المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة

ج / 2 ص -192-       الفن الثاني فيما يقتبس من الألفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها
وهي خمسة أضرب :
الضرب الأول ما يسمى اقتضاء
وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به أو من حيث يمتنع نبوته عقلا إلا به
أما المقتضى الذي هو ضرورة صدق المتكلم فكقوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" فإنه نفى الصوم والصوم لا ينتفي بصورته فمعناه لا صيام صحيح أو كامل فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه والحكم غير منطوق به لكن لا بد منه لتحقيق صدق الكلام
فعن هذا قلنا: لا عموم له لأنه ثبت اقتضاء لا لفظا .
وهذا يصح على مذهب من ينكر الأسماء الشرعية ويقول لفظ الصوم باق على مقتضى اللغة فيفتقر فيه إلى إضمار الحكم أما من جعله عبارة عن الصوم

 

ج / 2 ص -193-       الشرعي فيكون انتفاؤه بطريق النطق لا بطريق الاقتضاء بل مثاله لا عمل إلا بنية ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما سبقت أمثلته في باب المجمل
وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به شرعا فقول القائل أعتق عبدك عني فإنه يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه شرعا تقدم الملك فكان ذلك مقتضى اللفظ
وكذلك لو أشار إلى عبد الغير وقال والله لأعتقن هذا العبد يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البرد وإن لم يتعرض له لضرورة الملتزم
وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا فقوله تعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }[ النساء: من الآية23]فإنه يقتضي إضمار الوطء أي حرم عليكم وطء أمهاتكم لأن الأمهات عبارة عن الأعيان والأحكام لا تتعلق بالأعيان بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين فاقتضى اللفظ فعلا وصار ذلك هو الوطء من بين سائر الأفعال بعرف الاستعمال وكذلك قوله{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة: من الآية3]{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ }[المائدة: من الآية1] أي الأكل ويقرب منه{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] أي أهل القرية لأنه لا بد من الأهل حتى يعقل السؤال فلا بد من إضماره
ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار دون الاقتضاء والقول في هذا قريب
الضرب الثاني: ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ:
ونعني به ما يتسع اللفظ من غير تجريد قصد إليه فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبني عليه
ومثال ذلك: تمسك العلماء في تقدير أقل الطهر وأكثر الحيض بخمسة عشر

 

ج / 2 ص -194-       يوما بقوله عليه السلام "إنهن ناقصات عقل ودين" فقيل ما نقصان دينهن ؟ فقال "تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم" فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع المنطق قصدا إلا به لكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر وأنه لا يكون فوق شطر الدهر وهو خمسة عشر يوما من الشهر إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها
ومثاله استدلال الشافعي رحمه الله في تنجس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في لإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده إذ قال لولا أن يقين النجاسة ينجس لكان توهمها لا يوجب الاستحباب
ومثاله تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر أخذا من قوله
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}[الاحقاف: من الآية15] وقد قال في موضع آخر {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }[لقمان: من الآية14]ومثاله المصير إلى من وطىء بالليل في رمضان فأصبح جنبا لم يفسد صومه لأنه قال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ }[البقرة: من الآية187]وقال{ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ }[البقرة: من الآية187]ثم مد الرخصة إلى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فتشعر الآية بجواز الأكل والشرب والجماع في جميع الليل ومن فعل ذلك في آخر الليل استأخر غسله إلى النهار وإلا وجب إن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بمقدار ما يتسع للغسل
فهذا وأمثاله مما يكثر ويسمى إشارة اللفظ
الضرب الثالث: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب.
كقوله تعالى
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: من الآية38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا }[النور: من الآية2] فإنه كما فهم وجوب القطع والجلد

 

ج / 2 ص -195-       على السارق والزاني وهو المنطوق به فهم كون السرقة والزنا علة للحكم وكونه علة غير منطوق به لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام وقوله تعالى{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}]الانفطار:13[أي لبرهم وفجورهم وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح والترغيب والترهيب وكذلك إذا قال ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به
وهذا قد يسمى:إيماء وإشارة كما يسمى فحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته.
الضرب الرابع: فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب من قوله تعالى
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}]الاسراء: من الآية23[ وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً }]النساء: من الآية10[ وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}]الزلزلة:7[وقوله{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}]آل عمران: من الآية75[وكذلك قول القائل ما أكلت له برة ولا شربت له شربة ولا أخذت من ماله حبة فإنه يدل على ما وراءه
فإن قيل:هذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى
قلنا:لاحجر في هذه التسمية لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف إذ قد يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل له أف لكن اقتله وقد يقول والله ما أكلت مال فلان ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث

 

ج / 2 ص -196-       فإن قيل:الضرب حرام قياسا على التأفيف لأن التأفيف إنما حرم للإيذاء وهذا الإيذاء فوقه
قلنا:إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى تأمل واستنباط علة فهو خطأ وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو صحيح بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق أو هو معه وليس متأخرا عنه
 وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الألفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس
الضرب الخامس هو المفهوم
ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه
ويسمى مفهوما لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم وربما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الأسامي
وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة ؟كقوله تعالى
{ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً }[المائدة: من الآية95] وكقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة والثيب أحق بنفسها من وليها ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والثيوبة والتأبير بهذه الأحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها ؟
فقال الشافعي وما لك والأكثرون من أصحابهما:أنه يدل وإليه ذهب

 

ج / 2 ص -197-       الأشعري إذا احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }]الحجرات: من الآية6[ قال هذا يدل على أن العدل بخلافه واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}]المطففين:15[قال وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم
وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء ومنهم ابن شريح إن ذلك لا دلالة له
وهو الأوجه عندنا ويدل عليه مسالك:
الأول:أن إثبات زكاة السائمة مفهوم أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الإثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواترا وجار مجرى المتواتر والجاري مجرى المتواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وأمثاله للتكثير وأن قولهم عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة أعني الأفعل أما نقل الآحاد فلا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه

 

ج / 2 ص -198-       فإن قيل:فمن نفي المفهوم افتقر إلى نقل متواترا أيضا ؟
قلنا:لا حاجة إلى حجة فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يناهي إنما الحجة على من يدعي الوضع
الثاني:حسن الاستفهام فإن من قال إن ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقول فإن ضربني خاطئا أف أضربه ؟وإذا قال أخرج الزكاة من ما شيتك السائمة حسن أن يقول هل أخرجها من المعلوفة؟ وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم فإنه لا يحسن في المنطوق وحسن في المسكوت عنه
فإن قيل:حسن لأنه قد لا يراد به النفي مجازا
قلنا:الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ولا دليل
المسلك الثالث: أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق وتارة مع المخالفة فالثبوت للموصوف معلوم منطوق،

 

ج / 2 ص -199-       والنفي عن المسكوت محتمل فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة ودليل آخر أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح
المسلك الرابع: أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف فإذا قال قام الأسود أو خرج أو قعد لم يدل على نفيه عن الأبيض بل هو سكوت عن الأبيض وإن منع ذلك مانع وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب والاسم العلم حتى يكون قولك رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره وإذا قال ركب زيد دل على نفي الركوب عن غيره وقد تبع هذا بعضهم وهو بهت واختراع على اللغات كلها فإن قولنا رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ودابته وخادمه ولا عن غيره إذ يلزم أن يكون قوله زيد عالم كفرا لأنه نفي للعلم عن الله وملائكته ورسله وقوله عيسى نبي الله كفرا لأنه نفي النبوة عن محمد عليه السلام وعن غيره من الأنبياء
فإن قيل:هذا قياس الوصف على اللقب ولا قياس في اللغة
قلنا:ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنببه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط كما أن أسماء الأعلام لتعريف الأشخاص ولا فرق بين قوله في الغنم زكاة في نفي الزكاة عن البقر والإبل وبين قوله في سائمة الغنم زكاة في نفي الزكاة عن المعلوفة
المسلك الخامس: أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة فتقول رأيت الظريف وقام الطويل ونكحت الثيب،

 

ج / 2 ص -200-       واشتريت السائمة وبعت النخلة المؤبرة فلو قال بعد ذلك نكحت البكر أيضا واشتريت المعلوفة أيضا لم يكن هذا مناقضا للأول ورفعا له وتكذيبا لنفسه كما لو قال ما نكحت الثيب وما اشتريت السائمة ولو فهم النفي كما فهم الإثبات لكان الإثبات بعده تكذيبا ومضادا لما سبق
أدلة القائلين بمفهوم المخالفة
وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك:
الأول:أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ومن علماء اللغة وقد قال بدليل الخطاب
وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة وقد قال في قوله عليه السلام
"لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" فقال دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرمن أن يمتلىء شعرا" فقيل أنه أراد الهجاء والسب أو هجو الرسول عليه السلام فقال ذلك حرام قليله وكثيره امتلأ به الجوف أو قصر فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد
والجواب أنهما ما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي فليس على المجتهد قبول قول من لم يثبت عصمته

 

 

ج / 2 ص -201-       عن الخطأ فيما يظنه بأهل اللغة أو بالرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد ويعارضه أقوال جماعة أنكروه وقد قال قوم لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم فلا تحصل الثقة بقولهم
المسلك الثاني:أن الله تعالى قال
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: من الآية80] التوبة فقال عليه السلام لأزيدن على السبعين فهذا يدل على أن حكم ما عدا السبعين بخلافه
والجواب من أوجه:
الأول
:أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة والأظهر أنه غير صحيح لأنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس وقطع الطمع عن الغفران كقول القائل أشفع أو لا تشفع وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك
الثاني:أنه قال لأزيدن على السبعين ولم يقل ليغفر لهم فما كان ذلك لانتظار الغفران بل لعله كان لاستمالة قلوب الأحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين لا لانتظار غفران الله تعالى للموتى مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع
الجواب الثالث:أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعها؟

 

ج / 2 ص -202-       فإن قلتم:على وقوعه فهو خلاف الإجماع وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية فانتفى الجواز المقدر بالسبعين والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل لا بالمفهوم
المسلك الثالث: أن الصحابة قالوا:قوله صلى الله عليه وسلم
"الماء من الماء" منسوخ بقول عائشة رضي الله عنهاإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء بل انحصاره عليه واختصاصه به
والجواب من أوجه:
الأول: أن هذا نقل آحاد ولا تثبت به اللغة
الثاني: أنه إنما يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ولا يجب تقليدهم
الثالث: أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا العموم والاستغراق لجنس استعمال الماء وفهموا أخيرا كون خبر التقاء

 

ج / 2 ص -203-       الختانين نسخا لعموم الأول لا لمفهومه ودليل خطابه وكل عام أريد به الاستغراق فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ويتقابلان إن اتحدث الواقعة
الرابع:أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال لا ماء إلا من الماء وهذا تصريح بطرفي النفي والإثبات كقوله عليه السلام
"لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور" وروي أنه صلى الله عليه وسلم أتى باب رجل من الأنصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام: "عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء" وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة
الخامس: أنه قال في رواية إنما الماء من الماء وقد قال بعض منكري المفوم أن هذا للحصر والنفي والإثبات ولا مفهوم للقب والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الألف واللام وقوله إنما ولم يقل أحد من الصحابة أن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلوم لا بمجرد التخصيص والكلام في مجرد التخصيص
المسلك الرابع :قولهم أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
"هي صدقة تصدق الله بها عليكم أو على عباده فاقبلوا صدقته" وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }[النساء: من الآية101 ]
قلنا لأن الأصل الإتمام واستثنى حالة الخوف فكان الإتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص
المسلك الخامس: أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الربا في النسيئة" نفي ربا الفضل وكذلك عقل من قوله تعالى
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ

 

ج / 2 ص -204-       السُّدُسُ }[النساء: من الآية11] إنه إن كان له إخوان فلأمه الثلث وكذلك قال:الأخوات لا يرثن مع الأولاد لقوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ }[النساء: من الآية176]فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ولا حجة فيه
الثاني: أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه
الثالث: أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر وقرينة أخرى
الرابع: أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الإباحة بدليل العقل أو عموم قوله تعالى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}[البقرة: من الآية275]فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم ودليل العقل لا بالمفهوم
الخامس: أنه روي أنه قال لا ربا إلا في النسيئة وهذا نص في النفي والإثبات وقوله إنما الربا في النسيئة أيضا قد أقربه بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر

 

ج / 2 ص -205-       المسلك السادس: أنه إذا قال اشتر لي عبدا أسود يفهم نفي الأبيض وإذا قال أضربه إذا قام يفهم المنع إذا لم يقم
قلنا هذا باطل بل الأصل منع الشراء والشرب إلا فيما أذن والأذن قاصر فبقي الباقي على النفي وتولد منه درك الفرق بين الأبيض والأسود وعماد الفرق إثبات ونفي ومستندا لنفي الأصل ومستند الإثبات الأذن القاصر والذهن إنما ينتبه للفرق عند الإذن القاصر على الأسود فإنه يذكر الأبيض فيسبق إلى الأوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به فهذا مزلة القدم وهو دقيق ولأجله غلط الأكثرون
ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة وبقرة وغانما وسالما وقال اشتر غانما والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم وسالم وبين البقرة والشاة واللقب لا مفهوم له بالإتفاق عند كل محصل إذ قوله لا تبيعوا البر بالبر لم يدل على نفي الربا من غير الأشياء الستة بالإتفاق ولو دل لا نحسم باب القياس وإن القياس فائدته إبطال التخصيص وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره لكن مزلة القدم ما ذكرناه
وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت كقوله أنت طالق إن دخلت الدار فإن لم تدخل لم تطلق لأن الأصل عدم الطلاق لا لتخصيص الدخول بدليل أنه لو قال إن دخلت فلست بطالق فلا يقع إذا لم تدخل لأنه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول وهذا واضح
المسلك السابع:وعليه تعويل الأكثرين وهو السبب الأعظم في وقوع هذا الوهم أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد أن تكون له فائدة فإن استوت السائمة والمعلوفة والثيب والبكر والعمد والخطأ فلم خصص البعض بالذكر والحكم

 

ج / 2 ص -206-       شامل والحاجة إلى البيان تعم القسمين فلا داعي له إلى اختصاص الحكم وإلا صار الكلام لغوا
والجواب من أربعة أوجه :
الأول: أن هذا عكس الواجب فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ وينبغي أن يفهم أولا الوضع ثم ترتب الفائدة عليه والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا
الثاني: وأن عماد هذا الكلام أصلان أحدهما أنه لا بد من فائدة التخصيص والثاني أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم والنتيجة أنه الفائدة إذا
ومسلم أنه لا بد من فائدة لكن الأصل الثاني وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم فلعل فيه فائدة فليست الفائدة محصورة في هذا بل البواعث على التخصيص كثرة واختصاص الحكم أحد البواعث
فإن قيل فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه
قلنا ولم قلتم أن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم فلعلها حاضرة ولم تعثروا عليها فكأنكم جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة وهذا خطأ

 

ج / 2 ص -207-       فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى
الثالث: وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك :أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل فلم لم تطلبوا الفائدة فيه فإذا خصص الأشياء الستة في الربا وعمم الحكم في المكيلات والمطعومات كلها وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الإبل والبقر فما سببه مع استواء الحكم فيقال لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه فليكن كذلك في تخصيص الوصف
الرابع: أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد:
الأولى: أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الألقاب والأوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم حتى لا يبقى للقياس مجال
الثانية: أنه لو قال في الغنم زكاة ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد وكذلك لو قال لا تبيعوا الطعام بالطعام ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر والتمر فنص على ما لا وجه لإخراجه وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد لا سيما ولو ذكر الطعام أو الغنم وهو لفظ عام لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة وللسائمة خاصة

 

ج / 2 ص -208-       فأخرج المخصوص عن محل الوقف والشك ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف والصلاح
الثالثة: أن يكون الباعث على التخصيص للأشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك بل نقول لعل إليه داعيا لم نعرفه فكذلك في الأوصاف
المسلك الثامن: قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة والانتفاء بانتفائها
والجواب:أن الخلاف في العلة والصفة واحد فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها أما انتفاؤه بانتفائها فلا بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما يقتضيه الأصل وكيف ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس ولولاه لكان قوله حرمت عليكم الخمر لشدتها لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل وتعبد باتباع العلة وترك الالتفات إلى المحل
المسلك التاسع: استدلالهم بتخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات
وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب والسنة لا أثر لها على نقيضه كقوله تعالى
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً }[المائدة: من الآية95]في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطىء وقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً

 

ج / 2 ص -209-       فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }[النساء: من الآية92] إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله وقوله{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء: من الآية101] الآية وقوله في الخلع{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا }[النساء: من الآية35] وقوله عليه السلام "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها" إلى أمثال له لا تحصى
القول في درجات دليل الخطاب
اعلم أن توهم النفي من الإثبات على مراتب ودرجات وهي ثمانية:
الأولى:مفهوم اللقب:
وهي أبعدها وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا
الثانية: الاسم المشتق الدال على جنس كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام وهذا أيضا يظهر إلحاقه باللقب لأن الطعام لقب لجنسه وإن كان مشتقا مما يطعم إذ لا تدرك تفرقة بين قوله في الغنم زكاة وفي الماشية زكاة وإن كانت الماشية مشتقة مثلا
الثالث: تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله الثيب أحق بنفسها والسائمة تجب فيها الزكاة فلأجل أن السوم يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم

 

ج / 2 ص -210-       وهو أيضا ضعيف ومنشؤه الجهل بمعرفة الباعث على التخصيص
الرابعة: أن يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان كما لو قال في الغنم السائمة زكاة وكقوله من باع نخلة مؤبرة فثمرها للبائع واقتلوا المشركين الحربيين فإنه ذكر الغنم والنخلة والمشركين وهي عامة فلو كان الحكم يعمها لما أنشأ بعده استدراكا لكن الصحيح أن مجرد هذا التخصيص من غير قرينة لا مفهوم له فيرجع حاصل الكلام إلى طلب سبب الاستدراك ويجوز أن يكون له سبب سوى اختصاص الحكم لم نعرفه
ووجه التفاوت بين هذه الصور أن تخصيص اللقب يمكن حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه ولذلك ذكر الأشياء الستة فهذا احتمال وهو الغفلة عن غير المنطوق به والغفلة عن البكر عند التعرض للثيب أبعد لأن ذكر الصفة بذكر ضدها يضعف هذا الاحتمال فصار احتمال المفهوم أظهر وعند الاستدراك بعد التعميم انقطع هذا الاحتمال بالكلية فظهر احتمال المفهوم لانحسام أحد الاحتمالات الباعثة على التخصيص
لكن وراء هذه احتمالات داعية إلى التخصيص وإن لم نعرفها فلا يحتج بما لا يعلم فينظر إلى لفظه ومن تعرض للغنم السائمة والنخلة المؤبرة فهو ساكت عن المعلوفة وغير المؤبرة كما لو قال في السائمة وفي المؤبرة وكما قال في سائمة الغنم زكاة
الخامسة: الشرط:
وذلك أن يقول:إن كان كذا فافعل كذا وإن جاءكم كريم قوم فأكرموه

 

ج / 2 ص -211-       {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ }[الطلاق: من الآية6]وقد ذهب ابن شريح وجماعة من المنكرين للمفهوم إلى أن هذا يدل على النفي
والذي ذهب إليه القاضي إنكاره وهو الصحيح عندنا على قياس ما سبق لأن الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط أما أن يدل على عدمه عند العدم فلا وفرق بين أن لا يدل على الوجود فيبقى على ما كان قبل الذكر وبين أن يدل على النفي فيتغير عما كان
والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإذا قال احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة واحكم له بالمال إن شهد له شاهدان لا يدل على نفي الحكم بالإقرار واليمين والشاهد ولا يكون الأمر بالحكم بالإقرار والشاهد واليمين نسخا له ورفعا للنص أصلا ولهذا المعنى جوزناه بخبر الواحد
وقوله تعالى
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ }[الطلاق: من الآية6] أنكر أبو حنيفة مفهومه لما ذكرناه
ويجوز أن نوافق الشافعي في هذه المسألة وإن خالفناه في المفهوم من حيث أن انقطاع ملك النكاح يوجب سقوط النفقة إلا ما استثنى والحامل هي المستثنى فيبقى الحائل على أصل النفي وانتفت نفقتها إلا بالشرط لكن بانتفاء النكاح الذي كان علة النفقة
 السادسة: قوله عليه السلام:
"إنما الماء من الماء" "وإنما الشفعة فيما لم يقسم" "وإنما الولاء لمن أعتق" "وإنما الربا بالنسيئة" "إنما الأعمال بالنيات" وهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم على إنكاره وقالوا إنه إثبات فقط ولا يدل على الحصر

 

ج / 2 ص -212-       وأقر القاضي بأنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد إذ قوله تعالى{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: من الآية171]و{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: من الآية28]يشعر بالحصر ولكن قد يقول إنما النبي محمد وإنما العالم في البلد زيد يريد به الكمال والتأكيد
وهذا هو المختار عندنا أيضا
ولكن خصص القاضي هذا بقوله إنما ولم يطرده في قوله الأعمال بالنيات والشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والعالم في البلد زيد
وعندنا أن هذا يلحق بقوله إنما وإن كان دونه في القوة لكنه ظاهر في الحصر أيضا فإنا ندرك التفرقة بين قول القائل زيد صديقي وبين قوله صديقي زيد وبين قوله زيد عالم وبين قوله العالم زيد
وهذا التحقيق وهو أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ بل ينبغي أن يكون أعم منه أو مساويا له فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان ويجوز أن تقول الإنسان حيوان فإذا جعل زيدا مبتدأ وقال زيد صديقي جاز أن تكون الصداقة أعم من زيد وزيد أخص من الصديق لأن المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر أما إذا جعل الصديق مبتدأ فقال صديقي زيد فلو كان له صديق آخر كان المبتدأ أعم من الخبر والخبر أخص وكان كقوله اللون سواد والحيوان إنسان وذلك ممتنع وإن كان عكسه جائزا
فإن قيل:يجوز أن يقول صديقي زيد وعمرو أيضا والولاء لمن أعتق ولمن كاتب ولمن باع بشرط العتق ولو كان للحصر لكان هذا نقضا له قلنا هو للحصر بشرط أن لا يقترن به قبل الفراغ من الكلام ما يغيره كما أن العشرة لمعناها بشرط أن لا يتصل بها الاستثناء وقوله
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة: من الآية5] ظاهر في الجميع بشرط أن لا يقول إلا زيدا

 

ج / 2 ص -213-       السابعة: مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى كقوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ }[البقرة: من الآية222]
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}[البقرة: من الآية230] وقوله تعالى{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ }[التوبة: من الآية29] وقد أصر على إنكار هذا أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم وقالوا هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق
وأقر القاضي بهذا لأن قوله تعالى{
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}[البقرة: من الآية230] {حَتَّى يَطْهُرْنَ } ليس كلاما مستقلا فإن لم يتعلق بقوله { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ } وقوله { فَلا تَحِلُّ لَهُ } فيكون لغوا من الكلام وإنما صح لما فيه من إضمار وهو قوله حتى يطهرن فأقربوهن وحتى تنكح فتحل ولهذا يقبح الاستفهام إذا قال لا تعط زيدا حتى يقوم ولو قال أعطه إذا قام فلا يحسن إذ معناه أعطه إذا قام ولأن الغاية نهاية ونهاية الشيء مقطعة فإن لم يكن مقطع فلا يكون نهاية فإنه إذا قال اضربه حتى يتوب فلا يحسن معه أن يقول وهل أضربه وإن تاب؟
 وهذا وإن كان له ظهور ما ولكن لا ينفك عن نظر إذ يحتمل أن يقال كل ماله ابتداء فغايته مقطع لبدايته فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية فيكون الإثبات مقصورا أو ممدودا إلى الغاية المذكورة ويكون ما بعد الغاية كما قبل البداية
فإذا هذه الرتبة أضعف في الدلالة على النفي مما قبلها
الرتبة الثامنة: مفهوم الحصر بالنفي والإثبات:
 لا عالم في البلد إلا زيد وهذا قد أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا هذا نطق بالمستثنى عنه وسكوت عن المستثنى فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام فصار الكلام مقصورا على الباقي

 

ج / 2 ص -214-       وهذا ظاهر البطلان لأن هذا صريح في النفي والإثبات فمن قال لا إله إلا الله لم يقتصر على النفي بل أثبت لله تعالى الألوهية ونفاها عن غيره ومن قال لا عالم إلا زيد ولا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار فقد نفى وأثبت قطعا
وليس كذلك قوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء هذا صيغة الشرط ومقتضاها نفي المنفى عند انتفاء الشرط فليس منطوقا به بل تفسد الصلاة مع الطهارة لسبب آخر وكذلك النكاح مع الولي والبيع مع المساواة وهذا على وفق قاعدة المفهوم فإن إثبات الحكم عند ثبوت وصف لا يدل على إبطاله عند انتفائه بل يبقى على ما كان قبل النطق
وكذلك نفيه عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشيء بل يبقى على ما كان قبل النطق ويكون المنطوق به النفي عند الانتفاء فقط بخلاف قوله لا إله إلا الله ولا عالم إلا زيد لأنه إثبات ورد على النفي والاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وقوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط وقوله إلا بطهور ليس إثباتا للصلاة بل للطهور الذي لم يتعرض له في الكلام فلا يفهم منه إلا الشرط
مسألة: مفهوم اللقب
القائلون بالمفهوم أقروا بأنه لا مفهوم لقوله
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}[النساء: من الآية35]ولا لقوله إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها لأن الباعث على

 

ج / 2 ص -215-       التخصيص العادة لأن الخلع لا يجري إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا إذا أبى الولي
وكذلك القائلون بمفهوم اللقب قالوا لا مفهوم لقوله صبوا عليه ذنوبا من ماء وليستنج بثلاثة أحجار لأنه ذكرهما لكونهما غالبين وإذا كان يسقط المفهوم بمثل هذا الباعث فحيث لم يظهر لنا الباعث احتمل أن يكون ثم باعث لم يظهر لنا فكيف يبني الحكم على عدم ظهور الباعث لنا ؟
عود إلى مناقشة فائدة تخصيص الوصف بالذكر
فإن قيل:فلو انتفى الباعث المخصص في علم اللهتعالى واستوت الحاجة في المذكور والمسكوت واستويا في الذكر ولم يكن أحدهما منسيا فهل يجوز للنبي عليه السلام أن يخص أحدهما بالذكر ؟فإن جوزتم فهو نسبة له إلى اللغو والعبث وكان كقوله يجب الصوم على الطويل والأبيض فقلنا وهل يجب على القصير والأسود فقال نعم قلنا فلم خصصت هذا بالذكر فقال بالتشهي والتحكم فلا شك أنه ينسب إلى خلاف الجد ويصلح ذلك لأن يلقب به ليضحك منه كما يقول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فيكون ذلك هزؤا فثبت بهذا أن هذا دليل إن لم يكن باعث فإذا لم يظهر فالأصل عدمه أما إسقاط دلالته لتوهم باعث على التخصيص سوى اختصاص الحكم به فهو رفع للدلالة بالتوهم
قلنا ما ذكرتموه مسلم وهو أيضا جار في تخصيص اللقب واليهودي اسم

 

ج / 2 ص -216-       لقب ويستقبح تخصيصه ولا مفهوم للقب لأن ذلك يحسم سبيل القياس وإنما أسقط مفهوم اللقب لأنه ليس فيه دلالة من حيث اللفظ بل هو نطق بشيء وسكوت عن شيء فينبغي أن يقال فلم سكت عن البعض ونطق بالبعض فنقول لا ندري فإن ذلك يحتمل أن يكون بسبب اختصاص الحكم ويحتمل أن يكون بسبب آخر فلا يثبت الاختصاص بمجرد احتمال ووهم وكذلك تخصيص الوصف ولا فرق
فإذا لسنا ندرأ الدليل بالوهم بل الخصم يبني الدليل على الوهم فإنه ما لم ينتف سائر البواعث لا يتعين باعث اختصاص الحكم وتقدير انتفاء البواعث وهم مجرد وأما قول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فليس استقباحه للتخصيص بل لأنه ذكر ما هو جلي فإنه لو قال الإنسان إذا مات لم يبصر أو الحيوان إذا مات لا يبصر استقبح ذلك لأنه تعرض لما هو واضح في نفسه فإن تعرض لمشكل فلا يستقبح التخصيص في كل مقام كقوله العبد إذا وقع في الحج لزمته الكفارة فهذا لا يستقبح وإن شاركه الحر وكقوله الإنسان لا يتحرك إلا بالإرادة ولا يريد إلا بعد الإدراك فلا يستقبح وإن كان سائر الحيوان شاركه فيهما هذا تمام التحقيق في المفهوم وبه تمام النظر في الفن الثاني وهو اقتباس الحكم من اللفظ لا من حيث صيغته ووضعه بل من حيث فحواه وإشارته
ولم يبق إلا الفن الثالث وهو اقتباس الحكم من حيث معناه ومعقوله وهو القياس والقول فيه طويل
ونرى أن نلحق بآخر الفن الثاني القول في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكوته ووجه دلالته على الأحكام فإنه قد يظن أنه نازل منزلة القول في الدلالة

 

ج / 2 ص -217-       ثم بعد الفراغ منه نخوض في الفن الثالث وهو شرح القياس
القول في دلالة أفعال النبي عليه السلام وسكوته واستبشاره
وفيه ثلاثة فصول:
 الفصل الأول في دلالة الفعل
ونقدم عليه مقدمة في عصمة الأنبياء فنقول :
لما ثبت ببرهان العقل صدق الأنبياء وتصديق الله تعالى إياهم بالمعجزات فكل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بدليل العقل ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر والجهل بالله تعالى وكتمان رسالة الله والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ والتقصير في التبليغ والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه
 أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه ولا يتعلق بالرسالة فلا يدل على عصمتهم عنه عندنا دليل العقل بل دليل التوقيف والإجماع قد دل على عصمتهم عن الكبائر وعصمتهم أيضا عما يصغر أقدارهم من القاذورات كالزنا والسرقة واللواط
 أما الصغائر فقد أنكرها جماعة وقالوا الذنوب كلها كبائر فأوجبوا عصمتهم عنها والصحيح أن من الذنوب صغائر وهي التي تكفرها الصلوات الخمس

 

ج / 2 ص -218-       واجتناب الكبائر كما ورد في الخبر وكما قررنا حقيقته في كتاب التوبة من كتاب إحياء علوم الدين فإن قيل:لم لم تثبت عصمتهم بدليل العقل لأنهم لو لم يعصموا لنفرت قلوب الخلق عنهم ؟
قلنا:لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفر فقد كانت الحرب سجالا بينه صلى الله عليه وسلم وبين الكفار وكان ذلك ينفر قلوب قوم عن الإيمان ولم يعصم عنه وإن ارتاب المبطلون مع أنه حفظ عن الخط والكتابة كي لا يرتاب المبطلون وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ كما قال تعالى{
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ }[النحل: من الآية101] وجماعة بسبب المتشابهات فقالوا كان يقدر على كشف الغطاء لو كان نبيا لخلص الخلق من كلمات الجهل والخلاف كما قال تعالى{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]
وهذا لأن نفي المنفرات ليس بشرط دلالة المعجزة
هذا حكم الذنوب
أما النسيان والسهو فلا خلاف في جوازه عليهم فيما يخصهم من العبادات ولا خلاف في عصمتهم بما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة فإنهم كلفوا تصديقه جزما ولا يمكن التصديق مع تجويز الغلط
وقد قال قوم:يجوز عليه الغلط فيما شرعه بالاجتهاد لكن لا يقر عليه

 

ج / 2 ص -219-       وهذا على مذهب من يقول المصيب واحد من المجتهدين أما من قال كل مجتهد مصيب فلا يتصور الخطأ عنده في اجتهاد غيره فكيف في اجتهاده ؟!
أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم  وحكم كل منها :
رجعنا إلى المقصود وهو أفعاله عليه السلام
فما عرف بقوله أنه تعاطاه بيانا للواجب كقوله عليه السلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" أو علم بقرينة الحال أنه إمضاء لحكم نازل كقطع يد السارق من الكوع فهذا دليل وبيان
وما عرف أنه خاصيته فلا يكون دليلا في حق غيره
وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوصا به وبين أن يشاركه غيره فيه

 

ج / 2 ص -220-       ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر
وقال قوم :أنه على الحظر
وقال قوم:على الإباحة .
وقال قوم:على الندب
وقال قوم:على الوجوب إن كان في العبادات وإن كان في العادات فعلى الندب ويستحب التأسي به
وهذه تحكمات لأن الفعل لا صيغة له وهذه الاحتمالات متعارضة ونحن نفرد كل واحد بالإبطال:
الرد على القائلين بالتحريم  :
أما إبطال الحمل على الحظر فهو أن هذا خيال من رأى الأفعال قبل ورود الشرع على الحظر قال وهذا الفعل لم يرد فيه شرع ولا يتعين بنفسه لإباحة ولا لوجوب فيبقى على ما كان فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان وأخطأ في قوله بأن الأحكام قبل الشرع على الحظر وقد أبطلنا ذلك
ويعارضه قول من قال:إنها على الإباحة وهو أقرب من الحظر
ثم يلزم منه تناقض وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشيء وضده وهو تكليف المحال
الرد على القائلين بالإباحة :
أما إبطال الإباحة فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ولا سمع وإن أراد به أن الأصل في الأفعال نفي الحرج فيبقى على

 

ج / 2 ص -221-       ما كان قبل الشرع فهو حق وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة إذا لفعله
الرد على قول الندب :
أما إبطال الحمل على الندب :فإنه تحكم إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا
وقد تمسكوا بشبهتين :
الأولى: أن فعله يحتمل الوجوب والندب والندب أقل درجاته فيحمل عليه
قلنا: إنما يصح ما ذكروه لو كان الندب داخلا في الوجوب ويكون الوجوب ندبا وزيادة وليس كذلك إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب
وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب لا سيما في العبادات
أما في العادات فلا أقل من حمله على الإباحة لا بمجرد الفعل ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز ويستدلون به على الجواز ويدل هذا على نفي الصغائر عنه وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات لكن هذا أيضا ليس بقاطع إذ يحتمل أن يكون استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات وكلامنا في مجرد الأفعال دون قرينة ولا شك في أن ابن عمر لما رآه مستقبل بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء لأنه كان في البناء ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدي به فيه لأنه خلا بنفسه

 

ج / 2 ص -222-       فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء فتبين من هذا أنهم اعتقدوا وأن ما فعله مباح وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما يقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل
الثانية :التمسك بقوله
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: من الآية21] فأخبر أن لنا التأسي ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب
قلنا:الآية حجة عليكم لأن التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي فلا سبيل إلى التأسي به قبل معرفة قصده ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة
ثم نقول:إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا
الرد على من قال بالوجوب :
أما أبطال الحمل على الوجوب فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ولا نظر ولا بدليل قاطع فهو تحكم لأن فعله متردد بين الوجوب والندب وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا فلم يتحكم بالحمل على الوجوب ولهم شبه :

 

ج / 2 ص -223-       الأولى قولهم لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ومصلحة ولولاه لما أقدم عليه ولا تعيد به
قلنا:جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا وإنما الكلام في حقنا وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ومصلحة كان في حقنا كذلك بل لعله مصلحة بالإضافة إلى صفة النبوة أو صفة هو يختص بها ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات والواجبات والمحظورات بل اختلف المقيم والمسافر والحائض والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي والأمة
الثانية: أنه نبي وتعظيم النبي واجب والتأسي به تعظيم
قلنا:تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر وينهي لا في التربع إذا تربع ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به
الثالث: أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله وذلك تصغير لقدره وتنفير للقلوب عنه
قلنا:هذا هذيان فإن المخالفة في القول عصيان له وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله لأن قوله متعد إلى غيره وفعله قاصر عليه وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ولو كان ترك التشبه به تصغيرا له لكنا تركنا للوصال وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا
فاستبان أن هذه خيالات وأن التحقيق أن الفعل متردد كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد
الرابعة: تمسكهم بآي من الكتاب كقوله تعالى
: { فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: من الآية153]وأنه يعم الأقوال والأفعال وكقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }[النور: من الآية63]وقوله{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }[الحشر: من الآية7]وأمثاله

 

ج / 2 ص -224-       وجمع ذلك يرجع إلى قبول أقواله وغايته أن يعم الأقوال والأفعال وتخصيص العموم ممكن ولذلك لم يجب على الحائض والمريض موافقته مع أنهم مأمورون بالإتباع والطاعة
الخامسة وهي أظهرها: تمسكهم بفعل الصحابة وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة فقالت أخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فذبحوا وحلقوا مسارعين وإنه خلع خاتمه فخلعوا وبأن عمر كان يقبل الحجر ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك وبأنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قلبة الصائم فقال
"ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم" وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها "فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا" فرجعوا إلى ذلك
الجواب من وجوه:
الأول: أن هذه أخبار آحاد وكما لا يثبت القياس وخبر الواحد إلا بدليل

 

ج / 2 ص -225-       قاطع فكذلك هذا لأنه أصل من الأصول
الثاني: أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله وعباداته فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم تصر مخالفتهم في البعض دليل جواز المخالفة
الثالث: وهو التحقيق:أن أكثر هذه الأخبار تتعلق بالصلاة والحج والصوم والوضوء وقد كان بين لهم أن شرعه وشرعهم فيه سواء فقال
"صلوا كما رأيتموني أصلي" "وخذوا عني مناسككم" وعلمهم الوضوء وقال هذا "وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي".
وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله امتثال الواجب وبيانه فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة .
وكذلك في قبلة الصائم ربما كان قد بين لهم مساواة الحكم في المفطرات وأن شرعه شرعهم.
وكذلك في الأحداث قد عرفهم مساواة الحكم فيها ففهموا لا بمجرد حكاية الفعل كيف وقد نقل أنه عليه السلام قال
"إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"
وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم أو توهموا أنه لما ساواهم في سنة التختم فيساويهم في سنة الخلع
فإن قيل:الأصل أن ما ثبت في حقه عام إلا ما استثنى
قلنا:لا بل الأصل أن ما ثبت في حقه فهو خاص إلا ما عممه

 

ج / 2 ص -226-       فإن قيل:التعميم أكثر فلينزل عليه
قلنا: ولم يجب التنزيل على الأكثر ؟وإذا اشتبهت أخت بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ولا يجوز الأخذ به كيف والمباحات أكثر من المندوبات فلتلحق بها والمندوبات أكثر من الواجبات فلتلحق بها بل ربما قال القائل المحظورات أكثر من الواجبات فلتنزل عليها.
الفصل الثاني في شبهات متفرقة في أحكام الأفعال
الخطوات التي يتبعها المجتهد لاستفادة الأحكام من الأفعال:
الأولى
: قال قائل إذا نقل إلينا فعله عليه السلام فما الذي يجب على المجتهد أن يبحث عنه؟وما الذي يستحب؟
قلنا: لا يجب إلا أمر واحد وهو البحث عنه هل ورد بيانا لخطاب عام أو تنفيذا لحكم لازم عام فيجب علينا اتباعه أو ليس كذلك فيكون قاصرا عليه فإن لم يقم دليل على كونه بيانا لحكم عام فالبحث عن كونه ندبا في حقه أو واجبا أو مباحا أو محظورا أو قضاء أو أداء موسعا أو مضيقا لا يجب بل هو زيادة

 

ج / 2 ص -227-       درجة وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه
الثاني: اصناف ما يحتاج إلى بيان :
فإن قيل:كم أصناف ما يحتاج إلى البيان سوى الفعل
قلنا:ما يتطرق إليه احتمال كالمجمل والمجاز والمنقول عن وضعه والمنقول بتصرف الشرع والعام المحتمل للخصوص والظاهر المحتمل للتأويل ونسخ الحكم بعد استقراره ومعنى قول افعل أنه للندب أو للوجوب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو المرة الواحد والجمل المعطوفة إذا أعقبت باستثناء وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال والفعل من جملة ذلك
حكم الفعل البياني في حق النبي صلى الله عليه وسلم
فإن قيل:فإن بين لنا بفعله ندبا فهل يكون فعله واجبا ؟
قلنا: نعم هو من حيث أنه بيان واجب لأنه تبليغ للشرعه ومن حيث أنه فعل ندب
وذهب بعض القدرية إلى أن بيان الواجب واجب وبيان الندب ندب وبيان المباح مباح
ويلزم على ذلك أن يكون بيان المحظور محظورا فإذا كان بيان المحظور واجبا فلم لا يكون بيان الندب واجبا وكذلك بيان المباح وهي أحكام الله تعالى على عباده والرسول مأمور بالتبليغ وبيانه بالقول أو الفعل وهو مخير بينهما فإذا أتى بالفعل فقد أتى بإحدى خصلتي الواجب فيكون فعله واقعا عن الواجب

 

ج / 2 ص -228-       الرابع : مايعرف به أن الفعل بيان :
فإن قيل وبم يعرف كون فعله صلى الله عليه وسلم بيانا
قلنا: إما بصريح قوله وهو ظاهر أو بقرائن وهي كثيرة
إحداها: أن يرد خطاب مجمل ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة ثم فعل عند الحاجة والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان فيعلم أنه بيان إذا لم يكن لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة وذلك محال عقلا عند قوم وسمعا عند آخرين وكونه غير واقع متفق عليه لكن كون الفعل متعينا للبيان يظهر للصحابة إذ قد علموا عدم البيان بالقول أما نحن فيجوز أن يكون قد بين بالقول ولم يبلغنا فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان فقطع يد السارق من الكوع وتيممه إلى المرفقين بيان لقوله عز وجل
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: من الآية38) المائدة ولقوله تعالى{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء: من الآية43]
الثانية: أن ينقل فعل غير مفصل كمسحه رأسه وأذنيه من غير تعرض لكونهما مسحا بماء واحد أو بماء جديد ثم ينقل أنه أخذ لأذنيه ماء جديدا فهذا في الظاهر يزيل الاحتمال عن الأول ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد

 

ج / 2 ص -229-       وأن المستحب ماء جديدا فيكون أحد الفعلين على الأقل والثاني على الأكمل
الثالثة: أن يترك ما لزمه فيكون بيانا لكونه منسوخا في حقه أما في حق غيره فلا يثبت النسخ إلا ببيان الاشتراك في الحكم نعم لو ترك غيره بين يديه فلم ينكر مع معرفته به فيدل على النسخ في حق الغير
الرابعة: أنه إذا أتى بسارق ثمر أو ما دون النصاب.فلم يقطع فيدل على تخصيص الآية لكن هذا بشرط أن يعلم انتفاء شبهة أخرى تدرأ القطع لأنه لو أتى بسارق سيف فلم يقطعه فلا يتبين لنا سقوط القطع في السيف ولا في الحديد لكن يبحث عن سببه فكذلك الثمر وما دون النصاب
وكذلك تركه القنوت والتسمية والتشهد الأول مرة واحدة لا يدل على النسخ إذ يحمل على نسيان أو على بيان جواز ترك السنة وإن ترك مرات دل على عدم الوجوب وكذلك لو ترك الفخذ مكشوفا دل على أنه ليس من العورة
الخامسة: إذا فعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبا لأفسد الصلاة دل على الوجوب كزيادة ركوع في الخسوف وكحمل أمامة في الصلاة يدل على أن الفعل القليل لا يبطل وأنه فعل قليل هذا مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلي يكون بيانا في حقنا
السادسة: إذا أمر الله تعالى بالصلاة وأخذ الجزية والزكاة مجملا ثم أنشأ الصلاة وابتدأ بأخذ الجزية فيظهر كونه بيانا وتنفيذا لكن إن لم تكن الحاجة متنجزة بحيث يجوز تأخير البيان فلا يتعين لكونه بيانا بل يحتمل أن يكون فعلا أمر به خاصة في ذلك الوقت فإذا لا يصير بيانا للحكم العام إلا بقرينة أخرى

 

ج / 2 ص -230-       السابعة: أخذه مالا ممن فعل فعلا أو إيقاعه به ضربا أو نوع عقوبة فإنه له خاصة ما لم ينبه على أن من فعل ذلك الفعل فعليه مثل ذلك المال فإنه لا يمتنع لأنه وإن تقدم ذلك الفعل فلا يتعين لكونه موجب أخذ المال وأنه لا يمتنع وجود سبب آخر هو المقتضى للمال وللعقوبة
أما قضاؤه على من فعل فعلا بعقوبة أو مال كقضائه على الأعرابي بإعتاق رقبة فإنه يدل على أنه موجب ذلك الفعل لأن الراوي لا يقول قضى على فلان بكذا لما فعل كذا إلا بعد معرفته بالقرينة
الخامس : هل يقتدى بزمان الفعل أو مكانه:
فإن قيل:فإذا فعل فعلا وكان بيانا ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة ؟
فيقال:أما الهيئة والكيفية فنعم وأما الزمان والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها ولا مدخل له في الأحكام إلا أن يكون الزمان والمكان لائقا به بدليل دل عليه كاختصاص الحج بعرفات والبيت واختصاص الصلوات بأوقات لأنه لو اتبع المكان للزم مراعاة تلك الرواية بعينها ووجب مراعاة ذلك الوقت وقد انقضى ولا يمكن إعادته وما بعده من الأوقات ليس مثلا فيجب إعادة الفعل في الزمان الماضي وهو محال
وقد قال قوم إن تكرر فعله في مكان واحد وزمان واحد دل على الاختصاص وإلا فلا
وهو فاسد لما سبق ذكره

 

ج / 2 ص -231-       السادس : حكم التقرير
فإن قيل إن كان فعله بيانا فتقريره على الفعل وسكوته عليه وتركه الإنكار واستبشاره بالفعل أو مدحه له هل يدل على الجواز وهل يكون بيانا ؟
قلنا:نعم سكوته مع المعرفة وتركه الإنكار دليل على الجواز إذ لا يجوز له ترك الإنكار لو كان حراما ولا يجوز له الاستبشار بالباطل فيكون دليلا على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية ويجوز عليه الصغيرة ونحن نعلم إتفاق الصحابة على إنكار ذلك وإحالته
فإن قيل:لعله منع من الإنكار مانع كعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلذلك فعله أو بلغه الإنكار مرة فلم ينجح فيه فلم يعاوده ؟
قلنا:ليس هذا مانعا لأن من لم يبلغه التحريم فيلزمه تبليغه ونهيه حتى لا يعود ومن بلغه ولم ينجح فيه فيلزمه إعادته وتكراره كيلا يتوهم نسخ التحريم
فإن قيل:فلم لم يجب عليه أن يطوف صبيحة كل سبت وأحد على اليهود والنصارى إذا اجتمعوا في كنائسهم وبيعهم ؟
قلنا :لأنه علم أنهم مصرون مع تبليغه وعلم الخلق أنه مصر على تكفيرهم دائما فلم يكن ذلك مما يوهم النسخ بخلاف فعل يجري بين يديه مرة واحدة أو

 

ج / 2 ص -232-       مرات فإن السكوت عنه يوهم النسخ
الفصل الثالث في تعارض الفعلين
فنقول معنى التعارض التناقض
فإن وقع في الخبر أوجب كون واحد منهما كذبا ولذلك لا يجوز التعارض في الأخبار من الله تعالى ورسوله .
وإن وقع في الأمر والنهي والأحكام فيتناقض فيرفع الأخير الأول ويكون نسخا وهذا متصور
التعارض بين فعل وفعل:
وإذا عرفت أن التعارض هو التناقض فلا يتصور التعارض في الفعل لأنه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين فيمكن الجمع بين وجوب أحدهما وتحريم الآخر فلا تعارض
فإن قيل:فالقول أيضا لا يتناقض إذ يوجد القولان في حالتين وإنما يتناقض حكمهما فكذلك يتناقض حكم الفعلين
قلنا: إنما يتناقض حكم القولين لأن القول الأول اقتضى حكما دائما فيقطع القول الثاني دوامه والفعل لا يدل أصلا على حكم ولا على دوام حكم نعم لو أشعرنا الشارع بأنه يريد بمباشرة فعل بيان دوام وجوبه ثم ترك ذلك الفعل بعده

 

ج / 2 ص -233-       كان ذلك نسخا وقطعا لدوام حكم ظهر بالفعل مع تقدم الأشعار فهذا القدر ممكن
التعارض بين الأقوال والأفعال:
وأما التعارض بين القول والفعل فممكن بأن يقول قولا يوجب على أمته فعلا دائما وأشعرهم بأن حكمه فيه حكمهم ابتداء ونسخا ثم فعل خلافه أو سكت على خلافه كان الأخير نسخا
وإن أشكل التاريخ وجب طلبه وإلا فهو متعارض كما روي أنه قال في السارق وإن سرق خامسة فاقتلوه ثم أتى بمن سرق خامسة فلم يقتله فهذا إن تأخر فهو نسخ القول والفعل وإن تأخر القول فهو نسخ ما دل عليه الفعل
وقد قال قوم:إذا تعارضا وأشكل التاريخ يقدم القول لأن القول بيان بنفسه بخلاف الفعل فإن الفعل يتصور أن يخصه والقول يتعدى إلى غيره ولأن القول يتأكد بالتكرار بخلاف الفعل
فنقول: أما قولكم أن الفعل ليس بيانا بنفسه فمسلم ولكن كلامنا في فعل صار بيانا لغيره فلا يتأخر عما كان بيانا بنفسه

 

ج / 2 ص -234-       وأما خصوص الفعل فمسلم أيضا ولكن كلامنا في فعل لا يمكن حمله على خاصيته
وأما تأكيد القول بالتكرار :إن عني به أنه إذا تواتر أفاد العلم فهذا مسلم إذا توتر من أشخاص فليس ذلك تكرارا وتكراره من شخص واحد لا أثر له كتكرار الفعل
هذا تمام الكلام في الأفعال الملحقة بالأقوال وبيان ما فيها من البيان والإجمال
ولنشتغل بعدها بالفن الثالث من القطب وهو المرسوم لبيان كيفية دلالة الألفاظ على المدلولات بمعقولها ومعناها وهو الذي يسمى قياسا فلنخض في شرح كتاب القياس مستعينين بالله عز وجل