الفروق للكرابيسي

 [كِتَابُ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ]
674 - إذَا كَفَلَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمْ شَاءَ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ، وَأَيُّهُمْ دَفَعَ بِنَفْسِهِ إلَيْهِ بَرِيءَ هُوَ وَصَاحِبَاهُ.
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ، وَكَفَلَ بِهِ آخَرُ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمْ إلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ صَاحِبُهُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّهُمْ الْتَزَمُوا تَسْلِيمًا وَاحِدًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجِبَ تَسْلِيمُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ كَالْآذِنِ لِصَاحِبِهِ فِي تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا وَفَّاهُ أَحَدُهُمْ بَرِئُوا جَمِيعًا مَا لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى التَّسْلِيمِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ضَمِنَ غَيْرَ مَا ضَمِنَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَنْفَصِلَ الْخُصُومَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ ضَمِنَ غَيْرَ مَا ضَمِنَهُ الْآخَرُ فَلَا يَبْرَأُ بِتَسْلِيمِ مَا ضَمِنَهُ الْآخَرُ كَمَا لَوْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ دَيْنًا عَلَى حِدَةٍ.
675 - وَإِذَا كَفَلَ ثَلَاثَةٌ عَنْ رَجُلٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ

(2/239)


فَأَدَّى أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنْهُ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى ثُمَّ رَجَعَا عَلَى الثَّالِثِ بِثُلُثِ مَا أَدَّى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى.
وَلَوْ اشْتَرَيَا مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفٍ، وَضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ الثَّمَنَ عَنْ صَاحِبِهِ، أَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ،. إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ الْجِهَةُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ الْكَفَالَةُ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَصْلًا وَبَعْضُهَا كَفَالَةً، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ وَاحِدَةً اسْتَوَيَا فِيهِ، فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ فَرَجَعَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ الْجِهَةُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ مَضْمُونٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالْكَفَالَةِ، إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَكَانَ بَعْضُهُ أَصْلًا وَبَعْضُهُ كَفَالَةً، وَالْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ لَا تَجُوزُ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ، فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ جِهَتَانِ بَعْضُهُ بِالْأَصْلِ وَبَعْضُهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا أَدَّى شَيْئًا وَقَعَ عَنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ

(2/240)


آكَدُ مِنْ الْفَرْعِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ، إذْ لَوْ جَعَلْنَا بَعْضَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ لِيَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ لَكَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَجَعَلْنَاهُ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ وَقَعَ عَنْ شَرِيكِهِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ يَجْعَلُ أَدَاءَ بَعْضِ الْمَالِ عَنْ صَاحِبِهِ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ أَدَاءَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالْكَفَالَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ لَهُ أَدَاءُ الْبَعْضِ عَنْهُ وَأَدَاءُ الْجَمِيعِ فَإِذَا أَدَّى بَعْضًا رَجَعَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشِّرَاءُ وَالدَّيْنُ، لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا لَهُ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا دُونَ النِّصْفِ لَكَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَجْعَلَ عَنْهُ، فَيَقُولُ: إنْ جَعَلْتَهُ عَنْ كَفَالَتِهِ عَنِّي جَعَلْتُهُ عَنْ كَفَالَتِي عَنْك حَتَّى أَرْجِعَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْهُ فَوَقَعَ الْأَدَاءُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَجْعَلَ صَاحِبَهُ أَدَّاهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا النِّصْفُ فَوَقَعَ عَنْ صَاحِبِهِ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ.
676 - الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ تَصِحُّ بِغَيْرِ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ.
وَالْوَكَالَةُ عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْوَكَالَةِ إيجَابَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ تَنْفِيذُ إقْرَارِهِ

(2/241)


وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ أَوْ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِيجَابُ الْحَقِّ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَا الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ حَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا فِي مِلْكِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَمُّلُ حَقٍّ مَضْمُونٍ عَنْهُ وَتَحَمُّلُ الْحَقِّ عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ.
677 - إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ الْمُدَبَّرُ، فَكَفَلَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى عَنْ الْمَوْلَى بِمَالٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، فَاخْتَارَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ وَيَتْبَعُونَهُ بِدَيْنِهِمْ بَعْدَ الْمُعْتَقِ.
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أُمُّ وَلَدٍ فَعَتَقَتْ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَفَالَةِ يَسْتَسْعِيهَا مَعَ غُرَمَائِهَا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْبِضُ رَقَبَتَهُ وَصِيَّةً، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَقْبِضُ رَقَبَتَهُ وَصِيَّةً، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَجَبَتْ السِّعَايَةُ لِأَجْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَصَارَ بَقَاءُ تِلْكَ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ كَبَقَاءِ

(2/242)


الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَإِذَا بَقِيَ الرِّقُّ صَارَ هَذَا دَيْنًا وَجَبَ عَلَى الرَّقِيقِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ.
وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَا تَقْبِضُ رَقَبَتُهَا وَصِيَّةً، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ، فَلَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَى عِتْقِهَا، إذْ لَا يَجِبُ اسْتِبْقَاءُ الرِّقِّ فِيهَا فَعَتَقَتْ، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهَا بِالْكَفَالَةِ، وَعَلَيْهَا دَيْنُ نَفْسِهَا، وَصَارَتْ كَحُرَّةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهَا دُيُونٌ، فَاشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ.
678 - إذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ وَلَمْ يُؤَدِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالدَّيْنِ، حَتَّى يُؤَدِّيَهُ.
وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ طَلَبَ الْمَكْفُولِ لَهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَوَجَّهَنَا عَلَيْهِ طَلَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِمَالٍ وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْبَائِعِ عَنْ الْمُوَكِّلِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا لَهُ الرُّجُوعَ لَمْ يُؤَدِّ إلَى أَنْ يَتَوَجَّهَ طَلَبَانِ بِمَالٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَازَ.
679 - وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَنْقُدَ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْهُ فَنَقَدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ غَلَّةً أَوْ بَهْرَجَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَى.
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْمَأْمُورِ كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ رَجَعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِحَقِّهِ.

(2/243)


وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْخَلِيطِ وُجُوبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي، لَا بِمَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ ضَمَانٌ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِمِلْكِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُدَ أَلْفًا فَنَقَدَ مِائَةً وَأَبْرَأهُ مِنْ الْبَاقِي أَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي لَا بِمَا يَمْلِكُ، وَقَدْ أَدَّى الزُّيُوفَ وَالْغَلَّةَ فَرَجَعَ بِمَا أَدَّى، كَمَا لَوْ أَدَّى أَقَلَّ مِنْهُ فِي الْوَزْنِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا يَمْلِكُ، لَا بِمَا يُؤَدِّي بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِيرُ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ يَمْلِكُ عَلَيْهِ بَدَلَهُ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ تِسْعمِائَةٍ وَقَبَضَ مِائَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْأَلْفُ، فَدَلَّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَمْلِكُ وَقَدْ مَلَكَ الْأَلْفَ بِمَا ضَمِنَ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَدَّى أَقَلَّ مِنْ الْوَزْنِ.
680 - إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْمَالِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ.
وَلَوْ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ وَهَبَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ الْأَصِيلِ فَأَبَيَا الْقَبُولَ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلتَّمْلِيكِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَادَفَ عَيْنًا لَا يُفِيدُ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ، لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ، وَفِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحَقِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ،

(2/244)


وَفِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ بِفَسْخِ الْكَفَالَةِ إسْقَاطٌ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَإِذَا قَالَ لِلْكَفِيلِ: أَبْرَأْتُك، حُمِلَ عَلَى فَسْخِ الْكَفَالَةِ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى تَمَحَّضَ إسْقَاطًا وَلَهُ فَسْخُ الْكَفَالَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَسَخْتُ الْكَفَالَةَ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى فَسْخِ الْكَفَالَةِ صَارَ صَرِيحَ إسْقَاطِ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَوْ أَخَذَ عَنْ الْكَفِيلِ فَرَدَّ الْأَصِيلَ بَقِيَ حَالًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا مِنْ الْأَصْلِ فَارْتَدَّ بِالرَّدِّ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَقِّهِ قَوْلُهُ: أَبْرَأْتُك عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ الَّذِي وُجُوبُهُ وَإِسْقَاطُهُ مِنْ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، وَالْبَيْعُ بِغَيْرِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا مِنْ الْأَصْلِ جَعَلْنَاهُ إسْقَاطًا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْبَيْعِ.
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ لَفْظُ تَمْلِيكٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَادَفَ عَيْنًا تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَالتَّمْلِيكُ مِمَّا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

(2/245)


إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ فَقَبِلَهُ رَجَعَ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَادَفَ عَيْنًا لِمِلْكٍ أَفَادَ الْمِلْكَ، فَقَدْ مَلَّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْهِبَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ لَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِ الْأَصْلِ، كَذَلِكَ هَذَا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَادَفَ عَيْنًا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَصَارَ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ، وَإِسْقَاطًا لَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، كَذَلِكَ هَذَا.
682 - إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا.
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَجَلَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ صَارَ صِفَةً لِلثَّمَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: قَبِلْتُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ، فَقَدْ

(2/246)


شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِعَقْدٍ غَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، فَلَمْ يَجُزْ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ مُلْحَقٌ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدِ، وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِهِ يُلْحَقُ بِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ الشَّرْطُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ.
683 - وَإِذَا كَفَلَ الْمَرِيضُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ فِي الصِّحَّةِ لَزِمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْهِبَةِ أَوْ الْعِتْقِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَأَضَافَهُ إلَى حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ يُقْرِضُ الشَّيْءَ مِنْ ذِمَّتِهِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي، فَصَارَ كَإِقْرَاضِ الْعَيْنِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي، فَقَدْ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ الْأَصْلِ: شَبَهًا بِالْمُعَاوَضَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَشَبَهَ التَّبَرُّعِ مِنْ وَجْهٍ، فَلِشَبَهِهَا بِالتَّبَرُّعِ قُلْنَا: إذَا كَفَلَ فِي حَالِ الْمَرَضِ كَانَ مُحْتَسَبًا مِنْ الثُّلُثِ، وَلِشَبَهِهَا بِالْمُعَاوَضَةِ قُلْنَا: إذَا قَالَ: كَفَلْتُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ صُدِّقَ وَلَزِمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَكُونُ فِيهِ تَوْفِيرُ حَظِّهِ مِنْ الشَّبَهَيْنِ.

(2/247)


وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالْهِبَةُ فَتَمَحَّضَ تَبَرُّعًا، فَإِذَا وَهَبَ فِي الْحَالِ اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ فَقَدْ فَعَلَ بِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْدِئَهُ فَيَفْعَلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى التَّقْدِيمِ، فَجُعِلَ كَالْمُوجَبِ فِي الْحَالِ، فَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ.
684 - لَا يُحْبَسُ الْوَالِدَانِ فِي دُيُونِ الْوَلَدِ. وَيُحْبَسَانِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي تَوْجِيهِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ إيجَابُ عُقُوبَةٍ عَلَى الْأَبِ، لِأَجْلِ مَالِ ابْنِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مَالَهُ لَا يُقْطَعُ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ.
وَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَلَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ لَأَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالصَّبِيِّ إلَى أَنْ يَمُوتَ جُوعًا، فَفِي حَبْسِهِ تَوْجِيهُ عُقُوبَةٍ عَلَى بَدَنِهِ، لِأَجْلِ رُوحِ الصَّبِيِّ، وَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُؤَدَّبُ، كَذَلِكَ هَذَا.

(2/248)