المحصول لابن العربي والتكليف هُوَ إلزم الْمُكَلف مَا فِي فعله
كلفة وَهِي النصب وَالْمَشَقَّة ومسائلة كَثِيرَة ومتعلقاته
طَوِيلَة وجماع أُصُولهَا خمس مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى
فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
وَقد اخْتلف النَّاس فِيهِ وَاخْتلف فِيهِ عُلَمَاؤُنَا
كاختلافهم فَمنهمْ من مَنعه وَمِنْهُم من جوزه
(1/24)
وَاحْتج عُلَمَاؤُنَا على ذَلِك بقول الله
تَعَالَى (رَبنَا وَلَا تحملنا مَالا طَاقَة لنا بِهِ)
وَلَوْلَا حسن وُقُوعه مَا سَأَلُوا دَفعه
وَالصَّحِيح أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عقلا وَاقع
شرعا فَإِن الله تَعَالَى كلف الْعباد الْعِبَادَات والوظائف
كلهَا قبل أَن يقدروا عَلَيْهَا لِأَن الْقُدْرَة مَعَ
الْفِعْل
فَأَما تَكْلِيف الْمحَال فَلَا يجوز عقلا لَكِن إِذا وَردت
بِهِ الصِّيغَة شرعا حمل على التكوين والتعجيز كَقَوْلِه
تَعَالَى (كونُوا حِجَارَة أَو حديداً) وَكَقَوْلِه تَعَالَى
(كونُوا قردة خسئين)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
اتّفق أهل السّنة على جَوَاز تَكْلِيف الْمُكْره وَخَالف فِي
ذَلِك جمَاعَة من المبتدعة وَاحْتج عَلَيْهِم القَاضِي بنهي
الْمُكْره على الْقَتْل عَن الْقَتْل مَعَ وجود الْإِكْرَاه
وَهَذِه هفوة من القَاضِي لِأَن الْمَنْع من الْفِعْل مَعَ
إِلْزَام الْإِقْدَام أعظم فِي الِابْتِلَاء وَالْقَوْم لَا
يُنكرُونَ مثل هَذَا وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْخلاف فِي الْأَمر
بِفعل الشَّيْء مَعَ الْإِكْرَاه على فعله فَهَذَا مَا جوزناه
ومنعوه وَهُوَ فرع من فروع التحسين والتقبيح يَأْتِي فِي بَابه
إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/25)
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
فِي تَكْلِيف السَّكْرَان
وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ منتش وملتج فَأَما الملتج وَهُوَ لَاحق
الْمَجْنُون والناشيء وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله
وَأما المنتشي فَلَا خلاف فِيهِ وَفِي مثله نزلت (يَا أَيهَا
الَّذين أمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى
تعلمُوا مَا تَقولُونَ)
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
اخْتلف الْعلمَاء رَحمَه الله عَلَيْهِم فِي الْمَجْنُون
والناشي والملتج والنائم هَل هم مخاطبون بالتكليف فِي حَال
الْجُنُون والسهو وَالسكر وَالنَّوْم أم لَا
وَلَا يظنّ بِمن جوز ذَلِك من عُلَمَائِنَا الْتزم معرفَة
الْأَوَامِر والتكليفات مَعَ قيام هَذِه الْمَوَانِع
وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْخلاف بَينهم إِذا ارْتَفَعت
الْمَوَانِع وَقد ذهبت عبادات مُؤَقَّتَة أَو وَقعت أَسبَاب
فَائِتَة فَمنهمْ من ألزم الْأَحْكَام كلهَا بعد الزَّوَال
لهَذِهِ الْمَوَانِع وَمِنْهُم من ردهَا وَمِنْهُم من قسم
الْحَال وَفرق الْأَحْكَام بِحَسب النَّوَازِل على مَا انْتهى
إِلَيْهِ اجْتِهَاد كل فريق فِي طلب الْأَدِلَّة وتتبع مدارك
الْأَحْكَام على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مسَائِل الْفِقْه إِن
شَاءَ الله تَعَالَى
(1/26)
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي تَكْلِيف
الْكفَّار بِفُرُوع الشَّرِيعَة
وَقد اخْتلف فِي ذَلِك عُلَمَاؤُنَا وَغَيرهم على قَوْلَيْنِ
فَمنهمْ من قَالَ لَا تصح مخاطبتهم بِأَمْر لِاسْتِحَالَة
وُقُوع الْفِعْل مِنْهُم حَال كفرهم
وَمِنْهُم من قَالَ هم مخاطبون بذلك وتلوا فِي ذَلِك قُرْآنًا
وسطروا فِيهِ آيَات مِنْهَا مَا يتَطَرَّق غليه الِاحْتِمَال
الْقوي وَمِنْهَا الضَّعِيف
وَالطَّرِيق فِي الْمَسْأَلَة الْكَلَام على فصليها جَمِيعًا
من جَوَاز تكليفهم وَمن وجود تكليفهم
فَأَما الْجَوَاز فَظَاهر لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يُقَال
للْكَافِرِ صل ويتضمن الْأَمر بِالصَّلَاةِ الْأَمر بشرطها فِي
الْإِيمَان إِذْ لَا يتَوَصَّل إِلَى فعلهَا إِلَّا بِهِ كَمَا
يُؤمر الْمُحدث الْقَارِي الْمُدبر بِالصَّلَاةِ وَلَا
يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بعد هَذِه الشُّرُوط الثَّلَاثَة
فَإِذا ثَبت فصل الْجَوَاز بِهَذِهِ النُّكْتَة
فالدليل على وجود ذَلِك فِي الشَّرْع ظواهر الْكتاب وأمثلها
فِي التَّعْلِيق قَوْله تَعَالَى (مَا سلككم فِي سقر قَالُوا
لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين) فَإِن قيل
أَرَادَ تَعَالَى لم تَكُ على اعْتِقَاد الْمُصَلِّين قُلْنَا
إِنَّمَا يعدل علن الظَّاهِر لضَرُورَة دَاعِيَة وَلَا
ضَرُورَة هَا هُنَا لما تقدم من الْجَوَاز وَالله أعلم
(1/27)
فَائِدَة
حق كل من يحاول الْخَوْض فِي فن من الْعُلُوم إِذا علم
مَقْصُوده مِنْهُ أَن يحاول بدءا الْإِحَاطَة بسواقه الَّتِي
لَا بُد لَهُ مِنْهَا فِي مَعْرفَته وشروطه الَّتِي هِيَ
مَعُونَة عَلَيْهِ |