الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق [الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ
وَقَاعِدَةِ الْعُجْبِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ الْعَجَبِ)
وَهُوَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَيْضًا
(الْجِهَة الْأُولَى) : مَا فِي الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ
الشَّاطِّ مِنْ أَنَّ الْكِبْرَ رَاجِعٌ لِلْخَلْقِ
وَالْعِبَادِ كَمَا عُلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
وَالْعَجَبُ رَاجِعٌ لِلْعِبَادَةِ؛ إذْ هُوَ رُؤْيَةُ
الْعِبَادَةِ وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ
مَعْصِيَةٌ تَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ، وَمُتَعَلِّقَةٌ
بِهَا هَذَا التَّعَلُّقَ الْخَاصَّ كَمَا يَتَعَجَّبُ
الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ.
وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَكُلُّ مُطِيعٍ بِطَاعَتِهِ، وَهُوَ
- وَإِنْ كَانَ حَرَامًا - لَا يُفْسِدُ الْعِبَادَةَ؛
لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ
يَقَعُ مَعَهَا فَيُفْسِدُهَا وَسِرُّ تَحْرِيمِ الْعَجَبِ
أَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ
الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْظِمَ مَا
يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِ لَا سِيَّمَا عَظَمَةُ
اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أَيْ
مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ
وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ رَبِّهِ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ
عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ - تَعَالَى -
وَسَخَطِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]
مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَفْعَلُونَ
وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتِلْكَ
الطَّاعَةِ احْتِقَارًا لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ
هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهَا اهـ
(وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ) مَا فِي الزَّوَاجِرِ لِابْنِ
حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الْكِبْرَ إمَّا بَاطِنٌ، وَهُوَ خُلُقٌ فِي
النَّفْسِ وَاسْمُ الْكِبْرِ بِهَذَا أَحَقُّ أَيْ كَمَا
يُرْشِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا
كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] فَجَعَلَ مَحِلَّهُ
الْقَلْبَ وَالصُّدُورَ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَعْمَالٌ
تَصْدُرُ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ
الْخُلُقِ، وَعِنْدَ ظُهُورِهَا يُقَالُ لَهُ تَكَبُّرٌ،
وَعِنْدَ عَدَمِهَا يُقَالُ فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ فَالْأَصْلُ
هُوَ خُلُقُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْوَاحُ
وَالرُّكُونُ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ
عَلَيْهِ فَهُوَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ
وَمُتَكَبِّرًا بِهِ بِخِلَافِ الْعَجَبِ فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ
انْفِرَادُهُ دَائِمًا أَمْكَنَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْعَجَبُ
دُونَ الْكِبْرِ، وَمُجَرَّدُ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ لَا
يَقْتَضِي التَّكَبُّرَ إلَّا إنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَرَى
أَنَّهُ فَوْقَهُ اهـ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
أَعْلَمُ.
(4/247)
وَالْعَمَى وَالْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ
بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْجِسْمِيَّةِ خَاصَّةً مَعَ
التَّنْزِيهِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ
الْجِسْمِيَّةَ مَعَ بَعْضِ صِفَاتِ النَّقْصِ فَأَوَّلُ مَنْ
يُكَفِّرُهُ الْحَشَوِيَّةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَةِ فَرَسٍ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ السِّبَاعِ أَوْ غَيْرِهَا فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ
لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي
الْحَشَوِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: رَأَيْته فِي طَلْقٍ
أَوْ خِزَانَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
تُحِيلُهُ الْحَشَوِيَّةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى اللَّهِ -
تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلُ الْأَحْوَالِ
فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ)
فِي تَحْقِيقِ مِثْلِ الرُّؤْيَا وَبَيَانِهَا اعْلَمْ أَنَّ
دَلَالَةَ هَذِهِ الْمُثُلِ عَلَى الْمَعَانِي كَدَلَالَةِ
الْأَلْفَاظِ الصَّوْتِيَّةِ، وَالرُّقُومِ الْكِتَابِيَّةِ
عَلَيْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهَا جَمِيعُ مَا
يَقَعُ فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ
وَالْمُتَرَادِفِ وَالْمُتَبَايِنِ وَالْمَجَازِ
وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَفْهُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ
وَالْمُطْلَقِ وَالْمُفِيدِ وَالتَّصْحِيفِ وَالْقَلْبِ
وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ
وَالْمَعَارِيضِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ مَا يَقَعُ فِي
الْأَلْفَاظِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ أَبُو يُوسُفَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَزَيْدٌ زُهَيْرٌ شِعْرًا وَحَاتِمٌ جُودًا،
وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَالْمُشْتَرَكُ كَالْفِيلِ
هُوَ مَلِكٌ أَعْجَمِيٌّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ
نَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْهِنْدِ إذَا
طَلَّقَ أَحَدٌ ثَلَاثًا جَرَّسُوهُ عَلَى فِيلٍ فَلَمَّا
كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَاقِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ
الطَّلَاقِ، وَالْمُتَوَاطِئُ كَالشَّجَرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ
أَيَّ رَجُلٍ كَانَ دَالَّةً عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ
بَيْنَ جَمِيعِ الرِّجَالِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَنْبُتُ فِي
الْعَجَمِ فَهُوَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ، أَوْ عِنْدَ الْعَرَبِ
فَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ أَوْ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَا خَيْرَ
فِيهِ أَوْ لَهَا شَوْكٌ فَهُوَ كَثِيرُ الشَّرِّ أَوْ
ثَمَرُهَا لَهُ قِشْرٌ فَلَهُ خَيْرٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ
إلَّا بَعْدَ مَشَقَّةٍ أَوْ لَا قِشْرَ لَهُ كَالتُّفَّاحِ
فَيُوصَلُ لِخَيْرِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ،
وَهَذَا هُوَ الْمُقَيَّدُ وَالْمُطْلَقُ فَحَصَلَتْ
الْأُمُورُ بِالْقُيُودِ الْخَارِجَةِ، وَكَذَلِكَ يَقَعُ
التَّقْيِيدُ بِأَحْوَالِ الرَّائِي فَالصَّاعِدُ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَلِي وِلَايَةً فَالْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةٌ
بَيْنَ الْوِلَايَاتِ وَمُطْلَقَةٌ فَإِنْ كَانَ الرَّائِي
فَقِيهًا كَانَتْ الْوِلَايَةُ قَضَاءً أَوْ أَمِيرًا فَوَالٍ
أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ فَمَلِكٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ تَنْصَرِفُ لِلْخَيْرِ بِقَرِينَةِ الرَّائِي
وَحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الشَّرَّ، وَتَنْصَرِفُ
لِلشَّرِّ بِقَرِينَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ
ظَاهِرُهَا الْخَيْرَ كَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مَاتَ فَالرَّجُلُ
الْخَيِّرُ مَاتَتْ حُظُوظُهُ وَصَلَحَتْ نَفْسُهُ،
وَالرَّجُلُ الشِّرِّيرُ مَاتَ قَلْبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ
كَافِرًا فَأَسْلَمَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ} [يونس: 31] أَيْ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ
وَالْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ،
وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْفَاكِهَةِ فَالصَّفْرَاءُ تَدُلُّ
عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ
التَّسْمِيعِ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ التَّسْمِيعِ) وَهُوَ
أَنَّهُمَا، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا
مَعْصِيَةً لَا تُحْبِطُ الْعِبَادَةَ لِكَوْنِهَا تَقَعُ
قَبْلَهُمَا خَالِصَةً بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ
يُقَارِنُهَا فَيُحْبِطُهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا
تَقَدَّمَ كَوْنُ الْعَجَبِ مَعْصِيَةً لَا تُحْبِطُ
الْعِبَادَةَ إلَخْ، وَأَمَّا التَّسْمِيعُ فَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ
سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ
يُنَادَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا فُلَانُ عَمِلَ
عَمَلًا لِي ثُمَّ أَرَادَ بِهِ غَيْرِي فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ
إخْبَارِ الشَّخْصِ بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي
أَخْلَصَ فِيهَا لِيُعْتَقَدَ فِيهِ، وَيُكْرَمَ بِخِلَافِ
الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ
قَدْ سَرَّهُ تَرْكُ الْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ بِمُلَاحَظَةِ
غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ إلَّا أَنَّ التَّسْمِيعَ
يُفَارِقُ الْعَجَبَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَكُونُ
بِاللِّسَانِ، وَالْعَجَبُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ كَمَا عَلِمْت،
وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ
قَاعِدَةِ عَدَمِ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ]
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ
الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ)
وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ قِيلَ: مُرَادِفٌ لِلْقَدَرِ، وَهُوَ
خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لَكِنَّهُ قَوِيٌّ وَعَلَيْهِ
فَهَلْ هُمَا إرَادَةٌ فَقَطْ أَوْ إرَادَةٌ وَعِلْمٌ أَوْ
هُمَا وَقُدْرَةٌ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ تَبَايُنُهُمَا وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: الْقَضَاءُ
إرَادَةٌ وَالْقَدَرُ إيجَادُ مُمْكِنٍ وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ
أَيْ الْقَضَاءُ إيجَادُ مُمْكِنٍ وَالْقَدَرُ إرَادَةٌ
وَقَالَ السَّنُوسِيُّ: الْقَدَرُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ
وَالْعِلْمِ مَعًا فِي الْأَزَلِ بِالْمُمْكِنِ، وَالْقَضَاءُ
إجْرَاءُ الْمُمْكِنِ عَلَى وَفْقِ مَا مَضَى بِهِ الْقَدَرُ
وَالْعِلْمُ وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْقَدَرُ تَعَلُّقُ
الْإِرَادَةِ فِي الْأَزَلِ بِالْمُمْكِنِ وَالْقَضَاءُ
الْإِرَادَةُ بِحُكْمٍ خَبَرِيٍّ كَإِرَادَتِهِ - تَعَالَى -
لِزَيْدٍ بِالسَّعَادَةِ مَعَ إخْبَارِهِ بِكَلَامِهِ وَقَدْ
نَظَمَ الرَّهُونِيُّ حَاصِلَ هَذَا بِقَوْلِهِ
وَفِي تَبَايُنِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ ... أَوْ التَّرَادُفِ
خِلَافٌ اشْتَهَرْ
وَالْأَوَّلُ الْمَعْزُوُّ لِلْجُمْهُورِ ... وَالثَّانِي
قَوْلٌ لَيْسَ بِالْمَهْجُورِ
ثُمَّ عَلَيْهِ هَلْ هُمَا إرَادَةٌ ... أُوتِيَ وَعِلْمٌ أَوْ
هُمَا وَقُدْرَةٌ
ثُمَّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا اخْتُلِفْ ... عَلَى
أَقَاوِيلَ فَهَاكَ مَا عُرِفْ
قِيلَ الْقَضَاءُ إرَادَةٌ ثُمَّ الْقَدَرْ ... إيجَادُ
مُمْكِنٍ وَعَكْسُ ذَا اشْتَهَرْ
وَلِلسُّنُوسِيِّ الْإِمَامِ وَقَعَا ... تَعَلُّقُ
الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ مَعَا
فِي أَزَلٍ قُلْ قَدَرٌ ثُمَّ الْقَضَا ... إجْرَاءُ مُمْكِنٍ
بِوَفْقِ مَا مَضَى
أَوْ قَدْرُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَهْ ... فِي أَزَلٍ فَحَصَلَ
الْإِفَادَهْ
ثُمَّ الْإِرَادَةُ بِحُكْمٍ خَبَرِي ... قُضِيَ وَهَذَا
لِلْقَرَافِيِّ السَّرِيّ
(4/248)
الْهَمِّ وَحَمْلُ الصَّغِيرِ يَدُلُّ
عَلَيْهِ أَيْضًا وَالْمُتَبَايِنُ كَالْأَخْذِ مِنْ
الْمَيِّتِ وَالدَّفْعِ لَهُ الْأَوَّلُ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّهُ
كَسْبٌ مِنْ جِهَةٍ مَيْئُوسٍ مِنْهَا، وَالثَّانِي رَدِيءٌ؛
لِأَنَّهُ صَرْفُ رِزْقٍ لِمَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ،
وَرُبَّمَا كَانَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ
ذَهَبَ عَنْ الْمَوْتَى لِذَهَابِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ،
وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ كَالْبَحْرِ هُوَ السُّلْطَانُ
حَقِيقَةً وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ سَعَةِ الْعِلْمِ مَجَازًا،
وَالْعُمُومُ كَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْنَانَهُ كُلَّهَا
سَقَطَتْ فِي التُّرَابِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ أَقَارِبُهُ
كُلُّهَا، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَمُوتُ
بَعْضُ أَقَارِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ
بِهِ الْخُصُوصُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَكَالرُّؤْيَا
يَرَاهَا الرَّائِي لِشَخْصٍ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ مِمَّنْ
هُوَ يُشْبِهُهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ، أَوْ مَنْ تَسَمَّى
بِاسْمِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي
صِفَتِهِ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِهِ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْ أَبِي
يُوسُفَ بِأَبِي حَنِيفَةَ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَةِ
الْفِقْهِ وَعَبَّرْنَا عَنْ زَيْدٍ بِزُهَيْرٍ
لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الشَّعْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ
الْمُثُلِ وَالْقَلْبِ كَمَا رَأَى الْمِصْرِيُّونَ أَنَّ
رَوَاسَا أَخَذَ مِنْهُمْ الْمُلْكَ فَعَبَّرَ لَهُمْ بِأَنَّ
شَاوَرَ يَأْخُذُهُ وَكَانَ كَذَلِكَ وَقَلَبَ رواس شَاوَرَ
وَجَمْعُ هَذَا الْمِثَالِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالتَّصْحِيفِ
فَإِنَّ السِّينَ الْمُهْمَلَةَ صُحِّفَتْ بِالْمُعْجَمَةِ
الَّتِي هِيَ الشِّينُ وَرَأَى مَلِكُ الْعَرَبِ قَائِلًا
يَقُولُ لَهُ: خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ عُذْرٍ فَقِيلَ: لَهُ
أَنْتَ تَقْصِدُ النَّكْثَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَحَذِرْت
مِنْ ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا خَالِفْ الْحَقَّ مِنْ غَدْرٍ
فَدَخَلَهُ التَّصْحِيفُ فَقَطْ وَبَسْطُ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ
فِي كُتُبِ التَّعْبِيرِ وَإِنَّمَا قَصَدْت التَّنْبِيهَ
عَلَى هَذِهِ الْمُثُلِ كَالْأَلْفَاظِ فِي الدَّلَالَةِ،
وَأَنَّهَا تُشَارِكُهَا فِي أَحْوَالِهَا (تَنْبِيهٌ)
اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمَنَامَاتِ قَدْ اتَّسَعَتْ
تَقْيِيدَاتُهُ وَتَشَعَّبَتْ تَخْصِيصَاتُهُ وَتَنَوَّعَتْ
تَعْرِيفَاتُهُ بِحَيْثُ صَارَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ
يَعْتَمِدَ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْقُولَاتِ لِكَثْرَةِ
التَّخْصِيصَاتِ بِأَحْوَالِ الرَّائِينَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِ
الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالتَّحَدُّثِ فِي الْفِقْهِ
وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ
فَإِنَّ ضَوَابِطَهَا إمَّا مَحْصُورَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنْ
الْحَصْرِ وَعِلْمُ الْمَنَامَاتِ مُنْتَشِرٌ انْتِشَارًا
شَدِيدًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ فَلَا جَرَمَ احْتَاجَ
النَّاظِرُ فِيهِ مَعَ ضَوَابِطِهِ وَقَرَائِنِهِ إلَى قُوَّةٍ
مِنْ قُوَى النُّفُوسِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفِرَاسَةِ
وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِحَيْثُ إذَا تَوَجَّهَ
الْحَزْرُ إلَى شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُخْطِئُ بِسَبَبِ مَا
يَخْلُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ النُّفُوسِ مِنْ
الْقُوَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَقْرِيبِ الْغَيْبِ أَوْ
تَحَقُّقِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: إنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْغَيْبِ مِنْ
وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ إشَارَةً إلَى قُوَّةٍ أَوْدَعَهُ
اللَّهُ إيَّاهَا فَرَأَى بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى
- فِي نَفْسِهِ مِنْ الصَّفَاءِ وَالشُّفُوفِ وَالرِّقَّةِ
وَاللَّطَافَةِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ وَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ.
وَقَدْ يَهَبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَالرِّضَا
بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا، وَالسَّخَطُ وَعَدَمُ
الرِّضَا بِهِ حَرَامٌ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ
بِأَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا
بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَا نَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ
فِي مِلْكِهِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُنَا سَاخِطًا لِقَضَائِهِ -
تَعَالَى -: أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت حَتَّى أَصَابَنِي مِثْلُ
هَذَا وَمَا ذَنْبِي وَمَا كُنْت أَسْتَأْهِلُ هَذَا وَفِي
الزَّوَاجِرِ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ «مَنْ سَخِطَ رِزْقَهُ
وَبَثَّ شَكْوَاهُ وَلَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَصْعَدْ لَهُ إلَى
اللَّهِ عَمَلٌ وَلَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» .
اهـ.
وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ فَهُوَ أَثَرُ
الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا عَلَى
الْإِطْلَاقِ كَمَا هُوَ زَعْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ
الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ حَتَّى
بَعَثَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الرِّضَا
بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ
خَاصَّةً فَهُوَ عَزِيزُ الْوُجُودِ بَلْ هُوَ
كَالْمُتَعَذِّرِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ الرِّضَا بِهِ
قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى -
وَالْوَاجِبَاتِ إذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -
لِلْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَمَا فِي
الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا كَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ نَعَمْ
الرِّضَا بِالْكُفْرِ لَا يَكُونُ كُفْرًا كَمَا زَعَمَ
الْأَصْلُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ، وَهُوَ
لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْكَافِرِ عِنَادًا بِنَاءً عَلَى
الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ عَادَةً أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ
بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا عَلَى أَنَّ جَوَازَ
الْكُفْرِ عِنَادٌ عَادَةً مِنْ الْبَعِيدِ الْمُشَبَّهِ
بِالْمُحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْرَ عِنَادًا إلَّا لِحَامِلٍ
يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ، وَكَرَاهِيَتُهُ
إيَّاهُ مَعَ رُجْحَانِهِ عَادَةً كَالْمُتَنَاقَضِينَ،
وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ؛
لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ عَالِمٌ بِعِصْيَانِهِ قَالَهُ ابْنُ
الشَّاطِّ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَمَا فِي الْمُبَاحَاتِ
مِنْ نَحْوِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتِ
الْحَوَادِثِ فَإِنَّا مَا أُمِرْنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا؛
إذْ هُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِ الْمُكَلَّفِ،
وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَرِدْ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ
فِي طَبْعِهِ فَالْأَرْمَدُ مَثَلًا لَمْ يُؤْمَرْ
بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ بَلْ ذَمَّ اللَّهُ
قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ، وَلَا يَجِدُونَ لِلْبَأْسَاءِ
وَقْعًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَلَمْ
يَذِلَّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ مِنْهَا،
وَيَسْأَلْ رَبَّهُ إقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ
جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَأَنَّ
الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَلَا مُتَعَذِّرٍ
فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا
يَأْلَمُونَ مِنْ الْمَقْضِيِّ فَقَطْ.
وَأَمَّا التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ
بِالتَّجْوِيرِ، وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ الْعَدْلِ فَهَذَا لَا
يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا مِنْ الْفُجَّارِ
(4/249)
بِاعْتِبَارِ الْمَنَامَاتِ فَقَطْ أَوْ
بِحِسَابِ عِلْمِ الرَّمْلِ فَقَطْ أَوْ الْكَتْفِ الَّذِي
لِلْغَنَمِ فَقَطْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْفَتِحُ لَهُ
بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَالنُّطْقِ فِي غَيْرِهِ، وَمَنْ لَيْسَ
لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فِي هَذَا النَّوْعِ صَالِحَةٍ لِعِلْمِ
تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَعْبِيرُ
الرُّؤْيَا، وَلَا يَكَادُ يُصِيبُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ
فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ
فِي الرُّؤْيَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةُ نَفْسٍ فَهُوَ
الَّذِي يَنْتَفِعُ بِتَعْبِيرِهِ وَقَدْ رَأَيْت مِمَّنْ لَهُ
قُوَّةُ نَفْسٍ مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَكَانَ يَتَحَدَّثُ
بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ فِي الْمَنَامِ اللَّطِيفِ
وَيُخْرِجُ مِنْهُ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحْوَالَ
الْمُتَبَايِنَةَ وَيُخْبِرُ فِيهِ عَنْ الْمَاضِيَاتِ
وَالْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات وَيَنْتَهِي فِي
الْمَنَامِ الْيَسِيرِ إلَى نَحْوِ الْمِائَةِ مِنْ
الْأَحْكَامِ بِالْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ حَتَّى يَقُولَ
مَنْ لَا يَعْلَمُ بِأَحْوَالِ قُوَى النُّفُوسِ: إنَّ هَذَا
مِنْ الْجَانِّ أَوْ الْمُكَاشَفَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ قُوَّةُ نَفْسٍ يَجِدُ
بِسَبَبِهَا تِلْكَ الْأَحْوَالَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ
لِلْمَنَامِ، وَلَيْسَ هُوَ صَلَاحٌ، وَلَا كَشْفٌ، وَلَا مِنْ
قِبَلِ الْجَانِّ وَقَدْ رَأَيْت أَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ
جَمَاعَةً وَاخْتَبَرْتُهُمْ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ
قُوَّةُ نَفْسٍ عَسُرَ عَلَيْهِ تَعَاطِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ،
وَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَك
بِالتَّعَلُّمِ وَالْقِرَاءَةِ وَحِفْظِ الْكُتُبِ إذَا لَمْ
تَكُنْ لَك قُوَّةُ نَفْسٍ فَلَا تَجِدُ ذَلِكَ أَبَدًا،
وَمَتَى كَانَتْ لَك هَذِهِ الْقُوَّةُ حَصَلَ ذَلِكَ
بِأَيْسَرِ سَعْيٍ وَأَدْنَى ضَبْطٍ فَاعْلَمْ هَذِهِ
الدَّقِيقَةَ فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ مَا يُبَاحُ فِي عِشْرَةِ النَّاسِ مِنْ
الْمُكَارَمَةِ وَقَاعِدَةِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ)
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُبَاحُ مِنْ إكْرَامِ النَّاسِ
قِسْمَانِ
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) : مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ
الشَّرِيعَةِ مِنْ إفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ
وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ
وَالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ
عَلَى تَكْرِمَةِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ عَلَى
فِرَاشِهِ، وَلَا يَؤُمَّ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ أَحَدًا فِي سُلْطَانِهِ وَلَا
يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» وَنَحْوُ
ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مَا لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوصِ وَلَا
كَانَ فِي السَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابُ
اعْتِبَارِهِ مَوْجُودَةً حِينَئِذٍ وَتَجَدَّدَتْ فِي
عَصْرِنَا فَتَعَيَّنَ فِعْلُهُ لِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهِ؛
لِأَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَأْنَفٌ بَلْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ
الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَوْ وُجِدَتْ فِي
زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ
فِعْلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ لِتَأَخُّرِ
سَبَبِهِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَ وُقُوعِ سَبَبِهِ لَا يَقْتَضِي
ذَلِكَ تَجْدِيدَ شَرْعٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالْمَرَدَةِ، وَإِنَّا نَجْزِمُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَلَّمَ لِقَتْلِ
عَمِّهِ حَمْزَةَ وَمَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَمْيِ
عَائِشَةَ بِمَا رُمِيَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ وَنَجْزِمُ بِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - طِبَاعُهُمْ
تَتَأَلَّمُ، وَتَتَوَجَّعُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ، وَتُسَرُّ
بِالْمَسَرَّاتِ وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيَّاتِ
غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَقُّ تَفْسِيرُ
الرِّضَا بِالْقَضَاءِ بِمَا قُلْنَا لَا بِمَا قَالُوا،
وَهُوَ بِتَفْسِيرِنَا مُتَيَسِّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَوَامّ
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَبِتَفْسِيرِهِمْ لَا طَمَعَ فِيهِ فَهُوَ
غَلَطٌ هَذَا تَهْذِيبُ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ
كَلَامِ الْأَصْلِ مَعَ زِيَادَةٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى - أَعْلَمُ (تَنْبِيهٌ)
كَوْنُ الْمَقْضِيِّ يَكُونُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَلَا
يَجِبُ الرِّضَا بِهِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ كَسْبِنَا،
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهُ فَحَسَنٌ يَجِبُ
الرِّضَا بِهِ؛ إذْ كُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ - سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى - فَضْلٌ أَوْ عَدْلٌ فِي عَبِيدِهِ وَلِسَيِّدِي
مُحَمَّدِ وَفَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
سَمِعْت اللَّهَ فِي سِرِّي يَقُولُ ... أَنَا فِي الْمُلْكِ
وَحْدِي لَا أَزُولُ
وَحَيْثُ الْكُلُّ مِنِّي لَا قَبِيحُ ... وَقُبْحُ الْقُبْحِ
مِنْ حَيْثِيّ جَمِيلُ
وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ
مَقْضِيًّا لَهُ - تَعَالَى - وَكَوْنُهُ مُكْتَسَبًا
لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ
أَيْ مَا يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُقَدَّرِ فِي الْأَزَلِ.
وَهُوَ الْمَقْدُورُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى لَا
الثَّانِيَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: يَجِبُ الْإِيمَانُ
بِالْقَدَرِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ
حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ،
وَيُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤْمِنَ
بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى
الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فَوَارِدٌ عَلَى
سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْ كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ
التَّفْرِقَةُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ
رُوِيَ لِأَصْبَغَ بْنِ نَبَاتَةَ أَنَّ شَيْخًا قَامَ إلَى
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ
صِفِّينَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إلَى الشَّامِ
أَكَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَقَدَرِهِ فَقَالَ:
وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا
وَطِئْنَا مَوْطِئًا، وَلَا هَبَطْنَا وَادِيًا، وَلَا
عَلَوْنَا تَلْعَةً إلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَقَالَ
الشَّيْخُ: عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي مَا أَرَى لِي
مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: مَهْ أَيُّهَا الشَّيْخُ
عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ، وَأَنْتُمْ
سَائِرُونَ، وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ
وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ.
وَلَا إلَيْهَا مُضْطَرِّينَ فَقَالَ الشَّيْخُ: كَيْفَ
وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ سَاقَانَا فَقَالَ: وَيْحَك لَعَلَّك
ظَنَنْت قَضَاءً لَازِمًا وَقَدَرًا حَتْمًا لَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْوَعْدُ
وَالْوَعِيدُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَمْ
(4/250)
وَلَا عَدَمَهُ كَمَا لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى -
حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ
الْعُقُوبَاتِ فَلَمْ يُوجَدْ اللِّوَاطُ فِي زَمَنِ
الصَّحَابَةِ وَوُجِدَ فِي زَمَنِنَا اللِّوَاطُ فَرَتَّبْنَا
عَلَيْهِ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ لَمْ نَكُنْ مُجَدِّدِينَ
لِشَرْعٍ بَلْ مُتَّبِعِينَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ،
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ أَوْ
بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَا فِي
زَمَانِنَا مِنْ الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ مِنْ الْأَعْيَانِ
وَإِحْنَاءِ الرَّأْسِ لَهُ إنْ عَظُمَ قَدْرُهُ جِدًّا
وَالْمُخَاطَبَةُ بِجَمَالِ الدِّينِ وَنُورِ الدِّينِ وَعِزِّ
الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّعُوتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ
الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّعُوتِ
أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِهِ وَتَسْطِيرِ اسْمِ
الْإِنْسَانِ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ
وَالتَّعْبِيرِ عَنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْمَجْلِسِ
الْعَالِي وَالسَّامِي وَالْجَنَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْمُكَاتَبَاتِ الْعَادِيَّةِ
وَمِنْ ذَلِكَ تَرْتِيبُ النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ
وَالْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ، وَأَنْوَاعُ الْمُخَاطَبَاتِ
لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَأُولِي
الرِّفْعَةِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعُظَمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ
وَنَحْوُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَمْ تَكُنْ فِي
السَّلَفِ.
وَنَحْنُ الْيَوْمَ نَفْعَلُهُ فِي الْمُكَارَمَاتِ
وَالْمُوَلَّاةِ، وَهُوَ جَائِزٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ
بِدْعَةً وَلَقَدْ حَضَرْت يَوْمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عِزِّ
الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ
الْعُلَمَاءِ وَأُولِي الْجِدِّ فِي الدِّينِ وَالْقِيَامِ
بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالثَّبَاتِ
عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالْمُلُوكِ
فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ
لَائِمٍ فَقَدِمَتْ إلَيْهِ فُتْيَا فِيهَا: مَا تَقُولُ
أَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ - فِي الْقِيَامِ
الَّذِي أَحْدَثَهُ أَهْلُ زَمَانِنَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ فِي السَّلَفِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا يَجُوزُ
وَيَحْرُمُ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا
تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا
تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَتَرْكُ
الْقِيَامِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُفْضِي لِلْمُقَاطَعَةِ
وَالْمُدَابَرَةِ فَلَوْ قِيلَ: بِوُجُوبِهِ مَا كَانَ
بَعِيدًا هَذَا نَصُّ مَا كُتِبَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَلَا
نُقْصَانٍ فَقَرَأْتهَا بَعْدَ كِتَابَتِهَا فَوَجَدْتهَا
هَكَذَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقَضِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا
مِنْ الْفُجُورِ أَيْ يُحْدِثُوا أَسْبَابًا يَقْتَضِي
الشَّرْعُ فِيهَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ
عَدَمِ سَبَبِهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا؛ لِأَنَّهَا شَرْعٌ
مُتَجَدِّدٌ كَذَلِكَ هَا هُنَا فَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ
يَجْرِي هَذَا الْقِسْمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبِيحَ
مُحَرَّمًا، وَلَا يَتْرُكَ وَاجِبًا فَلَوْ كَانَ الْمَلِكُ
لَا يَرْضَى مِنْهُ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ
مِنْ الْمَعَاصِي لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنْ نُوَادَّهُ
بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ
فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَسْبَابُ
الْمُتَجَدِّدَةُ كَانَتْ مَكْرُوهَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ
فَلَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَأْتِ لَائِمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ، وَلَا مَحْمَدَةٌ
لِمُحْسِنٍ وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْمَدْحِ
مِنْ الْمُسِيءِ، وَلَا الْمُسِيءُ أَوْلَى بِالذَّمِّ مِنْ
الْمُحْسِنِ تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَجُنُودِ
الشَّيْطَانِ وَشُهُودِ الزُّورِ وَأَهْلِ الْعَمَى عَنْ
الصَّوَابِ وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا
إنَّ اللَّهَ أَمَرَ تَخْيِيرًا وَنَهَى تَحْذِيرًا وَكَلَّفَ
يَسِيرًا لَمْ يُعْصَ مَغْلُوبًا وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهًا.
وَلَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ إلَى خَلْقِهِ عَبَثًا، وَلَمْ
يَخْلُقْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
بَاطِلًا {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] فَقَالَ
الشَّيْخُ: وَمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ اللَّذَانِ مَا
سِرْنَا إلَّا بِهِمَا قَالَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ اللَّهِ
وَالْحُكْمُ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ
أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] اهـ أَفَادَهُ
الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ
الْجَوَامِعِ قُلْت: وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا
لِلْأَصْلِ مِنْ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ غَيْرُ الرِّضَا
بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ
الثَّانِيَةِ لِلْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ مَنْ
يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا
بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ
الْأُولَى لِلْمَقْضِيِّ نَعَمْ لَا يَظْهَرُ قَوْلُهُمْ: إنَّ
الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ
الْأَوْلِيَاءِ إلَخْ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ
لِمَنْ قَالَ، بَلْ لِمَا قَالَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرِّجَالِ
مِنْ ذَوِي الْكَمَالِ |