المحصول لابن العربي

= كتاب الْأَخْبَار =
قد قدمنَا أَن الْخَبَر قسم من أَقسَام الْكَلَام وَهُوَ على قسمَيْنِ أَيْضا متواتر وَخبر وَاحِد فنعقد لكل قسم فصلا
الْفَصْل الأول فِي الْخَبَر الْمُتَوَاتر

وَفِيه أَربع مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى فِي حَقِيقَته وَحده

وَهُوَ كل خبر جَاءَ على لِسَان جمَاعَة يَسْتَحِيل عَلَيْهِم التواطؤ والتعمد للكذب وَلَا خلاف فِي ذَلِك فَلَا معنى للإطناب فِيهِ

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي أقل عدده

وَالثَّالِثَة فِي أَكْثَره

فَأَما أَقَله فَلَا حد فِيهِ أَكثر من أَن عُلَمَاؤُنَا قَالُوا إِن كَون الْأَرْبَعَة طَرِيقا إِلَى التَّوَاتُر محَال لِأَن القَاضِي كلف الْحَاكِم بِشَهَادَتِهِم وَلم يُكَلف الْعلم قطعا وَمَا فَوق الْأَرْبَعَة إِلَّا الْقدر الَّذِي يحصل فِيهِ التَّوَاتُر من الْعدَد يتَرَدَّد فِيهِ وَلَا يقطع فِيهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات

(1/113)


وَأما الْكَثْرَة وَهُوَ مِمَّا اخْتلف النَّاس فِيهِ اخْتِلَافا متباينا لَا معنى لذكره فِي هَذِه الْحجَّة وَلَكِن حَال هَذَا الطّرف الْكثير كَحال الْقَلِيل لَا نقُول إِنَّه يحصره عدد لِأَن أَي عدد ذكرته لم يعْدم فِيهِ مُعَارضا بِدُونِهِ أَو بأزيد مِنْهُ وَلأَجل هَذِه الترددات أنْكرت طَائِفَة الْعلم الْحَاصِل بالْخبر الْمُتَوَاتر وَهِي

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

وَيُقَال لَهُم لم أنكرتم مَا لَا سَبِيل إِلَى إِنْكَاره فَإِن وجود مَكَّة وَالْمَدينَة وبغداد لمن لم يرهَا مَعْلُوم قطعا لَا يُمكنهُ إِنْكَاره وَهُوَ لم يره وَمَا حصل لَهُ ذَلِك إِلَّا بِكَثْرَة الْأَخْبَار
فَإِن قَالُوا إِنَّمَا شككنا لِأَنَّهُ لم نقدر على ضبط عدد المخبرين
قُلْنَا عَن هَذَا جوابان
إِحْدَاهمَا إِنَّكُم شَكَكْتُمْ فِي غير مَوضِع الشَّك وَهُوَ أَيْضا شكّ مَذْكُور بِاللِّسَانِ لَا يصلح أَن يَعْتَقِدهُ الْقلب فَلَا معنى للاشتغال بِذكرِهِ
وَالثَّانِي أَنا نقُول لَو ضبط الْعدَد بِمَا لَا يحصل الْعلم وَإِنَّمَا خُرُوجه عَن حد الْحصْر أوجب حُصُول الْعلم وَهُوَ أقوى فِيهِ

(1/114)


الْفَصْل الثَّانِي فِي خبر الْوَاحِد

وَفِيه ثَمَان مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى

قَالَ عُلَمَاؤُنَا خبر الْوَاحِد على ضَرْبَيْنِ
أَحدهمَا يُوجب الْعلم وَالْعَمَل كالخبر الْمُتَوَاتر
وَالثَّانِي يُوجب الْعَمَل وَلَا يُوجب الْعلم
وَإِمَّا الأول فَهُوَ خبر الله تَعَالَى وَالثَّانِي خير رَسُول الله
وَالثَّانِي خبر رجل وَاحِد بِحَضْرَة رَسُول الله
وَالثَّالِث خبر رجل وَاحِد بِحَضْرَة الله
وَالرَّابِع خبر رجل وَاحِد ادعِي فِيهِ الْعلم مَعَ جمَاعَة يَسْتَحِيل عَلَيْهِم التواطؤ على الْكَذِب فَلَا ينظرُونَ عَلَيْهِ
وَالْخَامِس خبر وَاحِد تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فإمَّا قَالُوا بظاهرة وَإِمَّا تأولوه وَلم يكن مِنْهُم نَكِير عَلَيْهِ
فَهَذِهِ الْأَقْسَام الْخَمْسَة توجب الْعلم وَفِي تعديدها تجَاوز وَتجوز تسامحنا بِهِ قصد الْبَيَان
وَأما الثَّانِي الَّذِي يُوجب الْعَمَل دون الْعلم فَهُوَ خبر الْوَاحِد الْمُطلق عَمَّا ينْفَرد بِعِلْمِهِ وَقَالَ قوم إِنَّه يُوجب الْعلم وَالْعَمَل كالخبر الْمُتَوَاتر وَهَذَا إِنَّمَا صَارُوا إِلَيْهِ بشبهتين دخلتا عَلَيْهِم إِمَّا لجهلهم بِالْعلمِ وَإِمَّا لجهلهم

(1/115)


بِخَبَر الْوَاحِد فَإنَّا بِالضَّرُورَةِ نعلم امْتنَاع حُصُول الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد وَجَوَاز تطرق الْكَذِب والسهو عَلَيْهِ
فَإِن قيل هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا لم يخبر عَن الشَّرِيعَة فَأَما إِذا أخبر عَنْهَا فخبره مَحْفُوظ بوعد الصَّادِق (إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون)
فَالْجَوَاب عَن هَذَا من أوجه أقربها وأخصرها وجودنا للْأَخْبَار المبينة على الشَّرِيعَة كذبا بعد طَرَأَ الصدْق بهَا وَإِنَّمَا يتَبَيَّن حَالهَا عِنْد الْبَحْث عَنْهَا وَبعد الْبَحْث بِعلم قطعا لَا يمتري فِيهِ منصف جَوَاز ظُهُور الْكَذِب فِيمَا ظن فِيهِ الْكَذِب وَهَذَا الْفِقْه صَحِيح وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى مَا ضمن حفظ الشَّرِيعَة على الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا حصل الضَّمَان فِي حفظهَا فِي حالتين
أَحدهمَا الْقُرْآن وَالثَّانِي الْإِجْمَاع

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة خبر الْوَاحِد يُوجب الْعَمَل اتِّفَاقًا من الْأَكْثَر

وَقَالَ الجبائي وَغَيره لَا يقبل إِلَّا اثْنَان وَشرط على الِاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ إِلَى مُنْتَهى الْخَبَر إِلَى السَّامع وَهَذَا بَاطِل فَإنَّا قد علمنَا قطعا إرْسَال رَسُول الله عماله وولاته إِلَى الأقطار بِالْأَحْكَامِ والأعمال آحادا إِلَى جمَاعَة ونعلم أَيْضا على الْقطع قبُول الصَّحَابَة لخَبر الْوَاحِد وابتناء الْعَمَل فِيهِ كقبول عمر رَضِي الله عَنهُ لحَدِيث جميل بن مَالك بن

(1/116)


النَّابِغَة وَقبُول حَدِيث الْمُغيرَة فِي الْجدّة وَقبُول حَدِيث عبد الرَّحْمَن فِي الوباء إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

وَيجب الْعَمَل بِهِ بِمَا فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز لِأَن مَا تعم الْبلوى يكثر السُّؤَال عَنهُ وَمَا كثر السُّؤَال عَنهُ يكثر الْجَواب فِيهِ وَمَا كثر الْجَواب فِيهِ كثر نَقله فَإِذا انْفَرد بِهِ وَاحِد كَانَ رِيبَة فِيهِ
قُلْنَا أما قَوْلكُم إِن مَا عَمت الْبلوى أَكثر السُّؤَال عَنهُ فَصَحِيح وَكَذَلِكَ يكثر الْجَواب فِيهِ
وَأما كَثْرَة نَقله فَلَا بل إِذا نقل وَاحِد كفى وَوَقعت الإحالة عَلَيْهِ وَوَجَب الرُّجُوع إِلَيْهِ

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

قَالَ بعض النَّاس تقل ألفظ رَسُول الله فِي الشَّرِيعَة وَاجِب لقَوْله فِي خطْبَة الْوَدَاع نضر الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ
وألفاظ الشَّرِيعَة على قسمَيْنِ
أَحدهمَا أَن يتَعَلَّق بِهِ التَّعَبُّد كألفاظ التَّشَهُّد فَلَا بُد من نقلهَا بلفظها

(1/117)


وَالثَّانِي مَا وَقع التَّعَبُّد بِمَعْنَاهُ فَهَذَا يجوز تَبْدِيل اللَّفْظ بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن يكون الْمُبدل مِمَّن يسْتَقلّ بذلك وَقد قَالَ وَاثِلَة بن الْأَسْقَع لَيْسَ كل مَا سمعناه من رَسُول الله نحدثكم فِيهِ بِاللَّفْظِ حسبكم الْمَعْنى
وَالدَّلِيل الْقَاطِع فِي ذَلِك قَول الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم عَن بكرَة أَبِيهِم نهى رَسُول الله عَن كَذَا وَأمر بِكَذَا وَلم يذكرُوا صِيغَة الْأَمر وَلَا صِيغَة النَّهْي وَهَذَا نقل بِالْمَعْنَى

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

إِذا نقل الرَّاوِي عَن رَسُول الله بعض حَدِيث فَلَا يَخْلُو أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ أَو مفتقرا إِلَى مَا زَاد عَنهُ فَإِن كَانَ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا فَإِنَّهُ مَعْلُوم على الْقطع إِن الصَّحَابَة كَانُوا يحْضرُون خطب رَسُول الله ومجالسه ويعون مِنْهَا مَا يجْرِي فِيهَا ويثبتونه فُرَادَى وَذَلِكَ مَعْلُوم على الْقطع

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

إِذا نقل الرَّاوِي حَدِيثا فِيهِ ذكر صفة مستحيلة مُضَافَة إِلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْلُو أَن يكون لَهَا تَأْوِيل لَهُ مجَال فِي الْعقل أَو لَا يكون لَهَا تَأْوِيل

(1/118)


قَالَ عُلَمَاؤُنَا فَإِن كَانَ لَهَا تَأْوِيل قبلت وأولت لقَوْله فَلَا تمتليء جَهَنَّم حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه وَكَقَوْلِه قلب الْمُؤمن بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن
وَأما إِن لم يكن لَهَا تَأْوِيل فَهُوَ مَرْدُود كَقَوْل عُلَمَائِنَا فِيمَا رُوِيَ أَن الله تبَارك وَتَعَالَى خلق خيلا فاجراها فعرقت فخلق نَفسه من عرقها وَهَذَا الحَدِيث يقبل التَّأْوِيل أَيْضا
وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن الله تبَارك وَتَعَالَى قد طمس هَذَا الْبَاب فِي أوجه الْمَلَاحِدَة فَلَا يقدرُونَ على اختراع كذب لَا يقبل تَأْوِيلا بِحَال حسب مَا بَيناهُ فِي كتاب الْمُتَوَسّط وَالْحَمْد لله

(1/119)


الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الْقِرَاءَة الشاذة لَا توجب علما وَلَا عملا

وَقَالَ أَبُو حنيفَة توجب الْعَمَل قَالَ لِأَنَّهُ خبر وَاحِد فأوجبت الْعَمَل كَسَائِر أَخْبَار الْآحَاد
قُلْنَا لَا يَلِيق هَذَا التَّحْقِيق بِأبي حنيفَة رَحمَه الله من وَجْهَيْن
أَحدهمَا إِن الْعَمَل بِالْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ فرع على حُصُول الْعلم بطريقة لِأَن مبناه الإعجاز وَطَرِيقَة التَّوَاتُر فَإِذا حصل هَذَا الأَصْل مُسْتَقرًّا نظر بعده فِي الْفَرْع وَهُوَ وجوب الْعَمَل
وَالثَّانِي أَن قِرَاءَة أبي كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام) زِيَادَة فِي الأَصْل وَالزِّيَادَة فِي الأَصْل إِذا لم ينْقل نقل الأَصْل عِنْد أبي حنيفَة سَاقِطَة فَكيف يَقُول بهَا فِي مثل هَذَا وَأَيْضًا فَإِن الزِّيَادَة عِنْده على النَّص نسخ وَنسخ الْقُرْآن لَا يجوز إِلَّا بِمثلِهِ

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

الزِّيَادَة إِذا لم تنقل نقل الأَصْل لَكِن رَوَاهَا الثِّقَة مُنْفَردا لم يجز الْعَمَل بهَا عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا تهمه فِي الْقِرَاءَة وَعِنْدنَا يجب الْعَمَل بهَا لِأَنَّهُ يُمكن أَن يفوت الْبَعْض مَا حصله الْبَعْض وَكم يرى من تتبع الْأَحَادِيث من زِيَادَة بعض الروَاة على بعض وإفادتهم لما أسقط سواهُم وَقد يكون بَعضهم أقرب من بعض فَيكون بَعضهم أوعى لَهُ من بعض وَهَذَا يبين عِنْد الْإِنْصَاف

(1/120)