْ الْإِتْيَانَ بِهِ فِيهَا لِقِيَامِ الْعُذْرِ حِينَئِذٍ فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ أَوْ اللَّازِمَةِ لِمَعْنَى الْإِتْيَانِ
(وَثَانِيهَا) قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] أَيْ لَا يَأْتِيهِمْ فِي حَالَةٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ لَهْوِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ فَقَدْ قَصَدَ إلَى حَالَةِ اللَّهْوِ وَالْإِعْرَاضِ بِالْإِثْبَاتِ وَلِغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ بِالنَّفْيِ وَالْأَحْوَالُ أُمُورٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْمَدْلُولِ الْمُطَابِقِيِّ وَإِذَا كَانَتْ الْأَحْوَالُ خَارِجَةً فَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً فَقَدْ دَخَلَتْ النِّيَّةُ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا وَإِنْ كَانَتْ عَارِضَةً فَقَدْ دَخَلَتْ النِّيَّةُ فِي الْعَوَارِضِ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْعَوَارِضِ دَخَلَتْ فِي اللَّوَازِمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْعَارِضَ أَبْعَدُ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مُطَابَقَةً مِنْ اللَّازِمِ ضَرُورَةً وَإِذَا تَصَرَّفَتْ النِّيَّةُ فِي الْبَعِيدِ فَأَوْلَى أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي الْقَرِيبِ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْمُطَابَقَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا مِنْ الْعَارِضِ لِبُعْدِهِ مِنْ الْمُطَابَقَةِ
(وَرَابِعُهَا) أَنَّا وَجَدْنَا النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ تَصَرَّفَتْ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا وَهُوَ عَيْنُ صُورَةِ النِّزَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «مَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا أُرِيدُ» قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِذِكْرِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ أَنْتَ تُعَظِّمُهُ وَتَهْتَمُّ بِهِ كَوَلَدِك وَصَدِيقِك فَإِنَّك تَتَرَدَّدُ فِي مُسَاءَتِهِ وَأَنَّ مَنْ لَا تُعَظِّمُهُ كَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَعَدُوِّك فَإِنَّك إذَا خَطَرَ بِقَلْبِك إيلَامُهُ وَمُسَاءَتُهُ لَا تَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بَلْ تُبَادِرُ إلَيْهِ فَصَارَ التَّرَدُّدُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي مَوْطِنِ التَّعْظِيمِ وَعَدَمُهُ فِي مَوْطِنِ الْحَقَارَةِ فَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي الْإِحْسَانِ انْعَكَسَ الْحَالُ فَيَحْصُلُ فِي حَقِّ الْحَقِيرِ دُونَ الْعَظِيمِ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَنْزِلَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدِي عَظِيمَةٌ وَجَمِيعُ مَا وَقَعَ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْمُرَكَّبِ لَيْسَ مُرَادًا فَقَدْ قَصَدَ إلَى لَازِمِ اللَّفْظِ وَأُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ تَصَرُّفُ النِّيَّةِ فَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِعَيْنِهِ فَإِذَا صَحَّ الْقَصْدُ فِي

(3/91)


فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ إجْزَاءِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ الرَّاجِحِ عَنْ الْمَرْجُوحِ فِي الْعِبَادَاتِ وَقَاعِدَةِ إجْزَاءِ الصَّلَاةِ بِالْحَرَمَيْنِ عَنْ الصَّلَاةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ مِنْ مَسَاجِدِ الْأَقْطَارِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ
(تَنْبِيهٌ) مُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ فِي النَّذْرِ لُزُومُ ثَلَاثَةِ إشْكَالَاتٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ
(الْإِشْكَالُ الْأَوَّلِ) عَلَى مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ إنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَنْدُوبٍ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ قَبْلَ النَّذْرِ وَلَا فِي مُبَاحٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا بِفِعْلِ الْمُبَاحِ نَذَرَهُ أَمْ لَا وَالْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِذَا كَانَتْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي رَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الشَّعِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ قَمْحًا مَعَ أَنَّ هَذَا الشَّعِيرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَالِيَّةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَمْحِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا رَاجِحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَالثَّانِي كَوْنُهُ شَعِيرًا وَكَوْنُهُ شَعِيرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِخُصُوصِهِ فِي الصَّدَقَةِ وَلَا هُوَ رَاجِحٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ خُصُوصُ الشَّعِيرِ وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الثَّوْبِ فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَا يُجْزِئُهُ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ لَا تَجَزُّئِهِ الصَّلَاةُ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ فِي خُصُوصِ الصَّوْمِ وَجْهٌ يَتَرَجَّحُ بِهِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهِ النَّذْرُ وَيُمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ) قُلْت لَيْتَهُ لَمْ يُفَسِّرْ هَذَا السِّرَّ فَإِنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَجِبُ كَتْمُهُ.
قَالَ (تَنْبِيهٌ مُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ فِي النَّذْرِ لُزُومُ ثَلَاثَةِ إشْكَالَاتٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ أَثَّرَ فِيمَا لَيْسَ بِرَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ أَثَّرَ فِي رَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ رَاجِحٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَنُبْ الْقَمْحُ عَنْ الشَّعِيرِ وَالصَّلَاةُ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْذُرْ الْقَمْحَ وَلَا الصَّلَاةَ فَلَوْ فَعَلَ التَّصَدُّقَ بِالْقَمْحِ بَدَلَ الشَّعِيرِ أَوْ فَعَلَ الصَّلَاةَ بَدَلَ الصَّوْمِ لَكَانَ قَدْ خَالَفَ مَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلنَّدَبِ أَثَرٌ إلَّا فِي تَصْيِيرِ الْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ وَاجِبًا خَاصَّةً وَامْتَنَعَتْ نِيَابَةُ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهَا وَكَذَلِكَ نِيَابَةُ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْجِنْسِ الْأَدْنَى مِنْهُ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّذْر وَجَازَتْ نِيَابَةُ الصِّفَةِ الْعُلْيَا مِنْ صِفَاتِ مُتَعَلِّقِ الْعِبَادَةِ عَنْ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلنَّذْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْجِنْسَ أَعْنِي جِنْسَ الْعِبَادَةِ أَوْ مُتَعَلَّقَهَا مِمَّا هُوَ جِنْسٌ مَقْصُودٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ وَصِفَةُ مُتَعَلَّقِهَا إنَّمَا هِيَ صِفَةٌ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لَهُ وَعَلَى الصِّفَةِ تَتَخَرَّجُ مَسْأَلَةُ نَاذِرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
اللَّازِمِ صَحَّتْ النِّيَّةُ فِيهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ وَاضِحَةٌ فِي دُخُولِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا وَكَذَا تَضَمُّنًا فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَبِهَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَلَى مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ
(أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ قَوْلُهُمْ نَفَيْنَاهُ فِيمَا عَدَا الْمُطَابَقَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِعْمَالَات دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْعَرَبَ أَجَازَتْ النِّيَّةَ فِي الِالْتِزَامِ كَمَا أَجَازَتْهَا فِي الْمُطَابَقَةِ ثُمَّ إنَّ الْأَصْلَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَجْرِ عَلَيْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا هُوَ النِّيَّاتُ وَالْمَقَاصِدُ وَإِنَّمَا الْأَلْفَاظُ وُصْلَةٌ إلَى تَعْرِيفِهَا وَتَعَرُّفِهَا فَإِذَا صَرَفَتْ النِّيَّاتُ الْأَلْفَاظَ إلَى شَيْءٍ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ
(وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ النِّيَّةِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا أَوْ تَضَمُّنًا فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النُّصُوصِ وَالِاسْتِعْمَالَات يُبْطِلُ اسْتِقْرَاءَهُمْ إذْ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي
(وَأَمَّا الثَّالِثُ) وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَوْ صَحَّ دُخُولُ النِّيَّةِ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا أَوْ تَضَمُّنًا لَصَحَّ الْمَجَازُ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ لَازِمٌ أَوْ جُزْءٍ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنْ صِحَّةِ الْمَجَازِ فِي كُلِّ لَازِمٍ أَوْ جُزْءٍ لِأَنَّ الْعَلَاقَةَ عِنْدَنَا الْمُلَازَمَةُ لَا خُصُوصُ الْمُشَابَهَةِ بَلْ يَصِحُّ عِنْدَنَا الْمَجَازُ فِي غَيْرِ اللَّازِمِ كَالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْجُزْءِ عَنْ الْكُلِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] مَعَ أَنَّ الْجُزْءَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْكُلِّ حَتَّى أَنَّهُمْ لِذَلِكَ اشْتَرَطُوا فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُرَكَّبًا تَرْكِيبًا حَقِيقِيًّا وَأَنْ يَسْتَلْزِمَ انْتِفَاءُ الْجُزْءِ انْتِفَاءَهُ عُرْفًا كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالظُّفْرِ وَالْأُذُنِ لِلْإِنْسَانِ اهـ.
أَيْ وَالْيَدُ كَمَا فِي الْمُطَوَّلِ قَالَ فِيهِ وَأَمَّا إطْلَاقُ الْعَيْنِ عَلَى الرَّبِيئَةِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَقِيبٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعَيْنِ اهـ كَذَا فِي بَيَانِيَّةِ الصَّبَّانِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْأَسَدِ فِي غَيْرِ الشَّجَاعَةِ مِنْ لَوَازِمِهِ فَهُوَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ خُصُوصِ كَوْنِهِ مَجَازَ تَشْبِيهٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَظْهَرُ صِفَاتِ الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ بِالْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ لَا مِنْ عُمُومِ كَوْنِهِ مَجَازًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ أَمْرٍ فِي الْأَخَصِّ أَنْ يَمْتَنِعَ فِي الْأَعَمِّ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَحْرِيمُ قَتْلِ مُطْلَقِ حَيَوَانٍ وَلَا مِنْ تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْرِيمُ مُطْلَقِ مَائِعٍ وَلَا مِنْ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ تَحْرِيمُ مُطْلَقِ اللَّحْمِ فَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ فِي كُلِّ لَازِمٍ إلَّا مَا تَقَدَّمَ

(3/92)


تَتَعَيَّنُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ يَلْزَمُ خُصُوصُهَا بِالنَّذْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْخُصُوصُ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بَلْ الْقُرْبَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَدْ أَثَّرَ النَّذْرُ فِيمَا لَيْسَ بِرَاجِحٍ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ
(الْإِشْكَالُ الثَّانِي) عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَصْدِ بِخُصُوصِيَّاتِهِمْ اشَرْعًا وَعَادَةً فَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيُخْرِجُ غَيْرَهُ أَوْ بِهَذَا الدِّينَارِ أَنْ يَتْرُكُهُ وَيُخْرِجُ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْخُصُوصَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَصْدٌ شَرْعِيٌّ وَعَادِيٍّ وَهُوَ خِلَافُ قَاعِدَتِهِمْ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ وَيَلْزَمُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يُعَيِّنَهَا أَنْ يُخْرِجَ عِوَضَهَا دَنَانِيرَ لِأَنَّ التَّقَرُّبُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا فِي كَوْنِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَنْفَعَ لِلْفَقِيرِ وَهُوَ مَا لَمْ يُنْذَرْ لِرَاحَتِهِ مِنْ الصَّرْفِ فِي دَفْعِ الدَّرَاهِمِ عَنْ الدَّنَانِيرِ الْمَنْذُورَةِ
(الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ) مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْإِشْكَالُ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِيهِ) قُلْت مَا قَالَهُ وَأَلْزَمَهُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّقْدَيْنِ لَا يَتَعَيَّنَانِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ الْحَرَامِ عَلَى الْأَقْصَى لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِ مَعَ تَحْصِيلِ أَصْلِ التَّقَرُّبِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسُ الْمَنْذُورَاتِ كُلُّهَا كَذَلِكَ يُقَدَّمُ فَاضَلَهَا عَلَى مَفْضُولِهَا وَيَخْرُجُ الْقَمْحُ بَدَلَ الشَّعِيرِ فَيَطْلُبُ الْفَرْقَ) قُلْت لَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْحَرَامِ وَالْأَقْصَى لَيْسَتْ مِنْ نِيَابَةِ الْجِنْسِ عَنْ الْجِنْسِ بَلْ مِنْ نِيَابَةِ الصِّفَةِ الْعُلْيَا عَنْ الصِّفَةِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْت وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي الْمَنْذُورَاتِ عِنْدِي أَنَّ النَّاذِرَ إذَا نَذَرَ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الثَّوْبِ أَوْ لَا يَكُونُ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ النَّذْرِ إلَّا ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْذُورُهُ ذَلِكَ مُعَيَّنَ الشَّخْصِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَلَا يَخْلُو مَعَ كَوْنِهِ مُعَيَّنَ النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ الصِّفَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ذَلِكَ النَّوْعُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنَ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُجْزِئُهُ بِأَدْنَى مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَيُجْزِئُهُ بِأَعْلَى مِنْهَا وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ الْأَقْصَى وَالْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ النَّوْعِ كَمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ خَاصَّةً هَذَا تَلْخِيصُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْحِجَاجِ فِيهَا.

[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ دُخُولُ النِّيَّةِ فِي تَعْمِيمِ الْمُطْلَقَاتِ]
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأُكْرِمَنَّ أَخًا لَك أَوْ وَاَللَّهِ لَا أُكْرِمَنَّ أَخَاك وَنَوَى بِذَلِكَ جَمِيعَ إخْوَتِك لَمْ يَبَرَّ فِي الْأَوَّلِ إلَّا بِإِكْرَامِ جَمِيعِ إخْوَةِ الْمُخَاطَبِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الثَّانِي إلَّا بِإِكْرَامِ جَمِيعِ إخْوَةِ الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ أَخًا فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ صَرَفَتْهُ لِلْعُمُومِ وَأَخَاك فِي الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لِكَوْنِهِ مَعْرِفَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ صَرَفَتْهُ لِلْعُمُومِ.

[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ تَعْيِينُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بِالنِّيَّةِ]
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ إلَى عَيْنٍ وَنَوَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَحَدَ مُسَمَّيَاتِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ مَثَلًا دُونَ عَيْنِ الْمَاءِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ فَلَا يَبَرَّ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْبَاصِرَةِ بِسَبَبِ تَأْثِيرِ النِّيَّةِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَهَذَا قِسْمٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دُونَ تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَالصَّرْفِ إلَى الْمَجَازَاتِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصُّوَرِ

[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ تُصْرَفُ النِّيَّةُ بِالصَّرْفِ إلَى الْمَجَازَاتِ وَتَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ بِالْكُلِّيَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ أَسَدًا وَنَوَى بِهِ رَجُلًا شُجَاعًا لَا الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْحَيَوَانُ الْمُفْتَرِسُ لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِضَرْبِ رَجُلٍ شُجَاعٍ فَلَوْ ضَرَبَ الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ مَا بَرَّ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْعِشْرِينَ مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ وَلَفْظِ الْجُزْءِ فِي الْكُلِّ وَلَفْظِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبِّبِ وَلَفْظِ الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ وَلَفْظِ الْمَلْزُومِ فِي اللَّازِمِ وَلَفْظِ اللَّازِمِ فِي الْمَلْزُومِ إلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْبَيَانِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ السِّتَّةُ هِيَ تَفْصِيلُ مَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي الْأَيْمَانِ أَوْ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَمِينِ]
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ غُلَامِي وَنَوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّتُهُ فِي ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ» يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ سَبَبٌ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَقْتَضِي عَلِّيَّةَ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَسَبَبِيَّتَهُ وَهَا هُنَا قَدْ رَتَّبَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ حُكْمَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ عَلَى وَصْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ

(3/93)


مِنْ تَقْدِيمِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِ مَعَ تَحْصِيلِ أَصْلِ التَّقَرُّبِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسُ الْمَنْذُورَاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ يُقَدَّمُ فَاضِلُهَا عَلَى مَفْضُولِهَا وَيُخْرَجُ الْقَمْحُ بَدَلَ الشَّعِيرِ فَيُطْلَبُ الْفَرْقُ.

(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْذُورَاتِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأَوَامِرَ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ كَمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصْلَحَةُ إنْ كَانَتْ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا النَّدْبَ.
وَإِنْ كَانَتْ فِي أَعْلَى الرُّتَبِ كَانَ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ ثُمَّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَتَرَقَّى وَيَرْتَقِي النَّدْبُ بِارْتِقَائِهَا حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ النَّدْبِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَفْسَدَةِ التَّقْسِيمُ بِجُمْلَتِهِ وَتَرْتَقِي الْكَرَاهَةُ بِارْتِقَاءِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمَكْرُوهِ يَلِي أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّحْرِيمِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي تَصْلُحُ لِلنَّدَبِ لَا تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّدْبُ فِي الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا مِنْ الْمَصَالِحِ بِالْوُجُوبِ وَحَثَّ عَلَيْهَا بِالزَّوَاجِرِ صَوْنًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا خَصَّصَ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا وُجُوبًا عَقْلِيًّا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ، هَذَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبُ الشَّرْعِ شَيْئًا سَبَبَ وُجُوبِ فِعْلٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ إلَّا وَذَلِكَ السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ فَإِنْ قَصُرَتْ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهَا سَبَبَ النَّدْبِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ فَبَذْلُ الرَّغِيفِ لِلْجَوْعَانِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ وَاجِبٌ.
وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الضَّرُورَةُ وَهَذَا السَّبَبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِهِ وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ وَبَذْلُ الرَّغِيفِ لِمَنْ يَتَوَسَّعُ بِهِ عَلَى عَائِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَسَبَبُ هَذَا النَّدْبِ التَّوْسِعَةُ دُونَ دَفْعِ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَقْتَضِ التَّوْسِعَةُ الْوُجُوبَ لِقُصُورِ مَصْلَحَتِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَفِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ عَمِلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ وَهُوَ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلُهُ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُوا مَعَ أَمَاثِلِهِمْ فَإِنَّهُ تَشْبِيهٌ لَا أَرْتَضِيه وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ كُلُّهُ.

وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُمَا وَهُوَ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ مَا عَدَا قَوْلَهُ فِي انْحِصَارِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ وَمَا عَدَا قَوْلَهُ أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ التَّعَارُضُ دُونَ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ سَبَبُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْيَمِينِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ يَتَوَقَّفُ حُصُولِ مُسَبِّبَاتِهَا عَلَى حُصُولِهَا وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَيْهَا لَا يَقُومُ مَقَامَهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى السَّرِقَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ السَّرِقَةِ فَيَجِبَ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، بَلْ لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ بِالْفِعْلِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ النِّيَّةُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِلِّ الْيَمِينِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ بِهِ عَلَى شُرُوطِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ رَفْعُ الْيَمِينِ نَعَمْ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ قَالَهُ الْأَصْلُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَأْثِيرَ لَهُ إلَّا إنْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ رَفْعُ الْيَمِينِ أَوْ حِلُّهَا فَهُوَ أَعْنِي الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَصْدِ رَفْعِ الْيَمِينِ الَّذِي لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ بِذَلِكَ فَقَطْ دُونَ الْقَصْدِ وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ الْآنَ فَلْيُنْظَرْ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا يَنْبَنِي التَّحْقِيقُ فِيهَا إلَّا عَلَى ذَلِكَ وَمَا نَظَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ مَنَابَهَا وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنْ الْأَعْمَالِ إنَّمَا كَانَ فِيهَا ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَنَّ الْمُرَادَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ اسْتِثْنَاءِ الْمَشِيئَةِ لَفْظًا اسْتَوَى الْأَمْرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا حَكَاهُ عَنْ اللَّخْمِيِّ مُتَّجَهٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النُّصُوصِ]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ)
إذْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا طَلْقَتَانِ فِي الْأَوَّلِ وَيَبَرَّ بِإِعْطَاءِ الْمُخَاطَبِ دِرْهَمَيْنِ فِي الثَّانِي فَلَوْ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ إلَّا وَاحِدَةً فِي الْأَوَّلِ وَإِلَّا دِرْهَمًا فِي الثَّانِي وَاكْتَفَى بِنِيَّةِ ذَلِكَ لَمْ تَكْفِهِ هَذِهِ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَفَّتْهُ لَدَخَلَ الْمَجَازُ

(3/94)


بَابِ النَّوَاهِي، إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيرَةِ الْخَلْقِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَ وُجُوبَهُ إلَى خِيَرَةِ الْخَلْقِ فَإِنْ شَاءُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْشَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَكَمَا جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ جَعَلَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَمَالِكِ النِّصَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَهُ لِلْعِبَادِ فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهُ سَبَبًا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَجْعَلُوهُ سَبَبًا وَهُوَ شَرْطُ النُّذُورِ وَالطَّلَاق وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ فِيهَا فَإِنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ وَلَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ كَمَا حَصَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْذُورَاتِ فَلَا يُؤَثِّرُ النَّذْرَ إلَّا فِي نَقْلِ مَنْدُوبٍ لِوَاجِبٍ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّذْرُ بَلْ عَمَّمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُمَكَّنَاتِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ الْمُكْتَسَبَاتِ كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا اكْتِسَابٌ اخْتِيَارِيٌّ فَأَيُّ ذَلِكَ شَاءَ الْمُكَلَّفُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَنْذُورٍ عَلَيْهِ أَوْ لُزُومِ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ وَالْوَاجِبِ الْمُتَأَصِّلِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا قُصُورُ مَصْلَحَتِهِ عَنْ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَصْلَحَةُ النَّدْبِ وَالِالْتِزَامُ لَا يُغَيِّرُ الْمَصَالِحَ
ثَانِيهِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَالْأَسْبَابِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَوْنُ الْمَنْذُورَاتِ مُسْتَثْنَيَاتٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ أَشَدُّ بُعْدًا عَنْ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ انْتَقَلَتْ فِيهَا الْمَنْدُوبَاتُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتُ فِيهَا أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا فِي الْأَسْبَابِ فَقَدْ يَحْصُلُ مَا هُوَ قَدْ عَرِيَ عَنْ الْمَصْلَحَةِ أَلْبَتَّةَ كَطَيَرَانِ الْغُرَابِ وَصَرِيرِ الْبَابِ وَعُبُورِ النَّامُوسِ فَلَوْ قَالَ إنْ طَارَ الْغُرَابُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ ذَلِكَ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا عَلَّقَهُ إذَا وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ أَبْعَدَ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَعَ بُعْدِ الْأَحْكَامِ فِي أَنْفُسِهَا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اعْتِبَارَ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ وَإِقَامَةَ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ لِلْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشَّرَائِعِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَتْبَعَ الْمَصَالِحَ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا قُلْت الْأَسْبَابُ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَكَمَا أَنَّ عِظَمَ الْمَصْلَحَةِ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي عَادَةِ الشَّارِعِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا سَبَبٌ آخَرُ إذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ مَصْلَحَةُ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَنَّهُ إذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُفُهُ إيَّاهُ لَا سِيَّمَا إذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ بِالْقَبُولِ خُلُقٌ كَرِيمٌ هُوَ سَبَبُ خُلْفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِي نَفْسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي النُّصُوصِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ فِي الِاثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَجَازُ فِي الظَّوَاهِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ النِّيَّةُ هَا هُنَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ أَلْبَتَّةَ (الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ)
إذَا قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ وَحَاشَى زَوْجَتَهُ أَيْ نَوَى إخْرَاجَهَا مِنْ مَفْهُومِ الْحَلَالِ جَرَى فِي ذَلِكَ خِلَافُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ هَلْ يُجْزِئُ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ عَنْ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ مُنْشَأَ هَذَا الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فَيُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ أَوْ النَّظَرُ إلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا نُطْقًا اهـ.
(الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ)
قَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَقِيت الْقَوْمَ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَّا فُلَانًا لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا وَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّيَّةِ اللَّفْظَ الْمُخْرِجَ أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا فُلَانًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْإِخْرَاجَ وَالنِّيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيُضَافُ التَّأْثِيرُ لِذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ الْآخَرِ وَهُوَ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا لِلنِّيَّةِ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، أَمَّا لَوْ قَصَدَ الْإِخْرَاجَ بِهَا هِيَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ قَصْدُهُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ أَيْ اللَّخْمِيُّ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ النِّيَّةُ وَتَنُوبُ مَنَابَ الِاسْتِثْنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي النُّصُوصِ نَحْوُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ قَابِلًا لِلْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ بِمُفْرَدِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ فَتَأَمَّلْ فَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ