المحصول للرازي

الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر

(1/158)


وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر لنا أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شئ من

(1/159)


الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع بحسنه أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن أمارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن
فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها

(1/160)


قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون منه من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويز كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق

(1/161)


الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره فإما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق
فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا

(1/162)


دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض

(1/163)


والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على
الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه

(1/164)


وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم

(1/165)