المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 2 ص -379-
القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد
ويشتمل هذا
القطب على ثلاثة فنون:
فن في الاجتهاد
وفين في التقليد
وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل
عند التعارض
ج / 2 ص -381-
الفن الأول في الاجتهاد
والنظر في أركانه وأحكامه
ج / 2 ص -382-
النظر ألاول: في أركان الاجتهاد
أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس
الاجتهاد
الركن الأول في نفس الاجتهاد
وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في
فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل
حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة
لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل
المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل
الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب
الركن الثاني المجتهد
وله شرطان:
أحدهما: أن يكون محيطا
بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه
وتأخير ما يجب تأخيره
والشرط الثاني: أن يكون عدلا
مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة وهذا
ج / 2 ص -383-
يشترط لجواز الاعتماد على فتواه فمن ليس
عدلا فلا تقبل فتواه أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول
للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد
فإن قيل: متى يكون محيطا بمدارك الشرع ؟وما تفصيل
العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد ؟
قلنا: إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف
المدارك المثمرة للأحكام وأن يعرف كيفية الاستثمار
والمدارك المثمرة للأحكام كما فصلناها
أربعة:الكتاب والسنة والإجماع والعقل
وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم:اثنان مقدمان
واثنان متممان وأربعة في الوسط فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على
دقائق أهملها الأصوليون
أما كتاب الله عز وجل فهو الأصل ولا بد من معرفته
ولنخفف عنه أمرين
أحدهما: إنه لا يشترط معرفة جميع
الكتاب بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية
الثاني: لا يشترط حفظها عن ظهر
قلبه بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في
وقت الحاجة
ج / 2 ص -384-
وأما السنة: فلا بد من معرفة الأحاديث التي
تتعلق بالأحكام وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة
وفيها التخفيفان المذكوران:إذ لا يلزمه معرفة ما
يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني:لا يلزمه
حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة
بالأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد البيهقي أو أصل وقعت
العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل
باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن
وأكمل
وأما الاجماع: فينبغي أن تتميز عنده مواقع
الاجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي
بخلافها
والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع
مواقع الإجماع والخلاف بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه
ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء
أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع
فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية
وأما العقل: فنعني به مستند النفي الأصلي للأحكام
فإن العقل قد دل على نفي
ج / 2 ص -385-
الحرج في الأقوال والأفعال وعلى نفي الأحكام
عنها من صور لا نهاية لها أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب
والسنة فالمستثناة محصورة وإن كانت كثيرة
فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي
والبراءة الأصلية ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص
فيأخذ في طلب النصوص
وفي معنى النصوص الإجماع وأفعال الرسول بالإضافة
إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه
هذه المدارك الأربعة
فأما العلوم الأربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار
فعلمان مقدمان:
أحدهما: معرفة نصب الأدلة
وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم
المدارك الأربعة
والثاني: معرفة اللغة والنحو على
وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة
ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف
وتثقيل
أما تفصيل العلم الأول:فهو أن يعلم أقسام الأدلة
وأشكالها وشروطها فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت
أدلة بوضع الشرع ووضعية وهي العبارات اللغوية
ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة
الأصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم
يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع ولم يعرف مقدمة الشارع ولا عرف من
أرسل الشارع
ثم قالوا لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى
محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه وأنه متعبد
عباده ببعثة الرسل وتصديقهم
ج / 2 ص -386-
بالمعجزات وليكن عارفا بصدق الرسول والنظر
في معجزته
والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه
الجملة اعتقاد جازم إذ به يصير مسلما والإسلام شرط المفتي لا محالة
فأما معرفته بطرق الكلام والأدلة المحررة على
عادتهم فليس بشرط إذا لم يكن في الصحابة والتابعين من يحسن صنعة الكلام
فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل
فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد فإنه لا يبلغ
رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف
الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله
وذلك محصل للمعرفة الحقيقية مجاوز بصاحبه حد التقليد وإن لم يمارس
صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض
في تصديق الرسول وأصول الإيمان لجاز له الاجتهاد في الفروع
أما المقدمة الثانية:فعلم اللغة والنحو:أعني
القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين
صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهة
ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه
والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل
والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو بل القدر الذي يتعلق
بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه
وأما العلمان المتممان:
فأحدهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة
وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة
والتخفيف فيه: أن لا يشترط أنيكون جميعه على حفظه
بل كل واقعة يفتي
ج / 2 ص -387-
فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك
الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ وهذا يعم الكتاب والسنة
الثاني: وهو يخص السنة معرفة
الرواية وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود فإن ما لا
ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه
والتخفيف فيه: أن كل حديث يفتى به مما قبلته
الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده وإن خالفه بعض العلماء فينبغي
أن يعرف رواته وعدالتهم فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن
مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه فهؤلاء قد تواتر عند الناس
عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر
الخبر فمانزل عنه فهو تقليد وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار
الصحيحين وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد
وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع
أحوالهم وسيرهم ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا وذلك طويل
وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير
والتخفيف فيه: أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد
أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل
به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه ولو
شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين فيقلد في
معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه
في التعديل .
فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة
التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي وإلا طال الأمر وعسر
الخطب في هذا الزمان مع كثرة
ج / 2 ص -388-
الوسائط ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب
الأعصار.
فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب
الاجتهاد
ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون:
علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه فأما
الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه
وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد
فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط نعم إنما
يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق تحصيل الدربة في هذا
الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق
الصحابة أيضا
ج / 2 ص -389-
دقيقة في التخفيف يغفل عنها اللأكثرون : تجزؤ الاجتهاد:
أيضا دقيقة في التخفيف يغفل عنها الأكثرون اجتماع
هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في
جميع الشرع
وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن
يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طريق النظر
القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث
فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول
الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم
المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي فلا استمداد لنظر هذه المسألة
منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور
عن معرفتها نقصا ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه
فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة: من الآية6]وقس عليه ما في معناه وليس من شرط المفتي أن
يجيب عن كل مسألة فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة
وثلاثين منها لا أدري وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في
المسائل فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما
يدري ويدري أنه يدري ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا
يدري ويفتي فيما يدري
ج / 2 ص -390-
الركن الثالث المجتهد فيه
والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي
واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام فإن
الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطىء آثم وإنما نعني بالمجتهد فيه ما
لا يكون المخطىء فيه آثما
ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه
الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل
الاجتهاد
فهذه هي الأركان
فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان
ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي
وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا فلم
يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة فنرسم
فيه مسألتين
مسألة الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في
زمان الرسول عليه السلام فمنعه قوم وأجازه قوم وقال قوم يجوز للقضاة
والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم
والذين جوزوا: منهم من قال يجوز بالأذن ومنهم من
قال يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم اختلف المجوزون في وقوعه
ج / 2 ص -391-
والمختار: أن ذلك جائز في حضرته وغيبته وأن
يدل عليه بالأذن أو السكوت لأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا
يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله
لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم
على قاطع لبغوا وعصوا
فإن قيل: الاجتهاد مع النص محال وتعرف الحكم
بالنص بالوحي الصريح ممكن فكيف يردهم إلى ورطة الظن ؟
قلنا فإذا قال لهم أوحي إلي أن حكم الله تعالى
عليكم ما أدى إليه اجتهادكم وقد تعبدكم بالاجتهاد فهذا نص وقولهم
الاجتهاد مع النص محال مسلم ولكن لم ينزل نص في الواقعة وإمكان النص لا
يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص كيف وقد تعبد النبي صلى الله عليه
وسلم بالقضاء بقول الشهود حتى قال إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة
حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن وخوف الخطأ
فأما وقوعه فالصحيح أنه قام الدليل على وقوعه في
غيبته بدليل قصة معاذ فأما في حضرته فلم يقم فيه دليل
فإن قيل فقد قال لعمرو بن العاص أحكم في بعض
القضايا فقال إجتهد وأنت حاضر فقال نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت
فلك أجر
ج / 2 ص -392-
وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة
اجتهدوا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة
قلنا: حديث معاذ مشهور قبلته الأمة وهذه أخبار
آحاد لا تثبت وأن ثبتت احتمل أن يكون مخصوصا بهما أو في واقعة معينة
وإنما الكلام في جواز الاجتهاد مطلقا في زمانه
مسألة : اجتهاد النبيى صلى الله عليه وسلم
اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز
له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه والنظر في الجواز والوقوع
والمختار: جواز تعبد بذلك لأنه ليس بمحال في ذاته
ولا يفضي إلى محال ومفسدة
فإن قيل: المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم
بالوحي الصريح فكيف يرجم الظن ؟
قلنا: فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد
وأنت متعبد به فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه
فيما تعبد به ؟!
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم نص قاطع يضاد
الظن والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان ؟
قلنا: إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن
الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ وكذلك اجتهاد غيره عندنا ويكون كظنه
صدق الشهود فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن
ج / 2 ص -393-
فإن قيل: فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل
حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه
قلنا:لو تعبد بذلك لجاز ولكن دل الدليل من
الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة
وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم
والحاكم لأن صلاح الخلق في اتباع دل على تحريم مخالفة الأمة كافة وكما
دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم لأن صلاح الخلق في
اتباع رأي الإمام والحاكم وكافة الأمة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم
ومن ذهب إلى أن المنصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه
معصوما عن الخطأ دون غيره ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه
فإن قيل كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده
وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد ؟
قلنا:إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم
وإن خالف ظن النبي صلى الله عليه وسلم كان اتباعه في امتثال ما رسمه
لهم كما في القضاء بالشهود فإن لو قضي النبي بشهادة شخصين لم يعرف
فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما
وأما التنفير فلا يحصل بل تكون مخالفته فيه
كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا
ج / 2 ص -394-
فإن قيل: لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد
القياس على فرعه أم لا ؟إن قلتم لا فمحال لأنه صار منصوصا عليه من جهته
وإن قلتم نعم فكيف يجوز القياس على الفرع ؟
قلنا: يجوز القياس عليه وعلى كل فرع أجمعت الأمة
على إلحاقه بأصل لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم وما
ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل
هل وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالاجتهاد:
أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف
فيه فريق ثالث وهو الأصح فإنه لم يثبت فيه قاطع
احتج القائلون به: بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام
في أسارى بدر وقيل
{مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ}[لأنفال: من الآية67] وقال النبي عليه السلام "ولو نزل عذاب ما نجا
منه إلا عمر" لأنه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب
قلنا: لعله كان مخيرا بالنص في إطلاق الكل أو قتل
الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بتعيين الإطلاق على سبيل المنع عن
غيره فنزل العتاب مع الذي عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
لكن ورد بصيغة الجمع والمراد به أولئك خاصة
ج / 2 ص -395-
واحتجوا:بأنه لما قال لا يختلي خلاها ولا
يعضد شجرها قال العباس إلا الأذخر فقال صلى الله عليه وسلم إلا الأذخر
وقال في الحج :"هو للأبد ولو قلت لعامنا لوجب"
ونزل منزلا للحرب فقيل له:إن كان بوحي فسمعا
وطاعة وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة فقال بل باجتهاد ورأي فرحل
قلنا: أما الأذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا
يستثنى الأذخر إلا عند قول العباس أو كان جبريل عليه السلام حاضرا
فأشار عليه بإجابة العباس
وأما الحج فمعناه :لو قلت لعامنا لما قلته إلا
عن وحي ولوجب لا محالة
وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا وذلك
جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين
أحتج المنكرون لذلك بأمور :
أحدها: أنه لو كان مأمورا به
لأجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي
الثاني: أنه لو كان مجتهدا لنقل
ذلك عنه واستفاض
الثالث أنه: لو كان لكان ينبغي
أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي
ج / 2 ص -396-
قلنا: أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم
ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه
وأما الاستفاضة بالنقل فعلعه لم يطلع الناس عليه
وإن كان متعبدا به أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان
ينزل النص فيكون كمن تبعد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد فلم يملك
فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا
وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها فقد
اتهم بسب النسخ كما قال تعالى{قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}[النحل:
من الآية101] ولم يدل ذلك على استحالة النسخ
كيف وقد عورض هذا الكلام بجنسه فقيل:لو لم يكن
متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين ولكان ثواب المجتهدين أجزل من
ثوابه ؟
وهذا أيضا فاسد: لأن ثواب تحمل الرسالة والأداء
عن الله تعالى فوق كل ثواب
فإن قيل: فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب
الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد
قلنا: لا محيل لذلك ولا يفضي إلى محال ومفسدة ولا
بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو
كان الأمر مبينا على الصلاح
ومنع القدرية هذا وقالوا: إن وافق ظنه الصلاح في
البعض فيمتنع أو يوافق الجميع
وهذا فساد لأنه لا يبعد أن يلقى الله في اجتهاد
رسوله ما فيه صلاح عباده هذا هو الجواز العقلي
ج / 2 ص -397-
أما وقوعه فبعيد وإن لم يكن محالا بل الظاهر
أن ذلك كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل
ج / 2 ص -398-
النظر الثاني في أحكام الاجتهاد
والنظر في حق المجتهد
في تأثيمه
وتخطئته وإصابته وتحريم
التقليد عليه
وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد
أحكام النظر الأول في تأثيم المخطىء في الاجتهاد
والإثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين
إذا تمم الاجتهاد في محله فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله
فثمرته حق وصواب والإثم عن المجتهد منفي
والذي نختاره:أن الإثم والخطأ متلازمان فكل مخطىء
آثم وكل آثم مخطىء ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ
ج / 2 ص -399-
فلنقدم حكم الإثم أولا: فنقول:
النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية:
فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها والمخطىء في
القطعيات آثم :
والقطعيات ثلاثة أقسام:كلامية وأصولية وفقهية :
أما الكلامية: فنعني بها العقليات المحضة والحق
فيها واحد ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات
المحدث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم
بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وجميع ما الكلام
فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة
وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك
حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع فهذه المسائل الحق فيها واحد ومن
أخطأه فهو آثم فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر
وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله كما في
مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث
عدل عن الحق وضل ومخطىء من حيث أخطأ الحق المتيقن ومبتدع من حيق قال
قولا مخالفا للمشهورين السلف ولا يلزم الكفر
وأما الأصولية: فنعني بها كون الإجماع حجة وكون
القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع
المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير
إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر
ومن جملته اعتقاد
ج / 2 ص -400-
كون المصيب واحدا في الظنيات فإن هذه مسائل
أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطىء
وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام
في جملة الأصول
وأما الفقهية:فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس
والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم
قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم
ثم ينظر:فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع
كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر لأن هذا
الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع وإن علم قطعا بطريق النظر لا
بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات
المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطىء
فإن قيل كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري
ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول وصدق الرسول نظري ؟
قلنا:نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو
ضرورة أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة
المصدقة ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به فإن أنكره فذلك لتكذيبه
الشارع ومكذبه كافر فلذلك كفرناه به أما ما عدا من الفقهيات الظنية
التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد فليس فيها عندنا حق معين
ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله .
فخرج من هذا أن النظريات قسمان:قطعية وظنية
فالمخطىء في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال
المصيب فيها واحد ولا عند من قال كل مجتهد مصيب هذا هو مذهب الجماهير
ج / 2 ص -401-
وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع
بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطىء آثم
وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول
بالفروع وقال العنبري كل مجتهد في الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين
وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطىء فيها معذور غير آثم كما في
الفروع
فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل:
مسألة:مخالفة أهل الكتاب للإسلام
ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من
اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم وإن
نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم وإن لم ينظر من حيث لم يعرف
وجوب النظر فهو أيضا معذور وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط لأن الله
تعالى{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة: من الآية233]وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم
خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة
وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به
وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل
بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى
بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ولذلك قاتل جميعهم
وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند
ج / 2 ص -402-
العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين
اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه
والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى كقوله تعالى{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ}[صّ: من الآية27] وقوله تعالى{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ }[فصلت: من الآية23]وقوله تعالى{إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثـية:
من الآية24[ وقوله تعالى{وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ}[المجادلة:
من الآية18]وقوله تعالى{فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}[البقرة:
من الآية10] أي شك
وعلى الجملة: ذم الله تعالى والرسول عليه السلام
المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة
وأما قوله "كيف يكلفهم ما لا يطيقون" قلنا: نعلم
ضرورة أنه كلفهم أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه بل نيه الله
تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من
الرسل
المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول وحركوا
دواعي النظر حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل
مسألة: الاجتهاد في العقليات:
ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد
مصيب في العقليات كما في الفروع
فنقول له: إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم
عليه وهو منتهى مقدورهم في
ج / 2 ص -403-
الطلب فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا
وشرعا كما سبق رده على الجاحظ وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما
اعتقده فنقول كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا
وتصديق الرسول وتكذيبه حقا وليست هذه الأوصاف وضعية كالأحكام الشرعية
إذ يجوز أن يكون الشيء حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك أما
الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها
فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ فإنه أقر بأن
المصيب واحد ولكن جعل المخطىء معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية
لأنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة
للاعتقادات فهذا أيضا لو ورد بهالشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ
وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب
فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية
التي لا يلزم فيها تكفير كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن
وإرادة الكائنات لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها
متعارضة وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه
السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه فكانوا فيه مصيبين ومعذورين
فنقول: أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا
لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون
القرآن قديما ومخلوقا
ج / 2 ص -404-
أيضا بل أحدهما والرؤية محالا وممكنا أيضا
والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته أو يكون القرآن مخلوقا في
حق زيد قديما في حق عمرو بخلاف الحلال والحرام فإن ذلك لا يرجع إلى
أوصاف الذوات
وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطىء معذور غير
آثم فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع واتفاق سلف الأمة على
ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك
التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه
فهذا من حيث الشرع دليل قاطع وتحقيقه أن اعتقاد
الشيء على خلاف ما هو به جهل والجهل بالله حرام مذموم والجهل بجواز
رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول
قدرته في التعلق بجميع الحوادث كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي
أن يكون حراما ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا
للشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا
فإن قيل: يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية
وبالجهل في الأمور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الأمير في الدار وليس
فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها
قلنا أما الفقهيات فلا يتصور الجهل فيها إذ ليس
فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل
فيها أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب والمستند فيه
الإجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل
بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله
فإن قيل إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على
العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل
متعارضة
ج / 2 ص -405-
قلنا وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات
النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة ولكنه لم ينته
الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل فكذلك في هذه
المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا
نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها
مسألة إثم المجتهد في الفروع
ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن
المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو
آثم كما في العقليات لكن المخطىء قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة
وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها وقد يقتصر على مجرد
التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية
وأبو بكر الأصم ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية وقالوا لا مجال
للظن في الأحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما
استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع وما
لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه
ج / 2 ص -406-
وإنما استقام هذا لهم لإنكارهم القياس وخبر
الواحد وربما أنكروا أيضا القول بالعموم والظاهر المحتمل حتى يستقيم
لهم هذا المذهب وما ذكروه هو اللازم على قول من قال المصيب واحد
ويلزمهم عليه منع المقلد من استفتاء المخالفين
وقد ركب بعض معتزلة بغداد رأسه في الوفاء بهذا
القياس وقال يجب على العامي النظر وطلب الدليل
وقال بعضهم: يقلد العالم أصاب المقلد أم أخطأ
ويدل على فساد هذا المذهب دليلان :
الأول: ما سنذكره في تصويب
المجتهدين ونبين أن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع ولا فيها حكم معين
والأدلة الظنية لا تدل لذاتها وتختلف بالإضافة فتكليف الإصابة لما لم
ينصب عليه دليل قاطع تكليف ما لا يطاق وإذا بطل الإيجاب بطل التأثيم
فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ينتج نفي الإثم ولذلك يستدل
تارة بنفي الإثم على نفي التكليف كما يستدل في مسألة التصويب ويستدل في
هذه المسألة بانتفاء التكليف على انتفاء الإثم فإن النتيجة تدل على
المنتج كما يدل المنتج على النتيجة
الدليل الثاني: إجماع الصحابة
على ترك النكير على المختلفين في الجد والأخوة ومسألة العول ومسألة
الحرام وسائر ما اختلفوا فيه من الفرائض وغيرها فكانوا يتشاورون
ويتفرقون مختلفين ولا يعترض بعضهم على بعض ولا
ج / 2 ص -407-
يمنعه من فتوى العامة ولا يمنع العامة من
تقليده ولا يمنعه من الحكم باجتهاده وهذا متواتر تواترا لا شك فيه وقد
بالغوا في تخطئة الخوارج وما نعي الزكاة ومن نصب إماما من غير قريش أو
رأى نصب إمامين بل لو أنكر منكر وجوب الصلاة والصوم وتحريم السرقة
والزنا لبالغوا في التأثيم والتشديد لأن فيها أدلة قاطعة فلو كان سائر
المجتهدات كذلك لأثموا وأنكروا
فإن قيل: لهم لعلهم أثموا ولم ينقل إلينا أو
أضمروا التأثيم ولم يظهروا خوف الفتنة والهرج
قلنا:العادة تحيل اندراس التأثيم والإنكار لكثرة
الاختلاف والوقائع بل لو وقع لتوفرت الدواعي على النقل كما نقلوا
الإنكار على ما نعي الزكاة ومن استباح الدار وعلى الخوارج في تكفير علي
وعثمان وعلى قاتلي عثمان ولو جاز أن يتوهم إندراس مثل هذا لجاز أن يدعي
أن بعضهم نقض حكم بعض وأنهم اقتتلوا في المجتهدات ومنعوا العوام من
التقليد للمخالفين أو للعلماء أو أوجبوا على العوام النظر أو اتباع
إمام معين معصوم
ثم نقول:تواتر إلينا تعظيم بعضهم بعضا مع كثرة
الاختلافات إذ كان توقيرهم وتسليمهم للمجتهد العمل باجتهاده وتقريره
عليه أعظم من التوقير والمجاملة والتسليم في زماننا ومن علمائنا ولو
اعتقد بعضهم في البغض التعصية والتأثيم بالاختلاف لتهاجروا ولتقاطعوا
وارتفعت المجاملة وامتنع التوقير والتعظيم
فأما امتناعهم من التأثيم للفتنة فمحال فإنهم حيث
اعتقدوا ذلك لم تأخذهم في الله لومة لائم ولا منعهم ثوران الفتنة
وهيجان القتال حتى جرى في قتال مانعي الزكاة وفي واقعة علي وعثمان
والخوارج ما جرى فهذا توهم محال
فإن قيل فقد نقل الإنكار والتشديد والتأثيم حتى
قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل
أبا الأب أبا؟ وقال أيضا من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف
والثلثين وقالت عائشة رضي
ج / 2 ص -408-
الله عنها أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط
جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب
قلنا: ما تواتر إلينا من تعظيم بعضهم بعضا
وتسليمهم لكل مجتهد أن يحكم ويفتي ولكل عامي أن يقلد من شاء جاوز حدا
لا يشك فيه فلا يعارضه أخبار آحاد لا يوثق بها
ثم نقول: من ظن بمخالفه أنه خالف دليلا قاطعا
فعليه التأثيم والإنكار وإنما نقل إلينا في مسائل معدودة ظن أصحابها أن
أدلتها قاطعة فظن ابن عباس أن الحساب مقطوع به فلا يكون في المال نصف
وثلثان وظنت عائشة رضي الله عنها أن حسم الذرائع مقطوع به فمنعت مسألة
العينة وقد أخطأوا في هذا الظن فهذه المسائل أيضا ظنية ولا يجب عصمتها
عن مثل هذا الغلط أما عصمة جملة الصحابة عن العصيان بتعظيم المخالفين
وترك تأثيمهم لو أثموا فواجب
الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة
وقد اختلف الناس فيها واختلفت الرواية عن
الشافعي وأبي حنيفة
وعلى الجملة: قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في
الظنيات مصيب .
وقال قوم: المصيب واحد
ج / 2 ص -409-
واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة
التي لا نص فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد ؟ فالذي ذهب إليه
محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن
بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه وهو
المختار وإليه ذهب القاضي
وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه
إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك
كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه
أدى ما كلف فأصاب ما عليه
وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن
فيه حكما معينا لله تعالى لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليلا أم لا :
فقال قوم: لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يعثر
الطلب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لأجل
سعيه وطلبه
والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن
عليه دليلا قاطعا أو ظنيا فقال
ج / 2 ص -410-
قوم: وهو قاطع ولكن الأثم محطوط عن المخطىء
لغموض الدليل وخفائه ومن هذا تمادي بشر المريسي في إتمام هذا القياس
فقال إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطىء كما في سائر القطعيات وهو تمام
الوفاء بقياس مذهب من قال المصيب واحد
ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا
في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل:
فقال قوم لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه
فلذلك كان معذورا ومأجورا
وقال قوم: أمر بطلبه ،وإذا أخطأ لم يكن مأجورا
لكن حط الأثم عنه تخفيفا هذا تفصيل المذاهب
والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطىء المخالف
فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى .
وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين:
الطرف الأول: مسألة فيها نص
للشارع وقد أخطأ مجتهد النص فنقول ينظر فإن كان النص مما هو مقدور على
بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطىء وآثم بسبب
تقصيره لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله
تعالى عليه
أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن
لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما
في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار
حكما في حقه ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة وذلك
أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى
جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره
ج / 2 ص -411-
بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا لأن
خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته
فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت
المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا
مخطئين إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه
فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على
استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين لأنهم ليسوا
مقصرين
وكذلك نقل عن ابن عمر أنا كنا نخابر أربعين سنة
حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة فليس ذلك خطأ منهم قبل
البلوغ لأن الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية
فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا
نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها
فإن قيل:فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم
المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه
قلنا: عليه دليل قاطع أو دليل ظني؟فإن كان عليه
دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث
وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية
وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع ولو
كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم فإن
الدليل القاطع في مثل هذه
ج / 2 ص -412-
المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه
يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل أفيقولون لم يعثر
عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق ؟أو عرفه
بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا
النص الصريح وما يجري مجراه وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها
ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم
ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير
دليل قاطع تكليف محال فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ
فإن قيل عليه دليل ظني بالاتفاق فمن أخطأ الدليل
الظني فقد أخطأ
قلنا الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها بل
يختلف ذلك بالإضافات فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن
لعمرو مع إحاطته به وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال بل قد
يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان
كل واحد لو انفرد لأفاد الظن
ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض
وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء إذ
قال:الدنيا بلاغ كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله حيث قال
عمر كيف تساوي بين الفاضل والمفضول ورأى عمر التفاوت ليكون ذلك ترغيبا
في طلب الفضائل ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق
والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله
عنهما ولم يفده غلبة الظن وما
ج / 2 ص -413-
رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن
ولا مال قلبه إليه وذلك لاختلاف أحوالهما
فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد
النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في
نفسه إلا ذلك ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات
إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن
تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه
ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب
اختلاف الظنون فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواعا من الأدلة يتحرك
بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا
إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق فمن غلب عليه الغضب مالت
نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك
ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة
فالامارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما
يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل فإنه موجب لذاته
فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب
التصديق ضرورة بالنتيجة
فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق وما يسمى
دليلا فهو على سبيل التجوز بالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه
ج / 2 ص -414-
فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة
الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة
وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة
فإن قيل: لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية
وإنما لم يؤثم المخطىء لغموض الدليل؟
قلنا: الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى
مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر فإن كان درك الحق المتعين
معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له
ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به وإن كان مقدورا
على عسر فلا يخلوا إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف
كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر .
فإن بقي التكليف مع العسر .فتركه مع القدرة إثم
كالصبر على قتل الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصى
إذا تركه لأن التكليف لم يزل بهذا العسر وكذلك صبر المرأة على الضرات
وحسن التبعل مع أن ذلك جهاد شديد على النفس ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها
وعجزها وكذلك التمييز بين الدليل والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة
المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض ومن أخطأ فيه أثم بل كفر
واستحق التخليد في النار
وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسران أمر به
فالمخطىء آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق بل بحسب غلبة الظن فقد أدى
ما كلف وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه بل هو بصدد أن
يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع
فإذا:الحاصل أن الإصابة محال أو ممكن ولا تكليف
بالمحال ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم ومحال أن يقال هو مأمور به لكن
إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا لأن هذا يناقض حد الأمر والإيجاب
إذ حد الإيجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم
وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد
النزاع إلى عبارة وهو
ج / 2 ص -415-
إن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه وذلك مسلم
ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر
ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من
السماء ونطق به الرسول صلى الله عليه وسلم كما في تحويل القبلة ومسألة
المخابرة أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا
واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه
بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن
المجتهد
وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه
عند الله عز وجل
الأدلة العقلية للقائلين بالتخطئة:
ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع
الشبهة الأولى: قولهم:هذا المذهب
في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو أن يكون قليل
النبيذ مثلا حلالا حراما والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل
كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين
مصيب فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب
وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال:هذا مذهب أوله
سفسطة وآخره زندقة لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر
يرفع الحجر ويخير المجتهد
ج / 2 ص -416-
بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير
المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده
والجواب: أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل
بالأصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم ظان أن الحل والحرمة وصف للأعيان
فيقول يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما كما يستحيل أن يكون الشيء
قديما حادثا وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال
المكلفين ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو كالمنكوحة تحل للزوج
وتحرم على الأجنبي وكالميتة تحل للمضطر دون المختار وكالصلاة تجب على
الطاهر وتحرم على الحائض وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في
حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد فإذا تطرق التعدد
والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول الصلاة في
الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه
فإذا اختلاف الأحوال ينفي التناقص ولا فرق بين أن
يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو
غلبة الظن فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا
جهل كونه محدثا ولو قال الشارع يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة
ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن
الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما
وكذلك لو صرح الشارع وقال من غلب على ظنه أن
النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه
فقد حللته له لم يتناقض
ج / 2 ص -417-
فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن
متناقضا ولا محالا ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول
كلفتك العثور على ما لا دليل عليه أو يقول كلفتك العثور على ما عليه
دليل لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم فيكون الأول محالا من جهة تكليف
ما لا يطاق ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الأمر إذ حد الأمر ما
يعصى تاركه
الجواب الثاني: أن نقول لو سلمنا
أن الحل والحرمة وصف للأعيان أيضا لم يتناقض إذ يكون من الأوصاف
الإضافية ولا يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا وأبنا لكن لشخصين وأن
يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لإثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين
كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر
الجواب الثالث: هو أن التناقض ما
ركبه الخصم فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان المريسي أن كل مجتهد يجب
عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ويعصي بتركه فالمجتهدان في القبلة
يجب على أحدهما استبقال جهة يحرم على الآخر استقبالها فإن المصيب لا
يتميز عن المخطىء فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر
الشبهة الثانية: قولهم:إن سلمنا
لكم أن هذه المذهب ليس بمحال في نفسه لو صرح الشرع به فهو مؤد إلى
المحال في بعض الأمور وما يؤدي إلى المحال فهو محال
فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم
عنده دليلان فيتحير عندكم
ج / 2 ص -418-
بين الشيء ونقيضه في حالة واحدة وأما في حق
صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها أنت بائن وراجعها
والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة
والرجعة فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطء ويجب عليها مع تسلط الزوج
عليها منعه
وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي فإن
كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين وهذا محال
ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى
والاعتراض: على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى
شخصين فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد
والجواب من أوجه:وحاصله أنه لا إشكال في هذه
المسائل ولا استحالة وما فيه من الأشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله
بهذا المذهب:
أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان قلنا فيه
رأيان
أحدهما: وهو الذي ننصره في هذه
المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر لأنه مأمور باتباع غالب
الظن ولم يغلب على ظنه شيء فقولنا فيه قولكم فإنه وإن كان أحدهما حقا
عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه وهذا يقطع مادة الإشكال
وعلى رأيي نقول يتخير بأي دليل شاء
وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها
ج / 2 ص -419-
أما الثانية فقولنا فيها أيضا قولكم فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز
عن المخطىء ويجب على المخطىء في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه
مخطئا إذا لا يتميز عن صاحبه فقد أوجبوا عليها المنع وأباحوا للزوج
الطلب فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا فسيقولون إنه ليس بمحال
وهو جوابنا الثاني.
ووجهه: أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة
الطلب للزوج ولا إيجابه بل للسيد أن يقول لأحد عبديه أوجبت عليك سلب
فرس الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك منعه ودفعه ويقول لهذا إن لم تسلب
عاقبتك ويقول للآخر إن لم تحفظ عاقبتك وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب
غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر ويجب على ولي
الطفل المنسوب إلى الاتلاف إذا عاين صدور الاتلاف من غير الطفل أو علم
كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر
مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده
نعم هذا السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من
التعليمية وغيرهم إذ يقولون أصل الاجتهاد باطل لأدائه إلى هذا النوع من
التناقض وجوابه ما ذكرناه
ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا
فنقول إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع وسعي الإنسان في هلاك نفسه أو
إهلاك غيره حرام بالقواطع فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا
بسد رمق أحدهما ولو قسماه أو تركاه ماتا ولو أخذه أحدهما هلك الآخر ولو
وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص فإن
أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الأخذ على هذا وأوجب الدفع على ذاك
فإن أوجب عليهما
ج / 2 ص -420-
الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا وإن خص
أحدهما بالأخذ فهو تحكم وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الأخذ والترك
فقد سلط هذا على الأخذ وذاك على الدفع فإن أحدهما لو اختار الأخذ
واختار الآخر الدفع جاز وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون ؟!
والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد
فإنه إنما يجب الأخذ إذا لم يهلك غيره وإنما يجب الترك والإيثار إذا لم
يهلك نفسه فإذا تعارضا تخيرا
ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين
وأما المسألة الثانية: إذا نشب
الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين
أحدهما: أن يقول:يلزمهما الرفع
إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على
اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى
من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم
فيقضي بينهما فإن لم يفعلا أثما وعصيا .
وكل ذلك احتمالات فقهية ويحتمل أن يتركا متنازعين
ولا يبالي بتمانعهما فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض
وأما المسألة الثالثة: وهي أن
تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي
يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه والنكاح الثاني بعده باطل قطعا لأنها
صارت زوجة للأول وإن كان الحنفي عقده بإجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي
فذلك أوكد فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه وإن صدر العقد من شفعوي
على خلاف معتقده احتمل أمرين :أحدهما: أن نقطع ببطلانه فإنا إنما نجعله
حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي وهذا
قد عصى فهو مخطىء ويحتمل أن يقال ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه
فلا تحل لغيره لأنه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه فلا
يعقد نكاح آخر قبل نقضه
وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة
الجار أو بصحة النكاح بلا ولي فهل يؤثر قضاؤه في الإحلال باطنا ؟
ج / 2 ص -421-
فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور
يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد
وغلا قوم فقالوا: لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على
ما كان عليه وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد
وقال قوم:يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا
ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة
وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شيء منها فنختار
منها ما نشاء فلا يتناقض ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه
الاختيارات الفقهية فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب
الشبهة الثالثة: تمسكهم بطريق
الدلالة بقولهم لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة
والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر لأن صلاة كل واحد صحيحة
فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي
إذا ترك الفاتحة أيضا صحيحة لأنه بناها على الاجتهاد فلما اتفقت الأمة
على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد
والجواب: أن الاتفاق في هذا غير مسلم فمن العلماء
من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب وهو منقدح لأن كل مصل يصلي لنفسه
ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها
فكيف يمتنع الاقتداء ولو بان كون الإمام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة
ولو سلمنا فنقول: إنما يجوز الاقتداء بمن صحت
صلاته في حق المقتدي وللمقتدي أن يقول صلاة الإمام صحيحة في حقه لأنها
على وفق اعتقاده فاسدة في حقي لأنها على خلاف اعتقادي فظهر أثر صحتها
في كل ما يخص
ج / 2 ص -422-
المجتهد أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة
الباطل والاقتداء يتعلق بالمقتدي فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها
في حق نفسه وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره
والدليل عليه أن الإمام وإن صلى بغير فاتحة
فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق إذ الشافعي لا يقطع بخطئه فلم فسد اقتداؤه
بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة
بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال فلا سبب لها
إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده
ونحن نقول:هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في
حق إمامه وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه
الشبهة الرابعة: قولهم:إن صح
تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع لأن مقصود
المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه فلم يدع إلى الانتقال بل
ينبغي أن يقال ما اعتقدته فهو حق فلازمه فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك
فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة ولا يبقى لشيء من ذلك وجه مع
التصويب
والجواب أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء
يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال لظنهم أن المصيب واحد بل لاعتقادهم
في أنفسهم أنهم المصيبون وأن خصمهم مخطىء على التعيين أما المحصلون فلا
يتناظرون في الفروع لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها
لستة أغراض:
أما الوجوب ففي موضعين:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع
من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق
مناط الحكم ولو عثر عليه
ج / 2 ص -423-
لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة
والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصي بالغفلة عنه
الثاني:
أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب
الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن
طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة
وأما الندب ففي مواضع
الأول: أن يعتقد فيه أنه معاند
فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا فيناظر
ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد
الثاني: أن ينسب إلى الخطأ وأنه
قد خالف دليلا قاطعا فيعلم جهلهم فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في
الأول معصية التهمة
الثالث: أن ينبه الخصم على طريقه
في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عنده
عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه
الرابع: أن يعتقد أن مذهبه أثقل
وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى
الأفضل ومن الحق إلى الأحق
الخامس: أنه يفيد المستمعين
معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة
الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في
القربات
السادس: وهو الأهم وهو أن يستفيد
هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق
فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتباض وتشحيذ الخاطر
وتقوية المنة في طلب الحقائق
ج / 2 ص -424-
ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في
البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو
فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول
الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه
طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في
بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة
فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء
المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال ويفتون بأنه يجب على خصمهم
العمل بما غلب على ظنه وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم
وهل في عالم الله تناقض أظهر منه
فهذه شبههم العقلية
الأدلة النقلية للقائلين بالتخطئة :
أما الشبه النقلية فخمس
الأولى: تمسكهم بقوله تعالى{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما}[الانبياء77:78] وهذا يدل على اختصاص سليمان بمدرك الحق وأن الحق
واحد
الجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه من أين صح أنهما
بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه
سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام
ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد ؟
ج / 2 ص -425-
الثاني: أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال { وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً }
والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما ومن قضى بخلاف حكم الله
تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما
في معرض المدح والثناء
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }
قلنا لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ
إلى داود
الجواب الثالث: التأويل وهو أنه
يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل
الوحي على وفق اجتهاد سليمان فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على
سليمان بخلافه لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه
ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذ نقل المفسرون أن
سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها
وصوفها حولا كاملا وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في
جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع وذلك يدركه علام الغيوب ولا
يعرف بالاجتهاد
ج / 2 ص -426-
الشبهة الثانية:قوله تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: من الآية83] وقوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ }[آل
عمران: من الآية7]فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط
وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما: أنه ربما أراد به الحق
فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات القطعيات إذ منها ما يعلم
بطريق قاطع نظري مستنبط
والثاني: أنه ليس فيه تخصيص بعض
العلماء فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط
وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي
استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض
الشبهة الثالثة: قوله عليه
السلام:إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فدل أن فيه
خطأ وصوابا وقد ادعيتم استحالة الخطأ في الاجتهاد
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذا هو القاطع على أن
كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطىء الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف
يستحق الأجر
الثاني: هو أنا لا ننكر إطلاق
اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم
يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطىء ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا
فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود
وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال:أخطأ أي
ج / 2 ص -427-
أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى
مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها
فإن قبل: ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف
وأداء ما كلفا سواء ؟
قلنا:لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل
للمخطىء أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك
منه تفضل
ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه
والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل
التكليف والامتثال وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص وفي كل اجتهاد يتعلق
بتحقيق مناط الحكم كأروش الجنايات وقدر كفاية الأقارب فإن فيها حقيقة
متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها وهو جار في المسائل
التي لا نص فيها عند من قال في كل مسألة حكم متعين وأشبه عند الله
تعالى وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى
الشبهة الرابعة: تمسكهم بقوله
تعالى{وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }[آل عمران: من الآية103]{ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا }[لأنفال: من الآية46]{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا }[آل عمران: من الآية105]وكذلك
{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} } [هود: من الآية118الى الآية119]والإجماع منعقد على الحث على
الإلفة والموافقة والنهي عن الفرقة فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين
الله مختلف{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيرا}[النساء:
من الآية82 ]
والجواب من أوجه:
الأول: أن اختلاف الحكم باختلاف
الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض
والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار
الثاني: أن الأمة مجمعة على أنه
يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل
ج / 2 ص -428-
واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره والأمر
باتباع المختلف أمر بالاختلاف فهذا ينقلب عليكم إشكاله وإنما يصح هذا
السؤال من منكري أصل الاجتهاد
الثالث: وهو جواب منكري أصل
الاجتهاد أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة
أن يصلوا إلى جهات مختلفة مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز
في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر ولما جاز للمضطرين إلى
ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا ولما جاز الاجتهاد في أروش
الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب وكل ما سميناه بتحقيق مناط
الحكم وذلك كله ضروري في الدين
وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه بل المنهي عنه
الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة
الشبهة الخامسة: قولهم:حسمتم
إمكان الخطأ في الاجتهاد والصحابة مجمعون على الحذر من الخطأ حتى
قالأبو بكر رضي الله عنه أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله
وإن كان خطأ فمن الشيطان وقال علي لعمر رضي الله عنهما إن لم يجتهدوا
فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطأوا أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا
وأما الدية فعليك
ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه هذا ما
أرى الله عمر فقال امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك خطأ فمن عمر وقال
في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن لمبالغة في المهر حيث ذكرت
القنطار في الكتاب أصابت امرأة وأخطأ عمر وقال ابن مسعود في المفوضة إن
كانت خطأ فمني ومن الشيطان بعد أن اجتهد شهرا
ج / 2 ص -429-
الجواب: إنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس أن
يصدر الاجتهاد من غير أهله أو لا يستتم المجتهد نظره أو يضعه في غير
محله بل في موضع فيه دليل قاطع أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما
ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس وإنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس
قطعا لا ظنا فجميع هذا محال الخطأ .
وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم
في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع ثم مع ذلك كله يثبت
اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق
مناط الأحكام
فمن ذكره من الصحابة فإما إن كان اعتقد أن الخطأ
ممكن وذهب مذهب من قال المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف
دليلا قاطعا غفل عنه أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه أو يخاف أن
لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال
إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون أنا مؤمن بالله إن شاء
الله مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم
ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة
ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي
ذكرناها
ج / 2 ص -430-
مسألة الخطأ والإصابة في الاجتهاد القول في
نفي حكم معين في المجتهدات
أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل
مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطىء
أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى
إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه الله لأنه لا بد للطالب من مطلوب
وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين
عند الله
والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو
أنا نقول المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد
أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة
الشرع لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان
عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه فهذا مطلوب
المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم أما إذا لم يكن إليه طريق
متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر فقد
بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه لكنه عرضة أن يصير
حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه
على وجه يأثم من لا يصيبه
فمن قال: في هذه المسائل حكم معين لله تعالى
وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ
وتيسر الطريق ليس حكما في
ج / 2 ص -431-
حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق وإن أراد به
غيره فهو باطل
أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم
فيها لأن حكم الله تعالى خطابه وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول صلى
الله عليه وسلم أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو
سكوته فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة فإذا لم يكن
خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم فقليل النبيذ إن اعتقد
فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه وهذا خطاب
والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون
ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ومتى خوطبوا ولم
ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع
سوى النطق فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به كما لا يعقل
ج / 2 ص -432-
علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ويستحيل
أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع
فإن قيل: عليه أدلة ظنية
قلنا: قد بينا أن تسمية الأمارات أدلة مجاز فإن
الأمارات لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة فمما لا يفيد الظن
لزيد فقد يفيد لعمرو وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه وقد
يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين فلا يكون طريقا إلى المعرفة ولو كان
طريقا لعصى إذا لم يصبه فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الأمارات
مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شيء
واستحسان المصالح كاستحسان الصور فمن وافق طبعه
صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه
بالقبح حيث ينفر عنه فالأسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم فهي أمور إضافية
ليس لها حقيقة في نفسها فلو قال قائل الأسمر حسن عند الله أو قبيح
قلنا:لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقته لبعض الطباع ومخالفته
لبعضها وهو عند الله كما هو عند الناس فهو عند الله حسن عند زيد قبيح
عند عمرو إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد ولا معنى لقبحه إلا
مخالفته لطبع عمرو
وكذلك تحريك الرغبة للفضائل والتفاوت في العطاء
هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه وهو بعينه ليس موافقا لأبي
بكر رضي الله عنه بل الحسن
ج / 2 ص -433-
عند أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها
فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف
الغطاء وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف
للأعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات
فإن قيل: نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا
دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع لكن نعني بالأشبه فيما هو قبلة
للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله وربما كان الشارع يقوله لو
رجع في تلك المسألة .
قلنا:هذا هو الحكم بالقوة وما كان ينزل لو نزل
إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما فقد ظهر أنه لا حكم ومن
أخطأ لم يخطىء الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير
الله انزله ولم يجر في تقديره فلا معنى له
ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في
تقديره وإصابة المجتهدين جميعا فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين
المذهبين وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال أو ينزل تخطئة كل من قطع
القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين فإن هذه التجويزات لا
تنحصر فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما بل
يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول
فيها بحكم معين فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا
نفيا أو إثباتا
احتجوا بأن قالوا:إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة
الطلب فإنه يستدعي مطلوبا فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا
يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه ومن اعتقد أن العالم خال عن
وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه ؟فإذا اعتقد
الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب
أحدهما ؟
ج / 2 ص -434-
قلنا: فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب
حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب
بل إنما يطلب غلبة الظن وهو كمن كان على ساحل البحر وقيل له إن غلب على
ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب
وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك
بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم
فإن قيل: هذا في البحر معقول لأنه ينظر في أمارات
الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة والإباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا
لا مطلوب سوى الحكم قلنا:من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين ونحن
نكشف ذلك بالأمثلة فنقول لو قلنا: للشارع ما حكم الله تعالى في العطاء
الواجب التسوية أو التفضيل فقال حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في
التسوية هو التسوية وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم
عليهم قبل تحصيل الظن إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على
راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان
وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحدهما
التصديق وعلى الآخر التكذيب
وكذلك إذا قلنا: ما حكمه في قليل النبيذ؟ فقال
حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لأنه يدعوه إلى كثيره
والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله
تعالى قبل هذا الظن
وكذلك إذا قلنا: ما حكم الله في قيمة العبد أتضرب
على العاقلة أم على
ج / 2 ص -435-
الجاني؟فقال: حكم الله تعالى على من ظن أنه
بالحر أشبه الضرب على العاقلة وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على
الجاني
وكذلك نقول: ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص
والبطيخ فقال حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لأنه
مطعوم تحريم البطيخ دون الجص وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص
دون البطيخ
فإن قيل: فما علة تحريم ربا البر عند الله أهي
الطعم أم الكيل أم القوت؟
فنقول: كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون
علة لذاتها بل معنى كونها علة أنها علامة فمن ظن أن الكيل علامة فهو
علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا كالقدم
والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة
بل هو أمر وضعي والوضع يختلف بالإضافة وقد وضعته كذلك
فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول وجانب الخصم لو
صرح به كان محالا وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب ولا يتعلق بمخاطب
ومكلف فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به لكن لا طريق له
إلى معرفته فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق أو يقول له طريق إلى
معرفته وقد أمر به لكنه لا يعصي بتركه فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد
حد الاجماع
ج / 2 ص -436-
المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل
بموجب اجتهاده فكيف يجب عليه مع ذلك ضده ؟وكيف يكون مأمورا باستقبال
القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى ؟بل بالإجماع لو خالف
اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه
القضاء
فاستبان أن ذلك المذهب محال لو وقع التصريح به .
ومذهبنا معقول يمكن التصريح به . فيجب تنزيل الاجتهاد الشرعي على
الممكن دون المحال
ج / 2 ص -437-
فصل
به تمام كشف القناع عن غموض المسألة ، ألحقناه
بعد الفراغ من تصنيف الكتاب وانتشار النسخ
ويتبين الغرض من هذا الفصل بأسئلة :
الأول: إن قال قائل : إذا استقر رأيكم على أن بعض
المجتهادت ليس فيها حكم معين . صار الطلب محالا .لان المتيمم إذا علم
يقيناًُ أن ليس حواليه ماء : والحكم هو مطلوب المجتهد ، كما أن الماء
مطلوب المتيمم
قلنا : المتيمم إن جوز أن يكون حواليه ماء ، وأن
لا يكون ، يتصور منه الطلب ، كما يتصور إذا علم يقينا أن حواليه ماء
لكن لم يعرف مكانه ، فكذلك المجتهد يجوز في كل مسألة أن يكون الحكم
باقيا على النفي الأصلي ، أو متغيرا عنه بنص قاطع ، أو إجماع ، أو ما
في معنى النص والإجماع ، قطعا أو مافي معناهما ظنا . ولولا تجويزه حكما
معيناً. لما تصور منه الطلب . فما من مسألة يبتدئ الاجتهاد فيها إلا
ونجوز فيها حكماً معيناً
فالأحوال ثلاثة : وجود الحكم ،وأن يعلم انتفاءه ،
وأن يجوز وجوده وانتفاءه وهذه. الحالة الثالثة في معنى الحالة
الأولى:في تصحيح الطلب ، لا في معنى الحالة الثانية ، كما في طلب الماء
. ثم بالآخرة قد يعلم أن لا ماء حواليه ، فكذلك قد يعلم أن ليس في
المسألة دليل قاطع ، فليس فيها حكم معين .
ج / 2 ص -438-
فإن قيل: فالطلب إن لم يكن واجبا فلم يشتغل
به ؟وإن كان واجبا فلم لا يعصي إذا لم يصب الحكم ؟
قلنا: لأن الطلب واجب ، والوصول المحقق ليس
بواجب لأن الطلب مقدور ، والوصول المحقق الموافق لعلم الله تعالى غير
مقدور، والوصول المظنون مقدور ، كما في الطلب القبلة .
فإن قيل: سلمنا لكم أن من أخطاء النص حيث لا يقدر
على الوصول إليه فهو خطأ بالإضافة إلى ما طلب ، لا بالإضافة إلى ما وجب
. ولسنا نعني بتخطئة أحد المجتهدين إلا أحدهما ، فإن لم يكن فيه حكم
معين ، فيلزم تخطئة المجتهدين جميعاًَ.
وبيان هذا بحصر مجال نظر المجتهدين ، وهي عشرة :
الأول: العموم ، كقوله عليه
السلام : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فالشارع إن أراد إدارج ]جلد[ الكلب
فالشافعي مخطئ ، وإن أراد إخراج ]جلد[فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد لا
هذا ولا هذا ، بل لم يخطر الكلب بباله ، فهما مخطئان ، فإن أحدهما يقول
: أراد إدراجه وقصد العموم ، والآخر يقول : أراد إخراجه .
الثاني: الظاهر : مثله قول النبي
صلى الله عليه وسلم لفيروز الديلمي ، وقد أسلم على أختين :"أمسك
إحداهما وفارق الأخرى" فإن أراد به ابتداء النكاح فالشافعي مخطئ ، وإن
أراد به الاستصحاب فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد لاهذا ولا ذاك فهو
محال متناقض ، إذا يلزم منه تخطئة الفريقين ، فيقول الشافعي : ما أراد
الابتداء ، ويقول أبو حنيفه : أراد الابتداء للنكاح .
الثالث: المفهوم مثاله قول النبي
صلى الله عليه وسلم :"الثيب أحق بنفسها" فإن أراد نفي
ج / 2 ص -439-
الحق عن البكر فإبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يرد
فالشافعي مخطئ . ولا بد أن يريد أحداهما ، أما احتمال فمحال .
الرابع: الاستدال بقول الصحابي
إذا خالف القياس ، قال أبو حنيفة مخطئ .
الخامس: طلب الأصلح ، كقول أبي
بكر رضي الله عنه : يسوي الإمام في العطاء ، لأنه أصلح ،إذ الدنيا
بلاغ. وقال عمر: بل يفاوت ، تحريكا للرغبة في الفضائل .لأنه أصلح : إن
كان الأصلح عند الله تعالى التسوية ، فعمر رضي الله عنه مخطئ . وإن كان
التفاوت أصلح فأبو بكر مخطئ ، فإن استويا في الصلاح عند الله تعالى
فهما مخطئان ، إذ كل واحد منهما يقول هذا أصلح .
السادس: طلب الأشبه : كقول
الشافعي العبد بل الفرس أشبه ، فيضمن بكمال قيمته ، قول أبي حنيفة : هو
بالحر أشبه . فإن كان عند الله تعالى بالحر أشبه ، فالشافعي مخطئ ، وإن
كان بالفرس أشبه فأبو حنيفة مخطئ ، وإن لم يكن بأحدهما أشبه بل يشبه
هذا كما يشبه هذا ، فهما مخطئان
السابع: النظر في تخريج مناط
الحكم واستنباطه ، كقول أبي حنيفة : الماء جعل مزيلا للنجاسة لأنه
يزيل العين والأثر ، فهو العلة والمناط ، والشافعي يقول : بل هو خاصية
الماء فلا علة ولا مناط . فإن قصد الشارع تخصيص الماء بخاصية فأبو
حنيفة مخطئ وإن قصد تعليقه بمعنى الإزالة فالشافعي مخطئ . وإن لم يقصد
لا هذا ولا ذاك فهما مخطئان
الثامن: تنقيح مناط الحكم : كقول
النبي صلى الله عليه وسلم :"من جامع فعليه ما على المظاهر" فإن
الكفارة وجبت على المجامع في نهار رمضان بطريان
ج / 2 ص -440-
الجماع ،لكن لكونه جماعا ، أو إفساد للصوم ؟
فإن علقه الشارع بالجماع فمالك مخطئ ، إذ يعلقه بكل إفطار . وإن علقه
بالإفساد فالشافعي مخطئ إذ علقه بكونه جماعاً.
والفرق بين تخريج مناط الحكم وبين تنقيحه كما
ذكرناه في أول كتاب القياس ،فإن الحكم إذا رتب على الجماع وهو فعل
حادث ، صار منوطاً بالوصف الطارئ ، ومضافا إليه قطعاً ويقع النظر في
تنقيح المناط وتجريده عن بعض الأوصاف .
أما ذكر حكم الماء في إزالة النجاسة ، وحكم الخمر
في الإسكار ،وحكم البر في الربا : فإلحاق الخل بالماء ،والنبيذ بالخمر
والبطيخ بالبر مبني على استنباط المناط وتخريجه . والمانع من الإلحاق
ينكر أصل العلة والمناط ويقول: الشارع صلى الله عليه وسلم ذكر حكماً ،
ومحلة ، ولم يذكر علته .
التاسع: تعيين المناط ،كعتق
بريرة. إذ يقول الشافعي : خيرت لما عليها من الضرر في المقام تحت عبد ،
ويقول أبو حنيفه :بل لزوال الرق القاهر ، إذ زوجت بغير رضاها والآن قد
صارت من أهل الرضا . والعلتان مختلفتان في الأمة إذا أعتقت تحت حر .فإن
كان باعث الشرع في بريرة دفع ضرر العبد فأبو حنيفة مخطئ ، وإن كان
الباعث زوال قهر الرق فالشافعي مخطئ . وإن لم يكن لا هذا باعثا فهما
مخطئان .وفرق بين تنقيح المناط ،فإن تعيين المناط كالخلاف في أن علة
الربا الطعم أو الكيل ، ولا يدخل شيء من الطعم في الكيل. والنظر في
التنقيح يبقي شيئا متفقا عليه بين الفريقين ، ويرد الخلاف إلى تفصيله ،
كالنظر في النفقة المبثوثة ،فإنه ينبني على أن النكوحة لم تستحق
النفقة، ولا خلاف في أن النكاح علة استحقاق النفقة ، لكن باعتبار كونه
مفيدا للحل ، أو الملك ، أو سلطنة ما أو ليس للحل ، بدليل استحقاق
الرجعية ، وليس للملك ، بدليل الكافر إذا أسلم على عشرة نسوة ، فإنه
ينفق على جميعهن قبل الاختبار ولا ملك في
ج / 2 ص -441-
الإسلام إلا على أربع ، لكن له سلطان تقرير
النكاح على كل واحدة منهن ، فهي محبوسة تحت سلطنة .
فيقول أبو حنيفة: المعتدة البائنة ]كذا[ أيضاً
تحت سلطنة النكاح ، فإن هذه العدة من اثر النكاح . وكونه عاجزاً عن
إسقاط هذه السلطنه أبلغ في تأكيد الحق . بل الكافر إذا أسلم أيضاً لا
يقدر على إسقاط سلطنة الاختبار . فيرجع الخلاف إلى أن النكاح معتبر
باعتبار أي علاقة وأي أثر ، مع الاتفاق على أنه لابد من النكاح ، فإن
المعتدة بالشبهة لا تستحق ، لأن عدتها ليست أثر نكاح .
والشافعي يقول: هو باعتبار سلطنة تقرير النكاح ،
وذلك موجود في الذي أسلم ،وفي الرجعية .
ويقول أبو حنيفة: ليس ذلك معتبراً ،بدليل ما لو
كان له زوجتان ،فقال : إن كان هذا الطائر غراباً فزينب طالق ، وإن لم
يكن غرابًا فعمرة طالق ، وغاب الطائر ولم يعرف ، فإنه يلزمه نفقتهما ،
والمنوكوحة إحداهما . ولكن واحدة محبوسة بسببه .
فيقول الشافعي: لاتجب للحبس ، بل للنكاح ، فإن كل
واحدة كانت منكوحة يقيناً والشك في الطلاق شك في النفقة ، فلا تسقط
نفقتها بالشك
والمقصود: أنهما مع الإتفاق على اعتبار أصل مشترك
وهو النكاح ، اختلفا في تعيين آثار ذلك المعنى ، لا كالمختلفين في
الطعم والكيل ، فإنهما معنيان متباينان لا يدخل أحدهما في الآخر
وكأن هذا الكلام خارج عن غرضنا . وقد سنح عرضاً ،
فذكرناه
العاشر: النظر في التحقيق المناط
في الفرع: كما لو كانت العلة ملخصة معلومة في الاصل ، لكن وقع الشك في
تحققها في الفرع، كالتردد في أن رائحة النجاسة إذا أزيلت عن الماء
الكثير بطرح التراب فيه ، أنه هل يعود طاهراً: لأنه لو زال بهبوب الريح
وطول المكث طهر ، ولو زال بالقاء المسك والزعفران لم
ج / 2 ص -442-
يطهر لأن ستر لا إزالة ، وإذا زال ففيه خلاف
منشؤه أن التراب مزيل أو ساتر ؟ عند الله تعالى فقد أخطاء من قال لا
يطهر ، وإن كان ساتراً عند الله تعالى : فقد أخطاء الآخر ،ولابد من
أحد الأمرين.
ومن أمثلة تحقيق المناط الخلاف في أن رماد الزبل
طاهر أم لا . والعين النجسة إذا استحالت طهرت ، كالبيضة المذرة إذا
استحالت فرخاً ، وكالزبل إذا تولد منه حيوان أو نبات ، وإن تغير لم يعد
طاهراً . والرماد زبل متغير أو هو عين أخرى استحال إليها الزبل كما
يستحيل الكلب في المملحة ملحاً ؟ فعلة الاصل ها هنا معلومة ، والخلاف
في تحققها في الفرع .
فهذه مثارات جولان نظر المجتهدين استوفيناها
للإحاطة بمجمعها ، ولبيان أنه لابد من تعين حق عند الله تعالى في
جميعها ، فإن لم يتعين فيلزم تخطئة المجتهدين جميعها
وهذه العشرة العموم ،والظاهر ، والمفهوم ، وقول
الصحابي ، وطلب الصلح ،وطلب الأشبه ، والنظر في تخريج المناط أو تنقيحه
أو تعيينه أو تحقيقه . ولايعدو نظر المجتهدين هذه الجملة أو مايناسبها
.
والجواب: أن نقول: إنكم إذا قنعتم بحق موضوع لم
يبلغ المكلف ولم يؤمر بطلبه حتى يلزم منه خطا مجازي ، فهو مسلم في كل
مسألة يدور الأمر فيها بين النفي والإثبات ، كالنظر في تحقيق المناط في
الفرع ، وكالنظر في المفهوم، وقول الصحابي ، فهذه المسائل لابد فيها
لابد فيها من أحد قسمين ، وهو حق موضوع
ج / 2 ص -443-
متعين ،كالقبلة في حق المجتهدين فيها .
لكن من المسائل ما لا يتعين فيها حكم بحيث يتميز
أحد المجتهدين عن الآخر في الخطاء المجازي أيضا ، كالعموم ، وتخريج
المناط وطلب الأشبه والأصلح
بيانه أنا لو سألنا الشارع عن قوله :"أيما إهاب
دبغ فقد طهر" إنك أردت إدراج الكلب أو إخراجه جاز أن يقول :أردت
الإدخال ، أو أردت الإخراج ،أو :لم يخطر ببالي الكلب ، و لا الإخراج ،
لكن يقول: احكم الله على من سبق إلى فهمه من اللفظ
واللفظ لايدل بعينه ، بل بالمواضعة :
واللفظ باعتبار المواضعة ثلاثة:
نص صريح: لا احتمال فيه ، كالخمسة ، لاتحتمل
الستة والأربعة . فمن فهم منه غير الخمسة فهو مخطئ ، لأن دلالته قاطعة
.
ولفظ مجمل: كالقرء ، والعين ،فلا يفهم إلا مع
قرينة معينة أو قياس . وتلك المعاني تختلف بالإضافة إلى الطباع و
الأحوال .
ولفظ محتمل: أحد احتماليه أظهر ، ويسمى ظاهراً
وليست دلالته نصاً قاطعاً بل ربما أفهم في حق زيد ما لا يفهم في حق
عمرو ، ولأن المقياس والمعاني قرائن تنتهض في تفهم أحد معنييه ،وتلك
القرائن تختلف بالإضافة ،فيختلف الفهم .فالظاهر من هذا كالمجمل لا
كالنص ،لكن موافقة اللفظ لأصل الوضع قرينة مرجحة ، بشرط انتفاء قرينة
أخرى ترجح جانب التجوز عن الوضع .فاللفظ صالح للحقيقة والمجاز جميعاً،
لا كلفظ الستة فإنه لا يصلح للخمسة لا مجازاًَ ولا حقيقة .
ج / 2 ص -444-
فيقول الشارع: الحكم ها هنا تابع لهم ،
والفهم في الستة تابع للحكم ، لأن دلالته على الحكم قاطعة . ونقول :
كما أن الحكم مادام عند جبريل عليه السلام لم يصير حكماً في الارض حتى
ينزل إلى الأرض ، فإذا نزل إلى الأرض . وكان في قلب الرسول صلى الله
عليه وسلم ،لم يصر حكماً مالم يتلفظ به ، فإذا نزل تلفظ به لم يصير
حكماً بالفعل، وقبل ذلك كان حكما بالقوة . فيقول الشارع : لاحكم لله
تعالى في مسألة الدباغ قبل الوقوع في الفهم: فمن طبعه كطبع الشافعي ،
يفهم أن الدباغ لا يزيد على الحياة ، فيكون ذلك هو الحكم في حقه ومن
طبعه ابي حنيفة: يفهم العموم ، فهو الحكم في حقه.
فلو صرح الشارع به كان معقولا، ولم يتميز أحدهما
عن الاخر في صواب ولا خطاء ، إذ ليس فيه حكم موضوع قبل نظرهما .
وكذلك يقول في قول ه عليه السلام أمسك أربعا :
إني أردت الإمساك أو الابتداء لامحالة . ولكن مالكم ولإرادتي ولا سبيل
لكم إلى معرفتها ، إنما تعبدتم بما يصل إلى فهمكم .
وهذا اللفظ أفهم الحاضرين مع قرينة شاهدوها ، أما
أنتم معاشر التابعين ومن بعدهم فقد اندرست في حقكم القرينة ، وبقي مجرد
اللفظ ، وليس مفهماً أحد المعنيين تفهيما قاطعا ، بل من طبعه طبع
الشافعي في استحقار القياس يفهم منه ما يوافق الوضع ، وهو الإمساك ،
ومن طبعه طبع أبي حنيفة في التفاته إلى قياس الرضاع الطارئ على النكاح
، يفهم من هذا في فهمه من هذا اللفظ ابتداء النكاح . وحكم الله تعالى
على كل واحد ما القاه في فهمه من هذا اللفظ ، لا ما في ضمير الشارع
،وسبيل لهم إلى معرفة حقيقته .
وكذلك في مسألة الأصلح: يجوز أن يكون كل واحد
منهما مثل الآخر في الصلاح ولا يتميز أحدهما عن الآخر في خطاء وإصابة .
ج / 2 ص -445-
وكذلك قد يقول الشارع: الماء يزل النجاسة ،
ولا يخطر له قصد الخصوص ، و لاقصد التعليق بعلة تعم الخل ، لكن يقول:
من ظن أن التعليق بالعلة ، كان الحكم في حقه أن الخل يطهر ، ومن لا فلا
. فيكون الحكم تابعاً
وقد ينظر المجتهدان في الطلب الأحسن ، ويختلفان
فيه ، فلا يكون عند الله تعالى أحسن ، لأنه أمر إضافي . أما الأصلح
فإنه أمر ذاتي ، ولا بد عند الله تعالى من أن يكون أحدهما أصلح ، أو
يتساويان في الصلاح.
ومسألة الأشبه يحتمل أن يقال إنه من قبيل الأحسن
، فليس عند الله تعالى فيه شئ ، لأن الأشبه إنما يكون في حق الجاهل
ببواطن الأمور ، فلا يكون في حق الله تعالى أشبه . ففي هذه المسألة
لايتميز أحد المجتهدين عن الآخر لا بالخطأ المجازي ولا بالخطأ الحقيقي
.
فصل:
فإن قالوا : :فإذا اعترفتم بالخطأ المجازي ،
وقنع الخصم به فإلى ماذا يرجع الخلاف ؟ وماذا كان سعيكم في تدقيق هذه
المسألة وتحقيقها ؟
قلنا: أما من قنع بالخطأ المجازي فسعينا معه في
أمرين :
أحدهما: أن نبين أن من الأقسام
ما.ليس فيه خطأ مجازي أيضاً ، كمسألة الأحسن والأشبه .
والثاني: أن نبين أن الخطأ
المجازي ليس بخطأ ،بل هو كذب وخلف ، إذ لو كان خطأ لوجب نسبة الرسول
إلى الخطأ ، إذا قضى لأحدهم بشئ من مال أخيه ولو جب تخطئة أهل الإجماع
، وتخطئة المجتهدين جميعاً ، كما قالوه ولا خلاف في عصمة الرسول والأمة
عن الخطأ . فغايتنا أن نلحق المجتهد بالرسول وبالأمة . وقد فعلنا ذلك ،
وبينا أن الخطأ المجازي ليس بخطأ
ج / 2 ص -446-
وأما من أثبت خطأ حقيقياً فقد ابطلنا ذلك
عليه بما مهدناه من الأصول .
وترجع تلك الأصول إلى عشرة :
الأول: بيان أن الأدلة الظنية
إضافية لا حقيقية ، بخلاف الأدلة العقلية .
الثاني: أن العلل الشرعية علامات
إضافية ، فيجوز أن يكون الكيل من حهة الله تعالى علامة منصوبة في حق أب
حنيفة ، والطعم علامة في حق الشافعي .
الثالث: التميز بين ماهو حكم
بالقوة ، وبين ماهو حكم بالفعل .
الرابع: أن الحلال والحرم ليسا
من أوصاف الأعيان حتى يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالاً حراماً في حق
شخصين .,
الخامس: أن الحكم أمر وضعي إضافي
ليس بذاتي ،فيجوز أن يكون تابعاً للظن ، ومبيناً عليه ،ولا يجب أن يكون
سابقاً على الظن ، حتى يجوز أن يكون المظنون مشكوكاً فيه ، والحكم
المبني عليه مقطوعاً به كحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بشهادة
الشاهدين عند غلبة ظن الصدق ، فإنه يشك في صدقهما ويقطع بالحكم ،ويقطع
بكونه مصيباً يفي الحكم ، فكذلك المجتهد عند شهادة الأصل للفرع .
السادس: أن الحكم هو تكليف ،
وشرط التكليف بلوغ المكلف ، وليس عند الله تعالى تكليف قبل بلوغ المكلف
، فلا حكم عنده قبله
السابع : أن الطلب مع انتفاء حكم
عند الله تعالى ممكن ، من حيث إنه يجوز أن يكون في الواقعة حكم معين ،
وإن جوز أيضاً أن لا يكون فيها حكم .
الثامن: أن الخطأ أسم ، قد يقال
بالإضافة إلى ما وجب ، وهو الحقيقي ، وقد يقال بالإضافة إلى ما طلب
،وهذا مجاز .
التاسع: أنه لايجوز أن يكون
مأموراًً بالإصابة ثم يكون غير مأثوم إذا تركها مع القدرة .
ج / 2 ص -447-
العاشر: أنه لا يجوز أن يكون مأموراً بإصابة ما ليس علية دليل قاطع ، فإنه
تكليف بما لا يطاق .
فهذه عشرة أصول ، كل واد ماتهة لجماعة وقد بيناها
هذا حكم التأثيم والتصويب ونذكر بقية أحكام
الاجتهاد في صور مسائل :
مسألة:تعارض الأدلة :
مع بعضها إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز
عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير فالذين ذهبوا إلى أن
المصيب واحد يقولون هذا بعجز المجتهد وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من
غير ترجيح فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على
الترجيح
وأما المصوبة فاختلفوا:فمنهم من قال:يتوقف لأنه
متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شيء وهذا هو الأسلم الأسهل
وقال القاضي: يتخير لأنه تعارض عنده دليلان وليس
أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء
وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال كيف يتخير في حال
واحدة بين الشيء وضده ؟
ج / 2 ص -448-
وليس هذا محالا لأن التخيير بين حكمين مما
ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة ولو صرح الشرع بالتخيير كان له
ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لأن الحكم تارة يؤخذ من النص وتارة من
المصلحة وتارة من الشبه وتارة من الاستصحاب فإن نظرنا إلى النص فيجوز
أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان ولا يتبين
ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين أو يتعارض شبهان
بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض
مصلحتان بحيث لا ترجيح
فلو قلنايتوقف: فإلى متى يتوقف ؟وربما لا يقبل
الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده
أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح فكيف
يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح بل لا سبيل إلا التخيير كما لو
اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد
ثالثا فلا طريق إلا التخيير
وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب:فمنهم من قال
نقسم المال بينهما ومعناه تصديق البينتين وتقدير أنه قام لكل واحد سبب
كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما ولا ترجيح فصار كما لو
استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع
الشقص المبيع لكن ضاق المحل فيوزع عليهما
وعلى الجملة:الاحتمالات أربعة:أما العمل
بالدليلين جميعا أو إسقاطهما جميعا أو تعيين أحدهما بالتحكم أو
التخيير:
ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا
سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية فإن فيه تعطيلا ولا سبيل إلى التحكم
بتعيين أحدهما فلا يبقى إلا
ج / 2 ص -449-
الرابع وهو التخيير كما في اجتماع المفتيين
على العامي
فإن قيل: كما استحالت الأقسام الثلاثة فالتخيير
أيضا جمع بين النقيضين فهو محال
قلنا: المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل ولو قال
الشارع من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل
جدارا أو يستدبره كان معقولا لأنه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة
وكيفما تقلب فإليها ينقلب وكذلك إذا قال تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم
تعارض استصحابان فكيفما تقلب فهو مستصحب كما إذا أعتق عن كفارته عبدا
غائبا انقطع خبره فالأصل بقاء الحياة والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد
تعارضا وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي
الأحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من
الاجتهاد وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل وهما مصلحتان ربما
تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة
وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد
أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل ومثاله قوله صلى الله عليه
وسلم في زكاة الإبل: "في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" فمن له من الإبل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه
السلام في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله في كل أربعين
بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير فكذلك عند تعارض
الاستصحاب والمصلحة والشبه
فإن قيل: التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع
التحريم والتخيير بين الواجب
ج / 2 ص -450-
وتركه يرفع الوجوب والجمع بين أختين
مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض
قلنا:يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب
والمسقط إلى الوجه الآخر وهو القول بالتساقط ويطلب الدليل من موضع آخر
ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي
مسألة بنات اللبون والحقاق وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين
الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول
فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه:وجه في
التساقط ووجه في التخيير ووجه في التفصيل وفصل بين ما يمكن التخيير فيه
من الواجبات إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح
أو المحرم والمبيح فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط
وإن أردنا الإصرار على وجوب التخيير مطلقا فله
وجه أيضا وهو أنا نقول إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا أما جوازه
بشرط فلا بدليل أن الحج واجب على التراخي وإذا أخر ثم مات قبل الأداء
لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال فجواز تركه
بشرط العزم لا ينافي الوجوب
بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن
يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز أن يتركهما ولكن جاز تركهما بشرط
أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق
أربعة دراهم على غيره فقال له تصدقت عليك بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل
وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة
ج / 2 ص -451-
عن الدين الواجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى
بدرهمين وإن شاء اتى بالأربعة عن الواجب ولا يتناقض فكذلك في مسألتنا
إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا فلا
يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه فمن لم
يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز
وكذلك إذا سمع قوله تعالى{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء: من الآية23]حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له
قصد العمل بموجب
الدليل الثاني هو قوله تعالى{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء: من الآية3] كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية وسئل
ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال أمر الله
بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد
على هذا معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن
يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب
الدليل الثاني: وهو الأمر
بالوفاء وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب
وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه
التخيير المطلق كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه
ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا
إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لأن فيه إحياءه وحراما لأن فيه هلاك
غيره فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا
سبيل إلا التخييرة
ج / 2 ص -452-
فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة
والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما وأن تعارض دليل الوجوب
ودليل الإباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح كما يتخير بين
ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص وإن تعارض الموجب
والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا هذا طريق نصره اختيار القاضي في
التخيير
فإن قيل:تعارض دليلين من غير ترجيح محال وإنما
يخفى الترجيح على المجتهد
قلنا:وبم عرفتم استحالة ذلك فكما تعارض موجب بنات
اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى
الترجيح في علم الله تعالى
فإن قيل: فما معنى قول الشافعي المسألة على قولين
؟
قلنا: هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض
المواضع كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة فإن ذلك لا
يحتمل التخيير لأنه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا
.
فإن قيل: فمذهب التخيير يفضي إلى محال وهو أن
يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو
المقاسمة لأن حكم الله الخيرة وكذلك يخير المفتي العامي وكذلك يحكم
لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه
ج / 2 ص -453-
ويوم السبت باستغراق الجد للميراث ويوم
الأحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الأحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي
الآخر
قلنا: لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لأن
الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي
أراد كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق وفي الشاة
والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز
لمصلحة الحكم أيضا فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه ولا ينقض
الحكم السابق للمصلحة
أما قضاؤه يوم الأحد بخلاف قضائه يوم السبت وفي
حق زيد بخلاف ما في حق عمرو فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك
جائزا ؟فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا كما في الحقاق وبنات اللبون
يجوز أن يشير بإشارة مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون وعمرا بالحقاق
وعلى الجملة: يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى
لمصلحة الحكم كما لو تغير الاجتهاد فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في
المستقبل بالاجتهاد الثاني
وكذلك المجتهد في القبلة:إذا تعارض عنده دليلان
في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير ولا مجتهد يقلد فهل له سبيل إلا أن
يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء ولا يجوز له أن يعدل إلى
الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما
فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان
مقبولا ومعقولا وإليه الإشارة
ج / 2 ص -454-
بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع
بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية
مسألة: نقض الاجتهاد في نقض الاجتهاد:
المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح
امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها
على خلاف اجتهاده
ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج
ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق
بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض
أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها
أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد
دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على
المقلد تسريح زوجته
هذا ربما يتردد فيه
والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد
مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى كما لو
تغير اجتهاده في نفسه وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض ولكن بشرط أن
لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه وكذلك إذا
تنبهنا لأمر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو
تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحكم
فإن قيل: قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم
يقصر لأن ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه ؟
قلنا: نعم هو مصيب بشرط دوام الجهل كمن ظن أنه
متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه
تحريم الصلاة مع
ج / 2 ص -455-
الحدث لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه
وجوبا حاصلا ناجزا وهي حرام عليه بالقوة أي هي بصدد أن تصير حراما ما
لو علم محدث فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام
الجهل
وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع
فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه
إزالة سبب التخفيف هل هي واجبة ؟:
وعند هذا ننبه على دقيقة :وهي أنا ذكرنا أن
اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والإقامة
والطهر والحيض فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم
لكن بينهما فرق وهو أن من سقط عنه وجوب لسفره أو
عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب ومن سقط عنه لجهله وجب
إزالة جهله فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب
وكذلك نقول:من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها
تصح صلاته ولا يقضيها على قول فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه
تعريفه ولو تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم
يلزمه
ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل وحكم
سائر الأوصاف
نقض حكم الحاكم بمخالفة الأدلة الظنية:
فإن قيل: فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض
حكمه ؟
قلنا:قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في
معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه
جليا فلا وجه له إذ لا فرق بين ظن وظن فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف
بالإضافة وما يختلف بالإضافة فلا سبيل إلى تتبعه
فإن قيل: فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد
صيغة لأمر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة
خبر الواحد وأن
ج / 2 ص -456-
صيغة الأمر لا تدل على الوجوب والنهي لا يدل
بمجرده على الفساد
قلنا: معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم
لأنا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد أو أنه حكم بمجرد صيغة الأمر بل
لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت
المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لأنه ليس لله في
المسألة الظنية حكم معين فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض
المجتهدين فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم بل حكم في محل
الاجتهاد
وعلى الجملة:الحكم في مسألة فيها خبر واحد على
خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا وإنما المقطوع به كون الخبر حجة
على الجملة أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم
فإن قيل: فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا
آخر وقلده فهل ينقض حكمه ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض
قلنا: هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا بل يحتمل
تغير اجتهاده
وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي ونحن وإن
حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت فإن قضينا بأنه لا
يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق
بالصواب في ظنه فينبغي أن ينقض حكمه ولو جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب ذي
مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض
وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور
وليست من الأصول في شيء والله أعلم
ج / 2 ص -457-
حكم الإجتهاد
مسألة:في
وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه:
وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على
ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه
أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله
التقليد وهذا ليس مجتهدا
لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الأمور
وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو مثلا في
مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية وقع النظر
فيها في صحة الإسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه
العامي ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي فيلحق بالعامي أو
بالعالم ؟
فيه نظر والأشهر والأشبه أنه كالعامي وإنما
المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة أما إذا احتاج إلى
تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز وكما يمكنه تحصيله
فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه بل يجوز له ترك الاجتهاد
وعلى الجملة: بين درجة المبتدىء في العلم وبين
رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين وللنظر فيها مجال وإنما كلامنا الآن
في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها ولا يفتقر إلى
تعلم علم من غيره فهذا هو المجتهد فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن
يقلد غيره هذا مما اختلفوا فيه
ج / 2 ص -458-
فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل على أن من
وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم
وقال قوم: من وراء الصحابة والتابعين
وكيف يصح دعوى الإجماع وممن قال بتقليد العالم
أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري
وقال محمد بن الحسن يقلد العالم الأعلم ولا يقلد
من هو دونه أو مثله
وذهب الأكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد
العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه
وقال قوم يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به
وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل
بالاجتهاد
واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن
بعدهم وهو الأظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية
والذي يدل عليه أن تقليد من لا تثبت عصمته ولا
يعلم بالحقيقة إصابته بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص
أو قياس على منصوص ولا نص ولا منصوص إلا العامي والمجتهد إذ للمجتهد أن
يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله
أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن
العلم فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع
أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن
تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز
فينبغي أن يطلب الحق بنفسه فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد
في غير محله والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو
قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في
ج / 2 ص -459-
بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن فكيف
يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه
فإن قيل:وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن وظن غيره
كظنه ولا سيما عندكم وقد صوبتم كل مجتهد ؟
قلنا: مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن
غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع
وجود المبدل فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الإبدال
والمبدلات إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية أو يرد نص بأنه بدل
عند الوجود لا عند العدم كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الإبل
فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون والقدرة على شرائه لا تمنع
منه
فإن قيل: حصرتم طريق معرفة الحق في الإلحاق ثم
قطعتم طريق الإلحاق
ولا نسلم أن مأخذه الإلحاق بل عمومات تشمل العامي
والعالم كقوله تعالى{فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الانبياء: من الآية7]وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا فإن ذاك مجنون
أو صبي بل من لا يعلم تلك المسألة وكذلك قوله تعالى{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ }[النساء: من الآية59] وهم العلماء قلنا أما
قوله تعالى
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ }
فإنه لا حجة فيه من وجهين:
أحدهما: أن المراد به أمر العوام
بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول فمن هو من أهل
العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون
المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره
.
الثاني: أن معناه سلوا لتعلموا
أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروي وأما
أولو الأمر فإنما أراد بهم الولاة إذ أوجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله
ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد فإن كان المراد
ج / 2 ص -460-
بأولي الأمر الولاة فالطاعة على الرعية وإن
كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك ثم نقول يعارض هذه
العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة كقوله
تعالى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر: من الآية2]وقوله تعالى{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: من الآية83]وقوله
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] وقوله{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }[الشورى: من الآية10] وقوله{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ }]النساء:
من الآية59[ فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار وليس خطابا مع
العوام فلم يبق مخاطب إلا العلماء والمقلد تارك للتدبر والاعتبار
والاستنباط
وكذلك قوله تعالى
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ }
[لأعراف: من الآية3] وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط لكن دل
الكتاب على اتباع السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس وصار
جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد
فهذه ظواهر قوية والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك
بأمثالها ويعتضد ذلك بفعل الصحابة فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول
والمفوضة ومسائل كثيرة وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره
فإن قيل: لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد
الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف والأظهر
أنهم أخذوا بقول غيرهم
قلنا: كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى
أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه
وسلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم
لتعرف الدليل لا للتقليد
ج / 2 ص -461-
فإن قيل:فما تقولون في تقليد الأعلم ؟
قلنا:الواجب أن ينظر أولا فإن غلب على ظنه ما
وافق الأعلم فذاك وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم وقد صار
رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الأعلم وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره
وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم فينبغي أن لا
يجوز تقليده
ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ
الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد
الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لأكابر الصحابة ولأبي بكر ولعمر رضي
الله عن جميعهم
فإن قيل:فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به
؟
قلنا:يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي
حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى
الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذا لو جاز ذلك
لجاز الفتوى للعوام
وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت
فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد ؟فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة
العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء فهذه مسألة
محتملة والله أعلم |