المستصفى، ط العلمية [الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مُسْتَنَدِ
الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ ضَبْطِهِ]
[مَرَاتِب الرِّوَايَة]
الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مُسْتَنَدِ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ
ضَبْطِهِ.
وَمُسْتَنَدُهُ إمَّا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ عَلَيْهِ، أَوْ
قِرَاءَتُهُ عَلَى الشَّيْخِ، أَوْ إجَازَتُهُ، أَوْ
مُنَاوَلَتُهُ، أَوْ رُؤْيَتُهُ بِخَطِّهِ فِي كِتَابٍ، فَهِيَ
خَمْسُ مَرَاتِبَ.
الْأُولَى وَهِيَ الْأَعْلَى: قِرَاءَةُ الشَّيْخِ فِي
مَعْرِضِ الْإِخْبَارِ لِيُرْوَى عَنْهُ وَذَلِكَ يُسَلِّطُ
الرَّاوِيَ عَلَى أَنْ يَقُولَ " حَدَّثَنَا " وَ "
أَخْبَرَنَا " وَ " قَالَ فُلَانٌ " وَ " سَمِعْتُهُ يَقُولُ
".
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ،
فَهُوَ كَقَوْلِ " هَذَا صَحِيحٌ " فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ
بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ إذْ لَوْ لَمْ
يَكُنْ صَحِيحًا لَكَانَ سُكُوتُهُ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ
فِسْقًا قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ
لَجَوَّزْنَا أَنْ يُكَذَّبَ إذَا نَطَقَ بِكَوْنِهِ صَحِيحًا.
نَعَمْ لَوْ كَانَ ثَمَّ مَخِيلَةُ قِلَّةِ اكْتِرَاثٍ أَوْ
غَفْلَةٍ فَلَا يَكْفِي السُّكُوتُ، وَهَذَا يُسَلِّطُ
الرَّاوِيَ عَلَى أَنْ يَقُولَ " أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا
فُلَانٌ قِرَاءَةً عَلَيْهِ ". أَمَّا قَوْلُهُ حَدَّثَنَا "
مُطْلَقًا أَوْ " سَمِعْتُ فُلَانًا اخْتَلَفُوا فِيهِ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ
بِالنُّطْقِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَالْحَدِيثَ وَالْمَسْمُوعَ
كُلُّ ذَلِكَ نُطْقٌ، وَذَلِكَ مِنْهُ كَذِبٌ إلَّا إذَا
عُلِمَ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَنَّهُ
يُرِيدُ بِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ دُونَ سَمَاعِ
حَدِيثِهِ.
الثَّالِثَةُ: الْإِجَازَةُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " أَجَزْتُ
لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَا
صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي " وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ
الِاحْتِيَاطُ فِي تَعْيِينِ الْمَسْمُوعِ، أَمَّا إذَا
اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: " هَذَا مَسْمُوعِي مِنْ فُلَانٍ "
فَلَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ
فِي الرِّوَايَةِ، فَلَعَلَّهُ لَا يُجَوِّزُ الرِّوَايَةَ
لِخَلَلٍ يَعْرِفُهُ فِيهِ وَإِنْ سَمِعَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ
قَالَ: " عِنْدِي شَهَادَةٌ " لَا يَشْهَدُ مَا لَمْ يَقُلْ: "
أَذِنْتُ لَكَ فِي أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِي " أَوْ لَمْ
تَقُمْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ
الرِّوَايَةَ شَهَادَةٌ وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِي
الْكَلَامِ، لَكِنْ عِنْدَ جَزْمِ الشَّهَادَةِ قَدْ
يَتَوَقَّفُ.
ثُمَّ الْإِجَازَةُ تُسَلِّطُ الرَّاوِيَ عَلَى أَنْ يَقُولَ:
حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا إجَازَةً. أَمَّا قَوْلُهُ: "
حَدَّثَنَا " مُطْلَقًا جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ فَاسِدٌ
لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَهُوَ كَذِبٌ كَمَا
ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ.
الرَّابِعَةُ: الْمُنَاوَلَةُ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: "
خُذْ هَذَا الْكِتَابَ وَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي فَقَدْ
سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ " وَمُجَرَّدُ الْمُنَاوَلَةِ دُونَ
هَذَا اللَّفْظِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِذَا وُجِدَ هَذَا
اللَّفْظُ فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاوَلَةِ فَهُوَ زِيَادَةُ
تَكَلُّفٍ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِلَا فَائِدَةٍ،
كَمَا يَجُوزُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِالْإِجَازَةِ فَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ الْخَبَرِ لَا عَيْنُ
الطَّرِيقِ الْمُعَرَّفِ.
وَقَوْلُهُ: " هَذَا الْكِتَابُ مَسْمُوعِي فَارْوِهِ عَنِّي "
فِي التَّعْرِيفِ كَقِرَاءَتِهِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ،
وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَدِّثَهُ بِهِ "
فَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ أَيُّ حَاجَةٍ إلَيْهِ؟ وَيَلْزَمُ
أَنْ لَا تَصِحَّ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ
عَلَى الْقِرَاءَةِ بِنَفْسِهِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَرْوِيَ
فِي حَيَاةِ الشَّيْخِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرُّجُوعِ
إلَى الْأَصْلِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، فَدَلَّ أَنَّ هَذَا
لَا يُعْتَبَرُ فِي الرِّوَايَةِ. الْخَامِسَةُ: الِاعْتِمَادُ
عَلَى الْخَطِّ بِأَنْ يُرَى مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ " إنِّي
سَمِعْتُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا " فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ
عَنْهُ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ
قَالَهُ.
وَالْخَطُّ لَا يُعَرِّفُهُ هَذَا، نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ
يَقُولَ: " رَأَيْتُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ بِخَطٍّ ظَنَنْتُ
أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ "، فَإِنَّ الْخَطَّ أَيْضًا قَدْ
يُشْبِهُ الْخَطَّ. أَمَّا إذَا قَالَ: " هَذَا خَطِّي "
قُبِلَ قَوْلُهُ: " وَلَكِنْ " لَا يَرْوِي عَنْهُ مَا لَمْ
يُسَلِّطْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ أَوْ
بِقَرِينَةِ حَالِهِ فِي الْجُلُوسِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ.
أَمَّا إذَا
(1/131)
قَالَ عَدْلٌ: " هَذِهِ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ
مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مَثَلًا فَرَأَى فِيهِ حَدِيثًا،
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ
الْعَمَلُ؟ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ
الْمُجْتَهِدَ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَقَالَ قَوْمٌ: لَا
يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَالَ
قَوْمٌ: إذَا عَلِمَ صِحَّةَ النُّسْخَةِ بِقَوْلِ عَدْلٍ
جَازَ الْعَمَلُ، لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَحْمِلُونَ صُحُفَ
الصَّدَقَاتِ إلَى الْبِلَادِ وَكَانَ الْخَلْقُ يَعْتَمِدُونَ
تِلْكَ الصُّحُفَ بِشَهَادَةِ حَامِلِ الصُّحُفِ بِصِحَّتِهِ
دُونَ أَنْ يَسْمَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ
يُفِيدُ سُكُونَ النَّفَسِ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مَا
يَعْلَمُ سَمَاعَهُ أَوَّلًا وَحِفْظَهُ وَضَبْطَهُ إلَى
وَقْتِ الْأَدَاءِ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَدَّاهُ هُوَ
الَّذِي سَمِعَهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ حَرْفٌ، فَإِنْ
شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَتْرُكْ الرِّوَايَةَ.
[مَسْأَلَة الشَّكّ فِي مَسْمُوعَاته عَنْ الزُّهْرِيّ مَثَلًا
حَدِيثٌ وَاحِدٌ شَكَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ
أَمْ لَا]
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ
مَسَائِل إذَا كَانَ فِي مَسْمُوعَاتِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ
مَثَلًا حَدِيثٌ وَاحِدٌ شَكَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ
الزُّهْرِيِّ أَمْ لَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: "
سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ " وَلَا أَنْ يَقُولَ: " قَالَ
الزُّهْرِيُّ "، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَالَ الزُّهْرِيُّ "
شَهَادَةٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ
عِلْمٍ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَمَنْ
سَمِعَ إقْرَارًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُقِرَّ زَيْدٌ
أَوْ عَمْرٌو، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى زَيْدٍ، بَلْ
نَقُولُ: لَوْ سَمِعَ مِائَةَ حَدِيثٍ مِنْ شَيْخٍ وَفِيهَا
حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ
الْتَبَسَ عَلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَيْسَ لَهُ رِوَايَتُهُ، بَلْ
لَيْسَ لَهُ رِوَايَةُ شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ، إذْ
مَا مِنْ حَدِيثٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي
لَمْ يَسْمَعْهُ.
وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ
مِنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ تَجُزْ الرِّوَايَةُ بِغَلَبَةِ
الظَّنِّ وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي
هَذَا الْبَابِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى
غَلَبَةِ الظَّنِّ وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ
لَا يَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ. أَمَّا الشَّاهِدُ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ أَنْ لَا
يَشْهَدَ إلَّا عَلَى الْمَعْلُومِ فِيمَا تُمْكِنُ فِيهِ
الْمُشَاهَدَةُ مُمْكِنٌ، وَتَكْلِيفُ الْحَاكِمِ أَنْ لَا
يَحْكُمَ إلَّا بِصِدْقِ الشَّاهِدِ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ
الرَّاوِي لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ الشَّيْخِ
وَلَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِهِ بِالسَّمَاعِ،
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْوِيَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْوَاحِدُ فِي عَصْرِنَا يَجُوزُ أَنْ
يَقُولَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - " وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ. قُلْنَا: لَا طَرِيقَ
لَهُ إلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنَّهُ سَمِعَهُ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ
هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ رَوَاهُ فِي كِتَابٍ
يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ لَا
يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَدْرِي
مَنْ أَيْنَ يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ إذَا
ذُكِرَ مُسْتَنَدُهُ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ
وَعَدَالَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا أَنْكَرَ الشَّيْخُ الْحَدِيثَ إنْكَارَ
جَاحِدٍ قَاطِعٍ بِكَذِبِ الرَّاوِي وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ]
إذَا أَنْكَرَ الشَّيْخُ الْحَدِيثَ إنْكَارَ جَاحِدٍ قَاطِعٍ
بِكَذِبِ الرَّاوِي وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَصِرْ
الرَّاوِي مَجْرُوحًا؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ رُبَّمَا لَا
يَثْبُتُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَلِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ شَيْخَهُ
كَمَا أَنَّ شَيْخَهُ مُكَذِّبٌ لَهُ وَهُمَا عَدْلَانِ،
فَهُمَا كَبَيِّنَتَيْنِ مُتَكَاذِبَتَيْنِ، فَلَا يُوجِبُ
الْجَرْحَ. أَمَّا إذَا أَنْكَرَ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ
وَقَالَ: " لَسْتُ أَذْكُرُهُ " فَيُعْمَلُ بِالْخَبَرِ؛
لِأَنَّ الرَّاوِيَ جَازِمٌ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَهُوَ
لَيْسَ بِقَاطِعٍ بِتَكْذِيبِهِ وَهُمَا عَدْلَانِ
فَصِدْقُهُمَا إذَا مُمْكِنٌ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إلَى
أَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ يُبْطِلُ الْحَدِيثَ،
وَبَنَى عَلَيْهِ اطِّرَاحَ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ «أَيُّمَا
امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» ، وَاسْتَدَلَّ
بِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ أَنْ
يَعْمَلَ بِالْحَدِيثِ وَالرَّاوِي فَرْعُهُ، فَكَيْفَ
يُعْمَلُ بِهِ؟ قُلْنَا: لِلشَّيْخِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ إذَا
رَوَى الْعَدْلُ لَهُ عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَكٌّ لَهُ مَعَ
رِوَايَةِ الْعَدْلِ فَلَيْسَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَى
(1/132)
الرَّاوِي الْعَمَلُ إذَا قَطَعَ بِأَنَّهُ
سَمِعَ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا الْعَمَلُ جَمْعًا بَيْنَ
تَصْدِيقِهِمَا. وَالْحَاكِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ
بِقَوْلِ الشَّاهِدِ الْمُزَوِّرِ الظَّاهِرِ الْعَدَالَةِ
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ. وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ
الْعَمَلُ بِفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَغَيُّرَ اجْتِهَادِهِ،
وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَعْمَلُ بِهِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ
لِأَنَّهُ عَلِمَهُ، فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ
حَالِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَهَذَا
لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَيُّ
مُحَدِّثٍ يَحْفَظُ فِي حِينِهِ جَمِيعَ مَا رَوَاهُ فِي
عُمْرِهِ؟ فَصَارَ كَشَكِّ الشَّيْخِ فِي زِيَادَةٍ فِي
الْحَدِيثِ أَوْ فِي إعْرَابٍ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
لَمَّا لَمْ يُبْطِلْ الْحَدِيثَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الشَّكِّ
فِيهِ فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْحَدِيثِ.
[مَسْأَلَةٌ انْفِرَادُ الثِّقَةِ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ]
عَنْ جَمَاعَةِ النَّقَلَةِ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ
سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَوْ مِنْ
حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِنَقْلِ حَدِيثٍ
عَنْ جَمِيعِ الْحُفَّاظِ لَقُبِلَ، فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَ
بِزِيَادَةٍ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمَا أَمْكَنَ.
فَإِنْ قِيلَ: يَبْعُدُ انْفِرَادُهُ بِالْحِفْظِ مَعَ
إصْغَاءِ الْجَمِيعِ. قُلْنَا تَصْدِيقُ الْجَمِيعِ أَوْلَى
إذَا كَانَ مُمْكِنًا وَهُوَ قَاطِعٌ بِالسَّمَاعِ
وَالْآخَرُونَ مَا قَطَعُوا بِالنَّفْيِ، فَلَعَلَّ الرَّسُولَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ فِي
مَجْلِسَيْنِ: فَحَيْثُ ذَكَرَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَحْضُرْ
إلَّا الْوَاحِدُ أَوْ كَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَذَكَرَ
الزِّيَادَةَ فِي إحْدَى الْكَرَّتَيْنِ وَلَمْ يَحْضُرْ إلَّا
الْوَاحِدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاوِي النَّقْصِ
دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ فَلَمْ يَسْمَعْ التَّمَامَ،
أَوْ اشْتَرَكُوا فِي الْحُضُورِ وَنَسُوا الزِّيَادَةَ إلَّا
وَاحِدًا، أَوْ طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ سَبَبٌ
شَاغِلٌ مُدْهِشٌ فَغَفَلَ بِهِ الْبَعْضُ عَنْ الْإِصْغَاءِ
فَيَخْتَصُّ بِحِفْظِ الزِّيَادَةِ الْمُقْبِلُ عَلَى
الْإِصْغَاءِ، أَوْ عَرَضَ لِبَعْضِ السَّامِعِينَ خَاطِرٌ
شَاغِلٌ عَنْ الزِّيَادَةِ أَوْ عَرَضَ لَهُ مُزْعِجٌ يُوجِبُ
قِيَامَهُ قَبْلَ التَّمَامِ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ فَلَا
يُكَذَّبُ الْعَدْلُ مَا أَمْكَنَ.
[مَسْأَلَةٌ رِوَايَةُ بَعْضِ الْخَبَرِ]
ِ مُمْتَنِعَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ مَنَعَ نَقْلَ الْحَدِيثِ
بِالْمَعْنَى،
وَمَنْ جَوَّزَ النَّقْلَ عَلَى الْمَعْنَى جَوَّزَ ذَلِكَ إنْ
كَانَ قَدْ رَوَاهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ
الْمَذْكُورُ بِالْمَتْرُوكِ تَعَلُّقًا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ،
وَأَمَّا إذَا تَعَلَّقَ كَشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَوْ رُكْنِهَا
أَوْ مَا بِهِ التَّمَامُ فَنَقْلُ الْبَعْضِ تَحْرِيفٌ
وَتَلْبِيسٌ، أَمَّا إذَا رَوَى الْحَدِيثَ مَرَّةً تَامًّا
وَمَرَّةً نَاقِصًا نُقْصَانًا لَا يُغَيِّرُ فَهُوَ جَائِزٌ
وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ سُوءُ
الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يُتَّهَمُ
بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ
ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ]
ِ حَرَامٌ عَلَى الْجَاهِلِ بِمَوَاقِعِ الْخِطَابِ
وَدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا الْعَالِمُ بِالْفَرْقِ
بَيْنَ الْمُحْتَمِلِ وَغَيْرِ الْمُحْتَمِلِ، وَالظَّاهِرِ
وَالْأَظْهَرِ، وَالْعَامِّ وَالْأَعَمِّ، فَقَدْ جَوَّزَ لَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ
الْفُقَهَاءِ أَنْ يَنْقُلَهُ عَلَى الْمَعْنَى إذَا فَهِمَهُ،
وَقَالَ فَرِيقٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا إبْدَالُ اللَّفْظِ بِمَا
يُرَادِفُهُ وَيُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى، كَمَا يُبْدَلُ
الْقُعُودُ بِالْجُلُوسِ وَالْعِلْمُ بِالْمَعْرِفَةِ
وَالِاسْتِطَاعَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِبْصَارُ
بِالْإِحْسَاسِ بِالْبَصَرِ وَالْحَظْرُ بِالتَّحْرِيمِ
وَسَائِرُ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ مَا لَا
يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَفَاوُتٌ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْفَهْمِ.
وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا فَهِمَهُ قَطْعًا لَا فِيمَا
فَهِمَهُ بِنَوْعِ اسْتِدْلَالٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ
النَّاظِرُونَ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ
الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ
بِلِسَانِهِمْ، فَإِذَا جَازَ إبْدَالُ الْعَرَبِيَّةِ
بِعَجَمِيَّةٍ تُرَادِفُهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ عَرَبِيَّةٍ
بِعَرَبِيَّةٍ تُرَادِفُهَا وَتُسَاوِيهَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ
كَانَ سُفَرَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي
(1/133)
الْبِلَادِ يُبَلِّغُونَهُمْ أَوَامِرَهُ
بِلُغَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شَهَادَةَ الرَّسُولِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَى شَهَادَتِهِ بِلُغَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا لِأَنَّا
نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِي اللَّفْظِ وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ فَهْمُ الْمَعْنَى وَإِيصَالُهُ إلَى الْخَلْقِ،
وَلِيس ذَلِكَ كَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ وَمَا تُعُبِّدَ
فِيهِ بِاللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي
فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ
أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ
وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .
قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِلَّةَ
وَهُوَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْفِقْهِ، فَمَا لَا
يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ
فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ قَدْ نُقِلَ بِأَلْفَاظٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
تَكُونَ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ،
لَكِنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَنُقِلَ
بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ رُوِيَ «رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً» وَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» وَرُوِيَ: «وَرُبَّ
حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ» وَرُوِيَ «حَامِلِ فِقْهٍ
غَيْرِ فَقِيهٍ» وَكَذَلِكَ الْخُطَبُ الْمُتَّحِدَةُ
وَالْوَقَائِعُ الْمُتَّحِدَةُ رَوَاهَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى الْجَوَازِ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُرْسَلُ مَقْبُولٌ]
ٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجَمَاهِيرِ.
وَمَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي وَهُوَ
الْمُخْتَارُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: " قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَمْ
يُعَاصِرْهُ أَوْ قَالَ مَنْ لَمْ يُعَاصِرْ أَبَا هُرَيْرَةَ
" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ " وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ
شَيْخَهُ وَلَمْ يُعَدِّلْهُ وَبَقِيَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا
لَمْ نَقْبَلْهُ، فَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ فَالْجَهْلُ أَتَمُّ،
فَمَنْ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ كَيْفَ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ؟
فَإِنْ قِيلَ: رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ قَدْ
يَرْوِي عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَتَوَقَّفَ فِيهِ أَوْ
جَرَّحَهُ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ رَوَوْا عَمَّنْ إذَا
سُئِلُوا عَنْهُ عَدَّلُوهُ مَرَّةً وَجَرَّحُوهُ أُخْرَى أَوْ
قَالُوا لَا نَدْرِي، فَالرَّاوِي عَنْهُ سَاكِتٌ عَنْ
تَعْدِيلِهِ. وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَرْحِ
تَعْدِيلًا لَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ التَّعْدِيلِ جَرْحًا،
وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي إذَا جَرَّحَ مَنْ رَوَى
عَنْهُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ
لَيْسَ تَعْدِيلًا لِلْأَصْلِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ.
وَافْتِرَاقُ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ
التَّعَبُّدَاتِ لَا يُوجِبُ فَرْقًا فِي هَذَا الْمَعْنَى
كَمَا لَمْ يُوجِبْ فَرْقًا فِي مَنْعِ قَبُولِ رِوَايَةِ
الْمَجْرُوحِ وَالْمَجْهُولِ.
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: لَا يَشْهَدُ الْعَدْلُ
إلَّا عَلَى شَهَادَةِ عَدْلٍ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي
الرِّوَايَةِ وَوَجَبَ فِيهَا مَعْرِفَةُ عَيْنِ الشَّيْخِ
وَالْأَصْلِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ:
الْعَنْعَنَةُ كَافِيَةٌ فِي الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ
" رَوَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ " يَحْتَمِلُ مَا
لَمْ يَسْمَعْهُ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، بَلْ بَلَغَهُ
بِوَاسِطَةٍ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يُقْبَلُ وَمِثْلُ ذَلِكَ
فِي الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ. قُلْنَا: هَذَا إذَا لَمْ
يُوجِبْ فَرْقًا فِي رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ.
وَالْمُرْسَلُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَجْهُولٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يُقْبَلَ. ثُمَّ الْعَنْعَنَةُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهَا فِي
الْكَتَبَةِ، فَإِنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا أَنْ يَكْتُبُوا
عِنْدَ كُلِّ اسْمٍ " رَوَى عَنْ فُلَانٍ سَمَاعًا مِنْهُ "
وَشَحُّوا عَلَى الْقِرْطَاسِ وَالْوَقْتِ أَنْ يُضَيِّعُوهُ
فَأَوْجَزُوا. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ فِي الرِّوَايَةِ ذَلِكَ
إذَا عُلِمَ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ أَوْ عَادَتِهِ أَنَّهُ
يُرِيدُ بِهِ السَّمَاعَ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ السَّمَاعَ
فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ فَلَا
يُقْبَلُ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ
الرِّوَايَةَ تَعْدِيلٌ فَتَعْدِيلُهُ الْمُطْلَقُ لَا
يُقْبَلُ مَا لَمْ يَذْكُرْ السَّبَبَ، فَلَوْ صَرَّحَ
بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَدْلٍ ثِقَةٍ لَمْ يَلْزَمْ
قَبُولُهُ، وَإِنْ سَلَّمَ قَبُولَ التَّعْدِيلِ
(1/134)
الْمُطْلَقِ فَذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ
نَعْرِفُ عَيْنَهُ وَلَا يُعْرَفُ بِفِسْقٍ، أَمَّا مَنْ لَمْ
نَعْرِفْ عَيْنَهُ فَلَعَلَّهُ لَوْ ذَكَرَهُ لَعَرَفْنَاهُ
بِفِسْقٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُعَدِّلُ، وَإِنَّمَا
يُكْتَفَى فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ بِتَعْرِيفِ غَيْرِهِ عِنْدَ
الْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ وَلَا يُعْلَمُ عَجْزُهُ
مَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ.
وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يُقْبَلْ تَعْدِيلُ شَاهِدِ
الْفَرْعِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَعْرِفْ الْأَصْلَ وَلَمْ
يُعَيِّنْهُ، فَلَعَلَّ الْحَاكِمَ يَعْرِفُهُ بِفِسْقٍ
وَعَدَاوَةٍ، وَغَيْرُهُ احْتَجُّوا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ عَلَى قَبُولِ مُرْسَلِ الْعَدْلِ، فَابْنُ
عَبَّاسٍ مَعَ كَثْرَةِ رِوَايَتِهِ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ،
وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ
وَقَالَ: " حَدَّثَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ " وَرَوَى
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ،
فَلَمَّا رُوجِعَ قَالَ: " حَدَّثَنِي بِهِ أَخِي الْفَضْلُ
بْنُ عَبَّاسٍ ".
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى
جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ» ثُمَّ أَسْنَدَهُ إلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ «مَنْ أَصْبَحَ
جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَلَا صَوْمَ لَهُ» وَقَالَ: مَا أَنَا
قُلْتُهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهَا، فَلَمَّا رُوجِعَ
قَالَ: " حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ
سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، لَكِنْ سَمِعْنَا بَعْضَهُ وَحَدَّثَنَا
أَصْحَابُهُ بِبَعْضِهِ.
أَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ: إذَا قُلْت
حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ حَدَّثَنِي،
وَإِذَا قُلْتُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ
غَيْرِ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
التَّابِعِينَ قَبُولُ الْمُرْسَلِ. وَالْجَوَابُ مَنْ
وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ وَيَدُلُّ عَلَى
قَبُولِ بَعْضِهِمْ الْمَرَاسِيلَ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي
مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا إجْمَاعٌ
أَصْلًا.
وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا
الْمَرَاسِيلَ وَلِذَلِكَ بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ
عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِمْ لَا
لِشَكٍّ فِي عَدَالَتِهِمْ وَلَكِنْ لِلْكَشْفِ عَنْ
الرَّاوِي. فَإِنْ قِيلَ: قَبِلَ بَعْضُهُمْ وَسَكَتَ
الْآخَرُونَ فَكَانَ إجْمَاعًا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ
ثُبُوتَ الْإِجْمَاعِ بِسُكُوتِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي مَحِلِّ
الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَعَلَّهُ سَكَتَ مُضْمِرًا لِلْإِنْكَارِ
أَوْ مُتَرَدِّدًا فِيهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مِنْ الْمُنْكِرِينَ
لِلْمُرْسَلِ مَنْ قَبِلَ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّهُمْ
يُحَدِّثُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَ إلَيْهِ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ
لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
خَصَّصَ كِبَارَ التَّابِعِينَ بِقَبُولِ مُرْسَلِهِ.
وَالْمُخْتَارُ عَلَى قِيَاسِ رَدِّ الْمُرْسَلِ أَنَّ
التَّابِعِيَّ وَالصَّحَابِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ
أَوْ بِعَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ
قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فَلَا
يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ
الصَّحَابِيِّ مِنْ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَا صُحْبَةَ
لَهُمْ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ لَنَا عَدَالَةُ أَهْلِ
الصُّحْبَةِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ: حَدَّثَنِي بِهِ
رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ فِيمَا أَرْسَلَهُ عَنْ بُسْرَةَ: حَدَّثَنِي بِهِ
بَعْضُ الْحَرَسِ.
[مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى]
مَقْبُولٌ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ
الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ
فِيهِ مُمْكِنٌ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ، فَمَسُّ الذَّكَرِ مَثَلًا
نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّا لَا
نَقْطَعُ بِكَذِبِ نَاقِلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ انْفَرَدَ
وَاحِدٌ بِنَقْلِ مَا تُحِيلُ الْعَادَةُ فِيهِ أَنْ لَا
يَسْتَفِيضَ كَقَتْلِ أَمِيرٍ فِي السُّوقِ وَعَزْلِ وَزِيرٍ
وَهُجُومٍ فِي الْجَامِعِ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ الْجُمُعَةِ
أَوْ كَخَسْفٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ أَوْ انْقِضَاضِ كَوْكَبٍ
عَظِيمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَجَائِبِ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ
تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِيلُ
انْكِتَامُهُ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ
خَبَرُ الْوَاحِدِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/135)
تَعَبَّدَ بِإِشَاعَتِهِ وَاعْتَنَى
بِإِلْقَائِهِ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ
تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ لِأَنَّهُ أَصْلُ
الدِّينِ، وَالْمُنْفَرِدُ بِرِوَايَةِ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ
كَاذِبٌ قَطْعًا، فَأَمَّا مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا
نَقْطَعُ بِكَذِبِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ
بِكَذِبِهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَمَّا
كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ مِرَارًا وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ تَنْتَقِضُ
بِهِ لَا يَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَشِيعَ حُكْمَهُ وَيُنَاجِيَ بِهِ
الْآحَادَ؛ إذْ يُؤَدِّي إلَى إخْفَاءِ الشَّرْعِ وَإِلَى أَنْ
تَبْطُلَ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَجِبُ
الْإِشَاعَةُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي
عَلَى نَقْلِهِ، وَكَذَلِكَ مَسُّ الذَّكَرِ مِمَّا يَكْثُرُ
وُقُوعُهُ فَكَيْفَ يَخْفَى حُكْمُهُ؟ قُلْنَا: هَذَا يَبْطُلُ
أَوَّلًا بِالْوَتْرِ وَحُكْمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ
وَالْقَهْقَهَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ
وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ
مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَدْ أَثْبَتُوهَا بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ.
فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عُمُومُ الْبَلْوَى فِيهَا
كَعُمُومِهَا فِي الْأَحْدَاثِ، فَنَقُولُ: فَلَيْسَ عُمُومُ
الْبَلْوَى فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ كَعُمُومِهَا فِي خُرُوجِ
الْأَحْدَاثِ، فَقَدْ يَمْضِي عَلَى الْإِنْسَانِ مُدَّةٌ لَا
يَلْمِسُ وَلَا يَمَسُّ الذَّكَرَ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَدَثِ
كَمَا لَا يَفْتَصِدُ وَلَا يَحْتَجِمُ إلَّا أَحْيَانًا فَلَا
فَرْقَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ: أَنَّ
الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ
يَوْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ، فَكَيْفَ أُخْفِيَ حُكْمُهُ
حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ؟
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَكُلُّ ذَلِكَ
إلَى الْآحَادِ؟ وَلَا سَبَبَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إشَاعَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، بَلْ كَلَّفَهُ إشَاعَةَ
الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ
الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ، كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى
الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا، وَكَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ
أَنْ يَقُولَ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ
الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ، حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ
الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، فَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَنْ جُمْلَةِ مَا
تَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدُّوا فِيهِ إلَى
خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ
يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ،
وَلَيْسَ عِلَّةُ الْإِشَاعَةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ أَوْ
نُدُورَهَا، بَلْ عِلَّتُهُ التَّعَبُّدُ وَالتَّكْلِيفُ مِنْ
اللَّهِ، وَإِلَّا فَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرٌ
كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
الْأَكْثَرُ فِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الضَّابِطُ لِمَا تَعَبَّدَ الرَّسُولُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ؟
قُلْنَا: إنْ طَلَبْتُمْ ضَابِطًا لِجَوَازِهِ عَقْلًا فَلَا
ضَابِطَ بَلْ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي تَكْلِيفِ
رَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ
وُقُوعَهُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا
اسْتَقْرَيْنَا السَّمْعِيَّاتِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ
أَقْسَامٍ، الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ
عُنِيَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إشَاعَتِهِ.
الثَّانِي: مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ، كَكَلِمَتَيْ
الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْحَجِّ وَقَدْ أَشَاعَهُ إشَاعَةً اشْتَرَكَ فِي
مَعْرِفَتِهِ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ. الثَّالِثُ: أُصُولُ
الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً مِثْلُ أَصْلِ
الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَدْ
تَوَاتَرَ، بَلْ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ
وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ هَذَا تَوَاتَرَ
عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ
الْقَاطِعَةُ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ وَإِمَّا بِنَقْلِ
الْآحَادِ فِي مَشْهَدِ الْجَمَاعَاتِ مَعَ سُكُوتِهِمْ،
وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِهِ، وَلَكِنَّ الْعَوَامَّ لَمْ
يُشَارِكُوا الْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ، بَلْ فَرْضُ
الْعَوَامّ فِيهِ الْقَبُولُ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
الرَّابِعُ: تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأُصُولِ، فَمَا يُفْسِدُ
الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَاتِ وَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِنْ
اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْقَيْءِ وَتَكْرَارِ مَسْحِ
الرَّأْسِ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنْهُ مَا شَاعَ وَمِنْهُ مَا
نَقَلَهُ الْآحَادُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعُمُّ
بِهِ الْبَلْوَى،
(1/136)
فَمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا
مَانِعَ، فَإِنَّ مَا أَشَاعَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا
يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ، وَمَا وَكَّلَهُ إلَى
الْآحَادِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ
بِالْإِشَاعَةِ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ
يُخَالِفُ أَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ. هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |