المستصفى، ط العلمية [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ
الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ]
ِ وَقَدْ قَالَتْ الشِّيعَةُ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ:
يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا، وَقَالَ
قَوْمٌ فِي مُقَابَلَتِهِمْ: يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ
عَقْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِيهِ
بِإِحَالَةٍ، وَلَا إيجَابٍ، وَلَكِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ
الْجَوَازِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ فَأَنْكَرَ
أَهْلُ الظَّاهِرِ وُقُوعَهُ بَلْ ادَّعَوْا حَظْرَ الشَّرْعِ
لَهُ.
، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - بِأَجْمَعِهِمْ، وَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ بَعْدَهُمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
وُقُوعَ التَّعَبُّدِ بِهِ شَرْعًا، فَفِرَقُ الْمُبْطِلَةِ
لَهُ ثَلَاثٌ: الْمُحِيلُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبُ لَهُ
عَقْلًا، وَالْحَاظِرُ لَهُ شَرْعًا، فَنَفْرِضُ عَلَى كُلِّ
فَرِيقٍ مَسْأَلَةً، وَنُبْطِلُ عَلَيْهِمْ خَيَالَهُمْ،
وَنَقُولُ لِلْمُحِيلِ لِلتَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا: بِمَ
عَرَفْت إحَالَتَهُ أَبِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ؟ وَلَا سَبِيلَ
إلَى دَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَهُمْ مَسَالِكُ
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ كُلُّ مَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى
دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَا نُحِيلُ
التَّعَبُّدَ بِهِ، إنَّمَا نُحِيلُ التَّعَبُّدَ بِمَا لَا
سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ رَجْمَ الظَّنِّ جَهْلٌ،
وَلَا صَلَاحَ لِلْخَلْقِ فِي إقْحَامِهِمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ
حَتَّى يَتَخَبَّطُوا فِيهِ، وَيَحْكُمُوا بِمَا لَا
يَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنَّهُ
نَقِيضُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَانِ أَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي التَّعَبُّدِ
بِالْقِيَاسِ، فَفِي أَيِّهِمَا النِّزَاعُ؟ وَالْجَوَابُ:
إنَّنَا نُنَازِعُكُمْ فِي الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا
إيجَابُ صَلَاحِ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ
أَبْطَلْنَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَقَدْ
جَوَّزَ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ
الصَّلَاحَ، وَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ لُطْفًا
بِعِبَادِهِ فِي الرَّدِّ إلَى الْقِيَاسِ لِتَحَمُّلِ
كُلْفَةِ الِاجْتِهَادِ، وَكَدِّ الْقَلْبِ، وَالْعَقْلِ فِي
الِاسْتِنْبَاطِ لِنَيْلِ الْخَيْرَاتِ الْجَزِيلَةِ {يَرْفَعْ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وَتَجَشُّمُ الْقَلْبِ
بِالْفِكْرِ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ تَجَشُّمِ الْبَدَنِ
بِالْعِبَادَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الشَّارِعُ قَادِرًا عَلَى أَنْ
يَكْفِيَهُمْ بِالتَّنْصِيصِ كَلِمَاتِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ `
أَصْلَحُ قُلْنَا: مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاحَ لَا يُوجِبُ
الْأَصْلَحَ، ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْ
عِبَادِهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى جَمِيعِ التَّكَالِيفِ
لَبَغَوْا، وَعَصَوْا، وَإِذَا فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِمْ
انْبَعَثَ حِرْصُهُمْ لِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِمْ،
وَظُنُونِهِمْ. ثُمَّ نَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ أَقْحَمَهُمْ
وَرْطَةَ الْجَهْلِ فِي الْحُكْمِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ،
وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَتَقْدِيرِ الْمِثْلِ،
وَالْكِفَايَاتِ فِي النَّفَقَاتِ، وَالْجِنَايَاتِ؟ وَكُلُّ
ذَلِكَ ظَنٌّ، وَتَخْمِينٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا تَعَبَّدَ الْقَاضِي بِصِدْقِ
الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ
أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ،
وَأَوْجَبَ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّ الْقِبْلَةَ
فِيهَا لَا اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. قُلْنَا:، وَكَذَلِكَ
تَعَبُّدُ الْمُجْتَهِدِ بِأَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ
الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دَلَالَتُهُ
عَلَيْهِ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِي
تَحْقِيقِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ
بِظَنِّهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا كُلِّفَ
الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِظَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبُ
الشُّهُودِ مُمْكِنًا، وَلَا فَرْقَ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ كُلُّ
مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْخَطَأُ مُحَالٌ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ
يُكَلَّفَ إصَابَةَ مَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
قَاطِعٌ، وَمَا أَنْكَرُوهُ إنَّمَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ
يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ.
، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ
(1/283)
لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْت كُلَّ
مُسْكِرٍ أَوْ حَرَّمْت الْخَمْرَ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، لَمْ
يَكُنْ التَّعَبُّدُ بِهِ مُمْتَنِعًا؛ فَلَوْ قَالَ: مَتَى
حَرَّمْتُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ فَاسْبُرُوا، وَقَسِّمُوا
صِفَاتِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ بِأَمَارَةٍ أَنِّي
حَرَّمْتُهُ لِكَوْنِهِ قُوتًا، وَحَرَّمْتُ الْخَمْرَ
لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، فَقَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ كُلَّ
قُوتٍ، وَكُلَّ مُسْكِرٍ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنِّي
حَرَّمْتُهُ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا فَقَدْ حَرَّمْتُ كُلَّ
مَكِيلٍ.
لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " إذَا
اشْتَبَهَتْ عَلَيْكُمْ الْقِبْلَةُ فَكُلُّ جِهَةٍ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِيهَا فَاسْتَقْبِلُوهَا "
فَرْقٌ حَتَّى لَوْ غَلَبَ جِهَتَانِ عَلَى ظَنِّ رَجُلَيْنِ،
فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا، وَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ
أَنْ يُلْحَقَ ظَنُّ الْقِبْلَةِ بِمُشَاهَدَتِهَا، وَظَنُّ
صِدْقِ الْعَدْلِ بِتَحْقِيقِ صِدْقِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ
بِالْمُعْجِزَةِ، وَصِدْقِ الرَّاوِي الْوَاحِدِ بِتَحْقِيقِ
صِدْقِ التَّوَاتُرِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُلْحَقَ
ظَنُّ ارْتِبَاطِ الْحُكْمِ بِمَنَاطٍ بِتَحَقُّقِ
ارْتِبَاطِهِ بِهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا أَوْ قُوتًا أَوْ مَطْعُومًا؟
قُلْنَا: وَمَنْ أَوْجَبَ الْأَصْلَحَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ
الْمَصْلَحَةِ مَكْشُوفَةً لِلْعِبَادِ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ
فِي تَقْدِيرِ الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَالصُّبْحِ
بِرَكْعَتَيْنِ، وَفِي تَقْدِيرِ الْحُدُودِ،
وَالْكَفَّارَاتِ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ بِمَقَادِيرَ
مُخْتَلِفَةٍ؟ لَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
التَّعَبُّدِ لُطْفًا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، يُقَرِّبُ
الْعِبَادَ بِسَبَبِهِ مِنْ الطَّاعَةِ، وَيَبْعُدُونَ بِهِ
عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَأَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ. حَتَّى لَوْ
أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى اسْمٍ مُجَرَّدٍ ثَبَتَ،
وَاعْتَقَدْنَا فِيهِ لُطْفًا لَا نُدْرِكُهُ فَكَيْفَ لَا
يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْأَوْصَافِ.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: لَا يَسْتَقِيمُ
قِيَاسٌ إلَّا بِعِلَّةٍ، وَالْعِلَّةُ مَا تُوجِبُ الْحُكْمَ
لِذَاتِهَا، وَعِلَلُ الشَّرْعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ
يَسْتَقِيمُ التَّعْلِيلُ مَعَ أَنَّ مَا نُصِبَ عِلَّةً
لِلتَّحْرِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلتَّحْلِيلِ؟
قُلْنَا: لَا مَعْنَى لِعِلَّةِ الْحُكْمِ إلَّا عَلَامَةٌ
مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ
الشَّرْعُ السُّكْرَ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ،
وَيَقُولُ: اتَّبِعُوا هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَاجْتَنِبُوا
كُلَّ مُسْكِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَهُ عَلَامَةً
لِلتَّحْلِيلِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلتَّحْلِيلِ فَقَدْ حَلَّلْتُ لَهُ كُلَّ
مُسْكِرٍ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلتَّحْرِيمِ
فَقَدْ حَرَّمْت عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ، حَتَّى يَخْتَلِفَ
الْمُجْتَهِدُونَ فِي هَذِهِ الظُّنُونِ، وَكُلُّهُمْ
مُصِيبُونَ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى
خَبَرُهُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ، فَإِذَا لَمْ
يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ الزَّبِيبِ، فَكَيْفَ يُقَالُ
حُكْمُ اللَّهِ فِي الزَّبِيبِ التَّحْرِيمُ، وَالنَّصُّ لَمْ
يَنْطِقْ إلَّا بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ؟ قُلْنَا: إذَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ
فَإِذَا ظَنَنْتُمْ أَنِّي حَرَّمْت الرِّبَا فِي الْبُرِّ
لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مَطْعُومٍ،
فَيَكُونُ هَذَا خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الزَّبِيبِ.
وَمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ
لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا، فَالْقِيَاسُ عِنْدَنَا
حُكْمٌ بِالتَّوْقِيفِ الْمَحْضِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي
كِتَابِ أَسَاسُ الْقِيَاسِ لَكِنَّ هَذَا النَّصَّ
بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فَقَدْ دَلَّ إجْمَاعُ
الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا
ذَلِكَ إلَّا، وَقَدْ فَهِمُوا مِنْ الشَّارِعِ هَذَا
الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ، وَقَرَائِنَ، وَإِنْ لَمْ
يَنْقُلُوهَا إلَيْنَا. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ:
إذَا اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ
مَيْتَةٌ بِعَشْرِ مُذَكَّيَاتٍ، لَمْ يَجُزْ مَدُّ الْيَدِ
إلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ وُجِدَتْ عَلَامَاتٌ لِإِمْكَانِ
الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ اجْتِهَادٍ،
وَقِيَاسٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ مَعَ إمْكَانِ
الْخَطَأِ؟ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي
الْقِبْلَةِ، وَعَدَالَةِ الشَّاهِدِ، وَالْقَاضِي،
وَالْإِمَامِ، وَمُتَوَلِّي الْأَوْقَافِ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي الْأَشْخَاصِ،
وَالْأَعْيَانِ، وَلَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَا يُمْكِنُ
تَعْرِيفُهَا بِالنَّصِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛؛
لِأَنَّهُمْ مُتَعَبَّدُونَ بِظُنُونِهِمْ لَا بِصِدْقِ
الشُّهُودِ.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ
(1/284)
نَحْنُ نَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا خَلَاصَ
عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إلَّا بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ،
وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ، وَإِنْ خَالَفَ النَّصَّ فَهُوَ
مُصِيبٌ، إذْ لَمْ يُكَلَّفْ إلَّا بِمَا بَلَغَهُ،
فَالْخَطَأُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي حَقِّهِ. أَمَّا مَنْ ذَهَبَ
إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، فَيَلْزَمُهُ هَذَا
الْإِشْكَالُ.
وَأَمَّا اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَلَسْنَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَانِعَ مُجَرَّدُ إمْكَانِ الْخَطَأِ،
فَإِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي رِضَاعِ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ
نِكَاحُهَا، وَالْخَطَأُ مُمْكِنٌ، لَكِنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا
أَبَاحَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ
بِيَقِينٍ، وَحَكَمَ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْدَفِعُ
بِالشَّكِّ الطَّارِئِ، أَمَّا إذَا تَعَارَضَ يَقِينَانِ،
وَهُوَ يَقِينُ التَّحْرِيمِ، وَالتَّحْلِيلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ
فِي مَعْنَى الْيَقِينِ الصَّافِي عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا
فِي مَعْنَى الْيَقِينِ الَّذِي لَمْ يُعَارِضْهُ إلَّا
الشَّكُّ الْمُجَرَّدُ، فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ اتِّبَاعًا
لِمُوجِبِ الدَّلِيلِ، وَلَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالرُّخْصَةِ
فِيهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا.
[مَسْأَلَةٌ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ عَقْلًا]
مَسْأَلَةٌ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ
بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ عَقْلًا
مُتَحَكِّمُونَ فَمُطَالَبُونَ بِالدَّلِيلِ، وَلَهُمْ
شُبْهَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِتَعْمِيمِ
الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، وَالصُّوَرُ لَا نِهَايَةَ
لَهَا، فَكَيْفَ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِهَا؟ ، فَيَجِبُ
رَدُّهُمْ إلَى الِاجْتِهَادِ ضَرُورَةً، فَنَقُولُ: هَذَا
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَشْخَاصِ الَّتِي لَيْسَتْ
مُتَنَاهِيَةً إنَّمَا يَتِمُّ بِمُقَدِّمَتَيْنِ: كُلِّيَّةٍ،
كَقَوْلِنَا: كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ، وَجُزْئِيَّةٍ،
كَقَوْلِنَا: هَذَا النَّبَاتُ مَطْعُومٌ أَوْ الزَّعْفَرَانُ
مَطْعُومٌ، وَكَقَوْلِنَا: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَهَذَا
الشَّرَابُ بِعَيْنِهِ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ عَدْلٍ مُصَدَّقٌ،
وَزَيْدٌ عَدْلٌ، وَكُلُّ زَانٍ مَرْجُومٌ، وَمَاعِزٌ قَدْ
زَنَى فَهُوَ إذًا مَرْجُومٌ،، وَالْمُقَدِّمَةُ
الْجُزْئِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى مَجَارِيهَا
فَيُضْطَرُّ فِيهَا إلَى الِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ
اجْتِهَادٌ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِقِيَاسٍ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْكُلِّيَّةُ فَتَشْتَمِلُ عَلَى
مَنَاطِ الْحُكْمِ وَرَوَابِطِهِ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ
التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِالرَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ،
كَقَوْلِهِ: كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ:
لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَكَقَوْلِهِ: كُلُّ
مُسْكِرٍ حَرَامٌ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ،
وَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَقَعَ
الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ اسْتِنْبَاطِ مَنَاطِ الْحُكْمِ،
وَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْقِيَاسِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ
مُنَازَعَةُ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ
اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يَسْتَحِلْ
خُلُوُّ بَعْضِهَا عَنْ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ فِي
الْمُقَدِّمَةِ الْجُزْئِيَّةِ أَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ
فِيهِ إلَى الْيَقِينِ، فَيُقَالُ: مَنْ تَيَقَّنْتُمْ
صِدْقَهُ، وَمَا تَيَقَّنْتُمْ كَوْنَهُ مَطْعُومًا أَوْ
مُسْكِرًا فَاحْكُمُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَتَيَقَّنُوا بِهِ
فَاتْرُكُوهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَا
يَجْرِي فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ
إلَى تَيَقُّنِ صِدْقِ الشُّهُودِ، وَعَدَالَةِ الْقُضَاةِ،
وَالْوُلَاةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ،
وَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيرِ مُتَيَقَّنٍ فِي
كِفَايَةِ الْأَقَارِبِ، وَأُرُوشِ الْمُتْلَفَاتِ، فَإِنَّ
التَّكْثِيرَ فِيهِ إلَى حُصُولِ الْيَقِينِ رُبَّمَا يَضُرُّ
بِجَانِبِ الْمُوجَبِ عَلَيْهِ كَمَا يَضُرُّ التَّقْلِيلُ
بِجَانِبِ الْمُوجَبِ لَهُ، فَالِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ
مَنَاطِ الْحُكْمِ ضَرُورَةٌ أَمَّا فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ،
وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَلَا.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَقْلَ كَمَا دَلَّ عَلَى
الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ دَلَّ عَلَى الْعِلَلِ
الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ،
وَمُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ مُنَاسَبَةً عَقْلِيَّةً مَصْلَحَةٌ
يَتَقَاضَى الْعَقْلُ وُرُودَ الشَّرْعِ بِهَا، وَهَذَا
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ لِخُصُوصِ
النَّصِّ بِبَعْضِ مَجَارِي الْحُكْمِ، وَكُلُّ حُكْمٍ قُدِّرَ
خُصُوصُهُ فَتَعْمِيمُهُ مُمْكِنٌ، فَلَوْ عَمَّ لَمْ يَبْقَ
لِلْقِيَاسِ مَجَالٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ
مِنْ الْعِلَلِ مَا لَا يُنَاسِبُ، وَمَا تَنَاسَبَ لَا
تُوجِبُ الْحُكْمَ لِذَاتِهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ
الْحُكْمُ عَنْهَا، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ،
وَأَنْ لَا يُوجِبَ الْحَدَّ بِالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ،
وَكَذَا سَائِرُ الْعِلَلِ، وَالْأَسْبَابِ.
(1/285)
[مَسْأَلَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ
حَسَمَ سَبِيلَ الِاجْتِهَادِ بِالظَّنِّ]
مَسْأَلَةٌ الرَّدُّ عَلَى مَنْ حَسَمَ سَبِيلَ الِاجْتِهَادِ
بِالظَّنِّ
وَلَمْ يُجَوِّزْ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِدَلِيلٍ
قَاطِعٍ، كَالنَّصِّ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. فَأَمَّا
الْحُكْمُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فَمَنَعُوهُ،
وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الرَّدُّ
عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ الدَّلِيلِ، وَمَا عِنْدِي أَنَّ
أَحَدًا يُنَازِعُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ
الْحُكْمِ، فَلَا تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَّا إلَى فَقِيرٍ،
وَيُعْلَمُ فَقْرُهُ بِأَمَارَةٍ ظَنِّيَّةٍ، وَلَا يُحْكَمُ
إلَّا بِقَوْلِ عَدْلٍ، وَتُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بِالظَّنِّ،
وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ فِي الْوَقْتِ، وَالْقِبْلَةِ،
وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَكِفَايَةِ الْقَرِيبِ.
وَإِنْ اعْتَذَرُوا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ
مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ ظَنِّهِ فِي ذَلِكَ، وَظَنُّهُ
مَوْجُودٌ قَطْعًا، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الظَّنِّ وَاجِبٌ
قَطْعًا، فَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ
الِاجْتِهَادَاتِ، وَإِنْ اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ
ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّمَا نِزَاعُنَا فِي مَعْرِفَةِ
مَنَاطِ الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ،
فَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى
الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ
وَقَعَتْ لَهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا نَصًّا، وَهَذَا
مِمَّا تَوَاتَرَ إلَيْنَا عَنْهُمْ تَوَاتُرًا لَا شَكَّ
فِيهِ، فَنَنْقُلُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
نَقْلُ الْجَمِيعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالِاجْتِهَادِ مَعَ انْتِفَاءِ
النَّصِّ، وَنَعْلَمُ قَطْعًا بُطْلَانَ دَعْوَى النَّصِّ
عَلَيْهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ، وَعَلَى الْعَبَّاسِ، إذْ لَوْ
كَانَ لَنُقِلَ، وَلَتَمَسَّكَ بِهِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَشُورَةِ مَجَالٌ حَتَّى أَلْقَى عُمَرُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشُّورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَفِيهِمْ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَوْ كَانَ مَنْصُوصًا
عَلَيْهِ، وَقَدْ اسْتَصْلَحَهُ لَهُ، فَلِمَ تَرَدَّدَ
بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ قِيَاسُهُمْ
الْعَهْدَ عَلَى الْعَقْدِ، إذْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ
عَقْدُ الْإِمَامَةِ بِالْبَيْعَةِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى
وَاحِدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَهِدَ إلَى عُمَرَ خَاصَّةً، وَلَمْ
يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَكِنْ قَاسُوا تَعْيِينَ الْإِمَامِ
عَلَى تَعْيِينِ الْأُمَّةِ لِعَقْدِ الْبَيْعَةِ فَكَتَبَ
أَبُو بَكْرٍ: " هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ "، وَلَمْ
يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
، وَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ
وَرَأْيِهِ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى قَالَ
عُمَرُ: فَكَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا
عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا
بِحَقِّهَا» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: " أَلَمْ يَقُلْ «إلَّا
بِحَقِّهَا؟» فَمِنْ حَقِّهَا إيتَاءُ الزَّكَاةِ كَمَا أَنَّ
مِنْ حَقِّهَا إقَامَ الصَّلَاةِ، فَلَا أُفَرِّقُ بَيْنَ مَا
جَمَعَ اللَّهُ.
وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا
النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
"، وَبَنُو حَنِيفَةَ الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ الزَّكَاةِ
جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مُتَمَسِّكِينَ بِدَلِيلِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ فِي اتِّبَاعِ
النَّصِّ، وَقَالُوا: إنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ
كَانَتْ سَكَنًا لَنَا، وَصَلَاتُكَ لَيْسَتْ بِسَكَنٍ لَنَا،
إذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] .
فَأَوْجَبُوا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِمَحَلِّ النَّصِّ، وَقَاسَ
أَبُو بَكْرٍ، وَالصَّحَابَةُ خَلِيفَةَ الرَّسُولِ عَلَى
الرَّسُولِ، إذْ الرَّسُولُ إنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ
لِلْفُقَرَاءِ لَا لِحَقِّ نَفْسِهِ، وَالْخَلِيفَةُ نَائِبٌ
فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَجْمَعُوا
عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ طُولِ
التَّوَقُّفِ فِيهِ، كَكَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ
الْقُرْآنِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَاقْتَرَحَ عُمَرُ ذَلِكَ
أَوَّلًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَفْعَلُ مَا
لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ حَتَّى
شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ جَمَعَهُ
عُثْمَانُ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتْ
الْمَصَاحِفُ مُخْتَلِفَةُ التَّرْتِيبِ، وَمِنْ ذَلِكَ
إجْمَاعُهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ،
وَالْإِخْوَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ قَطْعِهِمْ
بِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدْ أَجْمَعُوا
عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهَا.
(1/286)
وَنَنْقُلُ الْآنَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا
يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
أَبِي بَكْرٍ لَمَّا سُئِلَ، عَنْ الْكَلَالَةِ: " أَقُولُ
فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ،
وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ،
وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ: الْكَلَالَةُ مَا
عَدَا الْوَالِدَ، وَالْوَلَدَ ".، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ
وَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ
بَعْضُ الْأَنْصَارِ: لَقَدْ وَرَّثْتَ امْرَأَةً مِنْ مَيِّتٍ
لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ
امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ وَرِثَ جَمِيعَ مَا
تَرَكَتْ فَرَجَعَ إلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي
السُّدُسِ. وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي
التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا نَجْعَلُ
مَنْ تَرَكَ دِيَارَهُ، وَأَمْوَالَهُ مُهَاجِرًا إلَى
النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَنْ دَخَلَ
الْإِسْلَامَ كُرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا
أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا
الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَلَمَّا انْتَهَتْ الْخِلَافَةُ إلَى
عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَوَزَّعَ عَلَى تَفَاوُتِ
دَرَجَاتِهِمْ. وَاجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْعَطَاءَ
إذَا لَمْ يَكُنْ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِمْ لَمْ يَخْتَلِفْ
بِاخْتِلَافِهَا، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَوْلَا
الْإِسْلَامُ لَمَا اسْتَحَقُّوهَا، فَيَجُوزُ أَنْ
يَخْتَلِفُوا، وَأَنْ يَجْعَلَ مَعِيشَةَ الْعَالِمِ أَوْسَعَ
مِنْ مَعِيشَةِ الْجَاهِلِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "
أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي، وَأَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي "،
وَقَضَى بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَوْلُهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ فِي الْجَدِّ
بِرَأْيِهِ " أَيْ: الرَّأْيِ الْعَارِي عَنْ الْحُجَّةِ،
وَقَالَ لَمَّا سَمِعَ الْحَدِيثَ فِي الْجَنِينِ: " لَوْلَا
هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا "، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ
فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ
حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ
بِهَذَا الرَّأْيِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ:
إنَّ سَمُرَةَ أَخَذَ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ الْخَمْرَ فِي
الْعُشُورِ، وَخَلَّلَهَا، وَبَاعَهَا، فَقَالَ: قَاتَلَ
اللَّهُ سَمُرَةَ أَمَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا،
وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ؟ فَقَاسَ عُمَرُ الْخَمْرَ عَلَى
الشَّحْمِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهَا.
، وَكَذَلِكَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا لَمْ يُكَمِّلْ
نِصَابَ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ شَاهِدًا فِي
مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا قَاذِفًا، لَكِنَّهُ قَاسَهُ عَلَى
الْقَاذِفِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "
اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ
لَا تُبَاعَ وَرَأَيْتُ الْآنَ بَيْعَهُنَّ " فَهُوَ تَصْرِيحٌ
بِالْقَوْلِ بِالرَّأْيِ.
وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: "
اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ، وَالْأَمْثَالَ ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ
بِرَأْيِكَ ".
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إنْ اتَّبَعْتَ
رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَسَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ رَأْيَ مَنْ
قَبْلَكَ فَنِعْمَ الرَّأْيُ كَانَ "، فَلَوْ كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَمَا صَوَّبَهُمَا جَمِيعًا،
وَقَالَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: "
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ".
، وَقَضَى عُثْمَانُ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ بِالرَّأْيِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي
حَدِّ الشُّرْبِ مَنْ شَرِبَ هَذَى، وَمَنْ هَذَى افْتَرَى،
فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي "، وَهُوَ قِيَاسٌ
لِلشُّرْبِ عَلَى الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ،
الْتِفَاتًا إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُنَزِّلُ مَظِنَّةَ
الشَّيْءِ مَنْزِلَتَهُ، كَمَا أَنْزَلَ النَّوْمَ مَنْزِلَةَ
الْحَدِيثِ، وَالْوَطْءَ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ مَنْزِلَةَ
حَقِيقَةِ شُغْلِ الرَّحِمِ، وَنَظَائِرِهِ.
، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ
بِرَأْيِهِ بَعْدَ أَنْ اسْتَمْهَلَ شَهْرًا، وَكَانَ ابْنُ
مَسْعُودٍ يُوصِي مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ،
وَيَقُولُ: " الْأَمْرُ فِي الْقَضَاءِ بِالْكِتَابِ،
وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَا الصَّالِحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ "، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي عِنْدَ فَقْدِ
الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ فَزَكَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -» .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنْ قَضَى بِتَفَاوُتِ
الدِّيَةِ فِي الْأَسْنَانِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا: "
كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْأَصَابِعَ؟ ".
(1/287)
وَقَالَ فِي الْعَوْلِ مَنْ شَاءَ
بَاهَلْتُهُ " الْحَدِيثَ، وَلَمَّا سَمِعَ نَهْيَهُ عَنْ
بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ قَالَ: " لَا أَحْسَبُ
كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مِثْلَهُ "، وَقَالَ فِي الْمُتَطَوِّعِ
إذَا بَدَا لَهُ الْإِفْطَارُ أَنَّهُ كَالْمُتَبَرِّعِ
أَرَادَ التَّصَدُّقَ بِمَالٍ فَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ
بَدَا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ،
وَالْحَجْب، وَمِيرَاثِ الْجَدِّ.
وَلَمَّا وَرَّثَ زَيْدٌ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي مَسْأَلَةِ
زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ، وَجَدْتَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ:
أَقُولُ بِرَأْيِي، وَتَقُولُ بِرَأْيِكَ. فَهَذَا،
وَأَمْثَالُهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ
مَشْهُورٌ، وَمَا مِنْ مُفْتٍ إلَّا، وَقَدْ قَالَ
بِالرَّأْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ؛ فَلِأَنَّهُ أَغْنَاهُ
غَيْرُهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ
فِي الرَّأْيِ فَانْعَقَدَ إجْمَاعٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ
الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ
الَّتِي اخْتَلَفُوا وَاجْتَهَدُوا فِيهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا
أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ
أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ حَكَمُوا بِمَا
لَيْسَ بِقَاطِعٍ فَقَدْ ثَبَتَ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ كَانَ
فَمُحَالٌ إذْ كَانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الدَّلِيلَ
الْقَاطِعَ أَنْ لَا يَكْتُمَهُ، وَلَوْ أَظْهَرَهُ، وَكَانَ
قَاطِعًا لَمَا خَالَفَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ خَالَفَهُ لَوَجَبَ
تَفْسِيقُهُ، وَتَأْثِيمُهُ، وَنِسْبَتُهُ إلَى الْبِدْعَةِ،
وَالضَّلَالِ، وَلَوَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ الْفَتْوَى، وَمَنْعُ
الْعَامَّةِ مِنْ تَقْلِيدِهِ، هَذَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ
إنْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَإِنْ
كُنَّا لَا نَرَاهُ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَوْ كَانَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ
لَكَانَ الْمُخَالِفُ فَاسِقًا، وَكَانَ الْمُحِقُّ
بِالسُّكُوتِ عَنْ الْمُخَالِفِ، وَتَرْكِ دَعْوَتِهِ إلَى
الْحَقِّ فَاسِقًا، فَيَعُمُّ الْفِسْقُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ
بَلْ يَعُمُّ الْعِبَادَ جَمِيعَهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا
كَالْعَقْلِيَّاتِ، فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا غَامِضَةٌ قَدْ لَا
يُدْرِكُهَا بَعْضُ الْخَلْقِ فَلَا يَكُونُ مُعَانِدًا.
أَمَّا الْقَاطِعُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ نَصٌّ ظَاهِرٌ، وَقَدْ
قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِنَصٍّ مَنْطُوقٍ
بِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ فِيمَا لَيْسَ مَنْطُوقًا بِهِ
لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]
فَمَعْقُولُ هَذَا أَنَّ لِأَبِيهِ الثُّلُثَيْنِ، وقَوْله
تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]
فَمَعْقُولُهُ تَحْرِيمُ التِّجَارَةِ، وَالْجُلُوسِ فِي
الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:
77] ، وَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7] ، وَ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]
فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ إلَّا
فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَلَا يَخْفَى هَذَا عَلَى عَامِّيٍّ
فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
- مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِمْ حَتَّى نَشَأَ الْخِلَافُ
بَيْنَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ؟ هَذَا تَمْهِيدُ الدَّلِيلِ،
وَتَمَامُهُ بِدَفْعِ الِاعْتِرَاضَاتِ
وَقَدْ يَعْتَرِضُ الْخَصْمُ عَلَيْهِ تَارَةً بِإِنْكَارِ
كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ،
وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ إثْبَاتِهِ، وَتَارَةً بِإِنْكَارِ
تَمَامِ الْإِجْمَاعِ فِي الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا
ذَكَرْنَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْبَاقِينَ
إلَّا السُّكُوتُ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِهِمْ إنْكَارَ
الرَّأْيِ، وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ السُّكُوتَ لَكِنْ
حَمَلُوهُ عَلَى الْمُجَامَلَةِ فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ لَا
عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الرَّأْيِ، وَتَارَةً يُقِرُّونَ
بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِتَفْسِيقِ
الصَّحَابَةِ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ رَأْيَهُمْ إلَى
الْعُمُومَاتِ، وَمُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ، وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ
الْحُكْمِ دُونَ الْقِيَاسِ.
فَهَذِهِ مَدَارِكُ اعْتِرَاضَاتِهِمْ، وَهِيَ خَمْسَةٌ:
الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجَاحِظُ - حِكَايَةً عَنْ
النَّظَّامِ -: إنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ لَزِمُوا الْعَمَلَ
بِمَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا مَا كُفُوا
الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ إعْمَالِ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، لَمْ
يَقَعْ بَيْنَهُمْ التَّهَارُجُ، وَالْخِلَافُ، وَلَمْ
يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، لَكِنْ لَمَّا عَدَلُوا عَمَّا
كُلِّفُوا، وَتَخَيَّرُوا، وَتَآمَرُوا، وَتَكَلَّفُوا
الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ جَعَلُوا الْخِلَافَ طَرِيقًا،
وَتَوَرَّطُوا فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ،
وَالْقِتَالِ
وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ
(1/288)
بِأَسْرِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ السَّلَفَ
بِأَسْرِهِمْ تَآمَرُوا، وَغَصَبُوا الْحَقَّ أَهْلَهُ،
وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُحِيطِ
بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَحْكَامِ إلَى
الْقِيَامَةِ، فَتَوَرَّطُوا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ
الْخِلَافِ.
وَهَذَا اعْتِرَاضُ مَنْ عَجَزَ عَنْ إنْكَارِ اتِّفَاقِهِمْ
عَلَى الرَّأْيِ فَفَسَقَ، وَضَلَّ، وَنَسَبَهُمْ إلَى
الضَّلَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا دَلَّ عَلَى
أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَمَا دَلَّ
عَلَى مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -
مِنْ ثَنَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْأَخْبَارِ عَلَيْهِمْ كَمَا
نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ، وَكَيْفَ يَعْتَقِدُ
الْعَاقِلُ الْقَدْحَ فِيمَنْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى
وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِ مُبْتَدِعٍ مِثْلِ
النَّظَّامِ؟
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: لَا يَصِحُّ الرَّأْيُ،
وَالْقِيَاسُ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ
لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ
يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَسْكُتْ عَنْ
الِاعْتِرَاضِ قَالَ النَّظَّامُ فِيمَا حَكَاهُ الْجَاحِظُ
عَنْهُ: إنَّهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ
يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ،
وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،
وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ
كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ،
ثُمَّ شَرَعَ فِي ثَلْبِ الْعَبَادِلَةِ، وَقَالَ: كَأَنَّهُمْ
كَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَثْنَى عَلَى الْعَبَّاسِ،
وَالزُّبَيْرِ إذْ تَرَكَا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ
يَشْرَعَا.
، وَقَالَ الدَّاوُدِيَّةُ: لَا نُسَلِّمُ سُكُوتَ جَمِيعِهِمْ
عَنْ إنْكَارِ الرَّأْيِ، وَالتَّخْطِئَةِ فِيهِ، إذْ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ
تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي،
وَقَالَ: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ
خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَلِيٌّ
لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ
الْجَنِينِ: إنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ لَمْ
يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا.، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ
قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ لِفَتْوَاهُ
بِالرَّأْيِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ.، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ
فِي الْمَالِ النِّصْفَ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ: أَلَا
يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ
ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا، وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ: إنْ يَكُ خَطَأً
فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عُمَرُ: إيَّاكُمْ،
وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ
أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا
بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا، وَقَالَ عَلِيٌّ،
وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْ كَانَ
الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ
الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ
فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا تَكَلُّفٌ، وَظَنٌّ، وَإِنَّ
الظَّنَّ لَا يُغْنِي مَنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَقَالَ أَيْضًا:
إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ بِآرَائِهِمْ، وَلَوْ نَزَلَ
الْقُرْآنَ لَنَزَلَ بِخِلَافِ مَا يُفْتُونَ، وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: قُرَّاؤُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ،
وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ مَا لَمْ
يَكُنْ بِمَا كَانَ، وَقَالَ أَيْضًا: إنْ حَكَمْتُمْ فِي
دِينِكُمْ بِالرَّأْيِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَهُ
اللَّهُ، وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ
أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ، وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} [النساء: 105] ، وَلَمْ
يَقُلْ " بِمَا رَأَيْت "، وَقَالَ: إيَّاكُمْ،
وَالْمَقَايِيسَ فَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ إلَّا
بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَرُونِي مِنْ
أَرَأَيْتَ وَأَرْأَيْتَ.
وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ التَّابِعُونَ الْقِيَاسَ قَالَ
الشَّعْبِيُّ: مَا أَخْبَرُوك عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ
فَاقْبَلْهُ، وَمَا أَخْبَرُوك عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي
الْحُشِّ إنَّ السَّنَةَ لَمْ تُوضَعْ بِالْمَقَايِيسِ.،
وَقَالَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا
بِشَيْءٍ أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ
الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادَ
(1/289)
وَالْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَالسُّكُوتَ
عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي
وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ، كَمِيرَاثِ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ،
وَتَعْيِينِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ، وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ،
وَالْعَهْدِ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ، وَمَا لَمْ
يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ
بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ
الْأُمَّةِ مَا أَوْرَثَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ
بِالرَّأْيِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ ضَرُورَةً كَمَا عُرِفَ سَخَاءُ
حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ فَجَاوَزَ الْأَمْرُ حَدًّا
يُمْكِنُ التَّشَكُّكُ فِي حُكْمِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا
نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ،
وَمَرْوِيَّةٌ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا
مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا
بِنَقِيضِهِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمَا
لَيْسَ مِثْلَهُ؟ وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ
اطِّرَاحُ جَمِيعِهَا، وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ
مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ،
وَتَوَاتَرَتْ أَيْضًا لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ
الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ.
فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ
لِلنَّصِّ أَوْ الرَّأْيِ الصَّادِرِ عَنْ الْجَهْلِ الَّذِي
يَصْدُرُ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ وَضْعُ
الرَّأْيِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالرَّأْيُ الْفَاسِدُ
الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ، وَيَرْجِعُ إلَى مَحْضِ
الِاسْتِحْسَانِ، وَوَضْعِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ
نَسْجٍ عَلَى مِنْوَالٍ سَابِقٍ، وَفِي أَلْفَاظِ
رِوَايَتِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ قَالَ: اتَّخَذَ
النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، وَقَالَ: لَوْ قَالُوا
بِالرَّأْيِ لَحَرَّمُوا الْحَلَالَ، وَأَحَلُّوا الْحَرَامَ.
فَإِذًا الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ مُقِرُّونَ بِإِبْطَالِ
أَنْوَاعٍ مَنْ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْمُنْكِرُونَ
لِلْقِيَاسِ لَا يُقِرُّونَ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ أَصْلًا،
وَنَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِ أَنْوَاعٍ مِنْ الرَّأْيِ،
وَالْقِيَاسِ كَقِيَاسِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ، إذْ قَالُوا:
الْأُصُولُ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا فَلْتَكُنْ الْفُرُوعُ
كَذَلِكَ
وَلَا تَثْبُتُ الْأُصُولُ بِالظَّنِّ فَكَذَلِكَ الْفُرُوعُ،
وَقَالُوا لَوْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ عِلَّةٌ لَكَانَتْ
كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَقَاسُوا الشَّيْءَ بِمَا لَا
يُشْبِهُهُ. فَإِذًا إنْ بَطَلَ كُلُّ قِيَاسٍ فَلْيَبْطُلْ
قِيَاسُهُمْ وَرَأْيُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ أَيْضًا،
وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَذْهَبَيْنِ.
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا
تَمَّ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ
بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ. فَنَقُولُ: لَعَلَّهُمْ سَكَتُوا
عَلَى سَبِيلِ الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ خِيفَةً مِنْ
ثَوَرَانِ فِتْنَةِ النِّزَاعِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ إظْهَارِ
الدَّلِيلِ لِخَفَائِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ فِيهَا
قَوَاطِعُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي صِيغَةِ
الْأَمْرِ وَصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ،
وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَأَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بَلْ فِي أَصْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَصْلِ
الْقِيَاسِ، وَأَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ
أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عِنْدَكُمْ فِي النَّفْيِ،
وَالْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ،
وَالتَّابِعِينَ التَّأْثِيمُ، وَالتَّفْسِيقُ فِيهَا
، وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَمْلَ سُكُوتِهِمْ عَلَى
الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ، وَاتِّقَاءِ الْفِتْنَةِ
مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ،
وَتَنَاظَرُوا، وَتَحَاجُّوا، وَلَمْ يَتَجَامَلُوا، ثُمَّ
افْتَرَقَتْ بِهِمْ الْمَجَالِسُ عَنْ اجْتِهَادَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَالِغًا مَبْلَغًا قَطْعِيًّا
لَبَادَرُوا إلَى التَّأْثِيمِ، وَالتَّفْسِيقِ كَمَا فَعَلُوا
بِالْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَكُلُّ
مَنْ عُرِفَ بِقَاطِعِ فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ.
وَأَمَّا سُكُوتُهُمْ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فَمُحَالٌ، فَإِنَّ
قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ شَارِعًا، وَلَا
مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَلِمَ تَضَعُ أَحْكَامَ
اللَّهِ بِرَأْيِك، لَيْسَ كَلَامًا خَفِيًّا تَعْجِزُ عَلَى
دَرْكِهِ الْأَفْهَامُ، وَكُلُّ مَنْ قَاسَ بِغَيْرِ إذْنٍ
فَقَدْ شَرَّعَ. فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ حَقِيقَةً بِالْإِذْنِ
لَكَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُسَامِي رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَضْعِ الشَّرْعِ،
وَاخْتِرَاعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ
مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ
فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا
فِي الْإِجْمَاعِ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ
(1/290)
وَبِإِجْمَاعِهِمْ تَمَسُّكُنَا فِي هَذِهِ
الْقَوَاعِدِ.
وَأَمَّا الْعُمُومُ، وَالْمَفْهُومُ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ
فَقَلَّمَا خَاضُوا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِتَجْرِيدِ
النَّظَرِ فِيهَا خَوْضَ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ كَانُوا
يَتَمَسَّكُونَ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ بِالْعُمُومِ،
وَالصِّيغَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّا نَتَمَسَّكُ
بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْر قَرِينَةٍ بَلْ كَانَتْ
الْقَرَائِنُ الْمُعَرِّفَةُ لِلْأَحْكَامِ الْمُقْتَرِنَةُ
بِالصِّيَغِ فِي زَمَانِهِمْ غَضَّةً طَرِيَّةً مُتَوَافِرَةً
مُتَظَاهِرَةً فَمَا جَرَّدُوا النَّظَرَ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ، كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ:
لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ سِوَى خَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَأَصْلُ الْقِيَاسِ، وَالْإِجْمَاعِ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ بَلْ
هِيَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؟ فَمَنْ سَلَكَ هَذَا
الطَّرِيقَ انْدَفَعَ عَنْهُ الْإِشْكَالُ.
، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَرْضِيًّا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ
مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ هَذِهِ أُصُولُ الْأَحْكَامِ
فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِقَاطِعٍ لَكِنَّ
الصَّحَابَةَ لَمْ يُجَرِّدُوا النَّظَرَ فِيهَا،
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ اعْتَقَدَ فِي مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا
قَاطِعًا فَلَا يَسْكُتُ عَنْ تَعْصِيَةِ مُخَالِفِهِ،
وَتَأْثِيمِهِ كَمَا سَبَقَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ،
وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ.
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ
نَقْلٌ لِلْحُكْمِ بِالظَّنِّ، وَالِاجْتِهَادِ، فَلَعَلَّهُمْ
عَوَّلُوا فِيهِ عَلَى صِيغَةِ عُمُومٍ وَصِيغَةِ أَمْرٍ،
وَاسْتِصْحَابِ حَالٍ، وَمَفْهُومِ لَفْظٍ، وَاسْتِنْبَاطِ
مَعْنَى صِيغَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، وَاللُّغَةُ فِي
جَمْعٍ بَيْنَ آيَتَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ وَصِحَّةِ رَدِّ
مُقَيَّدٍ إلَى مُطْلَقٍ، وَبِنَاءِ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ،
وَتَرْجِيحِ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَتَقْرِيرٍ عَلَى حُكْمِ
الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا جَاوَزَ هَذَا، فَكَانَ
اجْتِهَادُهُمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا فِي
تَنْقِيحِهِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ، وَالْحُكْمُ إذَا صَارَ
مَعْلُومًا بِضَابِطٍ فَتَحْقِيقُ الضَّابِطِ فِي كُلِّ
مَحَلٍّ يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ لَا نُنْكِرُهُ فَقَدْ
عَلِمُوا قَطْعًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ
، وَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْلَحَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ،
وَعَرَفُوا بِالِاجْتِهَادِ الْأَصْلَحَ إذْ لَا بُدَّ مِنْهُ،
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ،
وَعَرَفُوا أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ،
وَالنِّسْيَانِ وَاجِبٌ قَطْعًا، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا
طَرِيقَ إلَى حِفْظِهِ إلَّا الْكَتَبَةَ فِي الْمُصْحَفِ.
فَهَذِهِ أُمُورٌ عُلِّقَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ نَصًّا،
وَإِجْمَاعًا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْمَصْلَحَةِ فِي
الْأَشْخَاصِ، وَالْأَحْوَالِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ
مِنْ قَبِيلِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ لِلْحُكْمِ، وَمَا جَاوَزَ
هَذَا مِنْ تَشْبِيهِ مَسْأَلَةٍ بِمَسْأَلَةٍ،
وَاعْتِبَارِهَا بِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النَّقْضِ
بِخَيَالٍ فَاسِدٍ لَا فِي مَعْرِضِ اقْتِبَاسِ الْحُكْمِ،
كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دِيَةِ الْأَسْنَانِ كَيْفَ لَمْ
يَعْتَبِرُوا بِالْأَصَابِعِ إذْ عَلَّلُوا اخْتِلَافَ دِيَةِ
الْأَسْنَانِ بِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا، وَذَلِكَ مَنْقُوضٌ
بِالْأَصَابِعِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّقْضَ مِنْ
طُرُقِ إفْسَادِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا
بِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ أَيْضًا:
أَرَأَيْت لَوْ اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ حَيْثُ تَوَقَّفَ
عُمَرُ عَنْ قَتْلِ سَبْعَةٍ بِوَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا
تَخَيَّلَ كَوْنَ الشَّرِكَةِ مَانِعًا بِنَوْعٍ مِنْ
الْقِيَاسِ نَقَضَهُ عَلِيٌّ بِالسَّرِقَةِ فَإِذًا لَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مَا يُصَحِّحُ الْقِيَاسَ
أَصْلًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ لَا
حَاجَةَ فِي الْحُكْمِ إلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَأَنَّ
الْحُكْمَ بِالظَّنِّ جَائِزٌ
، وَالْإِنْصَافُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ
إلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الظَّنِّ لَكِنَّا لَا نَقِيسُ
ظَنَّ الْقِيَاسِ عَلَى ظَنِّ الِاجْتِهَادِ فِي مَفْهُومِ
الْأَلْفَاظِ، وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ إذْ يَجُوزُ
أَنْ يُتَعَبَّدَ بِنَوْعٍ مِنْ الظَّنِّ دُونَ نَوْعٍ،
وَلَكِنْ بَانَ لَنَا عَلَى الْقَطْعِ أَنَّ اجْتِهَادَ
الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بَلْ
جَاوَزُوا ذَلِكَ إلَى الْقِيَاسِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَحَكَمُوا
بِأَحْكَامٍ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ إلَّا
بِالْقِيَاسِ، وَتَعْلِيلِ النَّصِّ، وَتَنْقِيحِ مَنَاطِ
الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَى عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ قَاسَ الْعَهْدَ
(1/291)
عَلَى الْعَقْدِ بِالْبَيْعَةِ، وَقِيَاسُ
أَبِي بَكْرٍ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قِتَالِ مَنْ
مَنَعَ الزَّكَاةَ وَرُجُوعُ أَبِي بَكْرٍ إلَى تَوْرِيثِ
أُمِّ الْأَبِ قِيَاسًا عَلَى أُمِّ الْأُمِّ.
، وَقِيَاسُ عُمَرَ الْخَمْرَ عَلَى الشَّحْمِ فِي تَحْرِيمِ
ثَمَنِهِ، وَقِيَاسُهُ الشَّاهِدَ عَلَى الْقَاذِفِ فِي حَدِّ
أَبِي بَكْرَةَ، وَتَصْرِيحُ عَلِيٍّ بِالْقِيَاسِ عَلَى
الِافْتِرَاءِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ، وَلَسْنَا نَعْنِي
بِالْقِيَاسِ إلَّا هَذَا الْجِنْسَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ
مِنْهُمْ ضَرُورَةً فِي وَقَائِعَ لَا تُحْصَى، وَلَا
تَنْحَصِرُ، وَلْنُعَيِّنْ مَسْأَلَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ
نُقِلَتَا عَلَى التَّوَاتُرِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ،
وَالْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرَامِ.
أَمَّا فِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَلْحَقَهُ
بَعْضُهُمْ بِالظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ بِالطَّلَاقِ،
وَبَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قِيَاسٌ،
وَتَشْبِيهٌ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا، إذْ النَّصُّ
وَرَدَ فِي الْمَمْلُوكَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
[التحريم: 1] ، وَالنِّزَاعُ وَقَعَ فِي الْمَنْكُوحَةِ،
فَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا:
هَذِهِ لَفْظَةٌ لَا نَصَّ فِيهَا فِي النِّكَاحِ فَلَا حُكْمَ
لَهَا، وَيَبْقَى الْحِلُّ، وَالْمِلْكُ مُسْتَمِرًّا كَمَا
كَانَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْحِلِّ، وَالْمِلْكِ أَوْ إيجَابَ
الْكَفَّارَةِ يُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ،
وَلَا نَصَّ، وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ فَلَا حُكْمَ، فَلِمَ
قَاسُوا الْمَنْكُوحَةَ عَلَى الْأَمَةِ؟ وَلِمَ قَاسُوا هَذَا
اللَّفْظَ عَلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى لَفْظِ
الظِّهَارِ، وَعَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَغْنَاكُمْ اللَّهُ عَنْ إثْبَاتِ
حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا؟ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ
وَحْدَهُ عَصَبَةٌ بِالنَّصِّ، وَالْأَخُ وَحْدَهُ عَصَبَةٌ،
وَلَا نَصَّ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فَقَضَوْا حَيْثُ لَا نَصَّ
بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَصَرَّحُوا بِالتَّشْبِيهِ
بِالْحَوْضَيْنِ، وَالْخَلِيجَيْنِ وَصَرَّحَ مَنْ قَدَّمَ
الْجَدَّ، وَقَالَ:
ابْنُ الِابْنِ ابْنٌ فَلْيَكُنْ أَبُو الْأَبِ أَبًا
وَصَرَّحَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَخَ يُدْلَى
بِالْأَبِ، وَالْجَدَّ أَيْضًا يُدْلِي بِهِ، وَالْمُدَلَّى
بِهِ وَاحِدٌ، وَالْإِدْلَاءُ
مُخْتَلِفٌ؛ فَقَاسُوا الْإِدْلَاءَ بِجِهَةِ الْأُبُوَّةِ
عَلَى الْإِدْلَاءِ بِجِهَةِ الْبُنُوَّةِ مَعَ أَنَّ
الْبُنُوَّةَ قَدْ تُفَارِقُ الْأُبُوَّة فِي أَحْكَامٍ،
وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدٌ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ:
لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ
رَأَيْت فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُلُث مَا بَقِيَ؟
فَقَالَ: أَقُولُ بِرَأْيِي، وَتَقُولُ بِرَأْيِك فَزَيْدٌ
قَاسَ حَالَ وُجُودِ الزَّوْجِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ
زَوْجٌ، إذْ يَكُونُ لِلْأَبِ ضِعْفُ مَا لِلْأُمِّ، فَقَالَ:
نُقَدِّرُ كَأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ
كُلُّ الْمَالِ، وَنُقَدِّرُ كَأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَكُنْ.
، وَكَذَلِكَ مَنْ فَتَّشَ عَنْ اخْتِلَافَاتِهِمْ فِي
مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَغَيْرِهَا عَلِمَ ضَرُورَةَ
سُلُوكِهِمْ طُرُقَ الْمُقَايَسَةِ، وَالتَّشْبِيهِ،
وَأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا فَارِقًا بَيْنَ مَحَلِّ النَّصِّ،
وَغَيْرِهِ وَرَأَوْا جَامِعًا.
وَكَانَ الْجَامِعُ فِي اقْتِضَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَقْوَى فِي
الْقَلْبِ مِنْ الْفَارِقِ فِي اقْتِضَاءِ الِافْتِرَاقِ
مَالُوا إلَى الْأَقْوَى الْأَغْلَبِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا الْمُشَابَهَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ
لَوْ تَشَابَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَاتَّحَدَتْ
الْمَسْأَلَةُ، وَلَمْ تَتَعَدَّدْ، فَيَبْطُلُ التَّشْبِيهُ،
وَالْمُقَايَسَةُ، وَكَانُوا لَا يَكْتَفُونَ بِالِاشْتِرَاكِ
فِي أَيِّ وَصْفٍ كَانَ بَلْ فِي وَصْفٍ هُوَ مَنَاطُ
الْحُكْمِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مَنَاطًا لَوْ عَرَفُوهُ
بِالنَّصِّ لَمَا بَقِيَ لِلِاجْتِهَادِ، وَالْخِلَافِ
مَجَالٌ، فَكَانُوا يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِظُنُونٍ،
وَأَمَارَاتٍ، وَنَحْنُ أَيْضًا نَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ
قِيَاسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إثْبَاتِ عِلَّةِ
الْأَصْلِ.
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ إنْ قَالُوا
بِالْقِيَاسِ اخْتِرَاعًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ
مُحَالٌ، وَإِنْ قَالُوا بِهِ عَنْ سَمَاعٍ مِنْ النَّبِيِّ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَجِبُ إظْهَارُ مُسْتَنَدِهِمْ،
وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَإِنَّكُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا
حُجَّةَ فِيمَا أَبْدَعُوهُ، وَوَضَعُوهُ.
وَنَحْنُ نُسَلِّمُ وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ فِيمَا سَمِعُوهُ،
فَإِنَّهُ إذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذَا غَلَبَ
عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ بَعْضُ الْأَوْصَافِ
فَاتَّبِعُوهُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ كَمَا ظَنَنْتُمُوهُ أَوْ
حُكْمَ الظَّانِّ عَلَى مَا ظَنَّهُ فَهِيَ عَلَامَةٌ فِي
حَقِّهِ، وَغَيْرُ عَلَامَةٍ فِي حَقِّ مَنْ ظَنَّهُ
(1/292)
بِخِلَافِهِ فَلَا يُنْكِرُ وُجُوبَ
قَبُولِ هَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا
ظَنَنْتُمْ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ فَاعْلَمُوا أَنَّ
عَمْرًا فِي الدَّارِ، وَاعْلَمُوا أَنِّي حَرَّمْت الرِّبَا
فِي الْبُرِّ، لَكِنَّا نَقْطَعُ بِتَحْرِيمِ الْبُرِّ،
وَكَوْنُ عَمْرٍو فِي الدَّارِ مَهْمَا ظَنَنَّا أَنَّ زَيْدًا
فِي الدَّارِ، فَإِنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ
بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ فَهِمَ الصَّحَابَةُ
هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ كُفِينَاهَا، فَإِنَّهُمْ
مَهْمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْقِيَاسِ فَقَدْ ثَبَتَ
بِالْقَوَاطِعِ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى
الْخَطَأِ، بَلْ لَوْ وَضَعُوا الْقِيَاسَ، وَاخْتَرَعُوا
اسْتِصْوَابًا بِرَأْيِهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ
لَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَجْمَعُ
اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى
الْخَطَأِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْبَحْثِ عَنْ
مُسْتَنِدِهِمْ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ
عَنْ مُسْتَنَدَاتٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ،
وَعَنْ دَلَالَاتٍ، وَقَرَائِنِ أَحْوَالٍ، وَتَكْرِيرَاتٍ،
وَتَنْبِيهَاتٍ تُفِيدُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِالتَّعَبُّدِ
بِالْقِيَاسِ وَرَبْطِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ
كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، لَكِنْ انْقَسَمَتْ تِلْكَ
الْمُسْتَنَدَاتُ إلَى مَا انْدَرَسَ فَلَمْ يُنْقَلْ
اكْتِفَاءٌ بِمَا عَلِمَتْهُ الْأُمَّةُ ضَرُورَةً، وَإِلَى
مَا نُقِلَ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ
إلَّا نَقْلُ الْآحَادِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى حَدِّ
التَّوَاتُرِ، وَلَا يُورِثُ الْعِلْمَ، وَإِلَى مَا
تَوَاتَرَ، وَلَكِنْ آحَادُ لَفْظِهَا يَتَطَرَّقُ
الِاحْتِمَالُ، وَالتَّأْوِيلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ
الْعِلْمُ بِآحَادِهَا، وَإِلَى مَا هِيَ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ
يَعْسُرُ وَصْفُهَا، وَنَقْلُهَا فَلَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا
فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُسْتَنَدِ لِمَا
عَلِمْنَاهُ عَلَى التَّوَاتُرِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ.
وَنَحْنُ مَعَ هَذَا نُشِيعُ الْقَوْلَ فِي شَرْحِ
مُسْتَنَدَاتِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ
مَدَارِكُ تَنْبِيهَاتِهِمْ لِلتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ،
وَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] إذْ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ
الْعُبُورُ مِنْ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إذَا شَارَكَهُ فِي
الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَلَّا اعْتَبَرُوا
بِالْأَصَابِعِ وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وَقَوْلُهُ: {مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ،
وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ،
وَمَسْأَلَةُ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يَكُنِ الِاقْتِبَاسُ مِنْ
الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْكِتَابِ.
، وَقَدْ تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ بِهَذِهِ
الْآيَاتِ، وَلَيْسَتْ مَرْضِيَّةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
بِمُجَرَّدِهَا نُصُوصًا صَرِيحَةً إنْ لَمْ تَنْضَمَّ
إلَيْهَا قَرَائِنُ، وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ قَالَ: بِكِتَابِ
اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ
قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ» .
وَهَذَا حَدِيثٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ
يُظْهِرْ أَحَدٌ فِيهِ طَعْنًا، وَإِنْكَارًا، وَمَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُهُ مُرْسَلًا بَلْ لَا
يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ إسْنَادِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: «لَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى
عَمَّتِهَا» وَ «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عَلِمَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كَافَّةً،
إلَّا أَنَّهُ نَصٌّ فِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُ
فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَتَعْيِينِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا
عُلِّقَ أَصْلُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ
الْقِيَاسَ إلَّا بِعُمُومِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
لِعُمَرَ حِين تَرَدَّدَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَرَأَيْتَ
لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ:
لَا فَقَالَ: فَلِمَ إذًا؟» فَشَبَّهَ مُقَدِّمَةَ الْوِقَاعِ
بِمُقَدِّمَةِ الشُّرْبِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ إلَّا
بِقَرِينَةٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَقْضًا
لِقِيَاسِهِ حَيْثُ أَلْحَقَ مُقَدِّمَةَ الشَّيْءِ
بِالشَّيْءِ، فَقَالَ: إنْ كُنْت تَقِيسُ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ
عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ فَأَلْحِقْ
الْمَضْمَضَةَ بِالشُّرْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى
أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قَالَتْ:
نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»
(1/293)
فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى قِيَاسِ دَيْنِ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَيْنِ الْخَلْقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ
قَرِينَةٍ تُعَرِّفُ الْقَصْدَ أَيْضًا، إذْ لَوْ كَانَ
لِتَعْلِيمِ الْقِيَاسِ لَقِيسَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ،
وَالصَّلَاةُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ
الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ أَيْ: الْقَافِلَةُ
فَادَّخِرُوا» فَبَيَّنَ أَنَّهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ
الْعِلَّةِ فَقَدْ كَانَ النَّهْيُ لِعِلَّةٍ، وَقَدْ زَالَتْ
الْعِلَّةُ فَزَالَ الْحُكْمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟
فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إذًا» . وقَوْله تَعَالَى
{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}
[الحشر: 7] ، وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ
قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَلَا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ،
وَأَنَا صَائِمٌ» تَنْبِيهًا عَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ
وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ
قَالَ:
«إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ
فِيهِ وَحْيٌ» ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:
105] ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ إلَّا تَشْبِيهًا، وَتَمْثِيلًا
بِحُكْمِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الشَّيْءِ، وَأَشْبَهُ بِهِ،
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا بِالْأَمْرِ،
وَثَبَتَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ
اجْتَهَدُوا بِالْأَمْرِ، وَقَالَ عُمَرُ يَا أَيّهَا النَّاسُ
إنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
مُصِيبًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُسَدِّدُهُ،
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الظَّنِّ، وَالتَّكَلُّفِ، فَلَمْ
يُفَرِّقْ إلَّا فِي الْعِصْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ «أَمْرُهُ
سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
بِرَأْيِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِمْ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: لَقَدْ وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ» وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» ، وَمِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «شَاوَرَ الصَّحَابَةَ
فِي عُقُوبَةِ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ قَبْلَ نُزُولِ
الْحَدِّ» ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ
فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» عَلَّلَ
تَحْرِيمَ ثَمَنِهَا بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا، وَاسْتَدَلَّ
عُمَرُ بِهَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى سَمُرَةَ حَيْثُ أَخَذَ
الْخَمْرَ فِي عُشُورِ الْكُفَّارِ، وَبَاعَهَا.
وَمِنْ تَعْلِيلَاتِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ: «لَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مُلَبِّيًا» ،
وَقَوْلُهُ فِي الشُّهَدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:
«إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَالطَّوَّافَاتِ» ،
وَقَوْلُهُ «فِي الَّذِي ابْتَاعَ غُلَامًا، وَاسْتَغَلَّهُ
ثُمَّ رَدَّهُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» : فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ
لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَآحَادُهَا لَا تَدُلُّ
دَلَالَةً قَاطِعَةً، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ تَأْثِيرُ
اقْتِرَانِهَا مَعَ نَظَائِرِهَا فِي إشْعَارِ الصَّحَابَةِ
بِكَوْنِهِمْ مُتَعَبَّدِينَ بِالْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
[الْقَوْلُ فِي شُبَهِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ
وَالصَّائِرِينَ إلَى حَظْرِهِ]
ِ شُبَهُ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ، وَالصَّائِرِينً إلَى
حَظْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ،، وَهِيَ
سَبْعٌ.
الْأُولَى: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ،
وَقَوْلُهُ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قَالُوا:
مَعْنَاهُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا شَرَعَ لَكُمْ،
فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا
فَلْيَكُنْ كُلُّ مَشْرُوعٍ فِي الْكِتَابِ، وَمَا لَيْسَ
مَشْرُوعًا، فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَيْنَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ،
وَالْعَوْلِ، وَالْمَبْتُوتَةِ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَأَنْتِ
عَلِيَّ حَرَامٌ، وَفِيهَا حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى شَرْعِيٌّ
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى طَلَبِهِ، وَالْكِتَابُ بَيَانٌ
لَهُ إمَّا بِتَمْهِيدِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَوْ
بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ
ثَبَتَ الْقِيَاسُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ
الْكِتَابُ قَدْ بَيَّنَهُ.
الثَّانِي: أَنَّكُمْ حَرَّمْتُمْ الْقِيَاسَ، وَلَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانُ تَحْرِيمِهِ، فَيَلْزَمُكُمْ
تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا خُصِّصَ
قَوْلُهُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] {وَأُوتِيَتْ
مِنْ
(1/294)
كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وَ {تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]
الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وَهَذَا حُكْمٌ
بِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ. قُلْنَا:
الْقِيَاسُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ
دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ، كَيْفَ، وَمَنْ
حَكَمَ بِمَعْنَى اُسْتُنْبِطَ مِنْ الْمُنَزَّلِ فَقَدْ
حَكَمَ بِالْمُنَزَّلِ؟ ثُمَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ قَاسُوا عَلَيْهِ غَيْرَهُ
فَأَقَرُّوا بِالْقِيَاسِ فِي مَعْرِضِ إبْطَالِ الْقِيَاسِ
مَعَ انْقِدَاحِ الْفَرْقِ إذْ قَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَجُزْ
الِاجْتِهَادُ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْ لَا
يُتَّهَمَ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّبْلِيغِ
بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ.
، وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44]
الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {وَلَا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَ {إنَّ الظَّنَّ
لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] {إنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] قُلْنَا: إذَا عَلِمْنَا أَنَّا
إذَا ظَنَنَّا كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ حُرِّمَ عَلَيْنَا
الرِّبَا فِي الْبُرِّ ثُمَّ ظَنَنَّا كَانَ الْحُكْمُ
مَقْطُوعًا بِهِ لَا مَظْنُونًا كَمَا إذَا ظَنَّ الْقَاضِي
صِدْقَ الشُّهُودِ، وَكَمَا فِي الْقِبْلَةِ، وَجَزَاءِ
الصَّيْدِ، وَأَبْوَابِ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، ثُمَّ
نَقُولُ: هَذَا عَامٌّ أَرَادَ بِهِ ظُنُونَ الْكُفَّارِ
الْمُخَالِفَةَ لِلْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ.
ثُمَّ نَقُول: أَلَسْتُمْ قَاطِعِينَ بِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ
مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِخَطَئِكُمْ؟ فَلَا تَحْكُمُوا
بِالظَّنِّ، وَلَيْسَ مِنْ الْجَوَابِ الْمَرْضِيِّ قَوْلُ
الْقَائِلِ: الظَّنُّ عِلْمٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّ
الْعِلْمَ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ، وَبَاطِنٌ.
الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:
121] قَالُوا: وَأَنْتُمْ تُجَادِلُونَ فِي الْقِيَاسِ
قُلْنَا: وَأَنْتُمْ تُجَادِلُونَ فِي نَفْيِهِ، وَإِبْطَالِهِ
فَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَادَ بِهِ الْجِدَالَ الْبَاطِلَ فَهُوَ
عُذْرُنَا، فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي جِدَالِهِمْ
بِخِلَافِ النَّصِّ حَيْثُ قَالُوا: نَأْكُلُ مِمَّا
قَتَلْنَاهُ، وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ، وَكَمَا
قَاسُوا الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا} [البقرة: 275] .
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قَالُوا: وَأَنْتُمْ تَرُدُّونَ
إلَى الرَّأْيِ. قُلْنَا: لَا بَلْ نَرُدُّهُ إلَى الْعِلَلِ
الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ نُصُوصِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، وَالْقِيَاسُ عِبَارَةٌ عَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِي
النُّصُوصِ بِتَجْرِيدِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَحَذْفِ الْحَشْوِ
الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَأَنْتُمْ فَقَدْ
رَدَدْتُمْ الْقِيَاسَ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى نَصِّ
النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا إلَى مَعْنًى
مُسْتَنْبَطٍ مِنْ النَّصِّ.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَعْمَلُ
هَذِهِ الْأُمَّةُ بُرْهَةً بِالْكِتَابِ، وَبُرْهَةً
بِالسُّنَّةِ، وَبُرْهَةً بِالْقِيَاسِ فَإِذَا فَعَلُوا
ذَلِكَ فَقَدْ ضَلُّوا» قُلْنَا أَرَادَ بِهِ الرَّأْيَ
الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «سَتَفْتَرِقُ
أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً
عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ
فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» ، وَمَا
نَقَلُوا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ،
وَالْقِيَاسِ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ.
السَّابِعَةُ: قَوْلُ الشِّيعَةِ، وَأَهْلِ التَّعْلِيمِ
إنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ بِبُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِخِلَافِ
النَّصِّ، وَالنُّصُوصُ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ،
وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَهُوَ
نَائِبُ الرَّسُولِ، فَيَجِبُ
(1/295)
مُرَاجَعَتُهُ، قَالُوا: وَلَا يَمْنَعُ
مِنْ هَذَا كَوْنُ الْوَقَائِعِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ،
وَكَوْنُ النُّصُوصِ مُتَنَاهِيَةً؛ لِأَنَّ الَّتِي لَا
تَتَنَاهَى أَحْكَامُ الْأَشْخَاصِ كَحُكْمِ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو
فِي أَنَّهُ عَدْلٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَمْ لَا، وَفَقِيرٌ
تُصْرَفُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا، وَمُسَلَّمٌ أَنَّ
هَذَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى
تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَمَّا الرَّوَابِطُ
الْكُلِّيَّةُ لِلْأَحْكَامِ فَيُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالنَّصِّ
بِأَنْ نَقُولَ مَثَلًا: مَنْ سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ
حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ
الْقَطْعُ، وَمَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ
تَامٍّ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ. لَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ؛ فَمَا تَنَاوَلَتْهُ الرَّابِطَةُ الْجَامِعَةُ
يَجْرِي فِيهِ الْحُكْمُ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ مِمَّا لَا
يَتَنَاهَى يَبْقَى عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَتَكُونُ
مُحِيطَةً بِهَذِهِ الطُّرُقِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ الْقِيَاسِ مَعَ
النَّصِّ، وَنُسَلِّمُ إمْكَانَ الرَّبْطِ بِالضَّوَابِطِ،
وَالرَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ، لَكِنَّكُمْ اخْتَرَعْتُمْ
هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ،
وَالْحَرَامِ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ،
وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مَنْ سَمِعَ فِيهَا حَدِيثًا مِنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِمْ
الْمَعْصُومُ بِزَعْمِكُمْ، وَكَانُوا يُشَاوِرُونَهُ،
وَيُرَاجِعُونَهُ فَتَارَةً وَافَقُوهُ، وَتَارَةً خَالَفُوهُ،
وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ حَدِيثًا، وَلَا نَصًّا إلَّا
سَاعَدُوهُ، بَلْ قَبِلُوا النَّقْلَ مِنْ كُلِّ عَدْلٍ
فَضْلًا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَلِمَ كَتَمَ
النَّصَّ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَتَرَكَهُمْ
مُخْتَلِفِينَ إنْ كَانَتْ النُّصُوصُ مُحِيطَةً؟
فَبِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ مِنْ اجْتِهَادِهِمْ،
وَاخْتِلَافِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تَكُنْ مُحِيطَةً،
فَدَلَّ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبَّدِينَ
بِالِاجْتِهَادِ.
[الْقَوْلُ فِي الشُّبَه الْمَعْنَوِيَّةِ للمنكرين
لِلْقِيَاسِ وَهِيَ سِتٌّ]
الْقَوْلُ فِي شُبَهِهِمْ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ سِتٌّ:
الْأُولَى: قَوْلُ الشِّيعَةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ: إنَّ
الِاخْتِلَافَ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَدِينُ اللَّهِ
وَاحِدٌ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ، وَفِي رَدِّ الْخَلْقِ إلَى
الظُّنُونِ مَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ ضَرُورَةً، وَالرَّأْيُ
مَنْبَعُ الْخِلَافِ؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا
فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ، وَنَقِيضُهُ دِينًا؟ وَإِنْ كَانَ
الْمُصِيبُ وَاحِدًا فَهُوَ مُحَالٌ، إذْ ظَنُّ هَذَا كَظَنِّ
ذَاكَ، وَالظَّنِّيَّاتُ لَا دَلِيلَ فِيهَا بَلْ تَرْجِعُ
إلَى مَيْلِ النُّفُوسِ، وَرُبَّ كَلَامٍ تَمِيلُ إلَيْهِ
نَفْسُ زَيْدٍ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَنْفِرُ عَنْهُ قَلْبُ
عَمْرٍو، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَمِّ الِاخْتِلَافِ قَوْله
تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
وَقَالَ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
[الشورى: 13] ، وَقَالَ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، وَقَالَ تَعَالَى:
{إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ،
وَكَذَلِكَ ذَمَّ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
الِاخْتِلَافَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "
لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّكُمْ إنْ اخْتَلَفْتُمْ كَانَ مَنْ
بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا "، وَسَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ،
وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَخْتَلِفَانِ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ
فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَالثَّوْبَيْنِ، فَصَعِدَ عُمَرُ
الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: " اخْتَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ
أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ لَا أَسْمَعُ
اثْنَيْنِ يَخْتَلِفَانِ بَعْد مَقَامِي هَذَا إلَّا فَعَلْتُ
وَصَنَعْتُ "، وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ كُلَيْبٍ: رَأَيْتُ عُمَرَ
يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَعَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَقُلْت:
إنَّ بَيْنَكُمَا لَشَرًّا، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا بَيْنَنَا
إلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ خَيْرُنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا
الدِّينِ.، وَكَتَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى
قُضَاتِهِ أَيَّامَ الْخِلَافَةِ: أَنْ اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ
تَقْضُونَ فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ، وَأَرْجُو أَنْ
أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي
نَرَاهُ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ
الشَّيْءَ، وَنَقِيضَهُ كَيْف يَكُونُ دِينًا؟ قُلْنَا يَجُوزُ
ذَلِكَ فِي حَقِّ
(1/296)
شَخْصَيْنِ كَالصَّلَاةِ، وَتَرْكِهَا فِي
حَقِّ الْحَائِضِ، وَالطَّاهِرِ، وَالْقِبْلَةِ فِي حَقِّ مَنْ
يَظُنُّهَا إذَا اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ،
وَكَجَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَتَحْرِيمِهِ فِي حَقِّ
رَجُلَيْنِ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ أَحَدِهِمَا السَّلَامَةُ،
وَعَلَى ظَنِّ الْآخَرِ الْهَلَاكُ، وَكَتَصْدِيقِ الرَّاوِي،
وَالشَّاهِدِ، وَتَكْذِيبِهِمَا فِي حَقِّ قَاضِيَيْنِ،
وَمُفْتِيَيْنِ يَظُنُّ أَحَدُهُمَا الصِّدْقَ، وَالْآخَرُ
الْكَذِبَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ
مَأْمُورًا بِهِ؟ قُلْنَا: بَلْ يُؤْمَرُ الْمُجْتَهِدُ
بِظَنِّهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، فَلَيْسَ رَفْعُهُ
دَاخِلًا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ
ضَرُورَةً لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
مَعْنَاهُ التَّنَاقُضُ، وَالْكَذِبُ الَّذِي يَدَّعِيهِ
الْمُلْحِدَةُ أَوْ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَلَاغَةِ
وَاضْطِرَابُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَى كَلَامِ
الْبَشَرِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فِي نَظْمِهِ،
وَنَثْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ
فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ، وَالْمِلَلِ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْقُرْآنُ فِيهِ
أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَإِبَاحَةٌ، وَوَعْدٌ، وَوَعِيدٌ،
وَأَمْثَالٌ، وَمَوَاعِظُ، وَهَذِهِ اخْتِلَافَاتٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَفَرَّقُوا وَلَا تَنَازَعُوا فَكُلُّ
ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي التَّوْحِيدِ،
وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أُصُولِ جَمِيعِ
الدِّيَانَاتِ الَّتِي الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ
قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ}
[آل عمران: 105] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أَرَادَ
بِهِ التَّخَاذُلَ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ.
، وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - فِي ذَمِّ الِاخْتِلَافِ فَكَيْفَ يَصِحُّ، وَهُمْ
أَوَّلُ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالْمُجْتَهِدِينَ؟
وَاخْتِلَافُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومٌ تَوَاتُرًا كَيْف
تَدْفَعُهَا رِوَايَاتٌ يَتَطَرَّقُ إلَى سَنَدِهَا ضَعْفٌ،
وَإِلَى مَتْنِهَا تَأْوِيلٌ مِنْ النَّهْيِ عَنْ
الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الدِّينِ أَوْ نُصْرَةِ الدِّينِ
أَوْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْخِلَافِ
بَعْدَ الْإِجْمَاعِ أَوْ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْأَئِمَّةِ،
وَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ أَوْ نَهْيِ الْعَوَامّ عَنْ
الِاخْتِلَافِ بِالرَّأْيِ، وَلَيْسُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا إنْكَارُ عُمَرَ اخْتِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ سَبَقَ إجْمَاعٌ
عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ خَالَفَ ظَنَّ أَنَّ انْقِضَاءَ
الْعَصْرِ شَرْطٌ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ:
عَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ وَأَنْتُمْ
جَمِيعًا تَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
أَوْ لَعَلَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَثَّمَ صَاحِبَهُ، وَبَالَغَ
فِيهِ.
فَنَهَى عَنْ وَجْهِ الِاخْتِلَافِ لَا عَنْ أَصْلِهِ، أَوْ
لَعَلَّهُمَا اخْتَلَفَا عَلَى مُسْتَفْتٍ وَاحِدٍ فَتَحَيَّرَ
السَّائِلُ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ
النَّاسُ؟ أَيْ: الْعَامَّةُ، بَلْ إذَا ذَكَرَ الْمُفْتِي فِي
مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي
الْآخَرِ أَنْ يُخَالِفَهُ بَيْن يَدَيْهِ، فَيَتَحَيَّرُ
السَّائِلُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَلَا يَصِحُّ عَنْ
عَلِيٍّ نَقْلُهُ تَحْرِيمَ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَلُحُومِ
الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ كَيْف، وَقَدْ
عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الِاجْتِهَادَ؟ أَمَّا
كِتَابُ عَلِيٍّ إلَى قُضَاتِهِ، وَكَرَاهِيَةُ الِاخْتِلَافِ،
فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَتَبُوا
إلَيْهِ يَطْلُبُونَ رَأْيَهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ
فَقَالَ: اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ إذْ لَوْ
خَالَفْتُمُوهُمْ الْآنَ لَا نَفْتُقُ بِهِ فَتْقًا آخَرَ،
وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى تَعَصُّبٍ مِنِّي، وَمُخَالَفَةٍ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ اسْتَأْذَنُوهُ فِي مُخَالَفَةِ
إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى
ظَنٍّ أَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ بَعْدُ، فَيَجُوزُ
الْخِلَافُ فَكَرِهَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ السَّابِقِينَ،
وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَغَيْرِهِمْ أَوْ رَدِّهَا
فَأَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَرْبِ؛
لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَفِي رَدِّ
شَهَادَتِهِمْ تَعَصُّبٌ، وَتَجْدِيدُ خِلَافٍ.
(1/297)
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: النَّفْيُ
الْأَصْلِيُّ مَعْلُومٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ
مَعْلُومٌ، فَيَبْقَى الْمَسْكُوتُ عَنْهُ عَلَى النَّفْيِ
الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ، فَكَيْفَ يَنْدَفِعُ الْمَعْلُومُ
عَلَى الْقَطْعِ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ؟ قُلْنَا:
الْعُمُومُ، وَالظَّوَاهِرُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُ
الْمُقَوِّمِ فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ،
وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَصِدْقِ الشُّهُودِ وَصِدْقِ
الْمُخَالِفِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كُلُّ ذَلِكَ مَظْنُونٌ،
وَيُرْفَعُ بِهِ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ ثُمَّ نَقُولُ: نَحْنُ
لَا نَرْفَعُ ذَلِكَ إلَّا بِقَاطِعٍ، فَإِنَّا إذَا
تُعُبِّدْنَا بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ،
وَظَنَنَّا فَنَقْطَعُ بِوُجُودِ الظَّنِّ، وَنَقْطَعُ
بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ فَلَا يُرْفَعُ ذَلِكَ
إلَّا بِقَاطِعٍ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يُتَصَرَّفُ بِالْقِيَاسِ
فِي شَرْعٍ مَبْنَاهُ عَلَى التَّحَكُّمِ، وَالتَّعَبُّدِ،
وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ
الْمُتَفَرِّقَاتِ؟ إذْ قَالَ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ بَوْلِ
الصَّبِيَّةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ، وَيَجِبُ
الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَلَا يَجِبُ مِنْ
الْبَوْلِ، وَالْمَذْيِ، وَفَرَّقَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ
بَيْنَ قَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَأَبَاحَ النَّظَرَ
إلَى الرَّقِيقَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، وَجَمَعَ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفَاتِ فَأَوْجَبَ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ
قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفَرَّقَ فِي حَلْقِ
الشَّعْرِ، وَالتَّطَيُّبِ بَيْنَ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ،
وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ،
وَالْيَمِينِ، وَالْإِفْطَارِ، وَأَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى
الزَّانِي، وَالْكَافِرِ، وَالْقَاتِلِ، وَتَارِكِ الصَّلَاةِ،
وَقَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ: «تُجْزِي عَنْكَ، وَلَا تُجْزِي
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك فِي الْأُضْحِيَّةِ» ، وَقِيلَ
لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ، وَكَيْفَ يَتَجَاسَرُ
فِي شَرْعٍ هَذَا مِنْهَاجُهُ عَلَى إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ
بِالْمَنْطُوقِ، وَمَا مِنْ نَصٍّ عَلَى مَحَلٍّ إلَّا،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا، وَتَعَبُّدًا؟
قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ اشْتِمَالَ الشَّرْعِ عَلَى
تَحَكُّمَاتٍ، وَتَعَبُّدَاتٍ فَلَا جَرَمَ، نَقُولُ:
الْأَحْكَامُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ لَا يُعَلَّلُ
أَصْلًا، وَقِسْمٌ يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا، كَالْحَجْرِ
عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ، وَقِسْمٌ
يُتَرَدَّدُ فِيهِ.
وَنَحْنُ لَا نَقِيسُ مَا لَمْ يَقُمْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى
كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا، وَدَلِيلٌ عَلَى عَيْنِ
الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ
الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ
الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، وَلَمَّا كَثُرَتْ التَّعَبُّدَاتُ
فِي الْعِبَادَاتِ لَمْ يُرْتَضَ قِيَاسٌ غَيْرُ التَّكْبِيرِ،
وَالتَّسْلِيمِ، وَالْفَاتِحَةِ عَلَيْهَا، وَلَا قِيَاسَ
غَيْرَ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمَنْصُوصِ،
وَإِنَّمَا نَقِيسُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَغَرَامَاتِ
الْجِنَايَاتِ، وَمَا عُلِمَ بِقَرَائِنَ كَثِيرَةٍ بِنَاؤُهَا
عَلَى مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ، وَمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَكَيْفَ
يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْوَجِيزَ الْمُفْهِمَ،
وَيَعْدِلَ إلَى الطَّوِيلِ الْمُوهِمِ، فَيَعْدِلَ عَنْ
قَوْلِهِ: حَرَّمْت الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ أَوْ كُلِّ
مَكِيلٍ، إلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ لِيَرْتَبِكَ
الْخَلْقُ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ؟ قُلْنَا: وَلَوْ ذَكَرَ
الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ، وَذَكَرَ مَعَهَا أَنَّ مَا عَدَاهَا
لَا رِبَا فِيهِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ حَرَامٌ فِيهِ لَكَانَ
ذَلِكَ أَصْرَحَ وَلِلْجَهْلِ، وَالِاخْتِلَافِ أَدْفَعَ،
فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا بِبَلَاغَتِهِ
عَلَى قَطْعِ الِاحْتِمَالِ لِلْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ،
وَالظَّوَاهِرِ، وَعَلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْجَمِيعَ فِي
الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ لِيَحْسِمَ الِاحْتِمَالَ عَنْ
الْمَتْنِ، وَالسَّنَدِ جَمِيعًا، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى
رَفْعِ احْتِمَالِ التَّشْبِيهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالتَّصْرِيحِ بِالْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ
فِيهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا
سَبِيلَ إلَى التَّحَكُّمِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا
صَرَّحَ، وَنَبَّهَ وَطَوَّلَ، وَأَوْجَزَ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ نَقُولُ: إنْ
عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى لُطْفًا، وَسِرًّا فِي تَعَبُّدِ
الْعُلَمَاءِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَمْرِهِمْ بِالتَّشْمِيرِ
عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي اسْتِنْبَاطِ أَسْرَارِ الشَّرْعِ،
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
(1/298)
أَنْ يَذْكُرَ الْبَعْضَ، وَيَسْكُتَ عَنْ
الْبَعْضِ، وَيُنَبِّهَ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا يُحَرِّكُ
الدَّوَاعِيَ لِلِاجْتِهَادِ {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
[المجادلة: 11] هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاحَ،
وَعِنْدَنَا فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مَا
يَشَاءُ.
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ إنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي
الْأَصْلِ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي
الْفَرْعِ بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ؟ فَكَيْفَ
يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِطَرِيقٍ سِوَى طَرِيقِ
الْأَصْلِ؟ وَإِنْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ فَهُوَ
مُحَالٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَاطِعٌ، وَالْعِلَّةَ مَظْنُونَةٌ،
وَالْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَكَيْفَ يُحَالُ الْمَقْطُوعُ
بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ؟ قُلْنَا الْحُكْمُ فِي
الْأَصْلِ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ، وَفَائِدَةُ اسْتِنْبَاطِ
الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ إمَّا تَعْدِيَةُ الْعِلَّةِ،
وَإِمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَنَاطِ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ
لِلْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْد زَوَالِ
الْمَنَاطِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ،
وَإِمَّا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا
لِلْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي
الطَّرِيقِ فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ
أَصْلٌ لِلنَّظَرِيَّاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ
لَهَا فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ لَزِمَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي
الْحُكْمِ.
السَّادِسَةُ: وَهِيَ عُمْدَتُهُمْ الْكُبْرَى -: أَنَّ
الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ،، وَالْعِلَّةُ
غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ
الشَّارِعُ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ، فَهُوَ
تَوْقِيفٌ عَامٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي
الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، فَهَذَا لَا يُسَاوِيهِ، وَلَا
يَقْتَضِي الرِّبَا فِي غَيْرِ الْبُرِّ، كَمَا لَوْ قَالَ
الْمَالِكُ: أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي كُلَّ أَسْوَدَ عَتَقَ
كُلُّ أَسْوَدَ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ غَانِمًا لِسَوَادِهِ
أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، لَمْ يَعْتِقْ جَمِيعَ عَبِيدِهِ
السُّودِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّلَ بِمُخَيَّلٍ، وَقَالَ: أَعْتِقُوا
غَانِمًا؛ لِأَنَّهُ سَيِّئُ الْخُلُقِ حَتَّى أَتَخَلَّصَ
مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْ عِتْقُ سَالِمٍ، وَإِنْ كَانَ أَسْوَأَ
خُلُقًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ
لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهَا لِقُصُورِ لَفْظِهَا
فَالْمُسْتَنْبَطَةُ كَيْفَ تُعَدَّى؟ أَوْ كَيْفَ يُفَرَّقُ
بَيْنَ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَيْنَ كَلَامِ غَيْرِهِ فِي
الْفَهْمِ؟ وَإِنَّمَا مِنْهَاجُ الْفَهْمِ وَضْعُ اللِّسَانِ،
وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ نُفَاةَ
الْقِيَاسِ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ مِنْ
فَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِنْ الْفَرِيقِ
الثَّالِثِ، إذْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّنْصِيصُ عَلَى
الْعِلَّةِ كَذِكْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْن قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَبَيْن
قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
يُوجِبُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ لَكِنْ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ لَا
بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ " لِشِدَّتِهَا
" إقَامَةُ الشِّدَّةِ مُقَامَ الِاسْمِ الْعَامِّ فَقَدْ
أَقَرَّ هَذَا الْقَائِلُ بِالْإِلْحَاقِ إنَّمَا أَنْكَرَ
تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ
الْقَاشَانِيَّةِ، والنهروانية؛ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا
الْقِيَاسَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ
الْمُسْتَنْبَطَةِ فَقَالُوا: إذَا كَشَفَ النَّصُّ أَوْ
دَلِيلٌ آخَرُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَتْ الْعِلَّةُ جَامِعَةً
لِلْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا، وَمَا فَارَقَهُمْ
الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إلَّا فِي التَّسْمِيَةِ حَيْثُ لَمْ
يُسَمُّوا هَذَا الْفَنَّ قِيَاسًا، وَالْفَرِيقَانِ
مُقِرَّانِ بِأَنَّ هَذَا فِي الْعِتْقِ، وَالْوَكَالَةِ لَا
يَجْرِي فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الِاسْتِشْهَادُ مَعَ
الْإِقْرَارِ بِالْفَرْقِ.
أَمَّا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَنْ أَنْكَرَ
الْإِلْحَاقَ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ
فَتَسْتَقِيمُ لَهُمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَجَوَابُهُمْ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا
يَتَشَوَّفُ إلَى التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ:
أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ فَاعْتَبِرُوا قِيسُوا
عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، لَعَتَقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ،
وَهُوَ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْقِيَاسِ،
وَالِاعْتِبَارِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَبُّدُ بِهِ
لَكَانَ مُجَرَّدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ لَا
يُرَخَّصُ فِي الْإِلْحَاقِ إذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
الْعِلَّةُ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: إنْ عُلِمَ قَطْعًا قَصْدُهُ إلَى عِتْقِهِ
(1/299)
لِسَوَادِهِ عَتَقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ
بِقَوْلِهِ: " أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ "، وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ:
لَا يَكْفِي أَنْ يُعْلَمَ قَصْدُهُ إلَى عِتْقِهِ بِمُجَرَّدِ
السَّوَادِ مَا لَمْ يَنْوِ بِهَذَا اللَّفْظِ عِتْقَ جَمِيعِ
السُّودَانِ، فَإِنْ نَوَى كَفَاهُ هَذَا اللَّفْظُ
لِإِعْتَاقِ جَمِيعِ السُّودَانِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَمْ
يَكُنْ فِيهِ إلَّا إرَادَتُهُ مَعْنًى عَامًّا بِلَفْظٍ
خَاصٍّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنْكَرٍ كَمَا لَوْ قَالَ:
وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لِفُلَانٍ خُبْزًا، وَلَا شَرِبْتُ
مِنْ مَائِهِ جَرْعَةً، وَنَوَى بِهِ دَفْعَ الْمِنَّةِ حَنِثَ
بِأَخْذِ الدَّرَاهِمِ، وَالثِّيَابِ، وَالْأَمْتِعَةِ
وَصَلَحَ اللَّفْظُ الْخَاصُّ مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ
لِلْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا صَلَحَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}
[النساء: 10] لِلنَّهْيِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْعَامِّ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]
لِلنَّهْيِ عَنْ الْإِيذَاءِ الْعَامِّ، فَإِذَا اسْتَتَبَّ
لِهَؤُلَاءِ الْفِرَقِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ
فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُعَمِّمُونَ الْحُكْمَ إذَا دَلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ الشَّرْعِ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ
بِالشِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ
عِنْدنَا بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا غَانِمٌ
بِقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَإِنْ نَوَى
عِتْقَ السُّودَانِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِ
غَانِمٍ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ، وَالْإِرَادَةِ فَلَا
تُؤَثِّرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْجَوَابِ: أَنَّ الْأُمَّةَ
مُجْمِعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ، إذْ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِي
الْحُكْمِ مَهْمَا قَالَ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا
فَقِيسُوا عَلَيْهَا كُلَّ مُشْتَدٍّ "، وَلَوْ قَالَ "
أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ
أَسْوَدَ " اقْتَصَرَ الْعِتْقُ عَلَى غَانِمٍ عِنْدَ
الْأَكْثَرِينَ، فَكَيْفَ يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ
مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْفَرْقِ؟ ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفُوا
بِالْفَرْقِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ فِي أَمْلَاكِ
الْعِبَادِ، وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ عَلَّقَ
أَحْكَامَ الْأَمْلَاكِ حُصُولًا، وَزَوَالًا بِالْأَلْفَاظِ
دُونَ الْإِرَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِكُلِّ مَا دَلَّ
عَلَى رِضَا الشَّرْعِ، وَإِرَادَتِهِ مِنْ قَرِينَةٍ،
وَدَلَالَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ
لَوْ بِيعَ مَالٌ لِتَاجِرٍ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ بِأَضْعَافِ
ثَمَنِهِ فَاسْتَبْشَرَ، وَظَهَرَ أَثَرُ الْفَرَحِ عَلَيْهِ
لَمْ يُنَفَّذْ الْبَيْعُ إلَّا بِتَلَفُّظِهِ بِإِذْنٍ
سَابِقٍ أَوْ إجَازَةٍ لَاحِقَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَلَوْ جَرَى بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلٌ فَسَكَتَ عَلَيْهِ دَلَّ
سُكُوتُهُ عَلَى رِضَاهُ، وَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فَكَيْفَ
يَتَسَاوَيَانِ؟ بَلْ ضَيَّقَ الشَّرْعُ تَصَرُّفَاتِ
الْعِبَادِ حَتَّى لَمْ تَحْصُلْ أَحْكَامُهَا بِكُلِّ لَفْظٍ
بَلْ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ:
فَسَخْتُ النِّكَاحَ، وَقَطَعْتُ الزَّوْجِيَّةَ وَرَفَعْتُ
عِلَاقَةَ الْحِلِّ بَيْنِي، وَبَيْنَ زَوْجَتِي، لَمْ يَقَعْ
الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ؛ فَإِذَا تَلَفَّظَ
بِالطَّلَاقِ وَقَعَ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الطَّلَاقِ
فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ الْأَحْكَامُ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ
بَلْ بِبَعْضِهَا فَكَيْفَ تَحْصُلُ بِمَا دُونَ اللَّفْظِ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؟
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا
تَأْكُلْ هَذِهِ الْحَشِيشَةَ؛ لِأَنَّهَا سُمٌّ، وَلَا
تَأْكُلْ الْإِهْلِيلَجَ فَإِنَّهُ مُسْهِلٌ، وَلَا تَأْكُلْ
الْعَسَلَ فَإِنَّهُ حَارٌّ، وَلَا تَأْكُلْ أَيُّهَا
الْمَفْلُوجُ الْقِثَّاءَ فَإِنَّهُ بَارِدٌ، وَلَا تَشْرَبْ
الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَلَا تُجَالِسْ
فُلَانًا فَإِنَّهُ أَسْوَدُ فَأَهْلُ اللُّغَةِ مُتَّفِقُونَ
عَلَى أَنَّ مَعْقُولَ هَذَا التَّعْلِيلِ تَعَدَّى النَّهْيَ
إلَى كُلِّ مَا فِيهِ الْعِلَّةُ، هَذَا مُقْتَضَى اللُّغَةِ
، وَهَذَا أَيْضًا مُقْتَضَاهُ فِي الْعِتْقِ؛ لَكِنَّ
التَّعَبُّدَ مَنَعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ
بِالتَّعْلِيلِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اللَّفْظِ
الصَّرِيحِ الْمُطَابِقِ لِلْمَحَلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ
فِي الشَّرْعِ إذْ كُلُّ مَا عُرِفَ بِإِشَارَةٍ، وَأَمَارَةٍ،
وَقَرِينَةٍ فَهُوَ كَمَا عُرِفَ بِاللَّفْظِ فَكَيْفَ
يَسْتَوِيَانِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْفَرْقِ؟ ؛ لِأَنَّ
الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ كَالْجَامِعِ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفَاتِ فَمَنْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِلْخِلَافَيْنِ
يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ الْجَامِعُ، وَمَنْ
فَرَّقَ بَيْن الْمِثْلَيْنِ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ لِمَاذَا
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ قَالَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ: بِعْ هَذِهِ
الدَّابَّةَ لِجِمَاحِهَا، وَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ لِسُوءِ
خُلُقِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَأْمُورِ بَيْعُ مَا شَارَكَهُ
فِي الْعِلَّةِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ
(1/300)
يَجُوزُ فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْفُقَهَاءَ،
وَإِنْ مَنَعْتُمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ
كَلَامِ الشَّارِعِ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؟
وَإِنْ ثَبَتَ تَعَبُّدٌ فِي لَفْظِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ
بِخُصُوصِ الْجِهَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي لَفْظِ الْوَكَالَةِ
قُلْنَا: إنْ كَانَ قَدْ قَالَ لَهُ: إنَّ مَا ظَهَرَ لَكَ
إرَادَتِي إيَّاهُ أَوْ رِضَايَ بِهِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ
دُونَ صَرِيحِ اللَّفْظِ فَافْعَلْهُ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ
ذَلِكَ؛ وَهُوَ وِزَانُ حُكْمِ الشَّرْعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ
أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ أَمَرَ
بِبَيْعِهِ لِمُجَرَّدِ سُوءِ الْخُلُقِ لَا لِسُوءِ الْخُلُقِ
مَعَ الْقُبْحِ أَوْ مَعَ الْخُرْقِ فِي الْخِدْمَةِ،
فَإِنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضَ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ
لَمْ يَعْلَمْ قَطْعًا وَلَكِنْ ظَنَّهُ ظَنًّا فَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ لَهُ: ظَنُّكَ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ
الْعِلْمِ فِي تَسْلِيطِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنْ
اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَازَ التَّصَرُّفُ، وَهُوَ
وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا.
فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ قَالَ: مَا
عَرَفْتُمُوهُ بِالْقَرَائِنِ وَالدَّلَائِلِ مِنْ رِضَايَ
وَإِرَادَتِي فَهُوَ كَمَا عَرَفْتُمُوهُ بِالصَّرِيحِ، فَلَمْ
يَقُلْ: إنِّي إذَا ذَكَرْتُ عِلَّةَ شَيْءٍ ذَكَرْتُ تَمَامَ
أَوْصَافِهِ، فَلَعَلَّهُ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ
بِشِدَّةِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا بِطَعْمِ الْبُرِّ
خَاصَّةً لَا لِلشِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلِلَّهِ أَسْرَارٌ
فِي الْأَعْيَانِ فَقَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَالْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ
وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ
الطَّيْرِ لِخَوَاصَّ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا، فَلَمْ
يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ الْخَمْرِ مِنْ
الْخَاصِّيَّةِ مَا لَيْسَ لِشِدَّةِ النَّبِيذِ؟ فَبِمَاذَا
يَقَعُ الْأَمْرُ عَنْ هَذَا؟ وَهَذَا أَوْقَعُ كَلَامٍ فِي
مُدَافَعَةِ الْقِيَاس.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ خَاصَّةَ الْمَحَلِّ قَدْ يُعْلَمُ
ضَرُورَةُ سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا، كَقَوْلِهِ: «أَيُّمَا
رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَوْلَى
بِمَتَاعِهِ» ، إذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مَعْنَاهُ،
وَقَوْله «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ
عَلَيْهِ الْبَاقِي» ، فَالْأَمَةُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّا
عَرَفْنَا بِتَصَفُّحِ أَحْكَامِ الْعِتْقِ وَالْبَيْعِ
وَبِمَجْمُوعِ أَمَارَاتٍ وَتَكْرِيرَاتٍ وَقَرَائِنَ أَنَّهُ
لَا مَدْخَلَ لِلْأُنُوثَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَقَدْ
يُعْلَمُ ذَلِكَ ظَنًّا بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهِ، وَقَدْ
عَرَفْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
عَوَّلُوا عَلَى الظَّنِّ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ
النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا إلْحَاقَ الظَّنِّ
بِالْقَطْعِ، وَلَوْلَا سِيرَةُ الصَّحَابَةِ لَمَا
تَجَاسَرْنَا عَلَيْهِ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ
وَلَوْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهَا،
فَعَلِمْنَا أَنَّ الظَّنَّ كَالْعِلْمِ أَمَّا حَيْثُ
انْتَفَى الظَّنُّ وَالْعِلْمُ وَحَصَلَ الشَّكُّ فَلَا
يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ أَصْلًا
مَسْأَلَةٌ قَالَ النَّظَّامُ: الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ
تُوجِبُ الْإِلْحَاقَ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ
بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْعُمُومِ، إذْ لَا فَرْقَ فِي
اللُّغَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: " حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ "
وَبَيْنَ قَوْلِهِ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا ".
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ
لِشِدَّتِهَا " لَا يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ
وَالْوَضْعُ إلَّا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، وَلَا
يَجُوزُ إلْحَاقُ النَّبِيذِ مَا لَمْ يَرِدْ التَّعَبُّدُ
بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ، فَهُوَ كَقَوْلِ "
أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي
إعْتَاقَ جَمِيعِ السُّودَانِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا
وَلِلَّهِ أَنْ يُنَصِّبَ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً عِلَّةً،
وَيَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ زَوَالَ التَّحْرِيمِ
عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ
خَاصِّيَّةً فِي شِدَّةِ الْخَمْرِ تَدْعُو إلَى رُكُوبِ
الْقَبَائِحِ وَيَعْلَمُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ لُطْفًا
دَاعِيًا إلَى الْعِبَادَاتِ؟ فَإِذًا قَدْ ظُنَّ النَّظَّامُ
أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقِيَاسِ وَقَدْ زَادَ عَلَيْنَا إذْ
قَاسَ حَيْثُ لَا نَقِيسُ لَكِنَّهُ أَنْكَرَ اسْمَ
الْقِيَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ قَوْلُ السَّيِّدِ وَالْوَالِدِ لِعَبْدِهِ " لَا
تَأْكُلْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ وَكُلْ هَذَا فَإِنَّهُ
غِذَاءٌ " يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ عَنْ أَكْلِ سُمٍّ آخَرَ،
وَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاغْتِذَاءِ
قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِقَرِينَةِ اطِّرَادِ
الْعَادَاتِ وَمَعْرِفَةِ أَخْلَاقِ الْآبَاءِ وَالسَّادَاتِ
فِي مَقَاصِدِهِمْ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْأَبْنَاءِ،
وَأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْن سُمٍّ وَسُمٍّ، وَإِنَّمَا
يَتَّقُونَ الْهَلَاكَ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى إذَا
حَرَّمَ شَيْئًا بِمُجَرَّدِ
(1/301)
إرَادَتهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُبِيحَ مِثْلَهُ
وَأَنْ يُحَرِّمَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا وَمَصْلَحَةً،
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ
مِثْلَهُ مَفْسَدَةٌ؛ لِأَنَّ تَضَمُّنَهُ الصَّلَاحَ
وَالْفَسَادَ لَيْسَ لِطَبْعِهِ وَلِذَاتِهِ وَلِوَصْفٍ هُوَ
عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلِ
شَيْءٍ وَقْتَ الزَّوَالِ مَصْلَحَةٌ وَفِيهِ وَقْتُ الْعَصْرِ
مَفْسَدَةٌ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِيَوْمِ
السَّبْتِ وَالْجُمُعَةِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ فَكَذَلِكَ
يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ شِدَّةُ الْخَمْرِ شِدَّةَ النَّبِيذِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ النَّبِيذُ مِنْ الْخَمْرِ
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْهَمُ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالْأَذَى
مِنْ التَّأْفِيفِ. قُلْنَا: الْحَقُّ عِنْدَنَا غَيْرُ
مَفْهُومٍ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الْعَارِي عَنْ
الْقَرِينَةِ لَكِنْ إذَا دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى
قَصْدِ الْإِكْرَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَدُلُّ لَفْظُ
التَّأْفِيفِ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ
أَسْبَقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ التَّأْفِيفِ الْمَذْكُورِ؛ إذْ
التَّأْفِيفُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَلْ
يُقْصَدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْعِ الْإِيذَاءِ بِذِكْرِ
أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ، وَكَذَلِكَ النَّقِيرُ وَالْقِطْمِيرُ
وَالذَّرَّةُ وَالدِّينَارُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ
عَلَى مَا فَوْقَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَفِي قَوْله
تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] وَفِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ
مَا شَرِبْتُ لِفُلَانٍ جَرْعَةً وَلَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ
حَبَّةً، بَلْ بِقَرِينَةِ دَفْعِ الْمِنَّةِ، وَإِظْهَارِ
جَزَاءِ الْعَمَلِ؛ وَلَيْسَ إلْحَاقُ الضَّرْبِ
بِالتَّأْفِيفِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ
الْفَرْعَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ الْمُلْحَقَ بِطَرِيقِ
الْقِيَاسِ هُوَ الَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهُ
الْمُتَكَلِّمُ وَلَا يَقْصِدَهُ بِكَلَامِهِ، وَهَا هُنَا
الْمَسْكُوتُ عَنْهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَصْدِ الْبَاعِثِ
عَلَى النُّطْقِ بِالتَّأْفِيفِ، وَهُوَ الْأَسْبَقُ إلَى
فَهْمِ السَّامِعِ، فَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ
وَفَحْوَاهُ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ
رُبَّمَا تَظْهَرُ قَرِينَةٌ أُخْرَى تَمْنَعُ هَذَا
الْفَهْمَ، إذْ الْمَلِكُ قَدْ يَقْتُلُ أَخَاهُ الْمُنَازِعَ
لَهُ فَيَقُولُ لِلْجَلَّادِ: اُقْتُلْهُ وَلَا تُهِنْهُ وَلَا
تَقُلْ لَهُ أُفٍّ. أَمَّا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ بِتَحْرِيمِ
الْخَمْرِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ لَا وَجْهَ
لَهُ إلَّا الْقِيَاسُ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ التَّعَبُّدَ
بِالْقِيَاسِ فَقَوْلُ: " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا "
لَا يُفْهِمُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ "
حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ.
مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ الْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ إلَى
الْإِقْرَارِ بِالْقِيَاسِ لِأَجْلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،
لَكِنْ خَصَّصُوا ذَلِكَ بِمَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنْ
تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَقَوْلِهِ «حَرَّمْتُ
الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا» وَ «فَإِنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ
عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»
الثَّانِي: الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْأَسْبَابِ،
كَرَجْمِ مَاعِزٍ لِزِنَاهُ، وَقَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ
صَفْوَانَ.
وَكَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ تَنْقِيحَ مَنَاطِ
الْحُكْمِ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ. قُلْنَا: هَذَا الْمَذْهَبُ
يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ يَشْتَرِطُوا مَعَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: "
وَحَرَّمْتُ كُلَّ مُشَارِكٍ لِلْخَمْرِ فِي الشِّدَّةِ "
وَيَقُولَ: فِي رَجْمِ مَاعِزٍ " وَحُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ
حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ " فَهَذَا لَيْسَ قَوْلًا
بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْعُمُومِ فَلَا يَحْصُلُ هَذَا
التَّفَصِّي بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ
مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَذَا وَلَا يُشْتَرَطَ
أَيْضًا وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ
زِيَادَةٌ عَلَيْنَا وَقَوْلٌ بِالْقِيَاسِ حَيْثُ لَا نَقُولُ
بِهِ كَمَا رَدَدْنَاهُ عَلَى النَّظَّامِ
الثَّالِثِ: أَنْ يَقُولَ " مَهْمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ
بِالْقِيَاسِ جَازَ الْإِلْحَاقُ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ
" فَهَذَا قَوْلُ حَقٍّ فِي الْأَصْلِ خَطَأٌ فِي الْحَصْرِ،
فَإِنَّهُ قَصَرَ طَرِيقَ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ عَلَى
النَّصِّ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ بَلْ بِمَا دَلَّ
عَلَيْهِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَوْ دَلِيلٌ آخَرُ وَمَا
لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَنَحْنُ لَا نُجَوِّزُ
(1/302)
الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَلَا
فَرْقَ بَيْنَ دَلِيلٍ وَدَلِيلٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ
الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَانَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ
مَعْلُومًا وَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ
الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً لَمْ يُؤْمَنْ
الْخَطَأُ. قُلْنَا: أَخْطَأْتُمْ فِي طَرَفَيْ الْكَلَامِ
حَيْثُ ظَنَنْتُمْ حُصُولَ الْأَمْنِ بِالنَّصِّ وَإِمْكَانَ
الْخَطَأِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ نَصَّ
عَلَى شِدَّةَ الْخَمْرِ فَلَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ شِدَّةَ
النَّبِيذِ فِي مَعْنَاهَا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُعَلِّلًا بِشِدَّةِ الْخَمْرِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ
وَيَقُولَ: " يَتْبَعُ الْحُكْمُ مُجَرَّدَ الشِّدَّةِ فِي
كُلِّ مَحَلٍّ " فَيَكُونُ ذَلِكَ لَفْظًا عَامًّا وَلَا
يَكُونُ حُكْمًا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَحْصُلُ التَّفَصِّي عَنْ
عُهْدَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فَنَحْنُ
نَظُنُّ أَنَّ النَّبِيذَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَقْطَعُ،
فَلِلظَّنِّ مُثَارَانِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ:
أَحَدُهُمَا: أَصْلُ الْعِلَّةِ، وَالْآخَرُ: إلْحَاقُ
الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ
الْفَوَارِقِ؛ وَفِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ مُثَارُ
الظَّنِّ وَاحِدٌ وَهُوَ إلْحَاقُ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ
مَبْنِيٌّ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ أَوْصَافِ عِلَّةِ
الْأَصْلِ، وَإِنَّهُ الشِّدَّةُ بِمُجَرَّدِهَا دُونَ شِدَّةِ
الْخَمْرِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِنَصٍّ يُوجِبُ
عُمُومَ الْحُكْمِ وَيَدْفَعُ الْحَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ.
أَمَّا قَوْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ " إنَّهُ
لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الْخَطَأُ " فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ
عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ، إذْ
شَهَادَةُ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ، كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ عِنْدَ
الْقَاضِي، وَالْقَاضِي فِي أَمْنٍ مِنْ الْخَطَأِ وَإِنْ
كَانَ الشَّاهِدُ مُزَوِّرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ
بِاتِّبَاعِ الصِّدْقِ بَلْ بِاتِّبَاعِ ظَنِّ الصِّدْقِ،
وَكَذَلِكَ هَهُنَا لَمْ يُتَعَبَّدْ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ
بَلْ ظَنِّ الْعِلَّةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الظَّنُّ. نَعَمْ
هَذَا الْإِشْكَالُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ:
الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخَطَأَ، وَلَا
دَلِيلَ يُمَيِّزُ الصَّوَابَ عَنْ الْخَطَأِ، إذْ لَوْ كَانَ
عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَكَانَ آثِمًا إذَا أَخْطَأَ كَمَا فِي
الْعَقْلِيَّاتِ. ثُمَّ نَقُولُ:
إنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهَذَا الْقِيَاسِ
إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ قِيَاسُهُمْ عَلَى
الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، إذْ قَاسُوا فِي قَوْلِهِ " أَنْتِ
عَلَيَّ حَرَامٌ " وَفِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْأُخُوَّةِ،
وَفِي تَشْبِيهِ حَدِّ الشُّرْبِ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِمَا
فِيهِ مِنْ خَوْفِ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ أَوْجَبَ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّهُ نَفْسُ الِافْتِرَاءِ لَا
الْخَوْفِ مِنْ الِافْتِرَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا
الشَّارِعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَقَامَ مَظِنَّةَ
الشَّيْءِ مَقَامَ نَفْسِهِ فَشَبَّهُوا هَذَا بِهِ بِنَوْعٍ
مِنْ الظَّنِّ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَدَلَّ أَنَّهُمْ
لَمْ يَطْلُبُوا النَّصَّ وَلَا الْقَطْعَ بَلْ اكْتَفَوْا
بِالظَّنِّ. ثُمَّ نَقُولُ:
إذَا جَازَ الْقِيَاسُ بِالْعِلَّةِ الْمَعْلُومَةِ
فَلْنُلْحِقْ بِهَا الْمَظْنُونَةَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَمَا
الْتَحَقَ رِوَايَةُ الْعَدْلِ بِالتَّوَاتُرِ وَشَهَادَةُ
الْعَدْلِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
الْمَعْصُومِ وَالْقِبْلَةُ الْمَظْنُونَةُ بِالْقِبْلَةِ
الْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا وَإِنْ
أَثْبَتنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ وَقَوْلَ الشَّهَادَةِ
بِأَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ فَقَوْلُ الشَّرْعِ الظَّنَّ فِي
مَوْضِعٍ لَا يُرَخِّصُ لَنَا فِي قِيَاسِ ظَنٍّ آخَرَ
عَلَيْهِ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْقِيَاسِ
الْمَظْنُونِ كَمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ فَرَّقَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ بَيْنَ الْفِعْلِ
وَالتَّرْكِ. فَقَالُوا: إذَا عَلَّلَ الشَّارِعُ وُجُوبَ
فِعْلٍ بِعِلَّةٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ إلَّا
بِتَعَبُّدٍ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ
بِعِلَّةٍ وَجَبَ قِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَيْهِ دُونَ
التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْعَسَلَ
لِحَلَاوَتِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ حُلْوٍ وَمَنْ
تَرَكَ الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ
مُسْكِرٍ، أَمَّا مَنْ شَرِبَ الْعَسَلَ لِحَلَاوَتِهِ فَلَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْرَبَ كُلَّ حُلْوٍ، وَمَنْ صَلَّى؛
لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ
عِبَادَةٍ.
وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ
بَعْضِ الذُّنُوبِ، بَلْ مَنْ تَرْكَ ذَنْبًا لِكَوْنِهِ
مَعْصِيَةً لَزِمَهُ تَرْكُ كُلِّ ذَنْبٍ، أَمَّا مَنْ أَتَى
بِعِبَادَةٍ لِكَوْنِهَا طَاعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِكُلِّ طَاعَةٍ هَذَا مُحَالٌ فِي الطَّرَفَيْنِ؛
لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي جَانِبِ التَّحْرِيمِ
(1/303)
أَنْ يُحَرِّمَ الْخَمْرَ لِشِدَّةِ الْخَمْرِ خَاصَّةً
وَيُفَرِّقَ بَيْنَ شِدَّةِ الْخَمْرِ وَشِدَّةِ النَّبِيذِ،
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْفِعْلِ فَمَنْ تَنَاوَلَ الْعَسَلَ
لِحَلَاوَتِهِ، وَلِفَرَاغِ مَعِدَتِهِ وَصِدْقِ شَهْوَتِهِ
لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ عَسَلٍ وَعَسَلٍ نَعَمْ لَا يَلْزَمُهُ
أَنْ يَأْكُلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِزَوَالِ الشَّهْوَةِ
وَامْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ وَاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَمَا ثَبَتَ
لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي تَرْكٍ أَوْ
فِعْلٍ؛ لَكِنَّ الْمَثَلَ الْمُطْلَقَ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ
الِاثْنَيْنِيَّةُ شَرْطُ الْمِثْلِيَّةِ
وَمِنْ شَرْطِ الِاثْنَيْنِيَّةِ مُغَايَرَةٌ وَمُخَالَفَةٌ،
وَإِذَا جَاءَتْ الْمُخَالَفَةُ بَطَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ
وَهَذَا لَهُ غَوْرٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَيَانِهِ. هَذَا
تَمَامُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى
مُنْكِرِيهِ. |